المحلى
بالآثار شرح المجلى بالإختصار
كتاب
الحدود
بيان أن الله تعالى لم يصف حداً من العقوبة محدوداً
...
كتاب الحدود
2163 - مسألة: بيان أن الله تعالى لم يصف حداً من العقوبة محدوداً
قال أبو محمد رحمه الله: لم يصف الله تعالى حدا من العقوبة محدودا لا
يتجاوز في النفس , أو الأعضاء , أو البشرة , إلا في سبعة أشياء : وهي :
المحاربة , والردة , والزنى , والقذف بالزنى , والسرقة , وجحد العارية
, وتناول الخمر في شرب أو أكل فقط - وما عدا ذلك فلا حد لله تعالى
محدودا فيه - ولا حول ولا قوة إلا بالله . ونحن - إن شاء الله - ذاكرون
ما فيه الحدود مما ذكرنا بابا بابا - وبالله تعالى التوفيق - ثم نذكر -
إن شاء الله تعالى - أشياء لا حد فيها , وادعى قوم : أن فيها حدودا -
وبالله تعالى نتأيد . ثم نذكر - إن شاء الله تعالى - قبل ذلك أبوابا
تدخل في جميع الحدود , أو في أكثرها , فإن جمعها في كتاب واحد أولى من
تكرارها في كل كتاب من كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق . وهو أيضا -
حصرها لمن يطلبها , وأبين لاجتماعها في مكان واحد , إذ ليس كتاب من كتب
الحدود أولى بهذه الأبواب من سائر كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق .
وهي : الحديث الوارد: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" مع سائر ما
ذكر فيه من الخمر , والسرقة , والنهبة . وهل تقام الحدود في المساجد أم
لا ؟ . وهل الحدود كفارة أم لا ؟ . واجتماع الحدود مع القتل , والتوكيل
في إقامة الحدود ؟ وهل تقام الحدود بعلم الحاكم أم لا ؟ والسجن في
التهمة , والامتحان بالضرب , والاعتراف بالإكراه , وما الإكراه
والاستتابة في الحدود ؟ ومتى يقام الحد على الجارية والغلام ؟ واعتراف
العبد بالحد , والشهادة في الحدود , والتأجيل في الحد والتعافي في
الحدود قبل بلوغها إلى السلطان والترغيب في إمامة من قال : لا يؤاخذ
الله عبدا بأول ذنب - ادرءوا الحدود بالشبهات - الرجوع عن الاعتراف
بالحد ؟ الاعتراض على الحاكم في حكمه بالحد , هل يكشف ويسأل من ذكر عنه
حد أم لا ؟ هل تقام الحدود على الكفار أم لا ؟ كيف حد العبد من حد الحر
؟ كيف حد المكاتب ؟
(11/118)
بيان قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" و
"لا ترجعوا بعدي كفاراً ".
...
2164 - مسألة : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا ترجعوا بعدي
كفاراً
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا ترجعوا بعدي
(11/118)
2165 -
مسألة : هل تقام الحدود في المساجد
أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: أنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن
مفرج نا محمد بن أيوب الصموت نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا
أبو نشيط محمد بن هارون , والحسن بن عرفة , قال أبو نشيط : نا أبو
المغيرة عبد القدوس بن الحجاج نا سعيد بن بشير عن قتادة وقال ابن عرفة
: نا أبو حفص عمرو بن عبد الرحمن الأبار عن إسماعيل بن مسلم - ثم اتفق
قتادة , وإسماعيل - كلاهما عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل
بالولد الوالد".
قال أبو محمد رحمه الله: إسماعيل بن مسلم , وسعيد بن بشير ضعيفان - وبه
- إلى البزار نا يونس بن صالح بن معاذ نا محمد بن عمر الواقدي نا إسحاق
بن حازم عن أبي الأسود عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه: "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى أن تقام الحدود في المساجد". محمد بن عمر
الواقدي ساقط مذكور بالكذب . ومن طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا
محمد بن عبد الله عن العباس بن عبد الرحمن بن حكيم بن حزام قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد" - محمد بن
عبد الله , والعباس : مجهولان . وعن وكيع نا مبارك عن ظبيان بن صبيح
الضبي , قال : قال عبد الله بن مسعود : "لا تقام الحدود في المساجد" -
ظبيان : مجهول . وعن وكيع نا سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن
شهاب قال : أتى عمر بن الخطاب رجل في حد , فقال : أخرجاه من المسجد ثم
اضرباه قال أبو محمد رحمه الله: هذا خبر صحيح , قد صح: "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمر بتطييب المساجد وتنظيفها". وقال تعالى: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فوجب
صون المساجد , ورفعها , وتنظيفها - فما كان من إقامة الحدود فيه تقذير
للمسجد بالدم : كالقتل , والقطع , فحرام أن يقام شيء من ذلك في المسجد
, لأن ذلك ليس تطييبا ; ولا تنظيفا – وكذلك: "أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم برجم ماعز بالبقيع خارج المسجد". وأما ما كان من الحدود جلدا
فقط , فإقامته في المسجد جائز , وخارج المسجد أيضا جائز , إلا أن خارج
المسجد أحب إلينا , خوفا أن يكون من المجلود بول لضعف طبيعته , أو غير
ذلك مما لا يؤمن من المضروب . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ
(11/123)
مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فلو كان إقامة
الحدود بالجلد في المساجد حراما لفصل لنا ذلك مبينا في القرآن على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم . وممن قال بإقامة الحدود بالجلد في المساجد
: ابن أبي ليلى , وغيره - وبه نأخذ - وبالله تعالى التوفيق .
(11/124)
هل الحدود كفارة لمن تقوم عليه أم لا
...
2166 - مسألة : هل الحدود كفارة لمن أقيمت عليه أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: كل من أصاب ذنبا فيه حد فأقيم عليه ما يجب في
ذلك فقد سقط عنه ما أصاب من ذلك - تاب أو لم يتب - حاش المحاربة , فإن
إثمها باق عليه وإن أقيم عليه حدها , ولا يسقطها عنه إلا التوبة لله
تعالى فقط . برهان ذلك : ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى ,
وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق بن إبراهيم , ومحمد بن
عبد الله بن نمير , كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس
الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مجلس , فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا
ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فمن وفى منكم
فأجره على الله , ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له , ومن
أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه ,
وإن شاء عذبه". وبه - إلى مسلم حدثني إسماعيل بن سالم أنا هشيم أنا
خالد - هو الحذاء - عن أبي قلابة عن أبي الأشعث - هو الصنعاني - عن
عبادة بن الصامت قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ
على النساء : "أن لا نشرك بالله شيئا , ولا نسرق , ولا نزني , ولا نقتل
أولادنا , ولا يغتاب بعضنا بعضا - فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن
أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو عقابه , ومن ستره الله عليه فأمره إلى
الله - إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". وأما تخصيصنا المحاربة من جميع
الحدود , فلقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} إلى قوله
تعالى { عذاب عظيم } فنص الله تعالى نصا لا يحتمل تأويلا , على أنهم مع
إقامة هذا الحد عليهم , وأنه لهم خزي في الدنيا , ولهم مع ذلك في
الآخرة عذاب عظيم .
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب استعمال النصوص كلها كما جاءت , وأن لا
يترك شيء منها لشيء آخر وليس بعضها أولى بالطاعة من بعض , وكلها حق من
عند الله تعالى - ولا يجوز النسخ في شيء من ذلك : أما حديث عبادة -
فإنه فضيلة لنا أن تكفر عنا الذنوب بالحد , والفضائل لا تنسخ , لأنها
ليست أوامر , ولا نواهي , وإنما النسخ في الأوامر والنواهي - سواء وردت
بلفظة الأمر والنهي - أو بلفظ الخبر , ومعناه الأمر والنهي . وأما
الخبر المحقق فلا يدخل النسخ فيه , ولو دخل لكان كذبا - وهذا
(11/124)
لا يجوز
أن يظن بشيء من أخبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم . وأما
الآية في المحاربة - فإن وجوب العذاب في الآخرة مع الخزي في الدنيا
بإقامة الحد عليهم : خبر مجرد من الله تعالى , لا مدخل فيه للأمر
والنهي فأمن دخول النسخ في شيء من ذلك - والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن تعلق متعلق بما نا أحمد بن عمر العذري نا
عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن دحيم نا عبد بن حميد
الكشي ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أتبع كان نبيا
أم لا ؟ وما أدري ذو القرنين أنبيا كان أم لا ؟ وما أدري الحدود كفارات
لأهلها أم لا ؟". وبما ثناه أحمد بن عمر العذري نا محمد بن أبي سعيد بن
سختويه الإسفراييني - في داره بمكة - ثنا عبد العزيز بن جعفر بن سعد
أنا أحمد بن زنجويه بن موسى نا داود بن رشيد نا سيف بن هارون عن
إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال:
"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايعت النساء , فمن مات
منا ولم يأت بشيء منهن : ضمن له الجنة , ومن مات منا وأتى بشيء فأقيم
عليه الحد : فحسابه على الله تعالى".
قال أبو محمد رحمه الله: أما حديث أبي هريرة فصحيح السند , وما نعلم له
في وقتنا هذا علة , إلا أن الذي لا نشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يختلف قوله , ولا يقول إلا الحق , وقد قال صلى الله عليه وسلم
بأصح سند مما أوردنا آنفا من طريق عبادة : "أن من أصاب من الزنى ,
والسرقة , والقتل , والغصب : شيئا , فأقيم عليه الحد , فهو كفارة له"
فمن المحال أن يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء قد قطع به ,
وبشر أمته به , وهو وحي من الله تعالى أوحى إليه به . والقول عندنا فيه
: أن أبا هريرة لم يقل أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا
الكلام , وقد سمعه أبو هريرة من أحد المهاجرين , ممن سمعه ذلك الصاحب
من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول البعث , قبل أن يسمع عبادة
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحدود كفارة" فهذا صحيح بأنه
عليه السلام لا يعلم إلا ما علمه الله تعالى , ثم أعلمه بعد ذلك ما لم
يكن يعلمه حينئذ , وأخبر به الأنصار , إذ بايعوه قبل الهجرة , والحدود
حينئذ لم تكن نزلت بعد , لا حين بيعة عبادة ولا قبل ذلك , وإنما نزلت
بالمدينة بعد الهجرة , لكن الله تعالى أعلم رسوله عليه السلام أنه
سيكون لهذه الذنوب حدود , وعقوبات - وإن كان لم يعلمه بها - لكنه أخبره
أنها كفارات لأهلها - هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره - إن صح حديث أبي
هريرة ولم تكن فيه علة . وأما حديث جابر - فساقط لأنه
(11/125)
من رواية
داود بن رشيد - وهو ضعيف . ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في حديث أبي
هريرة الذي تكلمنا فيه آنفا , والأمر كان حينئذ في حديث جابر أبين ,
لأن إسلام جرير متأخر جدا بعد الفتح , لم يدرك قط بيعة النساء التي
كانت قبل القتال , لأن إسلام جرير كان بعد نزول " المائدة " فصار حديث
عبادة قاضيا على كل ذلك , ومخبرا عن الله تعالى ما ليس في سائر الأخبار
: من أن الحدود كفارة لأهلها , حاش ما خصه الله تعالى منها.
(11/126)
2167 -
مسألة : هل تسقط الحدود بالتوبة أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : إن الحدود كلها تسقط بالتوبة - وهذه
رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي , قالها بالعراق ورجع
عنها بمصر - واحتج أهل هذه المقالة : بما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد
بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار نا عبد الرحمن بن مهدي نا
سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن يزيد بن نعيم عن أبيه: "أن ماعز بن
مالك أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقم علي كتاب الله ؟ فأعرض
عنه أربع مرات , ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمه , فلما
مسته الحجارة خرج يشتد , وخرج عبد الله بن أنس من نادي قومه بوظيف حمار
, فضربه فصرعه , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بأمره فقال ألا
تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ؟ يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا
لك". حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا
محمد بن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عمرو بن حماد بن طلحة عن أسباط
بن نصر عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه: "أن امرأة وقع عليها
رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد عن كره نفسها , فاستغاثت برجل
مر عليها وفر صاحبها , ثم مر عليها قوم ذوو عدد , فاستغاثت بهم ,
فأدركوا الذي استغاثت به , وسبقهم الآخر , فأتوا به النبي صلى الله
عليه وسلم فأخبرته : أنه وقع عليها , وأخبره القوم : أنهم أدركوه يشتد
, فقال : إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني , قالت :
كذب , هو الذي وقع علي , فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا به
فارجموه فقام رجل من الناس فقال : لا ترجموه وارجموني أنا الذي فعلت
بها الفعل , فاعترف , فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي وقع عليها , والذي أغاثها , والمرأة , فقال أما أنت فقد غفر الله
لك , وقال للذي أغاثها قولا حسنا فقال له عمر : أرجم الذي اعترف بالزنى
؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا , إنه قد تاب إلى الله تعالى
زاد ابن عمر في روايته لو تابها أهل مدينة يثرب لقبل منهم". نا أبو عمر
أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا
الحارث بن أبي أسامة نا أبو النضر نا أبو معاوية عن
(11/126)
ليث بن
أبي سليم عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي مليح بن أسامة الهذلي
عن واثلة بن الأسقع قال: "شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
وأتاه رجل فقال : يا رسول الله , إني أصبت حدا من حدود الله تعالى ,
فأعرض عنه , ثم أتاه الثانية فأعرض عنه ثم قالها الثالثة فأعرض عنه ,
ثم أقيمت الصلاة , فلما قضى الصلاة أتى الرابعة , فقال : أصبت حدا من
حدود الله فأقم في حد الله قال : ألم تحسن الطهور - أو الوضوء - ثم
شهدت الصلاة معنا آنفا ؟ اذهب فهي كفارتك". ومن طريق أبي بكر بن أبي
شيبة ثنا زيد بن الحباب عن عكرمة بن عمار نا شداد بن عبد الله عن
الباهلي قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال له
رجل : إني أصبت حدا فأقم علي وأقيمت الصلاة فصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المسجد ثم خرج - ومعه الرجل - وتبعته , فقال : يا رسول
الله أقم علي حدي فإني أصبته , فقال : أليس حين خرجت من منزلك توضأت
فأحسنت الوضوء وشهدت معنا الصلاة ؟ قال : نعم , قال : فإن الله قد غفر
لك ذنبك - أو حدك".
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روينا هذا الخبر - وفيه " إني زنيت " كما
ثنا المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي ثنا عبد الله بن إبراهيم
الأصيلي نا محمد بن أحمد الصواف نا أحمد بن هارون بن روح البرذنجي نا
محمد بن عبد الملك الواسطي نا عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن إسحاق
بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله , إني زنيت فأقم علي الحد , ثم أقيمت الصلاة
, فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
قد كفر عنك بصلاتك".
قال أبو محمد رحمه الله وقالوا : قد قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} قالوا : فصح النص من القرآن وصح
الإجماع بأن حد المحاربة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم , فوجب أن تكون
جميع الحدود من : الزنى , والسرقة , والقذف , وشرب الخمر كذلك , لأنها
كلها حدود وقعت التوبة قبل القدرة على أهلها.
قال أبو محمد رحمه الله: هذا كل ما يمكن أن يحتج به أهل هذه المقالة ,
وذهب آخرون إلى أن التوبة لا تسقط الحدود . واحتجوا : بما ناه حمام نا
عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر - هو ابن حماد - نا
مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن هشام الدستوائي نا يحيى بن أبي
كثير عن أبي قلابة عن أبي المهلب أن عمران بن الحصين حدثه أن امرأة من
جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم حبلى من الزنا فقالت:
(11/127)
"إني أصبت
حدا فأقمه علي , فدعا وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل
فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر
بها فرجمت ثم صلى عليها , فقال عمر : تصلي عليها وقد زنت ؟ فقال : لقد
تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم , هل وجدت شيئا هو
أفضل من أن جادت بنفسها ؟". ومن طريق مسلم نا محمد بن المثنى حدثني عبد
الأعلى نا داود بن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري: "أن رجلا من أسلم يقال
له : ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أصبت
فاحشة فأقمه علي فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ثم سأل قومه ؟
فقالوا : ما نعلم به بأسا - فذكر باقي الحديث وفيه - فأمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن نرجمه , فكان الناس فيه فرقتين : قائل يقول :
هلك , لقد أحاطت به خطيئته , وقائل يقول : ما توبة أفضل من توبة ماعز ,
إنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده فقال :
اقتلني بالحجارة , قال : فلبثوا بذلك يومين - أو ثلاثة - ثم جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا لماعز بن
مالك ؟ فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم". ومن طريق مسلم نا محمد
بن عبد الله بن نمير نا بشير بن المهاجر نا عبد الله بن بريدة عن أبيه:
"أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول
الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني , فرده - فذكر الحديث
وفيه - فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله , إني قد زنيت فطهرني ,
وأنه ردها , فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردني كما رددت
ماعزا ؟ فوالله إني لحبلى , قال أما الآن فاذهبي وذكر باقي الخبر -
فلما فطمته أتته بالصبي - وفي يده كسرة خبز - فقالت : هذا يا نبي الله
قد فطمته , وقد أكل الطعام , فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر
بها فحفر إلى صدرها وأمر الناس فرجموها - فأقبل خالد بن الوليد فرمى
رأسها فنضح الدم على وجه خالد , فسبها , فسمع نبي الله صلى الله عليه
وسلم سبه إياها , فقال : مهلا يا خالد , فوالذي نفسي بيده لقد تابت
توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له , ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". قالوا
: فهذا ماعز قد صحت توبته قبل الرجم بإخبار رسول الله صلى الله عليه
وسلم بذلك , وبأنها مقبولة - وهذه الغامدية , والجهينية رضي الله عنهما
- قد تابتا أتم توبة وأصحها , مقبولة من الله تعالى بإخبار النبي عليه
السلام ولم تسقط هذه التوبة عنهم الحد . قالوا : وكذلك أيضا "حد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قذفوا عائشة - رضي الله عنها ؟"
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا في ذلك - كما ذكرنا - وجب أن
ننظر في ذلك
(11/128)
لنعلم
الحق من ذلك [ فنتبعه ] بعون الله تعالى ومنه : فنظرنا في الحديث الذي
احتج به من رأى الحدود ساقطة بالتوبة . فنظرنا في ذلك , فوجدناه مرسلا
, فسقط التعلق به . ثم نظرنا في حديث علقمة بن وائل , فوجدناه لا يصح ,
لأنه من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين , شهد بذلك شعبة , وغيره ,
فسقط . ثم نظرنا في حديث واثلة بن الأسقع , فوجدنا الأول من طريق فيها
ليث بن أبي سليم , وليس بالقوي . وأما حديث الباهلي , فوجدناه من طريق
عكرمة بن عمار , وهو ضعيف جدا . فإن قيل : وقد رويتموه بأن فيه زينب ؟
قلنا : نعم , وفيه من لا يعرف رجاله , ثم أنه لو ثبت دون علة لما كانت
فيه حجة , لأن فيه وجوها تمنع من استعماله : أحدها - أن ممكنا أن يكون
هذا قبل نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان الحكم لإيجاب الحد . فإن
قيل : وممكن أيضا أن يكون بعد نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان
الحكم له ويكون ناسخا لما في حديث ماعز , والغامدية والجهينية ؟ قلنا :
إن الواجب إذا تعارضت الأخبار أن يؤخذ بالزائد والزائد : هو الذي جاء
بحكم لم يكن واجبا في معهود الأصل , وكان معهود الأصل بلا شك : أن لا
حد على أحد - تائبا كان أو غير تائب - فجاء النص : بإيجاب الحدود جملة
, وكانت هذه النصوص زائدة على معهود الأصل , وجاء حديث ماعز ,
والغامدية , والجهينية , فكان ما فيها من إيجاب الحد على التائب زائدا
على ما في الخبر الذي فيه إسقاط الحد عن التائب - هذا لو كان في حديثهم
أن الحد سقط عنه بالتوبة , فكيف وليس هذا فيه ؟ وإنما فيه إسقاط الحد
بصلاته فقط , وهذا ما لا يقولونه [ بل هم يخالفون لهذا الحكم ] فبطل
تعلقهم بهذا الخبر , وبتلك الأخبار جملة - وبالله تعالى التوفيق . فإن
قالوا : هبكم أن حد الزنى قد وجدتم فيه , وفي حد القذف : إقامة الحد
على من تاب , فمن أين لم تسقطوا حد السرقة , وحد الخمر بالتوبة ؟ ولا
نص معكم في إقامتها على التائب منها ؟ قلنا : إن النص قد ورد جملة
بإقامة الحدود في السرقة , والخمر , والزنى , والقذف , ولم يستثن الله
تعالى تائبا من غير تائب , ولم يصح نص أصلا بإسقاط الحد عن التائب ,
فإذا الأمر كذلك فلا يحل أن يخص التائب من عموم أمر الله تعالى بإقامة
الحدود بالرأي , والقياس دون نص ولا إجماع , فهذه عمدتنا في إقامة
الحدود على التائب وغير التائب . وإنما حديث ماعز , والغامدية ,
والجهينية : مؤيد لقولنا في ذلك فقط , ولو لم يأت ما احتجنا إليها مع
الأوامر الواردة بإقامة الحدود , لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من
بدل دينه فاقتلوه". وقوله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب
عام , والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
(11/129)
ومع قوله
تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . ومع
قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . ومع قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه" الحديث . فلم يخص عليه
السلام شيئا من شيء مما أمر بإقامة الحد عليه تائبا من غيره {وما ينطق
عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} {وما كان ربك نسيا} . ثم نظرنا أيضا في
احتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنهم قد أجمعوا على أن التوبة تسقط عذاب
الآخرة - وهو العذاب الأكبر - فإذا أسقطت العذاب الأكبر فأحرى وأوجب أن
تسقط العذاب الأقل , الذي هو الحد في الدنيا فوجدنا هذا كله لازما لكل
من ذكرنا , لأنهم أصحاب قياس - بزعمهم - ولو صح قياس يوما ما من الدهر
لكانت هذه المقاييس أصح قياس في العالم . وأين هذا من قياسهم الفاسد :
الحديد على الذهب في الربا , وغزل القطن على الذهب والفضة في الربا ,
وقياسهم فرج الزوجة على يد السارق , وسائر قياساتهم الفاسدة التي لا
تعقل . وأما نحن فلا يلزمنا هذا , لأن القياس كله باطل لا يحل القول
بشيء منه في دين الله تعالى - والحمد لله رب العالمين . وعذاب الآخرة
غير عذاب الدنيا , وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر , إذ لم يوجب
ذلك نص قرآن , ولا سنة , ولا إجماع . وكثير من المعاصي ليس فيها في
الدنيا حد , كالغصب - ومن قال لآخر : يا كافر - وكأكل لحم الخنزير ,
وعقوق الوالدين , وغير ذلك - وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة
عقاب , بل فيها أعظم العقاب في الآخرة . فصح أن أحكام الدنيا غير
متعلقة بأحكام الآخرة - وبالله تعالى التوفيق . وقد احتجوا بقول الله
تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله تعالى : {غفور رحيم} فوجدناهم لا حجة
لهم في هذه الآية : لأن الله تعالى لم يسقط الحد بالتوبة مطلقة , ولو
أراد ذلك لقال: {إلا الذين تابوا} ولم يقل " من بعد ذلك " فلما قال
تعالى: {من بعد ذلك} بين لنا تعالى أن هذه التوبة لا تكون إلا من بعد
الجلد ثمانين , واستحقاق اسم الفسوق , ورد الشهادة , لا قبل الجلد بنص
القرآن , فإنما سقط بالتوبة بعد الجلد ما عدا الجلد , لأن الجلد قد نفذ
فلا يسقط بعده بالتوبة إلا الفسق , وحكم قبول الشهادة فقط . وأيضا :
فبعد نزول هذه الآية جلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسطح بن
أثاثة , وحسان بن ثابت , وحمنة بنت جحش - فبطل التعلق في إسقاط الحد
بالتوبة المذكورة في الآية . وصح أنه إنما سقط بها ما عدا الحد - وهو
الفسق , ورد الشهادة فقط - فبطل كل ما شغب هؤلاء القوم به - وصح أنه لا
يسقط بالتوبة شيء من الحدود , حاشا حد الحرابة الذي ورد النص بسقوطها
بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط - وأما بالتوبة الكائنة منهم بعد القدرة
عليهم , أو مع القدرة عليهم , فلا
(11/130)
يسقط بذلك
عنهم حد المحاربة أصلا , لأن النص لم يسقط الحد عنهم إلا بالتوبة قبل
القدرة عليهم فقط , وبقي ما عدا ذلك على إنفاذ ما أمر الله تعالى به
فيه - وبالله تعالى التوفيق . قال علي رحمه الله : والدليل عندنا في
ذلك أن من أقر بحد ولم يقل ما هو ؟ فلا شيء عليه أصلا كما فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فإن قال : علي حد فيه الجلد فقط : لم يقم أيضا
جلد , لأنه قد يظن في فعله ذلك أنه حد يوجب جلدا - وليس كما يظن - فإذ
هو ممكن فلا يحل لنا بشرته بإحلاله لنا إياها , لأن تحريم الله تعالى
لها قبل إحلاله الفاسد . ولو أن امرأ قال لآخر : اضربني فقد أحللت لك
بشرتي ؟ لم يحل ضربه أصلا , لأنه ليس له أن يحل من نفسه ما حرم الله
تعالى منها , ولا أن يحرم منها ما أحله الله تعالى . ولو قال من صح
عليه الجلد في القذف , أو الزنى , أو الخمر : قد حرمت عليكم بشرتي ,
لكان كلامه هذرا ولغوا . وكذلك لو أحل لآخر قتل نفسه أو قطع يده أو
أحلت المرأة فرجها لأجنبي . أو حرم الرجل فرجه على امرأته , أو حرمت هي
فرجها عليه , لكان كل ذلك باطلا , ولا حرام إلا ما حرم الله تعالى أو
رسوله عليه السلام , قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فإن قال علي لله تعالى حد يوجب : إما زنا ,
وإما قذفا , وإما شرب خمر , فهذا لم يحقق ولا أقر إقرارا صحيحا - وليس
عليه إلا حد الخمر , لأنه أقل الحدود الواجبة عليه بيقين . ولا يحل أن
يزداد عليه شيء بالشك , فلا يجوز أن يجلد شيئا حتى يتبين ما هو الحد
الذي عليه , ويصفه وصفا تاما .
(11/131)
2167 -
مسألة : السجن في التهمة:
قال أبو محمد رضي الله عنه : قال قوم : بالسجن
في التهمة ؟ واحتجوا : بما ثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن
محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن أبي العوام ثنا أحمد بن
حاتم الطويل ثنا إبراهيم بن خثيم بن عراك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة
: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة احتياطا , أو قال :
استظهارا : يوما وليلة". وبه - إلى قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح حدثني
محمد بن آدم نا ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده "عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه حبس في تهمة , ثم خلى سبيله". ومن طريق عبد
الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة قال:
"أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من قومه في تهمة فحبسهم , فجاء
رجل من قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال : يا محمد ,
على ما تحبس جيرتي ؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ناسا
يقولون : إنك لتنهى عن الشيء وتستخلي به , فقال النبي صلى الله عليه
وسلم ما يقول ؟ فجعلت أعرض بينهما بكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على
قومي
(11/131)
دعوة لا
يفلحون بعده , قال : فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى فهمها ؟ قال
: قد قالوها ؟ وقال قائلها منهم : والله لو فعلتها لكان علي وما كان
عليهم , خلوا له عن جيرانه". وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني
يحيى بن سعيد الأنصاري عن عراك بن مالك قال: "أقبل رجلان من بني غفار
حتى نزلا منزلا بضجنان من مياه المدينة , وعندها ناس من غطفان معهم ظهر
لهم , فأصبح الغطفانيون قد أضلوا بعيرين من إبلهم فاتهموا بهما
الغفاريين , فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أمرهم ,
فحبس أحد الغفاريين , وقال للآخر : اذهب فالتمس ؟ فلم يكن إلا يسيرا
حتى جاء بهما , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الغفاريين - حسبت
أنه المحبوس - استغفر لي ؟ فقال : غفر الله لك يا رسول الله , فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ولك وقتلك في سبيله , قال : فقتل
يوم اليمامة".
قال أبو محمد رحمه الله: وذهب إلى هذا قوم , كما روينا من طريق عبد
الرزاق عن ابن جريج قال : كتب عمر بن عبد العزيز بن عبد الله كتابا
قرأته : إذا وجد المتاع مع الرجل المتهم فقال : ابتعته فاشدده في السجن
وثاقا , ولا تحله بكتاب أحد حتى يأتيه فيه أمر الله تعالى , قال ابن
جريج : فذكرت ذلك لعطاء فأنكره . وذهب آخرون - إلى المنع من الحبس
بالتهمة , كما روينا من طريق عبد الرزاق نا ابن جريج , قال : سمعت عبد
الله بن أبي مليكة يقول : أخبرني عبد الله بن أبي عامر قال : انطلقت في
ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سرقت عيبة لي , ومعنا رجل متهم , فقال
أصحابي : يا فلان اردد عليه عيبته ؟ فقال : ما أخذتها : فرجعت إلى عمر
بن الخطاب فأخبرته , فقال : من أنتم ؟ فعددتهم , فقال : أظنها صاحبها
للذي أتهم ؟ فقلت : لقد أردت يا أمير المؤمنين أن تأتي به مصفدا , فقال
عمر : أتأتي به مصفودا بغير بينة , لا أكتب لك فيها , ولا أسألك عنها ,
وغضب وما كتب لي فيها , ولا سأل عنها , فأنكر عمر - رضي الله عنه - أن
يصفد أحد بغير بينة.
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك فوجدنا الأحاديث المذكورة لا
حجة في شيء منها , لأن إبراهيم بن خثيم ضعيف , وبهز بن حكيم ليس بالقوي
, وحديث عراك مرسل , ثم لو صح لكان فيه الدليل على المنع من الحبس
لاستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك . فإن ذكروا حديث:
"المرأة الغامدية التي قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طهرني , قال
: ويحك , ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه , قالت : لعلك تردني كما رددت
ماعز بن مالك , قالت : إني حبلى من الزنى , قال : أثيب أنت ؟ قالت :
نعم , قال : فلا نرجمنك حتى تضعي ما في بطنك , قال : فكفلها رجل من
الأنصار حتى وضعت , فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد
وضعت الغامدية قال : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه ؟
فقال رجل من الأنصار : إلي رضاعه , فرجمها".
(11/132)
قال أبو
محمد رحمه الله: فهذا لا حجة لهم فيه , لأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يسجنها ولا أمر بذلك , لكن فيه : أن الأنصاري تولى أمرها
وحياطتها فقط .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن ذكروا قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ
فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فإن هذا حكم منسوخ بإجماع الأمة . قال علي
رحمه الله : فإذ لم يبق لمن رأى السجن حجة , فالواجب طلب البرهان على
صحة القول الآخر , فنظرنا في ذلك فوجدنا من قال بسجنه لا يخلو من أحد
وجهين : إما أن يكون متهما لم يصح قبله شيء , أو يكون قد صح قبله شيء
من الشر , فإن كان متهما بقتل , أو زنا , أو سرقة , أو شرب , أو غير
ذلك : فلا يحل سجنه , لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم
والظن فإن الظن أكذب الحديث" وقد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه
وسلم المتهمون بالكفر - وهم المنافقون - فما حبس رسول الله صلى الله
عليه وسلم منهم أحدا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/133)
حكم من
أصاب حداً مرتين فصاعداً
...
2169 مسألة : فيمن أصاب حدا مرتين فصاعدا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في ذلك , كمن زنى مرتين فأكثر قبل
أن يحد في ذلك , أو قذف مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو شرب الخمر
مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد , أو سرق مرتين فأكثر قبل أن يحد في
ذلك , أو جحد عارية مرتين فأكثر , قبل أن يقام عليه الحد في ذلك أو
حارب مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد في ذلك ؟ فقالت طائفة : ليس في
كل ذلك إلا حد واحد فقط - وقالت طائفة : عليه لكل مرة حد .
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب أن ننظر في ذلك ؟ لنعلم الحق فنتبعه -
بعون الله تعالى - فنظرنا في قول من قال : لكل فعلة حد ؟ فوجدناهم
يحتجون بقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ووجدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد
بن شعيب أنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن سهل بن أبي صالح
عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه , ثم إذا شرب
فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه" وذكر باقي الخبر قالوا : فوجب بنص كلام
الله تعالى , وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على من زنى الجلد المأمور
به , وعلى من سرق قطع يده , وعلى من قذف الجلد المأمور به وعلى من شرب
الخمر الجلد المأمور به , فاستقر ذلك فرضا عليه , فإذ ذلك كذلك فبيقين
ندري أنه متى زنى ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا سرق ثانية وجب
(11/133)
عليه
بالسرقة الثانية قطع ثان , وإذا قذف ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا شرب
ثانية وجب عليه حد ثان ولا بد - وهكذا في كل مرة.
قال أبو محمد رحمه الله: أما قولهم : إن الله تعالى قال: {الزانية
والزاني} الآية وقوله تعالى: {والسارق والسارقة} الآية. وقوله تعالى:
{والذين يرمون المحصنات} الآية. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه" فكل ذلك
حق , ويكفر من أنكر لفظه ومعناه . وأما قولهم : فاستقر ذلك فرضا عليه ,
فهذا وهم أصحابنا , ولسنا نقول بهذا , لكن نقول : إنه لا يجب شيء من
الحدود المذكورة بنفس الزنى , ولا بنفس القذف , ولا بنفس السرقة , ولا
بنفس الشرب , لكن حتى يستضيف إلى ذلك معنى آخر - وهو ثبات ذلك عند
الحاكم بإقامة الحدود , إما بعلمه , وإما ببينة عادلة , وإما بإقراره ,
وأما ما لم يثبت عند الحاكم فلا يلزمه حد , لا جلد , ولا قطع أصلا .
برهان ذلك : هو أنه لو وجبت الحدود المذكورة بنفس الفعل لكان فرضا على
من أصاب شيئا من ذلك أن يقيم الحد على نفسه ليخرج مما لزمه , أو أن
يعجل المجيء إلى الحاكم فيخبره بما عليه ليؤدي ما لزمه فرضا في ذمته ,
لا في بشرته , وهذا أمر لا يقوله أحد من الأمة كلها بلا خلاف . أما
إقامته الحد على نفسه فحرام عليه ذلك بإجماع الأمة كلها , وأنه لا خلاف
في أنه ليس لسارق أن يقطع يد نفسه , بل إن فعل ذلك كان عند الأمة كلها
عاصيا لله تعالى , فلو كان الحد فرضا واجبا بنفس فعله لما حل له الستر
على نفسه , ولا جاز له ترك الإقرار طرفة عين , ليؤدي عن نفسه ما لزمه .
وإنما أمر الله تعالى ورسوله - عليه السلام - الأئمة وولاتهم بإقامة
الحدود المذكورة على من جناها , وبيقين الضرورة ندري أن الله تعالى لم
يأمرهم من ذلك إلا إذا ثبت ذلك عندهم , وصح يقينا أن لكل زنا يزنيه ,
وكل قذف يقذفه , وكل شرب يشربه , وكل سرقة يسرقها , وكل حرابة يحارب ,
وكل عارية يجحدها قبل علم الإمام بذلك , فلم يجب عليه فيه شيء , لكنا
نقول : إن الله تعالى أوجب على من زنى مرة , أو ألف مرة - إذا علم
الإمام بذلك - جلد مائة , وعلى القاذف , والسارق , والمحارب , وشارب
الخمر , والجاحد مرة , وألف مرة حدا واحدا , إذا علم الحاكم ذلك كله .
قال أبو محمد رحمه الله: وأما إن وقع على من فعل شيئا من ذلك تضييع من
الإمام , أو أميره لغير ضرورة , ثم شرع في إقامة الحد فوقعت ضرورة منعت
من إتمامه فواقع فعلا آخر من نوع الأول , فقولنا , وقول أصحابنا سواء :
يستتم عليه الحد الأول , ثم يبتدئ في الثاني ولا بد . برهان ذلك : أن
الحد كله قد وجب بعلم الإمام , أو
(11/134)
أميره مع
قدرته على إقامة جميع الحد , ثم أحدث ذنبا آخر , فلا يجزي عنه حد قد
تقدم وجوبه.
قال أبو محمد رحمه الله: ونسأل المخالفين عن قولهم فيمن زنى مرات , أو
شرب مرات , أو قذف مرات إنسانا واحدا , أو سرق مرات , أو حارب مرات -
وعلم الإمام كل ذلك - وقدر على إقامة الحدود عليه , ثم لم يحد حتى واقع
ما ذكرنا , فلم يوجبوا عليه إلا حدا واحدا , ما الفرق بين هذا وبين قول
من قال منهم : إن أفطر عامدا فوطئ أياما من شهر رمضان أن عليه لكل يوم
كفارة ؟ ومن حلف أيمانا كثيرة على أشياء مختلفة فعليه لكل يمين كفارة ؟
ومن قال منهم : إن ظاهر مرات كثيرة فإن لكل ظهار كفارة ؟ وقولهم كلهم :
إن من أصاب - وهو محرم - صيودا فعليه لكل صيد جزاء بل قال بعضهم : إنه
لو أصاب صيدا واحدا - وهو قارن - فعليه جزاءان . فإن ادعوا في كفارة
الإفطار في رمضان إجماعا : ظهر جهل من ادعى ذلك , أو كذبه , لأن زفر بن
الهذيل وغيره - منهم - يرى أن من أفطر بوطء أو غيره جميع أيام شهر
رمضان - ولم يكفر - فليس عليه إلا كفارة واحدة فقط - وهذا هو الواجب -
على قول سعيد بن المسيب - لأن المحفوظ عنه أن شهر رمضان كله صوم واحد ,
من أفطر يوما منه فعليه قضاء جميعه يقضي شهرا , ولا بد , ومن أفطره كله
فعليه شهر واحد أيضا ولا مزيد .
(11/135)
حكم من
أصاب حداً ثم لحق بالمشركين أو ارتد
...
2170 - مسألة : فيمن أصاب حدا ثم لحق بالمشركين أو ارتد:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا
أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد ثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي
إسحاق السبيعي عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: "إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه".
قال أبو محمد رحمه الله: فبهذا نأخذ , والعبد هاهنا كل حر وعبد , فكلنا
عبيد الله تعالى , ومن لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب , هذا أقل
أحواله إن سلم من الردة بنفس فراقه جماعة الإسلام , وانحيازه إلى أرض
الشرك : بما حدثنا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري ثنا خلف بن
القاسم ثنا أحمد بن سعد المهراني ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا أبو
معاوية محمد بن خازم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن
جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين".
قال أبو محمد رحمه الله: وسنستقصي الكلام - إن شاء الله تعالى - في هذا
في " كتاب الردة " من هذا الكتاب . فإن قال قائل : إنما ذكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم هاهنا مع ذكر
(11/135)
العبد
الآباق , فصح أنه إنما عنى بذلك المماليك فقط ؟ قلنا وبالله تعالى
التوفيق : ليس الإباق لفظا موقوفا على المماليك الذين لنا فقط , بل كل
من هرب عن سيده ومالكه فهو آبق , والله تعالى مالك الجميع , والكل
عبيده ومماليكه , فمن هرب عن جماعة الله تعالى , وعلى دار دين الله
تعالى إلى دار أعداء الله تعالى المحاربين لله عز وجل فهو آبق . برهان
ذلك : قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إذ أبق
إلى الفلك المشحون} فقد سمى الله تعالى فعل يونس رسوله صلى الله عليه
وسلم - وهو حر بلا خلاف - إذ فر عن أمر ربه تعالى إباقا - فصح أن
الإباق لكل حر وعبد - وبالله تعالى التوفيق . حدثنا عبد الله بن ربيع
ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن قدامة عن جرير عن
المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال : كان جرير بن عبد الله يحدث عن النبي
صلى الله عليه وسلم: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وإن مات مات كافرا
؟ فأبق غلام لجرير فأخذه فضرب عنقه". قال أبو محمد رحمه الله: ولا يسقط
عن اللاحق بالمشركين لحاقه بهم شيئا من الحدود التي أصابها قبل لحاقه ,
ولا التي أصابها بعد لحاقه , لأن الله تعالى أوجب الحدود في القرآن على
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أرسلها ولم يسقطها . وكذلك لم
يسقطها عن المرتد , ولا عن المحارب , ولا عن الممتنع , ولا عن الباغي ,
إذا قدر على إقامتها عليهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . ونحن نشهد
بشهادة الله تعالى أن الله عز وجل لو أراد أن يستثني أحدا من هؤلاء لما
سكت عن ذلك إعناتا لنا , ولا أهمله , ولا أغفله , فإذ لم يعلمنا بذلك
فنحن نقسم بالله تعالى أن الله تعالى ما أراد قط إسقاط حد أصابه لاحق
بالشرك قبل لحاقه , أو أصابه بعد لحاقه بهم , أو أصابه مرتد قبل ردته
أو بعدها , وأن من خالف هذا فمخطئ عند الله تعالى بيقين لا شك فيه .
وقد صح النص والإجماع بإسقاطه , وهو ما أصابه أهل الكفر ما داموا في
دار الحرب قبل أن يتذمموا أو يسلموا فقط , فهذا خارج بفعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم في كل من أسلم منهم , فلم يؤاخذهم بشيء مما سلف لهم
من قتل , أو زنا , أو قذف , أو شرب خمر , أو سرقة , وصح الإجماع بذلك .
فإن قال قائل : فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقال تعالى: {وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. فصح بهذا أن المرتد من
الكفار بلا شك فإذ هو منهم فحكمه حكمهم . وذكروا من طريق مسلم حدثنا
محمد بن المثنى ثنا الضحاك - يعني أبا عاصم النبيل - أنا حيوة بن شريح
ثنا يزيد بن أبي حبيب عن شمامة المهري ثنا مضر ثنا عمرو بن العاص في
سياقة الموت يبكي طويلا , فذكر الحديث , وفيه قال فلما جعل الله
الإسلام في قلبي أتيت رسول الله
(11/136)
صلى الله
عليه وسلم فقلت: "ابسط يمينك فلأبايعك , فبسط يمينه , فقبضت يدي فقال :
ما لك يا عمرو ؟ فقلت : أردت أن أشترط , فقال : تشترط ماذا ؟ قلت : أن
يغفر لي , قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله , وأن الهجرة تهدم
ما قبلها , وأن الحج يهدم ما قبله". وذكر باقي الكلام ومن طريق مسلم
حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون , لإبراهيم بن دينار - واللفظ لإبراهيم -
قال : ثنا حجاج - هو ابن محمد - عن ابن جريج أخبرني يعلى بن مسلم : أنه
سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس: "أن ناسا من أهل الشرك قتلوا
فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا :
إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن , ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ؟ فنزل:
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى
قوله {يلق أثاما} , و {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية } .
قال أبو محمد رحمه الله: تمام الآية الأولى إلى قوله {حسنات} . والأخرى
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} . وكل هذا حق ولا حجة
لهم فيه بل عليهم على ما نبين - إن شاء الله تعالى . أما قول الله
تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا
قَدْ سَلَفَ} الآية , فنعم , هكذا نقول , ولم نخالفهم في هذه الآية ,
ولا هي مسألتنا , وإنما مسألتنا : هل تقام عليهم الحدود السالفة أم لا
؟ وليس في هذه الآية من هذا حكم أصلا لا بنص من القرآن , ولا من السنة
, وأن التائب منا مغفور له , وأن ماعزا مغفور له والغامدية , والجهينية
: مغفور لهما بلا شك , ولم تسقط عنهم مغفرة الله تعالى لهم ذنبهم : حد
الله تعالى الواجب في الدنيا , وإنما أسقطت مغفرة الله تعالى عنهم عذاب
الآخرة فقط , ولم يسقط عنهم الحد بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليهم مع علمه صلى الله عليه وسلم أنه مغفور لهم أقام عليهم حد الزنى
الذي قد غفره الله تعالى لهم . وقد جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم
مسطح بن أثاثة في القذف وهو بدري مغفور له وجلد النعمان في الخمر وهو
بدري مغفور له , وجلد عمر - رضي الله عنه - بحضرة الصحابة - رضي الله
عنهم - قدامة بن مظعون وهو بدري مغفور له , كل ما فعل في الخمر , ولو
تمت الشهادة على المغيرة لحده وهو بدري مغفور له ما قد فعل - فصح أن
المغفرة من الله تعالى لا تسقط الحدود الواجبة في الدنيا , ومن خالف
هذا وقال : إن التوبة تسقط الحدود كلها خالف حكم رسول الله صلى الله
عليه وسلم الذي ذكرنا , وقد تقصينا هذا في باب مفرد لذلك قبل هذا
بأبواب يسيرة . وأما قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فلا حجة لهم في هذا أصلا , لأنه ليس فيها إسقاط
الحدود على من أبق إليهم , أو ارتد , وإنما فيها : أن المرتد من الكفار
, وهذا لا شك
(11/137)
فيه عند
مسلم . فإن قالوا : بلى , ولكن لما كان منهم حكم له بحكمهم ؟ قلنا :
لهم هذا واضح , وبرهان ذلك : إجماعكم معنا على أن المرتد لا يقر على
ردته , بخلاف المشرك الكتابي الذي يقر على كفره إذا أدى الجزية صاغرا
وتذمم , وأنه لا يقبل من المرتد جزية أصلا عندكم , وأنه لا تنكح
المرتدة بخلاف المشركة الكتابية , وأنه لا تؤكل ذبيحة المرتد بخلاف
المشرك الكتابي , ولا يسترق المرتد إن سبي كما يسترق المشرك إن سبي -
فقد أقررتم ببطلان قياسكم الفاسد فأبطلتم أن يقاس المرتد على الكافر في
شيء من هذه الوجوه , ويلزمكم أن لا تقيسوه عليهم في سقوط الحدود , فهو
أحوط لقياسكم , ولاح أنهم في هذه المسألة - لا النص من القرآن والسنة
اتبعوا , ولا القياس طردوا , ولا تعلقوا بشيء أصلا - وبالله تعالى
التوفيق . وصح أن قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط -
وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين . فإن ادعوا أن المرتد لا تقبل
منه جزية , ولا تؤكل ذبيحته , ولا يسترق إجماعا : دل ذلك على جهل من
ادعى ذلك أو كذبه , فقد صح عن بعض السلف : أخذ الجزية منهم , وعن بعض
الفقهاء : أكل ذبيحته إن ارتد إلى دين صابئ . وأبو حنيفة وأصحابه
يقولون : إن المرتدة إذا لحقت بأرض الحرب سبيت واسترقت ولم تقتل , ولو
أنها هاشمية أو عبشمية . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا
الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل : أن عاملا لعمر بن
عبد العزيز كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل أسلم ثم ارتد ؟ فكتب إليه
عمر بن عبد العزيز : أن اسأله عن شرائع الإسلام , فإن كان قد عرفها
فاعرض عليه الإسلام , فإن أبى فاضرب عنقه , وإن كان لم يعرفها فغلظ
عليه الجزية ودعه . قال معمر : وأخبرني قوم من أهل الجزيرة : أن قوما
أسلموا ثم لم يمكثوا إلا قليلا حتى ارتدوا ؟ فكتب فيهم ميمون بن مهران
إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر بن عبد العزيز : أن رد عليهم الجزية
ودعهم . وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما حديث عمرو بن العاص فهو عليهم أعظم حجة ,
لأن فيه تسوية النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والهجرة والحج في
أن كل واحد منها يهدم ما قبله , وهم لا يختلفون - ولا أحد نعلمه - في
أن الحج لا يسقط حدا أصابه المرء قبل حجه ولم يتب منه , ولم تطل مدته
دونه , فمن الباطل أن يتحكموا في حكم الله تعالى على لسان رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم فيحملوا قوله عليه السلام: "إن الإسلام يهدم ما
قبله" على أن الإسلام يسقط
(11/138)
الحدود
التي واقعها العبد قبل إسلامه , ويجعل الحج لا يسقطها , وكلا الأمرين
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجيئا واحدا , وأن هذا الخبر
ضد قولهم في هذه المسألة , وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إنما أخبر أن الإسلام يهدم ما قبله , وأن الهجرة تهدم ما قبلها , وأن
الحج يهدم ما قبله , فقالوا هم : إن الردة إلى الكفر تهدم ما قبلها من
الحدود الواجبة قياسا للكفر على الإسلام , وأن الهجرة إلى الشيطان ,
واللحاق بدار الكفر وأهل الحرب , تهدم ما قبلها من الحدود , قياسا على
الهجرة إلى الله تعالى وإلى دار الإسلام , وأن الحج لا يهدم ما قبله ؟
وهذا عين العناد والخلاف والمكابرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما حديث عمر فإنه لم يتكلم قط في ذلك الخبر في ثبات الحدود أو سقوطها
, وإنما تكلم في المغفرة . وإذا قلنا : إن مغفرة الله تعالى للذنوب لا
تسقط الحدود الواجبة في تلك الذنوب إلا حيث صح النص , والإجماع
بإسقاطها فقط , وليس ذلك إلا في الحربي الكافر يبتدئ الإسلام فقط .
ونحن نقول : إن الإسلام والهجرة الصادقة إلى الله تعالى ورسوله عليه
السلام وأن الحج المبرور يهدم ما قبله من الذنوب , ومن صفة كل ما ذكرنا
من الإسلام الحسن , والهجرة الصادقة - والحج المبرور أن يتوب صاحب هذه
الحال عن كل ذنب سلف قبله . برهان ذلك : ما حدثنا به عبد الرحمن بن عبد
الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا خلاد بن
يحيى نا سفيان بن منصور , والأعمش , كلاهما عن أبي وائل عن عبد الله بن
مسعود قال : "قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنؤاخذ بما
عملنا في الجاهلية ؟ قال : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في
الجاهلية , ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر".
قال أبو محمد رحمه الله: فحكم الإحسان في الإسلام هو التوبة من كل ذنب
أسلفه أيام كفره , وأما من أصر على معاصيه : فما أحسن في إسلامه بل
أساء فيه , وكذلك من لم يهجر ما نهى الله تعالى عنه , فليس تام الهجرة
- وكل حج أصر صاحبه على المعاصي فيه فلم يوف حقه من البر , فليس مبرورا
- وبالله تعالى التوفيق .
(11/139)
الاستتابة في الحدود وترك السجن
...
2171 - مسألة : الاستتابة في الحدود وترك سجنه:
حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا
ابن جريج قال : حضرت عبد العزيز بن عبد الله جلد إنسانا الحد في فرية ,
فلما فرغ من ذلك قال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن ربيعة :
إن من الأمر أن يستتاب عند ذلك , فقال عبد العزيز للمجلود : تب ,
فحسبته أنه قال : أتوب إلى الله . قال ابن جريج : وأخبرني بعض علماء
أهل المدينة أنهم لا يختلفون أنه يستتاب كل من عمل عمل قوم لوط , أو
زنى , أو افترى , أو شرب , أو سرق , أو حارب , قال عبد الرزاق :
وأخبرني أبو بكر
(11/139)
عن غير
واحد عن ابن المسيب أنه قال : سنة الحد أن يستتاب صاحبه إذا فرغ من
جلده , قال سعيد بن المسيب : إن قال : قد تبت - وهو غير رضي - لم تقبل
شهادته.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول , لأن التوبة فرض من الله تعالى
على كل مذنب , ولأن الدعاء إلى التوبة فرض على كل مسلم قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}
الآية . وإذا كان هذا الإصرار على الذنب حراما بإجماع الأمة كلها
المتيقن : فالتوبة والإقلاع فرض بإجماع الأمة كلها , لا خلاف في ذلك ,
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما كانت التوبة من سبيل الله تعالى المفترض
سلوكها وكانت من الخير والمعروف : كان فرضا على كل مسلم أن يدعو إليها
بالنصوص التي ذكرنا , واستتابة المذنب قبل إقامة الحد عليه واجبة ,
لقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
فالمسارعة إلى الفرض فرض , فإن لم يستتبه الإمام , أو من حضره إلا حتى
أقيم عليه الحد , فواجب أن يستتاب بعد الحد - على ما ذكرنا - فإن لم
يتب فأقيم عليه استتيب , فإن تاب أطلق , ولا سبيل عليه بحبس أصلا ,
لأنه قد أخذ حق الله تعالى منه الذي لا حق له قبله سواه , فالزيادة على
ذلك تعد لحدود الله تعالى , وهذا حرام .
(11/140)
2172 -
مسألة:حكم من قال لا أتوب
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قال : لا أتوب , فقد أتى منكرا , فواجب أن
يعزر على ما نذكره في " كتاب التعزير " إن شاء الله تعالى , لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع
فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". فيجب أن
يضرب أبدا حتى يتوب , هذا إن صرح بأن لا يتوب , فإذا أدى ذلك إلى منيته
, فذلك عقيرة الله , وقتيل الحق , لا شيء على متولي ذلك , لأنه أحسن
فيما فعل به , وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ
سَبِيلٍ} فإن سكت ولم يقل : أتوب , ولا : لا أتوب , فواجب حبسه وإعادة
الاستتابة عليه أبدا حتى ينطق بالتوبة , فيطلق . برهان ذلك : أنه قد صح
منه الذنب , ووجبت عليه التوبة , ولا تعرف توبته إلا بنطقه بها , فهو
ما لم ينطق بها وبالإصرار : فممكن أن يتوب في نفسه , وممكن أن لا يتوب
, فلما كان كلا الأمرين ممكنا لم يحل ضربه , لأنه لم يأت بمنكر تيقن
أنه أتى به , ولم يجز تسريحه , لأن فرضا عليه دعاؤه إلى التوبة حتى
يتوب , ولا سبيل إلى إمساكه - وبالله تعالى التوفيق وهكذا أبدا متى تاب
ثم واقع الذنب أو غيره , فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خبران مرسلان في أنه استتاب السارق بعد قطع يده : كما حدثنا حمام
(11/140)
نا ابن
مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج , وسفيان
الثوري , ومعمر , قال ابن جريج , وسفيان , كلاهما : عن أبي خصفة , عن
محمد بن عثمان بن ثوبان , وقال معمر : عن أيوب السختياني , قال أيوب ,
وابن ثوبان : "أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل سرق شملة فقيل
يا رسول الله هذا سرق ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما إخاله ,
أسرقت ؟ قال : نعم , قال : فاذهبوا فاقطعوا يده , ثم احسموها , ثم
ائتوني به , فأتوه به , فقال : إني أتوب إلى الله , فقال : اللهم تب
عليه" . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: "قطع رجلا ثم أمر به فحسم قال له تب إلى الله
تعالى ؟ فقال : أتوب إلى الله تعالى , فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إن السارق إذا قطعت يده وقعت في النار , فإن عاد تبعها , وإن تاب
استشالها". قال عبد الرزاق يقول استشالها استرجعها.
قال أبو محمد رحمه الله: هذان مرسلان ولا حجة في مرسل , وإنما الحجة
فيما أوردنا من النصوص قبل , وإنما أوردناهما لئلا يموه مموه بما فيهما
من الاستتابة بعد القطع - وبالله تعالى التوفيق.
(11/141)
2173 ـ
مسألة : الامتحان في الحدود , وغيرها : بالضرب , أو السجن أو التهديد ؟
قال علي رحمه الله : لا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب , ولا
بسجن , ولا بتهديد , لأنه لم يوجب ذلك قرآن , ولا سنة ثابتة , ولا
إجماع , ولا يحل أخذ شيء من الدين , إلا من هذه الثلاثة النصوص بل قد
منع الله تعالى من ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" . فحرم الله تعالى
البشر , والعرض , فلا يحل ضرب مسلم , ولا سبه إلا بحق أوجبه القرآن ,
أو السنة الثابتة . وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا
مِنْ رِزْقِهِ} فلا يحل لأحد أن يمنع مسلما من المشي في الأرض بالسجن
بغير حق أوجبه قرآن أو سنة ثابتة . وأما من صح قبله حق ولواه ومنعه ,
فهو ظالم قد تيقن ظلمه , فواجب ضربه أبدا حتى يخرج مما عليه , لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن
استطاع" ولأمره عليه السلام بجلد عشرة فأقل فيما دون الحد على ما نذكره
في " باب التعزير " إن شاء الله تعالى , وإنما هذا فيما صح أنه عنده أو
يعلم مكانه , لما ذكرنا . وأما من كلف إقرارا على غيره فقط - وقد علم
أنه يعلم الجاني - فلا يجوز تكليفه ذلك , لأنها شهادة , ومن كتم
الشهادة فإنه فاسق , لقول الله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ
وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . فإذ هو فاسق آثم , فلا
ينتفع بقوله , لا يحل قبول شهادته حينئذ , وهو مجرح بذلك أبدا ما لم
يتب , فلا
(11/141)
يحل أن
يهدد أحد , ولا أن يروع بأن يبعث إلى ظالم يعتدي عليه - وبالله تعالى
التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله: ولا خلاف في أن كل هذا حرام في
الذمي كما هو في المسلم , فإن ضرب حتى أقر , فقد جاء عن بعض السلف في
هذا : ما حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن
وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب : أن طارقا كان
جعل ثعلبا الشامي على المدينة يستخلفه , فأتى بإنسان اتهم بسرقة , فلم
يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة , فأرسل إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب
فاستفتاه ؟ فقال ابن عمر : لا تقطع يده حتى يبرزها .
