الموسوعة الفقهية الكويتية

اسْتِرْجَاعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِرْجَاعُ لُغَةً: مَادَّتُهَا رَجَعَ، أَيْ: انْصَرَفَ. وَاسْتَرْجَعْتُ مِنْهُ الشَّيْءَ: إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ مَا دَفَعْتَهُ إِلَيْهِ. وَاسْتَرْجَعَ الرَّجُل عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: قَال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (1) .
وَيُسْتَعْمَل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَيَيْنِ:
أ - بِمَعْنَى اسْتِرْدَادٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لِلْمُشْتَرِي - بَعْدَ فَسْخِهِ بِالْعَيْبِ - حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى حِينِ اسْتِرْجَاعِ ثَمَنِهِ مِنَ الْبَائِعِ (2) . وَقَوْلُهُمْ: السِّلَعُ الْمَبِيعَةُ أَوِ الْمَجْعُولَةُ ثَمَنًا إِذَا عَلِمَ بِعُيُوبِهَا مَنْ صَارَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ الْفَسْخَ، وَاسْتِرْجَاعَ عِوَضِهَا مِنْ قَابِضِهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بَدَلَهُ إِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ (3) . (ر: اسْتِرْدَاد) .
ب - بِمَعْنَى قَوْل: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
__________
(1) لسان العرب مادة (رجع) .
(2) مغني المحتاج 2 / 56
(3) كشاف القناع 3 / 227

(3/281)


مَتَى يُشْرَعُ الاِسْتِرْجَاعُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ؟ وَمَتَى لاَ يُشْرَعُ؟ .
2 - يُشْرَعُ الاِسْتِرْجَاعُ عِنْدَ كُل مَا يُبْتَلَى بِهِ الإِْنْسَانُ مِنْ مَصَائِبَ، عَظُمَتْ أَوْ صَغُرَتْ. وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَْمْوَال وَالأَْنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (1) وَإِنَّمَا يُشْرَعُ الاِسْتِرْجَاعُ عِنْدَ كُل شَيْءٍ يُؤْذِي الإِْنْسَانَ وَيَضُرُّهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ طَفِئَ سِرَاجُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَقِيل: أَمُصِيبَةٌ هِيَ؟ قَال: نَعَمْ، كُل شَيْءٍ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبَةٌ (2) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَسْتَرْجِعْ أَحَدُكُمْ فِي كُل شَيْءٍ، حَتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ، فَإِنَّهَا مِنَ الْمَصَائِبِ. (3) وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 - وَالْحِكْمَةُ فِي الاِسْتِرْجَاعِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ: الإِْقْرَارُ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْمُعَادِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالتَّسْلِيمُ بِقَضَائِهِ، وَالرَّجَاءُ فِي ثَوَابِهِ (4) . وَلِذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ: مَنِ اسْتَرْجَعَ
__________
(1) سورة البقرة / 155 - 157
(2) حديث: " كل شيء. . . . " أخرجه عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في العزاء عن عكرمة، كذا في الدر المنثور (1 / 157 - ط الميمنية) .
(3) حديث " ليسترجع أحدكم. . . . " أخرجه ابن السني (عمل اليوم والليلة ص 95 ط المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وفي سنده ضعف، ولكن له شاهد من مرسل أبي إدريس الخولاني ورجال إسناده من رواة الصحيح. (الفتوحات الربانية 4 / 28 - ط النشر الأزهرية) .
(4) الفتاوى لابن حجر 2 / 20، والمجموع شرح المهذب 5 / 127، والمغني 2 / 409، وتفسير النيسابوري بهامش الطبري 2 / 60

(3/281)


عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَن عُقْبَاهُ، وَجَعَل لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ (1) .
4 - أَمَّا مَتَى لاَ يُشْرَعُ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ الاِسْتِرْجَاعَ بَعْضُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الطَّاهِرِ قِرَاءَةُ أَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنْ قَل، حَتَّى بَعْضَ آيَةٍ، وَلَوْ كَانَ يَقْرَأُ فِي كِتَابِ فِقْهٍ أَوْ غَيْرِهِ فِيهِ احْتِجَاجٌ بِآيَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا؛ لأَِنَّهُ يَقْصِدُ الْقُرْآنَ لِلاِحْتِجَاجِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَقْصِدُ الْقُرْآنَ فَلاَ بَأْسَ؛ لأَِنَّهُمْ قَالُوا: يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَنْ تَقُول عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، إِذَا لَمْ تَقْصِدِ الْقُرْآنَ (2) .

