الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي الفصل العاشر ـ ناظر
الوقف:
أولاً ـ تعيين الناظر: يصح بالاتفاق (1) للواقف جعل الولاية والنظر لنفسه
أو للموقوف عليه، أو لغيرهما، إما بالتعيين كفلان، أو بالوصف كالأرشد أو
الأعلم أو الأكبر أو من هو بصفة كذا، فمن وجد فيه الشرط، ثبت له النظر
عملاً بالشرط، وفي وقف علي رضي الله عنه شرط النظر لابنه الحسن، ثم لابنه
الحسين رضي الله عنهما.
واتبع شرط الواقف في تعيين الناظر، فإن لم يشرط الواقف النظر لأحد، فالنظر
للقاضي في رأي المالكية وعلى المذهب لدى الشافعية؛ لأن له النظر العام،
فكان أولى بالنظر فيه، ولأن الملك في الوقف عند الجمهور غير المالكية لله
تعالى.
وقال الحنابلة: يكون النظر حينئذ للموقوف عليه إن كان آدمياً معيناً كزيد،
ولكل واحد على حصته إن كان الموقوف عليه جمعاً محصوراً كأولاده أو أولاد
زيد، عدلاً كان أو فاسقاً؛ لأنه ملكه وغلته، ويكون النظر للحاكم أو نائبه
إن كان الموقوف عليه غير محصور كالوقف على جهة لا تنحصر كالفقراء والمساكين
والعلماء والمجاهدين، أو الموقوف على مسجد أو مدرسة أو رباط أو قنطرة
وسقاية ونحوها؛ لأنه ليس له مالك معين.
وقال الحنفية: تكون الولاية لنفس الواقف، سواء شرطها لنفسه أو لم يشترطها
لأحد في ظاهر المذهب، ثم لوصيه إن كان، وإلا فللحاكم.
ويجوز تعدد النظار، وقد نصت المادة (48) من قانون الوقف المصري على أنه لا
تقيم المحكمة أكثر من ناظر واحد إلا لمصلحة.
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 421/ 3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 371
وما بعدها، مغني المحتاج: 393/ 2، كشاف القناع: 293/ 4، 297، 298 ومابعدها،
الشرح الكبير: 88/ 4.
(10/7686)
قال الحنابلة: إذا تعدد النظار وكان لهما
النظر معاً لم يصح تصرف أحدهما مستقلاً عن الآخر، عملاً بشرط الواقف.
ثانياً ـ شروط الناظر: شرط الناظر ما يلي (1):
1ً - العدالة الظاهرة وإن
كان الوقف على معينين رشداء؛ لأن النظر ولاية، كما في الوصي والقيم.
والعدالة: التزام المأمورات واجتناب المحظورات الشرعية. وهذا شرط عند
الجمهور، وقال الحنابلة: لا تشترط العدالة، ويضم إلى الفاسق عدل، كما يضم
إلى ناظر ضعيف قوي أمين.
2ً - الكفاية: وهي قوة
الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه. ووصف الكفاية يغني عن اشتراط
الاهتداء إلى التصرف. والكفاية تتطلب وجود التكليف أي البلوغ والعقل. ولا
تشترط في الناظر الذكورة؛ لأن عمر أوصى إلى حفصة رضي الله عنها.
فإن لم تتوافر العدالة أو الكفاية نزع الحاكم الوقف منه، حتى وإن كان
الواقف هو الناظر. فإن زال المانع عاد النظر إليه عند الشافعية إن كان
مشروطاً في الوقف، منصوصاً عليه.
3ً - الإسلام إن كان
الموقوف عليه مسلماً، أو كانت الجهة كمسجد ونحوه، لقوله تعالى: {ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4] فإن كان الوقف على
كافر معين، جاز شرط النظر فيه لكافر. هذا ما ذكره الحنابلة، ولم يشترط
الحنفية الإسلام في الناظر.
_________
(1) المراجع السابقة.
(10/7687)
ثالثاً ـ وظيفة الناظر: وظيفة الناظر عند
التفويض العام له (1): حفظ الوقف وعمارته وإيجاره وزرعه والمخاصمة فيه،
وتحصيل الغلة من أجرة أو زرع أو ثمر، وقسمتها بين المستحقين، وحفظ الأصول
والغلات على الاحتياط؛ لأنه المعهود في مثله، وعليه الاجتهاد في تنمية
الموقوف وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق، ويقبل قوله فيما ذكر
إن كان متبرعاً، فإن لم يكن متبرعاً لم يقبل عند الحنابلة قوله إلا ببينة.