قال أبو محمد رحمه الله: أما إن لم يكن إلا إقراره فقط فليس بشيء , لأن
أخذه بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , وقد صح
تحريم بشرته ودمه بيقين , فلا يحل شيء من ذلك إلا بنص أو إجماع فإن
استضاف إلى الإقرار أمر يتحقق به يقينا صحة ما أقر به - ولا يشك في أنه
صاحب ذلك - فالواجب إقامة الحد عليه , وله القود - مع ذلك - على من
ضربه - السلطان كان أو غيره - لأنه ضربه ظالما له دون أن يجب عليه ضرب
- وهو عدوان - وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الآية , وليس ظلمه , وما وجب عليه من حد الله
تعالى , أو لغيره , بمسقط حقه عند غيره في ظلمه له , بل يؤخذ منه ما
عليه , ويعطي هو من غيره . وهكذا قال مالك , وغيره , في السارق يمتحن
فيخرج السرقة بعينها : أن عليه القطع إذا كانت مما يقطع فيه , إلا أن
يقول : دفعها إلي إنسان أدفعها له , وإنما اعترفت لما أصابني من الضرب
: فلا يقطع . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا صحيح , وبه يقول . وأما
البعثة في المتهم وإيهامه دون تهديد ما يوجب عليه الإقرار فحسن واجب :
"كبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف اليهودي - الذي ادعت
الجارية التي رض رأسها - فسيق إليه فلم يزل به - عليه السلام - حتى
اعترف فأقاد منه". وكما فعل علي بن أبي طالب إذ فرق بين المدعى عليهم
القتل وأسر إلى أحدهم , ثم رفع صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه قد أقر ,
ثم دعا بالآخر فسأله فأقر , حتى أقروا كلهم : فهذا حسن , لأنه لا إكراه
فيه , ولا ضرب . وقد كره هذا مالك , ولا وجه لكراهيته , لأنه ليس فيه
عمل محظور , وهو فعل صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ينكر ذلك ,
وإنما الكره . ما حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد
الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار
نا يحيى بن سعيد القطان نا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبيه عن
الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من كلام يدرأ عني
سوطا أو سوطين عند سلطان إلا تكلمت به.
(11/142)
وعن شريح
أنه قال : السجن كره , والوعيد كره , والقيد كره , والضرب كره .
وقال أبو محمد رحمه الله: كل ما كان ضررا في جسم , أو مال , أو توعد به
المرء في ابنه , أو أبيه , أو أهله , أو أخيه المسلم , فهو كره , لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا
يسلمه". ولما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد
القطان - عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
(11/143)
2174 -
مسألة : الشهادة على الحدود:
قال علي : نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ
نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن علي بن
كليب عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يأمر بالشهود إذا شهدوا على
السارق أن يقطعوه يلون ذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ليس هذا بواجب , لأنه لا يوجبه قرآن , ولا سنة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة , لكن طاعة الإمام أو أميره
واجبة , فإذا أمر الإمام أو أميره الشهود , أو غيرهم أن يقطعه لزمتهم
الطاعة وبالله تعالى التوفيق . وبه - إلى وكيع نا إسرائيل عن جابر
الجعفي عن الشعبي في رجلين شهدا على ثلاثة أنهم سرقوا , قال : يقطعون .
قال علي رحمه الله : وهكذا نقول - ولو شهد عدلان على ألف رجل , أو أكثر
, بقتل , أو بسرقة , أو بحرابة , أو بشرب خمر , أو بقذف : لوجب القود ,
والقطع , والحد - في كل ذلك على جميعهم بشهادة الشاهدين - ولا فرق بين
شهادتهما عليهم مجتمعين , وبين شهادتهما على كل واحد منهم على انفراده
.
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن عدلين شهدا على عدول بشيء مما ذكرنا
وقال المشهود عليهم : نشهد عليهم بكذا وكذا , مثل ما شهد به الشاهدان
عليهم أو شيئا آخر ؟ لم يلتفت إلى شهادة المشهود عليهم أصلا - ووجب
إنفاذ الحدود والحقوق عليهم بشهادة السابقين إلى الشهادة . برهان ذلك :
أن المشهود عليهم بما ذكرنا قد بطلت عدالتهم , وصحت جرحتهم بشهادة
العدلين عليهم بما شهدا به , مما يوجب الحد , فإن من ثبت عليه ما يوجب
الحد , أو بعض المعاصي التي لا توجب حدا , كالغصب , وغيره : فهو مجرح
فاسق بيقين , ولا شهادة لمجرح فاسق أصلا . فلو أن المشهود عليهم صحت
توبتهم بعد ما كان منهم : وجب بذلك أن تعود عدالتهم , فإذا كان ذلك
كذلك , فإن الشهادتين معا مقبولتان , وينفذ على كلا الطائفتين شهدت به
عليها الأخرى , إلا أن كلتا الشهادتين شهادة واجبة قبولها بنص القرآن
والسنة
(11/143)
في أمره
تعالى بالحكم بشهادة العدول - وبالله تعالى التوفيق . فإن شهدت كلتا
الطائفتين على الأخرى معا لم تسبق إحدى الشهادتين الأخرى : إما عند
حاكمين , وإما في عقدين عند حاكم واحد , فهما أيضا شهادتان قائمتان
صحيحتان , فإن كلتا الشهادتين تبطل بيقين لا شك فيه , لأنه ليست
إحداهما بأولى بالقبول من الأخرى , فلو قبلناهما معا , لكنا قد صرنا
موقنين بأننا ننفذ الشهادة الآن دأبا حكما بشهادة فساق , لأن كل شهادة
منهما توجب الفسق والجرحة على الأخرى , والمنع من قبول الشهادة الأخرى
. ولو حكمنا بإحدى الشهادتين على الأخرى مطارفة لكان هذا عين الظلم
والجور , إذ لم يوجب ترجيح إحداهما على الأخرى نص ولا إجماع , ومن أراد
أن يرجح الشهادة هاهنا بأعدل البينتين , أو بأكثرهما عددا : فهو خطأ من
القول , لأنه لم يوجب الله تعالى قط شيئا من ذلك , ولا رسوله صلى الله
عليه وسلم ولا أجمعت الأمة عليه , والحكم بمثل هذا لا يجوز .
(11/144)
حكم من شهد في حد بعد حين
...
2175 - مسألة : من شهد في حد بعد حين:
قال أبو محمد رحمه الله: نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر
ثنا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية ثنا وكيع نا مسعر بن
كدام عن أبي عون - هو محمد بن عبد الله الثقفي - قال عمر بن الخطاب :
من شهد على رجل بحد لم يشهد به حين أصابه , فإنما يشهد على ضغن . قال
علي : نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا
سحنون نا ابن وهب قال : بلغني عن ربيعة أنه قال في رجل زنى في صباه
واطلع على ذلك رهط عدول , فلم يرفعوا أمره , ولبث بذلك سنين , وحسنت
حالته , ثم نازع رجلا فرماه بذلك , وأتى على ذلك بالبينة واعترف , فإنه
يرجم , لا يضع الحد عن أهله طول زمان , ولا أن يحدث صاحب ذلك حسن هيئة
- قال ابن وهب : يريد بصباه : سفهه بعد الاحتلام . قال أبو محمد رحمه
الله: وقال أبو حنيفة , وأصحابه : إن شهد أربعة عدول أحرار مسلمون
بالزنى بعد مدة فلا حد عليه . قال أبو يوسف : مقدار المدة المذكورة شهر
واحد . وقالوا : إن شهد عليه عدلان مسلمان حران بسرقة بعد مدة فلا قطع
عليه , لكن يضمن ما شهد عليه بأنه سرقه . ولو شهدا عليه بشرب خمر , فإن
كانت الشهادة وريح الخمر توجد منه , أو وهو سكران - : أقيم عليه الحد -
وإن كانت تلك الشهادة بعد ذهاب الريح أو السكر , فلا حد عليه إلا أن
يكونوا حملوه إلى الإمام في مصر آخر , فزال الريح أو السكر في الطريق :
فإنه يحد . ولو شهد عليه بعد مدة طويلة بقذف أو جراحة حد للقذف , ووجب
عليه حكم تلك الجراحة . وقال الشافعي , وأصحابه , وأصحابنا : يقام عليه
الحد في كل ذلك . وقال الأوزاعي , والليث , والحسن بن حي مثل ذلك.
(11/144)
قال أبو
محمد رحمه الله: وإذ قد بلغنا هاهنا فلنتكلم - بعون الله تعالى - في
حكم من اطلع على حد , أهو في حرج إن كتم الشهادة أم في سعة من ذلك ؟
فنقول : قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وقال
تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ
اللَّهِ} . وقال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ
يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . وقال تعالى: {وَلا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} . ووجدنا ما روينا من طريق مسلم نا
قتيبة بن سعيد نا ليث - هو ابن سعد - عن عقيل عن الزهري عن سالم بن عبد
الله بن عمر عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله
في حاجته , ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم
القيامة , ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب استعمال هذه النصوص كلها , فنظرنا في ذلك
: فوجدنا العمل في جمعها - الذي لا يحل لأحد غيره - لا يخلو من أحد
وجهين : إما أن يخص عموم الآيات المذكورة بالخبر المذكور , وإما أن يخص
عموم الخبر المذكور بالآيات المذكورات , إذ لا يمكن ألبتة غير هذا ولا
بد من أحد العملين , فإن خصصنا عموم الآيات بالخبر كان القول في ذلك أن
القيام بالشهادات كلها , والإعلان بها فرض , إلا ما كان منها ستر
المسلم في حد من الحدود , فالأفضل الستر , وإن خصصنا عموم الخبر
بالآيات كان القول في ذلك أن الستر على المسلم حسن , إلا ما كان من
أداء الشهادات فإنه واجب . فنظرنا : أي هذين العملين هو الذي يقوم
البرهان على صحته فيؤخذ به , إذ لا يحل أخذ أحدهما مطارفة دون الآخر ,
ولا يجوز أن يكونا جمعا جميعا , بل الحق في أحدهما بلا شك . فنظرنا في
ذلك - بعون الله تعالى - فوجدنا الستر على المسلم الذي ندبنا إليه في
الحديث لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما يستره ويستر عليه في
ظلم يطلب به المسلم , فهذا فرض واجب , وليس هذا مندوبا إليه , بل هو
كالصلاة والزكاة . وإما أن يكون في الذنب يصيبه المسلم ما بينه وبين
ربه تعالى , ولم يقل أحد من أهل الإسلام بإباحة الستر على مسلم في ظلم
ظلم به مسلما , كمن أخذ مال مسلم بحرابة واطلع عليه إنسان , أو غصبه
امرأته , أو سرق حرا , وما أشبهه , فهذا فرض على كل مسلم أن يقوم به
حتى يرد الظلامات إلى أهلها ؟ فنظرنا في الحديث المذكور فوجدناه ندبا
لا حتما , وفضيلة لا فرضا , فكان الظاهر منه أن للإنسان أن يستر على
المسلم يراه على حد بهذا الخبر , ما لم يسأل عن تلك الشهادة نفسها ,
فإن سئل عنها ففرض عليه إقامتها وأن لا يكتمها , فإن كتمها حينئذ فهو
عاص لله تعالى . وصح بهذا اتفاق الخبر مع الآيات , وأن إقامة الشهادة
لله تعالى , وتحريم
(11/145)
كتمانها ,
وكون المرء ظالما بذلك , فإنما هو إذا دعي فقط , لا إذا لم يدع , كما
قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} . ثم نظرنا في
الخبر المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي حدثناه حمام
نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا إبراهيم بن محمد نا
يحيى بن يعمر نا ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عبد
الله بن عمرو بن عثمان عن أبي عمرة الأنصاري - هو عبد الرحمن بن زيد بن
خالد - أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أخبركم بخير
الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها , أو يخبر بشهادته قبل أن
يسألها".
قال أبو محمد رحمه الله: فكان هذا عموما في كل شهادة في حد أو غير حد ,
ووجدنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فسوى الله تعالى بين وجوب أداء
المرء الشهادة على نفسه , وعلى والديه , وأقاربه , والأباعد , فوجب من
هذه النصوص أن الشهادة لا حرج على المرء في ترك أدائها ما لم يسألها -
حدا كان أو غيره - فإذا سئلها ففرض عليه أداؤها - حدا أو غيره وأن من
كان لإنسان عنده شهادة , والمشهود له لا يدري بها - : ففرض عليه إعلامه
بها , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قيل : لمن يا
رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه , ولأئمة المسلمين , وعامتهم" فإن سأله
المشهود أداءها لزمه ذلك فرضا , لما ذكرنا قبل من قول الله تعالى:
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وإن لم يسأل لم يلزمه أن
يؤديها - وبالله تعالى التوفيق . وأما من كانت عنده شهادة على إنسان
بزنى , فقذف ذلك الزاني إنسان فوقف القاذف على أن يحد للمقذوف , ففرض
على الشاهد على المقذوف الزاني أن يؤدي الشهادة ولا بد , سئلها أو لم
يسألها - علم القاذف بذلك أو لم يعلم - وهو عاص لله تعالى إن لم يؤدها
حينئذ , لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ولقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". ولقوله
عليه السلام: "انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما". فهذا إذا أدى الشهادة
التي عنده بصحة ما قذف به , معين على إقامة حد بحق غير ظالم به , معين
على البر والتقوى - وإن لم يؤدها : معين على الإثم والعدوان , وهو ظالم
قد أسلمه للظلم , إذ تركه يضرب بغير حق . فإن ذكروا : ما ناه يوسف بن
عبد الله وغيره قالوا : حدثنا محمد بن الجسور ثنا قاسم بن أصبغ نا مطرف
بن قيس حدثنا يحيى بن بكير نا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن
سعيد بن المسيب قال: "إن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال :
إن الآخر زنى , فقال له أبو بكر : هل ذكرت ذلك لغيري ؟ فقال : لا , قال
أبو بكر : فتب إلى الله , واستتر بستر الله , فإن الله يقبل التوبة عن
(11/146)
عباده ,
فلم تقر نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب , فقال له كما قال لأبي بكر , فقال
له عمر كما قال له أبو بكر فلم تقر نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال : إن الآخر زنى , قال سعيد بن المسيب : فأعرض عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرارا - كل ذلك يعرض عنه - حتى إذا أكثر عليه
؟ بعث إلى أهله , فقال : أيشتكي , أبه جنة ؟ فقالوا : لا , فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : أبكر أم ثيب ؟ فقالوا : بل ثيب - : فأمر به
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم . قال سعيد : فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لرجل من أسلم يقال له هزال : لو سترته بردائك لكان خيرا
لك". قال يحيى : فذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال
الأسلمي ؟ فقال يزيد هزال جدي - وهذا الحديث حق قال علي : فإن هذا
الحديث مرسل لم يسنده سعيد , ولا يزيد بن نعيم ولا حجة في مرسل , ولو
انسند لما خرج منه إلا أن الستر , وترك الشهادة أفضل فقط - هذا على
أصول القائلين بالقياس إذا سلم لهم - وبالله تعالى التوفيق.
(11/147)
حكم اختلاف الشهود في الحدود
...
2176 - مسألة : اختلاف الشهود في الحدود:
قال أبو محمد: فلما اختلفوا في ذلك , فنظرنا في ذلك , فالذي نقول به :
أن كل ما تمت به الشهادة , ووجب القضاء بها , فإن كل ما زاده الشهود
على ذلك فلا حكم له , ولا يضر الشهادة اختلافهم , كما لا يضرها سكوتهم
عنه - وأن كل ما لا تتم الشهادة إلا به - : فهذا هو الذي يفسدها
اختلافهم , فالشهادة إذا تمت من أربعة عدول بالزنى على إنسان بامرأة
يعرفونها أجنبية , لا يشكون في ذلك , ثم اختلفوا في المكان , أو في
الزمان , أو في المزني بها , فقال بعضهم : أمس بامرأة سوداء , وقال
بعضهم : بامرأة بيضاء اليوم - : فالشهادة تامة , والحد واجب , لأن
الزنى قد تم عليه , ولا يحتاج في الشهادة إلى ذكر مكان ولا زمان , ولا
إلى ذكر التي زنى بها - فالسكوت عن ذكر ذلك وذكره سواء - وكذلك في
السرقة , ولو قال أحدهما : أمس , وقال الآخر : عام أول , أو قال أحدهما
: بمكة , وقال الآخر : ببغداد , فالسرقة قد صحت , وتمت الشهادة فيها -
ولا معنى لذكر المكان , ولا الزمان , ولا الشيء المسروق منه - سواء
اختلفا فيه , أو اتفقا فيه , أو سكتا عنه , لأنه لغو , وحديث زائد ,
ليس من الشهادة في شيء . وكذلك في شرب الخمر , وفي القذف : فالحد قد
وجب , ولا معنى لذكر المكان , والمقذوف في ذلك , والمسكوت عنه وذكره ,
والاتفاق عليه والاختلاف فيه سواء.
قال أبو محمد رحمه الله: ومن ادعى الخلاف في ذلك ؟ فيلزمه أن يراعي
اختلاف الشهود في لباس الزاني , والسارق , والشارب , والقاذف , فإن قال
أحدهما : كان في رأسه قلنسوة , وقال الآخر : عمامة , أو قال أحدهما :
كان عليه ثوب أخضر , وقال الآخر : بل أحمر , وقال أحدهما : في غيم ,
وقال الآخر : في صحو - فهذا كله لا معنى له . فإن قال قائل : إن الغرض
(11/147)
في مراعاة
الاختلاف إنما هو أن تكون الشهادة على عمل واحد فقط , وإذا اختلفوا في
المكان , أو الزمان , أو المقذوف , أو المزني بها , أو المسروق منه ,
أو الشيء المسروق : فلم يشهدوا على عمل واحد ؟ قلنا : من أين وقع لكم
أن تكون الشهادة في كل ذلك على عمل واحد , وأي قرآن , أو سنة , أو
إجماع أوجب ذلك ؟ وأي نظر أوجبه ؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجوده , بل
الغرض إثبات الزنى المحرم , والقذف المحرم , والسرقة المحرمة , والشرب
المحرم , والكفر المحرم فقط , ولا مزيد , وبيان ذلك : قول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية . فصح بهذه الآية : أن الواجب إنما هو
إثبات الزنى فقط , وهو الذي رماها به , ولا معنى لذكره التي رماها ولا
سكوته عنه , فليس عليه أن يأتي بأكثر من أربعة شهداء : على أن الذي
رماها به من الزنى حق , ولا نبالي عملا واحدا كان أو أربعة أعمال , لأن
كل ذلك زنا . وكذلك إن شهد عليه بالقذف لمحصنة , فقد ثبت عليه بالقرآن
ثمانون جلدة , ولم يحد الله تعالى أن يكون في الشهادة ذكر الزمان , ولا
ذكر المكان فالزيادة لهذا باطل بيقين , لأن الله تعالى لم يأمر به ,
ولا بمراعاته . وكذلك قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فحسبنا , وصحة الشهادة بأنها سارقة , أو
أنه سارق , ولم نجد الله تعالى ذكر الزمان , أو المكان , أو المسروق
منه , أو الشيء المسروق , فمراعاة ذلك باطل بيقين لا شك فيه . وهكذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه" فأوجب
الجلد بشرب الخمر , فإذا صحت الشهادة بشرب الخمر فقد وجب الحد , بنص
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك , ولا معنى لمراعاة ذكر مكان
, أو زمان , أو صفة الخمر , أو صفة الإناء - إذ لم يأت نص بذلك عن الله
تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم فمراعاة ذلك باطل بلا شك -
والحمد لله رب العالمين .
قال أبو محمد:وقد جاء نحو ذلك عن السلف : كما حدثنا عبد الله بن ربيع
حدثنا ابن مفرج حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا سحنون حدثنا
ابن وهب أنا السري بن يحيى قال : حدثنا الحسن البصري قال : شهد الجارود
على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر - وكان عمر قد أمر قدامة على البحرين
- فقال عمر للجارود : من يشهد معك ؟ قال : علقمة الخصي ؟ فدعا علقمة ,
فقال له عمر : بم تشهد ؟ فقال علقمة : وهل تجوز شهادة الخصي ؟ قال عمر
: وما يمنعه أن تجوز شهادته إذا كان مسلما , قال علقمة : رأيته يقيء
الخمر في طست , قال عمر : فلا وربك ما قاءها حتى شربها : فأمر به فجلد
الحد , فهذا حكم عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرف له منهم
مخالف في إقامة
(11/148)
الحد
بشهادتين مختلفتين إحداهما : أنه رآه يشرب الخمر , والأخرى : أنه لم
يره يشربها , لكن رآه يتقيؤها - وعهدناهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق
تقليدهم , وهم هاهنا قد خالفوا عمر بن الخطاب , والجارود , وجميع من
بحضرتهما من الصحابة , فلا مؤنة عليهم - وحسبنا الله ونعم الوكيل .
(11/149)
2177 -
مسألة : الإقرار بالحد بعد مدة وأيهما أفضل الإقرار أم الاستتار به:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في ذلك , فلما اختلفوا وجب أن
ننظر فيما اختلفوا فيه لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى - :
فنظرنا فيما احتجت به الطائفة المختارة للستر , وأن جميع الأمة متفقون
على أن الستر مباح , وأن الاعتراف مباح , إنما اختلفوا في الأفضل , ولم
يقل أحد من أهل الإسلام : إن المعترف بما عمل مما يوجب الحد : عاص لله
تعالى في اعترافه , ولا قال أحد من أهل الإسلام قط : إن الساتر على
نفسه ما أصاب من حد : عاص لله تعالى : فنظرنا في تلك الأخبار التي جاءت
في ذلك فوجدناها كلها لا يصح منها شيء , إلا خبرا واحدا في آخرها , لا
حجة لهم فيه , على ما نبين إن شاء الله تعالى . وأما خبر هزال الذي
صدرنا به من طريق شعبة عن محمد بن المنكدر عن ابن هزال عن أبيه : فمرسل
, فلا حجة فيه ; لأنه مرسل . وكذلك الذي من طريق ابن المبارك عن يحيى
بن سعيد عن ابن المنكدر - ويزيد بن النعيم أيضا مرسل . وكذلك حديث مالك
عن يحيى بن سعيد الأنصاري : مرسل أيضا . وحديث الليث عن يحيى بن سعيد
مرسل أيضا - فبطل الاحتجاج برواية يحيى بن سعيد - وبالله تعالى التوفيق
. ثم نظرنا في هذا الخبر من طريق عكرمة بن عمار , فوجدناه لا حجة فيه
لوجهين : أحدهما : أنه مرسل , والثاني : أن عكرمة بن عمار ضعيف . ثم
نظرنا فيه من طريق حبان بن هلال عن أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن يزيد بن نعيم بن هزال الأنصاري عن
عبد الله بن دينار فوجدناه أيضا مرسلا . ثم نظرنا فيه من طريق ابن جريج
عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الله بن دينار : فوجدناه أيضا مرسلا .
ثم نظرنا فيه من رواية معمر عن أيوب السختياني عن حميد بن هلال :
فوجدناه أيضا مرسلا . ثم نظرنا فيه من رواية الحبلي عن أبي قلابة -
فوجدناه مرسلا . وأما حديث حماد بن سلمة , ففيه أبو المنذر لا يدرى من
هو - وأبو أمية المخزومي ولا يدرى من هو ؟ وهو أيضا مرسل , وحتى لو صح
هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة , لأنه ليس فيه إلا: "ما إخالك سرقت"
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق - فلو صح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال للذي سيق إليه بالسرقة: "ما إخالك سرقت" لكنا
على يقين من أنه عليه السلام قد صدق
(11/149)
ذلك ,
وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق , وليس في هذا تلقين له , ولا دليل
على أن الستر أفضل - فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة . وأما حديث مسلم في
الإجهاد فلا حجة فيه لوجهين : أحدهما : أنه من رواية محمد بن عبد الله
بن أخي الزهري , وهو ضعيف . والثاني : أنه لو صح لما كانت لهم فيه حجة
أصلا , لأن الإجهاد المذكور إنما هو ما ذكره المرء مفتخرا به , لأنه
ليس في هذا الخبر أنه يخبر به الإمام معترفا ليقام عليه كتاب الله
تعالى , وإنما فيه ذم المجاهرة بالمعصية - وهذا لا شك فيه حرام . ثم
نظرنا في حديث مسلم الذي رواه ابن شهاب عن أبي سلمة , وسعيد بن المسيب
عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عن المعترف مرات"
فوجدناه صحيحا لا داخلة فيه لأحد , إلا أنه لا حجة لهم فيه , لأن الناس
في سبب إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه على قولين : فطائفة
قالت : إنما أعرض عنه , لأن الإقرار بالزنى لا يتم إلا بتمام أربع مرات
, وطائفة قالت : إنما أعرض عنه - عليه السلام - لأنه ظن أن به جنونا ,
أو شرب خمرا - ولم يقل أحد من الأمة : أن الحاكم إذا ثبت عنده الإقرار
بالحد جاز له أن يستره ولا يقيمه - فبطل تعلقهم بهذا الخبر , وسنستقصي
الكلام في تصحيح أحد هذين الوجهين بعد هذا - إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فلم يبق لهذه الطائفة خبر يتعلقون به أصلا ؟ ثم نظرنا
فيما روي في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - فوجدناه أيضا لا يصح منه
شيء : أما الرواية عن أبي بكر , وعمر - رضي الله عنهما - في قولهما
للأسلمي : استتر بستر الله , فلا تصح , لأنها عن سعيد بن المسيب مرسلة
. وكذلك حديث إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن يزيد عن
محمد بن عبد الرحمن : أن أبا بكر فهو مرسل .
قال أبو محمد: ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الأخرى , فوجدنا الرواية
عن الصحابة أن الطائفة منهم قالت : ما توبة أفضل من توبة ماعز : جاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده وقال : اقتلني
بالحجارة . فصح هذا من قول طائفة عظيمة من الصحابة - رضي الله عنهم -
بل لو قلنا : إنه لا مخالف لهذه الطائفة من الصحابة - رضي الله عنهم -
لصدقنا , لأن الطائفة الأخرى لم تخالفها , وإنما قالت : لقد هلك ماعز ,
لقد أحاطت به خطيئته - فإنما أنكروا أمر الخطيئة لا أمر الاعتراف ,
فوجدنا تفضيل الاعتراف لم يصح عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم -
خلافه . ثم نظرنا فيما احتجوا به من الآثار : فوجدناها في غاية الصحة
والبيان , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد توبة ماعز ,
(11/150)
والغامدية
, وذكر عليه السلام : أن توبة ماعز لو قسمت بين أمة لوسعتهم - وأن
الغامدية لو تاب توبتها صاحب مكس لغفر له - وأن الجهينية لو قسمت
توبتها بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم , ثم رفع - عليه السلام -
الإشكال جملة , فقال : إنها لم تجد أفضل من أن جادت بنفسها لله . فصح
يقينا أن الاعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الاستتار له بشهادة
النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أفضل من جود المعترف بنفسه لله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: ومن البرهان على ذلك أيضا . ما رويناه من طريق
مسلم أنا يحيى بن يحيى , وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق
بن إبراهيم - هو ابن راهويه - ومحمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن سفيان
بن عيينة - واللفظ لعمرو , قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس
الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مجلس , فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا , ولا
تزنوا , ولا تسرقوا , ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فمن
وفى منكم فأجره على الله , ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له
, ومن أصاب شيئا فستره الله عليه , فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه ,
وإن شاء عذبه".
قال علي رحمه الله : فارتفع الإشكال جملة - والحمد لله رب العالمين -
وصح بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامه أمته , ونصيحته
إياهم بأحسن ما علمه ربه تعالى , أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن
أمره إلى الله تعالى - إن شاء عذبه وإن شاء غفر له - وأن من أقيم عليه
الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب , وكفره الله تعالى عنه - وبالضرورة ندري :
أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في إمكانها أو عذاب الآخرة , وأين
عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار ؟ - نعوذ بالله منها - فكيف من أكثر
من ذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن اعتراف المرء بذنبه عند الإمام أفضل من
الستر بيقين , وأن الستر مباح بالإجماع - وبالله تعالى التوفيق.
(11/151)
حكم تعافي الحدود قبل بلوغها الى الحاكم
...
2178 - مسألة : تعافوا الحدود قبل بلوغها إلى الحاكم:
قال أبو محمد رحمه الله: أنا عبد الله بن ربيع أنا عمر بن عبد الملك
أنا محمد بن بكر أنا أبو داود أنا سليمان بن داود المهري نا ابن وهب
سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله عمرو بن العاص
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما
بلغني من حد فقد وجب". نا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك
بن أيمن نا محمد بن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : سمعت ابن جريج يحدث
عن عمرو بن شعيب
(11/151)
عن أبيه
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب". نا عبد الله بن
ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني عبد الله بن أحمد بن
حنبل نا أبي نا محمد بن جعفر نا سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة عن
عطاء بن أبي رباح عن طارق بن مرقع عن صفوان بن أمية: "أن رجلا سرق بردة
فرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأمر بقطعه , فقال : يا
رسول الله قد تجاوزت عنه , قال فلولا كان هذا قبل أن تأتيني به يا أبا
وهب - فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم". نا عبد الله بن ربيع نا
محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا هلال بن العلاء الرقي نا حسين نا
زهير نا عبد الملك - هو ابن أبي بشير - أنا عكرمة عن صفوان بن أمية أنه
طاف بالبيت فصلى ثم لف رداء له في برده فوضعه تحت رأسه فنام , فأتاه لص
فاستله من تحت رأسه , فأخذه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"إن هذا سرق ردائي ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أسرقت رداء هذا
؟ قال : نعم , قال : اذهبا به فاقطعا يده - قال صفوان : ما كنت أريد أن
تقطع يده في ردائي ؟ قال : فلو ما كان هذا قبل". نا عبد الله بن ربيع
نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا أحمد بن عثمان بن حكيم نا عمرو
عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان عن صفوان بن أمية , قال: "كنت
نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما , فجاء رجل فاختلسها
مني , فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع ,
فأتيته فقلت له : تقطعه من أجل ثلاثين درهما , أنا أضعه وأنسئه ثمنها ؟
قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به ؟". نا عبد الله بن ربيع نا ابن
مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن عمرو بن
الحارث أن عمرو بن دينار المكي حدثه: "أنه قيل لصفوان بن أمية : لا دين
لمن لم يهاجر ؟ فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه ,
فقال : ما أقدمك , قال : قيل لي : إنه لا دين لمن لم يهاجر , قال
فأقسمت عليك لترجعن إلى أباطيح مكة - ثم جيء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم برجل فقال : إن هذا سرق خميصتي ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم اقطعوا يده - قال : عفوت عنه يا رسول الله ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتيني به ؟". نا يوسف بن عبد الله نا
أحمد بن محمد بن الجسور نا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس نا يحيى بن
بكير نا مالك نا ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أن
صفوان بن أمية , قيل له: "إنه من لم يهاجر هلك , فقدم صفوان بن أمية
المدينة فنام في المسجد , وتوسد رداءه , فجاء سارق فأخذ رداءه , فأخذ
صفوان السارق , فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده , فقال صفوان : إني لم أرده بهذا
, هو عليه صدقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن
تأتيني به".
(11/152)
قال أبو
محمد رحمه الله: وجاء فيه أيضا عن بعض السلف كما رويناه بالسند المذكور
إلى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد
أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان ؟ فشفع له الزبير ليرسله ,
فقال : لا , حتى أبلغ به إلى السلطان , فقال له الزبير : إذا بلغت به
إلى السلطان فلعن الله الشافع والمشفع
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم
فوجدناها لا يصح منها شيء أصلا : أما الأول فعن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن عمرو , وهي صحيفة . وأما حديث صفوان فلا يصح فيه شيء أصلا , لأنها
كلها منقطعة , لأنها عن عطاء , وعكرمة , وعمرو بن دينار , وابن شهاب ,
وليس منهم أحد أدرك صفوان . وأما عن عطاء عن طارق بن مرتفع وهو مجهول ,
أو عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان وهذا ضعيف عن ضعيف عن مجهول
. قال علي : فإذ ليس في هذا الباب أثر يعتمد عليه , فالمرجوع إليه هو
طلب حكم هذه المسألة من غير هذه الآثار : فنظرنا في ذلك فوجدنا قد صح
بالبراهين التي قد أوردنا قبل : أن الحد لا يجب إلا بعد بلوغه إلى
الإمام وصحته عنده . فإذ الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح ,
لأنه لم يجب عليه فيما فعل حد بعد - ورفعه أيضا مباح , إذ لم يمنع من
ذلك نص أو إجماع , فإذ كلا الأمرين مباح , فالأحب إلينا - دون أن يفتى
به - أن يعفى عنه ما كان وهلة ومستورا , فإن أذى صاحبه وجاهر : فرفعه
أحب إلينا - وبالله تعالى التوفيق.
(11/153)
2179 -
مسألة : هل تدرأ الحدود بالشبهات أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: ذهب قوم إلى أن الحدود تدرأ بالشبهات , فأشدهم
قولا بها واستعمالا لها أبو حنيفة , وأصحابه , ثم المالكيون , ثم
الشافعيون . وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة , ولا أن
تقام بشبهة وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد , فإن لم يثبت الحد لم
يحل أن يقام بشبهة , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ
بشبهة لقول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في اللفظ
الذي يتعلق به من تعلق أيصح أم لا ؟ فنظرنا فيه فوجدناه قد جاء من طرق
ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص , ولا كلمة , إنما هي عن
بعض أصحاب من طرق كلها لا خير فيها
(11/153)
كما نا
حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان
الثوري عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب قال : ادرءوا الحدود ما
استطعتم وبه - إلى سفيان الثوري عن القاسم بن عبد الرحمن قال قال ابن
مسعود : ادرءوا الحدود ما استطعتم وعن أبي هريرة ادفعوا الحدود ما
وجدتم مدفعا عن ابن عمر قال : ادفعوا الحدود بالشبهات وعن عائشة ادرءوا
الحدود عن المسلمين ما استطعتم وعن عمر بن الخطاب , وابن مسعود كانا
يقولان : ادرءوا عن عباد الله الحدود فيما شبه عليكم.
قال أبو محمد رحمه الله: وهي كلها لا شيء : أما من طريق عبد الرزاق
فمرسل , والذي من طريق عمر كذلك , لأنه عن إبراهيم عن عمر ولم يولد
إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو خمسة عشر عاما والآخر الذي عن ابن مسعود
مرسل , لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وأما
أحاديث ابن حبيب ففضيحة , لو لم يكن فيها غيره لكفى فكلها مرسلة قال
أبو محمد رحمه الله: فحصل مما ذكرنا أن اللفظ الذي تعلقوا به لا نعلمه
روي عن أحد أصلا , وهو ادرءوا الحدود بالشبهات لا عن صاحب , ولا عن
تابع إلا الرواية الساقطة التي أوردنا من طريق إبراهيم بن الفضل عن عبد
الله بن دينار عن ابن عمر , وإبراهيم ساقط وإنما جاء كما ترى عن بعض
الصحابة مما لم يصح ادرءوا الحدود ما استطعتم وهذا لفظ إن استعمل أدى
إلى إبطال الحدود جملة على كل حال - وهذا خلاف إجماع أهل الإسلام ,
وخلاف الدين , وخلاف القرآن , والسنن , لأن كل أحد هو مستطيع على أن
يدرأ كل حد يأتيه فلا يقيمه فبطل أن يستعمل هذا اللفظ وسقط أن تكون فيه
حجة لما ذكرنا وأما اللفظ الآخر في ذكر الشبهات ؟ فقد قلنا : " ادرءوا
" لا نعرفه عن أحد أصلا , إلا ما ذكرنا مما لا يجب أن يستعمل فقط ;
لأنه باطل لا أصل له , ثم لا سبيل لأحد إلى استعماله , لأنه ليس فيه
بيان ما هي تلك " الشبهات " فليس لأحد أن يقول في شيء يريد أن يسقط به
حدا " هذا شبهة " إلا كان لغيره أن يقول : ليس بشبهة , ولا كان لأحد أن
يقول في شيء لا يريد أن يسقط به حدا : ليس هذا شبهة , إلا كان لغيره أن
يقول : بل هو شبهة , ومثل هذا لا يحل استعماله في دين الله تعالى , إنه
لم يأت به قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا قول صاحب , ولا قياس
, ولا معقول , مع الاختلاط الذي فيه كما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن شغب مشغب بما رويناه من طريق البخاري
(11/154)
عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة
فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك , ومن اجترأ على
ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان , والمعاصي حمى الله , من
يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" فإن هذا صحيح , وبه نقول , وهو عليهم
لا لهم , لأنه ليس فيه إلا ترك المرء ما اشتبه عليه , فلم يدر ما حكمه
عند الله تعالى في الذي له تعبدنا به , وهذا فرض لا يحل لأحد مخالفته
وهكذا نقول : إن من جهل - أحرام هذا الشيء أم حلال ؟ فالورع له أن يمسك
عنه , ومن جهل أفرض هو أم غير فرض ؟ فحكمه أن لا يوجبه , ومن جهل أوجب
الحد أم لم يجب ؟ ففرضه أن لا يقيمه , لأن الأعراض والدماء حرام لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم
عليكم حرام" وأما إذا تبين وجوب الحد فلا يحل لأحد أن يسقطه , لأنه فرض
من فرائض الله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم أحدا أشد جسرا على إقامة الحد
بالشبهات وحيث لا تجب إقامتها منهم , ثم يسقطونها حيث أوجبها الله
تعالى ورسوله عليه السلام , ونحن ذاكرون من ذلك طرفا كافيا إن شاء الله
تعالى , فأول ذلك النفس التي عظم الله تعالى أمرها وحرم قتلها إلا
بالحق فأما المالكيون - فقتلوا النفس المحرمة بدعوى من لعله يريد أن
يشفي نفسه من عدوه مع أيمان رجلين من عشيرته وإن كانا أفسق البرية ,
وهم لا يعطونه بدعواه نواة معفونة , ولو حلفوا مع دعواه ألف يمين
وكانوا أصلح البرية , هذا سفك الدم المحرم بالشبهة الفاسدة التي لا
شبهة أبرد منها ويقتلون بشهادة اللوث غير العدل والقسامة , ولا يعطون
بشهادتهم فلسين , ويقتلون الآبي عن الصلاة إن أقر بها , وأنها فرض ,
ويقتلون الممسك آخر حتى قتل , ولا يحدون الممسك امرأة حتى يزنى بها ,
ويقتلون الساحر دون استتابة , وإنما هي حيل , وكبيرة كالزنى , ولا
يقتلون آكل الربا , وقول الله تعالى فيه أشد من قوله في الساحر ,
ويقتلون المستتر بالكفر - ولا يدرءون عنه بإعلانه التوبة , ولا يقتلون
المعلن بالكفر إذا أظهر التوبة , ولا فرق , ويقتلون المسلم بالكافر إذا
قتله غيلة , ولا يجيزون في ذلك عفو الولي - وهذا خلاف القرآن , والسنة
, وإقامة الحدود بالشبهة الفاسدة , ويجلدون القاتل المعفو عنه مائة
جلدة , وينفونه سنة وأما الحنفيون - فيقتلون المسلم بالكافر خلافا على
الله تعالى , وعلى رسوله عليه السلام , ومحافظة لأهل الكفر , ولا
يقتلون الكافر إذا سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضرة أهل الإسلام
في أسواقهم ومساجدهم , ولا يقتلون من أهل الكفر من سب الله تعالى جهارا
بحضرة المسلمين - وهذه أمور نعوذ بالله منها - ويقتلون الذمي الذي قد
حرم دمه إلا بالحق بشهادة كافرين وأما الزنى : فإن المالكيين - يحدون
بالحبل ولعله من
(11/155)
إكراه -
ويرجمون المحصن إذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها , أو فعل فعل قوم لوط -
محصنا كان أو غير محصن - ولا يحدون واطئ البهيمة - ولا المرأة تحمل على
نفسها كلبا - وكل ذلك إباحة فرج بالباطل , ولا يحدون التي تزني - وهي
عاقلة بالغة مختارة - بصبي لم يبلغ , ويحدون الرجل إذا زنى بصبية من سن
ذلك الصبي وأن ابن القاسم لا يحد النصراني , ولا اليهودي , إذا زنى
بمسلمة , ويطلقون الحربي النازل عندنا بتجارة , والمتذمم يغرم الجزية
على تملك المسلمات اللواتي سباهن قبل نزوله , وتذممه من حرائر المسلمات
من القرشيات والأنصاريات , وغيرهن , وعلى وطئهن , وبيعهن صراحا مباحا -
وهذه قولة ما سمع بأفحش منها ؟
(11/156)
بيان ان المالكيين يقطعون في السرقة الرجلين
...
2180 - مسألة: وأما السرقة: فإن المالكيين يقطعون فيها الرجلين:
بلا نص ثابت ولا إجماع , ويقطعون من دخل منزل إنسان فأخرج منه ما يساوي
ثلاثة دراهم , وقال : إن صاحب الدار أرسلني في هذه الحاجة وصدقه صاحب
الدار , ولا يلتفتون إلى شيء من هذا , أو يقطعون يده مطارفة , ويقطعون
جماعة سرقت ربع دينار فقط , ورأوا - في أحد أقوالهم - أنه إذا غلط
بالسارق فقطعت يساره أنه تقطع اليد الأخرى - فقطعوا يديه جميعا في سرقة
واحدة , وما عين الله تعالى قط يمنى من يسرى , والحنفيون يقطعون فيها
الرجل بعد اليد بغير نص ولا إجماع وأما القذف : فإن المالكيين يحدون حد
القذف , في التعريض , ويسقطون جميع الحدود بالقتل حاشا حد القذف , فإن
كانوا يسقطون سائر الحدود بالشبهة , فما بالهم لا يسقطون حد القذف أيضا
بالشبهة ؟ وقالوا : إنما فعلنا ذلك خوف أن يقال للمقذوف : لو لم يكن
الذي قذفك صادقا لحد لك , ففي أي دين وجدوها من قرآن أو سنة أو قياس ؟
ويحدون شارب الخمر , ولو جرعة منه خوف أن يقذف أحدا بالزنى , وهو لم
يقذف أحدا بعد , فأي عجب في إقامة الحدود بلا شبهة , ويتعلقون برواية
ساقطة عن بعض الصحابة , قد أعاذهم الله تعالى من مثلها ويحدون من قال
لآخر : لست ابن فلان إذا نفاه عن أبيه ويحدون من قذف امرأته بإنسان
سماه , وإن لاعن امرأته , وهذا خلاف لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم مجرد ويحدون من قذف إنسانا نكح نكاحا فاسدا لا يحل مثله , وهو
عالم بالتحريم - هذا وهم يحدون من قذف امرأة مسلمة ظهر بها حمل , وهم
يقرون أنهم لا يحلفون , ولا يقطعون أنه من زنى , ومنهم من يرى الحد على
من قال لآخر : زنت عينك , أو زنت يدك - وقد صح عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: "أن اليدين تزنيان وزناهما البطش , والعينين تزنيان وزناهما
النظر , والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وأما الخمر : فإن المالكيين يقيمون
الحد فيه بالنكهة - وكل من له معرفة يدري أن من أكل الكمثرى الشتوي
(11/156)
وبعض
أنواع التفاح : أن نكهة فمه , ونكهة شارب الخمر : سواء - وأيضا فلعله
ملأ فمه منها ولم يجرعها فبقيت النكهة , أو لعله دلس عليه بها وهو لا
يدري , ثم يجلدون - هم والحنفيون في الخمر : ثمانين جلدة , وجمهور
الصحابة على أن الحد فيها أربعون , فلم يدرءوا الأربعين الزائدة
بالشبهة , ولم يوجبها قرآن , ولا سنة , ولا إجماع ويحدون ثمانين - كما
قلنا - بفرية لم يفترها بعد , فيقدمون له الحدود , ولعله لا يقذف أحدا
أبدا , ولا فرق بين هذا وبين أن يقدموا له حد زنى لم يكن منه , أو حد
سرقة لم يكن منه ويحدون - هم والشافعيون : الفاضل العالم المتأول إحلال
النبيذ المسكر , ويقبلون مع ذلك شهادته , ويأخذون العلم عنه - ولا
يحدون المتأول في الشغار , والمتعة - وإن كان عالما بالتحريم - ولا في
الخليطين - وإن كان حراما – كالخمرة.
(11/157)
2181
مسألة : اعتراف العبد بما يوجب الحد:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا ؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا
أصحابنا يقولون : قال الله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} والعبد مال من مال
سيده فاعترافه بما يجب إبطال بعض مال سيده كسب على غيره , فلا يجوز بنص
القرآن ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا احتجاج صحيح إن لم يأت ما يدفعه : فنظرنا
فوجدنا الله تعالى يقول: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} فأمر الله تعالى بقبول شهادة المرء على نفسه وعلى
والديه , وأقربائه - ولم يختلف الناس في أن شهادة المرء على نفسه
مقبولة - دون آخر معه دون يمين - تلزمه , سواء كان فاسقا , أو عدلا -
مؤمنا كان أو كافرا - وأن شهادته على غيره لا تقبل إلا بشرط العدالة ,
وبأن يكون معه غيره , أو يمين الطالب - على حسب اختلاف الناس في ذلك -
ولم يخص الله تعالى عبدا من حر , فلما ورد هذان النصان من عند رب
العالمين : وجب أن ننظر في استعمالهما ؟ فوجدنا أصحابنا يقولون : هو
شاهد على نفسه , كاسب على غيره : فلا يقبل , ووجدنا من خالفهم بقول :
بل هو شاهد على نفسه , كاسب عليها , وإن أدى ذلك إلى نقص في مال سيده ,
ولم يقصد الشهادة على مال سيده ؟ فنظرنا في هذين الاستعمالين - إذ لا
بد من استعمال أحدهما - فوجدنا قول أصحابنا في أنه كاسب على غيره إنما
يصح بواسطة , وبإنتاج , لا بنفس الإقرار ؟ ووجدنا قول من خالفهم يصح
بنفس القصة , لأنه إنما أقر على نفسه بنفس لفظه - وهو ظاهر مقصده -
وإنما يتعدى ذلك إلى السيد بتأويل لا بظاهر إقراره ؟ فكان هذا أصح
الاستعمالين , وأولاهما ولو كان ما قالوه أصحابنا لوجب أن لا يحد العبد
في زنى , ولا في سرقة , ولا في خمر , ولا في قذف , ولا في حرابة - وإن
قامت بذلك
(11/157)
بينة -
وأن لا يقتل في قود , لأنه في ذلك كاسب على غيره , وفي الحد عليه إتلاف
لمال سيده ؟ وهذا ما لا يقولونه , لا هم ولا غيرهم.
(11/158)
حكم من
قال لا يؤاخذ الله عبداً بأول ذنب
...
2182 - مسألة : من قال : لا يؤاخذ الله عبدا بأول ذنب:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن
أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن قرة بن عبد الرحمن المعافري
عن ابن شهاب قال : أتي أبو بكر الصديق بسارق ؟ فقال: اقطعوا يده فقال :
أقلنيها يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما سرقت قبلها ؟
فقال له أبو بكر : كذبت , والذي نفسي بيده ما غافص الله مؤمنا بأول ذنب
يعمله وبه - إلى ابن وهب عن سفيان الثوري عن حميد الطويل عن أنس بن
مالك قال: أتي عمر بن الخطاب بسارق فقال : والله ما سرقت قبلها ؟ فقال
له عمر : كذبت ورب عمر , ما أخذ الله عبدا عند أول ذنب وبه - إلى ابن
وهب عن عبد الله بن سمعان بهذا , وأن علي بن أبي طالب قال له: الله
أحلم من أن يأخذ عبده في أول ذنب يا أمير المؤمنين ؟ فأمر به عمر فقطع
, فلما قطع قام إليه علي بن أبي طالب فقال له : أنشدك الله , كم سرقت
من مرة ؟ قال له : إحدى وعشرين مرة - [ غافصه : فاجأه وأخذه على غرة ]
قال أبو محمد رحمه الله: يفعل الله ما يشاء , وكل أحكامه عدل وحق , فقد
يستر الله الكثير والقليل , على من يشاء - إما إملاء وإما تفضلا -
ليتوب , ويأخذ بالذنب الواحد , وبالذنوب - عقوبة أو كفارة له: {لا معقب
لحكمه} و {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} والإسنادان
عن أبي بكر , وعلي : ضعيفان , أحدهما مرسل , والآخر مرسل ساقط ,
والإسناد في ذلك عن عمر صحيح - ولله الأمر من قبل ومن بعد .
(11/158)
2183 -
مسألة : هل تقام الحدود على أهل الذمة:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا الخبر ؟ فجاء عن علي بن
أبي طالب : لا حد على أهل الذمة في الزنى وجاء عن ابن عباس : لا حد على
أهل الذمة في السرقة وقال أبو حنيفة : لا حد على أهل الذمة في الزنى ,
ولا في شرب الخمر - وعليهم الحد في القذف , وفي السرقة , إلا المعاهد
في السرقة , لكن يضمنها , وقال محمد بن الحسن صاحبه : لا أمنع الذمي من
الزنى , وشرب الخمر - وأمنعه من الغناء وقال مالك : لا حد على أهل
الذمة في زنى , ولا في شرب الخمر - وعليهم الحد في القذف , والسرقة
وقال الشافعي , وأبو سليمان , وأصحابهما : عليهم الحد في كل ذلك حدثنا
حمام نا ابن مفرج نا عبد الأعلى بن محمد نا الدبري نا عبد الرزاق نا
الثوري أخبرني سماك بن حرب قابوس بن المخارق عن أبيه قال : كتب محمد بن
أبي بكر إلى علي بن أبي طالب يسأله عن مسلمين تزندقا , وعن مسلم زنى
بنصرانية , وعن مكاتب مات وترك بقية من
(11/158)
2184 -
مسألة : حد المماليك:
قال أبو محمد رحمه الله: الحدود كلها أربعة أقسام لا خامس لها : إما
إماتة بصلب , أو بقتل بسيف , أو برجم بالحجارة , وما جرى مجراها - وإما
نفي - وإما قطع - وإما جلد وجاء النص وإجماع الأمة كلها على أن حد
المملوكة الأنثى في بعض وجوه الجلد - وهو الزنى مع الإحصان خاصة - :
نصف حد الحر والحرة في ذلك واتفقوا كلهم مع النص : أن
حد المماليك في القتل والصلب كحد
الأحرار - وجاء النص أيضا في النفي الذي ليس له أمر سواه واختلفوا فيما
عدا ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى : فذهبت طائفة إلى أن حد
الإماء , والعبيد - فيما عدا ما ذكرنا , ولا نحاش شيئا - كحد الأحرار
سواء سواء , وهو قول أصحابنا وقالت طائفة : حد العبيد , والإماء - في
الجلد كله - على النصف من حد الأحرار والحرائر - وحد العبيد , والإماء
في القطع كحد الأحرار والحرائر - فاختلف هؤلاء : فطائفة تقول به في
الأحرار , ولا تقول به في العبيد , والنساء , والإماء , والحرائر
فالذين يقولون بالنفي المؤقت جملة اختلفوا : فطائفة جعلت حد الإماء
والعبيد فيه نصف حد الحر والحرة - وهو قول الشافعي , وأصحابه
(11/160)
وطائفة
جعلت فيه حد الإماء خاصة على النصف من حد الحرائر , وجعلت فيه حد
العبيد كحد الأحرار - وهو قول أبي سليمان , وأصحابنا أما الطائفة التي
لا تقول بالنفي المؤقت , فهم : أبو حنيفة , وأصحابه وأما الطائفة التي
قالت به في الأحرار خاصة , ولم يقولوا به في العبيد , ولا في الإماء ,
ولا في الحرائر , فهم : مالك , وأصحابه وقالت طائفة : حد العبيد ,
والإماء في جلد الزنى على نصف حد الأحرار والحرائر , وحد العبيد ,
والإماء في القذف كحد الحر , والحرة - وهو قول روي عن عمر بن عبد
العزيز , وغيره قال أبو محمد رحمه الله: والذي نقول به إنه حد المماليك
ذكورهم , وإناثهم في الجلد , والنفي المؤقت , والقطع : على النصف من حد
الحر والحرة - وهو كل ما يمكن أن يكون له نصف وأما ما لا يمكن أن يكون
له نصف من القتل بالسيف , أو الصلب , أو النفي الذي لا وقت له :
فالمماليك , والأحرار فيه سواء قال أبو محمد رحمه الله: فأما أقوال من
ذكرنا فالتناقض فيها ظاهر لا خفاء به , وما نعلم لهم شبهة أصلا ,
وسنذكر أقوالهم إن شاء الله تعالى - إلا أن يقول قائل : إن القطع لا
يمكن تنصيفه , فهو خطأ من قبل الآثار , ومن قبل الحس والمشاهدة فأما من
قبل الحس والمشاهدة : فإن اليد معروفة المقدار , فقطع نصفها ممكن ظاهر
بالعيان - وهو قطع الأنامل فقط ويبقى الكف - وقد وجدناهم يوقعون على
الأنامل خاصة حكم اليد , فلا يختلفون فيمن قطعت أنامله كلها أن له دية
يد , فمن قطع الأنامل خاصة فقد وافق النص , لأنه قطع ما يقع عليه اسم
يد - كما أمره الله تعالى - وقطع نصف ما يقطع من الحر ; كما جاء النص
أيضا على ما نذكره - وكذلك الرجل أيضا لها مقدار معروف , فقطع نصفها
ممكن - وهو قطعها من وسطها مع الساق فقط وأما من طريق الآثار : فحدثنا
حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن
قتادة أن علي بن أبي طالب كان يقطع اليد من الأصابع والرجل من نصف
القدم وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي المقدام , قال :
أخبرني من رأى علي بن أبي طالب يقطع يد رجل من المفصل وبه - إلى عبد
الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار , قال : كان عمر بن الخطاب يقطع
القدم من مفصلها , وكان علي يقطع القدم - قال ابن جريج : أشار لي عمرو
إلى شطرها.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد جاء النص عن علي - رضي الله عنه - قطع
اليد من المفصل , وقطعها من الأصابع : فالواجب حمل ذلك على خلاف
التناقض الذي لا وجه له , لكن على أن ذلك في حالين مختلفين , وهكذا
القول في القدم أيضا.
