المحلى بالآثار شرح المجلى بالإختصار

كتاب العواقل والقسامة وقتل أهل البغى
ما ورد في العواقل
*
...
كتاب العواقل , والقسامة , وقتل أهل البغي
العواقل ؟ قال الفقيه أبو محمد - رحمه الله : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا ابن جريح أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله , ثم كتب الله : أنه لا يحل أن يتوالى مولى رجل بغير إذنه . وبه : إلى مسلم نا قتيبة نا الليث عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة , ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها , وأن العقل على عصبتها . وبه : إلى مسلم نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي نا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة قال ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط - وهي حبلى - فقتلتها وإحداهما لحيانية , فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة , وغرة لما في بطنها , فقال رجل من عصبة القاتلة : أنغرم دية من لا أكل ولا نطق ولا استهل , فمثل ذلك يطل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسجع كسجع الأعراب" ؟ قال : وجعل عليهم الدية.
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن الدية في قتل الخطأ وفي الغرة الواجب في الجنين على عاقلة القاتل , والجاني , بحكم رسول الله , وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين من هم العاقلة الغارمة لدية الخطأ , ولغرة الجنين , وأنهم أولياء الجاني الذين هم عصبته ومنتهاهم البطن الذي هو منهم - على ما أوردنا آنفا - من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب على كل بطن عقوله ؟

(11/44)


2140 - مسألة : هل تحمل العاقلة الصلح في العمد , أو الاعتراف بقتل الخطأ ؟ أو العبد المقتول في الخطأ ؟ قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : كما نا

(11/48)


نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح : نا موسى بن معاوية , نا وكيع , نا عبد الملك بن حسين أبو مالك : عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عمر بن الخطاب , قال : العمد , والعبد , والصلح , والاعتراف في مال الجاني لا تحمله العاقلة . وعن الشعبي - قال : اصطلح المسلمون على أن لا يعقلوا عمدا ولا عبدا , ولا صلحا , ولا اعترافا . وعن إبراهيم النخعي قال : لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا , ولا صلحا ولا اعترافا - وعن عمر بن عبد العزيز : إلا أن يشاءوا . وعن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي قال : لا تعقل العاقلة العمد ولا الصلح , ولا الاعتراف , ولا العبد . وعن ابن شهاب قال : مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من العمد إلا أن تعينه عن طيب نفس - قال مالك : وحدثني يحيى بن سعيد مثل ذلك . وعن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ليس على العاقلة عقل من قبل العمد إلا أن يشاءوا ذلك , إنما عليهم عقل الخطأ . وقال أبو حنيفة , والشافعي , وابن شبرمة , وسفيان الثوري , والأوزاعي ومالك , وأبو سليمان , وأصحابهم : لا تحمل العاقلة شيئا من هذا كله . وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة شيئا من هذا كله ولكن تعينه ; لما روي أن عمر بن الخطاب قال : ليس لهم أن يخذلوه عن شيء أصابه في الصلح - وعن الزهري : وعليهم أن يعينوه . وقالت طائفة غير هذا لما روي عن شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان عن رجل حر استقبل مملوكا فتصادفا فماتا جميعا ؟ فقالا جميعا : دية العبد على عاقلة الحر وليس على العبد شيء . وروي عن عطاء قال : إن قتل رجل عبدا خطأ فهو على عاقلته , وإن قتل دابة خطأ فهو على عاقلته . وعن ابن جريج أخبرني محمد بن نصر , والصلت : أن رجلا بالبصرة رمى إنسانا ظن أنه كلب فقتله , فإذا هو إنسان ؟ فلم يدر الناس من قاتله , فجاء عدي بن أرطاة فأخبره : أنه قتله فسجنه , وكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه : إنك بئس ما صنعت إذ سجنته وقد جاء من قبل نفسه , فخل سبيله واجعل ديته على العشيرة . وزعم الصلت : أنه من الأزد - القاتل والمقتول - وأن القاتل كان عاسا يعس . وقال الزهري : العبد تحمل قيمته العاقلة .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لنعلم الحق فنتبعه : فنظرنا فيما احتج به من قال : لا تحمل العاقلة عمدا , ولا عبدا , ولا صلحا , ولا اعترافا ؟ فوجدناهم يقولون : إن هذا قول روي عن عمر , وابن عباس - رضي الله عنهما

(11/49)


ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة - وهذا لا حجة لهم فيه , إذ لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم نظرنا فيما احتج به أهل القول الثاني : فوجدناهم يذكرون ما روي عن الزهري , قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكتاب الذي كتبه بين قريش والأنصار : "لا تتركوا مفرجا أن تعينوه في فكاك أو عقل" والمفرج : كل ما لا تحمله العاقلة - وهذا مرسل يوجب أن تعين العاقلة فيما لم تحمل جميعه - وقد روي أيضا من عمر كما ذكرنا . وأما نحن فلا حجة عندنا في مرسل , فلما لم يكن فيما احتجوا به حجة وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه من ذلك , فبدأنا بالعمد ما ألزم فيه دية , أو صولح فيه , فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فلم يجز أن نكلف عاقلة غرامة حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله عليه السلام , ولم يوجبها قط نص ثابت في العمد , فوجب أن لا تحمل العاقلة العمد , ولا الصلح في العمد . ثم نظرنا في الاعتراف بقتل الخطأ , فوجدنا الله تعالى يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . ووجدنا المقر بقتل الخطأ ليس مقرا على نفسه ; لأن الدية فيما أقر به على العاقلة , لا عليه , فإذ ليس مقرا على نفسه فواجب أن لا يصدق عليهم , إلا أننا نقول : إنه إن كان عدلا حلف أولياء القتيل معه واستحقوا الدية على العاقلة , فإن نكلوا فلا شيء لهم . فلو أقر اثنان عدلان بقتل خطأ وجبت الدية على عواقلهما بلا يمين , لأنهما شاهدا عدل على العاقلة . وقد اختلف [ الناس ] في هذا : فقال أبو حنيفة : والشافعي , والأوزاعي , والثوري : الدية على المقر في ماله . وقال مالك : لا شيء عليه , قال : وإن لم يتهم بمن أقر له أقسم أولياء المقتول , ووجبت الدية على العاقلة . ثم نظرنا في العبد يقتل خطأ , هل تحمل قيمته العاقلة أم لا ؟ فوجدنا من لم تحمله العاقلة لا حجة لهم إلا ما ذكرنا من أنه روي ذلك عن عمر . وعن ابن عباس - وهو قول لم يصح عن عمر كما ذكرنا , لأنه عن الشعبي عن عمر ولم يولد الشعبي إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين ولا نعلمه أيضا يصح عن ابن عباس وقد ذكرنا قضايا عظيمة عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوها , قد ذكرناها في غير موضع , فالواجب الرجوع إلى ما أوجب الله تعالى عند التنازع , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية , ففعلنا . فوجدنا ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا القاسم بن زكريا نا سعيد بن عمرو نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس : "أن مكاتبا قتل على عهد رسول

(11/50)


الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليه السلام أن يودى ما أدى دية الحر , وما لا دية المملوك وقد روي عن يحيى بن أبي كثير قال : إن علي بن أبي طالب , ومروان كانا يقولان في المكاتب أنه يودى منه دية الحر بقدر ما أدى , وما رق منه دية العبد . فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة في الدين سمى ما يودى في قتل العبد " دية " وسماه أيضا علي بن أبي طالب - وهو حجة - في اللغة " دية " . وقد صح عن النبي عليه السلام أن الدية في النفس في الخطأ على العاقلة - وصح الإجماع على أن في قتل العبد المؤمن خطأ : كفارة بعتق رقبة , أو صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد رقبة - فصح بالنص , والإجماع : أن ما يودى في العبد دية , والدية على العاقلة - وبهذا نقول . وأما الدية وسائر الأموال فلا ; لأنه لا يسمى شيء من ذلك " دية " والأموال محظورة إلا بنص , أو إجماع - وبالله تعالى التوفيق .

(11/51)


2141 - مسألة : مقدار ما تحمله العاقلة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: قالت طائفة : لا تحمل العاقلة من جنايات الخطأ إلا ما كان أكثر من ثلث الدية فصاعدا , فإن كان أقل من الثلث أو كان الثلث , فهو في مال الجاني . وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان ثلث الدية فصاعدا , فما كان أقل من ثلث الدية فهو في مال الجاني . وقالت طائفة : الثلث فصاعدا على العاقلة , وما كان أقل من الثلث فعلى قومه خاصة . وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان نصف عشر الدية فصاعدا , وما كان أقل فهو في مال الجاني . وقالت طائفة : إن جنت امرأة على رجل أو امرأة , فبلغت ثلث ديتها كان على عاقلته , وإن بلغ أقل ففي ماله . وقالت طائفة : المراعى في ذلك المجني عليه , فإن كان امرأة فبلغ نصف عشر ديتها حملته عاقلة الجاني - رجلا كان أو امرأة - وإن كان المجني عليه رجلا فبلغ نصف عشر ديته فإنه على عاقلة الجاني - رجلا كان أو امرأة - وما كان دون ذلك ففي مال الجاني . وقالت طائفة : تحمل العاقلة ما قل أو كثر . وقالت طائفة : الحكم في ذلك على ما اتفقوا عليه , فإن كان تآلفوا على الكثير فقط حملوا الكثير فقط - ولم تحد للقليل ولا للكثير حدا - . قال أبو محمد:فالقول الأول كما روي عن الزهري , قال : الثلث فما دونه في خاصة ماله وما زاد فهو على العاقلة . والقول الثاني - كما روي عن ابن وهب , قال : أخبرني ابن سمعان قال : سمعت رجالا من علمائنا يقولون : قضى عمر بن الخطاب في الدية أن لا يحمل منها شيء على العاقلة حتى تبلغ ثلث الدية فإنها على العاقلة - عقل المأمومة والجائفة - فإذا بلغت ذلك فصاعدا حملت على العاقلة . وعن سعيد بن المسيب , وسليمان بن يسار مثله - وعن الزهري مثله . وقال عروة بن الزبير : ما كان من خطأ فليس على العاقلة منه شيء حتى يبلغ

(11/51)


ثلث الدية - على ذلك أمر السنة - . وعن الليث بن سعد أنه سمع يحيى بن سعيد يقول : إن من الأمر - القديم عندنا - أن لا يكون على العاقلة عقل حتى يبلغ الجرح ثلث الدية . وعن ربيعة لا تحمل العاقلة ما دون الثلث إلا أن يصطلحوا على شيء . وعن ابن جريج , ومعمر عن عبيد الله بن عمر قال : نحن مجتمعون أو قد كدنا أن نجتمع : أن ما دون الثلث في ماله خاصة . وعن يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز قضى في مولى جرح , فكان دون الثلث من الدية ولم يكن له شيء أن يكون دينا يتبع به - وبهذا يقول عبد العزيز بن أبي سلمة . والقول الثالث - قال مالك : ما بلغ ثلث الدية من الرجل من جناية الرجل جرح رجلا أو امرأة فعلى العاقلة فإن كان أقل من ذلك ففي ماله , وما بلغ ثلث دية المرأة فعلى العاقلة فما كان أقل ففي ماله سواء جرحت رجلا أو امرأة . والقول الرابع - كما روي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال : لا تعقل العاقلة ما دون الموضحة . قال وكيع : وسمعت سفيان الثوري يقول : لا تعقل العاقلة موضحة المرأة إلا في قول من رآها كموضحة الرجل - وهو قول ابن شبرمة . وأما القول الخامس - فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا به فراعوا المجني عليه , قالوا : فإن كان المجني عليه امرأة فبلغت الجناية نصف عشر ديتها فصاعدا فهي على العاقلة , فإن بلغت أقل فهي في مال الجاني - رجلا كان أو امرأة - فإن كان المجني عليه رجلا فبلغت الجناية نصف عشر ديته فصاعدا فهي على العاقلة , فإن بلغت أقل ففي مال الجاني - رجلا كان أو امرأة . والقول السادس - كما روى عبد الرزاق عن ابن جريح عن عطاء , قال : إذا بلغ الثلث فهو على العاقلة , وقال لي ذلك ابن أيمن , ولا أشك أنه قال : فما لم يبلغ الثلث فعلى قوم الرجل خاصة . والقول السابع - كما روي عن ابن وهب أخبرني يونس عن أبي الزناد قال : كل شيء من جراح أو دم كان خطأ , فإن عقل ما ائتلفت عليه القبيلة من الخطأ على ما ائتلفوا عليه إن كانت إلفتهم على الكثير , وليست على القليل , فإن عقل ما ائتلفوا عليه على العاقلة وعقل ما لم يأتلفوا عليه على الجارح في ماله - وليس بشيء من ذلك - اصطلحت عليه القبيلة - بأس . وقد كان عمر بن عبد العزيز ألف معقلة قريش , إذ كان أميرا على المدينة : على أنهم يعقلون ثلث الدية فما فوقها , وأن ما دون ذلك يكون على الجارح في ماله . والقول الثامن - قاله عثمان البتي , والشافعي : أن العاقلة تحمل ما قل أو كثر - كما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا قول عطاء وغيره : أن العاقلة تحمل ثمن العبد - ولم يخص قليلا من كثير - وهو قول الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان , وغيرهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في قول من قال : إن الثلث فما دونه في مال الجاني , وإن ما زاد على العاقلة ؟ فوجدناه لا حجة لهم نعلمها أصلا - فسقط هذا القول , إذ كل قول

(11/52)


لا حجة له , فهو ساقط لا يجوز القول به . ثم نظرنا في القول الثاني - فوجدناهم يذكرون : ما رواه يونس بن يزيد عن ربيعة أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف بين الناس في معاقلهم فكانت بنو ساعدة فرادى على معقلة يتعاقلون ثلث الدية فصاعدا , ويكون ما دون ذلك على من اكتسب وجنى . وقال ابن وهب : وحدثني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة أنه قال : عاقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار : فجعل العقل بينهم إلى ثلث الدية . وما ناه حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا الحارث بن أبي أسامة نا محمد بن عمر الواقدي نا موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال : كنا في جاهليتنا وإنما نحمل من العقل ما بلغ ثلث الدية , ونؤخذ به حالا , فإن لم يوجد عندنا كان بمنزلة الذي يتجازى , فلما جاء الله تعالى بالإسلام كنا فيمن سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعاقل بين قريش والأنصار : ثلث الدية - روي عن عمر - ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في هذا الاحتجاج , فوجدناه لا تقوم به حجة ; لأن الخبرين عن ربيعة مرسلان . أما المسند - فهالك ألبتة ; لأنه عن الحارث بن أبي أسامة وهو منكر الحديث , ترك بأخرة - وهو أيضا عن الواقدي , وهو مذكور بالكذب . ثم عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك - وهو مجهول . ورب مرسل أصح من هذا قد تركوه , كالمرسل في : أن في العين العوراء : ثلث ديتها وغير ذلك - فسقط هذا القول . وأما كونه عن عمر - رضي الله عنه - فهو مرسل عن ابن سمعان وابن سمعان مذكور بالكذب - ثم لو صح لما كان في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة . وقد جاء عن عمر بما هو أصح من حكمه : في عين الدابة ربع ثمنها , وكتابه بذلك إلى القضاة في البلاد , ومن خطبته على الصحابة - رضي الله عنهم - أن في الضلع جملا , وفي الترقوة جملا . ومن الباطل أن يكون قول عمر قد صح عنه ليس حجة , ويكون قول مكذوب لم يصح عنه حجة - فسقط كل ما احتجوا به . ثم نظرنا في قول من قال : لا تحمل العاقلة ما دون نصف العشر من الدية فلم نجد لهم حجة إلا أن قالوا : إن الأموال لا تحملها العاقلة ; لأنه ليس فيها أرش مؤقت لا يتعدى - ووجدنا ثلث الدية تحملها العاقلة ; لأن فيها أرشا معلوما لا يتعدى , فوجب أن يكون كذلك كل ما له أرش محدود فتحمله العاقلة , وما لا أرش له محدودا فلا تحمله العاقلة ؟ .
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا ليس بشيء , وقول كاذب , وباطل موضوع , ولا ندري أين وجدوا هذا إلا بظنون ؟ قال الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ

(11/53)


الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . ثم نظرنا في تقسيم أبي حنيفة , ومالك , ومراعاة مالك ثلث دية المرأة إذا كانت هي الجانية , أو ثلث دية الرجل إذا كان هو الجاني , ومراعاة أبي حنيفة نصف عشر الدية في المجني عليه خاصة - رجلا كان أو امرأة - فوجدناهما تقسيمين لم يسبق أبا حنيفة إلى تقسيمه في ذلك أحد نعلمه , ولا سبق مالكا في تقسيمه هذا أحد نعلمه , ولئن جاز لأبي حنيفة , ومالك أن يقولا قولا برأيهما لا يعرف له قائل قبلهما , فما حظر الله تعالى قط ذلك على غيرهما , ولا أباح لهما من ذلك ما لم يبحه لكل مسلم دونهما , لا سيما من قال بما أوجبه القرآن , وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن من صوب لمالك , ولأبي حنيفة قولا بالرأي لم يعرف أن أحدا قال به قبلهما ثم أنكر على من قال متبعا لكلام الله تعالى , وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم قولا لم يأت عن أحد قبله أنه قال به , ولا صح إجماع بخلافه - فما ترك للباطل شغبا ؟ ثم نظرنا في قول من قال : ما كان ثلث الدية فصاعدا فعلى العاقلة , وما كان أقل من ثلث الدية فعلى قوم الجاني خاصة - فوجدناه لا حجة له فيه - فسقط . ثم نظرنا فيما حكاه أبو الزناد من أن الحكم في ذلك إنما هو على ما ائتلفت عليه القبائل وتراضت به فقط , فوجدناه مخبرا عن حقيقة الحكم في هذه المسألة . وصح بإخبار أبي الزناد أن هذا أمر لا سنة فيه , وإنما هو تراض فقط فهذا لا يجوز الحكم به قطعا في دين الله تعالى . ثم نظرنا في قول من قال : إن العاقلة تحمل القليل والكثير فوجدنا حجتهم أن قالوا : لما حملت الدية بالنص والإجماع كان حملها لبعض الدية وللقليل أولى , إذ من حمل الكثير وجب أن يحمل القليل - وهذا قياس , والقياس كله باطل . قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وصح أنها آراء مجردة لا سنة في شيء من ذلك ولا إجماع وجب الرجوع إلى ما افترض الله تعالى عند التنازع فوجدنا الله تعالى يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} الآية . وقال تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". فوجب أن لا تلزم العاقلة غرامة أصلا إلا حيث أوجبها النص والإجماع وقد صح النص بإيجاب دية النفس في الخطأ عليها وصح النص بإيجاب الغرة الواجبة في الجنين على العاقلة أيضا، لم يأت نص ولا إجماع بأن تلزم غرامة في غير ما ذكرنا فوجب أن لا يجب عليها غرامة لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله عليه السلام - ولا يصح فيها كلمة عن صاحب أصلا , وإنما فيها آثار عن اثني عشر من التابعين مختلفين غير متفقين - فصح أنها

(11/54)


أقوال عذر قائلها بالاجتهاد وقصد الخير - وبالله تعالى التوفيق .

(11/55)


2141 - مسألة : هل يغرم الجاني مع العاقلة أم لا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة , ومالك , والليث , وابن شبرمة : يغرم القاتل خطأ مع عاقلته . وقال الأوزاعي , والحسن , وأبو سليمان , وأصحابنا : لا يدخل معهم في الغرامة . وقال الشافعي : هي على العاقلة , فما عجزت عنه العاقلة فهو في ماله . قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها - : فوجدنا الموجبين على القاتل خطأ أن يغرم مع عاقلته يقولون : إن سعد بن طارق روى عن نعيم بن أبي هند عن سلمة بن نعيم أنه قال : قتلت يوم اليمامة رجلا ظننته كافرا , فقال : اللهم إني مسلم بريء مما جاء به مسيلمة , قال : فأخبرت بذلك عمر بن الخطاب , فقال : الدية عليك وعلى قومك . قالوا : وروي هذا عن عمر بن عبد العزيز , ولا يعرف لهما من السلف مخالف . وقالوا : إنما الغرم على العاقلة تغرم عنه على وجه النصرة له , فهو أولى بذلك في نفسه - ما نعلم لهم حجة غير هذا , ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم نظرنا في قول الشافعي , فوجدناه لا حجة له أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا من قول صاحب , ولا تابع , ولا قياس , ولا وجدناه لأحد قبله - فسقط - وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول الأوزاعي , والحسن بن حي , وأبي سليمان , فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم بالدية على عصبة العاقلة : كما رويناه عن مسلم بن الحجاج نا قتيبة - هو ابن سعيد - نا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قال : "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة , ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت , فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها". ومن طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم نا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة قال : "ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها وإحداهما لحيانية , فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة , وغرة لما في بطنها , فقال رجل من عصبة القاتلة : أنغرم دية من لا أكل ولا نطق ولا استهل , فمثل ذلك يطل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الأعراب وجعل عليهم الدية". فهذا نص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة الجانية من الدية جملة , وأن ميراثها لزوجها وبنيها , لا مدخل للغرامة فيه , والدية على عصبتها , وهي ليست عصبة لنفسها , لا في شريعة , ولا في لغة . فصح يقينا أنه لا يغرم الجاني

(11/55)


خطأ من دية النفس , ولا من الغرة شيئا.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن عجزت العاقلة : فالدية , والغرة على جميع المسلمين في سهم الغارمين من الزكاة ; لأنهم غارمون , فحقهم في سهم الغارمين بنص القرآن ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالدية على أوليائها . وبرهان آخر : وهو أن الأموال محرمة إلا بنص أو إجماع , وقد صح النص وإجماع أهل الحق على أن العاقلة تغرم الدية , ولم يأت نص ولا إجماع بأن القاتل يغرم معهم شيئا , فلم يحل أن يخرج من ماله شيء , وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله والعجب من احتجاجهم بعمر - رضي الله عنه - وهم قد خالفوه في هذا المكان نفسه , وفي غيره , فمما حضرنا ذكره من ذلك : ما رويناه عن معمر عن قتادة : أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ , فقضى له عمر بن الخطاب بالدية فيها على العاقلة - وهم لا يقولون بهذا ؟.