وإن كان الناظر مقيداً ببعض ما سبق تقيد به.
وإذا عمل الناظر أثناء عمارة الوقف فيأخذ ـ كما أبان
الحنفية (2) ـ قدر أجرته، وذكروا أيضاً
أنه يراعى شرط الواقف في إجارته وغيرها، لأن شرط الواقف كنص الشارع، ولا
يجوز للقيم الزيادة في المدة، وإنما الزيادة للقاضي؛ لأن له ولاية النظر
لفقير وغائب وميت. فلو أهمل الواقف مدة الإجارة قيل عند الحنفية: تطلق
الزيادة للقيم، وقيل: تقيد بسنة.
الإجارة الطويلة: ويفتى عندهم بمدة
السنة في الدار، وبثلاث سنين في الأرض إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك،
بحسب الزمان والموضع، فهو أمر يختلف باختلاف المواضع واختلاف الزمان.
والفتوى عندهم على إبطال الإجارة الطويلة في الأوقاف وأرض اليتيم وأرض بيت
المال ولو بعقود مترادفة، كل عقد سنة، لتحقق محذور وهو أن طول المدة يؤدي
إلى إبطال الوقف. لكن هذا عند عدم الحاجة، فإذا اضطر إليها لحاجة عمارة
الوقف بتعجيل أجرة سنين مقبلة، يزول المحذور الموهوم عند وجود الضرر
المتحقق.
_________
(1) مغني المحتاج، كشاف القناع، المكان السابق، الشرح الكبير مع حاشية
الدسوقي: 89/ 4.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 414/ 3 ومابعدها، 434 - 440.
(10/7688)
جاء في الفتاوى البزازية: لو احتيج لذلك
يعقد الناظر عقوداً مترادفة، ففي الدار كل عقد سنة بكذا، وفي الأرض كل عقد
ثلاث سنين، بأن يقول: آجرك الدار الفلانية سنة (49) بكذا، وآجرتك إياها سنة
خمسين بكذا، وآجرتك إياها سنة (51) بكذا، وهكذا إلى تمام المدة، ويكون
العقد الأول لازماً، وما عداه مضاف إلى المستقبل، والصحيح أن الإجارة
المضافة تكون لازمة، ويؤخذ حينئذ برواية: كون الأجرة تملك، للحاجة في
الإجارة المضافة، إلى اشتراط التعجيل.
ويؤجر الموقوف بأجر المثل، فلا يجوز بالأقل المشتمل على غبن فاحش. ولا يضر
الغبن اليسير (وهو ما يتغابن الناس فيه، أي ما يقبلونه ولا يعدونه غبناً).
ولو رخص الناظر الأجرة بعد العقد، لا يفسخ العقد إذا طلب المستأجر فسخه،
للزوم الضرر على الوقف. ولو زاد الأجرة عن أجر المثل بعد العقد بأجر المثل،
أي الذي كان وقت العقد، يجدد العقد بالأجرة الزائدة، قال ابن عابدين:
والظاهر أن قبول المستأجر الزيادة يكفي عن تجديد العقد.
والمستأجر الأول أولى من غيره إذا قبل الزيادة.
والموقوف عليه الغلة أو السكنى ولو رجلاً معيناً: لا يملك الإجارة، ولا
الدعوى إذا غصب منه الموقوف إلا بتولية أو إذن قاض بالدعوى والإيجار؛ لأن
حقه في الغلة، لا في عين الوقف.
وإذا آجر المتولي الموقوف بدون أجر المثل، لزم المستأجر لا المتولي تمام
أجر المثل.
وتضمن منافع عقار الوقف المغصوب إذا عطلها الغاصب ولم ينتفع بها أو أتلفها،
كما لو سكن الشخص بلا إذن، أوأسكنه المتولي بلا أجر، ويكون على
(10/7689)
الساكن أجر المثل، ولو كان العقار غير معد
للاستغلال، صيانة للوقف. ومثله منافع مال اليتيم.
ويفتى بكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه. ومتى قضي بالقيمة في
غصب عقار الوقف وإجراء الماء عليه حتى صار بحراً لا يصلح للزراعة، شرى
الناظر بها عقاراً آخر، فيكون وقفاً بدل الأول.
ومذهب المالكية (1): جاز للناظر أن يكري
الوقف السنة والسنتين إن كان أرضاً على معين كزيد أو عمرو، وإن لم يكن على
معين، بأن كان على الفقراء أو العلماء أو نحوهم، فيكري لأربعة أعوام لا
أكثر. وجاز الكراء لعشر سنوات لمن كان مرجع الوقف له، كأن يقف الأرض على
زيد، ثم ترجع بعده لعمرو ملكاً أووقفاً، فيجوز لزيد أن يكريها لعمرو عشرة
أعوام.