قال أبو محمد رحمه الله: والقوم أصحاب قياس بزعمهم , وقد صح النص
(11/161)
والإجماع
على أن حد الأمة المحصنة في الزنى نصف حد الحرة المحصنة , وصح النص
والإجماع أن حد العبد في القتل بالسيف , والصلب : كحد الحر - وكذلك في
النفي غير المؤقت , فكان يلزمهم على أصولهم التي ينتمون إليها في القول
بالقياس على أن يجعلوا ما اختلف فيه من القطع مردودا إلى أشبه الجنسين
به فهذه عمدتهم التي اتفقوا عليها في القياس , فإذا فعلوا هذا وجب أن
يكون القطع مقيسا على الجلد , لا على القتل , ولا على النفي غير المؤقت
, وذلك أن القتل لا يتنصف , وكذلك النفي غير المؤقت وأما الجلد فيتنصف
والقطع يتنصف فكان قياس ما يتنصف على ما يتنصف أولى من قياس ما يتنصف
على ما لا يتنصف - هذا أصح قياس لو صح شيء من القياس يوما ما قال أبو
محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك ليلوح الحق من ذلك فنتبعه فوجدناهم
يقولون : قال الله تعالى في الإماء {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} فكان هذا من الله تعالى لا يحل خلافه , وقال تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يخص الله تعالى من ذلك إلا الإماء فقط {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وأبقى العبيد فلم يخص كما خص الإماء " ومن
الباطل أن يريد الله تعالى أن يخص العبيد مع الإماء فيقتصر على ذكر
الإماء ويمسك عن ذكر العبيد ويكلفنا من ذلك علم الغيب ومعرفة ما عنده
مما لم يعرفنا به , حاشا لله تعالى من هذا وكذلك قال الله عز وجل
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فلم يخص
تعالى هاهنا أمة من حرة , ولا عبدا من حر ومن الباطل أن يريد الله
تعالى أن لا تجلد العبيد والإماء في القذف ثمانين جلدة , ويكون أقل من
ذلك , ثم يأمرنا بجلد من قذف ثمانين جلدة , ولا يبين ذلك لنا , أفي حر
دون عبد ؟ وفي حرة دون أمة ؟ وهذا خلاف قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا
فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}
وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} فكان
حد القذف من حدود الله تعالى , وحد الزنى من حدود الله تعالى فلا يحل
أن يتعدى ما حد الله تعالى منها ؟ وحد الله تعالى في القذف ثمانين ,
وفي الزنى مائة , فلا يحل لأحد أن يتعدى ما حد الله تعالى في أحدهما
إلى ما حد الله تعالى في الآخر فواضح بلا شك أن حمل أحدهما على الآخر
في عبد , أو أمة , أو حر , أو حرة : فقد تعدى حدود الله , وسوى ما خالف
الله تعالى بينهما وقال الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فقلتم : إن الحر , والعبد , والأمة سواء ,
فأين زهق عنكم قياسكم الذي خالفتم به القرآن في حد العبد القاذف ,
والأمة القاذفة ؟ ومن أين وجب أن تستسهلوا مخالفة قول الله تعالى:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قياسا
(11/162)
على قوله
تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} وعظم عندكم أن
تخالفوا قوله: {فاقطعوا أيديهما} قياسا على قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} إن هذا لعجب جدا ؟ قال أصحابنا :
ووجدنا الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} فكان من المحال أن يريد الله
تعالى أن يكون حكم العبد والأمة في ذلك بخلاف حكم الحر والحرة ثم لا
يبينه ؟ هذا أمر قد تيقنا أن الله تعالى لا يكلفنا إياه , ولا يريده
منا ؟ قالوا : ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب
فاجلدوه" وجلد في الخمر حدا مؤقتا ولم يخص - عليه السلام - بذلك الحكم
حرا من عبد , ولا حرة من أمة - وهو المبين عن الله تعالى ؟
قال أبو محمد رحمه الله: كل ما ذكره أصحابنا فهو حق صحيح - إن لم تأت
سنة ثابتة تبين صحة ما ذهبنا إليه - وأما إن جاءت سنة صحيحة توجب ما
قلناه , فالواجب الوقوف عند ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم المبين لنا مراد ربنا تعالى , فنظرنا في ذلك : فوجدنا ما
ثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني محمد
بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن
أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه وأقيم عليه الحد
بحساب ما عتق منه". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد
بن شعيب أنا محمد بن عيسى الدمشقي نا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة
عن قتادة وأيوب السختياني قال قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي
طالب , وقال أيوب عن عكرمة عن ابن عباس , ثم اتفق علي , وابن عباس ,
كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب يعتق منه بقدر ما
أدى ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه ويرث بقدر ما عتق منه".
قال أبو محمد رحمه الله: هذا إسناد عجيب , كأن عليه من شمس الضحى نورا
, ما ندري أحدا غمزه بشيء إلا أن بعضهم ادعى أن وهيبا أرسله.
قال أبو محمد رحمه الله: فكان ماذا إذا أرسله وهيب ؟ قد أسند حكم
المكاتب فيما ذكرنا , وفي ديته حماد بن سلمة , وحماد بن زيد عن أيوب ,
وأسنده علي بن المبارك ويحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيضا : فإن الحنفيين , والمالكيين ,
متفقون على أن المرسل كالمسند ولا فرق , فعلى قولهم ما زاده إرسال وهيب
بن خالد إلا قوة , فإذ قد صح , وثبت فقد وجب ضرورة بنص حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن حدود المماليك جملة عموما لذكورهم
(11/163)
وإناثهم :
مخالفة لحكم حدود الأحرار عموما لذكورهم وإناثهم , وإذ ذلك كذلك فلا
قول لأحد من الأمة إلى أن حد المماليك على النصف من حدود الأحرار ,
فكان هذا واجبا القول به , وبهذا نقول - وبالله تعالى التوفيق.
(11/164)
هلي يقيم السيد الحدود على مماليكه أم لا
...
2185 - مسألة : هل يقيم السيد الحدود على مماليكه أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة: يقيم السيد
جميع الحدود من القتل فما دونه على مماليكه وقالت طائفة : يحد السيد
مماليكه في الزنى , والخمر , والقذف , ولا يحده في قطع ؟ قالوا : وإنما
يحده إذا شهد عليه بذلك الشهود وقالت طائفة : لا يحد السيد مملوكه في
شيء من الأشياء , وإنما الحدود إلى السلطان فقط فالقول الأول : كما نا
حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن
أيوب السختياني عن نافع أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق , وجلد عبدا له
زنى من غير أن يرفعهما وبه - إلى عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن
نافع عن ابن عمر قال : إن جارية لحفصة سحرتها واعترفت بذلك , فأخبرت
بها عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب , فقتلها , فأنكر ذلك عليها عثمان بن
عفان ؟ فقال له ابن عمر : ما تنكر على أم المؤمنين امرأة سحرت فاعترفت
؟ فسكت عثمان وبه - إلى عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم
عن نافع قال : أبق غلام لابن عمر فمر على غلمة لعائشة أم المؤمنين فسرق
منهم جرابا فيه تمر , وركب حمارا لهم فأتي به ابن عمر فبعث به إلى سعيد
بن العاص - وهو أمير على المدينة - فقال سعيد : لا يقطع غلام أبق ؟
فأرسلت إليه عائشة : إنما غلمتي غلمتك , وإنما جاع , وركب الحمار ليبلغ
عليه , فلا تقطعه ؟ قال : فقطعه ابن عمر وعن إبراهيم النخعي أن النعمان
بن مقرن قال : لابن مسعود أمتي زنت ؟ قال : اجلدها , قال : إنها لم
تحصن ؟ قال : إحصانها إسلامها قال شعبة : أنا الأعمش عن إبراهيم بهذا ,
وفيه : جلدها خمسين وعن عبد الله بن مسعود وغيره , قالوا : إن الرجل
يجلد مملوكته الحدود في بيته , وأن النعمان بن مقرن سأل عبد الله بن
مسعود قال : أمتي زنت ؟ قال : اجلدها خمسين , قال إنها لم تحصن ؟ قال
ابن مسعود : إحصانها إسلامها وعن ابن وهب نا ابن جريج : أن عمرو بن
دينار أخبره : أن فاطمة بنت رسول الله كانت تجلد وليدتها خمسين إذا زنت
وعن أنس بن مالك : أنه كان يجلد ولائده خمسين إذا زنين حدثنا حمام نا
ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج نا عمرو
بن دينار أن الحسن بن محمد ابن الحنفية أخبره : أن فاطمة بنت محمد صلى
الله عليه وسلم جلدت أمة لها الحد زنت وعن إبراهيم النخعي قال : كان
علقمة , والأسود يقيمان الحد على جواري قومهما.
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روي عن بعض من ذكرنا , وغيرهم : جواز عفو
(11/164)
السيد عن
مماليكه في الحدود : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا
الدبري نا عبد الرزاق عن رجل عن سلام بن مسكين أخبرني عن حبيب بن أبي
فضالة أن صالح بن كريز حدثه أنه جاء بجارية له زنت إلى الحكم بن أيوب ,
قال : فبينما أنا جالس إذ جاء أنس بن مالك فجلس فقال : يا صالح ما هذه
الجارية معك ؟ قلت : جاريتنا بغت فأردت أن أرفعها إلى الإمام ليقيم
عليها الحد ؟ قال : لا تفعل , رد جاريتك , واتق الله واستر عليها ؟ قلت
: ما أنا بفاعل حتى أرفعها , قال له أنس : لا تفعل وأطعني , قال صالح :
فلم يزل يراجعني حتى قلت له : أردها على أن ما كان علي من ذنب فأنت له
ضامن ؟ فقال أنس : نعم , قال : فرددتها وعن إبراهيم النخعي في الأمة
تزني , قال : تجلد خمسين , فإن عفا عنها سيدها فهو أحب إلينا , قال عبد
الرزاق : وبه نأخذ قال أبو محمد رحمه الله: وهذان أثران ساقطان ,
لأنهما عمن لم يسم وأما من فرق بين ذات الزوج وغير ذات الزوج فكما نا
حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن
الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : في الأمة إذا كانت
ليست بذات زوج فظهر منها فاحشة جلدت نصف ما على المحصنات من العذاب
يجلدها سيدها فإن كانت من ذوات الأزواج رفع أمرها إلى الإمام وعن ربيعة
أنه قال : إحصان المملوكة أن تكون ذات زوج , فيذكر منها فاحشة فلا يصدق
عليها سيدها , والزوج يذب عن ولده , وعن رحمها , وعن ما بيده , فليس
يقيم الفاحشة عليها إلا بشهادة أربعة , ولا يقيم الحد عليها إذا ثبت
إلا السلطان , قال الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} وأما من فرق بين الجلد في الزنى , والخمر , والقذف , وبين
القطع في السرقة , فهو قول مالك , والليث : وما نعلمه عن أحد قبلهما.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا نظرنا في ذلك لنعلم الحق فنتبعه
- بمن الله تعالى - فوجدنا أبا حنيفة , وأصحابه , يحتجون بما : ناه عبد
الله بن ربيع نا عبد الله بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد
العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن يحيى البكاء عن مسلم
بن يسار عن أبي عبد الله - رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم - قال : كان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه , قال : هو عالم فخذوا
عنه , فسمعته يقول : الزكاة , والحدود , والفيء , والجمعة , إلى
السلطان وعن الحسن البصري : أنه ضمن هؤلاء أربعا : الجمعة , والصدقة ,
والحدود , والحكم وعن ابن محيريز أنه قال : الحدود , والفيء , والزكاة
, والجمعة , إلى السلطان
(11/165)
قال أبو
محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا , وكل هذا لا حجة لهم فيه ,
لأنه ليس في شيء مما ذكروا : أن لا يقيم الحدود على المماليك ساداتهم ,
وإنما فيه ذكر الحدود عموما إلى السلطان , وهكذا نقول , لكن يخص من ذلك
حدود المماليك إلى ساداتهم بدليل - إن وجد ثم أيضا - لو كان فيما ذكروه
لما كانت فيه حجة , لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما قول مالك , والليث , في التفريق بين
الجلد , والقطع , والقتل , فلا نعلم لهم أيضا حجة أصلا , ولا ندري لهم
في هذا التفريق سلفا من صاحب , ولا تابع , ولا متعلقا من قرآن , ولا من
سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولعل بعضهم أن يقول : إن السيد له جلد عبيده
وإمائه أدبا , وليس له قطع أيديهم أدبا , فلما كان الحد في الزنى ,
والخمر , والقذف جلدا كان ذلك للسادات , لأنه حد , وجلد قال أبو محمد
رحمه الله: فهذا القول في غاية الفساد لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" فجلد الأدب هو غير جلد
الحد بلا شك - وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا في قول ربيعة , فوجدناه
قولا لا تؤيده حجة , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة : أما قول ربيعة
فإن للزوج أن ينوب عنها فحجة زائفة جدا , وما جعل الله تعالى للزوج
اعتراضا , ولا ذبا فيما جاءت السنة بإقامته عليها وأما من رأى السيد
يقيم جميع الحدود على مماليكه , فنظرنا فيه فوجدنا : ما نا عبد الله بن
يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن
علي نا مسلم بن الحجاج نا عيسى بن حماد المصري نا الليث بن سعد عن سعيد
بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد , ولا يثرب
عليها , ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها , ثم إن زنت الثالثة
فليبعها لو بحبل من شعر" وعن مسلم أيضا : أنا القعنبي أنا مالك عن ابن
شهاب عن عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال: "إن زنت فاجلدوها , ثم
إن زنت فاجلدوها , ثم إن زنت فاجلدوها , ثم بيعوها , ولو بضفير" قال
ابن شهاب : والضفير - الحبل قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة , أو
الرابعة - والأخبار فيما ذكرنا كثيرة جدا.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم نتكلم - بعون الله تعالى - فيما ذكرنا في
الأخبار المذكورة من بيع الأمة التي تزني , فنقول : إن الليث روى هذا
الحديث عن سعيد
(11/166)
ابن أبي
سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة : إن زنت الثالثة فليبعها - ولو
بحبل من شعر - وهكذا رواه عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن
أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة وهكذا أيضا - رواه خالد بن الحارث عن ابن
عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة , فلم يذكروا زناها المرة الثالثة
جلدا , بل ذكروا البيع فقط وعن أبي صالح عن أبي هريرة أن يقام الحد
عليها ثلاث مرات , ثم تباع بعد الثالثة مع الجلد - وهكذا رواه سفيان بن
عيينة قال علي : فوجب أن يلغى الشك ويستقر البيع بعد الثالثة مع الجلد
- والطرق كلها في ذلك في غاية الصحة , وكل ما صح عن النبي صلى الله
عليه وسلم فهو عن الله تعالى , قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن
هو إلا وحي يوحى} فإذ ذلك كذلك فأمره صلى الله عليه وسلم بالبيع في
الثالثة ندب برهان ذلك : أمره بالبيع في الرابعة لا يمكن ألبتة إلا هذا
, لأنه لو كان أمره صلى الله عليه وسلم في الثالثة فرضا لما أباح حبسها
إلى الرابعة وأما البيع في الرابعة ففرض لا بد منه , لأن أوامره صلى
الله عليه وسلم على الفرض لقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية.
قال أبو محمد رحمه الله: ويجبره السلطان على بيعها أحب أم كره بما
ينتهي إليه العطاء فيها , ولا يتأتى بها طلب زيادة , ولا سوق , كما أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع - ولو بحبل من شعر , أو ضفير من
شعر - إذا لم يوجد فيها إلا ذلك , فإن زنت في خلال تعريضها للبيع , أو
قبل أن تعرض حدها أيضا , لعموم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بجلدها إن
زنت - وكذلك إن غاب السيد أو مات , فلا بد من بيعها على الورثة ضرورة -
فإن كانت لصغار جلدها الولي أو الكافل , لقول رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في رواية مالك عن الزهري فاجلدوها , فهو عموم لكل من قام به
, ولا يلزم البيع في العبد إذا زنى , لأن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إنما أمر بذلك الأمة إذا زنت {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي
يوحى} {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
وكذلك إن سرقت الأمة أو شربت الخمر , فإنها تحد ولا يلزم بيعها , لأن
النص إنما جاء في زناها فقط {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.
قال أبو محمد رحمه الله: فلو أعتقها السيد إذا تبين زناها لم ينفذ عتقه
بل هو مردود , لأنه مأمور ببيعها وإخراجها عن ملكه , فهو في عتقه إياها
, أو كتابته لها , أو هبته إياها , أو الصدقة بها , أو إصداقها , أو
إجارتها , أو تسليمها في شيء بصفة غير البيع - مما شاء نقدا أو إلى أجل
- بدنانير أو بدراهم : مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وقد قال عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكذلك لو
دبرها فمات , أو أوصى بها , فكل ذلك باطل , ولا بد من بيعها.
(11/167)
قال أبو
محمد رحمه الله: ولا يجوز أن يقيم الحد السيد على مماليكه إلا بالبينة
, أو بإقرار المماليك , أو صحة علمه ويقينه , على نص قوله صلى الله
عليه وسلم: "فتبين زناها" ولا يطلق على إقامة الحدود على المماليك إلا
أهل العدالة , فقط من المسلمين
(11/168)
2186 -
مسألة : أي الأعضاء تضرب في الحدود:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا ؟ وقال الله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} الآية ففعلنا : فوجدنا الله تعالى قال: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
وقال عليه السلام: "إذا شرب فاجلدوه" وقال عليه السلام: "وعلى ابنك جلد
مائة وتغريب عام والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وسنذكر كل ذلك -
إن شاء الله تعالى - فلم نجد عن الله تعالى , ولا عن رسوله صلى الله
عليه وسلم أمرا بأن يخص عضوا بالضرب دون عضو إلا حد القذف وحده , فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: "البينة وإلا حد في ظهرك" حدثنا
عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عمران بن يزيد
الدمشقي نا مخلد بن الحسين الأسدي نا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن
أنس بن مالك قال: "إن أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف
شريك ابن سحماء بامرأته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ,
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم البينة وإلا حد في ظهرك يردد ذلك
عليه مرارا" فوجب أن لا يخص بضرب الزنى , والخمر عضو من عضو , إذ لو
أراد الله تعالى ذلك لبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه
يجب اجتناب الوجه ولا بد , والمذاكر , والمقاتل أما الوجه - فلما روينا
من طريق مسلم نا عمرو الناقد , وزهير بن حرب قالا جميعا : أنا سفيان بن
عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه" وأما المقاتل : فضربها
غرر , كالقلب , والأنثيين , ونحو ذلك - ولا يحل قتله ولا التعريض به ,
لما نخاف منه - وبالله تعالى التوفيق
(11/168)
2187 -
مسألة : كيف يضرب الحدود أقائما أم قاعدا:
اختلف الناس في ذلك وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ} الآية أما من قال بأن الحدود تقام على المحدود وهو قائم فإنهم
ذكروا في ذلك ما ناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أنا إبراهيم بن
أحمد أنا الفربري أنا البخاري أنا إسماعيل بن عبد الله أنا مالك عن
نافع عن ابن عمر , فذكر حديث اليهوديين اللذين رجمهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الزنى , قال ابن عمر: "فرأيت الرجل يحني على المرأة
يقيها الحجارة" وذكروا حديث أبي هريرة في جلده حد القذف الذي يقول في
ذلك : لعمرك إني يوم أضرب قائما ثمانين سوطا , إنني لصبور ثم أتوا
بأطرف ما يكون
(11/168)
صفة الضرب في الحدود
...
2188 - مسألة : صفة الضرب:
قال أبو محمد رحمه الله: أجاز قوم أن يسال الدم في جلد الحدود ,
والتعزير - وهو لم يأت به عن الصحابة شيء من ذلك , بل قد صح عن عمر -
رضي الله عنه - مما قد ذكرناه قبل لا تجد , فاجلدها , ولا يعرف له في
ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - والذي نقول به في الضرب في
الزنى , والقذف , والخمر , والتعزير : أن لا يكسر له عظم , ولا أن يشق
له جلد , ولا أن يسال الدم , ولا أن يعفن له اللحم , لكن بوجع سالم من
كل ذلك , فمن تعدى فشق في ذلك الضرب جلدا , أو أسال دما , أو عفن لحما
, أو كسر له عظما , فعلى متولي ذلك القود , وعلى الآمر أيضا
(11/169)
القود إن
أمر بذلك برهان ذلك : قول الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ
شَيْءٍ قَدْراً} فعلمنا يقينا أن لضرب الحدود قدرا لا يتجاوزه وقدرا لا
ينحط عنه بنص القرآن , فطلبنا ذلك فوجدنا أدنى أقداره أن يؤلم , فما
نقص عن الألم فليس من أقداره - وهذا ما لا خلاف فيه من أحد - وكان أعلى
أقداره نهاية الألم في الزنى مع السلامة من كل ما ذكرنا , ثم الحطيطة
من الألم على حسب ما وصفنا فأما المنع من كل ما ذكرنا , فلقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم
حرام" فحرمت إسالة الدم نصا إذ هرق الدم حرام , إلا ما أباحه نص , أو
إجماع - ولا نص , ولا إجماع على إباحة إسالة الدم في شيء من الحدود -
نعم , ولا عن أحد من التابعين وأما تعفن اللحم : فقد نص رسول الله صلى
الله عليه وسلم على تحريم البشرة , فلا يحل منها إلا ما أحله نص أو
إجماع , وإنما صح النص والإجماع على إباحتها للألم فقط , وأما كسر
العظام , فلا يقول بإباحته في ضرب الحدود أحد من الأمة بلا شك ؟ قال
أبو محمد رحمه الله: ومن خالفنا في هذه الأشياء سألناه ألشدة الضرب في
ذلك حد أم لا ؟ فإن قالوا : لا , تركوا قولهم , وخالفوا الإجماع ,
ولزمهم أن يبيحوا أن يجلد في كل ذلك بسوط مملوء حديدا أو رصاصا يقتل من
ضربه - وهذا لا يقوله أحد من الأمة وإن قالوا : إن لذلك حدا وقدرا نقف
عنده فلا يحل تجاوزه : سئلوا عن ذلك , فإن حدوا فيه غير ما حددنا كانوا
متحكمين في الدين بلا برهان فإن قالوا : إن الحدود إنما جعلت للردع ؟
قلنا لهم : كلا , ما ذلك كما تقولون , إنما ردع الله تعالى بالتحريم
وبالوعيد في الآخرة فقط , وأما بالحدود فإنما جعل الله تعالى كما شاء ,
ولم يخبرنا الله تعالى أنها للردع , ولو كانت للردع كما تدعون لكان ألف
سوط أردع من مائة ومن ثمانين , ومن أربعين , ومن خمسين , ولكان قطع
اليدين والرجلين أردع من قطع يد واحدة , ولكنا نقول : هي نكال وعقوبة ,
وعذاب , وجزاء , وخزي , كما قال الله تعالى في المحاربة {إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ}
الآية وقال تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ
مِنَ الْعَذَابِ} وقال تعالى في القاذف {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ
أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية وقال تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي} الآية وإنما التسمية في الدين إلى الله تعالى , لا إلى
الناس فصح أنه تعالى جعلها كما شاء حيث شاء , ولم يجعلها حيث لم يشأ.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد صح ما ذكرنا , وصح مقدار الضرب الذي لا
يتجاوز , فقد صح أن من تجاوز ذلك المقدار فإنه متعد لحدود الله تعالى ,
وهو عاص بذلك , ولا
(11/170)
تنوب
معصية الله تعالى عن طاعته , فإذ هو متعد فعليه القود , قال الله
تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الآية فضرب
التعدي لا يتبعض بلا شك , فإذ لا يتبعض - وهو معصية - فباطل أن يجزي عن
الحد الذي هو طاعة لله تعالى فيقتص له منه , ثم يقام عليه الحد ولا بد
- وبالله تعالى التوفيق.
(11/171)
2189 -
مسألة : بأي شيء يكون الضرب في الحد:
قال أبو محمد رحمه الله: أما أهل الرأي , والقياس , فإنهم قالوا :
الحدود كلها بالسوط , إلا الشافعي رحمه الله قال : إلا الخمر , فإنه
يجلد فيها بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد فيها.
قال أبو محمد رحمه الله: احتج من رأى الجلد بالسوط ولا بد في الحدود :
بما أنا حمام أنا ابن مفرج أنا ابن الأعرابي أنا الدبري أنا عبد الرزاق
أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ؟ فدعا النبي
صلى الله عليه وسلم بسوط , فأتي بسوط جديد عليه ثمرته , قال : لا , سوط
دون هذا ؟ فأتي بسوط مكسور العجز , فقال : لا , سوط فوق هذا ؟ فأتي
بسوط بين السوطين , فأمر به فجلد" وذكر الخبر وعن زيد بن أسلم: "أن
رجلا اعترف على نفسه بالزنى , فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط
, فأتي بسوط مكسور , فقال فوق هذا , فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته ,
فقال بين هذين , فأتي بسوط قد ركب به ولان , فأمر به فجلد" وذكر باقي
الخبر حدثنا عبد الله بن ربيع أنا ابن مفرج أنا قاسم بن أصبغ أنا ابن
وضاح أنا سحنون أنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال : سمعت عبيد
الله بن مقسم يقول : سمعت كريبا مولى ابن عباس يحدث أو يحدث عنه قال:
"أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف على نفسه بالزنى , ولم يكن
الرجل أحصن , فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوطا فوجد رأسه شديدا
فرده , ثم أخذ سوطا آخر فوجده لينا , فأمر به فجلد مائة" وعن أبي عثمان
النهدي قال : أتي عمر بن الخطاب في حد - ما أدري ما ذلك الحد - فأتي
بسوط فيه شدة , فقال : أريد ما هو ألين فأتي بسوط لين , فقال : أريد
أشد من هذا , فأتي بسوط بين السوطين فقال : اضرب ولا يرى إبطك وعن أبي
عثمان النهدي قال : أتي عمر بن الخطاب في حد فأتي بسوط , فهزه فقال :
ائتوني بسوط ألين من هذا , فأتي بسوط آخر , فقال ائتوني بسوط أشد من
هذا , فأتي بسوط بين السوطين , فقال : اضرب ولا يرى إبطك , وأعط لكل
عضو حقه.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير ما ذكرنا أما الآثار -
في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرسلة كلها , ولا حجة في مرسل
, وأضعفها حديث مخرمة بن بكير , لأنه منقطع في ثلاثة مواضع , لأن سماع
مخرمة من أبيه لا يصح , وشك ابن مقسم
(11/171)
أسمعه من
كريب أم بلغه عنه ؟ ثم هو عن كريب مرسل ثم لو صح لما كان لهم في شيء
منها حجة , لأنه ليس في شيء منها : أن لا تجلد الحدود إلا بسوط هذه
صفته , وإنما فيه : أن الحدود جائز أن يضرب بسوط هذه صفته فقط , وهذا
أمر لا نأباه - فسقط تعلقهم بالآثار المذكورة وأما الأثر : عن عمر رضي
الله عنه فصحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه , ولا حجة في قول أحد دون رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلما سقط كل ما شغبوا به نظرنا فيما يجب في
ذلك فوجدنا الله تعالى يقول في الزاني والزانية {فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إلى قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وقال
عليه السلام: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام" وقال تعالى في القاذف:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" وقال عليه السلام: "إذا شرب
فاجلدوه" ونهى عليه السلام أن يجلد أكثر من عشر جلدات في غير حد ,
فأيقنا يقينا لا يدخله شك : أن الله تعالى لو أراد أن يكون الجلد في
شيء مما ذكرنا بسوط دون سوط لبينه لنا على لسان رسوله عليه السلام في
القرآن , وفي وحي منقول إلينا ثابت , كما بين صفة الضرب في الزنى ,
وكما بين حضور طائفة من المؤمنين للعذاب في ذلك , فإذ لم يفعل ذلك
تعالى فبيقين ندري أن الله تعالى لم يرد قط أن يكون الضرب في الحدود
بسوط خاصة , دون سائر ما يضرب به , فإذ ذلك كذلك فالواجب أن يضرب الحد
في الزنى والقذف بما يكون الضرب به على هذه الصفة , بسوط , أو بحبل من
شعر , أو من كتان , أو من قنب , أو صوف , أو حلفاء , وغير ذلك , أو تفر
, أو قضيب من خيزران ; أو غيره , إلا الخمر , فإن الجلد فيها على ما
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روينا من طريق مسلم أنا محمد
بن المثنى أنا معاذ بن هشام - هو الدستوائي - أنا قتادة عن أنس بن
مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد , والنعال"
ومن طريق البخاري أنا قتيبة بن سعيد أنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن يزيد
بن الهادي عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "أتي
النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال اضربوه قال أبو هريرة :
فمنا الضارب بيده , والضارب بنعله , والضارب بثوبه" وذكر الحديث.
قال أبو محمد رحمه الله: فالجلد في الخمر خاصة يكون بالجريد , والنعال
, والأيدي , وبطرف الثوب , كل ذلك , أي ذلك رأي الحاكم فهو حسن , ولا
يمتنع عندنا أن يجلد في الخمر أيضا بسوط لا يكسر , ولا يجرح , ولا يعفن
لحما : كما روينا من طريق مسلم أنا أحمد بن عيسى أنا ابن وهب أخبرني
عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج قال:
(11/172)
بينما نحن
عند سليمان بن يسار إذ جاء عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله فحدثه فأقبل
علينا فقال : حدثني عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد أحد فوق عشرة
أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى" فاقتضى هذا أن الضرب بالسوط جائز
في كل حد , وفي التعزير , وضرب الخمر - وبالله تعالى التوفيق.
(11/173)
هل يجلد المريض الحد أم لا
...
2190 - مسألة : هل يجلد المريض الحدود أم لا ؟ وإن جلدها كيف يجلدها:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : يعجل له
ضرب الحد - كما أنا محمد بن سعيد بن نبات أنا أحمد بن عبد البصير أنا
قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا
عبد الرحمن بن مهدي أنا سفيان الثوري عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم عن أبيه أن عمر بن الخطاب أتي برجل يشرب الخمر - وهو
مريض - فقال : أقيموا عليه الحد , فإني أخاف أن يموت.
قال أبو محمد رحمه الله: فاحتمل هذا أن يكون إشفاق عمر - رضي الله عنه
- من أن يموت قبل أن يضرب الحد فيكون معطلا للحد واحتمل أيضا : من أن
يكون يصيبه موت منه , فنظرنا في ذلك , فوجدنا محمد بن سعيد أيضا - قال
: أنا عبد الله بن نصر أنا قاسم بن أصبغ أنا ابن وضاح أنا موسى بن
معاوية أنا وكيع أنا سفيان فذكر هذا الخبر , وفيه : أن عمر قال :
اضربوه لا يموت فبين هذا أن إشفاق عمر كان من كلا الأمرين.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذا كان هذا , فقد ثبت أنه أمر بأن يضرب ضربا
لا يموت منه وبه - إلى وكيع أنا سفيان عن ابن جريج عن عبد الله بن عبيد
بن عمير عن أبيه : أنه كان يبر نذره بأدنى الضرب وبه - إلى وكيع أنا
سفيان عن ابن جريج عن عطاء : الضغث للناس عامة , في قوله تعالى:
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} أنا يحيى بن
عبد الرحمن بن مسعود أنا أحمد بن دحيم أنا إبراهيم بن حماد أنا إسماعيل
بن إسحاق أنا إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام
بن عروة عن غلام لهم يفهم قال : أخبرني ذلك الغلام أن عروة حلف ليضربني
كذا وكذا ضربة , فأخذ بيده شماريخ فضربني بها جميعا وبه - إلى إسماعيل
نا محمد بن عبيد أنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة في قوله تعالى
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} قال : عودا
فيه تسعة وتسعون عودا , والأصل تمام المائة , فضرب به امرأته , وكان
حلف ليضربنها , فكانت الضربة تحلة ليمينه , وتخفيفا عن امرأته - وهو
قول الشافعي وقالت طائفة:
(11/173)
يؤخر جلده
حتى يبرأ - وهو قول مالك وجاء عن مجاهد في الآية المذكورة : ما ناه
يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود بالإسناد المذكور إلى إسماعيل بن إسحاق
أنا علي بن عبد الله أنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله
تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} قال :
هي لأيوب خاصة - وقال عطاء : هي للناس عامة.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا نظرنا في ذلك لنعلم الحق فنتبعه
- بعون الله تعالى - فوجدنا الطائفة المانعة من إقامة الحد عليه - حتى
يبرأ - يحتجون : بما ناه حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك
بن أيمن أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبي أنا غندر أنا شعبة قال :
سمعت عبد الأعلى التغلبي يحدث عن أبي جميلة عن علي بن أبي طالب: "أن
أمة زنت فحملت , فأتى علي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له :
دعها حتى تلد - أو قال حتى تضع ثم اجلدها" وبه - إلى أحمد بن حنبل أنا
وكيع أنا سفيان عن عبد الأعلى التغلبي عن أبي جميلة الطهوي عن علي: "أن
خادما للنبي صلى الله عليه وسلم أحدثت فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم
أن أقيم عليها الحد فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته
فقال : إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد أقيموا الحدود على ما ملكت
أيمانكم" قالوا : فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعجل جلد
الخادم الحامل حتى تضع فتجلد الحد الذي أمر الله تعالى به - وكذلك التي
لم تجف من دمها حتى يجف عنها دمها ثم نظرنا في قول الطائفة الثانية
الموجبة تعجيل الحد على حسب ما يؤمن به الموت , فوجدناهم يذكرون : ما
ناه عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن
يوسف النيسابوري , ومحمد بن عبيد الله بن يزيد بن إبراهيم الحراني -
واللفظ له - قال أحمد : أنا أحمد بن سليمان , وقال محمد بن عبيد الله :
حدثني أبي ثم اتفق أحمد بن سليمان , وعبيد الله بن يزيد : قالا : أنا
عبد الله بن عمرو - هو الرقي - عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي حازم عن سهل
بن سعد قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد زنى , فأمر
به فجرد , فإذا رجل مقعد , حمش الساقين , فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما يبقي الضرب من هذا شيئا , فدعا بأثاكيل فيها مائة شمروخ ,
فضربه بها ضربة واحدة" أنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد
الملك بن أيمن أنا يزيد بن محمد العقيلي بمكة أنا عبد الرحمن بن حماد
الثقفي أنا الأعمش عن الشعبي عن علقمة عن ابن عباس قال: "مر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بامرأة ضعيفة لا تقدر أن تمتنع ممن أرادها فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ممن ؟ قالت : من فلان , فذكرت رجلا
ضعيفا أضعف منها , فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجيء به
فسأله عن ذلك ؟ فأقر مرارا , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
خذوا أثاكيل مائة فاضربوه بها مرة واحدة".
(11/174)
قال أبو
محمد رحمه الله: حديث سهل بن سعد صالح تقوم به الحجة , فإن قيل : إن
هذا الخبر المعروف فيه إسرائيل : كما أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن
معاوية أنا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن وهب الحراني أنا محمد بن سلمة
ني أبو عبد الرحيم - هو خال محمد بن سلمة - حدثني زيد - هو ابن أبي
أنيسة - عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: "جيء رسول الله
صلى الله عليه وسلم بجارية - وهي حبلى - فسألها ممن حملك ؟ فقالت : من
فلان المقعد , فجيء بفلان , فإذا رجل حمش الجسد ضرير , فقال : والله ما
يبقي الضرب من هذا شيئا , فأمر بأثاكيل مائة فجمعت , فضرب بها ضربة
واحدة" وهي : شماريخ النخل الذي يكون فيها العروق وفي آثار كثيرة يطول
ذكرها جدا , فتركناها لذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما جاءت الآثار كما ذكرنا : وجب أن ننظر في
ذلك ؟ فوجدنا حديث أبي جميلة عن علي صحيحا إلا أنه لا حجة لهم فيه أصلا
, لأنه إنما فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الحد عن الحمل
, وعن التي لم تجف من دمها - وهذا ليس مما نحن فيه في شيء , لأن الحامل
ليست مريضة , وإنما خيف على جنينها الذي لا يحل هلاكه , وحكم الصحيح أن
تجلد بلا رأفة , وحكم الجنين أن لا يتوصل إلى إهلاكه : فوجب تأخير
الجلد عنها جملة , كما يؤخر الرجم أيضا من أجله وأما التي لم تجف من
دمها : فإن هذا كان إثر الولادة , وفي حال سيلان الدم , وهذا شغل شاغل
لها , ومثلها أن لا تجلد في تلك الحال , كمن ذرعه القيء , أو هو في حال
الغائط , أو البول , ولا فرق , وانقطاع ذلك الدم قريب , إنما هي ساعة
أو ساعتان - ولم يقل في الحديث إذا طهرت , إنما قال : إذا جفت من دمها
فبطل أن يكون لهم في شيء من ذينك الحديثين متعلق أصلا فإذ قد سقط أن
يكون لتلك الطائفة متعلق , فالواجب أن ننظر - بعون الله فيما قالت به
الطائفة الأخرى : فنظرنا في الحديث الذي أوردنا من جلد المزمن المريض
بشماريخ فيها مائة عثكول : فوجدنا الطريق الذي صدرنا به من طريق سهل بن
سعد طريقا جيدا تقوم به الحجة , ووجدناهم يحتجون بأمر أيوب صلى الله
عليه وآله وسلم
وقال أبو محمد رحمه الله: أما نحن فلا نحتج بشريعة نبي غير نبينا صلى
الله عليه وسلم لقول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً} ولما قد أحكمنا في كتابنا الموسوم ب الإحكام لأصول
الأحكام.
قال أبو محمد رحمه الله: وحتى لو لم يصح في هذا حد , لكان قول الله
تعالى:
(11/175)
{لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} موجبا أن لا يجلد أحد إلا
على حسب طاقته من الألم , وكان نصا جليا في ذلك لا يجوز مخالفته أصلا .
وبضرورة العقل ندري أن ابن نيف وثلاثين قوي الجسم , مصبر الخلق , يحمل
من الضرب من قوته ما لا يحمله الشيخ ابن ثمانين , والغلام ابن خمسة عشر
عاما , - وأربعة عشر عاما - إذا بلغ - وأصاب حدا وكذلك يؤلم الشيخ
الكبير , والغلام الصغير , من الجلد ما لا يؤلم ابن الثلاثين الشاب
القوي , بل لا يكاد يحس إلا حسا لطيفا ما يؤلم ذينك الألم الشديد وأن
الذي يؤلم الشاب القوي , لو قوبل به الشيخ الهرم , والصغير النحيف , من
الجلد لقتلهما , هذا أمر لا يدفعه إلا مدافع للحس والمشاهدة ووجدنا
المريض يؤلمه أقل شيء مما لا يحسه الصحيح أصلا , إلا كما يحس بثيابه
التي ليس لحسه لها في الألم سبيل أصلا , وعلى حسب شدة المرض يكون تألمه
للكلام , وللتلف , وللمس اليد بلطف , هذا ما لا شك فيه أصلا ومن كابر
هذا فإنما يكابر العيان , والمشاهدة , والحس فوجدنا المريض إذا أصاب
حدا من زنى , أو قذف , أو خمر , لا بد فيه من أحد أمرين لا ثالث لهما :
إما أن يعجل له الحد , وإما أن يؤخر عنه ؟ فإن قالوا : يؤخر ؟ قلنا لهم
: إلى متى ؟ فإن قالوا : إلى أن يصح ؟ قلنا لهم : ليس هذا أمد محدود ,
وقد تتعجل الصحة , وقد تبطئ عنه , وقد لا يبرأ , فهذا تعطيل للحدود ,
وهذا لا يحل أصلا , لأنه خلاف أمر الله تعالى في إقامة الحدود , فلم
يبق إلا تعجيل الحد كما قلنا نحن , ويؤكد ذلك قول الله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فصح أن الواجب أن يجلد
كل واحد على حسب وسعه الذي كلفه الله تعالى أن يصبر له , فمن ضعف جدا
جلد بشمراخ فيه مائة عثكول جلدة واحدة , أو فيه ثمانون عثكالا كذلك -
ويجلد في الخمر وإن اشتد ضعفه بطرف ثوب : على حسب طاقة كل أحد ولا مزيد
- وبهذا نقول ونقطع : أنه الحق عند الله تعالى بيقين , وما عداه فباطل
عند الله تعالى - وبه التوفيق.
(11/176)
2191 -
مسألة : بكم من مرة من الإقرار تجب الحدود على المقر:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : بإقراره
مرة واحدة تجب إقامة الحدود - وهو قول الحسن بن حي , وحماد بن أبي
سليمان , وعثمان البتي ; ومالك , والشافعي , وأبي ثور , وأبي سليمان ,
وجميع أصحابهم وقالت طائفة : لا يقام على أحد حد الزنى بإقراره حتى يقر
على نفسه أربع مرات , ولا يقام عليه حد القطع , والسرقة حتى يقر به
مرتين , وحد الخمر مرتين - وأما في القذف فمرة واحدة - وهو قول روي عن
أبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
(11/176)
قال أبو
محمد رحمه الله: فلما اختلفوا - كما ذكرنا - نظرنا فيما احتجت به كل
طائفة لقولها , فنظرنا في قول من رأى أن الحد لا يقام في الزنا بأقل من
أربع مرات : فوجدناهم يحتجون بطريق مسلم ني عبد الملك بن شعيب عن الليث
بن سعد ني أبي عن جدي ني عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن بن عوف , وسعيد بن المسيب كلاهما عن أبي هريرة: "أنه أتى رجل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد - فناداه فقال : يا
رسول الله إني قد زنيت ؟ فأعرض عنه , فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول
الله إني قد زنيت فأعرض عنه حتى كرر ذلك أربع مرات , فلما شهد على نفسه
أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبك جنون ؟ قال :
لا , قال : فهل أحصنت قال : نعم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اذهبوا به فارجموه" حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا
أحمد بن شعيب أنا محمد بن حاتم بن نعيم أنا حبان - هو ابن موسى - أنا
عبد الله - هو ابن المبارك - عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن عبد
الرحمن بن مضاض عن أبي هريرة: "أن ماعزا أتى رجلا يقال له : هزال ,
فقال : يا هزال إن الآخر قد زنى , قال : ائت رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل أن ينزل فيك قرآن , فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره
أنه زنى ؟ فأعرض عنه , ثم أخبره فأعرض عنه , ثم أخبره فأعرض عنه - أربع
مرات - فلما كان الرابعة أمر برجمه , فلما رجم أتي إلى شجرة فقتل".
حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا محمد
بن حاتم بن نعيم أنا حبان - وهو ابن موسى - أنا عبد الله بن المبارك عن
زكريا أبي عمران البصري - هو ابن سليم - صاحب اللؤلئي قال : سمعت شيخا
يحدث عمرو بن عثمان القرشي قال : أنا عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه
قال: "شهدت النبي عليه السلام - وهو واقف على بغلته - فجاءته امرأة
حبلى فقالت : إنها قد بغت فارجمها ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم
استتري بستر الله فذهبت ثم رجعت إليه - وهو واقف على بغلته - فقالت :
ارجمها ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم استتري بستر الله فرجعت ثم
جاءت الثالثة - وهو واقف على بغلته - فأخذت باللجام فقالت : أنشدك الله
إلا رجمتها , فقال : انطلقي حتى تلدي فانطلقت فولدت غلاما , فجاءت به
النبي صلى الله عليه وسلم فكفله النبي عليه السلام - ثم قال انطلقي
فتطهري من الدم فانطلقت فتطهرت من الدم , ثم جاءت فبعث النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إلى نسوة فأمرهن أن يستبرئنها وأن ينظرن أطهرت من الدم
؟ فجئن فشهدن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطهرها , فأمر لها
عليه السلام بحفرة إلى ثندوتها , ثم أقبل هو والمسلمون فقال بيده :
فأخذ حصاة - كأنها حمصة - فرماها بها , ثم قال للمسلمين : ارموها
وإياكم ووجهها , فرموها حتى طفيت , فأمر بإخراجها حتى صلى عليها"
وروينا من
(11/177)
طريق مسلم
نا محمد بن عبد الله بن نمير , وأبو بكر بن أبي شيبة , كلاهما يقول :
إن عبد الله بن نمير حدثه قال : أنا بشر بن المهاجر أنا عبد الله بن
بريدة عن أبيه: "أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت , وإني أريد أن
تطهرني , فرده , فلما كان من الغد أتاه فقال : يا رسول الله إني قد
زنيت , فرده الثانية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومه
فقال : أتعلمون بعقله بأسا ؟ أتنكرون منه شيئا ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا
وفي العقل من صالحينا فيما نرى , فأتاه الثالثة , فأرسل إليهم أيضا
فسأل عنه , فأخبروه أنه لا بأس به , ولا بعقله , فلما كان الرابعة :
حفر له حفرة ثم أمر به فرجم , فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله إني
قد زنيت فطهرني , وأنه ردها , فلما كان الغد قالت : يا رسول الله
أتردني , لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا , فوالله إني لحبلى , قال
لها : لا , أما الآن فاذهبي حتى تلدي , فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة
قالت : هذا قد ولدته قال : فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه , فلما فطمته أتت
بالصبي في يده كسرة خبز قالت : هذا يا رسول الله قد فطمته , وقد أكل
الطعام , فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى
صدرها , وأمر الناس فرجموها" فهذا هو البيان الجلي من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم لأي شيء رد ماعزا لأن الغامدية قررته عليه السلام
على أنه رد ماعزا , وأنه لا يحتاج إلى ترديدها , لأن الزنى الذي أقرت
به صحيح ثابت , وقد ظهرت علامته - وهي حبلها - فصدقها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بذلك , وأمسك عن ترديدها - ولو كان ترديده عليه
السلام ماعزا من أجل أن الإقرار لا يصح بالزنى حتى يتم أربع مرات لأنكر
عليها هذا الكلام , ولقال لها : لا شك إنما أردك كما رددت ماعزا لأن
الإقرار لا يتم إلا بأربع مرات - وهو عليه السلام لا يقر على خطأ , ولا
على باطل فصح يقينا أنها صادقة , فإنها لا تحتاج من الترديد إلى ما
احتاج إليه ماعز , ولذلك لم يردها عليه السلام بعد هذا الكلام وصح
يقينا أن ترديده عليه السلام ماعزا إنما كان لوجهين : أحدهما - ما نص
عليه السلام من تهمته لعقله فسأل عليه السلام قومه المرة بعد المرة هل
به جنون ؟ وسؤاله عليه السلام هل شرب خمرا كما روينا من طريق مسلم أنا
محمد بن العلاء أنا يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربي عن غيلان بن جامع
عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال: "جاء ماعز بن مالك
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له طهرني , قال : ويحك
ارجع فاستغفر الله وتب , قال : فرجع غير بعيد , ثم جاء فقال : يا رسول
الله طهرني ؟ فقال له مثل ذلك , حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم : فيم أطهرك ؟ قال : من الزنى , فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبه جنة ؟
(11/178)
فأخبر أنه
ليس بمجنون , فقال : أشرب خمرا ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح
خمر , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أزنيت ؟ قال : نعم ,
فأمر به فرجم" وذكر باقي الخبر والوجه الآخر أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم اتهمه أنه لا يدري ما الزنى ؟ فردده لذلك وقرره كما أنا
عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أرنا سويد بن
نصر أرنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن
ابن عباس: "أن الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف
بالزنى , فقال : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت" وبه - إلى أحمد بن شعيب
أخبرني عبد الله بن الهيثم عن عثمان البصري أرنا وهب بن جرير بن حازم
قال : حدثني أبي قال سمعت يعلى بن حكيم يحدث عن عكرمة عن ابن عباس "أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لماعز بن مالك : ويحك لعلك قبلت ,
أو غمزت , أو نظرت ؟ قال : لا , قال : فنكتها ؟ قال : نعم , فعند ذلك
أمر برجمه" فقد صح يقينا أن ترديد النبي عليه السلام لماعز لم يكن
مراعاة لتمام الإقرار أربع مرات أصلا , وإنما كان لتهمته إياه في عقله
, وفي جهله ما هو الزنى - فبطل تعلقهم بحديث ابن بريدة - والحمد لله رب
العالمين وأما حديث أبي هريرة من طريق ابن مضاض , فإن ابن مضاض مجهول
لا يدرى من هو ؟ وقد جاء عن أبي هريرة خبر صحيح ببيان بطلان ظنهم نذكره
بعد تمام كلامنا في هذه الأخبار - إن شاء الله تعالى , وهو - : ما أنا
عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن
إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني أبو
الزبير قال : إن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره أنه سمع
أبا هريرة يقول: "جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فشهد على نفسه أربع مرات بالزنى يقول : أتيت امرأة حراما , وكل ذلك
يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل في الخامسة فقال له :
أنكحتها ؟ قال : نعم , قال : فهل تدري ما الزنى ؟ قال : نعم , أتيت
منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا , قال : فما تريد بهذا
القول ؟ قال : أريد أن تطهرني ؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يرجم فرجم , فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلين من
أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم
تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب , فسكت عنهما رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجليه , فقال : أين فلان وفلان ؟
فقالا : نحن يا رسول الله , فقال لهما : كلا من جيفة هذا الحمار ,
فقالا : يا رسول الله غفر الله لك من يأكل هذا ؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم : ما نلتما من عرض هذا آنفا أشد
(11/179)
من هذه
الجيفة , فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا خبر صحيح , وفيه أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لم يكتف بتقريره أربع مرات , ولا بإقراره أربع مرات ,
حتى أقر في الخامسة , ثم لم يكتف بذلك حتى سأله السادسة : هل تعرف ما
الزنى ؟ فلما عرف عليه السلام أنه يعرف الزنى لم يكتف بذلك حتى سأله
السابعة , ما يريد بهذا إلا ليختبر عقله , فلما عرف أنه عاقل صحيح
العرض أقام عليه الحد - وفي هذا الخبر بيان بطلان الرأي من الصاحب
وغيره , لأنه عليه السلام أنكر عليهما ما قالاه برأيهما مجتهدين قاصدين
إلى الحق - فهذا يبطل احتجاج من احتج بما روي عن بريدة وبالله تعالى
التوفيق ومن طريق مسلم أنا أبو غسان المسمعي أنا معاذ - يعني ابن هشام
الدستوائي - ني أبي عن يحيى بن أبي كثير ني أبو قلابة أن أبا المهلب
حدثه عن عمران بن الحصين: "أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله
عليه وآله وسلم - وهي حبلى من الزنى - فقالت : يا نبي الله أصبت حدا
فأقمه علي ؟ فدعا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وليها فقال : أحسن
إليها , فإذا وضعت فأتني بها , فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فشكت عليها ثيابها , وأمر بها فرجمت , ثم صلى عليها , فقال له عمر
: أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت ؟ قال : لقد تابت توبة لو قسمت بين
أهل المدينة لوسعتهم , وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟"
ومن طريق مسلم أنا قتيبة أنا الليث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة عن أبي هريرة , وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا: "إن
رجلين من الأعراب أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهما
: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ؟ فقال له الآخر -
وهو أفقه منه - : نعم , فاقض بيننا بكتاب الله , وإيذن لي ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم : قل , فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا
فزنى بامرأته" وذكر الحديث وفيه – "أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال له والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : أما الوليدة
والغنم رد عليك , وعلى ابنك جلد مائة , وتغريب عام , واغد يا أنيس على
امرأة هذا , فإن اعترفت فارجمها ؟ فغدا عليها فاعترفت , فأمر بها رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجمت". فوجدنا بريدة , وعمران بن الحصين
, وأبا هريرة , وزيد بن خالد , كلهم قد روى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم إقامة الحد في الزنى على : الغامدية , والجهينية , بغير ترديد ,
وعلى امرأة هذا المذكور بالاعتراف المطلق , وهو يقتضي - ولا بد - رجمها
بما يقع عليه اسم اعتراف , وهو مرة واحدة فقط وصح أن كتاب الله يوجب ما
قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة الحد في الزنى بالاعتراف
المطلق دون تحديد عدد , لقول رسول الله
(11/180)
صلى الله
عليه وآله وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى" وأقسم على ذلك , ثم
قضى بالرجم في الاعتراف دون عدد فصح أنه إذا صح الاعتراف مرة أو ألف
مرة فهو كله سواء , وأن إقامة الحد واجب ولا بد - وبالله تعالى
التوفيق.
(11/181)
2192 -
مسألة : هل في الحدود نفي أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: النفي يقع من الحدود في المحاربة بالقرآن ,
وفي الزنى بالسنة , وحكم به قوم في الردة , وفي الخمر , والسرقة "
قال أبو محمد رحمه الله: فنتكلم - إن شاء الله تعالى - في كل ذلك فصلا
فصلا , فنقول - وبالله تعالى التوفيق : وقالت طائفة : نفيه سجنه -
وقالت طائفة : ينفى أبدا من بلد إلى بلد قالت طائفة : نفيه هو أن يطلب
حتى يعجزهم فلا يقدروا عليه كما أنا حمام أنا ابن مفرج أنا ابن
الأعرابي أنا الدبري أنا عبد الرزاق أنا إبراهيم بن أبي يحيى عن داود
بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : في المحارب إن هرب وأعجزهم
فذلك نفيه وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الكريم أو غيره ,
قال : سمعت سعيد بن جبير , وأبا الشعثاء جابر بن زيد يقولان : إنما
النفي أن لا يدركوا , فإذا أدركوا , ففيهم حكم الله تعالى , وإلا نفوا
حتى يلحقوا ببلدهم وعن الزهري أنه قال فيمن حارب : أن عليه أن يقتل ,
أو يصلب , أو يقطع , أو ينفى , فلا يقدر عليه - وعن الضحاك في قوله
تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال : هو أن يطلبوا حتى
يعجزوا.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا يقول الشافعي - وقال آخرون : النفي حد
من حدود المحارب , كما كتب إلي المرجي بن زروان قال : أنا أبو الحسن
الرحبي أنا أبو مسلم الكاتب أنا عبد الله بن أحمد بن المغلس أنا عبد
الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنا أبو معاوية أنا حجاج عن عطية العوفي
عن ابن عباس قال : إذا خرج الرجل محاربا فأخاف الطريق , وأخذ المال :
قطعت يده ورجله من خلاف - وإذا أخذ المال وقتل : قطعت يده ورجله من
خلاف ثم صلب - وإذا قتل ولم يأخذ المال : قتل - وإذا أخاف الطريق ولم
يأخذ مالا ولم يقتل : نفي.
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا فيما يحتج به من قال : إن النفي هو
السجن ؟ فوجدناهم يقولون : إن الله تعالى قال {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الْأَرْضِ} قالوا : والنفي في لغة العرب التي نزل بها القرآن : هو
الإبعاد فصح أن الواجب إبعاده من الأرض , قالوا : ولا يقدر على إخراجه
من الأرض جملة , فوجب أن نفعل من ذلك أقصى ما نقدر عليه , لقول رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
ولقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فكان أقصى
ما نستطيع من ذلك إبعاده عن كل ما قدرنا على إبعاده منه من الأرض ,
وغاية ذلك السجن , لأنه ممنوع من جميع الأرض حاشا ما كان سجنه الذي لم
نقدر على منعه منه أصلا , فلزمنا ما استطعنا من ذلك , وسقط عنا ما لم
نستطع منه وإنما قلنا : حتى يحدث توبة , لأنه ما دام
(11/181)
مصرا على
المحاربة فهو محارب , فإذ هو محارب فواجب أن يجزى جزاء المحارب ,
فالنفي عليه باق ما لم يترك المحاربة بالتوبة , فإذا تركها سقط عنه
جزاؤها أن يتمادى فيه , إذ قد جوزي على محاربته.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم نظرنا في حجة من قال : ينفى أبدا من بلد
إلى بلد أن قال : إننا إذا سجناه في بلد , أو أقررناه فيه - غير مسجون
- فلم ننفه من الأرض كما أمر الله تعالى , بل عملنا به ضد النفي ,
والإبعاد , وهو الإقرار والإثبات في الأرض في مكان واحد منها - وهذا
خلاف القرآن , فوجب علينا بنص القرآن أن نستعمل إبعاده ونفيه عن جميع
الأرض أبدا , حسب طاقتنا , أو غاية ذلك ألا نقره في شيء منها ما دمنا
قادرين على نفيه من ذلك الموضع - ثم هكذا أبدا , ولو قدرنا على أن لا
ندعه يقر ساعة في شيء من الأرض لفعلنا ذلك , ولكان واجبا علينا فعله ما
دام مصرا على المحاربة قال أبو محمد رحمه الله: فكان هذا القول أصح
وأولى بظاهر القرآن لما ذكر المحتج له من أن السجن إثبات , وإقرار لا
نفي وما عرف قط أهل اللغة التي نزل بها القرآن وخاطبنا بها الله تعالى
: أن السجن يسمى : نفيا , ولا أن النفي يسمى : سجنا , بل هما اسمان
مختلفان , متغايران قال الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} الآية وقال تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} فما قال أحد - لا قديم
ولا حديث - أن حكم الزواني كان النفي , إذ أمر الله تعالى بحبسهن في
البيوت , ولا قال قط أحد : إن يوسف عليه السلام نفي إذ حبس في السجن -
فقد بطل قول من قال , بالسجن جملة وعلى كل حال فالواجب أن ننظر في
القولين اللذين هما إما نفيه إلى مكان غير مكانه وإقراره هنالك أو نفيه
أبدا , فوجدنا من حجة من قال : ينفى من بلد إلى بلد ويقر هنالك [ أن
قالوا : أنتم تقولون بتكرار فعل الأمر بل يجزي عندكم إيقاعه مرة واحدة
, وإذا كررتم النفي أبدا فقد نقضتم أصلكم قال علي : وهذا الذي أنكروه
داخل عليهم بمنعهم المنفي من الرجوع إلى منزله , فهم يقرون عليه
استدامة تلك العقوبة , فقد وقعوا فيما أنكروا بعينه نعم , والتكرار
أيضا لازم لمن قال بنفيه أو سجنه سواء سواء ].
قال أبو محمد رحمه الله: فنقول : إن المحارب الذي افترض الله تعالى
علينا نفيه
(11/182)
حربا على
محاربته فإنه ما دام مصرا فهو محارب وما دام محاربا فالنفي حد من حدوده
قال الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} فمن فعل
المحاربة فبلا شك ندري أنه في حال نومه , وأكله , واستراحته , ومرضه :
أنه محارب , كما كان لم يسقط عنه الاسم الذي وسمه الله تعالى به , وحق
عليه الحد به هذا ما لا خلاف فيه , فهو بعد القدرة عليه في حال إصراره
على المحاربة بلا شك , لا يسقط عنه الإثم إلا بتوبة أو نص أو إجماع
فالحد باق عليه حتى يسقط بالتوبة أو يسقط عنه الحكم بالنص أو الإجماع
فليس ذلك إلا بقطع يده ورجله من خلاف , بلا خلاف من أحد في أنه لا يجدد
عليه قطع آخر , ويمنع النص من أن يحدث له حدا آخر على ما سلف منه.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم وجدنا من قال : بنفيه وتركه في المكان الذي
ينفيه إليه - قد خالف القرآن في أنه أقره في ذلك المكان , والإقرار
خلاف النفي , فقد أقروه في الأرض فلم يبق إلا القول الذي صححناه - وهو
قول الحسن البصري , وبه نقول فالواجب أن ينفى أبدا من كل مكان من الأرض
, وأن لا يترك يقر إلا مدة أكله , ونومه , وما لا بد له منه من الراحة
التي إن لم ينلها مات , ومدة مرضه , لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} فواجب أن لا يقتل , وأن لا يضيع , لكن
ينفى أبدا حتى يحدث توبة , فإذا أحدثها سقط عنه النفي , وترك يرجع إلى
مكانه - فهذا حكم القرآن , ومتى أحدث التوبة من قرب أو بعد سقط عنه
النفي - وبالله تعالى التوفيق .