(11/56)


2142 - مسألة : كم يغرم كل رجل من العاقلة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: قد قلنا : من العاقلة . ثم وجب النظر : أيدخل فيها : الصبيان , والمجانين , والنساء , والفقراء أم لا ؟ فنظرنا في ذلك بعون الله تعالى فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم إنما قضى بالدية على العصبة , وليس النساء عصبة أصلا , ولا يقع عليهن هذا الاسم , والأموال محرمة إلا بنص , أو إجماع , ولا نص ولا إجماع في إيجاب الغرم على نساء القوم في الدية التي تغرمها العاقلة . ثم نظرنا في الفقراء , فوجدنا الله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. و {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} إلى قوله : {إلا ما آتاها}. فهذا عموم في كل نفقة في بر , يكلفها المرء , لا يجوز أن يخص بهذا الحكم نفقة - دون نفقة - لأنها قضية قائمة بنفسها , فلا يحل القطع لأحد : بأن الله تعالى إنما أراد بذلك ما قبلها خاصة فصح يقينا أن الفقراء خارجون مما تكلفه العاقلة . ثم نظرنا في الصبيان والمجانين , فوجدنا اسم " عصبة " يقع عليهم , ولم نجد نصا ولا إجماعا على إخراجهم عن هذه الكلفة , بل قد وجدنا أحكام غرامات الأموال تلزمهم , كالزكاة التي قد صح النص بإيجابها عليهم , وأجمع الحاضرون من المخالفين معنا على أن زكاة ما أخرجت الأرض , والثمار عليهم , وأن زكاة الفطر عليهم , وأن النفقات على الأولياء والأمهات عليهم . ولم نحتج بهذا لأنفسنا , لكن على المخالفين لنا , لأنهم يزعمون أنهم أصحاب قياس , وقد أجمعوا على وجوب كل ما ذكرناه في أموال الصبيان , والمجانين , فما الفرق بين لزوم النفقات والزكوات لهم , وبين لزوم الدية مع سائر العصبة لهم ؟ لا سيما وهم يرون الدية في مال الصبي والمجنون , إذا قتل , ويرون

(11/56)


أروش الجراحات عليهم أيضا - وهذا تناقض لا خفاء به ؟ فإن قالوا : فأنتم لا ترون الدية عليهم ولا عنهم فيما جنوه , ثم ترونها عليهم فيما جناه غيرهم ؟ قلنا نعم ; لأننا لا نقول بالمقاييس في الدين , ولا أن الشريعة موضوعة على ما توجبه الآراء , بل نكفر بهذا القول , ونبرأ إلى الله تعالى منه . وقد وجدنا القاتل يقتل عددا من المسلمين ظلما فيعفو عنه أولياؤهم , فيحرم دمه , ويمضي سالما لا شيء عليه , ثم يسرق دينارا , أو يزني بأمة سوداء فيعفو عنه رب الدينار , وسيد السوداء , فلا يسقط عنه القطع , ولا القتل بالحجارة - إن كان محصنا - وأين هذا والدينار من قتل النفس المحرمة ؟ ووجدناكم تقولون : إن زكاة الفطر على المرأة , ولا تؤديها عن نفسها , بل يؤديها عنها غيرها - وهو زوجها . ويقول الحنفيون : الأضحية فرض على المرأة فلا تؤديها هي , لكن يؤديها عنها زوجها , فإذا قلتم هذا حيث لم يوجبه الله سبحانه وتعالى ولا رسوله عليه السلام , وأنتم أهل آراء وقياس في الدين ؟ فنحن أولى بأن نقول ما أوجبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين . فإن قيل : فإن احتجاجكم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة - فذكر - الصبي حتى يبلغ , والمجنون حتى يفيق". قلنا : نحن - ولله الحمد - قائلون به , ومسقطون عن الصبي والمجنون كل حكم ورد بخطاب أهل ذلك الحكم ; لأنهما غير مخاطبين بيقين لا شك فيه , فهما خارجان عمن خوطب بذلك الحكم , ونحن نلزمهما كل غرامة في مال جاء الحكم في ذلك المال بغير خطاب لأهله , والحكم هاهنا جاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن الدية والغرة على عصبة القاتلة ولم يخاطب العصبة , ولا التفت عليه السلام إلى اعتراض من اعترض منهم , بل أنفذ الحكم عليهم , فنحن ننفذ الحكم بإيجاب الدية في مال العصبة ولا نبالي صبيانا كانوا أو مجانين أو غيبا أو حاضرين , ولم نوجب ذلك فيما جناه صبي أو مجنون ; لأن الدية إنما وجبت بنص القرآن فيما قتله مخاطب الكفارة , وليس هذا من صفات الصبيان والمجانين - والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم نظرنا في مقدار ما يؤخذ من كل إنسان من العصبة ؟ فوجدنا قوما قالوا : لا يؤخذ من كل واحد إلا أربعة دراهم أو ثلاثة . وقوما قالوا : يؤخذ من الغني نصف دينار , ومن المقل ربع دينار - فكانت هذه حدودا لم يأت بها حكم من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فوجب أن لا يلتفت إليها ووجب أن ننظر ما الواجب في ذلك ؟ فوجدنا الله تعالى يقول {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وقال تعالى: {َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية , وبالغرة

(11/57)


على العاقلة , فوجب أن يحملوا من ذلك ما يطيقون , وما لا حرج عليهم فيه , وما لا يبقون بعده في عسر , فإن الله تعالى لم يرد ذلك - أعني العسر بنا - قط , فيؤخذ من مال المرء ما لا يبقى بعده معسرا , أو يعدل بينهم في ذلك , فمن احتمل ماله أبعرة كثيرة , ولم يجحف ذلك به كلف ذلك - ومن لم يحتمل إلا جزءا من بعير كذلك : أشرك بين الجماعة منهم في البعير , هكذا حتى تتم الدية - وهكذا في حكم الغرة , وبالله تعالى التوفيق . إنما ينظر إلى مال المرء منهم وعياله , فتفرض الدية , والغرة على الفضلات من أموالهم - التي يبقون بعدها - لو ذهبت - أغنياء - فيعدل بينهم في ذلك , كما قال تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. والعدل : هو الأخذ بالسنة , لا بأن يساوى بين ذي الفضلة القليلة , والفضلة الكثيرة - فيؤخذ منهم سواء - لكن يؤخذ من الكثير كثير , ومن القليل قليل - وهذا قول أصحابنا وهو الحق - وبالله تعالى التوفيق .

(11/58)


هل يعقل عن الحليف وعن المولى من أسفل أو من فوق وعن العبد أم لا وهل يعقل عمن أسلم على يديه أم لا وهل ينتقل الولاء بالعقل أم لا
...
2143 - مسألة : هل يعقل عن الحليف ؟ وعن المولى من أسفل ؟ أو من فوق ؟ وعن العبد أم لا ؟ وهل يعقل عمن أسلم عن يديه أم لا ؟ وهل ينتقل الولاء بالعقل أم لا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : يعقل عن المولى المعتق مواليه من فوق : كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم , قال : اختصم علي , والزبير , في موال لصفية ؟ فقضى عمر بن الخطاب بأن الميراث للزبير , والعقل على علي . وعن إبراهيم النخعي في رجل أعتقه قوم , وأعتق أباه آخرون ؟ قال : يتوارثون بالأرحام , والعقل على الموالي . وعن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب أن رجلا يموت قبلنا , وليس له رحم ولا ولي ؟ فكتب إليه عمر : إن ترك ذا رحم , فالرحم , وإلا فالولاء , وإلا فبيت المال يرثونه ويعقلون عنه . وعن مجاهد قال : إن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال : إن رجلا أسلم على يدي فمات وترك ألف درهم , فتحرجت منها فرفعتها إليك ؟ فقال : أرأيت لو جنى جناية على من كانت تكون ؟ قال علي ؟ قال : فميراثه لك . وعن معمر عن الزهري , قال : قال عمر بن الخطاب : إذا والى الرجل رجلا فله ميراثه , وعلى عاقلته عقله . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أبى القوم أن يعقلوا عن مولاهم , أيكون مولى من عقل عنه ؟ فقال : قال معاوية : إما أن يعقلوا عنه , وإما أن نعقل عنه , وهو مولانا , قال عطاء فإن أبى أهله أن يعقلوا عنه , وأبى الناس , فهو مولى المصاب . وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري , قال : إذا أبت العاقلة أن يعقلوا عن مولاهم أجبروا على ذلك . وعن إبراهيم النخعي : إذا أسلم

(11/58)


الرجل على يدي الرجل فله ميراثه ويعقل عنه وعن الحكم بن عتيبة في رجل تولى قوما قال : إذا عقل عنهم فهو منهم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وقالت طائفة : غير هذا - كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن حميد أن مولى لبني جشم قتل رجلا خطأ فسأل عدي بن أرطاة الحسن البصري عن ذلك ؟ فقال : لا تعقل العرب عن الموالي . وقال أبو حنيفة , ومالك : تعقل العاقلة عن المولى والحليف وقال أبو حنيفة : من والى غير من أعتقه لكن من أسلم على أيديهم فله أن ينتقل عنهم ويوالي غيرهم ما لم يعقلوا عنه , فإذا عقلوا عنه فلا يمكنه الانتقال عنهم بولاية أبدا . وقال أبو سليمان وأصحابنا : لا تعقل العاقلة عن الموالي من أسفل , ولا عن المولى من فوق , ولا عن الحليف , ولا عن العبد . فلما اختلفوا وجب أن نخلص أقوالهم ثم نذكر كل ما احتجت به كل طائفة لقولها ; ليظهر الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى ومنه : فكان الحاصل - من قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الموالي من فوق يعقلون عن الموالي الذين أعتقوه , أو أعتقه من هو منهم , وأن ذوي الرحم أولى بالميراث من الموالي الذين أعتقوه , ثم المعتقون , ثم المسلمون . وظاهر هذا : أن كل من ذكرنا يعقل عنه , وأن من أسلم على يد إنسان فولاؤه له يرثه ويعقل عنه . وصح من قول معاوية أن الموالي من فوق يعقلون عمن أعتقوه , فإن أبوا عقل عنهم الإمام وزال ولاؤه عن الذين أعتقوه إلى الذي عقل عنه - وهذا صحيح عن معاوية ثابت ; لأن عطاء بن أبي رباح أدركه . وصح عن إبراهيم النخعي : أن المعتقين يعقلون عن مولاهم الذي أعتقوه , وعمن أسلم على يدي رجل منهم - وصح عن الحسن : أنه لا يعقل المعتقون عمن أعتقوا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب أن ننظر في طلب البرهان فيما اختلفوا فيه من ذلك مما أوجب الله تعالى علينا - وهو القرآن والسنة - فوجدنا من يقول : إن المعتقين يعقلون عمن أعتقوه يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم". وقال عليه السلام: "كل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة". كما روينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير , وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة. ومن طريق مسلم ني زهير بن حرب نا إسماعيل بن إبراهيم - هو ابن علية - نا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من

(11/59)


من بني عقيل وأصابوا معه العضباء , فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق فقال : يا محمد ؟ فأتاه فقال : "ما شأنك" ؟ فقال : بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج ؟ قال : "إعظاما لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ثم انصرف , فناداه : يا محمد , يا محمد - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا - فرجع إليه فقال : "ما شأنك"؟ فقال : إني مسلم , قال : "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" وذكر باقي الحديث - قالوا : فإذا كان المولى من القوم , والحليف من القوم - وهم مأخوذون بجريرته - فالعقل عليه . قال أبو محمد رحمه الله: وهذه الأخبار في غاية الصحة , إلا أنهم لا حجة لهم في شيء منها : أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم" فحق لا شك فيه , وليس كونه منهم موجبا أن يعقلوا عنه ; لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال أيضا: "ابن أخت القوم منهم" ولم يكن ذلك موجبا عندهم أن يعقلوا عنه : كما روينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر - هو غندر - نا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال : "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وقال : أفيكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا , إلا ابن أخت لنا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابن أخت القوم منهم" وذكر الحديث . فبطل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم" أن يكون موجبا لأن يعقل عنهم , أو يعقلوا عنه إذ لا يقتضي قوله عليه السلام: "مولى القوم منهم" أن يعقلوا عنه . وأما حديث عمران بن الحصين - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعقيلي: "أخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف" فلا حجة لهم فيه أصلا لوجوه - : أحدها - أنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منه - إذ أخذه مسلما حرام أخذه - لولا جريرة حلفائه , بل أخذ كافرا حلالا أخذه , ودمه , وماله على كل حال , إلا أنه تأكد أمره من أجل جريرة حلفائه فقط - ولسنا في هذه المسألة - إنما نحن في مسلمين حرام دماؤهم وأموالهم , هل يؤخذون بجريرة حلفائهم أم لا ؟ . وثانيها : أن مثل تلك الجريرة لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنه لا يحل أن يؤخذ بها مسلم عن مسلم ولو أن حلفاء الإنسان أو إخوانه أو أباه أو ولده : يأسر رجلا من المسلمين , أو يقطع الطريق : لم يحل لأحد أن يأخذ حليفه , ولا أخاه , ولا ابنه , ولا أباه عنه . وثالثها : أن هذا قياس والقياس كله باطل ; لأنه قياس الشيء على ضده , وقياس مؤمن على كافر , وجناية قتل خطأ على أسر كفار لمؤمن - وهذا تخليط ممن موه بهذا الخبر فحرفه عن موضعه . وأما حديث - جبير بن مطعم : "لا حلف في الإسلام , وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" فلا متعلق لهم به ; لأننا لم نخالفهم في بقاء حلف الجاهلية وإبطال الحلف في الإسلام فيحتجوا علينا بهذا الخبر , وإنما الكلام

(11/60)


هل يعقل الحلفاء بعضهم عن بعض أم لا ؟ وليس في هذا الخبر شيء من هذا المعنى وما معنى بقاء الحلف إذا قلنا : معناه ظاهر , وهو أن يكونوا معهم كأنهم منهم , فإذا غزوا غزوا معهم , وإذا كانت لهم حاجة تكلموا فيها كما يتكلم الأهل , وما أشبه ذلك - وأما إيجاب غرامة فلا . وقد روينا من طريق مسلم نا أبو جعفر بن محمد بن الصباح نا حفص بن غياث نا عاصم الأحول قال : قيل لأنس بن مالك : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف بين قريش والأنصار في داره . وفي حديث آخر لمسلم عن أنس : في داره بالمدينة ؟ قال علي رحمه الله : فهذا أعظم حجة في إبطال أن يعقل الحليف عن حليفه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف بين قريش والأنصار, ولا حلف أقوى وأشد من حلف عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو عقل الحلفاء عن الحليف لوجب أن تعقل قريش عن الأنصار , والأنصار عن قريش - وهذا ما لا يقولونه
قال أبو محمد رحمه الله: فواجب أن نطلب معرفة الوقت الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلف في الإسلام - : فذكر عن عمر بن الخطاب من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف , قال : إن كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود , وكل حلف كان بعد الحديبية فهو منقوض ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وادع قريشا يوم الحديبية كتب - عليه السلام - حينئذ بينه وبينهم : "أنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها دخل , ومن أحب أن يدخل في عهد محمد صلى الله عليه وسلم وعقده دخل". وقضى عثمان : أن كل حلف كان قبل الهجرة فهو جاهلي ثابت , وكل حلف كان بعد الهجرة فهو في الإسلام , وهو مفسوخ , قضى بذلك في قوم من بني بهز من بني سليم . وقضى علي بن أبي طالب : أن كل حلف كان قبل نزول: {لإيلاف قريش} فهو جاهلي ثابت وكل حلف كان بعد نزولها فهو إسلامي مفسوخ ; لأن من حالف ليدخل في قريش بعد نزول: {لإيلاف قريش} ممن لم يكن منهم لم يكن بذلك داخلا فيهم , قضى في ذلك في حلف ربيعة العقيلي , في جعفي , وهو جد إسحاق بن مسلم العقيلي ; وقال ابن عباس : كل حلف كان قبل نزول: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فهو مشدود , وكل حلف كان بعد نزولها فهو مفسوخ , فوجب أن ننظر في الصحيح من ذلك - : فأما قول عثمان - رضي الله عنه - إن حد انقطاع الحلف إنما هو أول وقت الهجرة , فلا يصح ; لأن أنسا روى - كما ذكرنا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالف بين قريش والأنصار بالمدينة, ولا يشك أحد في أن هذا الحلف كان بعد الهجرة . وأما قول عمر - رضي الله عنه - في تحديده انقطاع الحلف بيوم الحديبية فهذا

(11/61)


أيضا متوقف ; لأن حلف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار كان بعد الهجرة , ولا ندري أقبل الحديبية أم بعدها . فأما نزول: {لإيلاف قريش} والآية الأخرى فما ندري متى نزلتا ؟ لأن جبير بن مطعم - راوي "كل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" لم يسلم إلا يوم الفتح , فلا يحمل هذا الخبر إلا على يوم الفتح , والله أعلم - فبطل تعلقهم بهذه الأخبار جملة . قال أبو محمد رحمه الله: فوجب علينا أن نطلب حكم هذه المسائل من غير هذه الأخبار , فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى بالدية على العصبة - هكذا جاء النص - في خبر دية القاتلة , فوجب أن تكون الدية على العصبة , ومن هم العصبة ؟ فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بميراث القاتلة لبنيها وزوجها وحكم بالدية على عصبتها - فبطل أن تكون الورثة هم العصبة ؟ بخلاف ما قال الشعبي , قال : العقل على من له الميراث , فإذ ذلك كذلك فلعل محتجا يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر". فيقول : إن هذا حكم المولى من فوق ؟ فيقال له : نعم , هذا صحيح , وهذا حكم المواريث لا حكم العاقلة ; لأنه قد ترث بالولاء المرأة إذا أعتقت مولى لها وليست المرأة من العصبة ؟ .

(11/62)


2145 - مسألة : تعاقل أهل الذمة:
روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث نا عمرو - هو ابن عبيد - أن الحسن كان يقول في المعاهد يقتل , قال : إن كانوا يتعاقلون فعلى العواقل , وإن كان لا , فدين عليه في ماله وذمته . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أيضا نا حفص بن غياث عن أشعث عن الشعبي في المعاهد يقتل , قال : ديته للمسلمين , وعقله عليهم . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أيضا نا محمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في رجل من أهل الذمة فقأ عين رجل مسلم قال : ديته على أهل طسوجه . فهذه أقوال منها - : أن أهل إقليمه يعقلون عنه - وهو ليس بشيء ; لأن أهل طسوجه لا يسمون عصبة له بلا خلاف . وقول آخر - أن عقله على المسلمين , وهذا كذلك إذا لم تكن له عصبة فإن كان له عصبة فعقل من قتل خطأ والغرة تجب عليه وعلى عصبته كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخص بذلك عربا من عجم بل جعل على كل بطن عقوله فعم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.

(11/62)


حكم ما جنى العبد في ذلك أن قتل العبد أوالمدبر أو أم الولد أو المكاتب مسلما خطأ أو جنوا على حامل فاضيب جنينها
...
2146 - مسألة : حكم ما جنى العبد في ذلك:
إن قتل العبد أو المدبر أو أم الولد , أو المكاتب مسلما خطأ , أو جنوا على حامل فأصيب جنينها , فقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك - وهو الذي قضاؤه من قضاء الله تعالى أن الدية والغرة على

(11/62)


2147 مسألة : من لا عاقلة له:
اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : على المسلمين - : كما روينا أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب أن الرجل يموت بيننا ليس له رحم ولا مولى ولا عصبة ؟ فكتب إليه عمر : إن ترك رحما فرحم , وإلا فالمولى , وإلا فلبيت مال المسلمين : يرثونه , ويعقلون عنه . وقالت طائفة : عقله على عصبة أمه - : كما روينا أن علي بن أبي طالب لما رجم المرأة قال لأوليائها : هذا ابنكم ترثونه ويرثكم , وإن جنى جناية فعليكم . وعن إبراهيم قال : إذا لاعن الرجل امرأته : فرق بينهما ولا يجتمعان أبدا , وألحق الولد بعصبة أمه , وترثه , ويعقلون عنه . وعن إبراهيم أيضا - وهو النخعي - في ولد الملاعنة قال : ميراثه كله لأمه , ويعقل عنه عصبتها , كذلك ولد الزنى , وولد النصراني وأمه مسلمة . وقالت طائفة : على من كان مثله - : كما روينا عن ميمون بن مهران أن رجلا من أهل الجزيرة أسلم وليس له موال , فقتل رجلا خطأ ؟ فكتب عمر بن عبد العزيز : أن اجعلوها دية على نحوه ممن أسلم . وقالت طائفة : على من كان مثله . وقالت طائفة : لا شيء في ذلك : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج , قال : زعم عطاء أن سائبة من سيب مكة أصابت إنسانا فجاء إلى عمر بن الخطاب , فقال له عمر : ليس لك شيء , أرأيت لو شججته ؟ قال : آخذ له منك حقه , ولا تأخذ لي منه ؟ قال : لا , قال : هو إذا الأرقم أن يتركني ألقم وأن يقتلوني أنقم , قال عمر : فهو الأرقم . قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في هذا ؟ فوجدنا الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} الآية . ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد

(11/63)


قضى مجملا في الجنين بغرة عبد أو أمة, فكان هذان النصان عامين لكل من له عاقلة , ولكل من لا عاقلة له ولا عصبة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قضى بالدية والغرة على العصبة لم يقل : إنه لا يجب من ذلك شيء على من لا عصبة له - فإذ لم يقل , وقضى بالغرة جملة , وقضى الله تعالى بدية مسلمة إلى أهل المقتول خطأ عموما : كان ذلك واجبا فيمن قتله خطأ من له عصبة , ومن لا عصبة له , وكذلك الغرة - فوجب أن لا تسقط الدية , ولا الغرة هاهنا أيضا , إذ لم يسقطها نص من الله تعالى , ولا من رسوله عليه السلام . فنظرنا في هذه الأقوال فوجدنا من جعلها في مال الجاني , أو على عصبة أمه , أو على مثله ممن أسلم : قد خص بالغرامة قوما دون سائر الناس - وهذا لا يجوز ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" فلم يجز أن يغرم أحد غرامة لم يأت بإيجابها نص ولا إجماع , ولم يقل الله تعالى , ولا رسوله - عليه السلام - إن الدية يغرمها الأخوال , ولا الجاني , ولا من أسلم مع الجاني - فلا يجوز تخصيصهم ; لأنهم وغيرهم سواء في تحريم أموالهم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلم يبق إلا قول من قال : إن الدية والغرة في سهم الغارمين من الصدقات , أو بيت مال المسلمين في كل مال موقوف لجميع مصالحهم - فوجب القول بهذا ; لأن الله تعالى أوجب الدية في كل مؤمن قتل خطأ , وأوجب الغرة في كل جنين أصيب عموما , إلا ولد الزنى وحده , ومن لا يلحق بمن حملت به أمه منه فقط ; لأن الولادات متصلة من آدم عليه السلام إلينا , وإلى انقراض الدنيا - أبا بعد أب - فكل من على ظهر الأرض من ولد آدم فله عصبة يعلمها الله تعالى - وإن بعدوا عنه ولا بد - إلا من ذكرنا . فإن كانت العصبة مجهولة , أو كانوا فقراء , فبيقين ندري أن الله تعالى إذ أوجب عليهم الدية , والغرة - وخفي أمرهم - فهم عند الله تعالى من الغارمين , فحقهم في سهم الغارمين من الصدقات واجب , فتؤدى عنهم من ذلك . وأما من لم يكن له أب - كولد الزنى , وابن الملاعنة , ومن زفت إليه غير امرأته , وولد المرأة من المجنون يغتصبها , ونحو ذلك , فهذا لا عصبة له بيقين أصلا , لكن الله تعالى قد أوجب في قتل الخطأ الدية , وفي الجنين الغرة , على جميع أهل الإسلام عاما , لا بعضهم دون بعض , فلا يجوز أن يخص بعضهم دون بعض . وهكذا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل , إذ ودى عبد الله بن سهل - رضي الله عنه - من الصدقات مائة من الإبل, وقد ذكرناه بإسناده في " كتاب القسامة " إذ لم يعرف من قتله - وبالله تعالى التوفيق.

