الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفصل التاسع ـ
الوقف في مرض الموت:
أوضحت في بحث الشروط أنه يشترط في الواقف أهلية التبرع بألا يكون محجوراً
عن التصرف، وبأن يكون مالكاً وقت الوقف ملكاً باتاً، ولو بسبب فاسد عند
الحنفية. وبناء عليه فرع الحنفية (1): بأنه ينقض وقف استحق بملك أو شفعة،
وإن جعله مسجداً، وينقض وقف مريض أحاط دينه بماله، بخلاف شخص صحيح، أي أنه
يبطل وقف مريض مديون يحيط الدين بماله، فيباع وينقض الوقف كما يبطل وقف
راهن معسر.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 394/ 3، 432، البدائع: 218/ 6.
(10/7683)
فإن لم يكن الدين محيطاً بمال الواقف، صح،
واعتبر الوقف في مرض الموت كالهبة فيه، ينفذ كالوصية من الثلث، فإن خرج من
الثلث أو أجازه الوارث، نفذ في الكل، وإلا بطل في الزائد على الثلث. فإن
أجاز البعض، جاز بقدره.
والحاصل أن السلامة من المرض ليست شرطاً لصحة الوقف، وأن الواقف إذا وقف في
حال المرض، جاز عند أبي حنيفة، ويعتبر من الثلث، ويكون بمنزلة الوصية بعد
وفاته، حتى لا يتهم المريض بالإضرار بورثته أو دائنيه. أما عند الصاحبين،
فالوقف جائز في حال الصحة والمرض على سواء.
ويتفرع على هذا الخلاف: أنه على رأي الإمام: لا يلزم الوقف ولا تزول ملكية
الشيء عن ملك الواقف إلا إذا أضافه إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم. وعند
الصاحبين: يزول بدون الإضافة.
وعلى قول أبي حنيفة: لو وقف مريض الموت على بعض الورثة، ولم يجزه باقيهم،
لا يبطل أصل الوقف، وإنما يبطل ما جعل من الغلة لبعض الورثة دون بعض، فيصرف
على قدر مواريثهم عن الواقف، ما دام الموقوف عليه حياً، ثم يصرف بعد موته
إلى من شرطه الواقف؛ لأنه وصية ترجع إلى الفقراء، وليس كوصية لوارث ليبطل
أصله بالرد عليه.
ورأي الجمهور (1) القائلين بلزوم الوقف موافق لأبي حنيفة، يكون الوقف في
مرض الموت بمنزلة الوصية في اعتباره من ثلث المال؛ لأنه تبرع، فاعتبر في
مرض الموت من الثلث، كالعتق والهبة. فإذا خرج من الثلث نفذ من غير رضا
_________
(1) المغني: 571/ 5 - 574، الشرح الصغير: 107/ 4، 110 ومابعدها، الشرح
الكبير: 78/ 4، كشاف القناع: 278/ 4، مغني المحتاج: 377/ 2.
(10/7684)
الورثة ولزم، وما زاد على الثلث لزم الوقف
منه في قدر الثلث، ووقف الزائد على إجازة الورثة؛ لأن حق الورثة تعلق
بالمال بوجود المرض، فمنع التبرع بزيادة على الثلث، كالعطايا والعتق.
ولا يجوز عند الجمهور أيضاً الوقف في مرض الموت على بعض الورثة، فإن وقف،
توقف الوقف على إجازة سائر الورثة؛ لأنه تخصيص لبعض الورثة بماله في مرضه،
فمنع منه كالهبات، ولأن كل من لا تجوز له الوصية بالعين لا تجوز بالمنفعة،
كالأجنبي فيما زاد على الثلث.
وعبارة المالكية فيه: بطل الوقف على وارث بمرض موته ولو كان من الثلث؛ لأن
الوقف في المرض كالوصية، ولا وصية لوارث. وإن لم يكن الوقف في المرض على
وارث، بل على غيره، ينفذ كسائر التبرعات من الثلث، فإن حمله الثلث صح، وإلا
فلا يصح منه إلا ما حمله الثلث.
واستثنى المالكية الوقف المعقَّب (1)، سواء أكان له غلة أم لا: وهو ما وقفه
المريض على أولاده ونسله وعقبه، فإن حمله الثلث صح، ويكون حكمه في القسم
كالميراث للوارث، وليس ميراثاً حقيقة، إذ لا يباع ولا يوهب. فيكون للذكر
مثل حظ الأنثيين، ولو شرط الواقف تساويهما، ويكون للزوجة الثمن من مناب
الأولاد وللأم السدس.
والخلاصة: أن وقف المريض لازم له لا يجوز الرجوع عنه عند الجمهور، وباطل
عند المالكية؛ لأنه وصية لوارث (2).
_________
(1) أي أدخل في الوقف عقباً.
(2) قانون الوقف للشيخ فرج السنهوري: ص 189.
(10/7685)
|