وجاز الكراء لضرورة إصلاح وقف خرب لمدة أربعين سنة أو خمسين لا أزيد.
ويكون الكراء بأجر المثل، فإن وقع بأقل من أجرة المثل، فسخ العقد المشتمل
عليها، وقبلت الزيادة في العقود الأخرى.
ولا يقسم الناظر أجرة الوقف على المستحقين إلا لما مضى زمنه، فلو تعجل قبض
أجرة عن مدة مستقبلة، لم يجز قسمها على الحاضرين، لاحتمال موت من أخذ،
فيؤدي إلى إعطاء من لا يستحق، وحرمان غيره ممن يستحق.
وإذا كان الوقف على أناس معينين كفلان وفلان، فيسوى بينهم ولا تفضيل لأحد
على الآخر.
_________
(1) الشرح الصغير: 133/ 4 - 137، الشرح الكبير: 88/ 4 ومابعدها.
(10/7690)
أما إن كان الوقف على غير معينين كالفقراء
وأبناء السبيل وأهل العلم، أو على قوم وأعقابهم أو على إخوته أو بني عمه،
فضل الناظر في الغلة والسكنى بالاجتهاد مما يقتضيه الحال أهل الحاجة وأهل
العيال.
ولا يُخرج ساكن بوقف بوصف استحقاقه، وإن استغنى، إلا لشرط من الواقف، كأن
يقول: مادام فقيراً أو محتاجاً، أو كان هناك عرف أو قرينة.
وإن بنى موقوف عليه بناء في الموقوف، أو غرس فيه شجراً، فإن مات ولم يبين
أنه وقف أو ملك، فوقف، ولا شيء فيه لوارثه. وإن بين أنه ملك فهو لوارثه،
فيؤمر بنقضه أو بأخذ قيمته منقوضاً، وإلا كان وقفاً، ويأخذ ما صرفه من
غلته، كالناظر إذا بنى أو أصلح، فإن لم يكن له غلة، فلا شيء له.
وللقاضي أن يجعل للناظر شيئاً من الوقف إذا لم يكن له شيء. وللناظر تغيير
بعض الأماكن لمصلحة كتغيير الميضأة ونقلها لمحل آخر، وتحويل باب مثلاً من
مكان لمكان آخر.
ومذهب الشافعية (1): إذا أجر الناظر
الموقوف على غيره بدون أجرة المثل، فإنه لا يصح قطعاً. وإذا أجر الناظر،
فزادت الأجرة في المدة، أو ظهر طالب بالزيادة عليها، لم ينفسخ العقد في
الأصح؛ لأن العقد قد جرى بالمصلحة في وقته، فأشبه ما إذا باع الولي مال
الطفل، ثم ارتفعت القيم بالأسواق، أو ظهر طالب بالزيادة.
أما إذا أجر الناظر العين الموقوفة عليه، ولو بدون أجرة المثل، فإنه يصح
قطعاً.
_________
(1) مغني المحتاج: 395/ 2.
(10/7691)
وخالفهم
الحنابلة (1): فقالوا: إن أجر الناظر العين الموقوفة بأنقص من أجرة
المثل، صح عقد الإجارة، وضمن الناظر النقص عن أجرة المثل، إن كان المستحق
غيره، وكان أكثر مما يتغابن به في العادة، كالوكيل إذا باع بدون ثمن، أو
أجر بدون أجرة المثل.
ولا تنفسخ الإجارة حيث صحت، لو طلب الناظر زيادة عن الأجرة الأولى، وإن لم
يكن فيها ضرر؛ لأنها عقد لازم من الطرفين.
ولو غرس الموقوف عليه أو بنى لنفسه، فيما هو وقف عليه وحده، فله الغراس
والبناء، لأنه وضعه بحق. أما إن كان الغارس أو الباني شريكاً فيما غرس أو
بنى فيه، بأن كان الوقف عليه وعلى غيره، أو كان له النظر فقط دون
الاستحقاق، فغرسه أو بناؤه غير محترم، ولباقي الشركاء المستحقين هدمه.
ويأكل ناظر الوقف بمعروف نصاً، ولو لم يكن محتاجاً.
رابعاً ـ عزل الناظر: تكاد تتفق وجهات النظر الفقهية حول عزل الناظر.
ذكر الحنفية (2): أن للواقف عزل الناظر
مطلقاً، وبه يفتى. ولو لم يجعل الواقف ناظراً، فنصبه القاضي، لم يملك
الواقف إخراجه.