(11/64)


القسامة
اختلاف الناس في القسامة
...
2148 – مسألة ـ القسامة :
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في القسامة

(11/64)


على أقوال نذكر منها - ما يسر الله تعالى منها إن شاء الله تعالى على حسب ما وردت عمن جاء عنه في ذلك أثر عن الصحابة - رضي الله عنهم - ثم عن التابعين - رحمهم الله ثم عمن بعدهم إن شاء الله تعالى . ثم نذكر حجة كل طائفة لقولها - بعون الله تعالى ومنه ; ليلوح من ذلك الحق : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عمر قال : لم يقد أبو بكر , ولا عمر بالقسامة . روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد السلام بن حرب عن عمرو - هو ابن عبيد - عن الحسن البصري أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب فوجداه قد صدر عن البيت عامدا إلى منى فطاف بالبيت ثم أدركاه فقصا عليه قصتهما , فقالا : يا أمير المؤمنين إن ابن عم لنا قتل , نحن إليه شرع سواء في الدم - وهو ساكت لا يرجع إليهما شيئا - حتى ناشداه الله , فحمل عليهما , ثم ذكراه الله ؟ فكف عنهما , ثم قال عمر بن الخطاب : ويل لنا إذا لم نذكر بالله , وويل لنا إذا لم نذكر الله : فيكم شاهدان ذوا عدل , يجيئان به على من قتله فنقيدكم منه , وإلا حلف من يدرؤكم : بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ؟ فإن نكلوا حلف منكم خمسون , ثم كانت لكم الدية , إن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها . روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب استحلف امرأة خمسين يمينا ; ثم جعلها دية . ومن طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عبد الله عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال في القتيل يوجد في الحي يقسم خمسون من الحي الذي وجد فيه : بالله إن دمنا فيكم ثم يغرمون الدية . روينا من طريق البخاري نا قتيبة نا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي نا حجاج بن أبي عثمان ني أبو رجاء من آل أبي قلابة حدثني أبو قلابة أنه قال لعمر بن عبد العزيز : كانت هذيل خلعوا حليفا لهم في الجاهلية , وطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف فقتله ؟ فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بن الخطاب بالموسم , وقالوا : قتل صاحبنا , قال : إنهم خلعوه , قال : يقسم خمسون من هذيل ما خلعوا ؟ فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلا , وقدم رجل من الشام فسألوه أن يقسم ؟ فافتدى يمينه منهم بألف درهم , فأدخلوا مكانه آخر , فدفعه عمر إلى أخي المقتول , فقرنت يده بيده فانطلقا - وذكر الخبر . وعن الضحاك عن محمد بن المنتشر

(11/65)


قال : إن قتيلا قتل باليمن بين حيين فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا بين الحيين , فكان إلى وداعة أقرب , فأمرهم عمر : أن يقسموا ثم يدوا . وعن الشعبي في قتيل وجد في وداعة باليمن : فأدخل عمر بن الخطاب الحطيم منهم خمسين رجلا منهم , ثم استحلفهم رجلا رجلا : بالله ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فقال لهم : أدوا وحولوا , فقالوا : يا أمير المؤمنين تغرمنا وتحلفنا ؟ قال : نعم . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إسماعيل بن أبي أويس نا أخي عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان أخبرني ابن شهاب : أن عمر بن عبد العزيز سأله عن القسامة ؟ قال : فقلت له : كانت من أمر الجاهلية أقرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن من سنتنا , وما بلغنا : أن القتيل إذا تكلم برئ أهله , إن لم يتكلم حلف المدعى عليهم , وذلك فعل عمر بن الخطاب , والذي أدركنا عليه الناس . وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قضى بالبينة على الطالب , والأيمان على المطلوب , إلا في الدم فهذا مما روي عن عمر - رضي الله عنه . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , قال : كتب إلي سليمان بن هشام يسأل عن رجل وجد مقتولا في دار قوم , فقالوا : طرقنا ليسرقنا , وقال أولياؤه : كذبوا بل دعوه إلى منزلهم , ثم قتلوه . قال الزهري : فكتب إليه : يحلف من أولياء المقتول خمسون : إنهم لكاذبون ما جاء ليسرقهم , وما دعوه إلا دعاء , ثم قتلوه - فإن حلفوا أعطوا القود , وإن نكلوا حلف من أولئك خمسون : بالله لطرقنا ليسرقنا , ثم عليهم الدية . قال الزهري : وقد قضى بذلك عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في ابن باقرة التغلبي أبى قومه أن يحلفوا , فأغرمهم الدية فهذا ما جاء عن عثمان رضي الله عنه - . وروينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الرحمن بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن علي بن أبي طالب كان إذا وجد القتيل بين قريتين قاس ما بينهما . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال علي بن أبي طالب : أيما رجل قتل بفلاة من الأرض فديته من بيت المال ; لكي لا يطل دم في الإسلام , وأيما قتيل وجد بين قريتين فهو على أصقبهما - يعني أقربهما . وعن علي بن أبي طالب - أنه استحلف المتهم , وتسعة وأربعين معه تمام خمسين - فهذا ما جاء في ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا أبو معاوية عن مطيع عن فضيل بن عمر , وعن ابن عباس - أنه قضى بالقسامة على المدعى عليهم . ومن طريق عبد الرزاق عن إبراهيم

(11/66)


هو ابن يحيى - عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : لا قسامة , إلا أن تكون بينة . ويقول : لا يقتل بالقسامة , ولا يطل دم مسلم - هذا نص الحديث . فهذا ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه . وعن ابن الزبير - أنه أقاد بالقسامة , وعن عبد الله بن أبي مليكة قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة ؟ فأخبرته أن عبد الله بن الزبير أقاد بها , وأن معاوية لم يقد بها . وعن المسيب : أن القسامة في الدم لم تزل على خمسين رجلا , فإن نقصت قسامتهم , أو نكل منهم رجل واحد : ردت قسامتهم , حتى حج معاوية فاتهمت بنو أسد بن عبد العزى مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري , ومعاذ بن عبيد الله بن معمر التيمي , وعقبة بن جعونة بن شعوب الليثي : بقتل إسماعيل بن هبار ؟ فاختصموا إلى معاوية إذ حج - ولم يقم عبد الله بن الزبير بينة إلا بالتهمة , فقضى معاوية بالقسامة على المدعى عليهم , وعلى أوليائهم , فأبى بنو زهرة , وبنو تيم , وبنو ليث : أن يحلفوا عنهم ؟ فقال معاوية لبني أسد : احلفوا ؟ فقال ابن الزبير : نحلف نحن على الثلاثة جميعا فنستحق ؟ فأبى معاوية أن يقسموا إلا على واحد - فقصر معاوية القسامة فردها على الثلاثة الذين ادعي عليهم , فحلفوا خمسين يمينا بين الركن والمقام , فبرئوا - وكان ذلك أول ما قصرت القسامة , ثم قضى بذلك مروان , وعبد الملك - ثم ردت القسامة إلى الأمر الأول . وأما توحيد الأيمان - فروي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن زيد عن أبي مليح : أن عمر بن الخطاب ردد الأيمان عليهم , الأول فالأول , وأما التابعون - فإننا روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن يونس بن عبيد عن الحسن في القتيل يوجد غيلة ؟ قال : يقسم من المدعى عليهم خمسون : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فإن حلفوا فقد برئوا , وإن نكلوا أقسم من المدعين خمسون : أن دمنا قبلكم , ثم يودوا . وعن الحسن - يستحقون بالقسامة الدية , ولا يستحقون بها الدم . وعن عبد الله بن عمر - أنه سمع أصحابا له يحدثون أن عمر بن عبد العزيز برأ المدعى عليهم باليمين ثم ضمنهم العقل . وعن ابن أبي مليكة - أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمارته بالمدينة . وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز - لما رأى الناس يحلفون على القسامة - بغير علم - استحلفهم , وألزمهم الدية , ودرأ عن القتل . وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز - أنه ردد الأيمان على سبعة نفر أحدهم جان , وعن شريح - قال : تردد الأيمان عليهم , الأول فالأول . وعن محمد بن سيرين أن قوما ادعوا على قوم قتيلا ؟ فاستحلف شريح خمسين منهم , فحلف

(11/67)


عشرة رهط من آل سباع عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين يمينا مرددة عليهم ; لقتل ابنا بلسانة , وابنا تولمانة ربيعة بن يعقوب , فحلفوا , فدفع مروان ابني بلسانة , وابني تولمانة , إلى أولياء المقتول فقتلوهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فمن الصحابة - رضي الله عنهم - أبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , وابن عباس , والمغيرة بن شعبة , وابن الزبير , ومعاوية , وعبد الله بن عمرو بن العاص , وجملة الصحابة بالمدينة - هكذا مجملا - فأما المسمون فهم تسعة . ومن التابعين - الحسن , وعمر بن عبد العزيز , وشريح , وإبراهيم النخعي , والشعبي , وسعيد بن المسيب , وقتادة , وسالم بن عبد الله بن عمر , وأبو قلابة , والزهري , وعروة بن الزبير , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان وغيرهم , وجمهور العلماء بالمدينة - الذين روى عنهم التابعون هكذا مجملا - كلهم مختلفون , والصحابة أيضا كذلك , وأكثر ما ذكرنا لا يصح على ما نبين إن شاء الله تعالى . قال أبو محمد رحمه الله: فالمأثور من ذلك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل , إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص , وعن الحسن , وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة - وهو مرسل لا يصح كما ذكرنا . وروي عنه أيضا أنه طلب البينة من أولياء المقتول , فإن لم يجدوها حلف المدعى عليهم , ولا شيء عليهم , فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا الدية - وهذا مرسل عنه - لأنه عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر - ولم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر - وروي عنه أيضا : البينة على المدعين , وإلا حلف المدعى عليهم وبروا فقط , إلا أنه مرسل . وروي عنه - في قتيل وجد بين حيين , أو قريتين - أن يذرع إلى أيهما هو أقرب فالذي هو أقرب إليها حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية مع ذلك . ومثل هذا عن المغيرة بن شعبة إلا أنه مرسل ; لأنه عن عمر , والمغيرة , من طريق الشعبي - ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها وقبل الشعبي . وفي خبر المغيرة أشعث - وهو ضعيف - وروي عنه : أنه حلف امرأة مدعية من دم مولى لها خمسين يمينا , ثم قضى لها بالدية - وهذا مرسل - لأنه عن أبي الزناد عنه , وعن ابن المسيب عنه . وأما عثمان - رضي الله عنه - فإنه روي عنه في قتيل وجد في دار قوم فأقروا بقتله , وأنه جاءهم ليسرقهم : أن يحلف أولياء المقتول , ولهم القود , فإن نكلوا : حلف أهل الدار وغرموا الدية , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل ; لأنه من طريق الزهري : أن عثمان - ولم يولد الزهري , إلا بعد

(11/68)


عشرة رهط من آل سباع عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين يمينا مرددة عليهم ; لقتل ابنا بلسانة , وابنا تولمانة ربيعة بن يعقوب , فحلفوا , فدفع مروان ابني بلسانة , وابني تولمانة , إلى أولياء المقتول فقتلوهم . قال أبو محمد رحمه الله: فمن الصحابة - رضي الله عنهم - أبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , وابن عباس , والمغيرة بن شعبة , وابن الزبير , ومعاوية , وعبد الله بن عمرو بن العاص , وجملة الصحابة بالمدينة - هكذا مجملا - فأما المسمون فهم تسعة . ومن التابعين - الحسن , وعمر بن عبد العزيز , وشريح , وإبراهيم النخعي , والشعبي , وسعيد بن المسيب , وقتادة , وسالم بن عبد الله بن عمر , وأبو قلابة , والزهري , وعروة بن الزبير , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان وغيرهم , وجمهور العلماء بالمدينة - الذين روى عنهم التابعون هكذا مجملا - كلهم مختلفون , والصحابة أيضا كذلك , وأكثر ما ذكرنا لا يصح على ما نبين إن شاء الله تعالى .
قال أبو محمد رحمه الله: فالمأثور من ذلك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل , إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص , وعن الحسن , وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة - وهو مرسل لا يصح كما ذكرنا . وروي عنه أيضا أنه طلب البينة من أولياء المقتول , فإن لم يجدوها حلف المدعى عليهم , ولا شيء عليهم , فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا الدية - وهذا مرسل عنه - لأنه عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر - ولم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر - وروي عنه أيضا : البينة على المدعين , وإلا حلف المدعى عليهم وبروا فقط , إلا أنه مرسل . وروي عنه - في قتيل وجد بين حيين , أو قريتين - أن يذرع إلى أيهما هو أقرب فالذي هو أقرب إليها حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية مع ذلك . ومثل هذا عن المغيرة بن شعبة إلا أنه مرسل ; لأنه عن عمر , والمغيرة , من طريق الشعبي - ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها وقبل الشعبي . وفي خبر المغيرة أشعث - وهو ضعيف - وروي عنه : أنه حلف امرأة مدعية من دم مولى لها خمسين يمينا , ثم قضى لها بالدية - وهذا مرسل - لأنه عن أبي الزناد عنه , وعن ابن المسيب عنه . وأما عثمان - رضي الله عنه - فإنه روي عنه في قتيل وجد في دار قوم فأقروا بقتله , وأنه جاءهم ليسرقهم : أن يحلف أولياء المقتول , ولهم القود , فإن نكلوا : حلف أهل الدار وغرموا الدية , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل ; لأنه من طريق الزهري : أن عثمان - ولم يولد الزهري , إلا بعد

(11/69)


موته - أعني بعد موت عثمان - . وأما علي - رضي الله عنه - : إذا وجد القتيل بين قريتين قاس ما بينهما وجعله على أقربهما وإن وجد بفلاة من الأرض فديته على بيت المال وأنه أحلف المدعى عليه الدم , وتسعة وأربعين معه - إلا أنه لا يصح ; لأنه عن أبي جعفر - ولم يولد أبو جعفر إلا بعد موت علي ببضعة عشر عاما . ومن طريق أخرى فيها الحارث الأعور - وهو كذاب - والحجاج بن أرطاة - وهو هالك . وأما ابن عباس - فجاء عنه أنه قضى بالأيمان على المدعى عليهم في القسامة وأن لا يقاد بها , وأن لا يطل دم مسلم , إلا أنه لا يصح ; لأن إحدى الطريقين عن مطيع - وهو مجهول - والأخرى عن إبراهيم بن أبي يحيى - وهو هالك . وأما ابن الزبير - فصح عنه من أجل إسناد أنه أقاد بالقسامة , وأنه رأى القود بها في قتيل وجد , وأنه رأى الحكم للمدعين بالأيمان , وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة للواحد : روى ذلك عنه أوثق الناس سعيد بن المسيب - وقد شاهد تلك القصة كلها . وعبد الله بن أبي مليكة قاضي ابن الزبير . وأما معاوية - فروي عنه تبرئة أولياء المدعى عليهم بالأيمان في القسامة , فإن نكلوا حلف المدعون على واحد فقط , وأقيدوا به لا على أكثر , فإن نكلوا حلف المدعى عليهم بأنفسهم خمسين يمينا , تردد الأيمان عليهم , وحمله إياهم للتحليف من المدينة إلى مكة - وهذا في غاية الصحة ; لأنه رواه عنه سعيد بن المسيب , وقد شهد الأمر . وروي عنه أيضا : أنه بدأ المدعين بالأيمان وأقاد بها , ووافقه على ذلك أزيد من ألف من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا أن هذا لا يصح ; لأن في الطريق عبد الرحمن بن أبي الزناد , وهو ضعيف . وأما عبد الله بن عمرو - فإنه روي عنه أن كل دعوى فإن المدعى عليه يبدأ باليمين , إلا في الدم , فإن المصاب إذا ادعى أن فلانا قتله , فأولياؤه مبدئون , إلا أن هذا لا يصح ; لأنه من طريق ابن سمعان - وهو مذكور بالكذب هالك - وروي عن الجماعة الأولى , أن لا قود بالقسامة , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل عن الحسن .
وفي الطريق عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وروي : أن الأمر كان قديما قبل معاوية , ألا تردد الأيمان , وأنه إن نقص من الخمسين واحد بطلت القسامة - وهو صحيح - رواه سعيد بن المسيب وقد أدرك أيام عثمان , وعلي - رضي الله عنهما - فهذا كل ما روي عن الصحابة - رضي الله عنهم - كله مختلف فيه غير متفق , وكله لا يصح , إلا ما روي عن ابن الزبير , ومعاوية , وعن إبطال القسامة إذا لم يتم الخمسون : فهو صحيح . وأما التابعون - رحمهم الله - : فأما الحسن : فصح عنه أن لا يقاد بالقسامة لكن يحلف المدعى عليهم : بالله ما فعلنا , ويبرءون - فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية - هذا في القتيل يوجد . وأما عمر بن عبد العزيز - فجاء عنه : يبدأ المدعى عليهم , ثم أغرمهم الدية

(11/70)


مع أيمانهم - وهذا عنه صحيح , وأنه رجع إلى هذا القول - وصح عنه : أنه أقاد بالقسامة صحة لا مغمز فيها , وأنه بدأ المدعين بالأيمان في القسامة , وردد الأيمان - وصح عنه : أنه رجع عن القسامة جملة وترك الحكم بها . وصح عنه مثل حكم عمر بن الخطاب في إغرامه نصا الدية في نكول المدعين ونكول المدعى عليهم عن الأيمان معا . وأما شريح - فصح عنه تردد الأيمان , وأن القتيل إذا وجد في دار قوم فادعى أهله على غير تلك الدار فقد بطلت القسامة ولا شيء لهم على أحد إلا ببينة . وأما إبراهيم النخعي - فصح عنه إبطال القود بالقسامة لكن يبدأ بالمدعى عليهم فيحلفون خمسين يمينا ثم يغرمون الدية - مع ذلك - ورأى ترديد الأيمان . وأما الشعبي - فروي عنه في القتيل يوجد بين قريتين : أنه على أقربهما إليه وفيه الدية , له إن وجد بدنه في دار قوم فعليهم دمه , وإن وجد رأسه في دار قوم فلا شيء فيه - ولا دية ولا غيرها - إلا أنه لا يصح عنه ; لأنه عمن لم يسم , أو عن صاعد اليشكري , ولا نعرفه . وأما سعيد بن المسيب - فصح عنه أن القسامة على المدعى عليهم - وروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها , ولو علم أن الناس يجترئون عليها لم يقض بها - وهذا كلام سوء قد أعاذ الله تعالى سعيد بن المسيب عنه . ورواية عن يونس بن يوسف - وهو مجهول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم من عند . نفسه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} . ولقد علم الله تعالى إذ أوحى إليه بأن يحكم في القسامة بما حكم به من الحق أن الناس سيجترئون على الكفر , وعلى الدماء , فكيف على الأيمان: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . وأما قتادة - فصح عنه أن القسامة تستحق بها الدية , ولا يقاد بها . وأما سالم - فصح عنه إنكار القسامة جملة , وأن من حلف فيها يستحق أن ينكل , وأن لا تقبل له شهادة . وأما أبو قلابة - فصح عنه إنكار القسامة جملة . وأما الزهري - فصح عنه أن القسامة إذا لم تتم الخمسون عدد المدعين بطلت , ولا تردد الأيمان فيها وأن ترديدها محدث . أما عروة بن الزبير , وأبو بكر بن عمرو بن حزم , وأبان بن عثمان , فإنه روي عنهم : إن ادعى المصاب على إنسان أنه قتله , أو على جماعة , فإن أولياء المدعي يبدءون فيحلفون خمسين يمينا على واحد , وتردد عليهم الأيمان إن لم يتموا خمسين يمينا , فإذا حلفوا دفع إليهم الواحد فيقتلوه , وجلد الآخرون مائة مائة , وسجنوا سنة . وأن عبد الملك بن مروان أول من قضى بأن لا يقتل في القسامة إلا واحد , وكان من قبله يقتلون فيها الرهط بالواحد . وهذا كله خبر واحد ساقط , لا يصح ; لأنه انفرد بروايته عبد الرحمن بن أبي الزناد , وابن سمعان معا - وهما ساقطان ; وأما أبو الزناد - فروي عنه : أنه يبدأ في

(11/71)


القسامة من له بعض بينة أو شبهة , صح ذلك عنه . وأما ربيعة - فصح عنه : أن شهادة اليهود , والنصارى , والمجوس , أو الصبيان أو المرأة : يؤخذ بها في القتل , ويبدأ معها أولياء المقتول , وذلك دعوى المصاب دون بينة أصلا - بالغا كان أو غير بالغ - هكذا روى عنه ابن وهب فيبدأ أولياؤه فيحلفون خمسين يمينا وتردد عليهم الأيمان إن لم يتموا خمسين , ويستحقون القود , فإن نكلوا حلف أولياء المدعى عليه خمسين يمينا , تردد أيضا عليهم , ويبرءون ويبرأ المدعى عليه , فلا قود ولا دية , فإن نكلوا وجب لأولياء المقتول القود على من ادعوا عليه دون يمين . وأما مروان - فروي عنه : إذا ادعى الجريح على قوم , فإن أولياءه يبدءون فيحلفون خمسين يمينا , وتكرر عليهم الأيمان , ثم يدفع إليهم كل من ادعوا عليه - وإن كانوا جماعة فيقتلون - إن شاءوا - ولم يصح هذا ; لأنه من رواية ابن سمعان . وأما السالفون من علماء أهل المدينة جملة - فإنه روي عنهم : أن من ادعى - وهو مصاب - أن فلانا قتله , فإن أولياءه يبدءون في القسامة , فإن لم يدع على أحد برئ المدعى عليهم , فإن حلف الأولياء مع دعوى المصاب كان لهم القود , فإن عفوا عن الدم وأرادوا الدية قضي لهم بذلك , وجلد المعفو عنهم مائة مائة , وحبسوا سنة , وإن عفا الأولياء عن القود وعن الدية : فلا ضرب على المعفو عنهم , ولا سجن , فإن نكلوا حلف المدعى عليه مع أوليائه خمسين يمينا , فإن نكلوا غرم المدعى عليه الدية في ماله خاصة . وأن القسامة تكون مع شهادة الصبيان , أو النساء , أو اليهود , أو النصارى كما قلنا في دعوى القتيل سواء سواء ولا فرق . وأن الأيمان تردد في ذلك إن لم يتموا خمسين , فإن كان دعوى قتل عمد لم يجز أن يحلف في ذلك أقل من ثلاثة , وإن كانت دعوى قتل خطأ : حلف في ذلك واحد - إن لم يوجد غيره - خمسين يمينا وأخذ الدية . ويحلف في دعوى العمد من أراد القود - وإن لم يكن وارثا - ولا يحلف في دعوى الخطأ إلا من يرث - وكل هذا لا يصح ; لأنه من رواية ابن سمعان وهو موصوف بالكذب . قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كل ما حضرنا ذكره : أنه روي عن أحد من التابعين في ذلك وقد ذكرناهم - وهم مختلفون - كما ترى غير متفقين ؟ وأما المتأخرون - فنذكر أيضا - إن شاء الله تعالى - من أقوالهم ما يسر . فأما سفيان الثوري - فإنه صح عنه : أنه قال : إن وجد القتيل في قوم فالبينة على أولياء القتيل فإن أتوا بها قضي لهم بالقود , وإلا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا , وغرموا الدية مع ذلك . وقال معمر : من ضرب فجرح فعاش صميتا ثم مات فالقسامة تكون حينئذ , فيحلف المدعون : لمات

(11/72)