(11/183)
بيان اختلاف الناس في نفي الزاني
...
2193 - مسألة : وأما نفي الزاني:
فإن الناس اختلفوا فيه : فقالت طائفة : الزاني غير المحصن , يجلد مائة
, وينفى سنة - الحر , والحرة ذات الزوج , وغير ذات الزوج , في ذلك سواء
- وأما العبد الذكر فكالحر , وأما الأمة فجلد خمسين ونفي ستة أشهر -
وهو قول الشافعي , وأصحابه , وسفيان الثوري , والحسن بن حي , وابن أبي
ليلى . وقالت طائفة : ينفى الرجل الزاني جملة , ولا تنفى النساء . وهو
قول الأوزاعي . وقالت طائفة : ينفى الحر الذكر , ولا تنفى المرأة الحرة
- ذات زوج كانت أو غير ذات زوج - ولا الأمة , ولا العبد - وهو قول مالك
, وأصحابه . وقالت طائفة : لا نفي على زان أصلا - لا على ذكر , ولا على
أنثى , ولا حر , ولا عبد , ولا أمة - وهو قول أبي حنيفة , وأصحابه .
قال أبو محمد رحمه الله: ونحن ذاكرون - إن شاء الله تعالى - ما جاء في
ذلك عن المتقدمين فمن ذلك : ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية
نا أحمد بن شعيب نا محمد بن العلاء أبو كريب نا عبد الله بن إدريس
الأودي سمعت عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن نافع عن ابن عمر قال:
"إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب وغرب , وإن أبا بكر ضرب
وغرب , وإن عمر ضرب وغرب". أنا حمام أنا ابن مفرج أنا ابن
(11/183)
الأعرابي
أنا الدبري أنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن
صفية بنت أبي عبيد أن رجلا وقع على جارية بكر فأحبلها فاعترف ولم يكن
أحصن فأمر به أبو بكر فجلده مائة ثم نفي . وعن عروة بن الزبير عن عائشة
أم المؤمنين أنها قالت : أتى رجل إلى عمر بن الخطاب فأخبره أن أخته
أحدثت - وهي في سترها وأنها حامل - فقال عمر : أمهلها حتى إذا وضعت
واستقلت فآذني بها , فلما وضعت جلدها مائة وغربها إلى البصرة عاما .
ومن طريق مالك عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب غرب في الزنى سنة . قال
ابن وهب , قال ابن شهاب : ثم لم يزل ذلك الأمر تمضي به السنة حتى غرب
مروان في إمرته بالمدينة - ثم ترك ذلك الناس . وعن ابن وهب أخبرني جرير
بن حازم عن الحسن بن عمارة عن العلاء بن بدر عن كلثوم بن جبير قال ,
تزوج رجل منا امرأة فزنت قبل أن يدخل بها , فجلدها علي بن أبي طالب
مائة سوط ونفاها سنة إلى نهر كربلاء فلما رجعت دفعها إلى زوجها , وقال
: امرأتك فإن شئت فطلق , وإن شئت فأمسك . وعن ابن شهاب عن يحيى بن عبد
الرحمن بن حاطب عن أبيه أن حاطبا توفي وأعتق من صلى من رقيقه وصام ,
وكانت له وليدة نوبية قد صلت وصامت - وهي أعجمية لم تفقه - فلم يرعه
إلا حملها , فذهب إلى عمر فزعا , فقال له عمر : أنت الرجل الذي لا تأتي
بخير , فأرسل إليها عمر : أحبلت ؟ فقالت : نعم , من مرعوش بدرهمين ,
فإذا هي تستهل به , وصادفت عنده علي بن أبي طالب , وعثمان بن عفان ,
وعبد الرحمن بن عوف , فقال : أشيروا علي , وعثمان جالس فاضطجع , فقال
علي , وعبد الرحمن : قد وقع عليها الحد , قال : أشر علي يا عثمان ؟ قال
: قد أشار عليك أخواك , قال : أشر علي أنت ؟ قال : أراها تستهل به
كأنها لا تعلمه , وليس الحد إلا على من علمه , فأمر بها فجلدت مائة
وغربها . وعن عطاء قال : البكر تجلد مائة وتنفى سنة . وعن عبد الله بن
مسعود في البكر يزني بالبكر يجلدان مائة وينفيان سنة . وعن ابن عمر أنه
حد مملوكة له في الزنى ونفاها إلى فدك.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما من لم ير ذلك : فكما أنا حمام أنا ابن
مفرج أنا ابن الأعرابي أنا الدبري أنا عبد الرزاق عن أبي حنيفة عن حماد
بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي , قال : قال علي بن أبي طالب في البكر
يزني بالبكر , فإن حبسهما من الفتيان ينفيان - وعن إبراهيم النخعي أن
علي بن أبي طالب قال في أم الولد إذا أعتقها سيدها , أو مات فزنت :
أنها تجلد ولا تنفى ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا نظرنا في ذلك لنعلم الحق فنتبعه
- بعون الله تعالى - فنظرنا في قول من قال بالتغريب من حد الزنى يذكرون
: ما رويناه من طريق مسلم أنا قتيبة أنا ليث عن ابن شهاب عن عبيد الله
بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة , وزيد
(11/184)
ابن خالد
أنهما قالا: "إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ؟ فقال : الخصم
الآخر وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم قل : قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى
بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ,
فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على
امرأة هذا الرجم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي
نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك , وعلى
ابنك جلد مائة وتغريب عام , واغد يا أنيس على امرأة هذا , فإن اعترفت
فارجمها ؟ قال : فغدا عليها فاعترفت , فأمر بها فرجمت".
قال أبو محمد رحمه الله: وهكذا رويناه من طريق معمر , وصالح بن كيسان ,
ويونس بن يزيد , وسفيان بن عيينة , ومالك بن أنس , كلهم عن الزهري بهذا
الإسناد . ومن طريق مسلم أنا يحيى بن يحيى التميمي أنا هشيم عن منصور
عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: "قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني , خذوا عني : قد جعل الله لهن
سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام , والثيب بالثيب جلد مائة
والرجم". ومن طريق مسلم أنا عمرو الناقد أنا هشيم بهذا الإسناد مثله .
ومن طريق مسلم أنا محمد بن المثنى , ومحمد بن بشار جميعا عن عبد الأعلى
نا سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله
عن عبادة بن الصامت قال: "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل
عليه كرب لذلك , وتربد له وجهه , قال : فأنزل عليه ذات يوم , فبقي كذلك
, فلما سري عنه قال : خذوا عني : قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب
, والبكر بالبكر , الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة , البكر جلد مائة ثم
نفي سنة". أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب
أنا محمد بن عبد الأعلى أنا يزيد - هو ابن زريع - أنا سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن
الصامت قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك
وتربد له وجهه , فنزل عليه ذات يوم فلقي ذلك فلما سري عنه قال : خذوا
عني : قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة , والثيب
بالثيب جلد مائة والرجم".
قال أبو محمد رحمه الله: ورواه أيضا شعبة , وهشام الدستوائي , كلاهما
عن قتادة بإسناده أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن
شعيب أنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية , ومحمد بن يحيى بن عبد
الله , قال ابن علية : أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا عبد العزيز بن عبد
الله بن أبي سلمة , وقال محمد بن يحيى : أنا يعقوب بن إبراهيم بن
(11/185)
قال أبو
محمد رحمه الله: وقال بعضهم : إن حق السيد في خدمة عبده وأمته , وحق
أهل المرأة فيها , فلا يجوز قطع حقوقهم بنفي العبد , والأمة , والمرأة
؟ فيقال لهم : ليس بشيء , لأن حق الزوجة والولد أيضا في زوجها وابنهم ,
فلا يجوز قطعه بنفيهم . فإن ادعوا أن حديث عبادة منسوخ بقول الله
تعالى: {الزانية والزاني} الآية ؟ وقالوا : لأن حديث عبادة: "خذوا عني
قد جعل الله لهن سبيلا" ؟ قالوا : صح أن هذا الخبر كان بعد قول الله
تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية .
قال : فكان السبيل ما ذكر في حديث عبادة من الجلد والرجم والتغريب . ثم
جاء قول الله تعالى: {الزانية والزاني} الآية , فكان ناسخا لخبر عبادة.
قال أبو محمد رحمه الله: هذا كلام جمع التخليط والكذب , أما التخليط :
فدعواهم النسخ , وأما الكذب : فهو التحكم منهم في أوقات نزول الآية ,
وما في خبر عبادة بلا برهان . ونحن نبين ذلك - بحول الله تعالى وقوته -
فنقول : إن دعواهم أن خبر عبادة كان قبل نزول الآية من أجل ما فيه:
"خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" فظن منهم , وقد حرم الله تعالى القطع
بالظن بقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى
الْأَنْفُسُ} . وقال تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً} . وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن
أكذب الحديث". لكن القول الصحيح في هذا المكان , هو أن القطع بأن حديث
عبادة كان قبل نزول {الزانية والزاني} الآية , أو بأن نزول هذه الآية
كان قبل حديث عبادة , فمن الممكن أن يكون حديث عبادة قبل نزول الآية
المذكورة . وجائز أن يكون نزول الآية قبل حديث عبادة , وكل ذلك سواء ,
أي ذلك كان لا يعترض بعضه على بعض , ولا يعارض شيء منه شيئا , ولا خلاف
بين الآية والحديث - على ما نبين إن شاء الله تعالى - فنقول : إنه إن
كان حديث عبادة قبل نزول الآية , فقد صح ما في حكم حديث عبادة من الجلد
, والتغريب , والرجم , وكانت الآية وردت ببعض ما في حديث عبادة ,
وأحالنا الله تعالى في باقي الحد على ما سلف في حديث عبادة . وكما لم
تكن الآية مانعة عندهم من الرجم الذي ذكر في حديث عبادة قبل نزولها -
بزعمهم - ولم يذكر فيها , فكذلك ليست مانعة من التغريب الذي ذكر في
حديث عبادة قبل نزولها - بزعمهم - ولم يذكر فيها , ولا فرق . هذا هو
الحكم الذي لا يجوز تعديه إن كان حديث عبادة قبل نزول الآية , كما
ادعوا - وإن كان حديث عبادة بعد نزول الآية , فقد جاء بما في الآية من
الجلد , وزيادة الرجم , والتغريب , وكل ذلك حق , ولم يكن قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة: "قد جعل الله لهن سبيلا" بموجب أن
يكون قبل نزول الآية ولا بد , بل قد تنزل الآية
(11/186)
قال أبو
محمد رحمه الله: هذا لم يصح عن علي ; لأنه منقطع ولم يولد ابن جريج إلا
بعد نحو نيف وثلاثين عاما من موت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولا
حجة في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم من قولة لعلي صحيحة
قد خالفوها - وبالله تعالى التوفيق .
2194 - مسألة : ميراث المرتد ؟ قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في
ميراثه : فقالت طائفة : هو لورثته من المسلمين : كما أنا محمد بن سعيد
بن نبات أنا أحمد بن عبد البصير أنا قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد
السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا موسى بن مسعود أبو حذيفة أنا
سفيان عن سماك بن حرب عن دثار بن يزيد بن عبيد بن الأبرص الأسدي أن علي
بن أبي طالب قال : ميراث المرتد لولده . وعن الأعمش عن الشيباني قال :
أتي علي بن أبي طالب بشيخ كان نصرانيا فأسلم , ثم ارتد عن الإسلام ,
فقال له علي : لعلك إنما ارتددت , لأن تصيب ميراثا ثم ترجع إلى الإسلام
, قال : لا , قال : فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها فأردت أن
تزوجها ثم تعود إلى الإسلام , قال : لا , قال : فارجع إلى الإسلام ؟
قال : لا , حتى ألقى المسيح ؟ فأمر به فضربت عنقه , فدفع ميراثه إلى
ولده من المسلمين - وعن ابن مسعود بمثله . وقالت طائفة بهذا , منهم :
الليث بن سعد , وإسحاق بن راهويه . وقال الأوزاعي : إن قتل في أرض
الإسلام فماله لورثته من المسلمين . وقالت طائفة : إن كان له وارث على
دينه فهو أحق به , وإلا فماله لورثته من المسلمين : كما روينا من طريق
عبد الرزاق عن إسحاق بن راشد أن عمر بن عبد العزيز كتب في رجل من
المسلمين أسر فتنصر إذا علم ذلك ترث منه امرأته , وتعتد ثلاثة قروء ,
ودفع ماله إلى ورثته من المسلمين لا أعلمه , قال : إلا أن يكون له وارث
على دينه في أرض فهو أحق به . وقالت طائفة : ميراثه لأهل دينه فقط :
كما روينا من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة قال : ميراث المرتد
لأهل دينه . قال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جريج قال : الناس فريقان ,
منهم من يقول : ميراث المرتد للمسلمين , لأنه ساعة يكفر يوقف , فلا
يقدر منه على شيء حتى ينظر أيسلم أم يكفر ؟ منهم النخعي : والشعبي ,
والحكم بن عتيبة - وفريق يقول : لأهل دينه . وقالت طائفة : إن راجع
الإسلام فماله له , وإن قتل فماله لبيت مال المسلمين لا لورثته من
الكفار - قال بهذا ربيعة , ومالك , وابن أبي ليلى , والشافعي . وقالت
طائفة : إن راجع الإسلام فماله له , وإن قتل فماله لورثته من الكفار -
قال بهذا أبو سليمان , وأصحابنا . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن قتل
المرتد فماله لورثته من المسلمين , وترثه زوجته كسائر ورثته , وإن فر
ولحق بأرض الحرب وترك ماله عندنا فإن القاضي يقضي بذلك , ويعتق أمهات
أولاده
(11/187)
ببعض الذي
جعله الله تعالى لهن , ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث
عبادة تمام السبيل , وهو الرجم , والتغريب المضافان إلى ما في الآية من
الجلد - وبالله تعالى التوفيق .
(11/188)
حكم من
أصاب حداً ولم يدر تحريمه
...
2194 - مسألة : من أصاب حدا ولم يدر بتحريمه
قال أبو محمد رحمه الله: من أصاب شيئا محرما - فيه حد أو لا حد فيه -
وهو جاهل بتحريم الله تعالى له فلا شيء عليه فيه - لا إثم ولا حد ولا
ملامة - لكن يعلم , فإن عاد أقيم عليه حد الله تعالى , فإن ادعى جهالة
نظر , فإن كان ذلك ممكنا فلا حد عليه أصلا - وقد قال قوم بتحليفه , ولا
نرى عليه حدا , ولا تحليفا - وإن كان متيقنا أنه كاذب لم يلتفت إلى
دعواه ؟
قال أبو محمد:برهان ذلك قول الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ
بَلَغَ} فإن الحجة على من بلغته النذارة لا من لم تبلغه , وقد قال الله
تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وليس في وسع
أحد أن يعلم ما لم يبلغه , لأنه علم غيب , وإذا لم يكن ذلك في وسعه فلا
يكلف الله أحدا إلا ما في وسعه , فهو غير مكلف تلك القصة , فلا إثم
عليه فيما لم يكلفه , ولا حد ولا ملامة . وإنما سقط هذا عمن يمكن أن
يعلم , ويمكن أن يجهل , فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام". وقد جاءت في هذا عن
السلف آثار كثيرة : كما روينا عن سعيد بن المسيب : أن عاملا لعمر بن
الخطاب كتب إلى عمر يخبره : أن رجلا اعترف عنده بالزنى ؟ فكتب إليه عمر
, أن سله : هل كان يعلم أنه حرام , فإن قال : نعم , فأقم عليه الحد ,
وإن قال : لا , فأعلمه أنه حرام , فإن عاد فاحدده . وعن الهيثم بن بدر
عن حرقوص قال : أتت امرأة إلى علي بن أبي طالب فقالت : إن زوجي زنى
بجاريتي , فقال : صدقت , هي ومالها لي حل , فقال له علي : اذهب ولا تعد
, كأنه درأ عنه الحد بالجهالة ؟
(11/188)
حكم المرتدين
...
2195 - مسألة : المرتدين:
قال أبو محمد رحمه الله: كل من صح عنه أنه كان مسلما متبرئا من كل دين
- حاش دين الإسلام ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الإسلام , وخرج إلى دين
كتابي , أو غير كتابي , أو إلى غير دين , فإن الناس اختلفوا في حكمه ؟
فقالت طائفة : لا يستتاب - وقالت طائفة : يستتاب , وفرقت طائفة بين من
أسر ردته وبين من أعلنها - وفرقت طائفة بين من ولد في الإسلام ثم ارتد
, وبين من أسلم بعد كفره ثم ارتد . ونحن ذاكرون - إن شاء الله تعالى -
ما يسر الله تعالى لذكره : فأما من قال : لا يستتابون , فانقسموا قسمين
: فقالت طائفة : يقتل المرتد , تاب أو لم يتب , راجع الإسلام أو لم
يراجع . وقالت طائفة : إن بادر فتاب قبلت منه توبته , وسقط عنه القتل ,
وإن لم تظهر توبته أنفذ عليه القتل . وأما من قال : يستتاب , فإنهم
انقسموا أقساما : فطائفة
(11/188)
بيان اختلاف الناس فيمن خرج من كفر الى كفر
...
No pages
(11/)
2196 -
مسألة : ميراث المرتد:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في ميراثه : فقالت طائفة : هو
لورثته من المسلمين : كما أنا محمد بن سعيد بن نبات أنا أحمد بن عبد
البصير أنا قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن
المثنى أنا موسى بن مسعود أبو حذيفة أنا سفيان عن سماك بن حرب عن دثار
بن يزيد بن عبيد بن الأبرص الأسدي أن علي بن أبي طالب قال :
ميراث المرتد لولده . وعن الأعمش عن
الشيباني قال : أتي علي بن أبي طالب بشيخ كان نصرانيا فأسلم , ثم ارتد
عن الإسلام , فقال له علي : لعلك إنما ارتددت , لأن تصيب ميراثا ثم
ترجع إلى الإسلام , قال : لا , قال : فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن
يزوجوكها فأردت أن تزوجها ثم تعود إلى الإسلام , قال : لا , قال :
فارجع إلى الإسلام ؟ قال : لا , حتى ألقى المسيح ؟ فأمر به فضربت عنقه
, فدفع ميراثه إلى ولده من المسلمين - وعن ابن مسعود بمثله . وقالت
طائفة بهذا , منهم : الليث بن سعد , وإسحاق بن راهويه . وقال الأوزاعي
: إن قتل في أرض الإسلام فماله لورثته من المسلمين . وقالت طائفة : إن
كان له وارث على دينه فهو أحق به , وإلا فماله لورثته من المسلمين :
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن إسحاق بن راشد أن عمر بن عبد العزيز
كتب في رجل من المسلمين أسر فتنصر إذا علم ذلك ترث منه امرأته , وتعتد
ثلاثة قروء , ودفع ماله إلى ورثته من المسلمين لا أعلمه , قال : إلا أن
يكون له وارث على دينه في أرض فهو أحق به . وقالت طائفة : ميراثه لأهل
دينه فقط : كما روينا من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة قال :
ميراث المرتد لأهل دينه . قال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جريج قال :
الناس فريقان , منهم من يقول : ميراث المرتد للمسلمين , لأنه ساعة يكفر
يوقف , فلا يقدر منه على شيء حتى ينظر أيسلم أم يكفر ؟ منهم النخعي :
والشعبي , والحكم بن عتيبة - وفريق يقول : لأهل دينه . وقالت طائفة :
إن راجع الإسلام فماله له , وإن قتل فماله لبيت مال المسلمين لا لورثته
من الكفار - قال بهذا ربيعة , ومالك , وابن أبي ليلى , والشافعي .
وقالت طائفة : إن راجع الإسلام فماله له , وإن قتل فماله لورثته من
الكفار - قال بهذا أبو سليمان , وأصحابنا . وقال أبو حنيفة وأصحابه :
إن قتل المرتد فماله لورثته من المسلمين , وترثه زوجته كسائر ورثته ,
وإن فر ولحق بأرض الحرب وترك ماله عندنا فإن القاضي يقضي بذلك , ويعتق
أمهات أولاده
(11/197)
ومدبره
ويقسم ماله بين ورثته من المسلمين على كتاب الله تعالى , فإن جاء مسلما
أخذ من ماله ما وجد في أيدي ورثته , ولا ضمان عليهم فيما استهلكوه ,
هذا فيما كان بيده قبل الردة - وأما ما اكتسبه في حال ردته ثم قتل أو
مات فهو فيء للمسلمين . وقالت طائفة : مال المرتد ساعة يرتد لجميع
المسلمين - قتل , أو مات , أو لحق بأرض الحرب , أو راجع الإسلام - كل
ذلك سواء . وهو قول بعض أصحاب مالك , ذكر ذلك ابن شعبان عنه , وأشهب .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا نظرنا في ذلك , فكان الثابت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لا يرث المسلم الكافر : مانعا من
توريث ولد المرتد - وهم مسلمون - مال أبيهم المرتد , لأنه كافر وهم
مسلمون - أنا بهذا الحديث جماعة , ومن جملتهم : ما أناه عبد الله بن
ربيع أنا محمد بن إسحاق بن السليم أنا ابن الأعرابي أنا أبو داود أنا
مسدد أنا سفيان عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان بن عفان
عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم
الكافر ولا الكافر المسلم". هذا عموم منه عليه السلام لم يخص منه مرتد
من غيره {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} ولو أراد الله أن يخص المرتد
من ذلك لما أغفله , ولا أهمله , بل قد حض الله تعالى على أن المرتد من
جملة الكفار بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ} . فسقط هذا القول جملة - وبالله تعالى التوفيق .
(11/198)
2197 -
مسألة: وصية المرتد وتدبيره:
قال أبو محمد:كل وصية أوصى بها قبل ردته , أو في حين ردته , بما يوافق
البر ودين الإسلام , فكل ذلك نافذ في ماله الذي لم يقدر عليه حتى قتل ,
لأنه ماله وحكمه نافذ - فإذا قتل أو مات , فقد وجبت فيه وصاياه بموته
قبل أن يقدر على ذلك المال . وأما إذا قدرنا عليه قبل موته من عبد ,
وذمي , أو مال , فهو للمسلمين كله , لا تنفذ فيه وصية , لأنه إذا وجبت
الوصية بموته لم يكن ذلك المال له بعد , ولا تنفذ وصية أحد فيما لا
يملكه .
(11/198)
من صار
مختار اً إلى أرض الحرب مشاقاً للمسلمين
...
2198 - مسألة : من صار مختارا إلى أرض الحرب مشاقا للمسلمين:
أمرتد هو بذلك أم لا ؟ ومن اعتضد بأهل الحرب على أهل الإسلام - وإن لم
يفارق دار الإسلام - أمرتد هو بذلك أم لا ؟
قال أبو محمد: أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن
شعيب أنا محمد بن قدامة عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : كان جرير
يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ,
وإن مات مات كافرا , فأبق غلام لجرير , فأخذه فضرب عنقه". وبه - إلى
أحمد بن شعيب أنا قتيبة أنا حميد بن
(11/198)
بيان من المنافقون والمرتدون وهل عرفهم النبي صلى الله عليه وسلم
بأشخاصهم أم بأوصافهم
...
2199 - مسألة : من المنافقين , والمرتدين:
قال قوم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عرف المنافقين , وعرف
أنهم مرتدون كفروا بعد إسلامهم - وواجهه رجل بالتجوير , وأنه يقسم قسمة
لا يراد بها وجه الله - وهذه ردة صحيحة فلم يقتله . قالوا : فصح أن لا
قتل على مرتد , ولو كان عليه قتل لأنفذ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم على المنافقين المرتدين الذين قال الله تعالى فيهم: {إِذَا
جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} .
قال أبو محمد رحمه الله: هذا كل ما احتجوا به , ونحن - إن شاء الله
تعالى - ذاكرون كل آية تعلق بها متعلق في أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم عرف المنافقين بأعيانهم , ومبينون - بعون الله تعالى وتأييده -
أنهم قسمان : قسم - لم يعرفهم قط عليه السلام . وقسم آخر - افتضحوا ,
فعرفهم فلاذوا بالتوبة , ولم يعرفهم عليه السلام أنهم كاذبون أو صادقون
في توبتهم فقط . فإذا بينا هذا - بعون الله تعالى - بطل قول من احتج
بأمر المنافقين في أنه لا قتل على مرتد , وبقي قول : من رأى القتل
بالتوبة . وأما إنه لا يسقط بالتوبة , والبرهان على الصحيح من ذلك ,
فنقول - وبالله تعالى التوفيق . قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله تعالى:
{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} . فهذه أول
آية في القرآن فيها ذكر المنافقين , وليس في شيء منها دليل على أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم عرفهم , ولا على أنه لم يعرفهم , فلا متعلق
فيها لأحد من أهل القولين المذكورين . قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} إلى قوله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ففي هذه الآية دليل
على أن هؤلاء القوم ممكن أن يكونوا معروفين , لأن الله تعالى أخبرنا
أنهم من غيرنا بقوله تعالى: {من دونكم} فإذ هم من غيرنا فممكن أن
يكونوا من اليهود مكشوفين . وممكن أن يكون قوله تعالى عنهم أنهم {قالوا
: آمنا} أي بما عندهم . وقد يمكن أيضا : أن يكونوا من المنافقين
المظهرين للإسلام . وممكن أن الله تعالى أمرنا أن لا نتخذهم بطانة إذا
أطلعنا منهم على هذا , والوجه الأول أظهر وأقوى لظاهر الآية . وإذ
كلتاهما ممكن فلا متعلق في هذه الآية لمن ذهب أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأعيانهم , ويدري أن باطنهم النفاق .
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} إلى قوله
تعالى: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
(11/201)
شَجَرَ
بَيْنَهُمْ}. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه
كان منافقا خالصا" في كتاب مسلم وغيره "إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا
اؤتمن خان وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". ومن طريق مسلم أيضا - نا أبو
بكر بن أبي شيبة , ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا جميعا : نا عبد الله
بن نمير نا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو بن
العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان
منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها :
إذا حدث كذب , إذا وعد أخلف , إذا عاهد غدر , وإذا خاصم فجر". فقد صح
أن هاهنا نفاقا لا يكون صاحبه كافرا , ونفاقا يكون صاحبه كافرا , فيمكن
أن يكون هؤلاء الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت لا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم مظهرين لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عصاة بطلب الرجوع
في الحكم إلى غيره معتقدين لصحة ذلك , لكن رغبة في اتباع الهوى , فلم
يكونوا بذلك كفارا بل عصاة , فنحن نجد هذا عيانا عندنا , فقد ندعو نحن
عند الحاكم إلى القرآن وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت
عنهم بإقرارهم فيأبون ذلك ويرضون برأي أبي حنيفة , ومالك , والشافعي ,
هذا أمر لا ينكره أحد , فلا يكونون بذلك كفارا , فقد يكون أولئك هكذا
حتى إذا بين الله تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيما شجر بينهم , وجب أن من وقف على هذا قديما وحديثا , وإلى
يوم القيامة فأبى وعند فهو كافر ؟ وليس في الآية : أن أولئك عندوا بعد
نزول هذه الآية , فإذ لا بيان فيها فلا حجة فيها لمن يقول: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم عرفهم أنهم منافقون وأقرهم . وقال تعالى:
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ
طَائِفَةٌ} إلى قوله تعالى: {وكيلا} فهذا ليس فيه نص على أنهم كانوا
يظهرون الإيمان , بل لعلهم كانوا كفارا معلنين , وكانوا يلتزمون الطاعة
بالمسالمة , فإذ لا نص فيها فلا حجة فيها لمن ادعى أنه - عليه السلام -
كان يعرفهم ويدري أن عقدهم النفاق . وقال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي
الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} إلى قوله: {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً}.
وقد روينا عن طريق البخاري نا أبو الوليد - هو الطيالسي - نا شعبة عن
عدي بن ثابت قال : سمعت عبد الله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت قال:
"لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه ,
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين : فرقة تقول : نقاتلهم
, وفرقة تقول : لا نقاتلهم , فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ
فِئَتَيْن} فهذا إسناد صحيح , وقد سمى الله تعالى أولئك : منافقين .
وأما قوله تعالى في هذه الآية متصلا بذلك: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} إلى قوله تعالى: {فَمَا جَعَلَ
اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} فقد كان يمكن أن يظن أنه تعالى
عنى بذلك أولئك
(11/202)
المنافقين
, وهو كان الأظهر لولا قوله تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فهذا يوضح غاية
الإيضاح أنه ابتداء حكم في قوم آخرين غير أولئك المنافقين , لأن أولئك
كانوا من سكان المدينة بلا شك , وليس على سكان المدينة هجرة , بل
الهجرة كانت إلى دارهم . فإذا كان ذلك كذلك فحكم الآية كلها أنها في
قوم كفار لم يؤمنوا بعد , وادعوا أنهم آمنوا ولم يهاجروا , وكان الحكم
حينئذ : أن من آمن ولم يهاجر لم ينتفع بإيمانه , وكان كافرا كسائر
الكفار ولا فرق , حتى يهاجر , إلا من أبيح له سكنى بلده , كمن بأرض
الحبشة , والبحرين , وسائر من أبيح له سكنى أرضه , إلا المستضعفين ,
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ
مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} . وقد قال تعالى:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
فقد قطع الله تعالى الولاية بيننا وبينهم , فليسوا مؤمنين . وقال
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} إلى قوله: {إلا المستضعفين}
الآية . فإن قال قائل : معنى {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
أي حتى يجاهدوا معكم , بخلاف فعلهم حين انصرفوا عن أحد وأرادوا أن
يجعلوا الآية كلها في المنافقين المنصرفين عن أحد ؟ قيل له - وبالله
تعالى التوفيق - : هذا ممكن , ولكن قد قال تعالى: {فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فأخبرونا هل فعل ذلك النبي
عليه السلام فقتل الراجعين عن أحد حيث وجدهم ؟ وهل أخذهم أم لا ؟ فإن
قالوا : قد فعل ذلك , كذبوا كذبا لا يخفى على أحد , وما عند مسلم شك في
أنه - عليه السلام - لم يقتل منهم أحدا ولا نبذ العهد إلى أحد منهم .
وإن قالوا : لم يفعل ذلك - عليه السلام - ولا المؤمنون ؟ قيل لهم :
صدقتم , ولا يحل لمسلم أن يظن أن النبي - عليه السلام - خالف أمر ربه ,
فأمره تعالى إن تولوا بقتلهم , حيث وجدهم , فلم يفعل , وهذا كفر ممن
ظنه بلا شك . فإن قالوا : لم يتولوا بل تابوا ورجعوا وجاهدوا ؟ قيل لهم
: فقد سقط حكم النفاق عنهم - بلا شك - وحصل لهم حكم الإعلام بظاهر
الآية - بلا شك - فقد بطل تعلقهم بهذه الآية جملة في أنه - عليه السلام
- كان يعرف المنافقين . ولكن في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ
جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} إلى قوله تعالى: {فَمَا جَعَلَ
اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} بيان جلي بأن هؤلاء لم يكونوا قط
من الأوس ولا من الخزرج , لأنهم لم يكن لهم قوم محاربون للنبي - عليه
السلام - ولا نسبوا قط إلى قوم معاهدين النبي - عليه السلام - بميثاق
معقود , هذا مع قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ} إلى قوله تعالى: {سبيلا} فإن هذا بيان جلي على أنهم من
غير الأنصار , ومن غير المنافقين , لكن من الكفار المجاهرين بالكفر .
إلا أن يقول قائل : إن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ
(11/203)
يَصِلُونَ
إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} استثناء منقطع مما
قبله في قول: {آخرين} وعلى كل حال فقد سقط حكم النفاق على أولئك إن كان
هكذا . فإن قيل : فإن كان الأمر كما قلتم أن في قوله تعالى: {وَدُّوا
لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أنه في قوم من
الكفار غير أولئك , فحسبنا أنه تعالى قد سمى أولئك الراجعين " منافقين
" فصاروا معروفين ؟ قيل له - وبالله تعالى التوفيق : وقد قلنا إن
النفاق قسمان : قسم لمن يظهر الكفر ويبطن الإيمان , وقسم لمن يظهر غير
ما يضمر فيما سوى الدين ولا يكون بذلك كافرا , وقد قيل لابن عمر : إنا
ندخل على الإمام فيقضي بالقضاء فنراه جورا فنمسك ؟ فقال : إنا معشر
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعد هذا نفاقا , فلا ندري ما
تعدونه أنتم ؟ وقد ذكرنا قبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث
من كن فيه كان منافقا خالصا وإن صلى وإن صام وقال إني مسلم". فإذا كان
الأمر كذلك , فلا يجوز أن نقطع عليهم بالكفر الذي هو ضد الإسلام إلا
بنص , ولكنا نقطع عليهم بما قطع الله تعالى به من اسم النفاق ,
والضلالة , والإركاس , وخلاف الهدى - ولا نزيد ولا نتعدى ما نص الله
تعالى عليه بآرائنا - وبالله تعالى التوفيق . وقال الله تعالى:
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} إلى قوله
: {أَجْراً عَظِيماً}.
قال أبو محمد: أما هؤلاء فمنافقون النفاق الذي هو الكفر , فلا شك لنصه
تعالى على أنهم مذبذبون , لا إلى المؤمنين , ولا إلى المجاهرين بالكفر
في نار جهنم , وأنهم أشد عذابا من الكفار , بكونهم في الدرك الأسفل من
النار . ولكن ليس في شيء من هذه الآيات كلها أنه - عليه السلام - عرفهم
, بأعيانهم , وعرف نفاقهم , إذ لا دليل على ذلك , فلا حجة فيها لمن
ادعى أنه - عليه السلام - عرفهم , وعرف نفاقهم . ثم لو كان ذلك لكان
قوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ} إلى قوله تعالى {أجرا عظيما} موجبا لقبول توبتهم إذا تابوا -
وهم قد أظهروا التوبة , والندم , والإقرار بالإيمان بلا شك , فبطل عنهم
بهذا حكم النفاق جملة في الدنيا , وبقي باطن أمرهم إلى الله تعالى .
وهذه الآية تقضي على كل آية فيها نص بأنه - عليه السلام - عرف منافقا
بعينه , وعرف نفاقه , قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ} إلى
قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}.
قال أبو محمد رحمه الله: فأخبر الله تعالى عن قوم يسارعون في الذين
كفروا حذرا أن تصيبهم دائرة , وأخبر تعالى عن الذين آمنوا أنهم يقولون
للكافرين: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} يعنون الذين يسارعون فيهم , قال
الله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} فهذا لا
يكون إلا خبرا عن قوم أظهروا
(11/204)
الميل إلى
الكفار فكانوا منهم كفارا خائبي الأعمال ولا يكونون في الأغلب إلا
معروفين , لكن قوله تعالى: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي
أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} دليل على ندامتهم على ما سلف منهم , وأن
التوبة لهم معروضة على ما في الآية التي ذكرنا قبل هذه - وبالله تعالى
التوفيق . وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ} إلى قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} قال
أبو محمد:فهذه في المنافقين بلا شك , وقد نص الله تعالى على أن
المسلمين لا يعلمونهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطب بهذا الخطاب
مع المسلمين بلا شك فهو لا يعلمهم , والله تعالى يعلمهم , وقال تعالى:
{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ} إلى
قوله تعالى: {كارهون} ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ليس في أول الآية إلا أنهم يحلفون كاذبين وهم
يعلمون كذبهم في ذلك , وأنهم يهلكون أنفسهم بذلك , وهذه صفة كل عاص في
معصيته . وفي الآية أيضا : معاتبة الله تعالى نبيه - عليه السلام - على
إذنه لهم . وأما قوله تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله تعالى: {يترددون} فإن وجه
هذه الآية التي يجب أن لا تصرف عنه إلى غيره بغير نص , ولا إجماع : أنه
في المستأنف ; لأن لفظها لفظ الاستقبال . ولا خلاف في هذه الآية أنها
نزلت بعد تبوك , ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تبوك غزوة
أصلا , ولكنا نقطع على أنها لو كانت هناك غزوة بعد تبوك وبعد نزول
الآية فاستأذن قوم منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القعود دون
عذر لهم في ذلك لكانوا بلا شك مرتابة قلوبهم كفارا بالله تعالى وباليوم
الآخر مترددين في الريب - فبطل تعلقهم بهذه الآية . ثم قوله تعالى:
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} إلى قوله
تعالى: {كارهون} فهذه أخبار عما خلا لهم وعن سيئات اقترفوها , وليس
فيها شيء يوجب لهم الكفر , حتى لو كانوا معروفين بأعيانهم - وبالله
تعالى التوفيق . وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي}
إلى قوله تعالى: {وهم فرحون}.
قال أبو محمد رحمه الله: قد قيل: إن هذه الآية نزلت في الحر بن قيس -
وهذا لا ينسند ألبتة , وإنما هو منقطع من أخبار المغازي , ولكن على كل
حال يقال : هذا كان معروفا بلا شك . وليس في الآية أنه كفر بذلك ,
ولكنه عصى و ( . . . ) وأذنب , وبلى {إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكَافِرِينَ} ولا يجوز أن يقطع بهذا النص على أن ذلك القائل كان من
الكافرين . وأما الذي أخبر الله تعالى بأنه إن أصابت رسوله - عليه
السلام - سيئة ومصيبة تولوا
(11/205)
وهم فرحون
, أو أنه إن أصابته حسنة ساءتهم , فهؤلاء كفار بلا شك , وليس في الآية
نص على أن القائل : ائذن لي ولا تفتني , كان منهم , ولا فيها نص على
أنه عليه السلام عرفهم وعرف نفاقهم - فبطل تعلقهم بهذه الآية . وقال
تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ
مِنْكُمْ} إلى قوله {يفرقون} ؟
قال أبو محمد: أما هؤلاء فكفار بلا شك , مظهرون للإسلام , ولكن ليس في
الآية أنه - عليه السلام - عرفهم بأعيانهم , ولا دليل فيها على ذلك
أصلا , وإنما هي صفة وصفها الله تعالى فيهم ليميزوها من أنفسهم . وليس
في قوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم} ،
دليل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم , وأنه كان يعرف نفاقهم , بل قد كان
للفضلاء من الأنصار - رضي الله عنهم - الأموال الواسعة , والأولاد
النجباء الكثير : كسعد بن عبادة , وأبي طلحة , وغيرهما - فهذه صفة عامة
يدخل فيها الفاضل الصادق , والمنافق , فأمر تعالى في الآية أن لا تعجبه
أموالهم , ولا أولادهم , عموما , لأن الله تعالى يريد أن يعذب
المنافقين منهم بتلك الأموال ويموتوا كفارا ولا بد - وبالله تعالى
التوفيق . وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}
إلى قوله تعالى {راغبون} ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا لا يدل ألبتة لا بنص , ولا بدليل على كفر
من فعل هذا , ولكنها معصية بلا شك . وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}
. قال : وهذه الآية ليس فيها دليل على كفر من قال حينئذ : إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أذن , وإنما يكون كافرا من قال ذلك , وآذى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول النهي عن ذلك , ونزول القرآن بأن من
فعل ذلك فهو كافر , وأن من حاد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
فله جهنم خالدا فيها . فقد جاء أن عمر قال: لرسول الله صلى الله عليه
وسلم "والله يا رسول الله إنك لأحب إلي من كل أحد إلا نفسي , فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما معناه أنه لا يؤمن حتى يكون أحب
إليه من نفسه , فقال له عمر : أما الآن فأنت أحب إلي من نفسي".
قال أبو محمد: لا يصح أن أحدا عاد إلى أذى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومحادته بعد معرفته بالنازل في ذلك من عند الله تعالى إلا كان
كافرا . ولا خلاف في أن امرأ لو أسلم ولم يعلم شرائع الإسلام فاعتقد أن
الخمر - حلال , وأن ليس على الإنسان صلاة , وهو لم يبلغه حكم الله
تعالى لم يكن كافرا بلا خلاف يعتد به , حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى
حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر . ويبين هذا قوله تعالى في الآية
المذكورة:
(11/206)
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} فقد أخبرهم تعالى
أنهم إن كانوا مؤمنين فإرضاء الله ورسوله أحق عليهم من إرضاء المسلمين
فصح هذا بيقين - وبالله تعالى نستعين . وقال تعالى: {يَحْذَرُ
الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ
بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا
تَحْذَرُونَ} قال: وهذه الآية أيضا لا نص فيها على قوم بأعيانهم فلا
متعلق فيها لأحد في هذا المعنى . وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} إلى قوله تعالى
{كانوا مجرمين}.
قال أبو محمد: هذه بلا شك في قوم معروفين كفروا بعد إيمانهم ولكن
التوبة مبسوطة لهم بقوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ
نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} فصح أنهم أظهروا
التوبة والندامة واعترفوا بذنبهم , فمنهم من قبل الله تعالى توبته في
الباطن عنده لعلمه تعالى بصحتها , ومنهم من لم تصح توبته في الباطن فهم
المعذبون في الآخرة , وأما في الظاهر فقد تاب جميعهم بنص الآية -
وبالله تعالى التوفيق . وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ} إلى قوله تعالى: {عَذَابٌ مُقِيمٌ} . قال : فهذه
صفة عامة لم يقصد بها إلى التعريف لقوم بأعيانهم , وهذه حق واجب على كل
منافق ومنافقة - وبالله تعالى التوفيق . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ} إلى قوله تعالى: {ولا نصير}. قال : فهذه آية أمر الله
تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار والمنافقين , والجهاد
قد يكون باللسان , والموعظة , والحجة : كما نا عبد الله بن ربيع نا
محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا موسى بن إسماعيل نا حماد
- هو ابن سلمة - عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم}.
قال أبو محمد: وهذه الآية تدل على أن هؤلاء كانوا معروفين بأعيانهم
وأنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم , ولكن لما قال الله تعالى:
{فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً} صح أن الله تعالى بذل لهم
التوبة وقبلها ممن أحاطها منهم وكلهم بلا شك أظهر التوبة . وبرهان ذلك
: حلفهم وإنكارهم فلا متعلق لهم في هذه الآية - وبالله تعالى التوفيق .
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ
فَضْلِهِ} إلى قوله تعالى: {يكذبون}. قال: وهذه أيضا صفة أوردها الله
تعالى يعرفها كل من فعل ذلك من نفسه , وليس فيها نص ولا دليل , على أن
صاحبها معروف بعينه , على أنه قد روينا أثرا لا يصح , وفيه أنها نزلت
في ثعلبة بن
(11/207)
حاطب -
وهذا باطل , لأن ثعلبة بدري معروف , وهذا أثر : نا حمام نا يحيى بن
مالك بن عائذ نا الحسن بن أبي غسان نا زكريا بن يحيى الباجي ني سهل
السكري نا أحمد بن الحسن الخراز نا مسكين بن بكير نا معان بن رفاعة
السلامي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال:
"جاء ثعلبة بن حاطب بصدقته إلى عمر فلم يقبلها وقال: لم يقبلها النبي
صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر , ولا أقبلها ؟".
قال أبو محمد: وهذا باطل بلا شك , لأن الله تعالى أمر بقبض زكوات أموال
المسلمين , وأمر عليه السلام عند موته أن لا يبقى في جزيرة العرب دينان
, فلا يخلو ثعلبة من أن يكون مسلما ففرض على أبي بكر , وعمر قبض زكاته
ولا بد , ولا فسحة في ذلك - وإن كان كافرا ففرض أن لا يقر في جزيرة
العرب - فسقط هذا الأثر بلا شك , وفي رواته : معان بن رفاعة والقاسم بن
عبد الرحمن , وعلي بن يزيد - وهو أبو عبد الملك الألهاني - وكلهم ضعفاء
, ومسكين بن بكير ليس بالقوي . وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله
تعالى: {فاسقون} . وقال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
مَاتَ أَبَداً} إلى قوله تعالى: {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}.
قال أبو محمد: قدمنا هذه الآية وهي مؤخرة عن هذا المكان ; لأنها متصلة
المعاني بالتي ذكرنا قبلها , لأنهما جميعا في أمر عبد الله بن أبي - ثم
نذكر القول فيهما جميعا - إن شاء الله تعالى . قال أبو محمد:هذه الآيات
فيها : أنهم يلمزون المطوعين من المؤمنين , ويسخرون منهم - وهذا ليس
كفرا بلا خلاف من أحد من أهل السنة . وأما قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إلى قوله تعالى: {الفاسقين}.
وقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} إلى
قوله تعالى: {فاسقون}. فإن هذا لا يدل على تماديهم على الكفر إلى أن
ماتوا , ولكن يدل يقينا على أن فعلهم ذلك من سخريتهم بالذين آمنوا غير
مغفور لهم , لأنهم كفروا فيما خلا , فكان ما سلف من كفرهم موجبا أن
يغفر لهم لمزهم المطوعين من المؤمنين , وسخريتهم بالذين لا يجدون إلا
جهدهم - وإن تابوا من كفرهم - وأنهم ماتوا على الفسق لا على الكفر , بل
هذا معنى الآية بلا شك . برهان ذلك : ما روينا من طريق مسلم نا أبو بكر
بن أبي شيبة نا أبو أسامة نا عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن
عمر قال: "لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصا يكفن فيه أباه
فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه ؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليصلي عليه , فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(11/208)
يا رسول
الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنما خيرني الله تعالى فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إلى قوله تعالى: {سبعين مرة} وسأزيد على السبعين
قال : إنه منافق ؟ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأنزل الله
تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ
عَلَى قَبْرِهِ} قال مسلم : نا محمد بن المثنى نا يحيى - هو ابن سعيد
القطان - عن عبيد الله بن عمر بإسناده ومعناه , وزاد " فترك الصلاة
عليهم".
قال أبو محمد:ونا يوسف بن عبد الله بن عبد البر قال : نا خلف بن القاسم
نا ابن الورد نا ابن عبد الرحيم الرقي عن عبد الملك بن هشام عن زياد بن
عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة عن ابن عباس قال: "سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفي عبد الله
بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه
فلما وقف إليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله
أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبي ؟ القائل كذا يوم كذا , والقائل
كذا في يوم كذا , أعدد أيامه حتى إذا أكثرت عليه قال يا عمر أخر عني
إني قد خيرت فاخترت قد قيل لي {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت
قال: ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على
قبره حتى فرغ منه , قال : فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله
عليه وسلم". والله ورسوله أعلم , فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت
هاتان الآيتان: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً
وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} إلى قوله تعالى: {وهم فاسقون} فما صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق حتى قبضه الله تعالى. حدثنا
عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن عبد
الله بن المبارك نا حجير بن المثنى نا الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن
ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن
عمر بن الخطاب قال: "لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم وثبت , ثم قلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي ؟ وقال يوم كذا :
كذا وكذا , أعدد عليه , فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أخر
عني يا عمر , فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت فلو علمت أني إن
زدت على السبعين غفر له لزدت عليها , فصلى عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم انصرف , فما مكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة
المذكورتان , قال عمر : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه
وسلم". والله أعلم . حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري نا أبو ذر الهروي
نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خريم نا عبد بن
حميد نا إبراهيم بن
(11/209)
الحكم عن
أبيه عن عكرمة قال: "لما حضر عبد الله بن أبي الموت , قال ابن عباس :
فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجرى بينهما كلام فقال له
عبد الله بن أبي : قد أفقه ما تقول ولكن من علي اليوم وكفني بقميصك هذا
, وصل علي ؟ قال ابن عباس : فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقميصه
وصلى عليه" - والله أعلم - أي صلاة كانت , وأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يخدع إنسانا قط غير أنه قال يوم الحديبية : كلمة حسنة , قال
الحكم : فسألت عكرمة ما هذه الكلمة ؟ قال : قالت قريش : يا أبا حباب
إنا قد منعنا محمدا طواف هذا البيت , ولكنا نأذن لك ؟ فقال : لا , لي
في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة. حدثنا عبد الله بن
ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عبد الجبار بن العلاء بن
عبد الجبار عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وسمع جابرا يقول: "أتى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر عبد الله بن أبي - وقد وضع في حفرته
- فوقف فأمر به فأخرج من حفرته , فوضعه على ركبتيه , وألبسه قميصه ,
ونفث عليه من ريقه" , والله أعلم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كله يوجب صحة ما قلناه لوجوه : أحدها -
ظاهر الآية كما قلنا من أنهم كفروا قبل , وماتوا على الفسق . والثاني -
أن الله تعالى قد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن
الاستغفار جملة للمشركين بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله
تعالى: {أصحاب الجحيم} فلو كان ابن أبي وغيره من المذكورين ممن تبين
للنبي صلى الله عليه وسلم - أنهم كفار - بلا شك - لما استغفر لهم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ولا صلى عليه . ولا يحل لمسلم أن يظن بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم أنه خالف ربه في ذلك , فصح يقينا أنه - عليه
السلام - لم يعلم قط أن عبد الله بن أبي والمذكورين كفار في الباطن ؟
روينا من طريق مسلم نا حرملة بن يحيى التجيبي نا عبد الله بن وهب نا
يونس عن ابن شهاب أخبرني سعيد بن المسيب بن حور عن أبيه قال : "لما
حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا
جهل , وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يا عم قل : لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله ؟ فقال أبو
جهل , وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب , فلم يزل رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان عليه تلك المقالة , حتى
قال أبو طالب , آخر ما كلمهم به على ملة عبد المطلب , فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله
تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية ؟
قال أبو محمد: فصح أن النهي عن الاستغفار للمشركين نزل بمكة - بلا شك -
فصح يقينا أنه - عليه السلام - لم يوقن أن عبد الله بن أبي مشرك ولو
أيقن أنه مشرك لما صلى عليه أصلا , ولا استغفر له , وكذلك تعديد عمر بن
الخطاب مقالات عبد الله بن أبي ابن سلول : لا , ولو
(11/210)
كان عنده
كافرا لصرح بذلك , وقصد إليه , ولم يطول بغيره . والثالث - شك ابن عباس
, وجابر , وتعجب عمر من معارضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته
على عبد الله بن أبي , وإقراره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف
منه . والرابع - أن الله تعالى إنما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن
الصلاة عليهم والاستغفار لهم فقط , ولم ينه سائر المسلمين عن ذلك ,
وهذا لا ننكره , فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من
عليه دين لا يترك له وفاء ويأمر المسلمين بالصلاة عليهم . فصح يقينا
بهذا أن معنى الآيات إنما هو أنهم كفروا بذلك من قولهم , وعلم بذلك
النبي عليه السلام والمسلمون . ثم تابوا في ظاهر الأمر , فمنهم من علم
الله تعالى أن باطنه كظاهره في التوبة , ومنهم من علم الله تعالى أن
باطنه خلاف ظاهره , ولم يعلم ذلك النبي عليه السلام ولا أحد من
المسلمين , وهذا في غاية البيان - وبالله تعالى التوفيق . وقال تعالى:
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} إلى
قوله تعالى: {وهم كافرون}. قال فقوله تعالى {فرح المخلفون} الآية ليس
فيها نص على أنهم كفروا بذلك , ولكنهم أتوا كبيرة من الكبائر كانوا بها
عصاة فاسقين . وقد ذكر الله تعالى هؤلاء بأعيانهم في سورة الفتح . وبين
تعالى هذا الذي قلناه هنالك بزيادة على ما ذكرهم به هاهنا , فقال
تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} إلى قوله
تعالى: {عذابا أليما} فنص الله تعالى على أن أولئك المخلفين الذين أمر
الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يصلي على أحد منهم مات أبدا
, وأنهم كفروا بالله وبرسوله , والذين أمر الله تعالى نبيه صلى الله
عليه وسلم أن لا تعجبه أموالهم ولا أولادهم , وأنه تعالى أراد أن تزهق
أنفسهم وهم كافرون : أنهم مقبولة توبتهم إن تابوا في ظاهر أمرهم , وفي
الحكم بأن باطنهم : أن من كان منهم صحيح التوبة مطيعا إذا دعي بعد موت
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد فسيؤتيه أجرا عظيما , وأن من
تولى عذبه الله تعالى عذابا أليما . فصح ما قلناه من أنهم كفروا فعرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كفروا ثم تابوا فقبل توبتهم , ولم
يعرف - عليه السلام - بعد التوبة من منهم الصادق في سر أمره , ولا من
منهم الكفر في باطن معتقده , وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره بشهادة
النصوص , كما أوردنا آنفا - وبالله تعالى التوفيق. وقال تعالى:
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} إلى قوله تعالى:
{فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه نص الآيات التي ذكرنا أيضا وقد تكلمنا
فيها , وقال تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} إلى
قوله تعالى: {عذاب أليم}. قال : وهذه الآية تبين ما قلناه نصا , لأنه
تعالى أخبر أن بعضهم كفار , إلا أن كلهم عصاة , فأما المبطنون للكفر
منهم فلم يعلمهم النبي - عليه السلام - ولا علمهم أحد منهم إلا الله
تعالى فقط . وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ} إلى قوله: {عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ؟
(11/211)
قال أبو
محمد رحمه الله: وهذه كالتي قبلها , وقد قلنا : إن فيهم من كفر ,
فأولئك الذين طبع الله على قلوبهم , ولكن الله تعالى أرجأ أمرهم بقوله
تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} . فصح ما قلناه
واتفقت الآيات كلها - والحمد لله رب العالمين . وكذلك أخبر تعالى أن:
{َمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وجهنم
تكون جزاء على الكفر وتكون جزاء على المعصية , وكذلك لا يرضى تعالى عن
القوم الفاسقين , وإن لم يكونوا كافرين . وقال تعالى: {الْأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} ؟
قال أبو محمد:وهذه الآيات كلها تبين نص ما قلناه من أن فيهم كفارا في
الباطن
قال أبو محمد رحمه الله: لا يعلم سرهم إلا الله تعالى , وأما رسوله -
عليه السلام - فلا . وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ
الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} إلى قوله تعالى: {سميع عليم} ؟
قال أبو محمد: هذه الآية مبينة نص ما قلناه بيانا لا يحل لأحد أن
يخالفه من أن النبي - عليه السلام - لا يعلم المنافقين - لا من الأعراب
, ولا من أهل المدينة - ولكن الله تعالى يعلمهم , وأن منهم من يتوب
فيعفو الله تعالى عنه , وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بأخذ
زكوات جميعهم على ظاهر الإسلام . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً} إلى قوله تعالى: {إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذه كالتي قبلها , وفيها , أن بنيانهم للمسجد
قصدوا به الكفر , ثم أظهروا التوبة , فعلم الله تعالى صدق من صدق فيها
, وكذب من كذب فيها . ونعم {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} وقد قدم الله تعالى أن من أذنب ذنبا فممكن أن
لا يغفره له أبدا حتى يعاقبه عليه , وهذا مقتضى هذه الآية . وقال
تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} إلى
قوله تعالى: {لا يفقهون}
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه لا دليل فيها أصلا على أن القائلين بذلك
معروفون بأعيانهم لكنها صفة وصفها الله تعالى يعرفونها من أنفسهم إذا
سمعوها فقط . وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالرَّسُولِ} إلى قوله تعالى: {هم الفائزون} ؟
قال أبو محمد: ليس في هذه الآية بيان أنهم معروفون بأعيانهم وإنما هي
صفة من سمعها عرفها من نفسه , وهي تخرج على وجهين : أحدهما - أن يكون
من فعل ذلك كافرا وهو أن يعتقد النفار عن حكم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ويدين بأن لا يرضى به فهذا كفر مجرد . والوجه الثاني - ينقسم
قسمين : أحدهما - أن يكون فاعل ذلك متبعا لهواه في الظلم ومحاباة نفسه
عارفا بقبح فعله في ذلك ومعتقدا أن الحق في خلاف فعله - فهذا فاسق ,
وليس كافرا . والثاني - أن يفعل ذلك مقلدا لإنسان في أنه قد شغفه
تعظيمه إياه وحبه موهما نفسه أنه
(11/212)
على حق ,
وهذه الوجوه كلها موجودة في الناس فأهل هذين القسمين الآخرين مخطئون
عصاة وليسوا كفارا ويكون معنى قوله تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ} أي وما أولئك بالمطيعين , لأن كل طاعة لله تعالى فهو
إيمان , وكل إيمان طاعة لله تعالى , فمن لم يكن مطيعا لله تعالى في شيء
ما فهو غير مؤمن في ذلك الشيء بعينه - وإن كان مؤمنا في غير ذلك مما هو
فيه مطيع لله تعالى . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ
اللَّهَ} إلى قوله تعالى: {عَلِيماً حَكِيماً}
قال أبو محمد رحمه الله: هذه الآية يقتضي ظاهرها أن أهواء الكافرين
والمنافقين معروفة , وهو أن يكفر جميع المؤمنين . قال تعالى: {وَدُّوا
لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} فإذ أهواؤهم
معروفة ففرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل مسلم أن لا يطيعهم
في ذلك مما قد عرف أنه مرادهم , وإن لم يشيروا عليه في ذلك برأي . ولا
يجوز أن يظن ظان أن الكفار والمنافقين أتوا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مشيرين عليه برأي راجين أن يتبعهم فيه , فإذ الأمر كذلك فليس
في الآية بيان أن المنافقين كانوا معروفين بأعيانهم عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدري أنهم منافقون , ولكنهم معروفة صفاتهم جملة , ومن
صفاتهم بلا شك إرادتهم أن يكون كل الناس كفارا . وقال تعالى: {إِذْ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية ؟
قال أبو محمد رحمه الله: هذا أيضا ليس فيه بيان بأنهم قوم معروفون
بأعيانهم وإنما هو خبر عن قائلين قالوا ذلك . وقال تعالى: {وَإِذْ
قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ
فَارْجِعُوا}
قال أبو محمد: وهذا أيضا ممكن أن يقوله يهود , وممكن أن يقوله أيضا قوم
مسلمون خورا وجبنا , وإذ كل ذلك ممكن فلا يجوز القطع من أجل هذه الآية
على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف أنهم منافقون . وأما قول
الله تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} إلى قوله
تعالى: {وكان عهد الله مسئولا} فإن هذا قد روي أنه كان نزل في بني
حارثة , وبني سلمة - وهم الأفاضل البدريون الأحديون - ولكنها كانت وهلة
في استئذانهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق , وقولهم: {إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} وفيهما نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ
مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}. كما نا عبد الرحمن بن
عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا علي بن
عبد الله نا سفيان بن عيينة قال عمرو بن دينار : سمعت جابر بن عبد الله
يقول : فينا نزلت { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما } قال
جابر : نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة.