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الاِسْتِرْجَاعَ يَنْطَوِي عَلَى أَمْرَيْنِ:
أ - قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقُول عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ.
ب - عَمَلٌ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الاِسْتِسْلاَمُ وَالصَّبْرُ وَالتَّوَكُّل، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَهَذَا وَاجِبٌ (3) .
__________
(1) حديث " من استرجع. . . " أخرجه الطبراني وقال الهيثمي في المجمع: " فيه علي بن أبي طلحة وهو ضعيف " (2 / 331 - ط القدسي) .
(2) المجموع شرح المهذب 2 / 162، والإنصاف للمرداوي 1 / 244، والبحر الرائق 1 / 210
(3) تصحيح الفروع لابن سليمان المقدسي 1 / 693، وتفسير النيسابوري 2 / 61

(3/282)


اسْتِرْدَادٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِرْدَادُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الرَّدِّ، يُقَال: اسْتَرَدَّ الشَّيْءَ وَارْتَدَّهُ: طَلَبَ رَدَّهُ عَلَيْهِ (1) ، وَيُقَال: وَهَبَ هِبَةً ثُمَّ ارْتَدَّهَا أَيْ: اسْتَرَدَّهَا، وَاسْتَرَدَّهُ الشَّيْءَ: سَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَخْرُجِ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - رَدٌّ:
2 - الرَّدُّ: هُوَ صَرْفُ الشَّيْءِ وَرَجْعُهُ. فَالرَّدُّ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا لِلاِسْتِرْدَادِ، وَقَدْ يَحْصُل الرَّدُّ بِلاَ اسْتِرْدَادٍ.

ب - ارْتِجَاعٌ - اسْتِرْجَاعٌ:
3 - يُقَال رَجَعَ فِي هِبَتِهِ: إِذَا أَعَادَهَا إِلَى مِلْكِهِ، وَارْتَجَعَهَا وَاسْتَرْجَعَهَا كَذَلِكَ، وَاسْتَرْجَعْتُ مِنْهُ الشَّيْءَ: إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ مَا دَفَعْتَهُ إِلَيْهِ.
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الاِسْتِرْدَادَ وَالاِرْتِجَاعَ وَالاِسْتِرْجَاعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة (رد) .
(2) منتهى الإرادات 2 / 40 ط دار الفكر، ومغني المحتاج 2 / 99 ط مصطفى الحلبي، وبدائع الصنائع 5 / 302 ط الجمالية.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (رد) ، ومنتهى الإرادات 2 / 527، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني5 / 676 ط الرياض.

(3/282)


صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
4 - الاِسْتِرْدَادُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَمَا فِي الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، حَيْثُ يَجِبُ الْفَسْخُ، فَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً رُدَّتْ بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ فَائِتَةً رُدَّتْ قِيمَتُهَا عَلَى الْبَائِعِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَرُدَّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلاَفٍ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (فَسَاد - وَبُطْلاَن) لأَِنَّ الْفَسْخَ حَقُّ الشَّرْعِ.
وَقَدْ يَحْرُمُ الاِسْتِرْدَادُ، كَمَنْ أَخْرَجَ صَدَقَةً، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُهَا؛ لِقَوْل عُمَرَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَل (1) .