من ضربه إياه , فإن حلفوا خمسين يمينا كذلك استحقوا الدية , وإن نكلوا حلف من المدعى عليهم خمسون : ما مات من ضربه إياه , ويغرمون الدية مع ذلك فالجرح خاصة لا في النفس , فإن نكل الفريقان جميعا غرم المدعى عليهم نصف الدية - ذهب إلى ما روي عن عمر . وقال معمر : قلت لعبيد الله بن عمر : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة ؟ قال , لا , قلت : فأبو بكر , قال : لا , قلت : فعمر , قال : لا , قلت : فكيف تجترئون عليها ؟ فسكت . قال معمر : فقلت ذلك لمالك ؟ فقال : لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحيل , لو ابتلي بها أقاد بها . وقال عثمان البتي فيمن ادعي عليهم بقتيل وجد فيهم : فالبينة على المدعين ويقضى لهم , فإن لم يكن لهم بينة حلف خمسون رجلا من المدعى عليهم , وبرئوا , ولا غرامة في ذلك , ولا دية , ولا قود . وقال أبو حنيفة , وأصحابه : لا تكون القسامة بدعوى المصاب أصلا , ولا قود في ذلك , ولا دية , لكن إن وجد قتيل في محلة وبه أثر , وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه , وادعوا على واحد بعينه منهم ؟ فإن كانت لهم بينة عدل قضي لهم بها , وإن لم تكن لهم بينة حلف المدعى عليهم خمسون رجلا من أهل الخطة , لا من السكان , ولا من الذين انتقل إليهم ملك الخطة بالشراء , لكن على الذين كانوا مالكين لها في الأصل , يختارهم الولي , فإن نقص منهم ردت عليهم الأيمان - فإذا حلفوا غرموا الدية مع ذلك , فإن نكلوا سجنوا أبدا حتى يقروا أو يحلفوا . وقال مالك : لا تكون القسامة إلا بأن يقول المصاب : فلان قتلني عمدا , فإذا قال ذلك ثم مات قبل أن يفيق : حلف خمسون من أوليائه قياما في المسجد الجامع , مستقبلين القبلة : لقد قتله فلان عمدا ؟ فإذا حلفوا , فإن حلفوا على واحد فلهم القود منه , وإن حلفوا على جماعة لم يكن لهم القود إلا من واحد , ويضرب الباقون مائة مائة , ويسجنون سنة - فإن شهد شاهد واحد عدل : بأن فلانا قتل فلانا كانت القسامة أيضا كما ذكرنا . وكذلك إن شهد لوث من نساء أو غير عدول , فإن لم يكونوا خمسين ردت عليهم الأيمان حتى يتم خمسين - ولا يحلف في القسامة أقل من اثنين فإن كان القائل : فلان قتلني , غير بالغ , فلا قسامة في ذلك , ولا قود , ولا غرامة : قال : فإن نكل جميع أولياء القتيل حلف المدعى عليهم خمسين يمينا , فإن لم يبلغوا خمسين ردت الأيمان عليهم , فإن لم يوجد إلا المدعى عليه وحده حلف خمسين يمينا وبرئ , فإن نكل أحد ممن له العفو من الأولياء : بطلت القسامة ووجبت الأيمان على المدعى عليهم - ولا قسامة في قتيل وجد في دار قوم , ولا غرامة , ولا في دعوى عبد : أن فلانا قتله . وفي دعوى المريض : أن فلانا قتلني خطأ روايتان : إحداهما : أن في ذلك

(11/73)


القسامة - والأخرى : لا قسامة في ذلك ولا في كافر . وقال الشافعي : لا قسامة في دعوى إنسان : أن فلانا قتلني أصلا سواء قال عمدا أو خطأ - ولا غرامة في ذلك - وإنما القسامة في قتيل وجد بين دور قوم كلهم عدو للمقتول , فادعى أولياؤه عليهم , فإن أولياء القتيل يبدءون فيحلف منهم خمسون رجلا يمينا يمينا : أنهم قتلوه عمدا أو خطأ , فإن نقص عددهم ردت الأيمان , فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا , واستحقت الدية على سكان تلك الدور , ولا يستحق بالقسامة قود أصلا - وإن شهد واحد عدل , أو جماعة متواترة غير عدول أن فلانا قتل فلانا , فتجب القسامة كما ذكرنا , والدية - أو وجد قتيل في زحام فالقسامة أيضا , والدية , كما ذكرنا . وقال أصحابنا : إن وجد قتيل في دار قوم أعداء له , وادعى أولياؤه على واحد منهم : حلف خمسون منهم , واستحقوا القود أو الدية - ولا قسامة , إلا في مسلم حر . قال أبو محمد رحمه الله: فهذه أقوال الفقهاء المتأخرين قد ذكرنا منها ما يسر الله تعالى - ونذكر الآن الأخبار الصحاح الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة مجموعة كلها في مكان واحد , مستقصاة ; ليلوح الحق بها من الخطأ , ولتكون شاهدة لمن أصاب ما فيها بأنه وفق للصواب - بمن الله تعالى وشاهدة لمن خالف ما فيها بأنه يسر للخطأ مجتهدا - إن كان ممن سلف , وعاصيا إن كان مقلدا - وقامت الحجة عليه , وإنما جمعنا ما ذكرنا من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ومن أقوال التابعين - رحمهم الله - ومن أقوال الفقهاء بعدهم , ثم أتينا بالأحاديث الصحاح ما يسر الله تعالى منها , الواردة في ذلك ; لأن أحكام القسامة متداخلة في كل ذلك : وقد روينا من طريق البخاري - نا أبو نعيم الفضل بن دكين نا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار , زعم : أن رجلا من الأنصار - يقال له : سهل بن أبي حثمة - أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها , ووجد أحدهم قتيلا , وقالوا للذين وجد فيهم : قتلتم صاحبنا ؟ قالوا : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا , فقال : "الكبر الكبر فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله" ؟ قالوا : ما لنا بينة . قال : "فتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" . قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ؟ قال : "فتبريكم يهود بخمسين يمينا" ؟ قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود , "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة". ومن طريق مسلم - نا قتيبة بن سعيد نا الليث بن سعد عن يحيى - هو ابن سعيد الأنصاري - عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , قال يحيى : وحسبته قال : وعن رافع بن

(11/74)


خديج أنهما قالا : خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك , ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلا فدفنه - ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود , وعبد الرحمن بن سهل - وكان أصغر القوم - فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كبر الكبر في السن" فصمت وتكلم صاحباه وتكلم معهما فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل فقال لهم : "أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" ؟ قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ؟ قال : "فتبريكم يهود بخمسين يمينا" ؟ قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ "فلما رأى ذلك رسول الله أعطاه عقله". ومن طريق مسلم - نا عبد الله بن عمر القواريري نا حماد بن زيد نا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود , وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل , فاتهموا اليهود فجاء إخوة عبد الرحمن , وابن عمه حويصة , ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه - وهو أصغر القوم - فقال رسول الله "كبر الكبر" , أو قال : "ليبدأ الأكبر" ؟ فتكلما في أمر صاحبهم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" ؟ فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : "فتبريكم يهود بأيمان خمسين منهم" ؟ قالوا : يا رسول الله وكيف نقبل بأيمان قوم كفار ؟ قال : "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله مائة من الإبل" , قال سهل : فدخلت مريدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها, قال حماد : هذا , أو نحوه . قال أبو محمد رحمه الله: فشك يحيى في رواية الليث: هل ذكر بشير بن يسار, ورافع بن خديج مع سهل بن أبي حثمة أو لم يذكر ؟ ولم يشك في رواية حماد بن زيد عنه في أن رافعا روى عنه هذا الخبر بشير , وكلا الرجلين ثقة , حافظ , وحماد أحفظ من الليث , والروايتان معا صحيحتان . فصح - أن يحيى شك مرة : هل ذكر بشير رافعا مع سهل أم لا ؟ وقطع يحيى مرة في أن بشيرا ذكر رافعا مع سهل , ولم يشك ؟ فهي زيادة من حماد , وزيادة العدل مقبولة . ومن طريق مسلم نا إسحاق بن منصور نا بشير بن عمر قال : سمعت مالك بن أنس . وناه أيضا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا أحمد بن عمرو بن السرح , ومحمد بن مسلمة ; قال أحمد : نا محمد بن وهب , وقال محمد : نا ابن القاسم , ثم اتفق ابن وهب , وابن القاسم , وبشير بن عمر , كلهم يقول : نا مالك بن أنس نا أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة

(11/75)


أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه : أن عبد الله بن سهل , ومحيصة , خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة فأخبر : أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو في فقير , فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه , قالوا : والله ما قتلناه , ثم أقبل حتى قدم على قومه , فذكر لهم ذلك , ثم أقبل هو وأخوه حويصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم - وهو الذي كان بخيبر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة : "كبر كبر" - يريد السن - فتكلم حويصة , ثم تكلم محيصة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" , فكتب رسول الله إليهم في ذلك , فكتبوا : إنا والله ما قتلناه , فقال رسول الله: "أتحلفون؟ وتستحقون دم صاحبكم" ؟ قالوا : لا قال: "فتحلف لكم يهود" ؟ قالوا : ليسوا مسلمين , "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده , فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة , حتى دخلت عليهم الدار" , قال سهل : فلقد ركضني منها ناقة حمراء. ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال: وجد عبد الله بن سهل قتيلا فجاء أخوه , وحويصة , ومحيصة , وهما عما عبد الله بن سهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكبر الكبر" , قالوا : يا رسول الله إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب - يعني من قلب خيبر - قال النبي عليه الصلاة والسلام : "من تتهمون" ؟ قالوا : نتهم يهود , قال: "فتقسمون خمسين يمينا : أن اليهود قتلته", قالوا : وكيف نقسم على ما لم نر؟ قال: "فتبريكم اليهود بخمسين يمينا : أنهم لم يقتلوه" , قالوا : وكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون ؟ "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده". ومن طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن , وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية" . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن هاشم البعلبكي نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , وسليمان بن يسار عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه , وقضى بها بين أناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه الأخبار مما صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة , لم يصح عنه إلا هي أصلا .

(11/76)


2149 - مسألة : هل يجب الحكم بالقسامة أم لا ؟
قال أبو محمد

(11/76)


رحمه الله: فذكرنا قول ابن عباس , وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب , فنظرنا فيما يمكن أن يحتج به ؟ فوجدنا من طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". وقوله عليه السلام للمدعي: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". قالوا : فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال , وبين الدعوى في الدماء والأموال , وأبطل كل ذلك , ولم يجعله إلا بالبينة أو اليمين على المدعى عليه , فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا : لا في من يحلف , ولا في عدد يمين , ولا في إسقاط الغرامة , إلا بالبينة ولا مزيد . وهذا كله حق , إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا , وهو أن الذي حكم بما ذكروا , وهو المرسل إلينا من الله تعالى هو الذي حكم بالقسامة , وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة , ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها , إذ كلها من عند الله تعالى , وكلها حق , وفرض الوقوف عنده , والعمل به وليس بعض أحكامه عليه السلام أولى بالطاعة من بعض , ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية , وتحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . ولا فرق بين من ترك حديث: "بينتك أو يمينه" لحديث القسامة , وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث . فإن قالوا : الدماء حدود , ولا يمين في الحدود ؟ قيل لهم : ما هي من الحدود ; لأن الحدود ليست موكولة إلى اختيار أحد - إن شاء أقامها , وإن شاء عطلها - بل هي واجبة لله تعالى وحده , لا خيار فيها لأحد , ولا حكم . وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي - إن شاء استقاد , وإن شاء عفا - فبطل أن تكون من الحدود , وصح أنها من حقوق الناس - وفسد قول من فرق بينها وبين حقوق الناس من الأموال وغيرها , لا حيث فرق الله تعالى ورسوله عليه السلام بين الدماء والحقوق وغيرها , وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط . وأما من جعل اليمين في دعوى الدم خمسين يمينا ولا بد - ولا أقل - فلا حجة لهم , إلا أنهم قاسوا كل دعوى في الدم على القسامة - والقياس كله باطل ; لأنهم لم يحكموا للدعوى المجردة في الدم بحكم القسامة في غير هذا الموضع ; لأن المالكيين , والشافعيين يرون في القسامة تبرئة المدعين , ولا يرون تبرئتهم في دعوى الدم المجردة , والحنفيون يرون إيجاب الغرامة مع الأيمان في القسامة , ولا يرون ذلك في دعوى الدم المجردة - فصح أنهم قد تركوا قياس

(11/77)


دعوى الدم المجردة على القسامة في شيء من أحكامها , إلا في عدد الأيمان فقط - فظهر بذلك باطل قولهم . والقول عندنا هو ما قلناه من أن البينة في الدعاوى كلها دماء كانت أو غيرها سواء سواء , واليمين في كل ذلك سواء - يمين واحدة فقط - على من ادعي عليه إلا في الزنى , والقسامة , ففي الزنى أربعة من الشهود فصاعدا , لا أقل ; للنص الوارد في ذلك خاصة , وفي القسامة خمسون يمينا لا أقل للنص الوارد في ذلك . وبقي كل ما عدا ذلك على عموم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". وعلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على من ادعي عليه". فلا يخرج من هذا إلا ما أخرجه النص . ثم نظرنا في قول من قال : إن القسامة تكون بدعوى المريض أن فلانا قتله , فلم نجد لهم شبهة أصلا , إلا ما ناه أحمد بن عمر نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق نا ابن أبي أويس نا أخي عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان أخبرني ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز دعاه فقال له : ما عندك في هذه القسامة ؟ فقلت له : كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء , وجعلها سترة لدمائهم , ولكن من سنتها وما بلغنا فيها : أن القتيل إذا تكلم برئ أهله , وإن لم يتكلم حلف المدعى عليهم - وذلك فعل عمر بن الخطاب , وأن ذلك الذي أدركنا الناس عليه . قال أبو محمد:إن أهل هذه المقالة أكثروا وأتوا بما ينسي آخره أوله , حتى يغتر الجاهل فيظن أنهم أتوا بشيء , وهم لم يأتوا بشيء أصلا , وهذا سند فاسد ; لأنه مرسل . وفي إسناده أبو بكر بن أبي أويس وقد خرج عنه البخاري , إلا أن الموصلي الحافظ الأسدي ذكر : أن يوسف بن محمد أخبره أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث , وهذه عظيمة , إلا أن الإرسال يكفي في هذا الخبر . ولو صح مسندا لم يكن لهم فيه متعلق ; لأنه ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالقسامة فيما يدعيه المقتول , وإنما فيه : أنها كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء - ونحن لا ننكر هذا , فإذا لم يكن عن النبي عليه السلام فلا حجة فيه - وأن المالكيين مخالفون لهذا الحكم , ولا يرون فيه قسامة أصلا إذا لم يتكلم . وذكروا - ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن يحيى بن عبد الله نا أبو معمر البصري نا عبد الوارث نا فطر أبو الهيثم نا أبو يزيد المدني عن عكرمة عن ابن عباس قال : أول القسامة كانت في الجاهلية , كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله , فمر

(11/78)


رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل , فأعطاه عقالا يشد به جوالقه , فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا , فقال الذي استأجره : ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل ؟ قال : ليس له عقال , قال فأين عقاله ؟ قال : مر بي رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فاستغاثني ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل , فأعطيته عقاله , فحذفه بعصا كان فيه أجله , فمر به رجل من أهل اليمن فقال : أتشهد الموسم ؟ قال : ما أشهد وربما أشهد . قال : هل أنت عني مبلغ رسالة من الدهر ؟ قال : نعم , قال : إذا شهدت الموسم فناد : يا آل قريش ; فإذا أجابوك فناد : يا آل بني هاشم , فإذا أجابوك , فسل عن أبي طالب فأخبره : أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر . فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب , فقال : ما فعل صاحبنا ؟ قال : مرض فأحسنت القيام عليه , ثم مات فوليت دفنه , فقال : أهل ذلك منك ؟ فمكث حينا - ثم إن الرجل اليماني الذي كان أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم , قال : يا آل قريش ؟ فقالوا : هذه قريش , قال : يا بني هاشم , قالوا : هذه بنو هاشم , قال : أين أبو طالب ؟ قالوا : هذا أبو طالب , قال : أمرني فلان أن أبلغك رسالته : أن فلانا قتله في عقال , فأتاه أبو طالب فقال : اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تودي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا خطأ , وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله , فإن أبيت قتلناك به , فأتى قومه فذكر ذلك لهم , فقالوا : نحلف ؟ فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له , فقالت : يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين , ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ؟ ففعل , فأتاه رجل منهم فقال : يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل يصيب كل رجل بعيران , فهذان بعيران فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان ؟ فقبلهما , وجاء ثمانية وأربعون رجلا حلفوا - قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فأضافوا إلى هذا الخبر الحديث الذي قد ذكرناه قبل هذا بأوراق في باب الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة , وهو أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر - وهذا لا حجة لهم فيه , بل هو حجة عليهم ; لأن صفة القسامة التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل - ادعوه على يهود قد ذكرناها وإنما هي في قتيل وجد , لا في مصاب ادعى أن فلانا قتله - فهذا حجة عليهم . وأما حديث ابن عباس هذا , فهو

(11/79)


كله عليهم , لا لهم , ولئن كان ذلك الخبر حجة , فلقد خالفوه في ثلاثة مواضع , وما فيه لهم حجة أصلا في شيء . لأن قول ذلك المقتول لم يتبين بشاهدين , وإنما أتى به رجل واحد - وهم لا يرون القسامة في مثل هذا . وأن أبا طالب بدأ المدعى عليهم بالأيمان - وهم لا يقولون بهذا . وأن أبا طالب أقر : أن ذلك القرشي قتل الهاشمي خطأ , ثم قال له : فإن أبيت من الدية , أو من أن يحلف خمسون من قومك قتلناك به - وهم لا يرون القود في قتل الخطأ . فمن العجب احتجاجهم بخبر : هم أول مخالف له , وأما نحن فلا ننكر أن تكون القسامة كانت في الجاهلية في القتيل يوجد فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك , بل هذا حق عندنا لصحة الخبر بذلك , وبالله تعالى التوفيق . وذكروا أيضا - وهو من غامض اختراعهم - قول الله تعالى بعد أمره بني إسرائيل بذبح البقرة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} . وذكروا - مع هذه الآية - : ما ناه أحمد بن عمر بن أنس العذري عن عبد الله بن الحسين بن عقال الزبيري نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن الجهم نا أبو بكر الوزان نا علي بن عبد الله - وهو ابن المديني - نا يحيى بن سعيد القطان نا ربيعة بن كلثوم نا أبي عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال : إن أهل مدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخا قتيلا في أصل مدينتهم , فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا : قتلتم صاحبنا , وابن أخ له شاب يبكي ويقول : قتلتم عمي ؟ فأتوا موسى عليه السلام , فأوحى الله تعالى إليه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ؟ فذكر حديث البقرة بطوله , قال : فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ - وهو بين المدينتين , وابن أخيه قائم عند قبره يبكي - فذبحوها , فضرب ببضعة من لحمها القبر ؟ فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول : قتلني ابن أخي , طال عليه عمري , وأراد أكل مالي ؟ ومات . وبه - إلى ابن الجهم نا محمد بن سلمة نا يزيد بن هارون نا هشام عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : كان في بني إسرائيل عقيم لا يولد له , وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله , ثم احتمله ليلا حتى أتى به حي آخرين , فوضعه على باب رجل منهم , ثم أصبح يدعيه عليهم , فأتوا موسى عليه السلام , فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة - فذكر حديث البقرة - فذبحوها فضربوه ببعضها , فقام , فقالوا : من قتلك ؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتا , فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئا , ولم يورث قاتل بعد . وبه - إلى ابن الجهم نا الوزان نا علي بن عبد الله نا سفيان بن سوقة , قال : سمعت عكرمة يقول : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا , لكل سبط باب فوجدوا قتيلا قتل على باب فجروه إلى باب آخر , فتداعوا قتله , وتدارى الشيطان فتحاكموا

(11/80)


إلى موسى عليه السلام فقال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فذبحوها , فضربوه بفخذها , فقال : قتلني فلان - وكان رجلا له مال كثير - وكان ابن أخيه قتله - وفي حديث البقرة زيادة اقتصرتها.
قال أبو محمد رحمه الله: وكل ما احتجوا به من هذا فإيهام وتمويه على المغتربين : أما الآية فحق , وليس فيها شيء مما في هذه الأخبار ألبتة , وإنما فيها : أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين , مسلمة لا شية فيها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك وأنهم كانوا قتلوا قتيلا فتدارءوا فيه , فأمرهم الله تعالى أن يضربوه ببعضها , إذ ذبحوها {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} . وليس في الآية أكثر من هذا , لا أن المقتول ادعى على أحد , ولا أنه قتل به , ولا أنه كانت فيه قسامة , فكل ما أخبر الله تعالى به فهو حق , وكل ما أقحموه بآرائهم في الآية فهو باطل - فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا . ثم نظرنا في الأخبار التي ذكرنا فوجدناها كلها مرسلة , لا حجة في شيء منها , إلا الذي صدرنا به فهو موقوف على ابن عباس ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل أن يكون لهم في شيء منها متعلق ثم لو صحت الأخبار المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانت كلها لا حجة لهم فيها لوجوه : أولها - أن ذلك حكم كان في بني إسرائيل , ولا يلزمنا ما كان فيهم , فقد كان فيهم السبت , وتحريم الشحوم , وغير ذلك - ولا يلزمنا إلا ما أمرنا به نبينا عليه السلام . قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فضلت على الأنبياء بست - فذكر فيها - : أن من كان قبله : إنما كان يبعث إلى قومه خاصة , وبعث هو - عليه السلام - إلى الأحمر والأسود". فصح يقينا أن موسى عليه السلام وسائر الأنبياء قبل محمد عليه السلام لم يبعثوا إلينا , فبيقين ندري أن شرائع من لم يبعث إلينا ليست لازمة لنا , وإنما يلزمنا الإقرار بنبوتهم فقط . وثانيها - أنه لا يختلف اثنان من المسلمين في أنه لا يلزمنا في شيء من دعوى الدماء ذبح بقرة - وصح بطلان احتجاجهم بتلك الأخبار , إذ ليس فيها أن يسمع من المقتول بعد : أن تذبح بقرة ويضرب بها . وثالثها - أن تلك الأخبار فيها معجزة نبي وإحالة الطبيعة من إحياء ميت - فهم يريدون أن نصدق حيا قد حرم الله تعالى علينا تصديقه على غير نفسه ممكنا منه الكذب من أجل أن صدق بنو إسرائيل ميتا أحياه الله تعالى بعد موته - وهذا ضد القياس بلا شك , وضد ما في هذه الأخبار بلا شك . والأمر بيننا وبينهم في هذه المسألة قريب , فليرونا مقتولا رد الله تعالى روحه إليه بحضرة نبي أو بغير حضرته ويخبرنا بالشيء ونحن حينئذ نصدقه , وأما أن نصدق حيا يدعي على غيره , فهو أبطل الباطل بعينه , فذكرهم لهذه الآية وهذه الأخبار : قبيح ,

(11/81)


لو تورع عنهم لكان أسلم , ونسأل الله تعالى العافية.
وذكروا - ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن الحارثي , ومحمد بن المثنى , قال يحيى : نا خالد بن الحارث , وقال ابن المثنى : نا محمد بن جعفر ثم اتفق خالد , ومحمد : كلاهما عن شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك : "أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق , فقال لها : أقتلك فلان ؟ فأشارت برأسها : أن لا , ثم قال لها الثانية , فأشارت برأسها : أن لا , سألها الثالثة ؟ فقالت : نعم , وأشارت برأسها , فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين". قال أبو محمد رحمه الله: وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى: مسلم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس : "أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة ؟ وأخذ فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت". وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة , وأبان بن يزيد العطار , كلاهما عن قتادة عن أنس . فإن قالوا : إن شعبة زاد ذكر دعوى المقتولة في هذه القصة وزيادة العدل مقبولة ؟ قلنا : صدقتم , وقد زاد همام بن يحيى عن قتادة عن أنس - في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها : كما روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام عن قتادة عن أنس : "أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان , فلان , حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها , فأخذ اليهودي فأقر ؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة" , فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي إلا بإقراره , لا بدعوى المقتولة . ووجه آخر - وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه عليه السلام إنما قتله بدعواها لكان هذا الخبر حجة عليهم , ولكانوا مخالفين له ; لأنه ليس فيه ذكر قسامة أصلا , وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة ألبتة إلا حتى يحلف اثنان فصاعدا من الأولياء خمسين يمينا ولا بد . وأيضا - فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ . والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ ; لأنه ذكر جارية ذات أوضاح , وهذه الصفة عند العرب الذين بلغتهم تكلم أنس , إنما يوقعونها على الصبية , لا على المرأة البالغ . فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه , ولاح خلافهم في ذلك , فوجب القول به , ولا يحل لأحد العدول عنه . واعترض المالكيون , ومن لا يرى القسامة في هذا , بأن قالوا : والقتيل قد يقتل ثم يحمله قاتله فيلقيه على باب إنسان أو في دار قوم ؟ فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - : أن هذا ممكن , ولكن لا يعترض على

