الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

الفَصْلُ السّادس عَشر: ميراث باقي الورثة: باقي الورثة بعد ذوي الفروض والعصبات النسبية والسببية وذوي الأرحام: هم مولى الموالاة، والمقر له بالنسب على الغير، والموصى له بأزيد من الثلث، وبيت المال. فإذا مات الميت عن غير وارث كانت التركة لواحد من هؤلاء على وفق الترتيب التالي (1):
_________
(1) السراجية: ص 9 - 11، الدر المختار: 540/ 5 - 541، المغني: 12/ 6، 278، أحكام المواريث، فياض: ص 196 - 200.

(10/7874)


أولاً ـ مولى الموالاة: هو أن يرث شخص الآخر بناء على تعاقد بينهما، سواء أكان كلاهما مجهولي النسب أم أحدهما مجهول النسب والآخر معلوم النسب.
وصورة ذلك: أن يتعاقد اثنان مجهولا النسب على أن يعقل (يتحمل دية القتل الخطأ) كل واحد منهما عن الآخر جنايته الموجبة للمال، وأن يرث كل منهما الآخر إذا مات قبله.
أو يتعاقد اثنان أحدهما مجهول النسب والآخر معلوم النسب على أن يعقل الثاني الأول إذا جنى، ويرثه إذا مات.
ففي الحالة الأولى: كل منهما مولى موالاة للآخر، يثبت له الإرث منه.
وفي الحالة الثانية: قابل الولاء هو المولى الأعلى لمجهول النسب، فيثبت له الإرث من الأدنى، الذي هو طالب الموالاة، دون العكس.
وليس هذا التعاقد بصورتيه دائم اللزوم، بل يجوز الرجوع فيه، ما لم يحصل فيه عقل (تحمل دية) من أحدهما عن الآخر، وإلا فلا.

آراء العلماء فيه: ذهب الحنفية ـ أخذاً برأي عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ـ إلى أن هذا التعاقد سبب للميراث لما يأتي:
1 - قوله تعالى: {والذين عَقَدَت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء:33/ 4] أي أن حلفاءكم الذين عاقدتموهم على النصرة والإرث، آتوهم نصيبهم من الميراث بمقتضى تلك المعاقدة.
2 - سأل تميم الداري رضي الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمن أسلم على يدي

(10/7875)


رجل ووالاه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هوأحق به محياه ومماته» (1) وأحقيته في الحياة أن يعقل عنه إذا جنى، وأحقيته بالممات أنه يرثه إذا مات، ولم يكن له وارث ذو فرض أو عصبة أو رحم.
وذهب الجمهور ـ أخذاً برأي زيد بن ثابت رضي الله عنه ـ إلى أنه ليس سبباً للميراث، للحديث المتقدم: «الولاء لمن أعتق» (2) فإنه حصر الولاء في ولاء العتق، فيبطل كل ولاء غيره.
أخذ القانون في مصر وسورية بهذا الرأي، لعدم وجود هذا الصنف من زمن بعيد، وعدم توافر شروطه.

شروط الإرث في ولاء الموالاة: اشترط الحنفية للإرث بولاء الموالاة الشروط التالية:
1ً - أن يكون العاقد حراً: فليس للرقيق أن يوالي غير سيده.
2ً - أن يكون العاقد غير عربي: لأنه لو كان عربياً لكان معروف النسب، فولاؤه في نسبه.
3ً - ألا يكون معتقَاً: وإلا كان ولاؤه لمن أعتقه أو لعصبته.
4ً - ألا يكون له وارث نسبي كولد أو أخ: وإلا فميراثه لذي نسبه.
5ً - ألا يكون عقل عنه آخر: فإن عقل عنه مولى آخر أو بيت المال كان هو مولاه.
_________
(1) رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
(2) نيل الأوطار: 68/ 6.

(10/7876)


6ً - أن يكون مجهول النسب.