(11/213)
قال جابر
: وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى {والله وليهما}.
قال أبو محمد: مع أنه ليس في الآية أن هذا كفر أصلا , فبطل التعلق بها
وبالله تعالى التوفيق . وقال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} إلى قوله تعالى {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيراً} .
قال أبو محمد: فهذه ليس فيها دليل على أنها في قوم معروفين بأعيانهم
ولكنها صفة يعرفها من نفسه من سمع منهم هذه الآية , إلا أن قول الله
تعالى بعدها بيسير: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} بيان
جلي على بسط التوبة لهم , وكل هؤلاء بلا خلاف من أحد من الأمة معترف
بالإسلام , لائذ بالتوبة فيما صح عليهم , من قول يكون كفرا ومعصية .
فبطل التعلق بهذه الآية لمن ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يعرفهم بأعيانهم , ويعرف أنهم يعتقدون الكفر في باطنهم . قال الله
تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى قوله تعالى:
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} ؟ قال أبو محمد:قد مضى قولنا في قوله
تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} . وقال تعالى:
{وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلاً} لا يختلف مسلمان في أنه ليس على ترك قتال الكافرين وإصغارهم
ودعائهم إلى الإسلام ولكن فيما عدا ذلك , وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى
قوله تعالى: { ولن تجد لسنة الله تبديلا }
قال أبو محمد: هذه الآية فيها كفاية لمن عقل ونصح نفسه , لأن الله
تعالى قطع بأنه إن لم ينته المنافقون , والذين في قلوبهم مرض ,
والمرجفون في المدينة : ليغرين بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا
يجاورونه فيها إلا قليلا , فأخبر تعالى أنهم يكونون إن لم ينتهوا
ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا - وإعراب - ملعونين - أنه حال
لمجاورتهم - معناه لا يجاورونه إلا قليلا ملعونين . ولو أراد الله
تعالى غير هذا لقال : ملعونون على خبر ابتداء مضمر ثم أكد تعالى بأن
هذا هو سنته تعالى التي لا تتبدل . فنسأل من قال: إن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم علمهم بأعيانهم وعلم نفاقهم , هل انتهوا أو لم
ينتهوا ؟ فإن قال : انتهوا , رجع إلى الحق , وصح أنهم تابوا ولم يعلم
باطنهم - في صحة التوبة أو كذبها - إلا الله تعالى وحده لا شريك له ,
ولم يعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قط إلا الظاهر الذي هو
الإسلام , أو كفرا رجعوا عنه فأظهروا التوبة منه . وإن قال : لم ينتهوا
, لم يبعد عن الكفر , لأنه يكذب الله تعالى , ويخبر أنه تعالى بدل سنته
التي قد أخبر أنه
(11/214)
لا يبدلها
أو بدلها رسوله عليه السلام.
قال أبو محمد: وكل من وقف على هذا وقامت عليه الحجة ثم تمادى فهو كافر
, لأنه مكذب لله تعالى , أو مجور لرسوله - عليه السلام - وكلا الأمرين
كفر . قال أبو محمد:ولقد بلغني عن بعض من خذله الله تعالى أنه تلا هذه
الآية ثم قال : ما انتهوا ولا أغراه بهم ؟ قال أبو محمد:نحن نبرأ إلى
الله تعالى من هذا , فإن قائله آفك كاذب , عاص لله تعالى لا يحل له
الكلام في الدين - ونسأل الله تعالى العافية . وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} إلى قوله تعالى: {واتبعوا أهواءهم} ؟
قال أبو محمد: من عصى الله تعالى فقد طبع على قلبه في الوجه الذي عصى
فيه , ولو لم يطبع على قلبه فيه لما عصى ؟ فقد يمكن أن يكون هؤلاء
منافقين فإعلانهم بالتوبة ماح لما تقدم في الظاهر , والله أعلم بالباطن
وبالله تعالى التوفيق .
وقال تعالى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} إلى قوله:
{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
قال أبو محمد: وهذا كالذي قبله إما أن يكون هذا النظر يبين معتقدهم
وإظهارهم الإسلام توبة تصح به قبولهم على ظاهرهم وإن لم يكن ذلك النظر
دليلا يتميزون به فهم كغيرهم ولا فرق . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِسْرَارَهُمْ}
قال أبو محمد: هذه صفة مجملة لمن ارتد معلنا أو مسرا , ولا دليل فيها
على أنه عليه السلام عرف أنهم منافقون مسرون للكفر - وبالله تعالى
التوفيق . قال تعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
قال أبو محمد: قد بين الله تعالى : أنه لو شاء أراهم نبيه - عليه
السلام - وهذا لا شك فيه ثم قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ} فهذا كالنظر المتقدم إن كان لحن القول برهانا يقطع
به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنهم منافقون , فإظهارهم
خلاف ذلك القول وإعلانهم الإسلام توبة في الظاهر - كما قدمنا - وإن كان
عليه السلام لا يقطع بلحن قولهم على ضميرهم , فإنما هو ظن يعرفه في
الأغلب لا يقطع به - وبالله تعالى التوفيق ؟ قال أبو محمد:قد ذكرنا في
" براءة , والفتح قول الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ}
الآيات كلها , وبينا أن الله تعالى وعدهم بقبول التوبة والأجر العظيم
إن تابوا وأطاعوا لمن دعاهم بعد النبي عليه السلام إلى الجهاد - وبالله
تعالى التوفيق.
(11/215)
وقال
تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} إلى قوله تعالى: {غَفُورٌ
رَحِيمٌ} ؟
قال أبو محمد: هذا دليل على أنهم استسلموا لله تعالى غلبة ولم يدخل
الإيمان في قلوبهم , ولكن الله تعالى قد بسط لهم التوبة في الآية نفسها
بقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئا} فإظهارهم الطاعة لله تعالى ولرسوله - عليه
السلام - مدخل لهم في حكم الإسلام ومبطل لأن يكون عليه السلام عرف
باطنهم . وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ} إلى قوله تعالى {وغرتكم الأماني} .
قال أبو محمد: فهذه حكاية عن يوم القيامة , وإخبار بأنهم كانوا في
الدنيا مع المسلمين , وهذا يبين أنهم لم يكونوا معروفين عند النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ولا عند المسلمين , وهذه الآية يوافقها : ما روينا
من طريق مسلم بن الحجاج نا زهير بن حرب نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا
أبي عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث: "فيجمع الله الناس يوم
القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ؟ فيتبع من يعبد الشمس الشمس
, ويتبع من يعبد القمر القمر , ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت ,
وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها" وذكر الحديث . وقال تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} إلى قوله تعالى: {فبئس
المصير}
قال أبو محمد: هؤلاء معروفون بلا شك , ولكن التوبة لهم مبسوطة كما
ذكرنا في سائر الآيات . وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} إلى قوله تعالى: {هم
الخاسرون}
قال أبو محمد: وهذه صفة قوم لم يسلموا إلا أنهم يتبرءون من موالاة
الكفار , فإن كانوا معروفين بالكفر فالتوبة لهم مبسوطة , كما ذكر تعالى
في سائر الآيات التي تلونا قبل - وبالله تعالى التوفيق . وقال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} إلى قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}
قال أبو محمد: هذا قد يكون سرا علمه الله منه وفضحه ولم يسم قائله
ويمكن أن يكون قد عرف فالتوبة لهم مبسوطة كما ذكرنا في سائر الآيات ,
وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله تعالى:
{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُون}
قال أبو محمد: هذا نزل في عبد الله بن أبي , كما روينا من طريق البخاري
نا عمرو بن خالد نا زهير بن معاوية نا أبو إسحاق هو السبيعي قال : سمعت
زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر
أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي : لا تنفقوا على من عند رسول
الله حتى ينفضوا من حوله , وقال : لئن رجعنا
(11/216)
إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ؟ فأتيت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فأخبرته , فأرسل إلى عبد الله بن أبي , فاجتهد يمينه ما فعل ,
فقالوا : كذب زيد يا رسول الله , فوقع في نفسي مما قال شدة , حتى أنزل
الله تعالى تصديقي في إذا جاءك المنافقون فدعاهم النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ليستغفر لهم ؟ فلووا رءوسهم". قال : وقوله: {خشب مسندة}
كانوا رجالا أجمل شيء كما روينا من طريق البخاري نا علي بن عبد الله نا
سفيان قال عمرو بن دينار : سمعت جابر بن عبد الله يقول: "كنا في غزاة
فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار : فقال : دعوها فإنها منتنة ,
فسمع ذلك عبد الله بن أبي فقال : فعلوها , أما والله لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ؟ فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل
أصحابه" , فقال سفيان : فحفظته من عمر , وقال : سمعت جابرا قال: "كنا
مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم">
قال أبو محمد: أما قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}
إلى قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} فهم قوم كفروا بلا شك بعد
إيمانهم ارتدوا بشهادة الله تعالى عليهم بذلك , إلا أن التوبة لهم
بيقين مذكورة في الآية , وفيما رواه زيد بن أرقم من الحديث الثابت .
أما النص فقوله تعالى: {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا
رُؤُوسَهُمْ}. وأما منع الله تعالى من المغفرة لهم , فإنما هو بلا شك
فيما قالوه من ذلك القول , لا في مراجعة الإيمان بعد الكفر , فإن هذا
مقبول منهم بلا شك . برهان ذلك : ما سلف في الآيات التي قدمنا قبل ,
وأيضا إطلاقهم فيه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على الاستغفار لهم
بقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وهم قد أظهروا
الإيمان بلا شك , والله أعلم بنياتهم . برهان ذلك : ما قد ذكرناه قبل
من شك جابر , وابن عباس , وعمر - رضي الله عنهم - في ابن أبي بعينه
صاحب هذه القصة . وكذلك الخبر عن جابر "إذ قال عمر للنبي - عليه السلام
- دعني أضرب عنق هذا المنافق - يعني عبد الله بن أبي" فليس في هذا دليل
أنه حينئذ منافق , لكنه قد كان نافق بلا شك وقد قال عمر - رضي الله عنه
- مثل هذا في مؤمن برئ من النفاق جملة - وهو حاطب بن بلتعة - وقول رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل
أصحابه" دليل بين على تحريم دم عبد الله بن أبي ابن سلول بقوله عليه
السلام " دعه " وهو - عليه السلام - لا يجوز أن يأمر بأن يدع الناس
فرضا واجبا . وكذلك قوله عليه السلام: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل
أصحابه" بيان جلي بظاهر لفظه , مقطوع على غيبة بصحة باطن أن عبد الله
بن أبي من جملة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظاهر إسلامه
, وأنه من جملة الصحابة المسلمين الذين لهم حكم الإسلام , والذين حرم
الله تعالى دماءهم إلا بحقها ؟ وبيقين ندري أنه لو حل دم
(11/217)
ابن أبي
لما حاباه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو وجب عليه لما ضيعه
عليه السلام ؟ ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل من وجب
عليه القتل من أصحابه فقد كفر , وحل دمه وماله , لنسبته إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم الباطل , ومخالفة الله تعالى , والله : لقد قتل
رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الفضلاء المقطوع لهم بالإيمان
والجنة , إذ وجب عليهم القتل , كماعز , والغامدية , والجهينية - رضي
الله عنهم فمن الباطل المتيقن , والضلال البحت , والفسوق المجرد : بل
من الكفر الصريح : أن يعتقد , أو يظن - من هو مسلم : أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقتل مسلمين فاضلين من أهل الجنة من أصحابه أشنع
قتلة بالحجارة , ويقتل الحارث بن سويد الأنصاري قصاصا بالمجدر بن خيار
البلوي بعلمه - عليه السلام - دون أن يعلم ذلك أحد , والمرأة التي أمر
أنيسا برجمها , إن اعترفت . وبقطع يد المخزومية – ويقول :"لو كانت
فاطمة لقطعت يدها". وبقوله عليه السلام: "إنما هلكت بنو إسرائيل بأنهم
كانوا إذا أصاب الضعيف منهم الحد أقاموه عليه , وإذا أصابه الشريف
تركوه". ثم يفعل هو - عليه السلام - ذلك , ويعطل إقامة الحق الواجب في
قتل المرتد على كافر يدري أنه ارتد الآن , ثم لا يقنع بهذا حتى يصلي
عليه , ويستغفر له - وهو يدري أنه كافر . وقد تقدم نهي الله تعالى له
عن الاستغفار للكفار . ونحن نشهد بشهادة الله تعالى بأن من دان بهذا
واعتقده فإنه كافر , مشرك , مرتد , حلال الدم والمال - نبرأ إلى الله
تعالى منه ومن ولايته - من يظن به النفاق بلا خلاف , فالأمر فيمن دونه
بلا شك أخفى - فارتفع الإشكال في هذه الآيات - ولله الحمد . وصح أن عبد
الله بن أبي بعد أن كفر هو ومن ساعده على ذلك أظهروا التوبة والإسلام ,
فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم , ولم يعلم باطنهم على ما
كانوا عليه من الكفر ؟ أم على ما أظهروا من التوبة ؟ ولكن الله تعالى
عليم بذلك , وهو بلا شك المجازي عليه يوم القيامة . وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ}
قال أبو محمد:هذا يخرج على وجهين لا ثالث لهما - : أما من يعلم أنه
منافق وكفر فإنه - عليه السلام - يجاهده بعينه بلسانه , والإغلاظ عليه
حتى يتوب - ومن لم يعلمه بعينه جاهده جملة بالصفة , وذم النفاق ,
والدعاء إلى التوبة . ومن الباطل البحت أن يكون رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعلم أن فلانا بعينه منافق متصل النفاق ثم لا يجاهده , فيعصي
ربه تعالى , ويخالف أمره - ومن اعتقد هذا فهو كافر , لأنه نسب
الاستهانة بأمر الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: هذا كل ما في القرآن من ذكر المنافقين قد تقصيناه -
والحمد لله رب
(11/218)
العالمين
, وبقيت آثار نذكرها الآن إن شاء الله تعالى : روينا من طريق البخاري
نا سعيد بن عفير ني الليث هو ابن سعد - نا عقيل عن ابن شهاب أخبرني
محمود بن ربيع الأنصاري أن: "عتبان بن مالك - ممن شهد بدرا - قال في
حديث فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار
, قال : وحبسناه على خزيرة صنعناها له , قال : فثاب في البيت رجال ذوو
عدد , فاجتمعوا , فقال قائل منهم : أين مالك بن الدخشن - أو ابن دخشن -
فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله , فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا تقل ذلك , ألا تراه قد قال : لا إله إلا الله يريد بذلك
وجه الله قال : الله ورسوله أعلم , فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى
المنافقين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله قد حرم على
النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى" حدثنا عبد
الله بن ربيع نا بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا
عبد الله بن مسرة نا معاذ بن هشام الدستوائي نا أبي عن قتادة عن عبيد
الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لا تقولوا للمنافق : سيدا , فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم". ومن
طريق مسلم نا زهير بن حرب نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن منصور بن
المعتمر عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: "لما كان يوم حنين آثر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة , فأعطى الأقرع بن حابس مائة
من الإبل , وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك , وأعطى ناسا من أشراف العرب
وآثرهم يومئذ في القسمة , فقال رجل : والله إن هذه لقسمة ما يعدل فيها
, ما أريد بها وجه الله , قال فقلت : والله لأخبرن به رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : فأتيته فأخبرته بما قال , فتغير وجه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان كالصرف ثم قال من يعدل إذا لم يعدل
الله ورسوله , يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر". قال ابن
مسعود : قلت : لا جرم , لا أرفع إليه بعدها حديثا . ومن طريق مسلم نا
محمد بن المثنى , ومحمد بن رمح قال محمد بن رمح بن المهاجر أنا الليث
بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر , وقال ابن
المثنى : نا عبد الوهاب عن عبد الحميد الثقفي قال : سمعت يحيى بن سعيد
الأنصاري يقول : أنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله قال: "أتى
رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة - ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال : يا محمد اعدل ؟ قال ويلك ومن
يعدل إذا لم أكن أعدل ؟ فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله فأقتل
هذا المنافق ؟ فقال : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي , إن
هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم
من الرمية".
(11/219)
ومن طريق
البخاري نا محمد أنا مخلد بن يزيد أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن
دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "غزونا مع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا , وكان من
المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضبت الأنصار غضبا شديدا حتى تداعوا
, فقال الأنصاري : يا للأنصار ؟ وقال المهاجري : يا للمهاجرين ؟ فخرج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية ما شأنهم ؟
فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دعوها فإنها خبيثة ؟ فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : قد تداعوا علينا
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , فقال عمر بن الخطاب :
ألا تقتل يا نبي الله هذا الخبيث ؟ - لعبد الله بن أبي - فقال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم : لا يتحدث الناس : أن محمدا يقتل أصحابه".
ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا عبد الواحد - هو ابن زياد - عن
عمارة بن القعقاع عن عبد الرحمن بن أبي نعم قال : سمعت أبا سعيد الخدري
يقول: "بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تخلص من ترابها , فقسمها بين أربعة نفر
: عيينة بن بدر , والأقرع بن حابس , وزيد الخيل - وشك في الرابع - فقال
رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بها من هؤلاء , فبلغ ذلك النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقال : ألا تأمنوني وأنا أمين في السماء , يأتيني خبر
السماء صباحا ومساء , فقام رجل غائر العينين , مشرف الوجنتين , ناشز
الجبهة , كث اللحية , محلوق الرأس , مشمر الإزار , فقال : يا رسول الله
اتق الله . فقال : ويلك , أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ ثم ولى
الرجل , فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال :
لعله أن يكون يصلي . قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لم أؤمر أن أنقب عن
قلوب الناس , ولا أشق بطونهم , إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب
الله رطبا , لا يجاوز حناجرهم , يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية". حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن
أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر نا
شعبة : قال : سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة: "عن قيس بن عباد قلت لعمار
: أرأيت قتالكم هذا ؟ أرأي رأيتموه , فإن الرأي يخطئ ويصيب ؟ أوعهد
إليكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال : ما عهد إلينا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة , وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , أحسبه قال : حدثني حذيفة : أنه
قال: "في أمتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى
يلج الجمل في سم الخياط , ثمانية منهم يكفيهم الرسلة , سراج من النار
يظهر بين أكتافهم
(11/220)
حتى ينجم
من ظهورهم". حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم
بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا أبو أحمد -
هو الزبيري - نا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن عياض بن عياض أبيه عن
ابن مسعود قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر في
خطبته ما شاء الله تعالى , ثم قال : إن منكم منافقين فمن سميت فليقم ؟
ثم قال : قم يا فلان , قم يا فلان , قم يا فلان - حتى عد ستة وثلاثين -
ثم قال : إن منكم وإن فيكم , فسلوا الله العافية ؟ فمر عمر برجل مقنع
قد كان بينه وبينه معرفة , قال : ما شأنك ؟ فأخبره بما قال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فقال له عمر : تبا لك سائر اليوم". ومن طريق مسلم
نا الحسن بن علي الحلواني نا ابن أبي مريم أنا محمد بن جعفر أخبرني زيد
بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : "أن رجلا من المنافقين
في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فإذا قدم النبي - عليه السلام - اعتذروا إليه
وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا , فلا تحسبنهم بمفازة من
العذاب".
ومن طريق مسلم نا زهير بن حرب أنا أحمد الكوفي نا الوليد بن جميع نا
أبو الطفيل قال: "كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة ما يكون بين
الناس فقال : أنشدك الله , كم كان أصحاب العقبة ؟ فقال له القوم :
أخبره إذ سألك ؟ قال - يعني حذيفة - : كنا نخبر أنهم أربعة عشر , فإن
كنت فيهم فقد كان القوم خمسة عشر , وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حزب
لله ولرسوله , ويوم يقوم الأشهاد , وعذر ثلاثة , وعذر ثلاثة ؟ قالوا :
ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا علمنا بما أراد
القوم ؟".
قال أبو محمد: ليست هذه العقبة الفاضلة المحمودة قبل الهجرة , تلك كانت
للأنصار خالصة شهدها منهم - رضي الله عنهم - سبعون رجلا وثلاث نسوة ,
ولم يشهدها أحد من غيرهم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده ,
والعباس عمه , وهو غير مسلم يومئذ , لكنه شفقة على ابن أخيه . ومن طريق
مسلم نا أبو كريب جعفر بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: "أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم من سفر , فلما كان قرب المدينة
هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب , فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال : بعثت هذه الريح لموت منافق , وقدم المدينة , فإذا عظيم من
المنافقين قد مات ؟".
قال أبو محمد: وأحاديث موقوفة على حذيفة فيها: أنه كان يدري المنافقين
, وأن عمر سأله : أهو منهم ؟ قال : لا , ولا أخبر أحدا بعدك بمثل هذا ,
وأن عمر كان ينظر إليه فإذا حضر حذيفة جنازة حضرها عمر , وإن لم يحضرها
حذيفة لم يحضرها عمر
(11/221)
وفي بعضها
منهم : شيخ لو ذاق الماء ما وجد له طعما : كلها غير مسندة . وعن حذيفة
قال : مات رجل من المنافقين فلم أذهب إلى الجنازة فقال : هو منهم ,
فقال له عمر : أنا منهم ؟ قال : لا . وعن محمد بن إسحاق ثني عاصم بن
عمر بن قتادة بن النعمان الظفري , قال : قلت لمحمود بن لبيد : هل كان
الناس يعرفون النفاق فيهم ؟ قال : نعم , والله إن كان الرجل ليعرفه من
أخيه , ومن أبيه , ومن بني عمه , ومن عشيرته , ثم يلبس بعضهم بعضا على
ذلك - قال محمود: "لقد أخبرني رجل من قومي عن رجل من المنافقين معروف
نفاقه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث سار , فلما
كان من أمر الحجر ما كان , ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين
دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس , أقبلنا عليه نقول :
ويحك أبعد هذا شيء ؟ قال : سحابة مارة , ثم إن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم سار حتى كان ببعض الطريق ضلت ناقته , فخرج أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في طلبها , وعند رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم رجل من أصحابه يقال له : عمارة بن حزم , وكان عقبيا بدريا - وهو
من بني عمرو بن مخزوم - وكان في رحل يزيد بن نصيب القينقاعي وكان
منافقا , فقال يزيد - وهو في رحل عمارة - وعمارة عند النبي عليه السلام
: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء , ولا يدري أين ناقته
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمارة عنده : إن رجلا قال:
هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بخبر السماء - هو لا يدري
أين ناقته - وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله , وقد دلني عليها -
وهي في هذا الوادي من شعب كذا وكذا - وقد حبستها شجرة بزمامها ,
فانطلقوا حتى تأتوني بها ؟ فذهبوا فجاءوا بها , فرجع عمارة بن حزم إلى
رحله , فقال : والله لأعجب شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه كذا وكذا - للذي قال يزيد بن
نصيب فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم : يزيد , والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي ؟ فأقبل عمارة
على يزيد يجأ في عنقه ويقول : يا آل عباد الله , إن في رحلي الراهبة ,
وما أشعر , اخرج , أي عدو الله من رحلي فلا تصحبني؟" وعن زيد بن وهب
قال : كنا عند حذيفة - وهو من طريق البخاري - فقال حذيفة : ما بقي من
أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة , يعني قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ} إلى قوله {ينتهون} قال حذيفة : ولا بقي من المنافقين إلا
أربعة , فقال له أعرابي : إنكم أصحاب محمد تخبروننا بما لا ندري , فما
هؤلاء الذين ينقرون بيوتنا , ويسرقون أعلافنا ؟ قال : أولئك الفساق ,
أجل , لم يبق منهم إلا أربعة : شيخ كبير لو شرب الماء وجد له بردا ؟
(11/222)
قال أبو
محمد: هذا كل ما حضرنا ذكره من الأخبار , وليس في شيء منها حجة أصلا .
أما حديث مالك بن الدخشن فصحيح وهو أعظم حجة عليهم , لأن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أخبر بأن شهادة التوحيد تمنع صاحبها وهكذا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهينا عن قتال المصلون". وأما حديث
بريدة الأسلمي: "لا تقولوا للمنافق سيدا" فإن هذا عموما لجميع الأمة ,
ولا يخفى هذا على أحد - وإذ الأمر كذلك فإذا عرفنا المنافق ونهينا أن
نسميه " سيدا " فليس منافقا بل مجاهرا , وإذا عرفنا من المنافق ؟ ونحن
لا نعلم الغيب ؟ ولا ما في ضميره فهو معلن لا مسر . وقد يكون هذا
الحديث أيضا على وجه آخر - وهو أن النبي - عليه السلام - قد صح عنه أن
خصالا من كن فيه كان منافقا خالصا وقد ذكرناها قبل . وليس هذا نفاق
الكفر , لكنه منافق لإظهاره خلاف ما يضمره في هذه الخلال المذكورة في
كذبه , وغدره , وفجوره , وإخلافه , وخيانته - ومن هذه صفاته فلا يجوز
أن يسمى سيدا , ومن سماه سيدا فقد أسخط الله تعالى بإخبار رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بذلك . وأما حديث ابن مسعود - فإن القائل أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعدل , ولا أراد وجه الله تعالى
فيما عمل فهو كافر معلن بلا شك . وكذلك القائل في حديث جابر إذ استأذن
عمر في قتله إذ قال : اعدل يا رسول الله ؟ فنهى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم عمر عن ذلك , وأخبر بأنه لا يقتل أصحابه . وكذلك أيضا
استئذان عمر في قتل عبد الله بن أبي أن هؤلاء صاروا بإظهارهم الإسلام
بعد أن قالوا ما قالوا : حرمت دماؤهم وصاروا بذلك جملة أصحابه عليه
السلام .
قال أبو محمد: فهذا ما احتج به من رأى أن المرتد لا يقتل أصلا , لأن
هؤلاء مرتدون بلا شك , ولم يقتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ,
وقد قتل أصحابه الفضلاء , كماعز , والغامدية , والجهينية , إذ وجب
القتل عليهم , ولو كان القتل على هؤلاء المرتدين لما ضيع ذلك أصلا ؟
قال أبو محمد: فنقول - وبالله تعالى التوفيق - إنه لا خلاف بين أحد من
الأمة في أنه لا يحل لمسلم أن يسمي كافرا معلنا بأنه صاحب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم , ولا أنه من أصحاب النبي عليه السلام , وهو
عليه السلام قد أثنى على أصحابه . فصح أنهم أظهروا الإسلام , فحرمت
بذلك دماؤهم في ظاهر الأمر , وباطنهم إلى الله تعالى في صدق أو كذب ,
فإن كانوا صادقين في توبتهم فهم أصحابه حقا عند الناس ظاهرهم , وعند
الله تعالى باطنهم وظاهرهم , فهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أنهم لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهبا ما بلغ نصيف مد أحدهم , وإن
كانوا كاذبين , فهم في الظاهر مسلمون , وعند الله تعالى كفار . وهكذا
القول في حديث
(11/223)
أبي سعيد
الذي قد ذكرناه إذ استأذنه خالد في قتل الرجل فقال : لا , لعله أن يكون
يصلي , فقد صح نهي النبي عليه السلام لخالد عن قتله , ولو حل قتله لما
نهاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك , وأخبر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بالسبب المانع من قتله - وهو أنه لعله يصلي - فقال
له خالد : رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه , فأخبره : أنه لم يبعث
ليشق عن قلوب الناس فإنما عليه الظاهر - وأخبرنا - عليه السلام - أنه
لا يدري ما في قلوبهم , وأن ظاهرهم مانع من قتلهم أصلا . وقد جاء هذا
الخبر من طريق لا تصح , وفيه : أنه - عليه السلام - أمر أبا بكر , وعمر
, بقتله , فوجده يركع , ووجده الآخر يسجد فتركاه , وأمر عليا بقتله
فمضى فلم يجده , وأنه عليه السلام قال : لو قتل لم يختلف من أمتي اثنان
وهذا لا يصح أصلا , ولا وجه للاشتغال به . وأما حديث عمار: "في أمتي
اثنا عشر منافقا" فليس فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عرفهم بأعيانهم وهو إخبار بصفة عن عدد فقط ليس فيهم بيان أنهم عرفوا
بأسمائهم فسقط التعلق بهذا الخبر - وبالله تعالى التوفيق . وأما حديث
ابن مسعود فإنه لا يصح فإننا قد رويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا أحمد
بن زهير بن حرب نا أبو نعيم عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن رجل عن
أبيه عن ابن مسعود , فذكر هذا الحديث . وقال سفيان عن هذا الرجل الذي
لم يسم عن أبيه : أراه عياض بن عياض , فقد أخبر أبو نعيم عن سفيان :
أنه مشكوك فيه . ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة , لأنهم قد انكشفوا
واشتهر أمرهم , فليسوا منافقين , بل هم مجاهرون فلا بد من أحد أمرين لا
ثالث لهما : إما أن يكونوا تابوا فحقنت دماؤهم بذلك , وإما أنهم لم
يتوبوا فهو مما تعلق به من لا يرى قتل المرتد على ما ذكرنا . وأما حديث
أبي سعيد فإنما فيه أنهم ليسوا مأمونين من العذاب وهذا ما لا شك فيه
ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرف كفرهم . وأما حديث
حذيفة فساقط , لأنه من طريق الوليد بن جميع - وهو هالك - ولا نراه يعلم
من وضع الحديث فإنه قد روى أخبارا فيها أن أبا بكر , وعمر , وعثمان ,
وطلحة , وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم - أرادوا قتل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وإلقاءه من العقبة في تبوك - وهذا هو الكذب الموضوع
الذي يطعن الله تعالى واضعه - فسقط التعلق به - والحمد لله رب العالمين
. وأما حديث جابر فراويه أبو سفيان طلحة بن نافع وهو ضعيف , ثم لو صح
لما كانت فيه حجة , لأنه ليس فيه إلا هبوب الريح لموت عظيم من عظماء
المنافقين , فإنما في هذا انكشاف أمره بعد موته فلم يوقن قط , بأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم علم نفاقه في حياته , فلا يجوز أن يقطع بالظن
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(11/224)
وأما
الموقوفة على حذيفة - فلا تصح ولو صحت لكانت بلا شك على ما بينا من
أنهم صح نفاقهم وعاذوا بالتوبة , ولم يقطع حذيفة ولا غيره على باطن
أمرهم , فتورع عن الصلاة عليهم . وفي بعضها أن عمر سأله : أنا منهم ؟
فقال له : لا , ولا أخبر أحدا غيرك بعدك - وهذا باطل كما ترى , لأن من
الكذب المحض أن يكون عمر يشك في معتقد نفسه حتى لا يدري أمنافق هو أم
لا ؟ وكذلك أيضا لم يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن جميع المهاجرين
قبل فتح مكة لم يكن فيهم منافق , إنما كان النفاق في قوم من الأوس
والخزرج فقط - فظهر بطلان هذا الخبر . وأما حديث محمود بن لبيد فمنقطع
, ومع هذا فإنما فيه : أنهم كانوا يعرفون المنافقين منهم , وإذ الأمر
كذلك فليس هذا نفاقا بل هو كفر مشهور , وردة ظاهرة - هذا حجة لمن رأى
أنه لا يقتل المرتد . وأما حديث حذيفة "لم يبق من أصحاب هذه الآية إلا
ثلاثة" فصحيح لا حجة لهم فيه , لأن في نص الآية أن يقاتلوا حتى ينتهوا
, فبيقين ندري أنهم لو لم ينتهوا لما ترك قتالهم كما أمر الله تعالى .
وكذلك أيضا قوله " أنه لم يبق من المنافقين إلا أربعة " فلا شك عند أحد
من الناس أن أولئك الأربعة كانوا يظهرون الإسلام , وأنه لا يعلم غيب
القلوب إلا الله تعالى , فهم ممن أظهر التوبة بيقين لا شك فيه , ثم
الله تعالى أعلم بما في نفوسهم ؟
قال أبو محمد: ويبين هذا ما رويناه من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن
غياث نا أبي نا الأعمش ني إبراهيم النخعي عن الأسود قال : كنا في حلقة
عبد الله بن مسعود فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم , ثم قال : لقد أنزل
النفاق على قوم خير منكم , قال الأسود : سبحان الله , إن الله تعالى
يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ} فتبسم عبد الله بن مسعود , وجلس حذيفة في ناحية المسجد ,
فقام عبد الله فتفرق الصحابة , فرماني حذيفة بالحصى فأتيته , فقال
حذيفة : عجبت من ضحكه وقد علم ما قلت " لقد أنزل الله النفاق على قوم
كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم . روينا من طريق البخاري نا
آدم بن أبي إياس نا شعبة عن واصل الأحدب عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن
حذيفة بن اليمان قال : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانوا حينئذ يسرون واليوم يجهرون ؟
قال أبو محمد: فهذان أثران في غاية الصحة , في أحدهما بيان أن
المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسرون , وفي
الثاني أنهم تابوا - فبطل تعلق من تعلق بكل آية وكل خبر ورد في
المنافقين . وصح أنهم قسمان : إما قسم لم يعلم باطن أمره , فهذا لا حكم
له في الآخرة , وقسم علم باطن أمره وانكشف فعاذ بالتوبة . قالوا : إن
(11/225)
الذي جور
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنه لم يعدل , ولا أراد بقسمته
وجه الله مرتد لا شك فيه , منكشف الأمر , وليس في شيء من الأخبار أنه
تاب من ذلك , ولا أنه قتل , بل فيها النهي عن قتله ؟ قلنا : أما هذا
فحق , كما قلتم , لكن الجواب في هذا أن الله - تعالى - لم يكن أمر بعد
بقتل من ارتد , فلذلك لم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك نهى
عن قتله , ثم أمره الله تعالى بعد ذلك بقتل من ارتد عن دينه فنسخ تحريم
قتلهم . برهان ذلك - ما رويناه من طريق مسلم نا هناد بن السري نا أبو
الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبي سعيد الخدري
قال: "بعث علي - وهو باليمن - بذهيبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر : الأقرع
بن حابس الحنظلي , وعيينة بن بدر الفزاري , وعلقمة بن علاثة العامري ,
وزيد الخير الطائي أحد بني نبهان - فذكر الحديث , وفيه: "فجاء رجل كث
اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس فقال : اتق
الله يا محمد , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يطع الله إن
عصيته ؟ أيأمنني على أهل الأرض , ولا تأمنوني , فاستأذن رجل في قتله -
يرون أنه خالد بن الوليد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من
ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام
ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن
أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد". حدثنا هشام بن سعيد أنا عبد الجبار بن أحمد
نا الحسن بن الحسين البجيرمي نا جعفر بن محمد نا يونس بن حبيب نا أبو
داود الطيالسي نا سلام بن سليمان - هو أبو الأحوص - عن سعيد بن مسروق
عن عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبي سعيد الخدري: "أن عليا بعث إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها فقسمها النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بين أربعة نفر , بين : عيينة بن حصن بن بدر الفزاري , وعلقمة بن
علاثة الكلابي والأقرع بن حابس التميمي , وزيد الخير الطائي , فغضبت
قريش والأنصار , وقالوا : يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم : إنما أعطيتهم أتألفهم , فقام رجل غائر
العينين , محلوق الرأس مشرف الوجنتين , ناتئ الجبين , فقال : اتق الله
يا محمد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن يطيع الله إن
عصيته أنا ؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ فاستأذن عمر في قتله
, فأبى , ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من ضئضئ هذا
قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم , يمرقون من الإسلام كما يمرق
السهم من الرمية , يقتلون أهل الإسلام , ويدعون أهل الأوثان , والله
لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
(11/226)
قال أبو
محمد: فصح كما ترى الإسناد الثابت : أن هذا المرتد استأذن عمر بن
الخطاب , وخالد بن الوليد في قتله فلم يأذن لهما رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في ذلك , وأخبر عليه السلام في فوره ذلك : أنه سيأتي من
ضئضئه عصابة إن أدركهم قتلهم , وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم
من الرمية , فقد خرج عنه , ومن خرج عنه بعد كونه فدخوله كدخول السهم في
الرمية , فقد ارتد عنه . فصح إنذار النبي - عليه السلام - بوجوب قتل
المرتد , وأنه قد علم عن الله تعالى أنه سيأمر بذلك الوقت - فثبت ما
قلناه من أن قتل من ارتد كان حراما - ولذلك نهى عنه - عليه السلام -
ولم يأذن به لا لعمر , ولا لخالد . ثم إنه عليه السلام نذر بأنه سيباح
قتله , وأنه سيجب قتل من يرتد فصح يقينا نسخ ذلك الحال , وقد نسخ ذلك
بما رويناه عن ابن عباس , وابن مسعود , وعثمان , ومعاذ عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد بطلت هذه المقالة من أن لا يقتل المرتد
, وصح أنه من قال : إنه تعلق بمنسوخ , فلم يبق إلا قول من قال : يستتاب
, وقد ذكرناه .
(11/227)
حد الزنا
...
2200 - مسألة : حد الزنى:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وقال تعالى: {ولا يزنون} الآية . فحرم تعالى
الزنى وجعله من الكبائر , توعد فيه بالنار . حدثنا عبد الرحمن بن عبد
الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا محمد بن
المثنى نا إسحاق بن يوسف نا الفضل بن غزوان عن عكرمة عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزني العبد حين يزني وهو
مؤمن , ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن , ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن , ولا
يقتل حين يقتل وهو مؤمن" . قال عكرمة قلت لابن عباس كيف ينتزع الإيمان
منه قال هكذا - وشبك بين أصابعه ثم أخرجها - فإن تاب عاد إليه هكذا ,
وشبك بين أصابعه . ومن طريق البخاري نا آدم نا شعبة عن الأعمش عن ذكوان
- هو أبو صالح - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن
, ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن - والتوبة معروضة". أنا عبد الله بن ربيع
التميمي نا محمد بن معاوية المرواني نا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن
راهويه أنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال : ثني سعيد بن المسيب وأبو
سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
, كلهم حدثوني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن , ولا
يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن , ولا ينتهب نهبة ذات شرف فيرفع
المسلمون إليها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".
(11/227)
قال أبو
محمد رحمه الله: الإيمان هو جميع الطاعة , فأي طاعة أطاع العبد بها ربه
فهي إيمان وهو بفعله إياها مؤمن , وأي معصية عصى بها العبد ربه فليست
إيمانا , فهو بفعله إياها غير مؤمن , والإيمان والطاعة شيء واحد ,
فمعنى ليس مؤمنا : ليس مطيعا لله تعالى , ولو كان نفي الإيمان هاهنا
إيجابا للكفر لوجب قتل السارق ومن ذكر معه على الردة - هذا لا يقوله
أحد , ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . حدثنا حمام نا
عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي
نا الحميدي نا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق
عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا
يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا في إحدى
ثلاث : رجل كفر بعد إيمانه , أو زنى بعد إحصانه , أو نفس بنفس". وقد
روي عن عثمان رضي الله عنه - أنه قال وهو محصور في الدار : بم تقتلوني
؟ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إيمان , أو زنى بعد إحصان , أو قتل
نفسا فقتل بها .
قال أبو محمد رحمه الله: وعظم الله تعالى بعض الزنى على بعض , وكله
عظيم , ولكن المعاصي بعضها أكبر من بعض , فعظم الله الزنى بحليلة الجار
, وبامرأة المجاهد , وزنى الشيخ . وروينا من طريق مسلم أنا إسحاق بن
إبراهيم أنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله
بن مسعود قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أعظم
عند الله تعالى ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك , قلت : ثم أي ؟ قال
: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك , قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني
بحليلة جارك". وبه - إلى مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان
عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: "حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم
, وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم
إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء , فما ظنكم ؟". حدثنا عبد
الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن المثنى نا
محمد بن جعفر نا شعبة عن منصور قال سمعت ربعي بن حراش يحدث عن زيد بن
ظبيان رفعه إلى زر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاثة يحبهم
الله , وثلاثة يبغضهم : الثلاثة الذين يبغضهم الله : الشيخ الزاني ,
والفقير المختال , والغني الظلوم". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن
معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن
أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان , وملك
كذاب , وعامل مستكبر". قال أحمد بن شعيب وأنا عبد الرحمن بن محمد بن
سلام نا محمد بن ربيعة نا الأعمش
(11/228)
عن أبي
حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره , وقال فيه :
"الشيخ الزاني , والإمام الكذاب , والعامل المختال". حدثنا عبد الله بن
ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أبو داود الحزامي نا عارم
- هو محمد بن الفضل - نا حماد بن زيد نا عبيد الله بن عمر عن سعيد بن
أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "أربعة يبغضهم الله : البياع الحلاف , والفقير المختال , والشيخ
الزاني , والإمام الجائر".
(11/229)
ما الزنا
...
2201 - مسألة : ما الزنى:
قال علي: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
إلا على أزواجهم} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وصح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش , وللعاهر الحجر" وقد
ذكرناه بإسناده فيما تقدم . فصح أنه ليس الوطء إلا مباحا لا يلام فاعله
, أو عهرا في غير الفراش وهاهنا وطآن آخران : أحدهما - من وطئ فراشا
مباحا في حال محرمة , كواطئ الحائض , والمحرمة , والمحرم , والصائم
فرضا , والصائمة كذلك , والمعتكف , والمعتكفة , والمشركة - فهذا عاص
وليس زانيا بإجماع الأمة كلها , إلا أنه وطئ فراشا حرم بوجه ما , فإذا
ارتفع ذلك الوجه حل له وطؤها . والثاني - من جهل , فلا ذنب له , وليس
زانيا - فبعد هذين الوطأين فليس إلا من وطئ امرأته المباحة بعقد نكاح
صحيح , أو بملك يمين صحيح يحل فيه الوطء , أو عاهر - وهو من وطئ من لا
يحل النظر إلى مجردها , وهو عالم بالتحريم : فهذا هو العاهر الزاني -
وبالله تعالى التوفيق.
(11/229)
اختلاف العلماء في حد الزنا
...
2202 - مسألة :حد الزنى:
قال علي رحمه الله : قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية إلى قوله تعالى: {فأعرضوا عنهما}
؟
قال أبو محمد رحمه الله: فصح النص والإجماع على أن هذين الحكمين
منسوخان بلا شك , ثم اختلف الناس : فقالت طائفة : إن قوله تعالى:
{وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ناسخ لقوله:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله
تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} وحمل من قال هذا قوله
عز وجل: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} على أن المراد به
الزاني والزانية . وقال آخرون : ليس أحد الحكمين ناسخا للآخر , لكن
قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} هذا كان حكم الزواني من
النساء - ثيباتهن وأبكارهن - وقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} هذا حكم الزانين من الرجال خاصة الثيب منهم
والبكر ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ابن عباس وغيره : كما نا أبو سعيد
الجعفري نا محمد بن علي الإدفوي المقري نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن
إسماعيل النحوي نا بكر بن سهل نا عبد الله بن صالح نا معاوية بن صالح
عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
(11/229)
2203 -
مسألة : حد الحر والحرة غير المحصنين:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
قال أبو محمد رحمه الله: فجاء النص كما ترى , ولم يختلف أحد من أهل
القبلة في أن الجلد حكم الزاني الحر غير المحصن , والزانية الحرة غير
المحصنة , وإنما اختلف الناس في هل عليهما نفي كما ذكرنا أم لا ؟ وهذا
باب قد تقصيناه في أبواب مجموعة صدرنا بها قبل كلامنا في المرتدين
ذكرنا فيها كل حكم يختص به حدان من الحدود فصاعدا وتقصينا هنالك الآثار
بأسانيدها , ونذكر هاهنا إن شاء الله تعالى جملة مختصرة من ذلك .
وبالله تعالى التوفيق . فنقول : إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة
والرجم". وصح عنه - عليه السلام - من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد : أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "يأمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام". وعن الزهري
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى
فيمن زنى ولم يحصن بأن ينفى عاما مع إقامة الحد عليه". وصح أنه عليه
السلام قال للذي زنى ابنه بامرأة مستأجرة: "على ابنك جلد مائة وتغريب
عام , وعلى امرأة هذا الرجم". وصح أن عمر بن الخطاب جلد امرأة زنت مائة
جلدة وغربها عاما. وروي أيضا مثل ذلك عن علي بن أبي طالب وغيره من
الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يرو عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم
- خلاف ذلك إلا رواية عن علي : ليس على أم الولد نفي - وإنما قال في
البكرين يزنيان : حسبهما من الفتنة أن ينفيا . وعن ابن عباس : من زنى
جلد وأرسل ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فليس قول ابن عباس من زنى جلد وأرسل دليلا على
أنه لا يوجب النفي عنده , بل قد يكون قوله " وأرسل " يريد به أن يرسل
إلى بلد آخر . وكذلك قول علي "حسبهما من الفتنة أن ينفيا " يخرج على
إيجاب النفي , وأن ذلك حسبهما من البلاء . قال الله تعالى: {الم
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ} إلى قوله تعالى: {وليعلمن الكاذبين} والرواية عنه في أن
أم الولد لا تنفى إذا زنت لا تصح على ما ذكرنا قبل ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وكلا القولين دعوى بلا برهان . ومن عجائب
الدنيا أن يجعلوا الأربعين التي زادها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
في حد الخمر على سبيل التعزير حدا واجبا مفترضا , وهو رضي الله عنه
يجلد مرة أربعين , ومرة ستين , ومرة ثمانين . وكذلك عثمان بعده , وعلي
, وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم - ثم يأتون إلى حد افترضه الله
تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيجعلونه تعزيرا , كل
ذلك جرأة على الدعوى بلا برهان
(11/232)
وادعوا أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها"
ولم يقل " فلينفها " دليلا على نسخ التغريب ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا من الباطل المحض , لأن هذا خبر مجمل أحال
فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على غيره , فلم يذكر نفيا , ولا
عدد الجلد , فإن كان دليلا على إسقاط التغريب فهو أيضا دليل على إسقاط
عدد ما يجلد , وإن لم يكن دليلا على إسقاط عدد ما يجلد , لأنه لم يذكر
فيه , فليس أيضا دليلا على نسخ النفي وإن لم يذكر فيه , والأخبار يضم
بعضها إلى بعض , وأحكام الله تعالى وأحكام رسوله - عليه السلام - كلها
حق ولا يحل ترك بعضها لبعض , بل الواجب ضم بعضها إلى بعض واستعمال
جميعها ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وأما إسقاط مالك النفي عن العبيد , والإماء ,
والنساء , وإثباته إياه على الحر , فتفريق لا دليل على صحته , لأن قضاء
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره قد ورد عموما بالنفي على كل
من زنى ولم يحصن , ولم يخص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم امرأة من رجل , ولا عبدا من حر {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} .
وقد قال الله تعالى في الإماء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} . فصح أن عليهن من النفي نصف ما ينفي
المحصن , وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقام الحد
على المكاتب بنسبة ما أدى من حد الحر , وبنسبة ما لم يؤد من حد العبد .
فبطل كل ما خالف حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
وبالله تعالى التوفيق .
(11/233)
حد الحر والحرة المحصنين
...
2204 - مسألة:الحر والحرة إذا زنيا - وهما محصنان
قال أبو محمد رحمه الله: قالت طائفة : الحر والحرة إذا زنيا - وهما
محصنان - فإنهما يرجمان حتى يموتا . وقالت طائفة : يجلدان ثم يرجمان
حتى يموتا . فأما الأزارقة - فليس من فرق الإسلام , لأنهم الذين أخبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق
السهم من الرمية فإنهم قالوا : لا رجم أصلا وإنما هو الجلد فقط . فأما
من روي عنه الرجم فقط دون جلد : فكما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد
الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع ني
يحيى بن أبي كثير السقا عن الزهري أن أبا بكر رضي الله عنه وعمر : رجما
ولم يجلدا . وبه - إلى وكيع نا العمري - هو عبد الله بن عمر - عن نافع
عن ابن عمر قال : إن عمر رجم ولم يجلد . وبه - إلى وكيع نا الثوري عن
مغيرة عن إبراهيم النخعي قال : يرجم ولا يجلد . وعن عبد الرزاق عن معمر
عن الزهري أنه كان ينكر الجلد مع الرجم
(11/233)
وبه -
يقول الأوزاعي , وسفيان الثوري , وأبو حنيفة , ومالك , والشافعي , وأبو
ثور , وأحمد بن حنبل , وأصحابهم . وأما من روي عنه الرجم والجلد معا :
فكما نا أبو عمر أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم
بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر
غندر نا شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي : أن علي بن أبي طالب جلد
شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة , فقال : أجلدها بكتاب الله ,
وأرجمها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثنا حمام نا عباس بن
أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنا عبد
الواحد بن زياد أنا حفص بن غياث عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن
عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : رأيت علي بن أبي طالب دعا بشراحة
فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة , فقال : جلدتها بكتاب الله
ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثنا محمد بن سعيد بن
نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن
معاوية نا وكيع نا إسماعيل بن أبي خالد عن عمرو بن مرة عن علي بن أبي
طالب أنه قال : أجلدها بالكتاب , وأرجمها بالسنة . وعن الشعبي عن أبي
بن كعب أنه قال : في الثيب تزني أجلدها ثم أرجمها . وبه - يقول الحسن
البصري : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي أنا الدبري أنا عبد
الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن قال: "أوحي إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا , الثيب بالثيب جلد
مائة والرجم , والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة" , وكان الحسن يفتي به
. وبه يقول الحسن بن حي , وابن راهويه , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا .
هاهنا قول ثالث : أن الثيب إن كان شيخا جلد ورجم , فإن كان شابا رجم
ولم يجلد - كما روي عن أبي ذر قال : الشيخان يجلدان ويرجمان , والثيبان
يرجمان , والبكران يجلدان وينفيان . وعن أبي بن كعب قال : يجلدون ,
ويرجمون ولا يجلدون , ويجلدون ولا يرجمون - وفسره قتادة , قال : الشيخ
المحصن يجلد ويرجم إذا زنى , والشاب المحصن يرجم إذا زنى , والشاب إذا
لم يحصن جلد . وعن مسروق قال : البكران يجلدان وينفيان , والثيبان
يرجمان ولا يجلدان , والشيخان يجلدان ويرجمان ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذه أقوال كما ترى : فأما قول من لم ير الرجم
أصلا فقول مرغوب عنه , لأنه خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وقد كان نزل به قرآن ولكنه نسخ لفظه وبقي حكمه : حدثنا حمام
نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري
عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب : كم
تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت : إما ثلاثا وسبعين آية , أو أربعا وسبعين
(11/234)
آية , قال
: إن كانت لتقارن سورة البقرة , أو لهي أطول منها , وإن كان فيها لآية
الرجم ؟ قلت : أبا المنذر وما آية الرجم ؟ قال : إذا زنى الشيخ والشيخة
فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ؟
"قال علي : هذا إسناد صحيح كالشمس لا مغمز فيه . وحدثنا أيضا عبد الله
بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا معاوية بن صالح الأشعري
نا منصور - هو ابن أبي مزاحم - نا أبو حفص - هو عمر بن عبد الرحمن - عن
منصور - هو ابن المعتمر - عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال :
قال لي أبي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب ؟ قلت : ثلاثا وسبعين ,
فقال أبي : إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول , وفيها آية الرجم "
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم
" ؟ فهذا سفيان الثوري , ومنصور : شهدا على عاصم وما كذبا , فهما
الثقتان , الإمامان , البدران - وما كذب عاصم على زر , ولا كذب زر على
أبي ؟ قال أبو محمد رحمه الله: ولكنها نسخ لفظها وبقي حكمها , ولو لم
ينسخ لفظها لأقرأها أبي بن كعب زرا بلا شك , ولكنه أخبره بأنها كانت
تعدل سورة البقرة , ولم يقل له : إنها تعدل الآن - فصح نسخ لفظها . قال
علي : وقد روي هذا من طرق , منها : ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن
معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر غندر نا
شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت , قال : قال لي زيد بن
ثابت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنى الشيخ
والشيخة فارجموهما ألبتة قال عمر : لما نزلت أتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقلت : أكتبنيها ؟" قال شعبة : كأنه كره ذلك ؟ فقال عمر :
ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد , وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم ؟
. قال علي رحمه الله : وهذا إسناد جيد . قال علي : وقد توهم قوم أن
سقوط آية الرجم إنما كان لغير هذا , ظنوا أنها تلفت بغير نسخ - واحتجوا
بما - : ناه أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن
أيوب الصموت نا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار نا يحيى بن خلف نا
عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم , وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر
الصديق , قال عبد الله عن عمرة بنت عبد الرحمن , وقال عبد الرحمن عن
أبيه , ثم اتفق القاسم بن محمد , وعمرة , كلاهما عن عائشة أم المؤمنين
قالت : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة
(11/235)
فكانتا في
صحيفة تحت سريري , فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تشاغلنا
بموته فدخل داجن فأكلها ؟
قال أبو محمد: وهذا حديث صحيح وليس هو على ما ظنوا , لأن آية الرجم إذ
نزلت حفظت , وعرفت , وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم
يكتبها نساخ القرآن في المصحف , ولا أثبتوا لفظها في القرآن , وقد سأل
عمر بن الخطاب ذلك - كما أوردنا - فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى ذلك . فصح نسخ لفظها وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها - كما قالت
عائشة رضي الله عنها - فأكلها الداجن , ولا حاجة بأحد إليها . وهكذا
القول في آية الرضاعة ولا فرق . وبرهان هذا : أنهم قد حفظوها كما
أوردنا , فلو كانت مثبتة في القرآن لما منع أكل الداجن للصحيفة من
إثباتها في القرآن من حفظهم - وبالله تعالى التوفيق . فبيقين ندري أنه
لا يختلف مسلمان في أن الله تعالى افترض التبليغ على رسوله صلى الله
عليه وسلم وأنه - عليه الصلاة والسلام - قد بلغ كما أمر , قال الله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . وقال
تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} . وقال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} وقال
تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فصح أن الآيات التي ذهبت لو أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بتبليغها لبلغها , ولو بلغها لحفظت , ولو حفظت ما ضرها
موته , كما لم يضر موته - عليه السلام - كل ما بلغ فقط من القرآن , وإن
كان عليه السلام لم يبلغ , أو بلغه فأنسيه هو والناس , أو لم ينسوه ,
لكن لم يأمر - عليه السلام - أن يكتب في القرآن فهو منسوخ بيقين من عند
الله تعالى , لا يحل أن يضاف إلى القرآن . قال أبو محمد رحمه الله: وقد
روى الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة : كما حدثنا عبد الله بن
ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن يحيى بن عبد الله
النيسابوري نا بشر بن عمر الزهراني ني مالك عن الزهري عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال : إن الله بعث
محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل آية الرجم , فقرأناها ووعيناها
, ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده , وأخشى إن طال
بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى فيترك
فريضة أنزلها الله , وأن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من
الرجال والنساء , إذا قامت البينة , أو كان الحبل , أو الاعتراف. وبه -
إلى أحمد بن شعيب أنا محمد بن منصور المكي نا سفيان بن عيينة عن الزهري
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول :
قد خشيت
(11/236)
أن يطول
بالناس زمان حتى يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ؟ فيضل بترك
فريضة أنزلها الله , ألا وإن الرجم حق على من زنى إذا أحصن , وكانت
البينة , أو كان الحبل , أو الاعتراف , وقد قرأناها الشيخ والشيخة
فارجموهما ألبتة وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا سليمان
بن الأشعث نا مسدد نا يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلا , الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة , والبكر بالبكر جلد مائة
ونفي سنة". روينا من طريق مسلم نا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد
نا أبي عن جدي نا عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ,
وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه: "أتى رجل من المسلمين إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو بالمسجد فناداه: يا رسول الله , إني زنيت -
فذكر الحديث , وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له فهل
أحصنت ؟ قال : نعم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهبوا به
فارجموه".