(11/82)


حكم الله تعالى, وحكم رسوله عليه السلام : بأنه يمكن أمر كذا , وبيقين يدري كل مسلم أنه قد يمكن أن يكذب الشاهد , ويكذب الحالف , ويكذب المدعي : أن فلانا قتله - هذا أمر لا يقدر أحد على دفعه , فينبغي على هذا القول الذي ردوا به حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه : أن لا يقتلوا أحدا بشهادة شاهدين , فقد يكذبان , وليس القود بالشاهدين إجماعا فيتعلق به ; لأن الحسن يقول : لا يقبل في القود إلا أربعة . ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : إنه لا يحل لمسلم - يدري أن وعد الله حق - أن يعترض على ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : لا يجوز هذا الحكم ; لأنه قد يمكن أن يرميه قاتله على باب غيره - ونعم , - هذا ممكن . أترى لو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أهل مدينة بأسرها أو بقتل أمهاتنا وآبائنا وأنفسنا , كما أمر موسى عليه السلام قومه بقتل أنفسهم إذ أخبر الله تعالى بذلك في قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أكان يكون في الإسلام نصيب لمن يعند عن ذلك ؟ إن هذا لعظيم جدا . والعجب كله أن ذلك الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم ظاهر معلق في دم رجل من بني حارثة من الأنصار على يهود خيبر , وبينهما من المسافة ستة وتسعون ميلا مائة ميل غير أربعة أميال تتردد في ذلك الرسل , وتختلف الكتب , ويقع في ذلك التوعد بالحرب . كما صح عنه عليه السلام أنه قال: "إما أن يدوا صاحبكم أو يؤذنوا بحرب". فهذا أمر لا يشك ذو حس سليم - من مؤمن أو كافر - في أنه لم تخف هذه القصة , ولا هذا الحكم على أحد من المسلمين بالمدينة , ولا عن اليهود , ولا إسلام يومئذ في غير المدينة , إلا من كان مهاجرا بالحبشة , أو مستضعفا بمكة ; لأن ذلك كان قبل فتح خيبر . لأن في الحديث الثابت الذي أوردناه قبل من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار : أن خيبر كانت يومئذ صلحا ولم تكن قط صلحا بعد فتحها عنوة , بل كانوا ذمة تجري عليهم الصغار , لا يسمون صلحا , ولا يمكنون من أن يأذنوا بحرب . فصح يقينا أن ذلك الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إجماع من جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أولهم وآخرهم بيقين لا مجال للشك فيه .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قال قائل - : فما تقولون في قتيل يوجد وفيه رمق , فيحمل فيموت في مكان آخر , أو في الطريق , أو يموت إثر وجودهم له وفيه حياة ؟ فجوابنا : أنه لا قسامة في هذا , وإنما فيه التداعي فقط , يكلف أولياؤه البينة , سواء ادعى هو على أحد أو لم يدع , فإن جاءوا بالبينة قضى لهم بما شهدت به بينتهم , وإن لم يأتوا بالبينة حلف المدعى عليهم يمينا واحدة - إن كان واحدا - فإن كانوا أكثر من واحد

(11/83)


حلفوا كلهم يمينا يمينا ولا بد ويجبرون على ذلك أبدا . وبرهاننا على ذلك : هو أن الأصل المطرد في كل دعوى في الإسلام من دم أو مال أو غير ذلك من الحقوق , ولا نحاش شيئا - هو "أن البينة على المدعي واليمين على من ادعي عليه". كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينتك أو يمينه", وهذان عامان , ولا يصح لأحد أن يخرج عنهما شيئا , إلا ما أخرجه نص أو إجماع , ولا نص إلا في القتيل يوجد فقط , فمتى وجده حيا أحد من الناس فلا قسامة فيه ألبتة - وبالله تعالى التوفيق . فإن وجد لا أثر فيه ؟ فقد قلنا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حكم في مقتول , وليس كل ميت مقتولا , فإن تيقنا أنه قتل بأثر وجد فيه من : ضرب أو شدخ أو خنق , أو ذبح أو طعن , أو جرح أو كسر , أو سم - فهو مقتول والقسامة فيه . وإن تيقنا أنه ميت حتف أنفه لا أثر فيه ألبتة فلا قسامة ; لأنه ليست هي الحال التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة . إن أشكل أمره فأمكن أن يكون ميتا حتف أنفه , وأمكن أن يكون مقتولا , غمه بشيء وضعه على فيه فقطع نفسه فمات : فالقسامة فيه . فإن قيل : لم قلتم هذا والأصل أن من مات غير مقتول فلا قسامة فيه ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : إن المقتول أيضا ممكن أن يكون قتل نفسه أو قتله سبع , فلما كان إمكان ما ذكرنا لا يمنع من القسامة لإمكان أن يكون قد قتله من ادعى عليه أنه قتله , ووجبت القسامة ; لإمكان أن يكون قتله من ادعى عليه أنه قتله - فليس هذا قياسا , فلا تكن غافلا متعسفا أننا قد قسنا أحدهما على الآخر - ومعاذ الله من ذلك , لكنه باب واحد كله , إنما هو من وجد ميتا وادعى أولياؤه على قوم أنهم قتلوه , أو على واحد أنه قتله وكان قتلهم له الذي ادعى أولياؤه عليهم ممكنا - فهذه هي القصة التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينها بالقسامة , ففرض علينا أن نحكم فيها بالقسامة إذا أمكن أن يكون من ادعى أولياؤه حقا , وإنما يبطل الحكم بالقسامة إذا أيقنا أن الذي يدعونه باطل بيقين لا شك فيه.
قال أبو محمد رحمه الله: فسواء وجد القتيل في دار أعداء كفار , أو أعداء مؤمنين , أو أصدقاء كفار , أو أصدقاء مؤمنين , أو في دار أخيه , أو ابنه أو حيثما وجد , فالقسامة في ذلك - وهو قول ابن الزبير ومعاوية , بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة ; لأنهما حكما بالقسامة في إسماعيل بن هبار وجد مقتولا

(11/84)


بالمدينة , وادعى قوم قتله على ثلاثة من قبائل شتى - مفترقة الدور - ولم يوجد المقتول بين أظهرهم وهم : زهرى , وتيمي , وليثي كناني , وبهذا نقول - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله: وسواء وجد المقتول في مسجد , أو في داره نفسه , أو في المسجد الجامع , أو في السوق , أو بالفلاة , أو في سفينة , أو نهر يجري فيه الماء , أو في بحر , أو على عنق إنسان , أو في سقف , أو في شجرة , أو في غار , أو على دابة واقفة , أو سائرة - كل ذلك سواء كما قلنا . ومتى ادعى أولياؤه - في كل ذلك - على أحد فالقسامة في ذلك كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولهم : إن وجد بين قريتين فإنه يذرع ما بينهما فإلى أيهما كان أقرب : حلفوا وغرموا مع قولهم : إن وجد في قرية حلفوا وودوا . فإن تعلقوا في ذلك مما ناه يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي نا يوسف بن أحمد نا أبو جعفر العقيلي نا محمد بن إسماعيل نا إسماعيل بن أبان الوراق نا أبو إسرائيل الملائي نا عطية - هو العوفي - عن أبي سعيد الخدري قال: "وجد قتيل بين قريتين فأمر النبي عليه السلام فقيس إلى أيهما أقرب ؟ فوجد أقرب إلى إحداهما بشبر , فكأني أنظر إلى شبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمن النبي عليه السلام من كانت أقرب إليه". ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال : "كانت أم عمرو بن سعد عند الجلاس بن سويد - هو ابن الصامت - فقال الجلاس في غزوة تبوك : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير ؟ فسمعها عويمر , فقال : والله إني لا شيء إن لم أرفعها إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن ينزل القرآن فيه , وأن أخلط بخطبته , ولنعم الأب هو لي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا , فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس فعرفه - وهم يترحلون - فلم يتحرك أحد , كذلك كانوا يفعلون , لا يتحركون إذا نزل الوحي , فرفع عن النبي عليه السلام فقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى قوله {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} فقال الجلاس : استتب إلي ربي , فإني أتوب إلى الله , وأشهد له بصدق {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قال عروة : كان مولى الجلاس قتل في بني عمرو بن عوف , فأبى بنو عمرو بن عوف : أن يعقلوه , فلما قدم - النبي عليه السلام - جعل عقله على عمرو بن عوف , قال عروة : فما زال عمير منها بعليا حتى مات. ونا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا محمد بن عبد الله الشعيبي عن مكحول: "أن قتيلا وجد في هذيل , فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فدعا خمسين منهم , فأحلفهم , كل رجل

(11/85)


عن نفسه يمينا : بالله تعالى ما قتلنا ولا علمنا قاتلا , ثم أغرمهم الدية". نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي , قال : إنما كانت القسامة في الجاهلية إذا وجد القتيل بين ظهراني قوم أقسم منهم خمسون : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا - فإن عجزت الأيمان ردت عليهم , ثم عقلوا . وروينا من طريق إسماعيل الترمذي نا سعيد بن عمرو أبو عثمان نا إسماعيل بن عياش عن الشعبي عن مكحول نا عمرو بن أبي خزاعة أنه: "قتل فيهم قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القسامة على خزاعة : بالله ما قتلنا ولا نعلم قاتلا , وحلف كل منهم عن نفسه , وغرموا الدية". قالوا : وقد ذكرنا هذا عن عمر , وعلي قبل.
قال أبو محمد رحمه الله: وكل هذه الأقاويل فلا يجب الاشتغال بها على ما نبين - إن شاء الله تعالى : أما الحديث الذي صدرنا به : فهالك ; لأنه انفرد به عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف جدا ضعفه هشيم , وسفيان الثوري , ويحيى بن معين , وأحمد بن حنبل , وما ندري أحدا وثقه - وذكر عنه أحمد بن حنبل أنه بلغه عنه أنه كان يأتي الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث , ثم يكنيه بأبي سعيد ويحدث بها عن أبي سعيد , فيوهم الناس أنه الخدري , وهذا من تلك الأحاديث - والله أعلم - فهو ساقط . ثم هو أيضا من رواية أبي إسرائيل الملائي - هو إسماعيل بن أبي إسحاق , فهو بلية عن بلية , والملائي هذا ضعيف جدا - وليس في الذرع بين القريتين خبر غير هذا ألبتة , لا مسند ولا مرسل . وأما حديث الجلاس بن سويد بن الصامت , وعمير بن سعد , فإنه مرسل عن عروة بن الزبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إنما فيه : أن مولى الجلاس قتل في بني عمرو بن عوف , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر جعل عقله على بني عمرو بن عوف , وليس في هذا أنه وجد مقتولا فيهم , ولا أنه عليه السلام أوجب فيه قسامة - وهذا خلاف قولهم - وإنما فيه : أنه قتل فيهم , فقاتله منهم , وإذا كان قاتله منهم فالعقل عليهم - فهذه صفة قتل الخطأ - وبه نقول - فبطل تمويههم بهذا الخبر - وبالله تعالى التوفيق . وأما حديث عمرو بن أبي خزاعة فهو مجهول ومرسل - فبطل . وأما ما ذكروه عن عمر بن الخطاب , وعلي بن أبي طالب فقد قدمنا أنه عن علي لا يصح ألبتة ; لأنه عن أبي جعفر عنه - فهو منقطع , وعن الحارث الأعور , وقد وصفه الشعبي بالكذب - وفيه أيضا : الحجاج بن أرطاة . وأما الرواية عن عمر فقد بينا أنها لا تصح , وما نعلم في القرآن , ولا في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الإجماع , ولا في القياس : أن يحلف مدعى عليه ويغرم - والقوم أصحاب

(11/86)


قياس بزعمهم , فهلا قاسوا الدعوى في الدم على الدعوى في المال , وغير ذلك , ولكن لا السنة أصابوا , ولا القياس أحسنوا .

(11/87)


حكم القسامة في العبد يوجد مقتولاً
...
2150 - مسألة : وأما القسامة في العبد يوجد مقتولا ؟
فإن الناس اختلفوا في ذلك : فقال أبو حنيفة , ومحمد بن الحسن : القسامة في العبد يوجد قتيلا كما هي في الحر , وعليهم قيمته في ثلاث سنين , لا يبلغ بها دية حر - وروي عن أبي يوسف : لا قسامة فيه , ولا غرامة وهو هدر - وهو قول مالك , وأصحابه , وابن شبرمة . وقال الأوزاعي : لا قسامة فيه , ولكن يغرمون ثمنه . وقال : زفر , والشافعي : فيه القسامة والقيمة , إلا أن زفر قال : يقسمون ويغرمون قيمته - وقال الشافعي : يحلف العبد ويغرم القوم قيمته . قال أبو محمد:وقولنا فيه إن القسامة فيه كالحر - سواء سواء - في كل حكم من أحكامه ؟ فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها . فوجدنا من قال : لا قسامة في العبد يقولون : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حكم بالقسامة في حر لا في عبد , فلا يجوز أن نحكم بها إلا حيث حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : العبد مال كالبهيمة ولا قسامة في البهيمة , ولا في سائر الأموال - وما نعلم لهم حجة غير هذا ؟ فلما نظرنا في ذلك وجدنا هاتين الحجتين لا متعلق لهم فيهما : أما قولهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحكم بالقسامة إلا في حر ؟ فقد قلنا : في هذا ما كفى , ولم يقل عليه السلام إني إنما حكمت بهذا ; لأنه كان حرا ؟ فنقول عليه ما لم يقل , ونخبر عن مراده بما لم يخبر - عليه السلام - عن نفسه وهذا تكهن وتخرص بالباطل , وهذا لا يحل أصلا , والعبد قتيل ففيه القسامة كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مزيد . وأما قول من قال : إن العبد مال فلا قسامة فيه كما لا قسامة في البهيمة ؟ فقول فاسد ; لأنه قياس , والقياس كله باطل , فالعبد - وإن كان مالا فأرادوا أن يجعلوا له حكم الأموال والبهائم من أجل أنه مال , فإن الحر أيضا حيوان كما أن البهيمة حيوان , فينبغي أن نبطل القسامة في الحر قياسا على بطلانها في سائر الحيوان ؟ وأيضا - فلا خلاف في أن الإثم عند الله عز وجل في قتل العبد , كالإثم في قتل الحر ; لأنهما جميعا نفس محرمة , وداخلان تحت قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وليس كذلك قاتل البهيمة . فوجب على أصولهم - أن نحكم للعبد إذا وجد مقتولا بمثل الحكم في الحر إذا وجد مقتولا , لا بمثل الحكم في البهيمة - لا سيما في قول الحنفيين الموجبين للقود بين الحر والعبد في العمد - فهذه تسوية بينهما صحيحة , وكذلك في قول المالكيين , والشافعيين : الموجبين للكفارة في قتل العبد خطأ , كما يوجبونها في قتل الحر خطأ

(11/87)


بخلاف قتل البهيمة خطأ ؟ فبطل كل ما شغبوا به , وصح أن القسامة واجبة في العبد كما هي في الحر من طريق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طريق القياس . وأما قول من ألزم قيمة العبد من وجد بين أظهرهم دون قسامة , فقول لا يؤيده قرآن ولا سنة , ولا إجماع ولا قياس , ولا نظر - وهو أكل مال بالباطل وإغرام قوم لم يثبت قبلهم حق ؟ قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ولا قسامة في بهيمة وجدت مقتولة , ولا في شيء وجد من الأموال مفسودا ; لأن البهيمة لا تسمى " قتيلا " في اللغة , ولا في الشريعة , وإنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة في القتيل , فلا يحل تعدي حكمه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} , {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} والأموال محرمة إلا بنص , أو إجماع ؟ فالواجب في البهيمة - توجد مقتولة أو تتلف - وفي الأموال كلها : ما أوجبه الله تعالى على لسان رسوله - عليه السلام - إذ يقول: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". فالواجب في ذلك إن ادعى صاحب البهيمة توجد مقتولة أو صاحب المال إتلاف ماله على أحد أن يكلفه البينة ؟ فإن أتى بها قضى له بها , وإن لم يأت بها حلف المدعى عليه ولا بد , ولا ضمان في ذلك إلا ببينة أو إقرار - وهذا حكم كل دعوى في دم , أو مال , أو غير ذلك , حاشا القتيل يوجد , ففيه القسامة كما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلف الناس في الذمي يوجد قتيلا ؟ فقالت طائفة : لا قسامة فيه - ورأى أبو حنيفة فيه القسامة . قال أبو محمد رحمه الله: والقول فيه كما قلنا في العبد ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان إنما حكم بالقسامة في مسلم ادعى على يهود خيبر فلم يقل عليه الصلاة والسلام : إنما حكمت بها , لأنه مسلم ادعى على يهودي ؟ فلا يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام ما لم يقله , لكنه - عليه السلام - حكم بها في قتيل وجد , ولم يخص عليه السلام حالا من حال , والذمي قتيل , فالقسامة فيه واجبة إذا ادعاها أولياؤه على ذمي أو ذميين ; لأنه إن ادعوها على مسلم - فحتى لو صح ما ادعوه بالبينة - فلا قود فيه ولا دية , ولكن إن أرادوا أن يقسموا ويوديه الإمام , فذلك لهم ; لما ذكرنا . وقد اتفق القائلون بالقسامة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن كان - حكم بها في مسلم ادعى على يهود ؟ فإن الحكم بها واجب في مسلم ادعى - على مسلمين , وهذه غير الحال التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسلم ادعى بالقسامة على أصولهم , ولا فرق بين الحكم بها في مسلم على مسلمين , وبين الحكم بها في ذمي على ذميين أو على مسلمين ; لعموم حكمه - عليه السلام - وإنه لم يخص - عليه السلام - صفة من صفة - وبالله تعالى التوفيق.

(11/88)


2151 - مسألة : فيمن يحلف بالقسامة:
قال أبو محمد رحمه الله: اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له , واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه , منها : هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا ؟ وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا ؟ وهل تحلف المرأة فيهم أم لا ؟ وهل يحلف المولى من فوق أم لا ؟ وهل يحلف المولى الأسفل فيهم أم لا ؟ وهل يحلف الحليف أم لا ؟ فوجب لما تنازعوا ما أوجبه الله تعالى علينا عند التنازع , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ؟ ففعلنا - فوجدنا رسول الله عليه السلام قال في حديث القسامة - الذي لا يصح عنه غيره - كما قد تقصيناه قبل: "تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم" فخاطب النبي - عليه الصلاة والسلام - بني حارثة عصبة المقتول . وبيقين يدري كل ذي معرفة : أن ورثة عبد الله بن سهل - رضي الله عنه - لم يكونوا خمسين , وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده , وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه محيصة , وحويصة , وهما غير وارثين له ؟ فصح - أن العصبة يحلفون , وإن لم يكونوا وارثين . وصح - أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له - سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه - لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب ابني العم , كما خاطب الأخ خطابا مستويا , لم يقدم أحدا منهم . وكذلك لم يدخل في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالانتساب إليه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم , ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار - كبني عبد الأشهل وبني ظفر , وبني زعور , وهم إخوة بني حارثة - فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم , إلا أن أباه تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك , فإنه يحلف معهم إن شاء ; لأنه منهم , ولم يخص عليه السلام إذ قال : خمسون منكم حرا من عبد - إذا كان منهم - كما كان عمار بن ياسر - رضي الله عنه - من طينته : عنس , ولحقه الرق لبني مخزوم - وكما كان عامر بن فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق ; لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر رضي الله عنه - وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا , ولحقه الرق من قبل أمه - وبالله تعالى التوفيق .
وأما المرأة - فقد ذكرنا قبل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحلف امرأة في القسامة - وهي طالبة - فحلفت , وقضى لها بالدية على مولى لها . وقال المتأخرون : لا تحلف المرأة أصلا - واحتجوا بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة , وهذا باطل مؤيد بباطل ; لأن النصرة واجبة على كل مسلم . بما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا معتمر بن سليمان عن

(11/89)


حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما , قالوا : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه". وروينا من طريق مسلم نا أحمد بن عبد الله بن يونس نا زهير - هو ابن معاوية - نا أشعث - هو ابن أبي الشعثاء - ني معاوية بن سويد بن مقرن قال : دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع , ونهانا عن سبع أمرنا : بعيادة المريض , واتباع الجنائز , وتشميت العاطس , وإبرار القسم - أو المقسم - ونصر المظلوم , وإجابة الداعي , وإفشاء السلام". فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا . قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . نعم , ونصر أهل الذمة فرض , قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} . فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام - فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت - وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحلف خمسون منكم" وهذا لفظ يعم النساء والرجال . وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع . فأما الصبيان والمجانين , فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين - قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث . فذكر : الصبي والمجنون" مع أنه إجماع أن لا يحلفا في القسامة متيقن لا شك فيه . وأما المولى من فوق , والمولى من أسفل , والحليف , فإن قوما قالوا : قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مولى القوم منهم - ومولى القوم من أنفسهم". وأثبت الحلف في الجاهلية - قالوا : ونحن نعلم يقينا - أنه قد كان لبني حارثة موال من أسفل , وحلفاء , لا شك في ذلك , ولا مرية , فوجب أن يحلفوا معهم . قال أبو محمد رحمه الله: أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم - ومن أنفسهم" فصحيح - وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك ؟ إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم" حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم , أو مولى لهم - ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم , أو حليف لهم , لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم , وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى ؟ فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه , إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له . فإن قيل : قد قال صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم" يغني عن حضور الموالي هنالك , والحليف أيضا - يسمى في لغة العرب " مولى " كما قال عليه السلام للأنصار أول ما لقيهم: "أمن موالي يهود" يريد من حلفائهم ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : قد قال عليه الصلاة والسلام ما ذكرتم . وقال أيضا: "ابن أخت القوم منهم" , وقد أوردناه قبل بإسناده

(11/90)


في " كتاب العاقلة " ولا خلاف في أنه لا يحلف مع أخواله ؟ فنحن نقول : إن ابن أخت القوم منهم : حق ; لأنه متولد من امرأة هي منهم بحق الولادة , والحليف والمولى أيضا منهم ; لأنهما من جملتهم - وليس في هذا القول منه عليه السلام ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم . وقد صح إجماع أهل الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش , ولا حليفهم , ولا ابن أخت القوم , وإن كان منهم - . والقسامة في العمد والخطأ سواء - فيما ذكرنا - فيمن يحلف فيها , ولا فرق .