ثانياً ـ المقر له بالنسب على الغير:
الإقرار بنسب الغير: هو ما يكون بغير الولد الصلبي والوالدين المباشرين للمقر، كالإقرار بالإخوة والأعمام والأجداد وأولاد الأولاد.
ولا يكون هذا الإقرار عند الجمهور سبباً للإرث أصلاً، فإن ثبت نسب المقر له بإحدى طرق الإثبات الشرعية، ورث بالقرابة النسبية.
ورأى الحنفية أن المقر له بنسب محمول على الغير يرث بالشروط الآتية:
1ً - أن يكون مجهول النسب: إذ لو كان معروف النسب لبطل هذا الإقرار.
2ً - أن يكون محمولاً على الغير: فلا يصح الإقرار على ذلك الغير، ويصح على المقر.
3ً - عدم ثبوت نسب المقر له من ذلك الغير: بأن لم يصدقه المقر عليه أو ورثته.
4ً - موت المقر وهو مصر على إقراره: فلو رجع عنه أو أنكره، ثم مات لايرث المقر له منه.

موقف القانون: أخذ القانون المصري (م 41) والسوري (م 298) برأي الحنفية، وأخر مرتبته عن الرد على أحد الزوجين، وجعله مستحقاً التركة، لا بطريق الإرث، إيثاراً للحقيقة والواقع؛ لأن هذا الإقرار لا يثبت به نسب، والإرث فرع ثبوت النسب.
واشترط القانونان لإرثه نفس الشروط الفقهية، وهي:

(10/7877)


1 - ألا يثبت نسب المقر له من المقر عليه.
2 - ألا يرجع المقر عن إقراره.
3 - ألا يقوم به مانع من موانع الإرث.
4 - أن يكون المقر له حياً وقت موت المقر، أو وقت الحكم باعتباره ميتاً.
لكن ينبغي أن يضاف لهذه الشروط: أن يكون المقر له مجهول النسب.

ثالثاً ـ الموصى له بأزيد من الثلث:
ذهب الجمهور إلى أن الموصى له بما زاد عن الثلث يرد إلى بيت المال ولا يستحقه الموصى له، إلا بإجازة الورثة إن وجدوا.
وذهب الحنفية: إلى أن الموصى له بالزائد عن الثلث يستحق التركة إذا لم يكن لميت وارث، ولا مقر له بالنسب على الغير؛ لأن منعه من استحقاق الزائد عن الثلث، كان لمصلحة الورثة، ولا ورثة في هذه الحالة، فاستحق ما أوصي له به.
فلو كان مع الموصى له بأكثر من الثلث أحد الزوجين، أخذ الزوج النصف (أي نصف الثلثين) بعد ثلث الموصى له، وأخذت الزوجة الربع، ثم أخذ الموصى له الباقي في حال الوصية بكل المال، أو مقدار الموصى به.
ولو كان وارث غير الزوجين بالقرابة أو الولاء، فلا تنفذ الوصية بأكثر من الثلث إلا بالإجازة.
وأخذ القانون المصري (م 37) والسوري (م 4/ 238) برأي الحنفية، لا من باب الإرث، وإنما هو تنفيذ لإرادة الميت وتحقيق لرغبته.

(10/7878)


رابعاً ـ بيت المال: اتفقت المذاهب الأربعة على أن المال الذي يتركه الميت، ولم يكن له مستحق بإرث أو وصية، يوضع في بيت المال، غير أنه عند الحنفية
والحنابلة (1) ليس بطريق الإرث، وإنما من باب رعاية المصلحة، فيصرف في مصارف المصالح العامة لجميع المسلمين، إذ لا مستحق له، كما يوضع فيه مال الذمي الذي لا وارث له، وبدليل أنه يسوى بين الذكر والأنثى في العطية من ذلك المال، مع أنه لا تسوية بينهما في المواريث.
وأخذ القانون في مصر وسورية بهذا الرأى.
ويرى المالكية والشافعية (2) أن المال لبيت المال إرثاً، وذلك عند الشافعية ومتقدمي المالكية، سواء انتظم أمره بإمام عادل، يصرفه في جهته أم لا؛ لأن الإرث للمسلمين، والإمام ناظر ومستوف لهم، والمسلمون لم يعدموا، فيأخذ بيت المال جميع المال أو ما أبقت الفروض. ويرى متأخرو المالكية: أن بيت المال يكون وارثاً بشرط كونه منتظماً. والقاعدة لدى الفريقين: «بيت المال وارث من لا وارث له».