(11/237)
مسألة :
حد الأمة المحصنة:
قال أبو محمد: قال الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} فبيقين ندري أن الله تعالى أراد فإذا تزوجن ووطئن فعليهن
نصف ما على الحرائر المحصنات من العذاب , والحرة المحصنة فإن عليها جلد
مائة والرجم , وبالضرورة ندري أن الرجم لا نصف له , فبقي عليهن نصف
المائة , فوجب على الأمة المحصنة جلد خمسين فقط . فإن قيل : فمن أين
أوجبتم عليها نفي ستة أشهر , أمن هذه الآية أم من غيره ؟ فجوابنا -
وبالله تعالى التوفيق - : أن القائلين إن على الأمة نفي ستة أشهر قالوا
: إن ذلك واجب عليهن من هذه الآية . وقالوا : إن " الإحصان " اسم يقع
على الحرة المطلقة فقط , فإن كان هذا كما قالوا فالنفي واجب على الإماء
المحصنات من هذه الآية , لأن معنى الآية : فعليهن نصف ما على الحرائر
من العذاب , وعلى الحرائر هنا من العذاب جلد مائة , ومعه نفي سنة , أو
رجم , والرجم ينتصف أصلا , لأنه موت , والموت لا نصف له أصلا وكذلك
الرجم , لأنه قد يموت المرجوم من رمية واحدة , وقد لا يموت من ألف رمية
, وما كان هكذا فلا يمكن ضبط نصفه أبدا , وإذ لا يمكن هذا فقد أمنا أن
يكلفنا الله تعالى ما لا نطيق لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا
أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" أو كما قال عليه السلام , فسقط
الرجم وبقي
(11/237)
الجلد
والنفي سنة - وكلاهما له نصف , فعلى الأمة نصف ما على الحرة منها ؟ قال
أبو محمد رحمه الله: وإن كان " الإحصان " لا يقع في اللغة إلا على
الحرة فقط , فالنفي لا يجب على الإماء من هذه الآية ؟ وما نعلم "
الإحصان " في اللغة العربية والشريعة يقع إلا على معنيين : على الزواج
الذي يكون فيه الوطء - فهذا إجماع لا خلاف فيه - وعلى العقد فقط , ولا
نعلمه يقع على الحرة المطلقة فقط , فلا يجوز أن يقطع في الدين إلا
بيقين ; لأنه إخبار عن الله تعالى , ولا يحل لمن له تقوى أو عقل : أن
يخبر عن الله تعالى إلا بيقين , ولسنا والله نحن كمن يقول: إن الدين
مأخوذ بالظنون فقط , ولكن " النفي " واجب على الإماء إذا زنين من موضع
آخر , وهو الخبر الذي : ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا
أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية نا يزيد بن
هارون نا حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث
بحساب ما عتق منه وأقيم عليه الحد بحساب ما عتق منه". وبه - إلى أحمد
بن شعيب أنا محمد بن عيسى الدمشقي نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن
أيوب السختياني , وقتادة , قال قتادة : عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي
طالب , وقال أيوب : عن عكرمة عن ابن عباس , ثم اتفقا : علي , وابن عباس
, كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب يعتق منه بقدر ما
أدى , ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه , ويرث بقدر ما عتق منه" وهذا
إسناد في غاية الصحة , فوجب ضرورة أن يكون حد الأمة بنسبته من حد الحرة
عموما في جميع ما له نصف من حد الحرة , فوجب ضرورة أن حد الأمة
المتزوجة نصف حد الحرة , من - النفي والجلد - وأن لا يخص من ذلك شيء ,
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص من ذلك , ولا أحد من الأمة
أجمع على تخصيصه , ولا جاء القرآن بتخصيصه , فوجب نفيها ستة أشهر ,
وجلدها خمسون جلدة - وبالله تعالى التوفيق .
(11/238)
2205 ـ
مسألة : حد المملوك إذا زنى , وهل
عليه وعلى الأمة المحصنة رجم أم لا:
قال أبو محمد:اختلف الناس في المملوك الذكر إذا زنى : فقالت طائفة : إن
حده حد الحر من الجلد والنفي والرجم : كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا
أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا
محمد بن المثنى نا عبد الله بن إدريس الأودي نا ليث بن أبي سليم عن
مجاهد قال : قدمت المدينة وقد أجمعوا على عبد زنى - وقد أحصن بحرة -
أنه يرجم , إلا عكرمة فإنه قال : عليه نصف الحد . قال مجاهد:
(11/238)
وإحصان
العبد أن يتزوج الحرة , وإحصان الأمة أن يتزوجها الحر - وبهذا يأخذ
أصحابنا كلهم . وقال أبو ثور : الأمة المحصنة والعبد المحصن عليهما
الرجم , إلا أن يمنع من ذلك إجماع . وقال الأوزاعي : إذا أحصن العبد
بزوجة حرة فعليه الرجم , وإن لم يعتق , فإن كان تحته أمة لم يجب عليه
الرجم إن زنى وإن عتق - وكذلك قال أيضا : إذا أحصنت الأمة بزوج حر
فعليها الرجم , وإن لم تعتق , ولا تكون محصنة بزوج عبد . وقال أبو
حنيفة , ومالك , والشافعي , وأحمد : حد العبد المحصن , وغير المحصن ,
والأمة : لا رجم في شيء من ذلك ؟ قال أبو محمد:فلما اختلفوا كما ذكرنا
وجب أن ننظر في ذلك فيما احتج به أصحابنا لقولهم , فوجدناهم يقولون:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الآية . وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام , والثيب بالثيب جلد مائة
والرجم". قالوا : فجاء القرآن والسنة بعموم لا يحل أن يخص منه إلا ما
خصه الله تعالى ورسوله عليه السلام , فوجدنا النص من القرآن والسنة قد
صح بتخصيص الإماء من جملة هذا الحكم بأن على المحصنات منهن نصف ما على
المحصنات الحرائر , وكذلك النص الوارد في الأمة التي لم تحصن , فخصصنا
الإماء بالقرآن والسنة , وبقي العبد {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} .
وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد أن يخص العبيد لذكرهم كما ذكر
الإماء , ولما أغفل ذلك , ولا أهمله - والقياس كله باطل , ودعوى بلا
برهان . وكل ما يشغبون به في إثبات القرآن فحتى لو صح لهم - وهو لا يصح
لهم منه شيء أصلا - لما كان في شيء منه إيجاب تخصيص القرآن به , ولا
إباحة الإخبار عن مراد الله تعالى , إذ لا يجوز أن يعرف مغيب أحد بقياس
. قالوا : فوجب أن يكون حكم العبد كحكم الحر في حد الزنى . ثم نقول
لأصحاب القياس : قد أجمعتم على أن حد العبد كحد الحر في الردة , وفي
المحاربة , وفي قطع السرقة , فيلزمكم - على أصولكم في القياس - أن
تردوا ما اختلف فيه من حكمه في الزنى إلى ما اتفقتم فيه من حكمه في
الردة , والمحاربة , والسرقة : بالقتل رجما , والقتل صلبا أو بالسيف :
أشبه بالقتل رجما بالجلد , قالوا : لا , ولا سيما المالكيون المشغبون
بإجماع أهل المدينة , وهذا إجماع - إلا عكرمة - قد خالفوه . فإن قالوا
: إن راوي هذا الخبر ليث بن أبي سليم وليس بالقوي ؟ قلنا لهم : رب خبر
احتججتم فيه لأنفسكم بليث ومن هو دون ليث , كجابر الجعفي عن الشعبي لا
يؤمن أحد بعدي جالسا وليث أقوى من جابر بلا شك . ثم نظرنا فيما احتج به
أبو ثور فوجدنا من حجته أن قال :
(11/239)
قال الله
تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} ؟ قلنا : أمر الله
تعالى بالمخالفة بين حد الأمة وحد الحرة فيما له نصف , وليس ذلك إلا
الجلد والتغريب فقط , وأما الرجم فلا نصف له أصلا , فلم يكن للرجم في
هذه الآية دخول أصلا ولا ذكر . وكذلك لم يكن له ذكر في قوله تعالى:
{والزانية والزاني} الآية . ووجدنا الرجم قد جاءت به سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم على من أحصن . وكذلك جاء - عن عمر رضي الله عنه وغيره ,
من الصحابة : الرجم على من أحصن جملة , ولم يخص حرا من عبد , ولا حرة
من أمة . فوجب أن يكون الرجم واجبا على كل من أحصن من حر أو عبد , أو
حرة أو أمة , بالعموم الوارد في ذلك , إلا أن جلد الأمة نصف جلد الحرة
, ونفيها نصف أمد الحرة .
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في هذين الاحتجاجين فوجدناهما صحيحين ,
إذ لم يرد نص صحيح يعارضهما - فنظرنا في ذلك , فوجدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قال: "إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما
عتق منه , وأقيم عليه الحد بحساب ما عتق منه" وقد ذكرناه بإسناده في
الباب الذي قبل هذا متصلا به فأغنى عن إعادته . فاقتضى لفظ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحكمه في هذا الخبر حكم المماليك في الحد بخلاف حكم
الأحرار جملة إذ لو كان ذلك سواء لما كان لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أن يقام عليه الحد بحساب ما عتق منه" معنى أصلا , ولكان المكاتب
الذي عتق بعضه كأنه حر كله , هذا خلاف حكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد صح أن حكم أهل الردة في الحدود خلاف
حكم الحر , فليس إلا أحد وجهين لا ثالث لهما , ولا بد من أحدهما : إما
أن لا يكون على المماليك حد أصلا , وهذا باطل بما أوردناه أيضا بإسناده
في الباب المتصل بهذا الباب وإسناده : نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن
معاوية نا أحمد بن شعيب نا عبد الرحمن بن محمد بن سلام نا إسحاق بن
يوسف الأزرق عن سفيان الثوري عن عبد الأعلى - هو ابن عبد الأعلى
التغلبي - عن ميسرة - هو ابن جميلة - عن علي بن أبي طالب أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" فكان هذا
عموما موجبا لوقوع الحدود على العبيد والإماء . وإما أن يكون للمماليك
حد مخالف لحكم حدود الأحرار , وهذا هو الحق , إذ قد بطل الوجه الآخر
ولم يبق إلا هذا , والحق في أحدهما ولا بد - مع ورود هذين النصين
اللذين ذكرنا - من وجوب إقامة الحدود على ما ملكت أيماننا , وأنهم في
ذلك بخلاف حدود الأحرار , فإذ قد وجب هذا - بلا شك - فلم يكن بد من
تحديد حد المماليك بخلاف حكم الأحرار في الحدود , فقد صح إجماع
القائلين بهذا القول - وهم أهل الحق - : على أن
(11/240)
حكم
المماليك في الحد نصف حد الحر , فكان هذا حجة صحيحة مع صحة الإجماع
المتيقن على إطباق جميع أهل الإسلام : على أن حد العبد والأمة ليس يكون
أقل من نصف حد الحر , ولا أكثر من نصف حد الحر , ولم يأت بهذا نص قط -
فهذا إجماع صحيح متيقن على إبطال القول بأن يكون حد المملوك أو
المملوكة أقل من نصف حد الحر , أو أكثر من نصف حد الحر - فبطل بالنصوص
المذكورة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلولا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على
إقامة الحدود على ما ملكت أيماننا لكانت الحدود عنهم ساقطة جملة , فإذ
قد صحت الحدود عليهم فلا يجوز أن يقام عليهم منها إلا ما أوجبه عليهم
نص أو إجماع , ولا نص ولا إجماع بوجوب الرجم عليهم , ولا بإيجاب أزيد
من خمسين جلدة ونفي نصف سنة , فوجب الأخذ بما أوجبه النص والإجماع
وإسقاط ما لا نص فيه ولا إجماع - وبالله تعالى التوفيق ؟ قال أبو محمد
رحمه الله: فصح بما ذكرنا أن قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآية إنما عنى بلا شك الأحرار والحرائر ,
وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مائة ونفي
سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" إنما عنى به - عليه السلام -
الأحرار والحرائر لا العبيد ولا الإماء . وأما من لم يصحح الحديث الذي
أوردنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في: "أن يقام الحد على المكاتب
بقدر ما عتق" ولم يصحح الحكم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" ولم
يعتمد في الرجم إلا على الأحاديث الواردة في رجم ماعز , والغامدية ,
والجهينية - رضي الله عنهم - فإنه لا مخلص لهم من دليل أبي ثور
وأصحابنا , ولا نجد ألبتة دليلا على إسقاط الرجم عن الأمة المحصنة
والعبد المحصن ؟ فإن رجع إلى القياس فقال : أقيس العبد على الأمة ؟ قيل
له : القياس كله باطل , ولو كان حقا لما كان لكم هاهنا وجه من القياس
تتعلقون به في إسقاط الرجم أصلا , لأن قول الله تعالى: {فَإِذَا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ليس فيه نص ولا دليل على إسقاط الرجم
عنها , ولا نجد دليلا على إسقاطه أصلا , ولا سيما من قال : إحصانها هو
إسلامها , وأنه أيضا يلزمه أن تكون كل حرة مسلمة محصنة ولا بد , وإن لم
تتزوج قط , لأن إحصانها أيضا إسلامها . ومن الباطل المحال أن يكون
إسلام الأمة إحصانا لها , ولا يكون إسلام الحرة إحصانا لها , فإذا وجب
هذا ولا بد , فواجب أن تكون الآية المذكورة , يعني قوله تعالى:
{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} اللواتي لم يتزوجن من
الإماء والحرائر ; لأن أهل هذه المقالة لا يرون
(11/241)
المحصنات
هاهنا إلا الحرائر اللواتي لم يتزوجن فهن عندهم اللواتي لعذابهن نصف .
وأما الرجم الذي هو عندهم عذاب المتزوجات فقط عذاب عليهن عندهم غيره ,
فلا نصف له , فإذا لزمهم هذا واقتضاه قولهم , فواجب أن تبقى الأمة
المحصنة بالزواج والحرة المحصنة بالزواج : على وجوب الرجم الذي إنما
وجب عندهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم من أحصن فقط - وبالله
تعالى التوفيق.
(11/242)
وجدت امرأة ورجل يطؤها فقالت هو زوجي
...
المحصنات هاهنا إلا الحرائر اللواتي لم يتزوجن فهن عندهم اللواتي
لعذابهن نصف . وأما الرجم الذي هو عندهم عذاب المتزوجات فقط عذاب عليهن
عندهم غيره , فلا نصف له , فإذا لزمهم هذا واقتضاه قولهم , فواجب أن
تبقى الأمة المحصنة بالزواج والحرة المحصنة بالزواج : على وجوب الرجم
الذي إنما وجب عندهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم من أحصن
فقط - وبالله تعالى التوفيق.
(11/242)
من قال :
لا حد عليهما يحتج بأن قال : هو قول روي عن علي بن أبي طالب بحضرة
الصحابة ولا مخالف له منهم , فلا يجوز تعديه . وقالوا : ادرءوا الحدود
بالشبهات وأوجب هذه شبهة قوية . وقالوا : لا خلاف بين أحد من الأمة في
أن رجلا لو وجد يطأ أمة معروفة لغيره فقال الذي عرف ملكها له : قد كان
اشتراها مني , وقال هو كذلك , وأقرت هي بذلك : أنه لا حد عليهما - فهذا
مثله ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا , وكل هذا لا
حجة لهم فيه : أما قولهم : إنه قول روي عن علي , فهذا لا حجة لهم فيه ,
لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يلزمنا .
وأما قولهم : "ادرءوا الحدود ما أمكنكم" فقد ثبت بطلان هذا القول ,
وأنه لا يحل درء حد بشبهة ولا إقامته بشبهة في دين الله تعالى , وإنما
هو الحق واليقين فقط , ويكفي من بطلان قول من قال "ادرءوا الحدود
بالشبهات" أنه قول لم يأت به قرآن ولا سنة - وإنما جاء القرآن والسنة
بتحريم دم المسلم وبشرته حتى يثبت عليه حد من حدود الله تعالى , فإذا
ثبت لم يحل درؤه أصلا , فيكون عاصيا لله تعالى . وأما قوله في تنظيرهم
ذلك بالأمة المعروفة لإنسان فيوجد معها رجل فيقول : قد صارت إلي
وملكتها , ويقول سيدها بذلك , ودعواهم الإجماع في ذلك : قول بالظن لا
يصح , وما عهدنا قول مالك المشهور فيمن قامت عليه بينة بأنه أخرج من
حرزه مالا مستترا بذلك , فادعى أن صاحب ذلك الشيء أمره بذلك , أو أنه
وهبه , وأقر صاحب المال بذلك : بأنه لا يلتفت إلى ذلك : بل تقطع يده
ولا بد ؟
قال أبو محمد رحمه الله: والذي نقول به : أن من وجد مع امرأة يطؤها
وقامت البينة بالوطء , فقال هو : إنها امرأتي , أو قال : أمتي , فصدقته
في ذلك , فإن كانا غريبين , أو يعرفان , فلا شيء عليهما , ولا يعرض
لهما ولا يكشفان عن شيء , لأن الإجماع قد صح بنقل الكواف : أن الناس
كانوا يهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أفذاذا ومجتمعين , من
أقاصي اليمن , ومن جميع بلاد العرب - بأهليهم ونسائهم وإمائهم وعبيدهم
- فما حيل بين أحد وبين من زعم أنها امرأته أو أمته , ولا كلف أحد على
ذلك بينة . ثم على هذا إجماع جميع أهل الإسلام , وجميع أهل الأرض من
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا لا يزال الناس يرحلون
بأهليهم وإمائهم ورقيقهم , ولا يكلف أحد منهم بينة على ذلك , بل تصدق
أقوالهم في ذلك - مسلمين كانوا أو كفارا - فإذ قد صح النص بهذا
والإجماع فلا يجوز مخالفة ذلك , فإن كانت معروفة في البلد , ومعروف أنه
لا زوج لها , فإن أمكن ما يقول , فلا شيء عليهما , لأن أصل دمائهما
وأبشارهما على التحريم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
(11/243)
دماءكم
وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" فلا يجوز إباحة ما حرم الله
تعالى إلا بيقين لا شك فيه - وإن كان كذبهما في ذلك متيقنا فالحد واجب
عليهما - وإن قال : هي أمتي , وصدقه صاحبها الذي عرف ملكها له , وأقر
أنه قد كان وهبها له , أو كان باعها منه : صدق ولا شيء عليهما في ذلك ,
فإن كذبه حد , إلا أن يأتي ببينة على صحة دعواه , فلو قال : هي أمتي ,
وقالت هي : بل أنا زوجته , أو قال : هي زوجتي , وقالت هي : بل أنا أمته
, أو قالت : بل أم ولده - فقد اتفقا على صحة الفراش فلا حد في ذلك ,
وهي على الحرية حتى يقيم هو بينة بملكه لها , فإن لم يفعل حلف لها فيما
يدعيه من الزوجية , وفرق بينهما , لأن الملك قد بطل إذا لم تقم بينة ,
والناس على الحرية حتى يصح الرق , والزوجية لم تثبت - لا بإقرارهما ولا
ببينة - وإنما يحكم عليهما من الآن , وأما إذا كانت أمة معروفة لإنسان
, فأنكر سيدها خروجها عن ملكه إلى الذي وجد معها , فالحد عليها وعلى
الذي وجد معها , إلا أن يأتي ببينة على ذلك , وله على سيدها اليمين ولا
بد .
(11/244)
حكم من وجد مع امرأة فشهد له أبوها أو أخوها بالزوجية
...
2207 - مسألة : فيمن وجد مع امرأة فشهد له أبوها أو أخوها بالزوجية:
قال أبو محمد رحمه الله : فلو وجد يطأ امرأة معروفة - وهو مجهول أو
معروف - فادعى هو وهي الزوجية , وشهد لهما بذلك أبوها أو أخوها فإن
مالكا قال: عليهما الحد , وقال أصحابنا : إن كان اللذان شهدا لهما
عدلين صح العقد , وبطل الحد - وبهذا نأخذ , فإن لم يكونا عدلين , فالحد
عليهما ما لم يكن على صحة النكاح بينة , أو استفاضة , لأن اليقين صح
أنهما غير زوجين , وأنها حرام عليه , فلا ينتقل التحريم إلى التحليل ,
ولا ينتقلان إلى حكم الزوجية إلا بيقين من بينة أو استفاضة .
(11/244)
2208-
مسألة : هل يصلي الإمام وغيره على المرجوم
أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد
الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا
محمد بن المثنى نا عبد الأعلى نا داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري:
"أن رجلاً من أسلم يال له ماعز ابن مالك رجمه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فذكر الحديث ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً من العشى
فقال: أو كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا له نبيب
كنبيب التيس على أن لا أوتي برجل فعل ذلك الا نكلت به قال فما استغفر
له ولا سبه" حدثنا حمام ناابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد
الرزاق نا ابن جريج أخبرني عبدالله بن أبي بكر أخبرني أيوب عن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلى
الظهر يوم أمر بماعز يرجم فطول الأوليين من الظهر حتى
(11/244)
في امرأة أحلت نفسها أو تزوج رجل خامسة أو دلست بنفسها لأجنبي
...
2209 - مسألة : في امرأة أحلت نفسها , أو تزوج رجل خامسة , أو دلست ,
أو دلست بنفسها لأجنبي:
قال أبو محمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم
بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب
أنه قال في المرأة تقول للرجل : إني حل لك , فيمسها على ذلك فتلد منه :
أنه يرجم ولا يرثه ذلك الولد.
قال أبو محمد: ليس لأحد أن يحل ما حرم الله تعالى , فإحلالها نفسها
باطل وهو زنى محض وعليه الرجم والجلد إن كانا محصنين ولا يلحق في هذا
ولد أصلا إذا لم يكن عقد , فإن كانا جاهلين فلا شيء عليهما , وإن كان
أحدهما جاهلا والآخر عالما , فالحد على العالم دون الجاهل . وعن بكير
بن الأشج أنه قال في امرأة انطلقت إلى جاريتها فهيأتها بهيئتها وجعلتها
في حجلتها وجاء زوجها فوطئها , قال : تنكل المرأة ولا جلد على الرجل
وعلى الجارية حد الزنى إن كانت تدري أن ذلك لا يحل . ولو أن امرأة دلست
نفسها لأجنبي فوطئها يظن أنها امرأته : فهي زانية ترجم وتجلد إن كانت
محصنة أو تجلد وتنفى , إن كانت غير محصنة ولا يلحق الولد في ذلك.
قال أبو محمد: في امرأة وجدت مع رجل ولها زوج فقالت : تزوجني : نا حمام
نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال
: أخبرني بعض أهل الكوفة أن علي بن أبي طالب رجم امرأة كانت ذات زوج
فجاءت أرضا فتزوجت ولم تشك أن ما جاءها موت زوجها ولا طلاقه . وعن ابن
شهاب أنه قال: نرى في امرأة حرة كانت تحت عبد فتحولت أرضا أخرى فتزوجت
رجلا , قال: نرى عليها الحد ولا نرى على الذي تزوجها شيئا , ولا على
الذي أنكحها إن كان لا يعلم أنها كان لها زوج.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما من تزوج خامسة , فإن حماما قال : حدثنا
ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري
في الرجل يتزوج
(11/246)
الخامسة ؟
قال : يجلد , فإن طلق رابعة من نسائه طلقة أو طلقتين ثم تزوج الخامسة
قبل انقضاء عدة التي طلق : جلد مائة وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن جريج
قال : قال ابن شهاب : في رجل نكح الخامسة فدخل بها , قال : إن كان قد
علم ذلك أن الخامسة لا تحل : رجم , وإن كان جاهلا جلد أدنى الحدين ,
ولها مهرها بما استحل منها , ثم يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا , فإن
ولدت لم يرثه ولدها . وعن إبراهيم النخعي في الذي ينكح الخامسة متعمدا
قبل أن تنقضي عدة الرابعة من نسائه : أنه يجلد مائة ولا ينفى . وقال
آخرون غير هذا : كما روي عن الأوزاعي قال : سألت ابن شهاب عن الرجل
يتزوج الأخت على الأخت , والخامسة - وهو يعلم أنه حرام - قال : يرجم إن
كان محصنا . قال ابن وهب : وسمعت الليث يقول ذلك . وقال مالك ,
والشافعي وأصحابنا : يرجم إلا أن يعذر بجهل ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في
ذلك , فوجدنا من قال : لا حد على من تزوج خامسة يحتج بما ذكرنا في أول
الباب الذي قبل هذا متصلا به في الكلام في المرأة تتزوج ولها زوج والرد
عليه قد ذكرناه هنالك أيضا بما جملته أنه ليس زواجا , لأن الله تعالى
حرمه , وإذ ليس زواجا فهو عهر , فإذا هو عهر فعليه حد الزنى وعليها
كذلك إن كانا عالمين بأن ذلك لا يحل ولا يلحق فيه الولد أصلا , فإن
كانا جاهلين فلا حد في ذلك لما ذكرنا ويلحق الولد , وإن كان أحدهما
جاهلا والآخر عالما فالحد على العالم ولا شيء على الجاهل , وأما من قال
: إنه يجلد أدنى الحدين فليس بشيء لما ذكرنا هنالك من أنه زان أو غير
زان , فإن كان زانيا فعليه حد الزنى كاملا , وإن كان غير زان فلا شيء
عليه , لأن بشرته حرام إلا بقرآن أو بسنة - وبالله تعالى التوفيق .
(11/247)
2210 -
مسألة : امرأة تزوجت في عدتها ؟ ومن
طلق ثلاثا قبل الدخول أو بعده ثم وطئ:
قال أبو محمد رحمه الله: روي عن سعيد بن المسيب : أن امرأة تزوجت في
عدتها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فضربها دون الحد , وفرق بينهما . وعن
الشعبي أنه قال : في امرأة نكحت في عدتها عمدا , قال : ليس عليها حد -
وعن إبراهيم النخعي بمثله ؟
قال أبو محمد رحمه الله: والإسناد إلى عمر منقطع , لأن سعيدا لم يلحق
عمر - رضي الله عنه - سماعا إلا نعيه النعمان بن مقرن على المنبر . ولا
تخلو الناكحة في عدتها بأن تكون عالمة بأن ذلك لا يحل , أو تكون جاهلة
بأن ذلك محرم , أو غلطت في العدة : فإن كانت جاهلة
(11/247)
أو غلطت
في العدة : فلا شيء عليها , لأنها لم تعمد الحرام , والقول قولها في
الغلط على كل حال - فإن كانت عالمة بأن ذلك لم يحل , ولم تغلط في العدة
: فهي زانية وعليها الرجم - وقد يمكن أن يضربها عمر - رضي الله عنه -
تعزيرا لتركها التعلم من دينها ما يلزمها ; فهو مكان التعزير . وأما من
أسقط الحد في العمد في ذلك , فإنه إن طرد قوله لزمه المصير إلى قول أبي
حنيفة في سقوط الحد عمن تزوج أمه - وهو يدري أنها أمه وأنها حرام -
وعمن تزوج ابنته كذلك , أو أخته كذلك , وتزوج نساء الناس - وهن تحت
أزواجهن عمدا دون طلاق , ولا فسخ - وهذا هو الإطلاق على الزنى , بل هو
الاستخفاف بكتاب الله تعالى , وأما من أسقط الحد في بعض ذلك وأوجبه في
بعض , فتناقض . فإن تعلقوا بعمر فقد قلنا : إنه ليس في الأثر عن عمر
أنها كانت عالمة بانقضاء العدة ولا بالتحريم - فلا متعلق لهم بذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: والقول في ذلك كله واحد , وهو أن كل عقد فاسد
لا يحل , فالفرج به لا يحل , ولا يصح به زواج , فهما أجنبيان كما كانا
, والوطء فيه من العالم بالتحريم زنى مجرد محض , وفيه الحد كاملا من :
الرجم أو الجلد , أو التعزير - ولا يلحق فيه ولد أصلا ولا مهر فيه ,
ولا شيء من أحكام الزوجية - وإن كان جاهلا فلا حد , ولا يقع في ذلك شيء
من أحكام الزوجية إلا لحاق الولد فقط , للإجماع - وبالله تعالى التوفيق
. وأما من طلق ثلاثا ثم وطئ فإن كان عالما أن ذلك لا يحل , فعليه حد
الزنى كاملا وعليها كذلك , لأنها أجنبية , فإن كان جاهلا , فلا شيء
عليه , ولا يلحق الولد هاهنا , لأنه وطئ فيما لا عقد له معها - لا
صحيحا ولا فاسدا - وبالله تعالى التوفيق
(11/248)
2211 -
مسألة : من تزوجت عبدها:
قال أبو محمد رحمه الله: حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن
نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع عن سفيان
الثوري عن جابر الجعفي عن الحكم بن عتيبة أن عمر بن الخطاب كتب في
امرأة تزوجت عبدها فعزرها وحرمها على الرجال - وبه إلى وكيع نا الأسود
بن شيبان عن أبي نوفل عن أبي عقرب قال : جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب
فقالت : يا أمير المؤمنين إني امرأة كما ترى , غيري من النساء أجمل مني
, ولي عبد قد رضيت أمانته , فأردت أن أتزوجه ؟ فبعث عمر إلى العبد
فضربه ضربا , وأمر بالعبد فبيع في أرض غربة . وعن ابن شهاب عن ابن
سمعان قال : كان أبو الزبير يحدث عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال
: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب - ونحن بالجابية نكحت عبدها , فتلهف
عليها وهم برجمها , ثم فرق بينهما , وقال للمرأة : لا يحل لك ملك
يمينك.
قال أبو محمد رحمه الله: القول في هذا كله واحد , كل نكاح لم يبحه الله
تعالى فلا
(11/248)
يجوز عقده
, فإن وقع , فسخ أبدا , لأنه ليس نكاحا صحيحا جائزا , فإن وقع فيه
الوطء , فالعالم بتحريمه زان عليه الحد حد الزنى كاملا - فهو أو هي أو
كلاهما - ومن كان جاهلا , فلا شيء عليه , والولد فيه لاحق للإجماع ومن
قذف الجاهل حد لأنه ليس زانيا , ولو كان زانيا لحد حد الزنى ولا يحل
للمرأة عبدها , فإن وطئها فكما قلنا : إن كانت عالمة أن هذا لا يحل فهي
زانية وترجم , ويجلدها - إن كانت محصنة - أو تجلد وتنفى - إن كانت غير
محصنة - والعبد كذلك , ولا يلحق الولد , فإن كانت جاهلة فلا شيء عليها
, ويلحق الولد بها - أما التفريق فلا بد منه , وأما التحريم على الرجال
فلا يحرم بذلك , لأن الله تعالى لم يوجب ذلك , ولا رسوله صلى الله عليه
وسلم . فإن أعتقته بشرط أن يتزوجها فالعتق باطل مردود , لأنه علق بشرط
ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل , وإذا بطل الشرط بطل كل عقد لم يعقد
إلا بذلك الشرط , ولا يجوز إنفاذ العقد , لأن العاقد له لم يعقده قط
منفردا من الشرط , فلا يحل أن يمضي عليه عقد لم يعقده على نفسه قط ,
لأنه لم يوجب عليه ذلك قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا إجماع . فإن أعتقته
بغير شرط ثم تزوجها زواجا صحيحا فهو جائز ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قالوا : من أين أوجبتم الحد - وعمر بن
الخطاب لم يحد في ذلك - ولا يعرف له من الصحابة - رضي الله عنهم -
مخالف ؟ قلنا : إن عمر رضي الله عنه قد هم برجمها فلولا أن الرجم عليها
كان واجبا ما هم , وإنما ترك رجمها إذ عرف جهلها بلا شك . ونحن أيضا لا
نرى حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذ تحتجون
بقول عمر - رضي الله عنه - فيلزمكم أن تحرموها على الرجال في الأبد ,
كما جاء عن عمر - وبالله تعالى التوفيق.
(11/249)
حكم المحلل والمحلل له
...
2212 - مسألة : المحلل والمحلل له:
قال أبو محمد رحمه الله: حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون
الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا
يحيى بن سعيد القطان نا شعبة عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن
جابر الأسدي قال : قال عمر بن الخطاب : لا أوتى بمحلل أو محلل له إلا
رجمته ؟ قال أبو محمد:عهدنا بالحنفيين , والمالكيين , والشافعيين ,
يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم , وكلهم قد خالفوا عمر بن الخطاب
وهم يقلدونه فيما هو عنه من طريق لا تصح ؟ والذي نقول به - وبالله
تعالى التوفيق - : أن كل نكاح انعقد سالما مما يفسده , ولم يشترط فيه
التحليل والطلاق فهو نكاح صحيح تام لا يفسخ - وسواء اشترط ذلك عليه قبل
العقد أو لم يشترط - لأن كل ناكح لمطلقة ثلاثا فهو محلل ولا بد ,
فالتحليل المحرم هنا : هو ما انعقد عقدا غير صحيح . وأما إذا عقد
النكاح على شرط التحليل ثم
(11/249)
الطلاق
فهو عقد فاسد , ونكاح فاسد , فإن وطئ فيه , فإن كان عالما أن ذلك لا
يحل فعليه الرجم والحد , لأنه زنا , وعليها إن كانت عالمة مثل ذلك ,
ولا يلحق الولد - فإن كان جاهلا فلا حد عليه , ولا صداق , والولد لاحق
- وبالله تعالى التوفيق . وهكذا القول في كل عقد فاسد بالشغار ,
والمتعة والعقد بشرط ليس في كتاب الله تعالى , أي شرط كان - وبالله
تعالى التوفيق.
(11/250)
حكم المستأجرة للزنا أو للخدمة
...
2213 – مسألة : المستأجرة للزنى , أو للخدمة والمخدمة:
قال أبو محمد: حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا
عبد الرزاق نا ابن جريج ني محمد بن الحارث بن سفيان عن أبي سلمة بن
سفيان : أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت : يا أمير المؤمنين
أقبلت أسوق غنما لي فلقيني رجل فحفن لي حفنة من تمر , ثم حفن لي حفنة
من تمر ثم حفن لي حفنة من تمر , ثم أصابني ؟ فقال عمر : ما قلت ؟
فأعادت , فقال عمر بن الخطاب ويشير بيده : مهر مهر مهر - ثم تركها .
وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن الوليد بن عبد الله - وهو
ابن جميع - عن أبي الطفيل أن امرأة أصابها الجوع فأتت راعيا فسألته
الطعام ؟ فأبى عليها حتى تعطيه نفسها , قالت : فحثى لي ثلاث حثيات من
تمر وذكرت أنها كانت جهدت من الجوع , فأخبرت عمر , فكبر وقال : مهر مهر
مهر - ودرأ عنها الحد ؟
قال أبو محمد رحمه الله: قد ذهب إلى هذا أبو حنيفة ولم ير الزنى , إلا
ما كان مطارفة , وأما ما كان فيه عطاء أو استئجار فليس زنى ولا حد فيه
. وقال أبو يوسف , ومحمد , وأبو ثور , وأصحابنا , وسائر الناس , هو زنى
كله وفيه الحد . وأما المالكيون , والشافعيون , فعهدنا بهم يشنعون خلاف
الصاحب الذي لا يعرف له مخالف - إذا وافق تقليدهم - وهم قد خالفوا عمر
- رضي الله عنه - ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم , بل هم
يعدون مثل هذا إجماعا , ويستدلون على ذلك بسكوت من بالحضرة من الصحابة
عن النكير لذلك . فإن قالوا : إن أبا الطفيل ذكر في خبره أنها قد كان
جهدها الجوع ؟ قلنا لهم : وهذا أيضا أنتم لا تقولون به , ولا ترونه
عذرا مسقطا للحد , فلا راحة لكم في رواية أبي الطفيل مع أن خبر أبي
الطفيل ليس فيه أن عمر عذرها بالضرورة , بل فيه : أنه درأ الحد من أجل
التمر الذي أعطاها وجعله عمر مهرا . وأما الحنفيون المقلدون لأبي حنيفة
في هذا فمن عجائب الدنيا التي لا يكاد يوجد لها نظير : أن يقلدوا عمر
في إسقاط الحد هاهنا بأن ثلاث حثيات من تمر مهر , وقد خالفوا هذه
القضية بعينها فلم يجيزوا في النكاح الصحيح مثل هذا وأضعافه مهرا , بل
منعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك - فهذا هو الاستخفاف حقا , والأخذ
بما اشتهوا من قول الصاحب حيث اشتهوا , وترك ما اشتهوا
(11/250)
تركه من
قول الصاحب إذا اشتهوا , فما هذا دينا ؟ وأف لهذا عملا , إذ يرون المهر
في الحلال لا يكون إلا عشرة دراهم لا أقل , ويرون الدرهم فأقل مهرا في
الحرام , إلا أن هذا هو التطريق إلى الزنى , وإباحة الفروج المحرمة ,
وعون لإبليس على تسهيل الكبائر , وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن
يزنيا علانية إلا فعلا وهما في أمن من الحد , بأن يعطيها درهما
يستأجرها به للزنى . فقد علموا الفساق حيلة في قطع الطريق , بأن يحضروا
مع أنفسهم امرأة سوء زانية وصبيا بغاء , ثم يقتلوا المسلمين كيف شاءوا
, ولا قتل عليهم من أجل المرأة الزانية والصبي البغاء , فكلما استوقروا
من الفسق خفت أوزارهم وسقط الخزي والعذاب عنهم . ثم علموهم وجه الحيلة
في الزنى , وذلك أن يستأجرها بتمرتين وكسرة خبز ليزني بها ثم يزنيان في
أمن وذمام من العذاب بالحد الذي افترضه الله تعالى . ثم علموهم الحيلة
في وطء الأمهات والبنات , بأن يعقدوا معهن نكاحا ثم يطئونهن علانية
آمنين من الحدود . ثم علموهم الحيلة في السرقة أن ينقب أحدهم نقبا في
الحائط ويقف الواحد داخل الدار والآخر خارج الدار , ثم يأخذ كل ما في
الدار فيضعه في النقب , ثم يأخذه الآخر من النقب , ويخرجا آمنين من
القطع . ثم علموهم الحيلة في قتل النفس المحرمة بأن يأخذ عودا صحيحا
فيكسر به رأس من أحب حتى يسيل دماغه ويموت ويمضي آمنا من القود ومن غرم
الدية من ماله . ونحن نبرأ إلى الله تعالى هذه الأقوال الملعونة , وما
قال أئمة المحدثين ما قالوا باطلا - ونسأل الله السلامة . ولو أنهم
تعلقوا في كل ما ذكرنا بقرآن أو سنة لأصابوا , بل خالفوا القرآن والسنة
, وما تعلقوا بشيء إلا بتقليد مهلك , ورأي فاسد , واتباع الهوى المضل.
قال أبو محمد رحمه الله: وحد الزنى واجب على المستأجر والمستأجرة , بل
جرمهما أعظم من جرم الزاني والزانية بغير استئجار , لأن المستأجر
والمستأجرة زنيا كما زنى غير المستأجر ولا فرق , وزاد المستأجر
والمستأجرة على سائر الزنى حراما آخر - وهو أكل المال بالباطل . وأما
المخدمة - فروي عن ابن الماجشون صاحب مالك : أن المخدمة سنين كثيرة لا
حد على المخدم إذا وطئها - وهذا قول فاسد ومع فساده ساقط : أما فساده -
فإسقاطه الحد الذي أوجبه الله تعالى في الزنى . وأما سقوطه - فتفريقه
بين المخدمة مدة طويلة , والمخدمة مدة قصيرة , ويكلف تحديد تلك المدة
المسقطة للحد التي يسقط فيها الحد , فإن حد مدة كان متزيدا من القول
بالباطل بلا برهان , وإن لم يحد شيئا كان محرما موجبا شارعا ما لا يدري
فيما لا يدري - وهذه تخاليط نعوذ بالله منها . والحد كامل واجب على
المخدم والمخدمة , ولو أخدمها عمر نوح في قومه - لأنه زنى وعهر
(11/251)
من ليست
له فراشا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/252)
مسائل من نحو هذا الباب
...
2214 - مسائل : من نحو هذا:
قال علي : من زنى بامرأة ثم تزوجها لم يسقط الحد بذلك عنه , لأن الله
تعالى قد أوجبه عليه فلا يسقطه زواجه إياها . وكذلك إذا زنى بأمة ثم
اشتراها - وهو قول جمهور العلماء . وقال أبو حنيفة : لا حد عليه في
كلتا المسألتين ؟ قال أبو محمد رحمه الله: وهذه من تلك الطوام ؟ فإن
قالوا : كيف نحده في وطء امرأته وأمته ؟ قلنا لهم : لم نحده في وطئه
لهما - وهما امرأته وأمته - وإنما نحده في الوطء الذي كان منه لهما -
وهما ليستا امرأته ولا أمته ثم يلزمهم على هذا الاعتلال الفاسد : أن من
قذف امرأة ثم تزوجها أن يلاعن ولا حد عليه , وأنه إن زنى بها فحملت ثم
تزوجها أو اشتراها أن يلحق به الولد , وإلا فكيف ينفي عنه ولد امرأته
منه أو ولد أمته منه ؟ فإن قالوا : ليس ابن فراش ؟ قلنا : صدقتم ,
ولذلك نحده على الوطء السالف , لأنه لم يكن وطء فراش ؟
قال أبو محمد رحمه الله: لو زنى بامرأة حرة أو أمة ثم قتلها فعليه حد
الزنى كاملا - والقود أو الدية والقيمة , لأنها كلها حقوق أوجبها الله
تعالى , فلا تسقطها الآراء الفاسدة . وروي عن أبي حنيفة أن حد الزنى
يسقط إذا قتلها - فما سمع بأعجب من هذه البلية : أن يكون يزني فيلزم
الحد , فإذا أضاف إلى كبيرة الزنى كبيرة القتل للنفس التي حرم الله
تعالى : سقط عنه حد الزنى - نبرأ إلى الله تعالى من ذلك , ونحمده على
السلامة منها كثيرا , وبه نستعين .
(11/252)
حكم من وطيء امرأة أبيه أو حريمته بعقد زواج أو بغير عقد
...
2215 - مسألة : ومن وطئ امرأة أبيه أو حريمته , بعقد زواج أو بغير عقد:
قال أبو محمد: نا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن
نا أحمد بن زهير نا عبد الله بن جعفر الرقي , وإبراهيم بن عبد الله ,
قال الرقي : نا عتبة بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت
عن يزيد بن البراء بن عازب عن أبيه , وقال إبراهيم : نا هشيم عن أشعث
بن سوار عن البراء بن عازب , ثم اتفقا - واللفظ لهشيم - قال : "مر بي
عمي الحارث بن عمرو وقد عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له :
أي عم أين بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بعثني إلى رجل
تزوج امرأة أبيه , فأمرني أن أضرب عنقه"
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا الخبر من طريق الرقين صحيح نقي الإسناد.
(11/252)
2216 -
مسألة : من أحل لآخر فرج أمته:
قال أبو محمد رحمه الله: سواء كانت امرأة أحلت أمتها لزوجها , أو ذي
رحم محرم أحل أمته لذي رحمه , أو أجنبي فعل ذلك : فقد ذكرنا قول سفيان
في ذلك وهو ظاهر الخطأ جدا , لأنه جعل الولد مملوكا لمالك أمه , وأصاب
في هذا , ثم جعله لاحق النسب بواطئ أمه - وهذا خطأ فاحش - لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وبين عز
وجل ما هو الفراش وما هو العهر ؟ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله تعالى: {هم العادون} . فهذه التي
أحل مالكها فرجها لغيره ليست زوجة له , ولا ملك يمين للذي أحلت له -
وهذا خطأ , لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
دماءكم وأموالكم عليكم حرام". وقد علمنا أن الذي أحل الفرج لم يهب
الرقبة ولا طابت نفسه بإخراجها عن ملكه , ولا رضي بذلك قط , فإن كان ما
طابت به نفسه من إباحة الفرج وحده حلالا ؟ فلا يلزمه سواه , ولا ينفذ
عليه غير ما رضي به فقط , وإن كان ما طابت به نفسه من إباحة الفرج
حراما , فإنه لا يلزمه , والحرام مردود , لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". فلا ينفذ عليه هبة الفرج .
وأما الرقبة فلم يرض قط بإخراجها عن ملكه , فلا يحل أخذها له بغير طيب
نفسه , إلا بنص يوجب ذلك أو إجماع.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذا الأمر كما ذكرنا فالولد غير لاحق , والحد
واجب , إلا أن يكون جاهلا بتحريم ما فعل - وبالله تعالى التوفيق.
(11/257)
2217 -
مسألة : من أحل فرج أمته لغيره:
نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن
جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع طاوسا يقول : قال ابن عباس :
إذا أحلت امرأة الرجل , أو ابنته , أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها
, فليجعل به بين وركيها ؟ . قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه
أنه كان لا يرى به بأسا , وقال : هو حلال فإن ولدت فولدها حر , والأمة
لامرأته , ولا يغرم الزوج شيئا . قال ابن جريج : وأخبرني إبراهيم بن
أبي بكر عن عبد الرحمن بن زادويه عن طاوس أنه قال : هو أحل من الطعام ,
فإن ولدت فولدها الذي أحلت له , وهي لسيدها الأول . قال ابن جريج :
وأخبرني عطاء بن أبي رباح قال : كان يفعل , يحل الرجل
(11/257)
بيان حكم الشهود في الزنا إذا لم يتموا أربعة
...
2218 - مسألة : الشهود في الزنى لا يتمون أربعة:
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : إذا لم يتم الشهود أربعة حدوا حد
القذف : كما نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد
بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة
أنا علي بن زيد بن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة : أن أبا بكرة
وزيادا , ونافعا , وشبل بن معبد , كانوا في دار أبي عبد الله في غرفة
ورجل في أسفل ذاك , إذ هبت ريح فتحت الباب ووقعت الشقة , فإذا رجل بين
فخذيها ؟ فقال بعضهم : قد ابتليا بما ترون , فتعاهدوا وتعاقدوا على أن
يقوموا بشهادتهم , فلما حضرت صلاة العصر أراد الرجل أن يتقدم فيصلي
بالناس فمنعه أبو بكرة , وقال : لا والله لا تصلي بنا , وقد رأينا ما
رأينا ؟ فقال الناس : دعوه فليصل فإنه الأمير , واكتبوا بذلك إلى عمر ؟
فكتبوا إلى عمر ؟ فكتب عمر بن الخطاب : أن اقدموا علي ؟ فلما قدموا شهد
عليه أبو بكرة , ونافع , وشبل , وقال زياد: قد أريت رعة سيه , ورأيت
ورأيت , ولكن لا أدري أنكحها أم لا ؟ فجلدهم عمر , إلا زيادا فقال أبو
بكرة : ألستم قد جلدتموني ؟ قالوا : بلى , قال : فأشهد بالله ألف مرة
لقد فعل ؟ فأراد عمر بن الخطاب أن يجلده الثانية , فقال علي بن أبي
طالب : إن كانت شهادة أبي بكرة شهادة : رجلين فارجم صاحبك وإلا فقد
جلدتموه. حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد
الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة
ثلاثة بالزنى ونكل زياد , فجلد عمر الثلاثة , وقال لهم : توبوا تقبل
شهادتكم ؟ فتاب اثنان ولم يتب أبو بكرة - فكانت لا تقبل شهادته - وأبو
بكرة أخو زياد لأمه - فحلف أبو بكرة أن لا يكلم زيادا أبدا , فلم يكلمه
حتى مات . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن بديل العقيلي عن أبي الوضاح
قال : شهد ثلاثة نفر على رجل وامرأة
(11/259)
بالزنى ,
وقال الرابع : رأيتهما في ثوب واحد , فإن كان هذا زنى فهو ذاك , فجلد
علي الثلاثة وعزر الرجل والمرأة ؟
قال أبو محمد رحمه الله رحمه الله: وبهذا يقول أبو حنيفة , والشافعي ,
وأصحابهما . وقال أبو ثور , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا : لا يحد
الشاهد بالزنى أصلا - كان معه غيره أو لم يكن ؟ قال أبو محمد رحمه
الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها ليلوح
الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى , فوجدنا من قال : يحد الشهود إذا
لم يتموا أربعة , بأن ذكروا : ما ناه حمام نا ابن المفرج نا ابن
الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله ورسوله أن لا تقبل شهادة
ثلاثة , ولا اثنين , ولا واحد , على الزنى ويجلدون ثمانين جلدة , ولا
تقبل لهم شهادة أبدا حتى يتبين للمسلمين منهم توبة نصوح وإصلاح".
وقالوا : حكم عمر بن الخطاب بحضرة علي وعدة من الصحابة - رضي الله عنهم
- لا ينكر ذلك عليه منهم أحد , فكان هذا إجماعا , وهذا كل ما موهوا به
, ما نعلم لهم حجة غير هذا , إلا أن بعضهم ذكر قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "للذي رمى امرأته البينة وإلا حد في ظهرك".
قال أبو محمد رحمه الله: وكل هذا لا حجة لهم فيه : أما خبر عمرو بن
شعيب فمنقطع أقبح انقطاع لأنه لم يذكر من بينه وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولا حجة عندنا في مرسل , ولا عند الشافعي , فلا يجوز لهم أن
يحتجوا علينا به , لأننا لا نقول به أصلا , فيلزمونا إياه على أصلنا ,
وهم لا يقولون به فيحتجوا به على أصولهم.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم نظرنا في قول من قال "إنه لا حد على الشاهد
سواء كان وحده - لا أحد معه - أو اثنين كذلك , أو ثلاثة كذلك "
فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "للقاذف البينة وإلا حد في ظهرك". فصح يقينا لا مرية فيه بنص
كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أن الحد إنما هو على
القاذف الرامي , لا على الشهداء , ولا على البينة . وقد صح أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم
عليكم حرام كحرمة يومكم هذا من شهركم هذا" فبشرة الشاهد حرام بيقين لا
مرية فيه , ولم يأت نص قرآن , ولا سنة صحيحة , يجلد الشاهد في الزنى
إذا لم يكن معه غيره - وقد فرق القرآن ; والسنة , بين الشاهد من البينة
وبين القاذف الرامي
(11/260)
فلا يحل
ألبتة أن يكون لأحدهما حكم الآخر - فهذا حكم القرآن والسنة الثابتة .
وأما الإجماع - فإن الأمة كلها مجمعة - بلا خلاف من أحد - على أن
الشهود إذا شهدوا واحدا بعد واحد , فتموا عدولا أربعة , فإنه لا حد
عليه . وكذلك أجمعوا - بلا خلاف من أحد منهم - لو أن ألف عدل قذفوا
امرأة أو رجلا كذلك بالزنى مجتمعين , أو مفترقين : أن الحد عليهم كلهم
حد القذف إن لم يأتوا بأربعة شهداء , فإن جاءوا بأربعة شهداء : سقط
الحد عن القذفة - فقد صح الإجماع المتيقن الذي لا شك فيه . وأما
المخالفون لنا في الجملة على الفرق بين حكم القاذف وبين حكم الشاهد وأن
القاذف ليس شاهدا , وأن الشاهد ليس قاذفا , فقد صح الإجماع على هذا بلا
شك , وصح اليقين ببطلان قول من قال : بأن يحد الشاهد والشاهدان
والثلاثة , إذا لم يتموا أربعة , لأنهم ليسوا قذفة , ولا لهم حكم
القاذف - وهذا هو الإجماع حقا , الذي لا يجوز خلافه . وأما طريق النظر
- فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنه لو كان ما قالوا لما صحت في الزنا
شهادة أبدا , لأنه كان الشاهد الواحد إذا شهد بالزنى صار قاذفا عليه
الحد - على أصلهم - فإذ قد صار قاذفا فليس شاهدا , فإذا شهد الثاني -
فكذلك أيضا - يصير قاذفا - وهذا فاسد كما ترى , وخلاف للقرآن في إيجاب
الحكم بالشهادة بالزنى , وخلاف السنة الثابتة بوجوب قبول البينة في
الزنى , وخلاف الإجماع المتيقن بقبول الشهادة في الزنى , وخلاف الحس
والمشاهدة في أن الشاهد ليس قاذفا , والقاذف ليس شاهدا . وأيضا فنقول
لهم : أخبرونا عن الشاهد إذا شهد على آخر بالزنى - وهو عدل : ماذا هو
الآن عندكم : أشاهد أم قاذف ؟ أم لا شاهد ولا قاذف ؟ ولا سبيل إلى قسم
ثالث ؟ فإن قالوا : وهو شاهد ؟ قلنا : صدقتم , وهذا هو الحق , وإذ هو
شاهد فليس قاذفا حين نطق بالشهادة , فمن المحال الممتنع أن يصير قاذفا
إذا سكت ولم يأت بثلاثة عدول إليه , وليس في المحال أكثر من أن يكون
شاهدا لا قاذفا , فإن تكلم بإطلاق الزنى على المشهود عليه , ثم يصير
قاذفا لا شاهدا إذا لم يتكلم ولا نطق بحرف ؟ ؟ فهذا محال لا إشكال فيه
, وإن قالوا هو قاذف ؟ فقد ذكروا وجوب الحد على القاذف بلا شك , فقد
وجب الحد عليه .
(11/261)
شهد أربعة بالزنا على امرأة أحدهم زوجها
...
2219 - مسألة : شهد أربعة بالزنى على امرأة أحدهم: زوجها:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : ليست
شهادة ويلاعن الزوج : كما روينا عن ابن عباس في أربعة شهداء شهدوا
بالزنى على امرأة , وأحدهم زوجها ؟ قال : يلاعن الزوج , ويحد الآخرون -
وعن إبراهيم النخعي بمثله - وبه يقول مالك , والشافعي , والأوزاعي - في
أحد قوليه . وقال آخرون : إن كانوا عدولا فالشهادة تامة , وتحد المرأة
(11/261)
كما روينا
عن الحسن البصري في أربعة شهدوا على امرأة بالزنى أحدهم زوجها ؟ قال :
إذا جاءوا مجتمعين , الزوج أجوزهم شهادة . وعن الشعبي أنه قال في أربعة
شهدوا على امرأة بالزنى - أحدهم زوجها - أنه قد جازت شهادتهم , وأحرزوا
ظهورهم . وقال الحكم بن عتيبة - في أربعة شهدوا على امرأة بالزنى أحدهم
زوجها حتى يكون معهم من يجيء بها - وبهذا يأخذ أبو حنيفة , والأوزاعي ,
في أحد قوليه.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتج
به كل قائل منهم لقول , فوجدنا كلتا الطائفتين تتعلق بقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} وبقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لهلال
بن أمية البينة وإلا حد في ظهرك" فنظرنا في هذين النصين فوجدناهما :
إنما نزلا في الزوج إذا كان راميا قاذفا , إلا إذا كان شاهدا , هذا نص
الآية , ونص الخبر , فليس حكم الزوج إذا كان شاهدا لا قاذفا راميا ,
فوجب أن نطلب حكم شهادة الزوج في غيرهما . فوجدنا الله تعالى يقول:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} فشرط الله تعالى على القاذف إن
لم يأت بأربعة شهداء أن يجلد , ولم يخص تعالى أولئك الأربعة الشهداء أن
لا يكون منهم زوجها {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . ولو أراد الله
تعالى أن لا يكون الزوج أحد أولئك الشهداء لبين ذلك ولما كتمه , ولا
أهمله , فإذ عم الله تعالى ولم يخص فالزوج وغير الزوج في ذلك سواء
بيقين لا شك فيه . فصح من هذا أن الزوج إن قذف امرأته فعليه حد القذف
إلا أن يلاعن , أو يأتي بأربعة شهداء سواء , لأنه قاذف , ورام -
والقاذف والرامي : مكلف أن يخلص نفسه بأربعة شهداء ولا بد - وهكذا
الأجنبي ولا فرق , إذا قذف , فلا بد من أربعة غيره , فإن جاء الزوج
شاهدا لا قاذفا , فهو كالأجنبي الشاهد ولا فرق , لا حد عليه ولا لعان
أصلا , لأنه لم يرمها , ولا قذفها , فإن كان عدلا وجاء معه بثلاثة شهود
, فقد تمت الشهادة , ووجب الرجم عليها , لأنهم أربعة شهود - كما أمر
الله تعالى - وبه نأخذ . وأما اشتراط الحكم بن عتيبة - من أن يكون معهم
من يأتي بهم , فلا معنى له , لأن الله تعالى لم يوجب ذلك , ولا رسوله
صلى الله عليه وسلم : ولا يخلو ذلك الخامس من أحد ثلاثة أوجه لا رابع
لها : إما أن يكون قاذفا - وإما أن يكون شاهدا - وإما أن يكون متطوعا
لا قاذفا ولا شاهدا . فإن كان قاذفا - فمن الحرام والباطل أن يلزم
الشهود أن يأتي قاذفا يتقدمهم , أو يأمر بقذف المحصنة والمحصن , ليتوصل
بذلك إلى إقامة الشهادة . وإن كان ذلك الخامس شاهدا - فهذا إيجاب لخمسة
شهود - وهذا خلاف القرآن , والسنة , والإجماع . وإن كان متطوعا لا
قاذفا ولا شاهدا - فهذا باطل , لأن الله تعالى لم يوجبه , ولا رسوله
صلى الله عليه وسلم.