(11/91)


2152 - مسألة : كم يحلف في القسامة:
اختلف الناس في هذا ؟ فقالت طائفة : لا يحلف إلا خمسون , فإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر : بطل حكم القسامة , وعاد الأمر إلى التداعي . وقال آخرون : إن نقص واحد فصاعدا : رددت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين , فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد - وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين - وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم . وقال آخرون : يحلف خمسون , فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا : ردت الأيمان عليهم , حتى يرجعوا إلى واحد , فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد : بطلت القسامة , وعاد الحكم إلى التداعي - وهذا قول مالك . وقال آخرون : تردد الأيمان , وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده - وهو قول الشافعي . وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم : أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد ويجبر الكسر عليهم - فلما اختلفوا وجب أن ننظر : فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : أن في كتاب لعمر بن عبد العزيز "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء , فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا". ومن طريق ابن وهب أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب , قال : "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسين يمينا , ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه , ثم يقتل قاتله , أو تؤخذ ديته , ويحلف عليه أولياؤه - من كانوا قليلا أو كثيرا - فمن ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف - فإن نكلوا كلهم : حلف المدعى عليهم خمسين يمينا : ما قتلناه , ثم بطل دمه - وإن نكلوا كلهم : عقله المدعى عليهم - ولا يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا".
قال أبو محمد رحمه الله: هذا لا شيء ; لأنهما مرسلان , والمرسل لا تقوم به حجة : أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه : أن يحلف الأولياء , وهذا لا يقول به الحنفيون ; فإن تعلق به المالكيون , والشافعيون . قيل للمالكيين : هو أيضا حجة عليكم ; لأنه ليس

(11/91)


فيه: أن لا يحلف إلا اثنان . وأيضا - فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب , وهو مخالف لقول جميعهم ; لأن فيه : إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ولا يقول به مالكي , ولا شافعي , وفيه القود بالقسامة - ولا يقول به حنفي , ولا شافعي , وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص أن يكونا اثنين كما يقول مالك .
قال أبو محمد رحمه الله: وأيضا - فإن القائلين بترديد الأيمان في القسامة قد اختلفوا في الترديد , فروينا عن عمر : أنه ردد الأيمان عليهما الأول فالأول معناه : كأنهم كانوا أربعين فحلفوا أربعين يمينا , فبقيت عشرة أيمان , فحلف العشرة الذين حلفوا أولا فقط , وروي غير ذلك وأنها تردد على الاثنين فالاثنين : كما روينا من طريق ابن وهب قال : قال ابن سمعان : سمعت من أدركت من علمائنا يقولون في القسامة تكون في الخطأ على الوارث , فإن لم يكن للمقتول خطأ إلا وارث واحد حلف خمسين يمينا مرددة ثم يدفع إليه الدية : فإن كانوا ابنين أو أخوين , ليس له وارث غيرهما فطاع أحدهما بالقسامة وأبى الآخر , فعلى الذي طاع بالقسامة خمسة وعشرون مرددة عليه ثم يدفع إليه نصف الدية وليس للآخر شيء : فإن كان الورثة ثلاثة رهط كانت القسامة عليهم أثلاثا , فإن لم تنفق الأيمان عليهم جعل الفضل على الاثنين فالاثنين وأن القسامة على الورثة بقدر الميراث , وقد ذكرنا بالإسناد المتصل عن سعيد بن المسيب , والزهري : أن ترديد الأيمان في القسامة لا يجوز , وأنه أمر حدث لم يكن قبل , وأن أول من ردد الأيمان معاوية في القسامة , وقد جاء في هذا خبر مرسل لو وجدوا مثله لطاروا به . فصح أن لا قسامة إلا بخمسين يحلفون : أن فلانا قتل صاحبنا عمدا أو خطأ كيفما علموا من ذلك , فإن نقص منهم واحد فصاعدا بطلت القسامة وعاد الأمر إلى حكم التداعي , ويحلفون في مجلس الحاكم وهم قعود حيث كانت وجوههم : بالله تعالى فقط , لا يكلفون زيادة على اسم الله تعالى لقول النبي عليه السلام: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" ولا فرق بين زيادة "الذي لا إله إلا هو" وزيادة "الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر" وكل هذا حكم لم يأت به عن الله تعالى نص , ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولا أوجبه قياس , ولا نظر . وكذلك لا يكلفون الوقوف عند اليمين , ولا صرف وجوههم إلى القبلة , ولا ينزعوا أرديتهم أو طيالستهم - وكل هذه أحكام لم يأت بها نص قرآن , ولا سنة لا صحيحة , ولا سقيمة , ولا قول صاحب , ولا إجماع , ولا قياس , ولا نظر . فإن قالوا : هو تهييب ليرتدع الكاذب ؟ قيل لهم : وهو تشهير وإن أردتم التهييب فأصعدوه المنار , أو ارفعوه على المنار , أو شدوا وسطه

(11/92)


بحبل وجردوه في سراويل - وكل هذا لا معنى له , ولا معنى لأن يحلف في الجامع إلا إن كان مجلس الحاكم فيه , أو لم يكن فيه على المحلف كلفة حركة ; لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة , بل إنما جاء ذلك عن عمر بن الخطاب , ومعاوية أن عمر جلب المدعى عليهم في القسامة من اليمن إلى مكة ومن الكوفة إلى مكة ليحلفوا فيها . وعن معاوية ثابت : أنه حملهم من المدينة إلى مكة للتحليف في الحطيم أو بين الركن والمقام , والمالكيون , والحنفيون , والشافعيون مخالفون لهما - رضي الله عنهما - في ذلك , وهم الآن يحتجون علينا بهما في الترديد الذي قد خالفوهما أيضا فيه نفسه - وبالله تعالى التوفيق . ونجمع هاهنا حكم القسامة - إن شاء الله تعالى - فنقول - وبالله تعالى التوفيق . إذا وجد قتيل في دار قوم , أو في صحراء , أو في مسجد , أو في سوق , أو في داره . أو حيث وجد , فادعى أولياؤه على واحد , أو على جماعة من أهل تلك الدار , أو من غيرهم , وأمكن أن يكون ما قالوه وادعوه حقا , ولم يتيقن كذبهم في ذلك فإنه يحلفون خمسين بالغا , عاقلا , من رجل أو امرأة من عصبة المقتول , لا نبالي ورثة أو غير ورثة بالله تعالى أن فلانا قتله , أو أن فلانا وفلانا وفلانا اشتركوا في قتله " . ثم لهم القود , أو الدية , أو المفاداة , فإن أبوا أن يحلفوا , وقالوا : لا ندري من قتله بعينه : حلف من أهل تلك المحلة خمسون كذلك , أو من أهل تلك القبيلة , يقول كل حالف منهم "بالله ما قتلت" ولا يكلف أكثر ويبرءون - فإن نكلوا أجبروا كلهم على اليمين - أحبوا أم كرهوا - حتى يحلف خمسون منهم كما قلنا . ولا يجوز أن يكلفوا أن يقولوا "ولا علمنا قاتلا" ; لأن علم المرء بمن قتل فلانا إنما هي شهادة , فإن أداها أدى ما عليه . فإن قبل : قبل , فذلك , وإن لم يقبل فلا حرج عليه . ولا يجوز أن يحلف أحد شهادة عنده ليؤديها بلا خلاف . فإن نقص عصبة المقتول واحد فأكثر من خمسين , أو وجد القتيل وفيه حياة , أو لم يرد الخمسون أن يحلفوا ولا رضوا بأيمان المدعى عليهم , فقد بطلت القسامة . فأما في نقصان العدد عن خمسين , وفي وجود القتيل حيا , فليس في هذا إلا حكم الدعوى , ويحلف المدعى عليه واحدا - كان أو أكثر - يمينا واحدة فقط , فإن نكل , أو نكلوا : أجبروا على الأيمان أحبوا أم كرهوا . وهكذا إن نقص عدد أهل المحلة المدعى عليهم فلا قسامة أصلا , وكذلك إن لم يحقق أولياء المقتول دعواهم وعصبته , فإن الحكم في ذلك واحد , وهو أن لا بد أن يودى المقتول - حرا كان أو عبدا - من بيت مال المسلمين , أو من سهم الغارمين من الصدقات كما أمر الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . وكما قال النبي عليه السلام: "من قتل له بعد مقالتي

(11/93)


هذه قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقاد أو أن يعقل". وليس القتل الواقع بين الناس إلا خطأ أو عمدا فقط , وفي كليهما الدية بحكم الله تعالى , وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام . وأيضا - فإن الخطأ يكون على عاقلة قاتل الخطأ من الغارمين , وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية غارما من الغارمين , فحظهم في سهم الغارمين واجب , أو في كل مال موقوف لجميع مصالح أمور المسلمين فهذا حكم كل مقتول بلا شك , حتى يثبت أنه قتل , لا عمدا ولا خطأ , لكن بفعل بهيمة , أو من له حكم البهيمة من المجانين , أو الصبيان , أو أنه قتل نفسه عمدا - وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد رحمه الله: وبقي في القسامة خبر نورده - إن شاء الله تعالى - لئلا يغتر به مغتر بجهل ضعفه , أو بظن ظان أنه أغفل ولم يذكر , فيكون نقصا من حكم السنة في القسامة . وهو كما ناه عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : سمعت ابن سمعان يقول : أخبرني ابن شهاب عن عبد الله بن موهب عن قبيصة بن ذؤيب الكعبي أنه قال : "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فلقوا المشركين بإضم أو قريبا منه فهزم المشركون وغشي محلم بن جثامة الليثي عامر بن الأضبط الأشجعي , فلما لحقه , قال عامر : أشهد أن لا إله إلا الله , فلم ينته عنه لكلمته حتى قتله , فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى محلم فقال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ فقال : يا رسول الله إن كان قالها فإنما تعوذ بها وهو كافر , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا ثقبت عن قلبه ؟ يريد بذلك - والله أعلم - إنما يعرب اللسان عن القلب - وأقبل عيينة بن بدر في قومه حمية وغضبا لقيس فقال : يا رسول الله قتل صاحبنا وهو مؤمن , فأقدنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحلفون بالله خمسين يمينا على خمسين رجلا منكم أن كان صاحبكم قتل وهو مؤمن قد سمع إيمانه ؟ ففعلوا , فلما حلفوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعفوا عنه واقبلوا الدية , فقال عيينة بن حصن إنا نستحي أن تسمع العرب أنا أكلنا ثمن صاحبنا ؟ وواثبه الأقرع بن حابس التميمي في قومه غضبا وحمية لخندف فقال لعيينة بن حصن : بماذا استطلتم دم هذا الرجل ؟ فقال : أقسم منا خمسون رجلا : أن صاحبنا قتل وهو مؤمن , فقال الأقرع : فسألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعفوا عن قتله وتقبلوا الدية فأبيتم ؟ فأقسم : بالله لتقبلن من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعاكم إليه , أو لآتين بمائة من بني تميم فيقسمون بالله لقد قتل صاحبكم وهو كافر ؟ فقالوا عند ذلك : على رسلك , بل نقبل ما دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله نقبل الذي دعوتنا إليه من الدية , فدية أبيك عبد الله بن عبد المطلب ؟ فوداه رسول الله

(11/94)


صلى الله عليه وسلم من الإبل".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا خبر لا ينسند ألبتة من طريق يعتد بها - وانفرد به ابن سمعان - وهو مذكور بالكذب - بذكر قسامة خمسين على أنه قتل مسلما , وهو أيضا مرسل - ولو صح لقلنا به , فإذ لم يصح فلا يجوز الأخذ به , وبالله تعالى التوفيق .

(11/95)


2153 - مسألة : في الدماء مشكل:
قال أبو محمد رحمه الله: نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل بن بهرام الدينوري نا محمد بن جرير الطبري ني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهري نا عمي - هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - نا شعبة بن الحجاج عن عبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مطيع بن الأسود عن أبيه مطيع أخي بني عدي بن كعب - وكان اسمه العاص فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيعا - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يقول : "لا تغزى مكة بعد هذا العام أبدا , ولا يقتل رجل من قريش بعد هذا العام صبرا أبدا". نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل نا محمد بن جرير ني عبد الله بن محمد الزهري نا سفيان بن عيينة عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي قال : قال الحارث بن مالك بن البرصاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تغزى مكة بعد هذا العام أبدا". نا أحمد بن محمد نا أحمد بن الفضل أنا محمد بن جرير نا نصر بن عبد الرحمن الأودي نا محمد بن عبيد عن زكريا عن الشعبي عن الحارث بن مالك بن البرصاء قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقول : لا تغزى مكة بعدها إلى يوم القيامة". قال علي رحمه الله : الأول حديث صحيح , والآخر إن صح سماع الشعبي من الحارث بن مالك فهما صحيحان - والحارث هذا : هو الحارث بن قيس بن عون بن جابر بن عبد مناف بن كنانة بن أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
قال أبو محمد رحمه الله: ووجه هذه الأحاديث بين , وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخبر بهذا عن نفسه : أنه لا يغزو مكة بعدها أبدا , وأنه لا يقتل بعدها رجلا من قريش صبرا أبدا , وكان هذا كما قال عليه السلام , فما قتل بعدها قرشيا . برهان هذا : أنه عليه السلام قد أنذر بقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه - وأنذر بغزو الكعبة - وهو كما روينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا ابن أبي عدي عن عثمان عن غياث عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري فذكر الحديث , وفيه أن رجلا استفتح فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "افتح له وبشره بالجنة على بلوى تكون قال : فذهبت فإذا عثمان بن عفان ففتحت له وبشرته بالجنة , وقلت الذي قال , فقال : اللهم صبرا , والله المستعان".

(11/95)


ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة , وابن أبي عمر , وحرملة بن يحيى , قال أبو بكر , وابن أبي عمر : نا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد , وقال حرملة : نا ابن وهب أخبرني يونس - هو ابن يزيد - ثم اتفق زياد , ويونس كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن قوما من قريش سيقتلون صبرا . ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها في أن قرشيا لو قتل لقتل , ولو زنى وهو محصن لرجم حتى يموت - وهكذا نقول فيه : لو ارتد , أو حارب أو حد في الخمر ثلاثا ثم شرب الرابعة - وكذلك قال الله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} . ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن مكة - أعزها الله وحرسها - لو غلب عليها الكفار , أو المحاربون , أو البغاة , فمنعوا فيها من إظهار الحق - أن فرضا على الأمة غزوهم لا غزو مكة , فإن انقادوا , أو خرجوا فذلك , وإن لم يمتنعوا ولا خرجوا : أنهم يخرجون منها , فإن هم امتنعوا وقاتلوا , فلا خلاف في أنهم يقاتلون فيها وعند الكعبة - فكانت هذه الإجماعات , وهذه النصوص وإنذار النبي عليه السلام بهدم ذي السويقتين للكعبة . وبالضرورة ندري أن ذلك لا يكون ألبتة إلا بعد غزو منه - وقد غزاها الحصين بن نمير , والحجاج بن يوسف , وسليمان بن الحسن الجياني - لعنهم الله أجمعين - وألحدوا فيها وهتكوا حرمة البيت , فمن رام للكعبة بالمنجنيق - وهو الفاسق الحجاج - وقتل داخل المسجد الحرام أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير , وقتل عبد الله بن صفوان بن أمية رضي الله عنهما وهو متعلق بأستار الكعبة , ومن قالع للحجر الأسود , وسالب المسلمين المقتولين حولها - وهو الكافر الملعون - سليمان بن الحسن القرمطي , فكان هذا كله مبينا إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أخبر في حديث مطيع بن الأسود , والحارث بن البرصاء , وأنه عليه السلام إنما أخبر بذلك عن نفسه فقط - وهذا من أعلام نبوته عليه السلام أن أخبر بأنه لا يغزوها إلى يوم القيامة , وأنه عليه السلام لا يقتل أبدا رجلا من قريش صبرا , فكان كذلك . ولا يجوز أن يقتصر على بعض كلامه صلى الله عليه وآله وسلم دون بعض , فهذا تحكم فاسد , بل تضم أقواله عليه السلام كلها بعضها إلى بعض , فكلها حق . ولا يجوز أن يحمل قوله عليه السلام: "لا تغزى مكة بعد هذا العام إلى يوم القيامة , ولا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم" على الأمر , لما ذكرنا من صحة الإجماع على وجوب قتل القرشي قودا أو رجما في الزنى - وهو محصن - على وجوب غزو من لاذ بمكة من أهل الكفر والحرابة والبغي ؟

(11/96)


فإن قيل : إنما منع بذلك من غزوها ظلما , ومن قتل قرشي صبرا ظلما ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق : هذه أحكام لا يختلف فيها حكم مكة وغيرها , ولا حكم قريش وغيرهم , فلا يحل بلا خلاف : أن تغزى بلد من البلاد ظلما , ولا أن يقتل أحد من الأمة ظلما , وكأن يكون الكلام حينئذ عاريا من الفائدة , وهذا لا يجوز - وبالله تعالى التوفيق .

(11/97)


2154 - مسألة : قتل أهل البغي:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية . فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين : قتال البغاة , وقتال المحاربين - فالبغاة قسمان لا ثالث لهما : إما قسم خرجوا على تأويل في الدين فأخطئوا فيه , كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق . وإما قسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق , أو على من هو في السيرة مثلهم , فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق , أو إلى أخذ مال من لقوا , أو سفك الدماء هملا : انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين , وهم ما لم يفعلوا ذلك في حكم البغاة . فالقسم الأول من أهل البغي يبين حكمهم : ما نا هشام بن سعد الخير نا عبد الجبار بن أحمد المقرئ نا الحسن بن الحسين البجيرمي نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا شعبة أخبرني أيوب السختياني , وخالد الحذاء , كلاهما قال : عن الحسن البصري أخبرتنا أمنا عن أم سلمة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمار تقتلك الفئة الباغية".
قال أبو محمد رحمه الله: وإنما قتل عمار رضي الله عنه - أصحاب معاوية رضي الله عنه وكانوا متأولين تأويلهم فيه - وإن أخطئوا الحق - مأجورون أجرا واحدا : لقصدهم الخير . ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون , ولا أجر لهم : كما روينا من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش نا خيثمة نا سويد بن غفلة قال قال علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان , أحداث الأسنان , سفهاء الأحلام , يقولون من قول خير البرية , لا يجاوز إيمانهم حناجرهم , يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية , فأينما لقيتموهم فاقتلوهم , فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة". وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس , سيماهم التحالق , هم شر الخلق , أو من شر الخلق , تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" وذكر الحديث.

(11/97)


قال أبو محمد رحمه الله: ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا , وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم , وأنهم من شر الخلق , وأنهم يخرجون في فرقة من الناس . فصح أن أولئك أيضا : مفترقون , وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق , فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا , وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق - وإن كانت الأخرى أولى به - ولم يجعل للثالثة شيئا من الدنو إلى الحق . فصح أن التأويل يختلف , فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة , كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش , أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم , أو تكفير أهل الذنوب , أو استقراض المسلمين , أو قتل الأطفال والنساء , وإظهار القول بإبطال القدر , أو إبطال الرؤية , أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون , أو إلى البراءة عن بعض الصحابة , أو إبطال الشفاعة , أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى المنع من الزكاة , أو من أداء حق من مسلم , أو حق لله تعالى : فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد ; لأنها جهالة تامة . وأما من دعا إلى تأويل لا يحل به سنة , لكن مثل تأويل معاوية في أن يقتص من قتلة عثمان قبل البيعة لعلي : فهذا يعذر ; لأنه ليس فيه إحالة شيء من الدين , وإنما هو خطأ خاص في قصة بعينها لا تتعدى . ومن قام لعرض دنيا فقط , كما فعل يزيد بن معاوية , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير , وكما فعل مروان بن محمد في القيام على يزيد بن الوليد , وكمن قام أيضا عن مروان , فهؤلاء لا يعذرون , لأنهم لا تأويل لهم أصلا , وهو بغي مجرد . وأما من دعا إلى أمر بمعروف , أو نهي عن منكر , وإظهار القرآن , والسنن , والحكم بالعدل : فليس باغيا , بل الباغي من خالفه - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا إذا أريد بظلم فمنع من نفسه - سواء أراده الإمام أو غيره - وهذا مكان اختلف الناس فيه : فقالت طائفة : إن السلطان في هذا بخلاف غيره , ولا يحارب السلطان وإن أراد ظلما . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني أن رجالا سألوا ابن سيرين فقالوا : أتينا الحرورية زمان كذا وكذا , لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون من لقوا ؟ فقال ابن سيرين : ما علمت أن أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما , ولا من قتل من أراد قتالك إلا السلطان , فإن للسلطان نحوا . وخالفهم آخرون فقالوا : السلطان وغيره سواء , كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عامل له أن يأخذ

(11/98)


الوهط فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته , وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من قتل دون ماله - مظلوما - فهو شهيد". ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار , قال: إن عبد الله بن عمرو بن العاص تيسر للقتال دون الوهط , ثم قال : مالي لا أقاتل دونه وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد". قال ابن جريج : وأخبرني سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره , قال : لما كان بين عبد الله بن عمرو بن العاص , وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان وتيسروا للقتال ركب خالد بن العاص - هو ابن هشام بن المغيرة المخزومي - إلى عبد الله بن عمرو فوعظه , فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قتل على ماله فهو شهيد".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة سائرهم - رضي الله عنهم - يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض " الوهط " ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب , وما كان معاوية - رحمه الله - ليأخذ ظلما صراحا , لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك , ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحق , ولبس السلاح للقتال , ولا مخالف له في ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم وهكذا جاء عن أبي حنيفة , والشافعي , وأبي سليمان , وأصحابهم : أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم ؟ فإن ذكروا مظلمة ظلموها أنصفوا , وإلا دعوا إلى الفيئة , فإن فاءوا فلا شيء عليهم , وإن أبوا قوتلوا , ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضا . فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نرد ما اختلفوا فيه إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد إليه , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. ففعلنا : فلم نجد الله تعالى فرق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره , بل أمر تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم - عموما - حتى يفيء إلى أمر الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وكذلك قوله عليه السلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد" أيضا - عموم - لم يخص معه سلطانا من غيره , ولا فرق في قرآن , ولا حديث , ولا إجماع ولا قياس : بين من أريد ماله , أو أريد دمه , أو أريد فرج امرأته , أو أريد ذلك من جميع المسلمين . وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله , وهذا لا يحل بلا خلاف - وبالله تعالى التوفيق.