ويجب على القاضي عزل الناظر، سواء أكان هو الواقف أم غير الواقف إذا كان
خائناً غير مأمون، أو عاجزاً، أو ظهر به فسق كشرب خمر ونحوه، أو كان يصرف
ماله في غير المفيد كالكيمياء (أي السيمياء: تحويل المعادن إلى ذهب) حتى
_________
(1) كشاف القناع: 297/ 4 ومابعدها.
(2) الدر المختار: 421/ 3 - 423.
(10/7692)
وإن شرط الواقف عدم عزل الناظر (1)، أو ألا
ينزعه قاض ولا سلطان، لمخالفته لحكم الشرع، كالوصي فإنه ينزع وإن شرط
الموصي عدم نزعه وإن خان.
ولا يجوز للقاضي عزل الناظر المشروط له النظر أو صاحب وظيفة بلا خيانة، أو
عدم أهلية. ويصح عزل الناظر المعين من قبل القاضي لا من قبل الواقف، بلا
خيانة، وليس للقاضي الثاني أن يعيده، وإن عزله الأول، بلا سبب، لحمل أمره
على السداد، إلا أن تثبت أهليته.
وللناظر عزل نفسه عند القاضي، بتعيين غيره، ولا ينعزل بعزل نفسه حتى يبلغ
القاضي.
النزول عن الوظائف: ومن حالات عزل
الناظر نفسه: التنازل أو الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيرها، فإن كان
المتنازل له غير أهل، لم يقره القاضي، وإن كان أهلاً لا يجب عليه إقراره.
وإذا فرغ الإنسان عن وظيفته سقط حقه، وإن لم يقر القاضي المتنازل له.
والتنازل يصح أمام القاضي أو أمام غيره، ويصح الفراغ عن الوظيفة بمال أو
مجاناً، ولكن يصح للمفروغ له الرجوع بالمال الذي دفعه؛ لأنه اعتياض عن حق
مجرد، وهو لا يجوز.
والحاصل أن الناظر ينعزل بعزل نفسه (أي بالاستقالة) أو بعزل الواقف إن عينه
هو، أو بعزل القاضي. وقد نصت المادة (52) من قانون الوقف المصري على أنه
يجوز للمحكمة من أي درجة إحالة الناظر على محكمة التصرفات الابتدائية إذا
رأت ما يدعو للنظر في عزله.
_________
(1) هذه ـ كما تقدم ـ إحدى المسائل السبع التي يخالف فيها شرط الواقف.
(10/7693)
ووافق المالكية
(1) الحنفية: فقالوا: للناظر عزل نفسه، ولو ولاه الواقف. وللواقف عزله، ولو
لغير جنحة، أما القاضي فلا يعزل ناظراً إلا بجنحة.
وإذا عزل الناظر نفسه، فللحاكم تولية من شاء على الوقف، وتكون أجرته من
ريعه، إذا كان المستحق غير معين كالفقراء. أما إن كان المستحق معيناً
رشيداً، فهو الذي يتولى أمر الوقف. وإن كان غير رشيد، فيتولى وليه أمره.
وكذلك رأى الشافعية (2): للناظر عزل
نفسه، وللواقف الناظر عزل من ولاه، ونصب غيره مكانه، كما يعزل الموكل
وكيله، وينصب غيره، إلا أن يشرط الواقف (3) لشخص نظرَه، أي إشرافه حال
الوقف، فليس له ولا لغيره عزله، ولو لمصلحة، لأنه لا تغيير لما شرطه، ولأنه
لا نظر له حينئذ. أما الواقف غير الناظر فلا يصح منه تولية ولا عزل، بل هي
للحاكم.
ولو شرط الواقف للناظر شيئاً من الريع، جاز، وإن زاد على أجرة المثل. بخلاف
ما لو كان النظر له، وشرط لنفسه، فإنه لا يزيد على أجرة المثل.
وكذلك قرر الحنابلة (4): للواقف عزل
الناظر؛ لأنه نائبه، فأشبه الوكيل. وللموقوف عليه المعين وللحاكم عزل
الناظر لأصالة ولايتهما، وللناظر عزل نفسه، كما هو المقرر في الوكالة. وليس
للناظر المشروط له النظر عزل الناظر ولا توليته.
_________
(1) الشرح الكبير: 88/ 4.
(2) مغني المحتاج: 395/ 2.
(3) هذا استثناء من جواز العزل.
(4) كشاف القناع: 301/ 4.
(10/7694)
|