(11/262)
حكم ما إذا شهد أربعة بالزنا على امرأة وشهد أربعة نسوة أنها عذراء
...
2220 - مسألة : شهد أربعة بالزنى على امرأة , وشهد أربعة نسوة أنها
عذراء:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : لا حد
عليها , كما روينا عن الشعبي أنه قال في أربعة رجال عدول شهدوا على
امرأة بالزنى وشهد أربع نسوة بأنها بكر , فقال : أقيم عليها الحد ,
وعليها خاتم من ربها .
قال أبو محمد رحمه الله: هذا على الإنكار منه لإقامة الحد عليها .
وقالت طائفة : تحد - كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم
بن أصبغ حدثنا ابن وضاح نا سحنون حدثنا ابن وهب عن الحارث بن نبهان في
أربعة شهدوا بالزنى على امرأة , ونظر النساء إليها فقلن : إنها عذراء ,
قال : آخذ بشهادة الرجال , وأترك شهادة النساء , وأقيم عليهما الحد .
وبإسقاط الحد عنها يقول أبو حنيفة , وأصحابه , إلا زفر , وبه - يقول
سفيان الثوري , والشافعي . وقال مالك : وزفر بن الهذيل , وأصحابنا :
تحد .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا , وجب أن ننظر في ذلك
, فوجدنا من رأى إيجاب الحد عليها يقول : قد صحت البينة عليها بما يوجب
الحد بنص القرآن , فلا يجوز أن يعارض أمر ربه تعالى بشيء - وما نعلم
لهم حجة غير هذا ؟ فعارضهم الآخرون - بأن قالوا : بأن لا خلاف أنه إذا
صح أن الشهود - كاذبون أو واهمون - فإن الشهادة ليست حقا : بل هي باطل
, ولا يحل الحكم بالباطل , وإنما أمر الله تعالى بإنفاذ الشهادة إذا
كانت حقا عندنا في ظاهرها , لا إذا صح عندنا بطلانها , وهذه قد صح
عندنا بطلانها فلا يجوز الحكم بها .
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} فواجب إذا كانت الشهادة عندنا - في
ظاهرها - حقا , ولم يأت شيء يبطلها أن يحكم بها , وإذا صح عندنا أنها
ليست حقا ففرض علينا أن لا نحكم بها , إذ لا يحل الحكم بالباطل , هذا
هو الحق الذي لا شك فيه . ثم نظرنا في الشهود لها أنها عذراء فوجب أن
يقرر
(11/263)
النساء
على صفة عذرتها فإن قلن : إنها عذرة , يبطلها إيلاج الحشفة ولا بد ,
وأنه صفاق عند باب الفرج , فقد أيقنا بكذب الشهود , وأنهم وهموا فلا
يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم . وإن قلن : إنها عذرة واغلة في داخل الفرج ,
لا يبطلها إيلاج الحشفة , فقد أمكن صدق الشهود , إذ بإيلاج الحشفة يجب
الحد , فيقام الحد عليها حينئذ , لأنه لم نتيقن كذب الشهود ولا وهمهم -
وبالله تعالى التوفيق .
(11/264)
2221 -
مسألة : كم الطائفة التي تحضر حد الزاني أو
رجمه:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ}. فصح أن عذاب الزناة الجلد , ومع الجلد الرجم والنفي .
ثم اختلف العلماء في مقدار الطائفة التي افترض الله تعالى أن تشهد
العذاب المذكور - فقالت طائفة : هي واحد من الناس , فإن زاد فجائز -
وهو قول ابن عباس . كما روى الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال:
الطائفة رجل , وبهذا يقول أصحابنا . وقالت طائفة : الطائفة اثنان
فصاعدا . كما روينا عن عطاء قال : اثنان فصاعدا - وبه يقول إسحاق بن
راهويه . وقالت طائفة : ثلاثة فصاعدا , كما روينا عن ابن شهاب . وقال
ابن وهب : سمعت شمر بن نمير يحدث عن الحسين بن عبيد الله بن ضميرة عن
أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مثله - سواء سواء - أن الطائفة ثلاثة
فصاعدا - وبه يقول الشافعي في أحد قوليه . وقالت طائفة : الطائفة - نفر
دون أن يحدوا عددا , كما روينا عن معمر عن قتادة أنه سمع {وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال : نفر من المسلمين .
وقالت طائفة : الطائفة - أربعة فصاعدا , كما روينا عن الليث بن سعد .
وقالت طائفة : الطائفة - خمسة فصاعدا , كما روينا عن ربيعة بن أبي عبد
الرحمن . وقالت طائفة : الطائفة - عشرة , كما روي عن الحسن البصري أنه
قال : الطائفة عشرة ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في
ذلك فوجدنا جميع الأقوال لا يحتج بها إلا قول مجاهد , وابن عباس , وهو
أن الطائفة : واحد فصاعدا - فوجدناه قولا يوجبه البرهان من القرآن ,
والإجماع , واللغة . فأما القرآن - فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} الآية ,
فبين تعالى نصا جليا أنه أراد بالطائفتين هنا الاثنين فصاعدا : بقوله
في أول الآية {اقتتلوا} وبقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الْأُخْرَى} وبقوله تعالى في آخر الآية {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ} وبرهان آخر - وهو أن
(11/264)
الله
تعالى قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد بذلك عددا من عدد لبينه , ولأوقفنا
عليه , ولم يدعنا نخبط فيه خبط عشواء , حتى نتكهن فيه الظنون الكاذبة ,
حاش لله تعالى من هذا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/265)
حد الرمي بالزنا وهو القذف
...
2222- مسألة : حد الرمي بالزنى:
وهو القذف - قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} إلى قوله تعالى: {غفور رحيم}.
قال أبو محمد رحمه الله: ففي هذه الآية أحكام كثيرة يجب الوقوف عليها
بأن تطلب علمها , وأن تعتقد , وأن يعمل بها بعون الله تعالى على ذلك :
فمنها - معرفة ما هو الرمي الذي يوجب الحكم المذكور في الآية , من
الجلد , وإسقاط الشهادة , والفسق , وأن القذف من الكبائر , ومن
المحصنات اللواتي يجب لرميهن الحكم المذكور في الآية من الجلد , وإسقاط
الشهادة , والفسق , وعدد الجلد , وصفته ؟ ومن المأمور بالجلد ؟ ومتى
يمتنع من قبول شهادتهم , وفي ماذا يمتنع من قبولها , وفسقهم , وما يسقط
بالتوبة من الأحكام المذكورة وما صفة التوبة من ذلك ؟ ونحن إن شاء الله
تعالى نذكر كل ذلك - بعون الله تعالى - بالبراهين الواضحة من القرآن ,
والسنن الثابتة في ذلك - ولا حول ولا قوة إلا بالله .
(11/265)
2223 -
مسألة : ما الرمي , والقذف:
قال أبو محمد رحمه الله: ذكر الله تعالى هذا الحكم باسم " الرمي " في
الآية المذكورة , وصح أن " القذف , والرمي " اسمان لمعنى واحد : لما
ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا إسحاق بن
إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا عبد الأعلى - هو ابن عبد الأعلى السلمي
- قال : سئل هشام - هو ابن حسان - عن الرجل يقذف امرأته ؟ فحدثنا هشام
عن محمد - يعني ابن سيرين - قال : سألت أنس بن مالك عن ذلك - وأنا أرى
أن عنده من ذلك علما - فقال : إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك ابن
سحماء , وكان أخا البراء بن مالك , وكان أول من لاعن , فلاعن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بينهما , ثم قال: "أبصروه , فإن جاءت به أبيض
, نض العينين , فهو لهلال بن أمية , وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين
فهو لشريك ابن سحماء". قال أنس : فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدا حمش
الساقين حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية عن محمد بن سيرين
عن أنس بن مالك , قال: "أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف
شريك ابن سحماء بامرأته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك ,
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك" وذكر
حديث اللعان .
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا أنس بن مالك حجة في اللغة وفي النقل في
الديانة قد سمى الرمي : قذفا , مع أنه لا خلاف في ذلك من أحد من أهل
اللغة , ولا بين
(11/265)
حكم النفي عن النسب
...
2224 - مسألة : النفي عن النسب:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس فيمن نفى آخر عن نسبه : فقالت
طائفة : فيه الحد - وقالت طائفة : لا حد فيه , فأما من أوجب فيه الحد -
فهو كما قال ابن مسعود : لا حد إلا في اثنين : أن يقذف محصنة , أو ينفي
رجلا عن أبيه , وإن كانت أمه أمة . وعن الشعبي في الرجل ينفي الرجل من
فخذه , قال : ليس عليه حد إلا أن ينفيه من أبيه - وعن الشعبي , والحسن
قالا جميعا : يضرب الحد . وعن إبراهيم النخعي قال : من نفى رجلا عن
أبيه - كان أبوه ما كان - فعليه الحد - ومن قال لرجل من بني تميم لست
منهم - وهو منهم - أو لرجل من بني بكر لست منهم - وهو منهم - فعليه
الحد . وعن إبراهيم النخعي في رجل نفى رجلا عن أبيه , قال له : لست
لأبيك وأمه نصرانية أو مملوكة - قال : لا يجلد . ومن طريق عبد الرزاق
أنا ابن جريج قال : سمعت حفص بن عمر بن ربيع يقول : كان بين أبي وبين
يهودي مرافعة في القول في شفعة , فقال أبي لليهودي : يهودي ابن يهودي ,
فقال : أجل , والله إني اليهودي ابن اليهودي , إذ لا يعرف رجال كثير
آباءهم ؟ فكتب عامل الأرض إلى عمر بن عبد العزيز - وهو عامل المدينة -
بذلك , فكتب , فقال : إن كان الذي قال له ذلك يعرف أبوه , فحد اليهودي
, فضربه ثمانين سوطا . وعن ابن جريج أنه قال : سئل ابن شهاب عن رجل قيل
له : يا ابن القين - ولم يكن أبوه قينا - قال : نرى أن يجلد الحد .
وأما من روي عنه : أنه لا حد في ذلك : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن
إبراهيم بن محمد عن إسحاق بن عبد الله عن مكحول أن معاذ بن جبل , وعبد
الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قالا جميعا : ليس الحد إلا
في الكلمة ليس لها مصرف , وليس لها إلا وجه واحد : وعن علي بن أبي طالب
- رضي الله عنه - قال : إذا بلغ الحد - لعل وعسى - فالحد معطل . وقد
روي عن
(11/266)
ابن عباس
رضي الله عنه - فيمن قال لرجل : يا نبطي أنه لا حد عليه . وعن عطاء بن
أبي رباح أنه سئل عن رجل قال لرجل : يا نبطي , ويا عبد بني فلان , فلم
ير عطاء فيه شيئا . وعن الشعبي أنه سئل عن الرجل قال لعمري : يا نبطي ,
فلم ير الشعبي في ذلك شيئا , وقال : كلنا نبط - وبه يقول أصحابنا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك
لنعلم الحق فنتبعه , فوجدنا الزهري يقول في نفي المرء عن أبيه , أو عن
نسبه - كما أوردنا عنه قبل ذلك أن السنة على النافي في كتاب الله تعالى
, وسنة نبيه عليه السلام : أن يأتي بأربعة شهداء : فنظرنا هل نجد هذا
الذي ذكر الزهري في كتاب الله تعالى ؟ فلم نجده أصلا , وإنما وجدنا فيه
الحد , ووجوب أربعة شهداء على رمي المحصنات فوجدنا النافي إنسانا عن
نسبه , فلم يرم محصنة أصلا , والزهري - وإن كان عندنا أحد الأئمة
الفضلاء - فهو بشر يهم كما يهم غيره , ويخطئ ويصيب , بل وجدنا نص
القرآن مخالفا لقول الزهري , لأنه يسقط الحد عمن رمى المحصنات إذا قال
لابن أمة , أو ابن كافرة : يا ابن الزانية , وأوجبه حيث ليس في القرآن
إيجابه إذا قال له : لست لأبيك - فسقط تعلقهم بذلك جملة . فإن قالوا :
النافي قاذف ولا بد ؟ قلنا : لا , ما هو قاذف , ولا قذف أحدا , وقد
ينفيه عن نسبه بأنه استلحق , وأنه من غيرهم ابن نكاح صحيح , فقد كانت
العرب تفعل هذا , فلا قذف هاهنا أصلا , وقد يكون نفيه له بأن أراد
الاستكراه لأمه , وأنها حملت به في حالة لا يكون للزنى فيه دخول ,
كالنائمة توطأ , أو السكرى , أو المغمى عليها , أو الجاهلة , فقد بطل
أن يكون النافي قاذفا جملة واحدة . ثم نظرنا - هل في السنة لهم متعلق ؟
فوجدنا : ما ناه أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم
بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن سالم
بن غيلان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سليمان بن يسار عن بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد رجلا
أن دعا آخر: يا ابن المجنون".
قال أبو محمد: فنظرنا في هذا الخبر فوجدناه لا متعلق لهم به أصلا من
وجوه : أولها : إنه مرسل ولا تقوم بمرسل حجة . والثاني : من طريق سالم
بن غيلان التجيبي وهو مجهول لم يعدل . وثالثها : أنه لو صح لم يكن فيه
حجة , لأنه ليس فيه أنه عليه السلام جلده الحد , إنما فيه : أنه جلده ,
فلا يحل أن يراد فيه : أنه جلده الحد , ونحن لا نأبى من ذلك من سب
مسلما , لأنه منكر يغير باليد , فبطل أن تكون لهم فيه حجة , بل هو
عليهم . وقد روى هذا الخبر يونس بن عبد الأعلى - وهو أحفظ من سحنون ,
وأعرف بالحديث منه , فلم يبلغه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما
نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن
(11/267)
معاوية نا
أحمد بن شعيب أنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن حيوة
بن شريح عن سالم بن غيلان التجيبي عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار
قال : إن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلد رجلا أن دعا
آخر : يا ابن المجنون ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا أيضا كالذي ذكرنا قبل ; لأنه ليس فيه أنه
جلده الحد , والحدود لا تقام بالظنون الكاذبة , والزيادة في الحديث كذب
, وتبليغ الحد المذكور إلى ثمانين كذب بلا شك ممن قطع بذلك . فبطل
تعلقهم بهذا الخبر جملة . ثم نظرنا في ذلك فوجدنا الله تعالى قد أوجب
في القذف بالزنى الحد , وجاءت به السنة الصحيحة , وصح به الإجماع
المتيقن , فكان هذا هو الحق الذي لا شك فيه . ووجدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم
حرام" وقد قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} وقال
تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
فحرم الله تعالى العدوان , وضرب الأبشار بغير برهان من العدوان , وحرم
تعالى أن تتعدى حدوده , وإثبات حد بغير برهان تعد لحدود الله تعالى .
وبالله تعالى التوفيق .
(11/268)
بيان أن قذف المؤمنات من الكبائر
...
2225- مسألة : قذف المؤمنات من الكبائر , وتعرض المرء لسب أبويه من
الكبائر:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ
مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية .
وقال تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} الآية . وكما روينا
من طريق مسلم ني هارون بن سعيد الأيلي نا ابن وهب أخبرني سليمان بن
بلال عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قيل : يا رسول الله وما هن ؟
قال : الشرك بالله , والسحر , وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ,
وأكل مال اليتيم , وأكل الربا , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات
الغافلات المؤمنات". وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ} الآية .
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن قذف المؤمنات المحصنات البريئات من
الكبائر الموجبة للعنة في الدنيا والآخرة , والعذاب العظيم في الآخرة ,
ودخل فيها قذف الأمة والحرة دخولا مستويا , لأن الله تعالى لم يخص
مؤمنة من مؤمنة . وبقي قذف الكافرة فوجدنا الله تعالى قال:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية -
فهذا عموم تدخل فيه الكافرة والمؤمنة , فوجب أن قاذفها فاسق إلا أن
يتوب . وروينا من طريق مسلم نا محمد بن الوليد بن عبد الحميد أنا محمد
بن جعفر نا شعبة نا عبيد الله بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك قال:
"ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر
(11/268)
وسئل عن
الكبائر ؟ فقال : الشرك بالله , وقتل النفس , وعقوق الوالدين - قال :
ألا أنبئكم بأكبر الكبائر , قول الزور - أو قال : شهادة الزور قال شعبة
: وأكبر ظني أنه قال - شهادة الزور " . ومن طريق مسلم أنا عمر بن محمد
بن بكير الناقد نا إسماعيل ابن علية عن سعيد الجريري نا عبد الرحمن بن
أبي بكرة عن أبيه أنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - ثلاثا - الإشراك بالله وعقوق الوالدين -
وشهادة الزور أو قول الزور - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا
فجلس , فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت".
قال أبو محمد رحمه الله: ليس شك الراوي بين قوله عليه السلام شهادة
الزور أو قول الزور بمحيل شيئا من حكم هذين الخبرين فأي ذلك كان
فالمعنى فيه واحد لا يختلف , لأن كل قول قاله المرء غير حاك فقد شهد به
, وكل شهادة يشهد بها المرء فقد قالها فالقول شهادة , والشهادة قول ,
وهذه الشهادة هي غير الشهادة المحكوم بها , قال الله تعالى:
{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} وقال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا
فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} فهذه الشهادة هي القول المقول , لا المؤداة
عند الحاكم بصفة ما - وبالله تعالى التوفيق . فصح أن قذف الكافرة
البريئة قول زور بلا خلاف من أحد , وقول الزور من الكبائر , كما بين
رسول الله صلى الله عليه وسلم . روينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد
نا ليث بن سعد عن ابن الهادي عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف
عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه ؟ قالوا :
يا رسول الله , وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم , يسب أبا الرجل
فيسب أباه , ويسب أمه فيسب أمه". فصح أن السب المذكور من الكبائر , وإن
لم يكن قذفا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وأما من رمى المرء بما فعل فليس قذفا , لكنه
غيبة إن كان غائبا , وأذى إن كان حاضرا , هذا ما لا خلاف فيه - وبالله
تعالى التوفيق .
(11/269)
بيان من المحصنات الواجب بقذفهن ما أوجبه الله في القرآن
...
2226 - مسألة : من المحصنات الواجب بقذفهن ما أوجبه الله تعالى في
القرآن:
قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} الآية ,
فكان ظاهر هذا أن " المحصنات المذكورات : هن النساء " لأن هذا اللفظ
جاء بجمع المؤنث فاعترض علينا أصحاب القياس هاهنا وقالوا لنا : إن النص
إنما ورد بجلد الحد من قذف امرأة , فمن أين لكم أن تجلدوا من قذف رجلا
بالزنى ؟ وما هذا إلا قياس منكم , وأنتم تنكرون القياس.
قال أبو محمد رحمه الله: فأجابهم أصحابنا هاهنا بأجوبة كل واحد منها
مقنع كاف , مبطل لاعتراضهم هذا الفاسد - والحمد لله رب العالمين . فأحد
تلك الأجوبة : أن من تقدم
(11/269)
من
أصحابنا , قال : جاء النص بالحد على قذف النساء وصح الإجماع بحد من قذف
رجلا والإجماع حق وأصل من أصولنا التي نعتمد عليها وقد افترض الله
تعالى علينا اتباع الإجماع , والإجماع ليس إلا عن توقيف من رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وقال بعض أصحابنا : بل نص الآية عام للرجال
والنساء وإنما أراد الله تعالى النفوس المحصنات قالوا : وبرهان هذا
القول ودليل صحته قول الله تعالى في مكان آخر {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ} قالوا : فلو كانت لفظة " المحصنات " لا تقع إلا على النساء
لما كان لقول الله تعالى "من النساء" معنى وحاش لله من هذا فصح أن
المحصنات يقع على النساء والرجال فبين الله تعالى مراده هنالك بأن قال
"من النساء" وأجمل الأمر في آية القذف إجمالا . قالوا : فإن قال قائل :
وإن قوله تعالى: {من النساء} كقوله تعالى: {وغرابيب سود} و {عشرة
كاملة} ؟ قلنا : لا يجوز أن يحمل كلام الله تعالى على تكرار لا فائدة
أخرى فيه إلا بنص قرآن , أو سنة , أو إجماع , وليس معكم شيء من هذا في
دعواكم أن قوله تعالى: {من النساء} تكرار لا فائدة فيه .
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا جواب حسن , وأما الأول فلا نقول به ;
لأنه حتى لو صح الإجماع على وجوب الحد على قاذف الرجل لما كان في الآية
احتجاج وإيجابنا الحد على قاذف العبد وقاذف الكافرة , لأنه لا إجماع
على ذلك ؟ وأما جوابنا الذي نعتمد عليه ونقطع على صحته , وأنه مراد
الله تعالى بالبرهان الواضح فهو أن الله تعالى إنما أراد بقوله:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الفروج المحصنات . برهان ذلك : أن الأربعة
الشهود المذكورين لا يختلف اثنان من الأمة في أن شهادتهم التي يكلفونها
هي أن يشهدوا بأنهم رأوا فرجه في فرجها والجا خارجا - والإجماع قد صح
بأن ما عدا هذه الشهادة ليست شهادة بزنى ولا يبرأ بها القاذف من الحد .
فصح أن الرمي المذكور إنما هو الفروج فقط . وأيضا , برهان آخر - كما
روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا عبد
الرزاق نا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه
باللمم مما قال أبو هريرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله
كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر ,
وزنى اللسان النطق , والنفس تمنى وتشتهي , والفرج يصدق ذلك أو يكذبه".
قال أبو محمد رحمه الله: فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الزنى
إلا للفرج فقط وأبطله عن جميع أعضاء الجسم - أولها عن آخرها - إلا أن
يصدقه فيها الفرج . فصح يقينا أن النفس والقلب وجميع أعضاء الجسد , حاش
الفرج لا رمي فيها , ولا قذف أصلا , وأنه لا رمي إلا للفروج
(11/270)
فقط , فإذ
لا شك في هذا ولا مرية , فالمراد من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} هي بلا شك " الفروج " التي لا يقع " الرمي "
إلا عليها , لا يكون الزنى المرمي به إلا منها ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قال قائل : إن " المحصنات " نعت ولا يفرد
النعت عن ذكر المنعوت ؟ قلنا : هذا خطأ ; لأنه دعوى بلا برهان , لأن
القرآن وأشعار العرب مملوء مما جاء في ذلك , بخلاف هذا . قال الله
تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} . وقال الله تعالى {إن
المصدقين والمصدقات} . ومثل هذا كثير مما ذكر الله تعالى النعت دون ذكر
المنعوت . وقال الشاعر : ولا جاعلات العاج فوق المعاصم فذكر النعت ولم
يذكر المنعوت وما نعلم نحويا منع من هذا أصلا , وإنما ذكرنا هذا لئلا
يموه مموه . ثم إن هذا الاعتراض راجع عليهم , لأن من قولهم : إنه أراد
" النساء المحصنات " فعلى كل حال قد حذف المنعوت واقتصر على النعت ولا
فرق بين اقتصاره تعالى على ذكر " المحصنات " وحذف الفروج على قولنا ,
أو حذف " النساء " على قولهم - فسقط اعتراضهم جملة , وقولنا نحن الذي
حملنا عليه الآية الأولى من دعواهم , لأن قولنا يشهد له النص والإجماع
على ما ذكرنا . وأما دعواهم أن الله تعالى أراد بذلك " النساء " فدعوى
عارية لا برهان عليها , لا من نص ولا إجماع , لأنهم يخصون تأويلهم هذا
, ويسقطون الحد عن قاذف نساء كثيرة : كالإماء , والكوافر , والصغار ,
والمجانين , فقد أفسدوا دعواهم من قرب مع تعريها من البرهان - وبالله
تعالى التوفيق .
(11/271)
2227 -
مسألة : قذف العبيد والإماء
قال أبو محمد:اختلف الناس فيمن قذف عبدا أو أمة بالزنا : فقالت طائفة :
لا حد عليه كما روي عن النخعي , والشعبي أنهما قالا جميعا : لا يضرب
قاذف أم ولد . وعن حماد بن أبي سليمان قال : إذا قال رجل لرجل أمه أم
ولد أو نصرانية : لست لأبيك ؟ لم يضرب , لأن النفي وقع على الأم . وعن
ابن سيرين قال : أراد عبيد الله بن زياد أن يضرب قاذف أم ولد , فلم
يتابعه على ذلك أحد . وقد روي عن عطاء , والحسن , والزهري : لا حد على
قاذف أم ولد ؟ قال علي : وممن لم ير الحد على قاذف العبد والأمة : أبو
حنيفة , ومالك , والأوزاعي , وسفيان الثوري , وعثمان البتي , والحسن بن
حي , والشافعي , وأصحابهم . وقالت طائفة بإيجاب الحد في ذلك - نا حمام
نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب
السختياني عن نافع مولى ابن عمر قال : إن أميرا من الأمراء سأل ابن عمر
عن رجل قذف أم ولد لرجل ؟ فقال ابن عمر : يضرب الحد صاغرا . وعن الحسن
البصري قال : الزوج يلاعن الأمة , وإن قذفها - وهي أمة - جلد , لأنها
امرأته ؟
(11/271)
قال أبو
محمد: وبهذا يقول أصحابنا , وهذا الإسناد عن ابن عمر من أصح إسناد يوجد
في الحديث فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة
لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى ولطفه : فنظرنا في قول من
لم ير الحد على قاذف الأمة والعبد , فلم نجد لهم شيئا يمكن أن يتعلقوا
به , إلا ما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا يحيى بن سعيد القطان عن
الفضيل بن غزوان عن ابن أبي نعم عن أبي هريرة قال سمعت أبا القاسم صلى
الله عليه وسلم يقول: "من قذف مملوكه وهو بريء مما قال , جلد يوم
القيامة إلا أن يكون كما قال". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن
معاوية نا أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أنا عبد الله - هو ابن المبارك
- عن الفضيل بن غزوان عن أبي نعم : أنه حدثه أنه قال : قال أبو القاسم
صلى الله عليه وسلم: "من قذف مملوكه بريئا مما قال أقيم عليه الحد يوم
القيامة , إلا أن يكون كما قال". وعن الحسن عن ابن عمر قال : "من قذف
مملوكه كان لله تعالى في ظهره حد يوم القيامة , إن شاء آخذه , وإن شاء
عفا عنه".
قال أبو محمد:ولعلهم يدعون الإجماع , أو يقولون : لا حرمة للعبد ولا
للأمة , فكثيرا ما يأتون بمثل هذا . فإن ادعوا الإجماع أكذبهم ما روينا
عن ابن عمر بأصح طريق , وما نعلم قولهم عن أحد من الصحابة أصلا , إلا
رواية لا نقف الآن على موضعها من أصولنا . عن أبي بردة - أنه كانت له
ابنة من حرة , وابنة من أم ولد , فكانت ابنة الحرة تقذف ابنة أم الولد
, فأعتق أمها , وقال لابنة الحرة : اقذفيها الآن إن قدرت ؟ وعن نفر من
التابعين قد ذكرناهم خالفوهم في أكثر أقوالهم : فأما الرواية عن أبي
بردة - فلا متعلق لهم بها , لأنه ليس فيها أنه لا حد فيها على قاذفها ,
ولعل حاكم وقته كان لا يرى الحد على قاذف أم الولد - فبطل تعلقهم بهذا
. وأما قولهم "لا حرمة للعبد ولا للأمة" فكلام سخيف , والمؤمن له حرمة
عظيمة , ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى , قال الله
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى} الآية إلى قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ} . والناس كلهم في الولادة أولاد آدم وامرأته , ثم تفاضل
الناس بأخلاقهم وأديانهم , لا بأعراقهم , ولا بأبدانهم . وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم
حرام" فسوى - عليه السلام - بين حرمة العرض من الحر والعبد نصا , ولا
سيما الحنفيون الموجبون القود على الحر للعبد , وعلى الحرة للأمة , فقد
أثبتوا حرمتهما سواء ؟ قال علي : أقوال لهم في هذه المسائل , قد اختلف
فيها , فمن قال لامرأته : زنيت في كفرك أو قال : زنيت وأنت أمة : حدثنا
عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا
ابن وهب أخبرني يونس أنه سأل ابن شهاب
(11/272)
عن رجل
قذف امرأته فقال لها : زنيت وأنت أمة أو نصرانية ؟ فقال ابن شهاب : إن
لم يأت على ذلك بالبينة جلد الحد ثمانين . وبه - يقول أبو حنيفة ,
وسفيان , ومالك , والأوزاعي , وأصحابهم . وقال الشافعي , وأصحابه : لا
حد عليه . قال أبو حنيفة , وأصحابه , وسفيان , والشافعي , وأصحابه :
فيمن قال : زنيت وأنت صغيرة , أو قال : زنيت وأنت مكرهة أن لا حد .
وقال مالك : عليه الحد أيضا في قوله : زنيت وأنت مكرهة ؟ قال أبو
محمد:أما قول أبي حنيفة , وأصحابه فظاهر التناقض , لأنهم يقولون : لا
حد على قاذف الأمة , والكافرة , والصغيرة - ثم فرقوا هاهنا فحدوا من
قال : زنيت وأنت أمة , ولم يحدوا من قال : زنيت وأنت صغيرة . فإن قالوا
: إنما قذفها وهي حرة مسلمة ؟ قيل : وكذلك إنما قذفها وهي بالغ . فإن
قالوا : إن المكرهة ليست زانية , وكذلك الصغيرة ؟ قيل لهم : فالآن يوجب
عليه الحد إذا صح كذبه بيقين .
(11/273)
2228 -
مسألة : فيمن قذف صغيرا أو مجنونا , أو مكرها , أو مجبوبا , أو رتقاء ,
أو قرناء , أو بكرا , أو عنينا:
قال أبو محمد: أنا عبد الله بن ربيع أنا ابن مفرج أنا قاسم بن أصبغ أنا
ابن وضاح أنا سحنون أنا ابن وهب أخبرني يزيد بن عياض الليثي عن ابن
هشام أنه قال في صبية افتري عليها أو افترت ؟ قال : إذا قاربت الحيض أو
مسها الرجل جلد قاذفها الحد . وقال مالك : إذا بلغ مثلها أن يوطأ : جلد
قاذفها الحد , وكذلك يجلد قاذف المجنون - وقال أبو حنيفة , والشافعي ,
وأصحابهما , والحسن بن حي : لا حد على قاذف صغير , ولا مجنون ؟ قال علي
: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية . وقد
قلنا : إن " الإحصان " في لغة العرب : هو المنع , وبه سمي الحصن حصنا ,
يقال : درع حصينة - وقد أحصن فلان ماله : إذا أحرزه ومنع منه . قال
تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ} .
والصغار : محصنون بمنع الله تعالى لهم من الزنى , وبمنع أهليهم , وكذلك
المجانين - وكذلك المجبوب , والرتقاء , والقرناء , والعنين - وقد يكون
كل هؤلاء محصنين بالعفة . وأما البكر والمكره فمحصنان بالعفة , فإذا كل
هؤلاء يدخلون في جملة " المحصنات " بمنع الفروج من الزنى , فعلى قاذفهم
الحد , ولا سيما القائلون : إن الحرية إحصان , وكل حرة محصنة , فإن
الصغيرة الحرة , والمجنونة , والرتقاء , وسائر من ذكرناهم محصنون ,
وإسقاط الحد عن قاذفهم خطأ محض لا إشكال فيه . فما علمنا لهم حجة أكثر
من أن قالوا : إن من قذف من ذكرنا فقد تيقنا كذبه ؟ فقلنا لهم : صدقتم
, والآن حقا وجب الحد على القاذف , إذ قد صح كذبه - وبالله تعالى
التوفيق.
(11/273)
قال أبو
محمد: وهذا مكان عظمت فيه غفلة من أغفله , لأن القذف لا يخلو من أحد
أوجه ثلاثة لا رابع لها , إما أن يكون صادقا , وقد صح صدقه فلا خلاف في
أنه لا حد عليه - أو يكون ممكنا صدقه , وممكنا كذبه فهذا عليه الحد بلا
خلاف لإمكان كذبه فقط ولو صح صدقه لما حد - أو يكون كاذبا قد صح كذبه ,
فالآن حقا طابت النفس على وجوب الحد عليه بيقين , إذ المشكوك في صدقه
أو كذبه لا بد له من أحدهما ضرورة , فلو كان صادقا لما صح عليه حد أصلا
- فصح يقينا , إذ قد سقط الحد عن الصادق أنه باق على الكذب , إذ ليس
إلا صادقا أو كاذبا , وهذا في غاية البيان والحمد لله رب العالمين .
(11/274)
حكم ما إذا قذف كافر مسلماً
...
2229 - مسألة : كافر قذف مسلما أو كافرا:
قال أبو محمد:قد ذكرنا وجوب الحد على من قذف كافرا فإذا قذف الكافر
مسلما , قد ذكرنا فيما سلف من كتابنا هذا وجوب الحكم على الكفار بحكم
الإسلام , لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} . وبقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . وقد ذكرنا وجوب قتل من سب مسلما
من الكفار لنقضهم العهد وفسخهم الذمة , لقول الله تعالى: {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . فافترض الله
تعالى إصغارهم , فإذا خرجوا عن الصغار فلا ذمة لهم , وإذا لم تكن لهم
ذمة فقتلهم وسبيهم , وأموالهم : حلال , وإذا سبوا مسلما فقد خرجوا عن
الصغار , وأصغروا المسلم , فقد برئت الذمة ممن فعل ذلك منهم , ولا ذمة
له : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ
نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا إسحاق بن خالد , قال : سألت
الشعبي عن يهودية افترت على مسلم ؟ قال : تضرب الحد . وبه - إلى وكيع
حدثنا سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن قال : شهدت الشعبي ضرب
نصرانيا قذف مسلما , فجلده ثمانين ؟ قال أبو محمد:أما الحد - فواجب بلا
شك , لأنه حكم الله تعالى على كل قاذف , والقتل واجب كما ذكرنا لنقض
الذمة سواء كان رجلا أو امرأة لا بد من قتلهما , إلا أن يسلما فيتركا
عن القتل لا عن الحد . فإن قال قائل : هلا أوقفتم المرأة ولم تقتلوها ,
لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء ؟ ولأنها إذا نقضت
ذمتها بسب المسلم فقد عادت حربية , وإذا عادت حربية فلا ذمة لها فليس
عليها إلا الاسترقاق ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : إن حكم الحربي
قبل التذمم غير حكمه بعد نقضهم الذمة , لأن حكمهم قبل التذمم المقاتلة
, فإذا قدرنا عليهم , فإما المن وإما الفداء , وإما القتل , وإما
الإبقاء على الذمة - هذا في الرجال , وكذلك في النساء حاش القتل , وأما
بعد نقض الذمة
(11/274)
فليس إلا
القتل , أو الإسلام فقط , لقول الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فافترض الله تعالى قتالهم بعد نكث
أيمانهم من بعد عهدهم حتى ينتهوا - ولا يجوز أن يخص الانتهاء هاهنا عن
بعض ما هم عليه دون جميع ما هم عليه , إذ لا دليل يوجب ذلك , ونحن على
يقين أننا إذا انتهوا عن الكفر فقد حرمت دماؤهم , ولا نص معنا ولا
إجماع على أنهم إن انتهوا عن بعض ما هم عليه دون بعض عادوا إلى حكم
الاستبقاء - . وقد تقصينا هذا في " كتاب الجهاد " في مواضع من ديواننا
وحكم المرأة في ذلك حكمها إذا أتت بعد الذمة بشيء يبيح الدم من زنى بعد
إحصان , وقتل نفس , أو غير ذلك . وأما إذا قذف الكافر كافرا فليس إلا
الحد فقط , على عموم أمر الله تعالى فيمن قذف محصنة بنص القرآن.
قال أبو محمد رحمه الله: والعجب ممن يرى أنه لا حد على كافر إذا زنى
بمسلمة , ولا على كافرة إذا زنى بها مسلم , ولا يرى الحد على كافر في
شرب الخمر - ثم يرى الحد على الكافر إذا قذف مسلما أو مسلمة , فليت
شعري ما الذي فرق بين أحكام هذه الحدود عندهم ؟ فإن قالوا : إن الحد في
القذف حق للمسلم ؟ قلنا لهم : وقولوا أيضا : إن حد الكافر إذا زنى
بمسلمة حق لأبي تلك المسلمة , ولزوجها , وأمها ولا فرق - والعجب أيضا
ممن قطع يد الكافر إذا سرق من كافر , ثم لا يحده له إذا قذفه , وهذه
عجائب لا نظير لها ؟ خالفوا فيها نصوص القرآن , وتركوا القياس الذي
إليه يدعون , وبه يحتجون , إذ فرقوا بين هذه الأحكام , ولم يقيسوا
بعضها على بعض بغير دليل في كل ذلك - وبالله تعالى التوفيق .
(11/275)
حكم من قال لامرأة لم يجدك زوجك عذراء
...
2230 - مسألة : فيمن قال لامرأة : لم يجدك زوجك عذراء:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : لا حد في
ذلك وليس قذفا . وكذلك لو قال رجل لامرأة تزوجها , فلا يلاعن بهذا .
وقالت طائفة : هو قذف , ويحد , ويلاعن الزوج ؟ قال أبو محمد رحمه الله:
احتج من رآه قذفا بما نا أحمد بن محمد الطلمنكي قال : نا ابن مفرج نا
محمد بن أيوب نا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار نا محمد بن منصور
الطوسي نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن ابن إسحاق قال : وذكر
طلحة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "تزوج رجل من الأنصار امرأة من
بني العجلان فبات عندها ليلة فلما أصبح لم يجدها عذراء فرفع شأنها إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الجارية , فقالت : بل كنت عذراء , فأمر
بهما فتلاعنا , وأعطاها المهر" قال البزار : لا نعلمه روي إلا من هذا
الطريق.
(11/275)
قال علي :
وهذا ليس بشيء لوجهين : أحدهما - أن ابن إسحاق لم يصح سماعه لذلك من
طلحة , فهو منقطع . والثاني - أن طلحة هذا لم ينسبه وهو - والله أعلم -
طلحة بن عمرو المكي , فهو الذي يروي عن أصحاب ابن عباس , وهو مشهور
بالكذب , وإلا فهو على كل حال مجهول - فسقط التعلق بهذا الخبر.
قال أبو محمد رحمه الله: وذهاب العذرة يكون بغير الزنى , أو بغير وطء
كوقعة , أو غير ذلك , فلما لم يكن ذهاب العذرة زنى لم يكن الرمي به
رميا , ولا قذفا , فإذ ليس رميا ولا قذفا فلا حد فيه , ولا لعان , لأن
الله تعالى إنما جعل الحد واللعان بالزنى , لا بما سواه - وبالله تعالى
التوفيق - هو قول أصحابنا وغيرهم - وبهذا نقول .
(11/276)
2231-
مسألة : التعريض , هل فيه حد أو تحليف , أم لا حد فيه ولا تحليف:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في التعريض أفيه حد أم لا ؟ فقالت
طائفة : فيه حد القذف كاملا كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي
نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر
عن أبيه عبد الله بن عمر قال : إن عمر كان يجلد في التعريض بالفاحشة .
وبه - إلى عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة عن صفوان ,
وأيوب عن عمر بن الخطاب أنه حد في التعريض , قال ابن أبي مليكة : والذي
حده عمر في التعريض - هو عكرمة بن عامر بن هشام بن عبد مناف بن عبد
الدار - هجا وهب بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فعرض
به في هجائه . حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا
ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب سمعت معاوية بن مصالح يحدث عن كثير بن
الحارث عن القاسم مولى عبد الرحمن : أن عمر بن الخطاب جلد في التعريض
وقال : إن حمى الله لا ترعى حواشيه . وبه - إلى ابن وهب أخبرني مالك ,
وعمرو بن الحارث , قال مالك : عن أبي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد
الرحمن , وقال عمرو : عن يحيى بن سعيد الأنصاري قالت عمرة , ويحيى : إن
رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب فقال أحدهما : ما أبي بزان , ولا
أمي بزانية , فاستفتي في ذلك عمر بن الخطاب ؟ فقال قائل : مدح أباه
وأمه , وقال آخرون : قد كان لأبيه وأمه مدح سوى هذا , نرى أن يجلد الحد
, فجلده عمر ثمانين . وبه - إلى ابن وهب أخبرني رجل - من أهل العلم -
أن مسلمة بن مخلد جلد الحد في التعريض . وبه - إلى ابن وهب أخبرني سعيد
بن أيوب عن عطاء عن عمرو بن دينار عن أبي صالح الغفاري أن عمرو بن
العاص جلد رجلا الحد كاملا في
(11/276)
أن قال
لآخر : يا ابن ذات الداية . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن
نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا غير
واحد عن جابر عن طريف العكلي عن علي بن أبي طالب قال : من عرض عرضنا له
بالسوط . وبه - إلى وكيع نا سفيان الثوري عن عاصم عن ابن سيرين عن سمرة
قال : من عرض عرضنا له . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا
الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج قال : سمعت محمد بن هشام يقول : قال
رجل في إمارة عمر بن عبد العزيز لرجل : إنك تسري على جاراتك ؟ قال :
والله ما أردت إلا نخلات كان يسرقهن , فحده عمر بن عبد العزيز
قال أبو محمد: وبإيجاب الحد في التعرض يقول مالك - وهو قول ربيعة أيضا
- وقال آخرون لا حد في التعريض : كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد
الله بن نصر بن قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا
سفيان الثوري عن أبي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن قال : نازع رجل
رجلا ؟ فقال : أما أبي فليس بزان , ولا أمي بزانية , فرفع إلى عمر ,
فشاور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما نرى عليه حدا ,
مدح أباه وأمه ؟ فضربه عمر . وبه - إلى وكيع نا المسعودي عن القاسم بن
عبد الرحمن قال : قال عبد الله بن مسعود : لا حد إلا في اثنين : أن
يقذف محصنة , أو ينفي رجلا من أبيه . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن
الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن إسحاق بن عبد
الله عن مكحول : أن معاذ بن جبل , وعبد الله بن عمرو بن العاص قالا
جميعا : ليس يحد إلا في الكلمة التي لها مصرف , وليس لها إلا وجه واحد
. وبه - إلى إبراهيم بن محمد عن صاحب له عن الضحاك بن مزاحم عن علي بن
أبي طالب قال : إذا بلغ الحد لعل وعسى , فالحد معطل . حدثنا عبد الله
بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد
العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن حميد
بن هلال أن رجلا شاتم رجلا , فقال : يا بن شامة الوذر - يعني ذكور
الرجال - فقال له عثمان : أشهد عليه , أشهد عليه ؟ فرفعه إلى عمر ,
فجعل الرجل يقع في عثمان فينال منه , فقال عمر : أعرض عن ذكر عثمان ,
فجعل لا ينزع , فعلاه عمر بالدرة وقال : أعرض عن ذكر عثمان , وسأل عن
أم الرجل ؟ فإذا هي قد تزوجت أزواجا فدرأ عنه الحد . حدثنا محمد بن
سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد
السلام الخشني نا محمد بن بشار - بندار - نا محمد بن جعفر غندر - نا
شعبة عن أبي ميمونة سلمة بن المحبق نا ابن أبي ميمونة نا سلمة بن
المحبق قال : قدمت المدينة فعقلت راحلتي , فجاء إنسان فأطلقها فجئت
(11/277)
فلهزت في
صدره وقلت : يا نائك أمه , فذهب بي إلى أبي هريرة وامرأته قاعدة فقالت
لي امرأته : لو كنت عرضت , ولكنك أقحمت , قال : فجلدني أبو هريرة الحد
ثمانين , فقلت : لعمرك , إني يوم أجلد قائما ثمانين سوطا إنني لصبور .
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن أحمد نا قاسم بن أصبغ نا
ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا إسرائيل عن جابر عن عامر الشعبي
في رجل قال لرجل : إنك تقود الرجال إلى امرأتك , قال : التعزير , وليس
يحد . وبه - إلى وكيع نا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال : في
التعريض عقوبة - وبه إلى وكيع أنا سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد
عن عامر الشعبي قال : لو قال له : ادعاك عشرة , لم يضرب . حدثنا حمام
نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج قال
: قلت لعطاء : التعريض , قال : ليس فيه حد , قال عطاء , وعمرو بن دينار
: فيه نكال , قال ابن جريج : قلت له : يستحلف ما أراد كذا وكذا ؟ قال :
لا , قال ابن جريج : وقلت لعطاء : رجل قال لأخيه ابن أبيه : لست بأخي ,
قال : لا يحد . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في رجل قال
لآخر : يا ابن العبد , أو أيها العبد , قال : إنما عنيت به عبد الله ,
قال : يستحلف بالله ما أراد إلا ذلك , ولا حد عليه , فإن نكل جلد .
وقال الزهري : فلو قال لآخر : يا ابن الحائك , يا ابن الخياط , يا ابن
الإسكاف يعيره ببعض الأعمال , قال : يستحلف بالله ما أراد نفيه , وما
أراد إلا عمل أبيه , فإن حلف ترك , وإن نكل حد . وبه - إلى عبد الرزاق
عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد : أنه سئل عن رجل قال لآخر :
إنك لدعي قال : ليس عليه حد - ولو قال له : ادعاك ستة , لم يكن عليه حد
. قال قتادة : لو قال رجل لرجل : إني أراك زانيا , عزر , ولم يحد -
والتعريض كله يعزر فيه في قول قتادة . وعن سعيد بن المسيب قال : إنما
جعل الحد على من نصب الحد نصبا.
قال أبو محمد رحمه الله: بأن لا حد في التعريض , يقول سفيان الثوري ,
وابن شبرمة , والحسن بن حي , وأبو حنيفة , والشافعي , وأبو سليمان ,
وأصحابهم - فلما اختلفوا كما ذكرنا , نظرنا فوجدنا من رأى الحد فيه
يقول : هذا فعل عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم .
قال علي : وهذا لا متعلق لهم به , لأنه قد صح الخلاف في ذلك عن الصحابة
- رضي الله عنهم - نصا , كما ذكرنا أيضا من طريق وكيع , نعم , وعن عمر
- رضي الله عنه - ادرءوا الحد عمن قال لآخر : يا ابن شامة الوذر . وأما
علي بن أبي طالب , وسمرة , فإنه جاء عنهما : من عرض عرضنا له وليس في
هذا بيان أنهما أرادا الحد . فبطل تعلقهم بفعل عمر
(11/278)
وعلي ,
وسمرة - رضي الله عنهم - جملة . فنظرنا هل لهم حجة غير هذا ؟ فوجدناهم
يذكرون قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا
رَاعِنَا} الآية . قالوا : وكان الكفار يقولون لرسول الله صلى الله
عليه وسلم راعنا , يريدون من " الرعونة " وهذا تعريض , فنهى عن
التعريض.
قال أبو محمد: وهذا حجة عليهم لا لهم لوجوه : أولها : أننا لم نخالفهم
في أن " التعريض " لا يجوز , فيحتجوا بهذا , وإنما خالفناهم في هل فيه
حد أم لا ؟ وليس في هذه الآية لو صح استدلالهم بها إلا النهي عن
التعريض فقط وليس فيها إيجاب حد فيه أصلا , فظهر تمويههم بالآية .
والثاني : أن الله تعالى لم يحد الذين عرضوا بهذا التعريض فكيف يحتجون
بها في إيجاب الحد والثالث : أن الله تعالى إنما نهى عن قول " راعنا "
من لا يظن به تعريض أصلا , فهم الصحابة - رضي الله عنهم . فصح يقينا
أنه لم ينه عز وجل عن لفظة " راعنا " من أجل التعريض , بل كما شاء
تعالى , لا لعلة أصلا , والحد في ذلك ساقط لا ينسند أصلا . فبطل تعلقهم
بالآية جملة , وصح أنها حجة عليهم - وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد: فلما بطل قول من رأى الحد في التعريض : وجب أن ننظر في
قول الطائفة الأخرى , فوجدناهم يذكرون قول الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ
أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ففرق عز وجل بين حكم التصريح وبين حكم التعريض
تفريقا لا يختل على ذي حس سليم , وإذا كانا شيئين مختلفين ليس لأحدهما
حكم الآخر فلا يجوز ألبتة أن يجعل في أحدهما ما جعل في الآخر بغير نص
ولا إجماع . وذكروا ما روينا من طريق مسلم ني أبو الطاهر , وحرملة -
واللفظ لحرملة - قالا جميعا : نا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: "أن أعرابيا أتى إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود وأنا
أنكره ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل ؟ قال : نعم ,
قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر , قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم ,
قال رسول الله فأنى هو ؟ فقال لعله يا رسول الله نزعه عرق له فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لعله نزعه عرق له" حدثنا حمام نا ابن
مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال
ني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : ولدت امرأتي غلاما أسود - وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه - فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم ألك إبل ؟ قال : نعم , قال : ما ألوانها ؟
قال : حمر , قال : أفيها أورق ؟ قال : نعم , فيها ذود ورق قال : مم ذاك
ترى ؟ قال : لا أدري لعله أن يكون نزعه عرق , قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهذا لعله أن يكون نزعه عرق" ولم يرخص له في الانتفاء منه .
حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب
(11/279)
أخبرني
إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أخبرني النضر بن شميل نا حماد بن
سلمة أنا هارون بن زياد عن عبد الله بن عبد الله بن عمير عن ابن عباس:
"أن رجلا قال : يا رسول الله إن تحتي امرأة جميلة لا ترد يد لامس ؟ قال
: طلقها , قال : إني لا أصبر عنها , قال : فأمسكها".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه الأحاديث كلها في غاية الصحة موجبة أنه
لا شيء في التعريض أصلا ; لأن الأعرابي الذي ذكر أن امرأته ولدت ولدا
أسود وعرض بنفيه وكان من بني فزارة - ذكر ذلك الزهري - فلم ير رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حدا ولا لعانا - وكذلك الذي قال : " إن
امرأتي لا ترد يد لامس" فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك
حدا ولا لعانا - وقد أوجب عليه السلام الحد واللعان على من صرح - وكذلك
قوله عليه السلام: "لولا ما سبق من كتاب الله لكان لي ولها شأن". وقال
عليه السلام: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه" تعريض صحيح ,
وأنكر للمنكر دون تصريح , لكن بظن لا يحكم به ولا يقطع به - وكذلك قول
ابن عباس : تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام , تعريض صحيح . حدثنا
عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا إسحاق بن
إبراهيم نا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عائشة قالت: "اختصم سعد بن أبي
وقاص , وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة فقال سعد : أوصاني أخي عتبة إذا
قدمت مكة فأنظر ابن أمة زمعة فهو ابني , وقال عبد : هو ابن أمة أبي ولد
على فراش أبي ؟ فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبها بينا بعتبة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة"
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشار إشارة لم يقطع بها , بل
خالف وظن أنه من ماء عتبة , ولم ير حدا على سعد بن أبي وقاص , إذ نسب
ولد زمعة إلى أخيه . فهذه آثار رواها من الصحابة - رضي الله عنهم -
جماعة عائشة , وأبو هريرة , وأنس , وابن عباس , فصارت في حد التواتر
موجبة للعلم , مبطلة قول من رأى : أن في التعريض حدا , بل صح بها : أن
من عرض لغير سبب لكن لشكوى على حديث الأعرابي , أو تورعا على حديث ابن
وليدة - زمعة - أو إنكارا للمنكر على حديث ابن عباس , وعلى حديث أنس ,
فلا شيء في ذلك أصلا , لا إثم ولا كراهية ولا إنكار ; لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال ذلك , وقيل بحضرته فلم ينكره . وأما طريق
الإجماع - فإن الأمة كلها لا تختلف , والمالكيون في جملتهم على أن من
أظهر السوء من رجل , أو امرأة , كانفراد الأجنبيين , ودخول الرجل منزل
المرأة تسترا , فواجب على المسلمين إنكار ذلك , ورفعه إلى الإمام ,
وهذا بيقين تعريض , وإلا فأي شيء ينكرون من ذلك . والعجب كل العجب أنهم
يرون الحد في التعريض وهم
(11/280)
يصرحون
بالقذف ولا يرون في ذلك شيئا , وذلك إقامتهم حد الزنى على الحبلى وما
ثبت قط عليها زنا , فهم يدعون أنهم يسقطون الحدود بالشبهات وهذان
مكانان أقاموا الحد بالشبهات فيهما , وهما : حد القذف على من عرض ولم
يصرح - وحد الزنا على من حملت ولا زوج لها ولا سيد - وبالله تعالى
التوفيق.
قال أبو محمد: وصح أن لا حد في التعريض أصلا ؟ فإن قال المعرض به :
أحلفه ما أراد قذفي , لم يكن له ذلك , ولا يحلف هاهنا أصلا ; لأنه لم
يقذفه , وإنما ادعى عليه أنه أراد قذفه فقط , ولا خلاف بين أحد من
الأمة كلها في أن من ادعى على آخر أنه أضمر قذفه ولم يقذفه , فإنه لا
تحليف في ذلك , لصحة الإجماع على أن من أضمر قذفا ولم ينطق به , فإنه
لا حد في ذلك أصلا , حتى أقر بذلك امرؤ على نفسه - وهذا المعرض فلم
ينطق بالقذف ولا شيء في ذلك أصلا . وأما من ادعى عليه أنه صرح بالقذف
وهو منكر فلا تحليف في ذلك أيضا ; لأن الحد في ذلك من حدود الله تعالى
وحقوقه لا من حقوق الآدميين , فإنما يحلف بالله ما آذيتك , ولا شتمتك
ويبرأ - وبالله تعالى التوفيق .
(11/281)
من قذف
انساناً قد ثبت عليه الزنا حد فيه أو لم يحد
...
2232 - مسألة : من قذف إنسانا قد ثبت عليه الزنا وحد فيه أو لم يحد:
قال أبو محمد:قد جاءت في هذا آثار : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن
الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال
: إذا جلد الرجل في حد ثم أونس منه تركه فعيره به إنسان نكل به . وبه -
إلى عبد الرزاق نا ابن جريج عن عطاء قال : على من أشاع الفاحشة نكل ,
وإن صدق . وعن الزهري : قال : لو أن رجلا أصاب حدا في الشرك ثم أسلم
فعيره به رجل في الإسلام نكل . وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال :
دخل رجلان على عمر بن عبد العزيز فقال أحدهما : إنه ولد زنا ؟ فطأطأ
الآخر رأسه , فقال عمر : ما يقول هذا ؟ فسكت , واعترف , فأمر عمر
بالقائل ذلك له فلم يزل يجأ قفاه حتى خرج من الدار . وعن ابن شهاب أنه
قال : لا نرى على من قذف رجلا جلد الحد بعد أن يحلف القاذف بالله ما
أردت حين قلت له ما قلت إلا الأمر الذي جلد فيه الحد . وقال ابن شهاب
في رجل قال لآخر : يا ابن الزانية - وكانت جدته قد زنت - أنه يحلف
بالله الذي لا إله إلا هو أنه لم يرد إلا جدته التي أحدثت ثم لا يكون
عليه شيء . وعن سفيان الثوري أنه قال في الرجل يجلد الحد فيقول له رجل
: يا زاني , قال : يستجب بالدرة ويعزر - ومنا من يقول : إذا أقيم الحد
جلد من
(11/281)
قذف -
وممن قال بجلده : ابن أبي ليلى.
قال أبو محمد:والذي نقول به - وبالله تعالى التوفيق - إن الله تعالى
قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد ذكرنا فيما سلف من
كتابنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي تزني أمته: "فليجلدها
ولا يثرب" فصح أن التثريب على الزاني حرام , وأن إشاعة الفاحشة حرام ,
ولا يحل - بلا خلاف - أذى المسلم بغير ما أمر الله تعالى أن يؤذى به .
فصح من هذا أن من سب مسلما بزنا كان منه , أو بسرقة كانت منه , أو
معصية كانت منه , وكان ذلك على سبيل الأذى - لا على سبيل الوعظ
والتذكير الجميل سرا : لزمه الأدب ; لأنه منكر . وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم
يستطع فبلسانه" فهذا الحديث بيان ما قدمنا نصا ; لأن فيه أباح تغيير
المنكرات باليد واللسان , فمن بكت آخر بما فعل على سبيل الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر فهو محسن , ومن ذكره على غير هذا الوجه فقد أتى منكرا
- ففرض على الناس تغييره ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام". فصح أن عرض كل أحد
حرام إلا حيث أباحه النص أو الإجماع , وسواء عرض العاصي وغيره - وبالله
تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فإن قذف إنسان إنسانا قد زنى بزنا غير الذي ثبت عليه ,
وبين ذلك , وصرح , فعلى القاذف الحد - سواء حد المقذوف في الزنى الذي
صح عليه أو لم يحد - ; لأنه محصن عن كل زنا لم يثبت عليه , وقد قلنا إن
" الإحصان " هو المنع فمن منع بشيء أو امتنع منه فهو محصن عنه , فإذ هو
محصن فعليه الحد بنص القرآن .