(11/99)


قال أبو محمد رحمه الله: ومن أسر من أهل البغي , فإن الناس قد اختلفوا فيه : أيقتل أم لا ؟ فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : ما دام القتال قائما فإنه يقتل أسراهم , فإذا انجلت الحرب فلا يقتل منهم أسير.
قال أبو محمد رحمه الله: واحتج هؤلاء بأن عليا - رضي الله عنه - قتل ابن يثربي - وقد أتي به أسيرا وقال الشافعي : لا يحل أن يقتل منهم أسير أصلا ما دامت الحرب قائمة , ولا بعد تمام الحرب - وبهذا نقول . برهان ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان , أو زنى بعد إحصان , أو نفس بنفس". وأباح الله تعالى دم المحارب , وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دم من حد في الخمر ثم شربها في الرابعة . فكل من ورد نص بإباحة دمه : مباح الدم , وكل من لم يبح الله تعالى دمه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم حرام الدم بقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} , وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وأما احتجاجهم بفعل علي - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها - أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني - أنه لا يصح مسندا إلى علي رضي الله عنه . والثالث - أنه لو صح لكان حجة عليهم لا لهم ; لأن ذلك الخبر إنما هو في ابن يثربي ارتجز يوم ذلك , فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ... قاتل عليا وهند الجمل
ثم ابن صوحان على دين علي
فأسر , فأتي به علي بن أبي طالب , فقال له : استبقني ؟ فقال له علي : أبعد إقرارك بقتل ثلاثة من المسلمين : عليا , وهندا , وابن صوحان - وأمر بضرب عنقه - فإنما قتله علي قودا بنص كلامه - وهم لا يرون القود في مثل هذا ؟ فعاد احتجاجهم به حجة عليهم , ولاح أنهم مخالفون لقول علي في ذلك ولفعله والرابع - أنه قد صح عن علي النهي عن قتل الأسراء في الجمل وصفين - على ما نذكر إن شاء الله تعالى - فبطل تعلقهم بفعل علي في ذلك , وما نعلمهم شغبوا بشيء غير هذا . فإن قالوا : قد كان قتله - بلا خلاف - مباحا قبل الإسار , فهو على ذلك بعد الإسار حتى يمنع منه نص , أو إجماع ؟ قلنا لهم : هذا باطل , وما حل قتله قط قبل الإسار مطلقا , لكن حل قتله ما دام باغيا مدافعا , فإذا لم يكن باغيا مدافعا : حرم قتله - وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيا , ولا مدافعا : فدمه حرام . وكذلك لو ترك القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه - وإن لم يؤسر - وبالله تعالى التوفيق. وإنما قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ولم يقل : قاتلوا التي تبقى , والقتال والمقاتلة فعل من فاعلين , فإنما حل قتال الباغي , ومقاتلته , ولم يحل قتله قط في غير المقاتلة , والقتال , فهذا نص القرآن - وبالله تعالى التوفيق . فإن قالوا

(11/100)


نقيسه على المحارب ؟ قلنا : المحارب المقدور عليه يقتل إن رأى الإمام ذلك قبل تمام الحرب وبعدها بلا خلاف في أن حكمه في كلا الأمرين سواء - وأيضا فليس يختلف أحد في أن حكم الباغي غير حكم المحارب , وبالتفريق بين حكمهما جاء القرآن .
قال أبو محمد رحمه الله: واختلفوا أيضا في الإجهاز على جرحاهم , والقول فيهم كالقول في الأسراء سواء , لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير , وأما ما لم يقدر عليه وكان ممتنعا فهو باغ كسائر أصحابه . وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال علي بن أبي طالب : لا يذفف على جريح , ولا يقتل أسير , ولا يتبع مدبر - وكان لا يأخذ مالا لمقتول , يقول : من اعترف شيئا فليأخذه . ومن طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن جويبر قال : أخبرتني امرأة من بني أسد قالت : سمعت عمارا بعد ما فرغ علي من أصحاب الجمل ينادي : لا تقتلن مدبرا ولا مقبلا , ولا تذففوا على جريح , ولا تدخلوا دارا , ومن ألقى السلاح فهو آمن , كالمأسور , قد قدرنا أن نصلح بينه وبين المبغي عليه بالعدل , وهو أن نمنعه من البغي , بأن نمسكه ولا ندعه يقاتل . وكذلك الجريح إذا قدرنا عليه , ونص هذه الآية يقتضي تحريم دم الأسير , ومن قدر عليه ; لأن فيها إيجاب الإصلاح بينهما - نعني الباغي والمبغي عليه - ولا يجوز أن يصلح بين حي وميت , وإنما يصلح بين حيين - فصح تحريم دم الأسير , ومن قدر عليه من أهل البغي بيقين . واختلفوا هل يجوز اتباع مدبرهم ؟ فقالت طائفة : لا يتبع المدبر منهم أصلا . وقال آخرون : إن كانوا تاركين للقتال جملة , منصرفين إلى بيوتهم , فلا يحل اتباعهم أصلا , وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لائذين بمعقل يمتنعون فيه , أو زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنونهم فيه لمجيء الليل , أو ببعد الشقة ثم يعودون إلى حالهم : فيتبعون.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول ; لأنه نص القرآن ; لأن الله تعالى افترض علينا قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى , فإذا فاءوا حرم علينا قتلهم وقتالهم , فهم إذا أدبروا تاركين لبغيهم , راجعين إلى منازلهم , أو متفرقين عما هم عليه , فبتركهم البغي صاروا فائين إلى أمر الله , فإذا فاءوا إلى أمر الله فقد حرم قتلهم , وإذا حرم قتلهم فلا وجه لاتباعهم , ولا شيء لنا عندهم حينئذ . وأما إذا كان إدبارهم ليتخلصوا من غلبة أهل الحق - وهم باقون على بغيهم - فقتالهم باق علينا بعد ; لأنهم لم يفيئوا بعد إلى أمر الله تعالى . فإن احتج محتج بما ناه عبد الله بن أحمد الطلمنكي نا أحمد بن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا محمد بن معمر نا عبد الملك بن عبد العزيز

(11/101)


انا كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ؟ قال : الله ورسوله أعلم , قال : لا يجهز على جريحها , ولا يقتل أسيرها , ولا يطلب هاربها , ولا يقسم فيئها" فإن كوثر بن حكيم ساقط ألبتة متروك الحديث - ولو صح لكان حجة لنا ; لأن الهارب : هو التارك لما هو فيه , فأما المتخلص ; ليعود فليس هاربا - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: واختلفوا أيضا في قتال أهل البغي ؟ فقال بعض أصحاب الحديث : تقسم أموالهم وتخمس - وبه قال الحسن بن حي : أموال اللصوص المحاربين مغنومة مخمسة , ما كان منها في عسكرهم . وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة : ما وجد في أيدي أهل البغي من السلاح والكراع فإنه فيء يقسم ويخمس - ولم ير ذلك في غير السلاح والكراع . وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : أما ما دامت الحرب قائمة فإنه يستعان في قتالهم بما أخذ من سلاحهم وكراعهم خاصة ; فإذا تلف من ذلك شيء في حال الحرب فلا ضمان فيه , فإذا وضعت الحرب أوزارها لم يؤخذ شيء من أموالهم لا سلاح , ولا كراع , ولا غير ذلك - يرد عليهم ما بقي مما قاتلوا به في الحرب من سلاحهم وكراعهم وقال مالك , والشافعي , وأصحابنا : لا يحل لنا شيء من أموالهم : لا سلاح , ولا كراع , ولا غير ذلك - لا في حال الحرب ولا بعدها ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه , بعون الله تعالى . فنظرنا فيما احتج به أبو حنيفة , وأصحابه , بأن يستعمل سلاحهم , وكراعهم ما دامت الحرب قائمة - فلم نجد لهم في ذلك حجة أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا من قول صاحب , ولا إجماع - وما كان هكذا فهو باطل بلا شك , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" والسلاح والكراع مال من مالهم فهو محرم على غيرهم , لكن الواجب أن يحال بينهم وبين كل ما يستعينون به على باطلهم ; لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . فصح بهذا يقينا أن تخليتهم يستعملون السلاح في دماء أهل العدل والكراع في قتالهم تعاون على الإثم والعدوان فهو محرم بنص القرآن . وصح أن الحيلولة بينهم وبين السلاح والكراع في حال البغي : تعاون على البر والتقوى , وأما استعماله فلا يحل ; لما ذكرنا , إلا أن يضطر إليه فيجوز حينئذ , ومن اضطر إلى الدفاع عن نفسه بحق ففرض عليه أن يدفع الظلم عن نفسه , وعن غيره , بما أمكنه من سلاح نفسه أو سلاح غيره , فإن لم يفعل فهو ملق

(11/102)


بيده إلى التهلكة , وهذا حرام عليه - فسقط قول أبي حنيفة وأصحابه . ثم نظرنا في قول أبي يوسف فلم نجد لهم شبهة إلا خبرا رواه فطر بن خليفة عن محمد بن الحنفية : أن عليا قسم يوم الجمل فيهم بين أصحابه ما قوتل به من الكراع والسلاح - وهذا خبر فاسد , لأن فطرا ضعيف . وذكروا أيضا ما كتب به إلى يوسف بن عبد البر النمري قال : نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن عيسى بن رفاعة الخولاني نا بكر بن سهل نا نعيم بن حماد نا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي البختري , والشعبي , وأصحاب علي " عن علي أنه لما ظهر على أصحاب الجمل بالبصرة يوم الجمل جعل لهم ما في عسكر القوم من السلاح , فقالوا : كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ولا نساؤهم ؟ قال : هاتوا سهامكم فأقرعوا على عائشة , فقالوا : نستغفر الله , فخصمهم علي رضي الله عنه وعرفهم أنها إذا لم تحل لم يحل بنوها " وهذا أيضا أثره ضعيف , ومداره على نعيم بن حماد وهو الذي روى بإسناد أحسن من هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" فإن أجازوه هنا فليجيزوه هنالك . ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم قولة لعلي رضي الله عنه قد خالفوها بآرائهم . ثم نظرنا فيما ذهب إليه الحسن بن حي فلم نجد لهم علقة إلا من طريق عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أصحابه عن حكيم بن جبير عن عصمة الأسدي قال : بهش الناس إلى علي فقالوا : اقسم بيننا نساءهم وذراريهم , فقال علي : عنتني الرجال فعنيتها وهذه ذرية قوم مسلمين في دارهم , لا سبيل لكم عليهم ما أوت الدار من مال فهو لهم , وما أجلبوا به عليكم في عسكرهم فهو لكم مغنم .
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا خبر في غاية الفساد ; لأن ابن عيينة - رحمه الله - رواه عن أصحابه الذين لا يدرى من هم , ثم عن حكيم بن جبير - وهو هالك كذاب فلم يبق إلا من قال : إن جميع أموالهم مخمسة مغنومة , وقول من قال : لا يحل منها شيء فنظرنا في تلك . فوجدناهم يحتجون بما نا به حمام بن أحمد قال نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير بن حرب نا عفان بن مسلم نا محمد بن ميمون نا محمد بن سيرين عن أخيه معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه سيماهم التحليق والتسبيد". ومن طريق مسلم ني محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن

(11/103)


سليمان - هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق وهم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" , وذكر باقي الخبر . قالوا : وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} . قالوا : فمن الباطل المتيقن أن يكونوا مسلمين ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم شر الخلق , أو من شر الخلق , فالخلق والبرية سواء , قالوا : فإذ هم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شر الخلق , وقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه أبدا , فهم بيقين من المشركين , الذين قال الله تعالى : إنهم {شر البرية} لا من الذين آمنوا الذين شهد الله تعالى لهم أنهم من {خير البرية} فأموالهم مغنومة مخمسة كأموال الكفار.
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا قول صحيح , واحتجاج صادق , إلا أنه مجمل غير مرتب والصحيح من هذا هو جمع الآيات والأحاديث , فمن خرج بتأويل هو فيه مخطئ , لم يخالف فيه الإجماع , ولا قصد فيه خلاف القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتعمد خلافهما , أو يعند عنهما بعد قيام الحجة عليه , أو خرج طالبا غلبة في دنيا , ولم يخف طريقا , ولا سفك الدم جزافا , ولا أخذ المال ظلما , فهذا هو الباغي الذي يصلح بينه وبين من بغى عليه , على ما في آية البغاة وعلى ما قال عليه السلام من خروج المارقة بين الطائفتين من أمته , إحداهما باغية , وهي التي تقتل عمارا , والأخرى أولى بالحق , وحمد عليه السلام من أصلح بينهما . كما روينا من طريق البخاري نا صدقة نا ابن عيينة نا أبو موسى عن الحسن سمع أبا بكرة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر , والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة , وإليه مرة , ويقول : ابني هذا سيد , ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين" فإن زاد الأمر حتى يخيفوا السبيل , ويأخذوا مال المسلمين غلبة , بلا تأويل , أو يسفكوا دما كذلك , فهؤلاء محاربون لهم حكم المحاربة , فإن زاد الأمر حتى يخرقوا الإجماع فهم مرتدون : تغنم أموالهم كلها حينئذ وتخمس وتقسم - وبالله تعالى التوفيق . ولا يحل مال المحارب , ولا مال الباغي ولا شيء منه ; لأنهما وإن ظلما فهما مسلمان - ولا يحل شيء من مال المسلم , إلا بحق , وقد يحل دمه , ولا يحل ماله , كالزاني المحصن , والقاتل عمدا - وقد يحل ماله ولا يحل دمه , كالغاصب ونحو ذلك , وإنما يتبع النص , فما أحل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من دم أو مال حل , وما

(11/104)


حرما من دم أو مال فهو حرام , والأصل في ذلك التحريم حتى يأتي إحلال , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وبالله تعالى التوفيق .

(11/105)


2155- مسألة : ما أصابه الباغي من دم أو مال:
اختلف الناس فيما أصابوه في حال القتال من دم أو مال أو فرج , فقال أبو حنيفة , ومالك , والشافعي , وبعض أصحابنا : لا يؤاخذون بشيء من ذلك , ولا قود في الدماء ولا دية , ولا ضمان فيما أتلفوه من الأموال , إلا أن يوجد بأيديهم شيء قائم مما أخذوه فيرد إلى أصحابه . وقال الأوزاعي : إن كانت الفئتان إحداهما باغية والأخرى عادلة في سواد العامة , فإمام الجماعة المصلح بينهما يأخذ من الباغية على الأخرى ما أصابت منها بالقصاص في القتلى , والجراحة , كما كان أمر تينك الفئتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الولاة .
قال أبو محمد رحمه الله: وقال بعض أصحابنا : القصاص عليهم , وضمان ما أتلفوا كغيرهم , فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بمن الله تعالى وطوله - فوجدنا من قال : لا يؤاخذون بشيء , يحتجون من طريق عبد الرزاق عن معمر أخبرني الزهري : أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها , وشهدت على قومها بالشرك , ولحقت بالحرورية , فتزوجت فيهم : ثم إنها رجعت إلى قومها ثانية ؟ فكتب إليه : أما بعد فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير , فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن , إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد إلى صاحبه وإني أرى أن ترد إلى زوجها , وأن يحد من افترى عليها . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : حدثنا عيسى بن يونس عن معمر عن الزهري قال : هاجت ريح الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون , فاجتمع رأيهم على أنه لا يقاد ولا يودى ما أصيب على تأويل القرآن إلا ما يوجد بعينه . وعن سعيد بن المسيب أنه قال : إذا التقت الفئتان فما كان بينهما من دم أو جراحة فهو هدر , ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية , حتى فرغ منها ؟ قال : فكل طائفة ترى الأخرى باغية . قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا , وهذا ليس بشيء لوجهين . أحدهما - أنه منقطع لأن الزهري رحمه الله لم يدرك تلك الفتنة ولا ولد إلا بعدها ببضع عشرة سنة والثاني - أنه لو صح - كما قال - لما كان هذا إلا رأيا من بعض الصحابة لا نصا ولا إجماعا منهم , ولا حجة في رأي بعضهم دون بعض , وإنما افترض الله تعالى علينا أهل الإسلام اتباع القرآن , وما صح عن النبي عليه السلام , أو ما أجمعت عليه الأمة , ولم

(11/105)


يأمر الله تعالى قط باتباع ما أجمع عليه بعض أولي الأمر منا , وإذا وقعت تلك الفتنة فبلا شك أن الماضين بالموت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أكثر من الباقين , ولقد كان أصحاب بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا , وعدوا , إذ مات عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فما وجد منهم في الحياة إلا نحو مائة واحدة فقط , فبطل التعلق بما رواه الزهري لو صح , فكيف وهو لا يصح أصلا ؟ ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال أخبرني غير واحد من عبد القيس عن حميد بن هلال عن أبيه , قال : لقد أتيت الخوارج وإنهم لأحب قوم على وجه الأرض إلي فلم أزل فيهم حتى اختلفوا , فقيل لعلي بن أبي طالب قاتلهم , فقال : لا , حتى يقتلوا , فمر بهم رجل استنكروا هيئته , فثاروا إليه , فإذا هو عبد الله بن خباب , فقالوا : حدثنا ما سمعت أباك يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : سمعته يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم , والقائم خير من الماشي , والماشي خير من الساعي والساعي في النار" قال : فأخذوه وأم ولده فذبحوهما جميعا على شط النهر فلقد رأيت دماهما في النهر كأنهما شريكان فأخبر بذلك علي بن أبي طالب فقال : أقيدوني من ابن خباب ؟ قالوا : كلنا قتلناه فحينئذ استحل قتالهم , فقتلهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا أثر أصح من أثر الزهري , أو مثله , بأن علي بن أبي طالب رأى القود على الخوارج فيمن قتلوه بتأويل القرآن , بخلاف ما ذكر الزهري من إجماعهم . فصح الخلاف في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم , وبلا شك ندري أن القائلين من الصحابة رضي الله عنهم لأبي بكر الصديق أن لا يقاتل أهل الردة أكثر عددا وأتم فضلا , من الذين ذكر الزهري عنه أنه إجماع لا يصح على أن لا يؤخذ أحد بدم أصابه على تأويل القرآن . لا بقود ولا بدية , وأن لا يضمن أحد مالا أصابه على تأويل القرآن , ولم يكن قولهم ذلك حجة يسوغ الأخذ بمثل ما قالوا , وإنما رجع الأمر فيما ذكر الزهري إجماعا إلى حكم الوالي , ولم يكن إلا عليا , والأشهر عنه إيجاب القود كما ذكرنا , أو معاوية , وإنما كان الحق في ذلك بيد علي لا بيده , وإنما كان معاوية مجتهدا مخطئا مأجورا فقط - وبالله تعالى التوفيق . وأما احتجاج ابن المسيب " بأن كل طائفة ترى الأخرى باغية " فليس بشيء ; لأن الله تعالى لم يكلنا إلى رأي الطائفتين , لكن أمر من صح عنده بغي إحداهما بقتال الباغية , ولو كان ما قاله سعيد رضي الله عنه - لما كانت إحداهما أولى بالمقاتلة من الأخرى , ولبطلت الآية وهذا لا يجوز .

(11/106)


قال أبو محمد رحمه الله: والقول عندنا أن البغاة كما قدمنا في صدر كلامنا ثلاث أصناف : صنف تأولوا تأويلا يخفى وجهه على كثير من أهل العلم , كمن تعلق بآية خصتها أخرى , أو بحديث قد خصه آخر , أو نسخها نص آخر , فهؤلاء كما قلنا معذورون , حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدا , أو يتلف مالا مجتهدا , أو يقضي في فرج خطأ مجتهدا , ولم تقم عليه الحجة في ذلك , ففي الدم دية على بيت المال , لا على الباغي , ولا على عاقلته ويضمن المال كل من أتلفه , ونسخ كل ما حكموا به , ولا حد عليه في وطء فرج جهل تحريمه ما لم يعلم بالتحريم - وهكذا أيضا من تأول تأويلا خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته . وأما من تأول تأويلا فاسدا لا يعذر فيه , لكن خرق الإجماع - أي شيء كان - ولم يتعلق بقرآن ولا سنة , ولا قامت عليه الحجة وفهمها , وتأول تأويلا يسوغ , وقامت عليه الحجة وعند , فعلى من قتل هكذا القود في النفس فما دونها , والحد فيما أصاب بوطء حرام , وضمان ما استهلك من مال . وهكذا من قام في طلب دنيا مجردا بلا تأويل , ولا يعذر هذا أصلا ; لأنه عامد لما يدري أنه حرام - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا من قام عصبية ولا فرق - وقد تكون الفئتان باغيتين إذا قامتا معا في باطل , فإذا كان هكذا فالقود أيضا على القاتل , من أي الطائفتين كان - وهكذا القول في المحاربين يقتل بعضهم بعضا . قال أبو محمد رحمه الله: ونذكر البرهان في كل هذا فصلا فصلا : أما قولنا : من لم تقم عليه الحجة فلا قود عليه ولا حد , فلقول الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فلا حجة إلا على من بلغته الحجة , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجعفر بن أبي طالب ومن معه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم بأرض الحبشة , بينهم المهامه الفيح , والبلاد البعيدة , ولجة البحر - والفرائض تنزل بالمدينة ولا تبلغهم إلا بعد عام أو أعوام كثيرة , وما لزمتهم ملامة عند الله تعالى , ولا عند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عند أحد من الأمة . فصح يقينا : أن من جهل حكم شيء من الشريعة فهو غير مؤاخذ به إلا في ضمان ما أتلف من مال فقط ; لأنه استهلكه بغير حق , فعليه متى علم أن يرده إلى صاحبه إن أمكن , وأن لا يصر على ما فعل وهو يعلم - . وأما وجوب الدية في ذلك على بيت المال خاصة فلما ذكرناه في " كتاب الدماء والقصاص " ولما رويناه من طريق أبي داود ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا ابن أبي ذئب ني سعيد - هو ابن أبي سعيد المقبري - قال سمعت أبا شريح الكعبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن

(11/107)


يقتلوا" وإنما قتلوه متأولين يوم الفتح . وأما من قامت عليه الحجة وبلغه حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه ولم يكن عنده إلا العناد والتعلق : إما بتقليد مجرد , أو برأي مفرد أو بقياس , فليس معذورا أو عليه القود أو الدية , وضمان ما أتلف , والحد في الفرج ; لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وهؤلاء معتدون بلا شك فعليهم مثل ما اعتدوا به - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما من قتلوه فقد قال قوم : إنه شهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه , لكن يدفن كما هو وقال آخرون : بل يغسل ويكفن ويصلى عليه - وبهذا نأخذ ; لأنهم , وإن كانوا شهداء - كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا عمرو بن علي نا عبد الرحمن بن مهدي نا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد". ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن رافع , ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قالا : نا سليمان - هو ابن داود الهاشمي نا إبراهيم - هو ابن سعد - عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد". ومن طريق أحمد بن شعيب يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد"
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن من قتله من البغاة فإنما قتل على أحد هذه الوجوه , فهو في ظاهر الأمر شهيد , وليس كل شهيد يدفن دون غسل ولا صلاة . وقد صح : أن المبطون شهيد , والمطعون شهيد , والغريق شهيد , وصاحب ذات الجنب شهيد , والمرأة تموت بجمع شهيد , وصاحب الهدم شهيد - وكل هؤلاء لا خلاف في أنهم يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم . والأصل في كل مسلم أن يغسل ويكفن ويصلى عليه , إلا من خصه نص أو إجماع , ولا نص , ولا إجماع , إلا فيمن قتله الكفار في المعترك ومات في مصرعه - فهؤلاء هم الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزملوا بدمائهم في ثيابهم ويدفنوا كما هم دون غسل ولا تكفين - ولا يجب فرضا عليهم صلاة , فبقي سائر الشهداء , والموتى , على حكم الإسلام في الغسل , والتكفين والصلاة - وبالله تعالى التوفيق .