(11/282)
2233 -
مسألة : فيمن انتفى من أبيه:
قال علي : نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ
نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا المسعودي عن القاسم بن عبد
الرحمن : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه أتي برجل انتفى عن أبيه
فقال أبو بكر : اضرب الرأس , فإن الشيطان في الرأس.
قال أبو محمد: يلزم القائلين بإيجاب الحد في النفي عن الأب , أو عن
النسب : أن يقيم حد القذف كاملا على من انتفى من أبيه , أو على من نفى
ولده من نفسه , وإلا فقد تناقضوا - وأما نحن , فقد بينا قبل أن هاهنا
التعزير فقط , ولا حد في ذلك - وبالله تعالى التوفيق .
(11/282)
حكم من قال لآخر أنت ابن فلان ونسبه إلى عمه أو خاله أو زوج أمه أو
أجنبي
...
2234 - مسألة : من قال لآخر : أنت ابن فلان - ونسبه إلى عمه , أو خاله
, أو زوج أمه , أو أجنبي:
قال أبو محمد: قال قوم : في كل هذا الحد - وهو خطأ , ولكن الحكم في هذا
: أن ما كان من ذلك على سبيل الحق والخير , فهو فعل حسن وقول حسن ,
وأما ما كان من ذلك مشاتمة , أو أذى , أو تعريضا , ففيه التعزير فقط ,
ولا حد في ذلك , برهان ما ذكرنا : قول الله تعالى حاكيا عن ولد يعقوب
عليه السلام إذ قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} فجعلوا عمه إسماعيل - عليه
السلام - أبا له , ولم ينكر الله تعالى ذلك , ولا يعقوب - عليه السلام
وهو نبي الله تعالى . وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}
وقد علمنا يقينا أن في المسلمين خلائق ليس لإبراهيم - عليه السلام - في
ولادتهم نسب . وأما زوج الأم - فإن أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي
قال : نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت نا أحمد بن عمرو بن عبد
الخالق البزار نا إبراهيم بن سعيد الجوهري نا أبو أسامة نا محمد بن
عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: "أن أبا طلحة صنع طعاما للنبي
صلى الله عليه وسلم فأرسل أنس بن مالك فجاء حتى دخل المسجد - ورسول
الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه - فقال دعانا أبوك ؟ فقال : نعم ,
قال : قوموا" قال أنس : فأتيت أبا طلحة , فذكر الحديث . حدثنا حمام نا
ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام
بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: "كانت أم عمير بنت سعد عند الجلاس بن
سويد فقال الجلاس بن سويد في غزوة تبوك : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن
أشر من الحمير , فسمعها عمير فقال : والله إني لأخشى إن لم أرفعها إلى
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل القرآن فيه , وأن أخلط بخطبته ,
ولنعم الأب هو لي , فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فدعا النبي عليه
السلام الجلاس فعرفه فتحالفا فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فسكتوا فلم يتحرك أحد - كذلك كانوا يفعلون لا يتحركون إذا نزل الوحي -
فرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا
قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى قوله {فَإِنْ
يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} فقال الجلاس : استتب لي ربي يا رسول
الله , فإني أتوب إلى الله , وأشهد له بصدق , قال عروة : فما زال عمير
منها بعلياء حتى مات"
قال أبو محمد: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "عن الربيب أب
, وينسب إلى الرجل ابن امرأته" فيقول له : أبوك - وهذا أنس , وعمير بن
سعد من أهل اللغة والديانة يقولان بذلك ؟
قال أبو محمد: وهذا قول أبي حنيفة , وأبي سليمان - وأصحابنا - وبه نأخذ
.
(11/283)
حكم من قال لآخر يالوطي أو يامخنث
...
2236 - مسألة : فيمن قال لآخر : يا لوطي , أو يا مخنث
قال علي: نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ
نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا أبو هلال عن قتادة أن رجلا
قال لأبي الأسود الدؤلي : يا لوطي ؟ قال يرحم الله لوطا . وبه - إلى
أبي هلال عن عكرمة في رجل قال لآخر : يا لوطي ؟ قال عكرمة : ليس عليه
حد . وعن الزهري , وقتادة أنهما قالا جميعا في رجل قال لرجل : يا لوطي
؟ أنه لا يحد - وبه يقول أبو حنيفة , وأبو سليمان , وأصحابنا . وقال
آخرون : لا حد في ذلك إلا أن يبين : كما روينا بالسند المذكور إلى عبد
الرزاق : أخبرني ابن جريج قال : قلت لعطاء في رجل قال لآخر : يا لوطي ؟
قال : لا حد عليه حتى يقول : إنك لتصنع بفلان , وبه - إلى عبد الرزاق
عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أنه قال في
رجل قال لآخر : يا لوطي ؟ قال : نيته يسأل عما أراد بذلك . وقالت طائفة
: عليه الحد - كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم
بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سعيد بن حسان عن عبد
الحميد بن جبير بن شيبة أن رجلا قال لرجل : يا لوطي ؟ فرفع إلى عمر بن
عبد العزيز , فجعل عمر يقول : يا لوطي , يا محمدي - فكأنه لم ير عليه
الحد , وضربه بضعة عشر سوطا , ثم أرسل إليه من الغد فأكمل له الحد .
وبه - إلى وكيع نا أبو هلال عن الحسن البصري في الرجل يقول للرجل : يا
لوطي ؟ قال : عليه الحد . وبه - إلى وكيع عن الحسن بن صالح بن حي عن
منصور عن إبراهيم النخعي في فعل قوم لوط ؟ قال : يجلد من فعله ومن رمى
به وبه - إلى وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر الشعبي في الرجل يقول
للرجل : يا لوطي ؟ قال : يجلد ؟ قال أبو محمد:قول إبراهيم النخعي ,
والشعبي : يجلد , ليس فيه بيان أنهما أرادا الحد , وقد يمكن أن يريدا
جلد تعزير . وبإيجاب الحد على من رمى به يقول مالك , والشافعي . وهو
الخارج على قول أبي يوسف , ومحمد بن الحسن ؟ قال أبو محمد:فلما اختلفوا
وجب أن ننظر في ذلك فوجدنا هذه المسألة - يعني من رمى آخر : بأنه ينكح
الرجال , أو بأنه ينكحه الرجال - إنما هي معلقة بالواجب في قوم لوط ,
فإن كان زنى فالواجب في الرمي به حد القذف بالزنى , وإن كان ليس زنى
فلا يجب في الرمي به حد القذف بالزنا - وسنستقصي الكلام في هذه المسألة
- إن شاء الله تعالى - في باب مفرد له إثر كلامنا في حد السرقة , وحد
الخمر - ولا حول ولا قوة إلا بالله - وهو ليس عندنا زنا فلا حد في
الرمي به . وأما أبو يوسف , ومحمد بن الحسن فهو عندهما زنا أو مقيس على
الزنا فالحد عندهما في القذف به . وأما مالك , والأشهر من أقوال
الشافعي
(11/284)
فهو عندهم
خارج من حكم الزنا ; لأنهما يريان فيه الرجم - أحصن أو لم يحصن - فإذ
هو عندهم ليس زنا , وإنما حكمه المحاربة أو الردة ; لأنه لا يراعى فيه
إحصان من غيره , فكان الواجب - على قولهما - أن لا يكون فيه حد الزنا -
وهو مما تناقضوا فيه أفحش تناقض , فلم يتبعوا فيه نصا ولا قياسا . فإن
قالوا : إن الرمي بذلك حرم ؟ قلنا : نعم , وإثم , ولكن ليس كل حرام ,
وإثم : تجب فيه الحدود , فالغصب حرام ولا حد فيه , وأكل الخنزير حرام
ولا حد فيه , والرمي بالكفر حرام ولا حد فيه . وأما من قال لآخر : يا
مخنث فإن القاضي حمام بن أحمد قال : نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا
الدبري نا عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن داود بن
الحصين عن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال
لرجل من الأنصار : يا يهودي , فاضربوه عشرين , ومن قال لرجل : يا مخنث
فاضربوه عشرين"
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا ليس بشيء , وذلك ; لأنه مرسل , والمرسل
لا تقوم به حجة . ثم هو أيضا من رواية إبراهيم بن أبي يحيى - وهو في
غاية السقوط . ولو كان هذا صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأوجبناه حدا , ولكنه لا يصح , فلا يجب القول به , ولا حد في شيء مما
ذكروا - وإنما هو التعزير فقط للأذى ; لأنه منكر , وتغيير المنكر واجب
, لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق.
(11/285)
2237 -
مسألة : من رمى إنسانا ببهيمة:
قال أبو محمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم
بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب نا ابن أبي ذئب عن الزهري أنه
قال : من رمى إنسانا ببهيمة , فعليه
الحد . وبه - إلى ابن وهب نا ابن سمعان عن الزهري قال : من رمي بذلك -
يعني ببهيمة - جلد ثمانين . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا
الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : من قذف رجلا ببهيمة جلد
حد الفرية . وقالت طائفة : لا حد في ذلك - كما روينا من طريق عبد
الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر الجعفي قال : سألت الشعبي عن رجل قذف
ببهيمة أو وجد عليها ؟ قال : ليس عليه حد . حدثنا عبد الله بن ربيع نا
ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يونس
بن يزيد عن ربيعة أنه قال فيمن يقذف ببهيمة ؟ قال : قد قذف بقول كبير ,
والقائل أهل للنكال الشديد , ورأي السلطان فيه . وأما الحنفيون ,
والمالكيون , والشافعيون , وأصحابنا الظاهريون , فلا يرون في ذلك حدا
أصلا - وهذا تناقض من الحنفيين , والمالكيين , والشافعيين في ذلك , إذ
يرون الحد على من قذف بفعل قوم لوط , ولا يرون الحد على
(11/285)
من قذف
ببهيمة - وكل ذلك مختلف فيه كما أوردنا . وكل ذلك لا نص في إيجاب الحد
في الرمي به - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: وهم لا يجدون عن أحد من الصحابة إيجاب حد على
من رمى إنسانا بفعل قوم لوط , ونحن نوجدهم عن الصحابة - رضي الله عنهم
- إيجاب حد حيث لا يوجبونه , كما نذكر إن شاء الله تعالى.
(11/286)
2238 -
مسألة : فيمن فضل على أبي بكر الصديق , أو افترى على القرآن:
كما نا أحمد بن عمر بن أنس العذري نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا
إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أبو قلابة نا
محمد بن بشار - بندار - نا محمد بن جعفر غندر - نا شعبة عن حصين بن عبد
الرحمن عن ابن أبي ليلى : أن الجارود بن العلاء العبدي قال : أبو بكر
خير من عمر ؟ فقال رجل من ولد حاجب بن عطارد : عمر خير من أبي بكر :
فبلغ عمر , فضرب بالدرة الحاجبي حتى شغر برجله ؟ وقال : قلت : عمر خير
من أبي بكر , إن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أخير
الناس في كذا وكذا - من قال غير ذلك وجب عليه حد المفتري
قال أبو محمد رحمه الله: هكذا في كتاب العذري : من ولد حاجب بن عطارد -
وهو خطأ - والصواب : من ولد عطارد بن حاجب بن زرارة قال علي : إنما
أخبر عمر في هذا الخبر : أن أبا بكر أخير الناس في كذا وكذا - أشياء
ذكرها - لا على العموم , وقد يكون المرء خيرا في شيء ما من آخر خير منه
في أشياء , فقد عذب بلال في الله تعالى بما لم يعذب أبو بكر , وجالد
على ما لم يجالد أبو بكر , وأبو بكر خير منه على العموم - وفي أشياء
غير هذا كثيرة . وبالسند المذكور - إلى ابن الجهم نا محمد بن بشر نا
الهيثم , والحكم , قالا جميعا : نا شهاب بن خراش عن الحجاج بن دينار عن
أبي معشر عن إبراهيم قال : سمعت علقمة ضرب بيده على منبر الكوفة , قال
: سمعت عليا - عليه السلام - يقول : بلغني أن قوما يفضلونني على أبي
بكر , وعمر ؟ من قال شيئا من هذا فهو مفتر , عليه ما على المفتري . وبه
- إلى ابن الجهم نا أبو قلابة نا الحجاج بن المنهال نا محمد بن طلحة عن
أبي عبيدة بن حجل أن علي بن أبي طالب قال : لا أوتى برجل فضلني على أبي
بكر , وعمر , إلا جلدته حد المفتري . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا
عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا
وكيع نا إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي , قال : استشارهم عمر في
الخمر ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف
(11/286)
من افترى
على القرآن أرى أن يجلد ثمانين . حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله
بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن
المنهال نا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن جحادة بن دثار أن ناسا
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربوا الخمر بالشام وأن يزيد بن
أبي سفيان كتب فيهم إلى عمر فذكر الحديث - وفيه : أنهم احتجوا على عمر
بقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} فشاور فيهم الناس
, فقال لعلي : ماذا ترى ؟ فقال : أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم
يأذن به , فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم , فإنهم قد أحلوا ما حرم الله
تعالى , وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين , فقد افتروا على
الله الكذب , وقد أخبر الله تعالى بحد ما يفتري به بعضنا على بعض ؟
قال أبو محمد رحمه الله: هم يعظمون - يعني الحنفيين , والمالكيين - قول
الصاحب وحكمه إذا وافق تقليدهم وأهواءهم , وهم هاهنا قد خالفوا الصحابة
- رضي الله عنهم - فلا يرون على من فضل عمر على أبي بكر حد الفرية ,
ولا على من فضل عليا عليهما حد الفرية , ولا يرون على من افترى على
الله تعالى وعلى القرآن , حد الفرية , لكن يرون القتل إن بدل الدين ,
أو لا شيء إن كان متأولا . هذا , وهم يحتجون بقول علي , وعبد الرحمن ,
في هذين الخبرين في إثبات ثمانين في حد الخمر , نعم , وفي إثبات القياس
؟ وقد خالفوهما في إيجاب حد الفرية على من افترى على الله كذبا . فلئن
كان قول علي , وعبد الرحمن , حجة في إيجاب حد الخمر , وفي القياس ,
فإنه حجة في إيجاب حد الفرية على من افترى على الله تعالى كذبا وعلى
القرآن . ولئن كان قولهما ليس بحجة في إيجاب حد الفرية على من افترى
على الله تعالى , وعلى القرآن , فما قولهما حجة في إيجاب القياس , ولا
في إيجاب ثمانين في الخمر ولا فرق - وبالله تعالى التوفيق . وهذا يليح
لمن أنصف نفسه أنه ليس كل فرية يجب فيها الحد , فإذ ذلك كذلك فلا حد
إلا في الفرية بالزنا , لصحة النص , والإجماع على ذلك . وبالله تعالى
التوفيق .
(11/287)
2239 -
مسألة : عفو المقذوف عن القاذف:
قال أبو محمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم
بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ربيعة
أنه قال في رجل قال للإمام : افترى علي فلان , أو رمى أمي ؟ فيقول
الإمام : أفعلت ؟ فيقول : نعم , قد فعلت , فيقول الآخر : قد أعفيته ؟
فينبغي للإمام أن يقول للمفترى عليه : أنت أبصر - ولا يكشفه لعله يكشف
غطاء لا يحل كشفه , فإن عاد يلتمس ذلك الحد كان ذلك له . وبه - إلى ابن
وهب ني مالك بن أنس أن زريق بن الحكم حدثه . قال : افترى رجل - يقال له
مصباح - على ابنه , فقال له : يا زاني , فرفع ذلك إلي
(11/287)
فأمرت
بجلده , فقال : والله لئن جلدته لأقرن على نفسي بالزنا ؟ فلما قال ذلك
لي أشكل علي ؟ فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز أذكر ذلك له , فكتب عمر إلي
: أن أجز عفوه في نفسه ؟ قال زريق : فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز في
الرجل يفتري عليه أبواه , أيجوز عفوه عنهما ؟ فكتب عمر إلي : خذ له
بكتاب الله تعالى , إلا أن يريد سترا حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن
الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية أخبرني
زريق بن حكيم أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في رجل قذف ابنه : أن
اجلده , إلا أن يعفو ابنه عنه . قال ابن زريق : فظننت أنها للأب خاصة ,
فكتبت إلى عمر أراجعه : للناس عامة أم للأب خاصة ؟ فكتب إلي : بل للناس
عامة . وقال آخرون : لا عفو في ذلك لأحد , كما روينا بالسند المذكور
إلى عبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب قال : لا عفو في
الحدود عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام , فإن إقامتها من السنة . وبه -
إلى عبد الرزاق عن معمر , وابن جريج كلاهما عن الزهري , قال : إذا بلغت
الحدود السلطان فلا يحل لأحد أن يعفو عنها قال ابن جريج , ومعمر - يعني
الفرية - وقد روي هذا القول عن الحسن البصري - وبه يقول أبو سليمان ,
وأصحابنا . وهو قول الأوزاعي , والحسن بن حي . وقال أبو حنيفة ,
وأصحابه : لا يجوز العفو عن الحد في القذف . وروي عن أبي يوسف - في أحد
قوليه - وعن الشافعي , وأصحابه , وأحمد بن حنبل , وأصحابه : أن العفو
في ذلك جائز قبل بلوغ الأمر إلى الإمام , وبعد بلوغه إليه . وقال مالك
فيمن قذف آخر فثبت ذلك عند الإمام فأراد المقذوف أن يعفو عن القاذف ؟
قال : لا يجوز له العفو , إلا أن يريد سترا على نفسه خوف أن يثبت عليه
ما رمي به , فيجوز عفوه حينئذ . قال مالك : فإن أراد المقذوف أن يؤخر
إقامة الحد على القاذف له أو لأبويه كان ذلك له , ويأخذه به متى أحب ,
قال : فإن عفا عنه ثم أراد أخذه لم يكن له أخذه به.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك :
فوجدنا هذا الاختلاف مرجعه إلى أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون
الحد في القذف من حقوق الله تعالى , كالحد في الزنا , والحد في الخمر ,
والحد في السرقة , والحد في المحاربة - وإما أن يكون من حقوق الناس ,
كالقصاص في الأعضاء , والجنايات على الأموال . فإن كان الحد في القذف
من حقوق الله تعالى كسائر الحدود , فلا يجوز لأحد عفو فيه ; لأنه لا حق
له فيه , ولا فرق بين من سرق مال إنسان , أو زنى بأمته وافترى عليه ,
أو بامرأة أكرهها , وسرق مالا من مالها , وافترى عليها , فلم يختلفوا
في أنه ليس للرجل أن يعفو عن الزنا بأمته فيسقط عنه حد الزنا بذلك ,
ولا لهما أن يعفوا عمن
(11/288)
سرق
مالهما , أو قطع عليهما الطريق , فيسقط عنه حد السرقة بذلك , وحد
المحاربة . والمفرق بين القذف وبين ما ذكرنا : متحكم في الدين بلا دليل
. وإن كان الحد في القذف من حقوق الناس : فعفو الناس عن حقوقهم جائز :
فنظرنا في قول مالك , فوجدناه ظاهر التناقض ; لأنه إن كان حد القذف
عنده من حقوق الله تعالى - فلا يجوز عفو المقذوف - أراد سترا أو لم يرد
: لأن الله تعالى لم يجعل له إسقاط حد من حدود الله تعالى . وإن كان من
حقوق الناس فالعفو جائز لكل أحد في حقه - أراد سترا أو لم يرد - ويقال
لمن نصر هذا القول الظاهر الخطأ : ما الفرق بين هذا وبين من عفا عن
الزاني بأمته - وهو يريد تسترا على نفسه خوف أن يقيم الواطئ لها بينة
بأنها له غصبها منه الذي هي بيده الآن ؟ وبين من عفا عن سارق متاعه وهو
يريد سترا على نفسه خوف أن يقيم الذي سرقه منه بينة عدل أن الذي كان
بيده سرقه منه , وأنه مال من مال هذا الذي سرقه آخر , فهل بين شيء من
هذا كله فرق هذا ما لا يعرف أصلا , فسقط هذا القول جملة , لتناقضه ,
ولتعريه من الأدلة , ولأنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة - رضي الله
عنهم - ولا عن أحد من التابعين . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة : فوجدناه
قد تناقض ; لأنه جعله من حقوق الله تعالى , ولم يجز العفو عنه أصلا ,
فأصاب في ذلك - ثم تناقض مناقضة ظاهرة فقال : لا حد على القاذف إلا أن
يطالبه المقذوف , فجعله بهذا القول من حقوق المقذوف , وأسقطه بأن لم
يطلبه - وهذا تخليط ظاهر قال أبو محمد رحمه الله: وهذا لا حجة لهم فيه
- وقد نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا
قتيبة بن سعيد نا محمد بن أبي عدي عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي
بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم
المؤمنين قالت: "لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر
فأمر بالمرأة والرجلين فضربوا حدهم"
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد
القذف ولم يشاور عائشة أمنا - رضي الله عنها - أن تعفو أم لا ؟ فلو كان
لها في ذلك حق لما عطله عليه السلام وهو أرحم الناس , وأكثرهم حضا على
العفو فيما يجوز فيه العفو - فصح أن الحد من حقوق الله تعالى , لا مدخل
للمقذوف فيه أصلا ولا عفو له عنه . وأما من طريق الإجماع , فإن الأمة
مجمعة على تسمية الجلد المأمور به في القذف حدا , ولم يأت نص , ولا
إجماع بأن لإنسان حكما في إسقاط حد من حدود الله تعالى - فصح أنه لا
مدخل للعفو فيه . وأما من طريق النظر , فلو كان من حقوق الناس لكان
العفو المذكور في ذلك لا يجوز ألبتة إلا من المقذوف فيما قذف به , لا
فيما قذف به غيره من
(11/289)
أبيه ,
وأمه ; لأنه لا خلاف في أنه لا يجوز عفو أحد عن حق غيره - وهم يجيزون
عفو المرء عن قاذف أبيه الميت , وأمه الميتة - وهذا فاسد , وتناقض من
القول , والقوم أهل قياس . قد اتفقوا على أنه لا عفو للمسروق منه من
قطع يد سارقه , ولا للمقطوع عليه في الطريق في العفو عن القاطع عليه
للمحارب له , ولا للمزني بامرأته , وأمته , عن الزاني بهما فأي فرق بين
القذف وحد السرقة , ولا للمقطوع عليه الطريق في العفو عن القاطع . وأما
ما جاء عن الصحابة - رضي الله عنهم - فإن عمر جلد أبا بكرة , ونافعا ,
وشبل بن معبد , إذ رآهم قذفة - ولم يشاور في ذلك المغيرة - ولا رأى له
حقا في عفو أو غيره . فبطل قول من رأى العفو في ذلك جملة - وبالله
تعالى التوفيق .
(11/290)
حكم من قال لا مرأته يا زانية فقالت زنيت معك
...
2240 - مسألة : فيمن قال لامرأته : يا زانية ؟ فقالت : زنيت معك:
أو قال ذلك لرجل , فقال : أنت أزنى مني قال أبو محمد رحمه الله: حدثنا
عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي
بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن قتادة قال فيمن
قال لأمته : يا زانية , فقالت : زنيت بك , قال : تجلد تسعين . وبه -
إلى حماد بن سلمة عن أبي حرة عن الحسن في امرأة حرة قالت لآخر : زنيت
بك , قال : تجلد حدين.
قال أبو محمد: إذا قال الرجل للمرأة , أو قالت المرأة للرجل : زنيت بك
, فهذا اعتراف مجرد بالزنا وليس قذفا ; لأنه من قال هذا اللفظ فإنما
أخبر عن نفسه , أنه زنى ولم يخبر عن المقول له بزنا أصلا , وقد يزني
الرجل بالمرأة وهي سكرى , أو مجنونة , أو مغلوبة , أو وهي جاهلة وهو
عالم , وتزني المرأة بالرجل كذلك . وكمن ابتاع أمة فإذا بها حرة , فهي
زانية , وليس هو زانيا - فقائل هذا القول إن قاله معترفا فعليه حد
الزنا فقط , ولا شيء عليه غير ذلك , وإن قاله لها شاتما فليس قاذفا ولا
معترفا , فلا حد عليه - لا للزنى ولا للقذف - ولكن يعزر للأذى فقط .
فلو قال لها : زنينا معا , أو قالت له ذلك , فهذا إن كان قاله شاتما
فهو قذف صحيح عليه حد القذف فقط , وإن قاله معترفا فعليه حد الزنا فقط
. وكذلك على المرأة إن قالت ذلك ولا فرق حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن
مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يونس بن
يزيد عن الزهري , وربيعة , قالا جميعا فيمن قال لآخر : إني أراك زانيا
, فقال له الآخر : أنت أزنى مني - وهما عفيفان - فإنهما يجلدان الحد
معا - زاد ربيعة : لا يكون رجل أزنى من رجل حتى يكون زانيا - وقال مالك
: يضربان الحد جميعا.
(11/290)
قال أبو
محمد رحمه الله: أما قول ربيعة " لا يكون رجل أزنى من رجل حتى يكون
زانيا " فخطأ , والمستعمل في اللغة غير هذا : قال الله تعالى: {آلله
خير أما يشركون} ولا خير أصلا فيما يشركون . وقال تعالى: {أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وليس
في القرار في النار خير أصلا , ولا فيها من حسن المقيل لا كثير ولا
قليل - نعوذ بالله منها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب
الله أحق وشرط الله أوثق" وليس في شرط لغير الله شيء من الثقة , ولا في
غير كتاب الله تعالى في الدين شيء من الحق . وأما السنة والإجماع -
فهما داخلان في كتاب الله تعالى ; لأن كل ذلك عدل الله تعالى , فنظرنا
في هذا : فوجدنا من قال لآخر : أنت أزنى مني , ليس فيه اعتراف على نفسه
بالزنا , وإنما هو قذف صحيح , فواجب جلده حد القذف - وبالله تعالى
التوفيق .
(11/291)
حكم من ادعت أن فلانا استكرهها
...
2241 - مسألة : فيمن ادعت أن فلانا استكرهها:
قال علي: نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق
نا معمر عن الزهري , وقتادة قالا جميعا : في امرأة قذفت رجلا بنفسها
أنه غلبها على نفسها , والرجل ينكر ذلك , وليس لها بينة : فإنها تضرب
حد الفرية . حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا
أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن
سلمة أنا قتادة أن رجلا استكره امرأة فصاحت ؟ فجاء مؤذن فشهد لها عند
عمر بن عبد العزيز : أنه سمع صياحها , فلم يجلدها . حدثنا عبد الله بن
ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب
أخبرني عميرة بن أبي ناجية عن يزيد بن أبي حبيبة عن عمر بن عبد العزيز
: أنه أتته امرأة فقالت : إن فلانا استكرهني على نفسي ؟ فقال: هل سمعك
أحد أو رآك ؟ قالت : لا , فجلدها بالرجل - وهو عمرو بن مسلم , أو إسحاق
بن مسلم مولى عمرو بن عثمان - قال ابن وهب : سألت مالكا عن المرأة تقول
: إن فلانا أكرهني على نفسي ؟ قال : إن كان ليس مما يشار إليه بذلك ;
جلدت الحد , وإن كان مما يشار إليه بالفسق نظر في ذلك.
قال أبو محمد رحمه الله: هاهنا يرون عليه السجن الطويل , والأدب , وغرم
مهر مثلها - وهذه أقوال تدور على وجوه : إما جلدها حد القذف إن لم يكن
لها بينة - وهو قول الزهري , وقتادة . وإما إسقاط الحد عنها بشهادة
واحد : أنه سمع صياحها فقط - وهو عن عمر بن عبد العزيز - وإلا فتجلد .
وإما أن يدرأ عنها الحد بأن يرى معها خاليا , ويؤثر فيه أثرا , أو يسمع
صياحها - وهو قول ربيعة - وهو أيضا قول يحيى بن
(11/291)
سعيد
الأنصاري , وزاد : أن يعاقب الرجل المدعى عليه - إن كان ذلك - أشد
العقوبة إن ظهر بشيء مما ذكرنا , وإلا فالحد على المرأة حد القذف .
وإما أن ينظر , فإن كان المدعى عليه من أهل العافية جلد حد القذف - وإن
كان ممن يشار إليه بالفسق فلا شيء عليها , ويسجن هو ويطال سجنه , ويغرم
مهر مثلها - وهو قول مالك.
قال أبو محمد رحمه الله: أما قول مالك - فظاهر الخطأ ; لأنه فرق في
الادعاء بين المشار إليه بالخير , والمشار إليه بالفسق , ولم يوجب
الفرق بين شيء من ذلك قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , ولا قياس , ولا قول
صاحب وقد أجمعت الأمة كلها على أن رجلا يدعي دينا على آخر , والمدعى
عليه منكر : فإنه يحلف - ولو أنه أحد الصحابة - رضي الله عنهم - وقد
قضى باليمين علي وعمر , وعثمان وابن عمر , وغيرهم - رضي الله عنهم -
ولا أحد أفضل منهم , ولا أبعد من التهمة , والدعوى بجحد المال , والظلم
, والغصب كالدعوى بالغلبة في الزنا , ولا فرق ; لأن كل ذلك حرام ,
ومعصية . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أعطي قوم بدعواهم
لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على من ادعي عليه" وقال عليه
السلام لصاحب من أصحابه اختصما: "بينتك أو يمينه" وقد أجمعت الأمة ,
ومالك معهم على أن مسلما برا فاضلا عدلا - ولو أنه أحد الصحابة رضي
الله عنهم - : ادعى مالا على يهودي , أو نصراني , ولا بينة له أن
اليهودي , أو النصراني : يبرأ من ذلك بيمينه , وأن الكافر لو ادعى ذلك
على المسلم لأحلف له , فكيف يقضي لها بدعواها , فيغرمه مهرها من أجل
أنه فاسق , ولا فاسق أفسق من كافر , قال الله تعالى الكافرون هم
الفاسقون فهذان وجهان من الخطأ ؟ وثالث - وهو القضاء عليه بالسجن
والعقوبة دون بينة - وهذا ظلم ظاهر لا خفاء به . ورابع - هو أنه لا
يخلو من أن يكون يصدقها أو يكذبها , ولا سبيل إلى قسم ثالث - فإن كان
يصدقها فينبغي له أن يقيم عليها حد الزنا وإلا فقد تناقض وضيع حدا لله
تعالى , وإن كان يكذبها فبأي معنى يسجنه ويغرمه مهر مثلها , فيؤكلها
المال بالباطل , ويأخذ ماله بغير حق . وخامس - وهو أنه إن تكلمت - وكان
المدعى عليه معروفا بالعافية : جلدها حد القذف , وإن مكثت , فظهر بها
حمل : رجمها إن كانت محصنة - وهذا ظلم ما سمع بأشنع منه , وحرج في
الدين لم يجعله الله تعالى قط فيه , ولا يحفظ عن أحد فرق هذا التفريق
قبل مالك - وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك - فوجدنا الله تعالى يقول:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} الآية ؟ ففعلنا - فوجدنا الله تعالى قد أوجب الحد على من
(11/292)
رمى أحدا
بالزنا , إلا أن يأتي ببينة . ثم نظرنا في التي تشتكي بإنسان : أنه
غلبها على نفسها ؟ فوجدناها لا تخلو من أن تكون قاذفة , أو تكون غير
قاذفة , فإن كانت قاذفة فالحد واجب عليها بلا شك , إذ لا خلاف في أن
قاذف الفاسق يلزمه الحد , كقاذف الفاضل , ولا فرق . والقذف هو ما قصد
به العيب والذم وهذه ليست قاذفة إنما هي مشتكية مدعية , وإذ ليست قاذفة
فلا حد للقذف عليها , ولكن تكلف البينة , فإن جاءت بها أقيم عليه حد
الزنا , وإن لم تأت بها فلا شيء عليه أصلا , لا سجن , ولا أدب , ولا
غرامة ; لأن ماله محرم , وبشرته محرمة , ومباح له المشي في الأرض , قال
الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}. فإن قال قائل : فإن لم تكن
بينة فاقضوا عليه باليمين بهذا الخبر ؟ قلنا : وبالله تعالى التوفيق -
إن دعواها انتظم حقا لها وحقا لله تعالى , ليس لها فيه دخول ولا خروج ؟
فحقها : التعدي عليها وظلمها , وحق الله تعالى : هو الزنا , فواجب أن
يحلف لها في حقها , فيحلف بالله ما تعديت عليك في شيء , ولا ظلمتك
وتبرأ ذمته . ولا يجوز أن يحلف بالله ما زنى ; لأنه لا خلاف في أن أحدا
لا يحلف في حق ليس له فيه مدخل . ولا يختلف اثنان في أن من قال : إنك
غصبتني وزيدا دينارا , فإنه إنما يحلف له في حقه من الدينار لا في حق
زيد , وهكذا في كل شيء . وأما الفرق بين الذم والشكوى , فإنهم لا
يختلفون فيمن قال لآخر - ابتداء أو في كلام بينهما - يا ظالم , يا غاصب
, أنه مسيء - فمن قائل : عليه الأدب , ومن قائل : لآخر أن يقول له مثل
ذلك . ولا يختلفون فيمن شكا بآخر فقال : ظلمني وأخذ مالي بغير حق , أنه
لا شيء عليه وأنه ليس مسيئا بذلك فصح الفرق بين الشكوى وبين الاعتداء
بالسب والقذف - وبالله تعالى التوفيق.
(11/293)
حكم من قذف وهو سكران
...
2242 - مسألة : فيمن قذف وهو سكران:
قال أبو محمد رحمه الله: قد ذكرنا في مواضع كثيرة حكم السكران وأنه غير
مؤاخذ بشيء أصلا إلا حد الخمر فقط , إلا أننا نذكر عمدة حجتنا في ذلك
باختصار - إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}. فشهد الله تعالى وهو أصدق شاهد : أن
السكران لا يدري ما يقول , وإذ لم يدر ما يقول فلا شيء عليه , ولم
يختلف أحد من الأمة في أن امرأ لو نطق بلفظ لا يدري معناه - وكان معناه
كفرا , أو قذفا , أو طلاقا - فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك , فإذا كان
السكران لا يدري ما يقول , فلا يجوز أن يؤاخذ بشيء مما يقول , قذفا كان
أو غير قذف . فإن قالوا : كان هذا قبل تحريم الخمر ؟ قلنا : نعم , فكان
ماذا ؟ والأمة كلها مجمعة بلا خلاف من أحد منها على أن حكم هذه الآية
باق لم ينسخ , وأنه لا يحل لسكران أن يقرب الصلاة حتى يدري ما يقول .
وكذلك لا يختلف اثنان
(11/293)
من ولد
آدم في أن حال السكران في أنه لا يدري ما يقول باق كما كان لم يحله
الله تعالى عن صفته . فإن قالوا : هو أدخل ذلك على نفسه ؟ قلنا : نعم ,
وهذا لا فائدة لكم فيه لوجوه : أولها - أن هذا تعلل لا يوجب حكما ;
لأنه لم يأت بهذا التعليل قرآن , ولا سنة ولا إجماع الثاني - إنا
نسألكم عمن أكره على شرب الخمر , ففتح فمه كرها بأكاليب وصب فيه الخمر
حتى سكر , فإن هذا لا خلاف في أنه غير آثم , ولا في أنه لم يدخله على
نفسه , فينبغي أن يكون حكمه عندكم بخلاف حكم من أدخله على نفسه , فلا
تلزموا هذا المكره شيئا مما قال في ذلك السكر , وإلا فقد تناقضتم .
والثالث - إنا نسألكم عمن شرب البلاذر فجن , أو تزيد فقطع عصب ساقيه
فأقعد , أيكون لذلك المجنون حكم المجانين في سقوط جميع الأحكام عنه ,
أو تكون الأحكام لازمة له من أجل أنه أدخل ذلك على نفسه ؟ وهل يكون
للذي أبطل ساقيه عمدا أو أشرا ومعصية لله تعالى حكم المقعد في الصلاة
وسقوط الحج وغير ذلك ؟ أم لا يسقط عنه شيء من ذلك من أجل إدخاله ذلك
على نفسه ؟ فمن قولهم - بلا خلاف - إن لهما حكم سائر المجانين , وسائر
القاعدين . فبطل تعلقهم بأن السكران أدخل ذلك على نفسه . وقد صح أن
حمزة رضي الله عنه – قال: "لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلي بن أبي
طالب , وزيد بن خالد : هل أنتم إلا عبيد لآبائي - وهو سكران - فلم
يعنفه على ذلك" ولو قالها صحيحا لكفر بذلك , وحاش له من ذلك . فصح أن
السكران إذا ذهب تمييزه فلا شيء عليه - لا في القذف ولا في غيره - ;
لأنه مجنون لا عقل له . فإن قالوا : قد جاء عن بعض الصحابة - رضي الله
عنهم - إذا شرب سكر , وإذا سكر هذى , وإذا هذى افترى , وإذا افترى جلد
ثمانين ؟ قلنا : حاشى لله أن يقول صاحب هذا الكلام الفاسد ؟ هم والله ,
أجل , وأعقل , وأعلم , من أن يقولوا هذا السخف الباطل , ويكفي منه
إجماعهم على أن من هذى فلا حد عليه , ولو كفر , أو قذف , فهم يحتجون
بما هم أول مخالف له , وأحضر مبطل لحكمه - ونعوذ بالله من مثل هذا .
وسنتكلم - إن شاء الله تعالى - في إبطال هذا الخبر من طريق إسناده ,
ومن تخاذله وفساده في كلامنا في " حد الخمر " من ديواننا هذا إن شاء
الله تعالى فإن قالوا : ومن يدري أنه سكران , ولعله تساكر ؟ قيل لهم :
قولوا هذا بعينه في المجنون : ومن يدري أنه مجنون , ولعله متحامق ,
وأنتم لا تقولون هذا , بل تسقطون عنه الأحكام والحدود , فالحال التي
تدرى في المجنون أنه مجنون , بمثلها يدرى في السكران أنه سكران ولا فرق
- وهي : إنه إذا بلغ من نفسه من التخليط في كلامه وأفعاله حيث يوقن أنه
لا يبلغه من نفسه المميز الصاحي حياء من مثل تلك الحال - فهذا بلا شك
أحمق , وسكران , كما قال الله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ}
(11/294)
فمن خلط
في كلامه فليس يعلم ما يقول - وبالله تعالى التوفيق .
(11/295)
حكم الأب يقذف ابنه أو أم عبيده أو أم ابنه
...
2243 - مسألة : الأب يقذف ابنه , أو أم عبيده , أو أم ابنه:
قال أبو محمد رحمه الله: قد ذكرنا حكم عمر بن عبد العزيز : يحد من قذف
ابنه - وأوجب الحد في ذلك : مالك , والأوزاعي , وأبو سليمان , وأصحابنا
. وقالت طائفة : لا حد على الأب في ذلك : كما نا حمام نا ابن مفرج نا
ابن الأعرابي نا أبو يعقوب الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء
قال : إذا افترى الأب على الابن فلا يحد . وبه - إلى عبد الرزاق عن
سفيان الثوري عمن سمع الحسن يقول : ليس على الأب لابنه حد . وبه - يقول
أبو حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأصحابهم , والحسن بن حي ,
وإسحاق بن راهويه . وقال سفيان الثوري في الأب يقذف ابنه : إنهم
يستحبون الدرء عنه - وقال في المرأة تزني - وهي محصنة - وتقتل ولدها :
إنه يدرأ عنها الحد.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك -
فنظرنا في قول من رأى أنه لا يحد الأب لابنه : فوجدناهم يقولون قال
الله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل
لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} قالوا : وليس من
الإحسان , ولا من البر : ضربهما بالسياط , ولا هذا من خفض الجناح لهما
من الرحمة . وقاسوا أيضا إسقاط الحدود في القذف عن الوالد في قذفه
لولده على إسقاطهم القود عنه إن قتله - وإسقاطهم القصاص عنه لولده فيما
دون النفس على إسقاطهم الحد عنه في سرقته من ماله . وعلى إسقاطهم الحد
في زناه بأم ولده.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم غير هذا أصلا - وكل هذا لا حجة
لهم فيه - على ما نبين إن شاء الله تعالى . أما وصية الله تعالى
بالإحسان إلى الأبوين بأن لا يقال لهما : أف , ولا ينهرا , ويخفض لهما
جناح الذل من الرحمة : فحق لا يحيد عنه مسلم , وليس يقتضي شيء من ذلك
إسقاط الحد عنه في القذف لولده ; لأنه لا يختلف الناس في أن إماما له
والد قدم إليه في قذف , أو في سرقة أو في زنا , أو في قود , فإن فرضا
على الولد إقامة الحد على والده في كل ذلك وأن ذلك لا يسقط عنه ما
افترض الله تعالى له عليه من الإحسان , والبر , وأن لا ينهره , ولا يقل
له : أف , وأن يخفض له جناح الذل من الرحمة , وأن يشكر له ولله عز وجل
- وقد قال الله عز وجل: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ} وقد أمر مع ذلك بإقامة الحد على من أمرنا برحمته . وقال
تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} الآية . ولا خلاف بين أحد من الأمة في
أن ذا القربى يحد في قذف ذي القربى وأن ذلك لا يضاد الإحسان المأمور به
, بل إقامة الحد على الوالدين فمن دونهما إحسان إليهما وبر بهما ; لأنه
حكم الله تعالى الذي لولاه لم يجب برهما.
(11/295)
فسقط
تعلقهم بالآيات المذكورات . وأما قياسهم إسقاط حد القذف على إسقاطهم عن
الوالد حد الزنا في زناه بأمة ولده , وعلى إسقاطهم عنه حد السرقة في
سرقة مال ولده , وعلى إسقاطهم القود عنه في قتله إياه , وجرحه إياه في
أعضائه - فهذا قياس , والقياس كله باطل ; لأنه قياس للخطأ على الخطأ ,
ونصر للباطل بالباطل , واحتجاج منه لقول لهم فاسد , بقول لهم آخر فاسد
, لا يتابعون عليه , ولا أوجبه نص , ولا إجماع , بل الحدود والقود
واجبان على الأب للولد في كل ما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق . فلما
سقط قولهم لتعريه عن البرهان رجعنا إلى القول الثاني , فوجدناه صحيحا ;
لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات} الآية ,
فلم يقل تعالى : إلا الوالد لولده {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} .
فلو أن الله تعالى أراد تخصيص الأب بإسقاط الحد عنه لولده لبين ذلك ,
ولما أهمله , حتى يتفطن له من لا حجة في قوله . فصح يقينا أن الله
تعالى إذ عم ولم يخص , فإنه أراد أن يحد الوالد لولده والولد لوالده
بلا شك , ووجدناه تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فأوجب الله تعالى القيام بالقسط
على الوالدين , والأقربين كالأجنبيين , فدخل في ذلك الحدود وغيرها -
وبالله تعالى التوفيق . حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا
الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عبد العزيز بن عمر بن
عبد العزيز عن أبيه عمر بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب قال : لا عفو
عن الحدود , ولا عن شيء منها بعد أن تبلغ الإمام فإن إقامتها من السنة
. فهذا قول صاحب لا يعرف له مخالف منهم , وهم يعظمون مثل هذا إذا خالف
تقليدهم - وقد خالفوه هاهنا ; لأن عمر بن الخطاب عم جميع الحدود , ولم
يخص.
قال أبو محمد رحمه الله: وكذلك اختلفوا : فيمن قذف أم ابنه ؟ فقال أبو
حنيفة , وأصحابه , والشافعي , وأصحابه : ليس للولد أن يأخذ أباه بذلك .
وقال مالك : له أن يأخذه بذلك وقال أبو حنيفة , والشافعي , وأصحابهما :
فيمن قذف أم عبد له ليس له أن يأخذ عبده الحد في ذلك . وقال أبو ثور ,
وأبو سليمان , وأصحابنا : له أن يأخذه بذلك . والكلام في هاتين
المسألتين كالكلام في التي قبلهما وقد بينا أن حد القذف : حد لله تعالى
, لا للمقذوف , فإذ هو كذلك فأخذه واجب على كل حال - قام به من قام به
من المسلمين - ; لأن الله تعالى أمر بجلد القاذف ثمانين , لم يشترط به
قائما من الناس دون غيره , فكان تخصيص من خص بعض القائمين به دون بعض
قولا في غاية الفساد , وهو قول مخترع لهم , ما نعلم أحدا من الصحابة -
رضي الله عنهم - قال به , ولا له
(11/296)
حجة أصلا
- لا من قرآن , ولا من سنة . ولا إجماع , ولا قياس , ولا معنى - وما
كان هكذا فهو ساقط - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: والحكم عند الحنفيين في إسقاط الحد عن الجد
إذا قذف ولد الولد , كالحكم في قاذف الأبوين الأدنين . والعجب بأن
الحنفيين قد فرقوا بين حكم الولد وبين حكم ولد الولد في المرتد ,
فجعلوا ولد المرتد يجبر على الإسلام ولا يقتل , وجعلوا ولد ولده لا
يجبر ولا يقتل . وفرق أبو يوسف , ومحمد بن الحسن , والشافعي , بين الأب
في الميراث - وبين الجد - فمن أين وقع لهم التناقض هاهنا ؟ فسووا بين
الأب والجد , وبين الابن وابن الابن ؟ والقوم أصحاب قياس بزعمهم - وهذا
تناقض لا نظير له - وبالله تعالى التوفيق .
(11/297)
حكم من نازع آخر فقال له الكاذب بيني وبينك ابن زانية
...
2244 - مسألة : من نازع آخر , فقال له : الكاذب بيني وبينك ابن زانية:
أو قال : ولد زنا , أو زنيم , أو زان - فقد قال قائلون : لا حد عليه
قال أبو محمد:إن كان قال ذلك مبتدئا قبل أن ينازعه الآخر فلا حد على
القائل ; لأنه لم يقذف بعد أحدا , وإن قال ذلك بعد المنازعة فهو قاذف
له بلا شك , فعليه الحد ; لأن المنازع له كاذب عنده بلا شك . وهكذا لو
قال : من حضر اليوم على هذا الطريق فهو ابن زانية وقد كان حضر من هنالك
أحد : فهو قاذف له بلا شك , فعليه الحد - فلو قال ذلك في المستأنف فلا
حد عليه ; لأنه إذا لفظ بذلك لم يكن قاذفا , أو من المحال أن يصير
قاذفا - وهو ساكت - بعد أن لم يكن قاذفا إذا نطق - وهذا باطل , لا خفاء
به - بالله تعالى التوفيق .
(11/297)
2245-
مسألة : من قذف أجنبية وامرأته:
ثم زنت الأجنبية وامرأته بعد القذف , فعليه حد القذف كاملا للأجنبية
ولا بد - ويلاعن ولا بد - إن أراد أن ينفي حمل زوجته , أو إن ثبت عليها
الحد , فإن أبى - وقد جلد للأجنبية - فالحمل لاحق به , ولا شيء على
زوجته - لا لعان , ولا حد , ولا حبس - ولا عليه بعد ; لأنه قد حد . وإن
كان لم يجلد , لاعن إن أراد أن ينفي الحمل عنه , فإن أبى جلد الحد فإن
التعن والتعنت المرأة : جلد حد الزنا . وجملة هذا - أن من قذفه قاذف ثم
زنى المقذوف : لم يسقط ذلك الزنا ما قد وجب من الحد على قاذفه ; لأنه
زنا غير الذي رماه به , فهو إذا رمى رام محصنا أو محصنة : فعليه الحد
ولا بد - ولا يسقط حد قد وجب إلا بنص , أو إجماع , ولا نص , ولا إجماع
هاهنا أصلا على سقوطه , بعد وجوبه بنص . وكذلك القول في الزوجة ولا فرق
: أنه يجلد لها للقذف - وإن زنت - إلا أن يلاعن , وتحد هي للزنى ولا بد
- وبالله تعالى التوفيق.
(11/297)
حكم من قال لآخر يازاني فقال له انسان صدقت
...
2246 - مسألة : من قال لآخر : يا زان ؟ فقال له إنسان : صدقت: أو قال :
نعم:
فإن أبا حنيفة وجميع أصحابه - إلا زفر بن الهذيل - قالوا : لا حد على
القائل : صدقت - قالوا : فلو قال له : صدقت , هو كما قلت ؟ حدا جميعا -
قال زفر في كلتا المسألتين : يحدان جميعا.
قال أبو محمد رحمه الله: لا فرق بين المسألتين ومن قال : إنه في قول له
: صدقت , يمكن أن يصدقه في غير رميه بالزنا ؟ قيل له : وكذلك قوله :
صدقت , هو كما قلت ؟ ممكن أن يعني بذلك قولا آخر قاله هذا القاذف من
غير القذف , ولا فرق .
قال أبو محمد رحمه الله: والذي نقول به - وبالله تعالى التوفيق - إنه
إن تيقن أن القائل : صدقت , أو نعم , أو هو كما قلت , أو إي والله :
أنه سمع القذف وفهمه , فهو مقر بلا شك , وعليه الحد . وكذلك من قيل له
: أبعت دارك من زيد بمائة دينار ؟ فقال : نعم , أو قال : صدقت , أو قال
: إي والله , أو ما أشبه هذا : فإنه إقرار صحيح بلا شك - أو قال ذلك
مجاوبا لمن قال له : طلقت امرأتك , أو أنكحت فلانة , أو وهبت امرأ كذا
وكذا . فهكذا في كل شيء - وإن وقع شك - أسمع القذف , أو لم يسمعه -
وفهمه , أو لم يفهمه : فلا حد في ذلك ; لأنه قد بهم ويظن أنه قال كلاما
آخر . وهكذا في جميع ما ذكرنا من غير ذلك ولا فرق . وقد قال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم
حرام" فصح أنه لا يحل أن يستباح شيء مما ذكرنا إلا بيقين لا إشكال فيه
- وبالله تعالى التوفيق .
(11/298)
حكم من قال لآخر فجرت بفلانة
...
2247 - مسألة : من قال لآخر : فجرت بفلانة , أو قال : فسقت بها:
فإن أبا حنيفة , والشافعي , وأصحابهما قالوا : لا حد في ذلك ؟ قال أبو
محمد رحمه الله: إن كان لهذين اللفظين وجه غير الزنا فكما قالوا , وإن
كان لا يفهم منهما غير الزنا فالحد في ذلك ؟ فلما نظرنا فيهما وجدناهما
يقعان على إتيانها في الدبر - فسقط الحد في ذلك . وكذلك لو قال :
جامعتها حراما , ولا فرق قال علي : فلو أخبر بهذا عن نفسه لم يكن
معترفا بالزنا كما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .
(11/298)
حكم من قال لآخر زنيت
...
2248 - مسألة : ومن قال لآخر : زنيت - بكسر التاء - أو قال لامرأة :
زنيت:
بفتح التاء - فإن كان غير فصيح : حد ولا بد . وإن كان فصيحا يحسن هذا
المقدار من العربية سئل : من خاطبت ؟ فإن قال : خاطبت غيرها , أو قال :
خاطبت غيره , فلا شيء عليه ; لأن هذا هو ظاهر كلامه ; لأن خطاب المؤنث
لا يكون إلا بكسر التاء , فإذا خاطبها بفتح التاء فلم يخاطبها , وخطاب
الرجل بفتح التاء , فإذا خاطبه بكسرها فلم يخاطبه - وإن أقر : أنه
خاطبها بذلك , حد ; لأنه حينئذ قاذف لها - بالله تعالى التوفيق .
(11/298)
حكم من
قذف انساناً قد زنى المقذوف
...
2249 - مسألة : من قذف إنسانا قد زنى المقذوف وعرف أنه صادق في ذلك:
فجميع العلماء على أنه لا يحل طلبه بذلك الحد - إلا مالكا فإنه قال :
له طلبه قال أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ظاهر الفساد بين الحوالة لا
خفاء به ; لأنه لا خلاف في أن من عرف صدقه في القذف فلا حد عليه , فإذا
عرف المقذوف أن قاذفه صادق فقد عرف أنه لا حد عليه , فمطالبته إياه ظلم
بيقين , وإباحة طلبه له إباحة للظلم المتيقن , ولا فرق بين هذا وبين
شهود سمعوا القاذف وهم يعلمون صدقه بلا خلاف في أنهم لا يحل لهم أن
يشهدوا بالقذف ; لأن شهادتهم تؤدي إلى الظلم . وكذلك من كان له أب فقتل
أبوه إنسانا ظلما , وأخذ ماله ظلما , فأتى ولد المقتول المأخوذ ماله
فقتل قاتل أبيه , وأخذ ماله الذي كان لأبيه , فإنه لا يحل لولد هذا
المستقاد منه : بأن يطلب المستقيد - لا بدم , ولا بما أخذ من ماله الذي
أخذ منه بباطل , واسترجعه منه بحق . ومن فرق بين شيء من هذه الوجوه فهو
مخطئ - وقد قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} الآية فحرم
الله تعالى القيام بغير القسط . وكذلك قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} وليس في الإثم والعدوان أكثر من أن يدري أن قاذفه لم
يكذب ثم يطالبه بما يطالب به أهل الكذب وبالله تعالى التوفيق . فإن
قالوا : إنه قد آذاه قلنا : نعم , وليس في الأذى حد , وإنما فيه
التعزير فقط .
(11/299)
حكم من قذف زوجته فأخذ في اللعان
...
2250 - مسألة: من قذف زوجته فأخذ في اللعان , فلما شرع فيه ومضى بعضه -
أقله , أو أكثره , أو جله - أعاد قذفها قبل أن تتم هي التعانها , فلا
بد له من ابتداء اللعان
قال أبو محمد رحمه الله: من قذف زوجته فأخذ في اللعان , فلما شرع فيه
ومضى بعضه - أقله , أو أكثره , أو جله - أعاد قذفها قبل أن تتم هي
التعانها , فلا بد له من ابتداء اللعان ; لأن الله تعالى يقول:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية . فلم يجعل الله تعالى الالتعان إلا بعد
رمي الزوجة , فلا بد بعد رمي الزوجة بأن يأتي بما أمر الله تعالى به ,
كما أمر به , وهي ما لم تتم التعانها بعد تمام التعانه زوجته كما كانت
, فهو في تجديد قذفها رام زوجته , فلا بد له من شهادة أربع شهادات
والخامسة , فإن أبى ونكل : حد المقذوف ولا بد - فإن رماها بزنا يتيقن
أنه كاذب فيه حد ولا لعان أصلا ; لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} وليس من الإثم والعدوان أكثر من أن يكلف أن يأتي
بأيمان كاذبة , يوقن من حضر أو الحاكم : أنه فيها قاذف , فهذا عون على
الإثم والعدوان . وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ
أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وهي مع ذلك امرأته كما كانت ولا فرقة إلا
بعد أن يتم التعانهما على ما ذكرنا . فلو رماها وأيقن الحاكم أنه صادق
فلا يحل له الحكم باللعان أيضا , لكن يقام الحد عليها وهي امرأته - كما
كانت - يرثها وترثه لما ذكرنا
(11/299)
من أنه لا
فرقة إلا بعد التعانهما . فصح بهذا أنه لا لعان فيمن رمى امرأته بزنا
ممكن أن يكون فيه صادقا , ويمكن أن يكون فيه كاذبا - فأما إذا تيقن
كذبه فلا يحل تعطيل واجب حد الله عنه , ولا يحل عونه على الأيمان
الكاذبة الآثمة , ولا يحل أمره بها - وبالله تعالى التوفيق .
(11/300)
2251 -
مسألة : من قذف جماعة:
أو وجد يطأ النساء الأجنبيات مرة بعد مرة , أو وجد يسرق مرات , أو رئي
يشرب الخمر مرات , فشهد بكل ذلك , فأقام بينة على صدقه في قذفه من قذف
إلا واحدا , أو صدقه جميعهم , إلا واحدا , فعليه الحد في القذف ولا بد
; لأن الحد في قذف ألف أو في قذف واحد : حد واحد , ولا مزيد على ما
قدمنا . وكذلك لو أقام بينة على أن جميع أولئك اللواتي وجد يطأهن إماؤه
إلا واحدة , فعليه حد الزنا ولا بد ; لأن الحد في الزنا بألف , أو في
الزنا بواحدة : حد واحد , ولا مزيد , على ما قدمنا . وكذلك لو أقام
بينة على كل ما سرق : أنه ماله أخذه حاش بعض ذلك , فإنه يقطع به ولا بد
; لأن الحد في ألف سرقة , وفي سرقة واحدة : حد واحد على ما قدمنا ,
وكذلك لو أقام البينة على أن كل ما شرب من ذلك كان في غير عقله , أو
كان في ضرورة لعلاج أو غيره , إلا مرة واحدة : فعليه جلد الأربعين ولا
بد ; لأن الحد في شرب ألف مرة , وفي جرعة : حد واحد , كما قدمنا وبالله
تعالى التوفيق .
(11/300)
|