(11/108)


2156 - مسألة : هل للعادل أن يعمد قتل أبيه الباغي أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: قال قائلون : لا يحل لمن كان من أهل العدل قتل أبيه , أو

(11/108)


أخيه , أو ذي رحم من أهل البغي عمدا , لكن إن ضربه ليصير بذلك غير ممتنع من أخذ الحق منه , فلا حرج عليه في ذلك . قال أبو محمد رحمه الله: ولسنا نقول بهذا , فإن بر الوالدين وصلة الرحم إنما أمر الله تعالى بهما ما لم يكن في ذلك معصية لله تعالى وإلا فلا , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة لأحد في معصية الله تعالى" وقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية ولم يخص بذلك ابنا من أجنبي , وأمر بإقامة الحدود كذلك قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية . {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية . وقتال أهل البغي قتال في الدين , إلا أننا لا نختار أن يعمد المرء إلى أبيه - خاصة - أو جده , ما دام يجد غيرهما , فإن لم يفعل فلا حرج . وهكذا القول في إقامة الحد عليهما , وعلى الأم والجدة في القتل , والقطع والقصاص , والجلد , ولا فرق . فأما إذا رأى العادل أباه الباغي , أو جده , يقصد إلى مسلم يريد قتله , أو ظلمه , ففرض على الابن حينئذ أن لا يشتغل بغيره عنه , وفرض عليه دفعه عن المسلم - بأي وجه أمكنه - وإن كان في ذلك قتل الأب , والجد , والأم . برهان ذلك : ما روينا من طريق البخاري نا سعيد بن الربيع نا شعبة عن الأشعث بن سليم قال : سمعت معاوية بن سويد بن مقرن يقول : سمعت البراء بن عازب قال : "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع - فذكر - عيادة المرض , واتباع الجنائز , وتشميت العاطس , ورد السلام , ونصر المظلوم , وإجابة الداعي , وإبرار المقسم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما , قيل : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تمنعه , تأخذ فوق يده" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسلم المرء أخاه المسلم لظلم ظالم , وأن يأخذ فوق يد كل ظالم , وأن ينصر كل مظلوم , فإذا رأى المسلم أباه الباغي , أو ذا رحمه - كذلك - يريد ظلم مسلم , أو ذمي , ففرض عليه منعه من ذلك , بكل ما لا يقدر على منعه إلا به من قتال أو قتل , فما دون ذلك على عموم هذه الأحاديث وإنما افترض الله تعالى الإحسان إلى الأبوين , وأن لا ينهرا , وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة , فيما ليس فيه معصية الله تعالى فقط . وهكذا نقول : أنه لا يحل لمسلم له أب كافر أو أم كافرة , أن يهديهما إلى طريق الكنيسة , ولا أن يحملهما إليها , ولا أن يأخذ لهما قربانا , ولا أن يسعى لهما في خمر لشريعتهما الفاسدة , ولا أن يعينهما على شيء من معاصي الله تعالى من زنى , أو سرقة , أو غير ذلك , وأن لا يدعه يفعل شيئا من ذلك - وهو قادر على منعه , قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا

(11/109)


عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهذه وصية جامعة لكل خير في العالم .
قال أبو محمد رحمه الله: وأما الفئتان الباغيتان معا فلا يحل للمسلمين إلا منعهما وقتالهم جميعا ; لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى , فمن عجز عن ذلك وسعته التقية وأن يلزم منزله , ومسجده , ومعاشه , ولا مزيد , وكلاهما لا يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . برهان ذلك : ما روينا من طريق مسلم ني عمرو الناقد نا سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه , وحتى إن كان أخاه لأبيه وأمه" ومن طريق مسلم نا محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما نا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث : منها : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار". ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمود بن غيلان نا أبو داود الطيالسي عن شعبة أخبرني منصور - هو ابن المعتمر - قال : سمعت ربعيا - هو ابن حراش - يحدث عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أشار المسلم على أخيه بالسلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتله خرا فيها جميعا". فهذه صفة الطائفتين إذا كانتا باغيتين , ولا يمكن أن تكونا معا عادلتين ونسأل الله تعالى العافية . وإنما قلنا : أن يقاد للباغي إذا قوتل ليفيء إلى أمر الله فقط , ولم نحله بغير هذا الوجه , فمن قتل باغيا ليفيء إلى أمر الله تعالى فقد قتله كما أمره الله تعالى - وكذلك لو قطع له عضوا في الحرب , أو عقر تحته فرسا , أو أفسد له لباسا في المضاربة , فلا ضمان في شيء من ذلك ; لأنه فعل كل ذلك كما أمره الله تعالى , ومن فعل كما أمره الله تعالى فقد أحسن , ومن أحسن فلا شيء عليه , لقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.

(11/110)


2157 - مسألة : أحكام أهل البغي:
اختلف الناس في أحكام أهل البغي فقال أبو حنيفة , وأصحابه - حاشا الطحاوي - أنه ما حكم به قاضي أهل البغي فلا يجوز لقاضي أهل العدل أن يجيز ذلك , ولا أن يقبل كتابه قالوا : وما أخذوه من صدقة فلا يأخذها الإمام ثانية , لكن الأفضل لمن أخذوها منه أن يؤديها مرة أخرى . قالوا : وأما من مر عليهم من التجار فعشروه فإن الإمام يأخذه ثانية من التجار . وقال الشافعي : ينفذ كل قضية قضوها إذا وافقت الحق , ويجزي ما أخذوه من الزكاة , وما أقاموا من الحدود - وهو قول مالك . وقال أبو سليمان - وأصحابنا لا ينفذ شيء من قضاياهم , ولا بد من إعادتها ولا يجزئ ما أخذوه من الصدقات , ولا ما أقاموا من الحدود , ولا بد من أخذ الصدقات , ومن

(11/110)


إقامة الحدود ثانية .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون الله تعالى . فنظرنا في قول أبي حنيفة , فوجدناهم يحتجون بأن قالوا : إن أخذ الصدقات إنما جاء التضييع من قبل الإمام فقد يجب عليه دفعهم , وأما من مر عليهم فقد عرض ماله للتلف.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا وهذا لا شيء ; لأنه لم يأت نص ولا إجماع بأن تضييع الإمام يسقط الحقوق الواجبات لله تعالى وأيضا - فكما أخذوا العشر ثانية ممن جعلوا ذنبه أنه عرض ماله للتلف فكذلك يلزمهم أن يأخذوا الزكاة ثانية , ويجعلوا ذنب أهلها أنهم عرضوا أموالهم للتلف , فقد كان يمكنهم الهرب عن موضع البغاة , أو يعذروا المعشرين . ثم نظرنا فيما احتج به مالك , والشافعي , فوجدناهم يقولون : إنهم إذا حكموا بالحق كما أمر الله تعالى ; وإذا أخذوا الزكاة كما أمر الله تعالى , وأقاموا الحدود كما أمر الله تعالى , فقد تأدى كل ذلك كما أمر الله تعالى , وإذا تأدى كما أمر الله تعالى , فلا يجوز أن يقام ذلك على أهله ثانية , فيكون ذلك ظلما . وقال بعضهم : كما لا يؤاخذون بما أصابوا من دم أو مال , فكذلك لا يؤاخذون - هم ولا غيرهم - بما حكموا أو أقاموا من حد , أو أخذوا من مال صدقة , أو غيرها - بحق أو بباطل - ولا فرق . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ليس كما قالوا , وذلك أننا نسألهم , فنقول لهم : ماذا تقولون : إذا كان الإمام حاضرا ممكنا عدلا , أيحل أن يأخذ صدقة دونه , أو يقيم حدا دونه , أو يحكم بين اثنين دونه , أم لا يحل ذلك ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قالوا : هذا كله مباح : خرقوا الإجماع , وتركوا قولهم , وأبطلوا الأمانة التي افترضها الله تعالى , وأوجبوا أن لا حاجة بالناس إلى إمام - وهذا خلاف الإجماع والنص . وإن قالوا : بل لا يحل أخذ شيء من ذلك كله ما دام الإمام قائما فقد صح أن لا يحل أن يكون حاكما إلا من ولاه الإمام الحكم , ولا أن يكون آخذا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك , ولا أن يكون مصدقا إلا من ولاه الإمام أخذها , فإن ذلك كذلك فكل من أقام - حدا , أو أخذ صدقة , أو قضى قضية , وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام , فلم يحكم كما أمره الله تعالى , ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى , ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالى ; فإذ لم يفعل ذلك كما أمر , فلم يفعل شيئا من ذلك بحق , وإذا لم يفعل ذلك بحق , فإنما فعله بباطل , وإذ فعله بباطل فقد تعدى ; وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" فإذ هو ظلم , فالظلم لا حكم

(11/111)


له إلا رده ونقضه فصح من هذا أن كل من أخذ منهم صدقة فعليه ردها ; لأنه أخذها بغير حق , فهو متعد , فعليه ضمان ما أخذ , إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة في القرآن فإذا أوصلها إليهم فقد تأدت الزكاة إلى أهلها - وبالله تعالى التوفيق . وصح من هذا أن كل حد أقاموه فهو مظلمة لا يعتد به , وتعاد الحدود ثانية ولا بد , وتؤخذ الدية من مال من قتلوه قودا , وأن يفسخ كل حكم حكموه ولا بد . ويبين ما قلناه نصا : ما روينا من طريق مسلم : نا محمد بن نمير نا عبد الله - هو ابن إدريس - نا ابن عجلان , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وعبيد الله بن عمر , كلهم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده , قال : "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره , وعلى أثرة علينا , وأن لا ننازع الأمر أهله , وعلى أن نقول بالحق أينما كنا , لا نخاف في الله لومة لائم". ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن نافع ثنا غندر ثنا شعبة عن زياد بن علاقة قال : سمعت عرفجة , قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنه سيكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة - وهي جميع - فاضربوه بالسيف , كائنا من كان".
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن لهذا الأمر أهلا لا يحل لأحد أن ينازعهم إياه , وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل . فصح أن المنازعين في الملك والرياسة مريدون تفريق جماعة هذه الأمة , وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم , فهم عصاة بكل ذلك . فصح أن أهل البغي عصاة في منازعتهم الإمام الواجب الطاعة , وإذ هم فيه عصاة , فكل حكم حكموه مما هو إلى إمام , وكل زكاة قبضوها مما قبضها إلى الإمام , وكل حد أقاموه مما إقامته إلى الإمام - فكل ذلك منهم ظلم وعدوان . ومن الباطل أن تنوب معصية الله تعالى عن طاعته , وأن يجزي الظلم عن العدل , وأن يقوم الباطل مقام الحق , وأن يغني العدوان عن الإنصاف . فصح ما قلنا نصا ووجب رد كل ما عملوا من ذلك لقول النبي عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" فإن لم يكن للناس إمام ممكن فقد قلنا : إن كل من قام بالحق حينئذ فهو نافذ , فالبغاة - إن كانوا مسلمين - فكل ما فعلوه في ذلك فهو نافذ - وأما إن كانوا كفارا فلا ينفذ من حكم الكافر في دين الله تعالى شيء أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

(11/112)


2158 - مسألة : هل يستعان على أهل البغي بأهل الحرب ؟ أو بأهل الذمة ؟ أو بأهل بغي آخرين:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : لا يجوز أن يستعان عليهم بحربي , ولا بذمي , ولا بمن يستحل قتالهم , مدبرين - وهذا قول الشافعي

(11/112)


رضي الله عنه وقال أصحاب أبي حنيفة : لا بأس بأن يستعان عليهم بأهل الحرب , وبأهل الذمة , وبأمثالهم من أهل البغي , وقد ذكرنا هذا في " كتاب الجهاد " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إننا لا نستعين بمشرك" وهذا عموم مانع من أن يستعان به في ولاية , أو قتال , أو شيء من الأشياء , إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة به فيه : كخدمة الدابة , أو الاستئجار , أو قضاء الحاجة , ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصغار . والمشرك : اسم يقع على الذمي والحربي .
قال أبو محمد رحمه الله: هذا عندنا - ما دام في أهل العدل منعة - فإن أشرفوا على الهلكة واضطروا ولم تكن لهم حيلة , فلا بأس بأن يلجئوا إلى أهل الحرب , وأن يمتنعوا بأهل الذمة , ما أيقنو أنهم في استنصارهم : لا يؤذون مسلما ولا ذميا - في دم أو مال أو حرمة مما لا يحل . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وهذا عموم لكل من اضطر إليه , إلا ما منع منه نص , أو إجماع . فإن علم المسلم - واحدا كان أو جماعة - أن من استنصر به من أهل الحرب , أو الذمة يؤذون مسلما , أو ذميا فيما لا يحل , فحرام عليه أن يستعين بهما , وإن هلك , لكن يصبر لأمر الله تعالى - وإن تلفت نفسه وأهله وماله - أو يقاتل حتى يموت شهيدا كريما , فالموت لا بد منه , ولا يتعدى أحدا أجله . برهان هذا : أنه لا يحل لأحد أن يدفع ظلما عن نفسه بظلم يوصله إلى غيره - هذا ما لا خلاف فيه . وأما الاستعانة عليهم ببغاة أمثالهم - فقد منع من ذلك قوم - واحتجوا بقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} . وأجازه آخرون - وبه نأخذ ; لأننا لا نتخذهم عضدا , ومعاذ الله , ولكن نضربهم بأمثالهم صيانة لأهل العدل كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} وإن أمكننا أن نضرب بين أهل الحرب من الكفار , حتى يقاتل بعضهم بعضا , ويدخل إليهم من المسلمين من يتوصل بهم إلى أذى غيرهم , بذلك حسن . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم" كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني عمران بن بكار بن راشد ثنا أبو اليمان نا شعيب - هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب نا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". وحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن سهل بن عسكر ثنا عبد الرزاق أنا رياح بن زيد عن معمر بن راشد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا يبيح الاستعانة على أهل الحرب بأمثالهم , وعلى أهل

(11/113)


البغي بأمثالهم من المسلمين الفجار الذين لا خلاق لهم . وأيضا - فإن الفاسق مفترض عليه من الجهاد , ومن دفع أهل البغي , كالذي افترض على المؤمن الفاضل , فلا يحل منعهم من ذلك , بل الفرض أن يدعو إلى ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

(11/114)


2159 - مسألة: ولو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل , ثم قال : حسبته من أهل البغي
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل , ثم قال : حسبته من أهل البغي , فإن كان ما يقول ممكنا , فالقول قوله مع يمينه , ثم يضمن ديته في ماله ; لأنه لم يقتله خطأ بل قتله عمدا قصدا إلى قتله إلا أنه لم يعلم أنه حرام الدم , فلذلك لم يقد منه - وإن لم يمكن ما قال فعليه القود , أو الدية باختيار أولياء المقتول وهكذا القول - سواء سواء , إذا قتله في أرض الحرب , ولا فرق . وكذلك لو رجع إلينا بعض أهل البغي تائبا فقتله رجل من أهل العدل وقال : إني ظننته دخل ليطلب غرة , فإن نكل هؤلاء عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا ولا بد ; لأن اليمين قد وجبت عليهم , ولا قود أصلا ; لأنه لم يثبت عليهم ما يوجب القود من التعمد وهم عالمون . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا كانت جماعة من أهل العدل والسنة في عسكر الخوارج وأهل البغي , فقتل بعضهم بعضا عمدا , وجرح بعضهم بعضا عمدا , وأخذ بعضهم مال بعض عمدا , فلا شيء في ذلك : لا قود , ولا دية - غلب أهل الجماعة والإمام العدل عليهم بعد ذلك : أو لم يغلبوا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ما لهذا القول جواب إلا أنه حكم إبليس , والله ما ندري كيف انشرحت نفس مسلم لاعتقاد هذا القول المعاند لله تعالى , ولرسوله عليه السلام , أو كيف انطلق لسان مؤمن يدري أن الله تعالى أمره ونهاه بهذا القول السخيف - ونسأل الله تعالى عافية شاملة - كأن أصحاب هذا القول لم يسمعوا ما أنزل الله تعالى من وجوب القصاص في النفوس , والجراح , ومن تحريم الأموال , في القرآن , وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا قول ما نعلم فيه لأبي حنيفة سلفا : لا من صاحب ولا من تابع , ونبرأ إلى الله تعالى من هذا القول , فإنما موهوا بما روي من حديث عبيد الله بن عمر : كما ثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , وذكر قتل عمر , قال : فأخبرني سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ولم نجرب عليه كذبة قط , قال : حين قتل عمر بن الخطاب انتهيت إلى الهرمزان , وجفينة , وأبي لؤلؤة - وهم بحي - فتبعتهم فثاروا وسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه . وقال عبد الرحمن فانظروا بما قتل به عمر فوجدوه خنجرا على النعت الذي نعت عبد الرحمن , فخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان فقال : اصحبني

(11/114)


ننظر إلى فرس لي - وكان الهرمزان بصيرا بالخيل - فخرج بين يديه , فعلاه عبيد الله بالسيف , فلما وجد حد السيف قال : لا إله إلا الله , فقتله . ثم أتى جفينة - وكان نصرانيا - فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه فصلب ما بين عينيه - ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة - جارية صغيرة تدعي الإسلام - فقتلها , فأظلمت الأرض يومئذ على أهلها . - ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول : والله لا أترك في المدينة سبيا إلا قتلته وغيرهم ؟ كأنه يعرض بناس من المهاجرين , فجعلوا يقولون له : ألق السيف , فأبى - ويهابونه أن يقربوا منه - حتى أتاه عمرو بن العاص فقال : أعطني السيف يا ابن أخي ؟ فأعطاه إياه , ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه , فتناصبا حتى حجز الناس بينهما . - فلما ولي عثمان قال : أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق - يعني عبيد الله بن عمر - فأشار عليه المهاجرون أن يقتله , وقال جماعة من الناس : قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم , أبعد الله الهرمزان , وجفينة ؟ فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين , إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان , إنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك , فاصفح عنه يا أمير المؤمنين قال : فتفرق الناس على خطبة عمرو , وودى عثمان الرجلين والجارية . قال الزهري : وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن أباه قال : فيرحم الله حفصة أن كانت لمن شيع عبيد الله على قتل الهرمزان , وجفينة - قال معمر : قال غير الزهري : قال عثمان : أنا ولي الهرمزان , وجفينة , والجارية , وإني قد جعلتها دية.
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روينا عن أحمد بن محمد عن أحمد بن الفضل عن محمد بن جرير بإسناد لا يحضرني الآن ذكره : أن عثمان أقاد ولد الهرمزان من عبيد الله بن عمر بن الخطاب , وأن ولد الهرمزان عفا عنه.
قال أبو محمد رحمه الله: وأي ذلك كان فلا حجة لهم في شيء منه ; لأن عبيد الله بن عمر لم يقتل من قتل في عسكر أهل البغي , ولا في وقت كان فيه باغ من المسلمين على وجه الأرض يعرف في دار الهجرة , ومحلة الجماعة وصحة الألفة , وفي أفضل عصابة وأعدلها . وهذا خلاف قولهم في المسألة التي نحن فيها من قتل في عسكر أهل البغي وهم لا يقولون بإهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر , فقد خالفوا عثمان ومن معه في هذه القصة . وأيضا - فإن في هذا الخبر : أن عثمان جعلها دية - وهذا خلاف قولهم ; لأنهم لا يرون في ذلك دية , والواجب أن نحكم في كل ذلك كما نحكم في محلة الجماعة ولا فرق ; لأن دين الله تعالى واحد في كل مكان , وكل زمان , وعلى كل لسان , وما خص الله تعالى بإيجاب القود , وأخذ الحدود , وضمان الأموال وإقام الصلاة , وإيتاء

(11/115)


الزكاة وصوم رمضان , وسائر شرائع الإسلام مكانا دون مكان , ولا زمانا دون زمان , ولا حالا دون حال , ولا أمة دون أمة - وبالله تعالى التوفيق .

(11/116)


2160 - مسألة :ولو كان في الباغين غلام لم يبلغ أو امرأة
قال أبو محمد رحمه الله: ولو كان في الباغين غلام لم يبلغ أو امرأة فقاتلا دوفعا , فإن أدى ذلك إلى قتلهما في حال المقاتلة فهما هدر ; لأن فرضا على كل من أراده مريد بغير حق أن يدفع عن نفسه الضر كيف أمكنه - ولا دية في ذلك , ولا قود . قال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن أهل البغي سألوا النظرة حتى ينظروا في أمورهم ؟ فإن لم يكن ذلك مكيدة , فعليه أن ينظرهم مدة يمكن في مثلها النظر فقط - وهذا مقدار الدعاء , وبيان الحجة فقط , وأما ما زاد على ذلك فلا يجوز ; لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فلم يفسح الله تعالى في ترك قتالهم إلا مدة الإصلاح , فمن أبى قوتل . وأيضا - فإن فرضا على الإمام إنفاذ الحقوق عليهم وتأمين الناس من جميعهم , وأن يأخذوهم بالافتراق إلى مصالح دينهم ودنياهم . ومن قال غير هذا سألناه : ماذا يقول , إن استنظروه يوما أو يومين أو ثلاثة , وهكذا نزيده ساعة ساعة , ويوما يوما حتى يبلغ ذلك إلى انقضاء أعمارهم , وفي هذا إهلاك الدين والدنيا والاشتغال بالتحفظ عنهم , كما هو فرض عليه النظر فيه , فإن حد في ذلك حدا من ثلاثة أيام أو غير ذلك كلف أن يأتي بالدليل على ذلك من القرآن أو من تحديد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك , ولا سبيل له إليه . فإن ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قاضى قريشا على أن يقيم بمكة ثلاثا وجعل أجل المصراة ثلاثا , وخيار المخدوع في البيع ثلاثا , وأن الله تعالى أجل ثمود ثلاثة أيام ؟ قلنا لهم : نعم , هذا حق , وقد جعل الله تعالى أجل المولي أربعة أشهر , وأجل المتوفى عنها زوجها في العدة أربعة أشهر وعشرا فما الذي جعل بعض هذه الأعذار أولى من بعض , فكان ما حكم الله تعالى به , فهو الحق , وكان ما أراده مريد أن يزيده في حكم الله تعالى برأيه وقياسه فهو الباطل - وبالله تعالى التوفيق .

(11/116)


تحصن البغاة في حصن في النساء والصبيان
...
2161 - مسألة : فإن تحصن البغاة في حصن فيه النساء والصبيان , فلا يحل قطع المير عنهم , لكن يطلق لهم منه بمقدار ما يسع النساء والصبيان , ومن لم يكن من أهل البغي فقط , ويمنعون ما وراء ذلك . وجائز قتالهم بالمنجنيق والرمي , ولا يحل قتالهم بنار تحرق من فيه من غير أهل البغي , ولا بتغريق يغرقهم كذلك ; لقول الله تعالى: {وَلا

(11/116)


أقوال العلماء في أمان العبد والمرأة والرجل الحر لأهل البغى
...
2162 - مسألة: إن أمان العبد , والمرأة , والرجل الحر جائز لأهل البغي .
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : إن أمان العبد , والمرأة , والرجل الحر جائز لأهل البغي . وهذا عندنا ليس بشيء ; لأن أمان أهل البغي بأيديهم , متى تركوا القتال حرمت دماؤهم , وكانوا إخواننا , وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم إعطاؤهم الأمان على ذلك , فالأمان والإجارة هاهنا هدر ولغو , وإنما الأمان والإجارة للكافر الذي يحل للإمام قتله - إذا أسروه - واستبقاؤه , لا في مسلم - إن ترك بغيه - كان هو ممن يعطى الأمان ويجار . ولو أن أحدا من أهل البغي أجار كافرا جازت إجارته , كإجارة غيره , ولا فرق ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجير على المسلمين أدناهم". ولو أن أهل البغي دخلوا غزاة إلى دار الحرب فوافقوا أهل العدل فقاتلوا معهم فغنموا , فالغنيمة بينهم على السواء ; لأنهم كلهم مسلمون . ومن قتل من أهل البغي قتيلا من أهل الحرب فله سلبه ; لأنه من جملة المخاطبين بذلك الحكم . ولو ترك أهل الحرب من الكفار , وأهل المحاربة من المسلمين على قوم من أهل البغي , ففرض على جميع أهل الإسلام , وعلى الإمام عون أهل البغي وإنقاذهم من أهل الكفر , ومن أهل الحرب ; لأن أهل البغي مسلمون . وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وأما أهل المحاربة من المسلمين فإنهم يريدون ظلم أهل البغي في أخذ أموالهم , والمنع من الظلم واجب - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فمن ترك المحارب , لم يعن المطلوب فقد أعان المحارب على إثمه وعدوانه , وهذا حرام . ولو أن أهل العدل وأهل البغي توادعوا وتعاطوا الرهان فهذا لا يجوز , إلا مع ضعف أهل العدل على المقاتلة ; لقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فما دمنا قادرين على المقاتلة لهم لم يحل لنا غيرها أصلا , ولسنا في سعة من تركها ساعة

(11/117)


فما فوقها , فإن ضعفنا عن ذلك , فقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فإن قتلوا رهن أهل العدل لم يحل لنا قتل رهنهم ; لأنهم مسلمون غير مقاتلين , ولم يقتلوا لنا أحدا وإنما قتل الرهن غيرهم , وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

(11/118)