أَسْبَابُ حَقِّ الاِسْتِرْدَادِ:
لِلاِسْتِرْدَادِ أَسْبَابٌ مُتَنَوِّعَةٌ مِنْهَا: الاِسْتِحْقَاقُ، وَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَلْزَمُ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ. . إِلَخْ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً: الاِسْتِحْقَاقُ:
5 - الاِسْتِحْقَاقُ - بِمَعْنَاهُ الأَْعَمِّ - ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَل الْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ لِرَبِّهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ. (2)
__________
(1) الكافي2 / 840، 1008 ط الرياض، والبدائع 5 / 299، 305، 6 / 216 ط الجمالية، والقواعد لابن رجب ص 53، والمقدمات الممهدات 2 / 216، والمغني 5 / 684 ط الرياض، والهداية 3 / 231 ط المكتبة الإسلامية.
(2) حديث: " على اليد. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 802 ط عيسى الحلبي) والترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 482 - نشر السلفية) وأعله ابن حجر بالاختلاف في سماع الحسن من سمرة راوي هذا الحديث. (التلخيص3 / 53 ط الشركة الفنية)

(3/283)


وَيَشْمَل اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَوْهُوبِ عَلَى الْمُتَّهَبِ، فَيُوجِبُ الْفَسْخَ وَالاِسْتِرْدَادَ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ عَلَى إِجَازَةِ رَبِّهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَالْقَوْل بِالتَّوَقُّفِ هُوَ أَيْضًا مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِذَا فُسِخَ الْبَيْعُ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْجُمْلَةِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ثُبُوتُ الاِسْتِحْقَاقِ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِالإِْقْرَارِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اسْتِحْقَاق (1)) .

ثَانِيًا: التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَلْزَمُ:

التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَلْزَمُ مُتَنَوِّعَةٌ، مِنْهَا:
6 - أ - الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ: وَهِيَ الَّتِي تَقْبَل بِطَبِيعَتِهَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ كَالْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةِ. فَهَذِهِ الْعُقُودُ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيَثْبُتُ عِنْدَ فَسْخِهَا حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ لِلْمَالِكِ، وَيَجِبُ الرَّدُّ عِنْدَ الطَّلَبِ؛ لأَِنَّهَا أَمَانَاتٌ يَجِبُ رَدُّهَا؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَبَسَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ فَضَاعَتْ ضَمِنَ، وَلَوْ هَلَكَتْ بِلاَ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ.
وَهَذِهِ الأَْحْكَامُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذَا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 118، 119، 4 / 199 وما بعدها، والبدائع 7 / 83، 148، والفتاوى الهندية 3 / 165، ومنح الجليل 3 / 515، 523، والدسوقي 3 / 461، والحطاب 5 / 296، ومغني المحتاج 2 / 276 وما بعدها، والأشباه للسيوطي ص 232، ومنتهى الإرادات 2 / 374، 401، والقواعد لابن رجب ص383، والكافي 2 / 1086، والمهذب 2 / 285، والهداية 2 / 128، والمغني 5 / 238، 253
(2) سورة النساء / 57

(3/283)


تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا، كَنِضْوِ رَأْسِ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ، أَيْ تَحَوُّل السِّلَعِ إِلَى نُقُودٍ.
وَلَوْ كَانَ فِي الاِسْتِرْدَادِ ضَرَرٌ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَزُول الضَّرَرُ، كَالأَْرْضِ إِذَا اسْتُعِيرَتْ لِلزِّرَاعَةِ، وَأَرَادَ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ، فَيَتَوَقَّفُ الاِسْتِرْدَادُ حَتَّى يُحْصَدَ الزَّرْعُ.
وَالْعَارِيَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تُسْتَرَدُّ حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَْجَل أَوِ الْعَمَل (1) .
هَذَا حُكْمُ الاِسْتِرْدَادِ فِي الْجُمْلَةِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَفِي ذَلِكَ تَفَاصِيل كَثِيرَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوْضُوعَاتِهَا.

7 - ب - الْعُقُودُ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخِيَارُ: كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِهِمَا كَثِيرَةٌ مِنْ أَهَمِّهَا: الْبَيْعُ، وَالإِْجَارَةُ.
فَفِي الْبَيْعِ: بِكَوْنِ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ غَيْرِ لاَزِمٍ، وَلِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ حَقُّ الْفَسْخِ وَالرَّدِّ. جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَيْعٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لأَِنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ، قَال سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَلأَِنَّ الْخِيَارَ هُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ، وَهَذَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ، وَمِثْل ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ مَعَ
__________
(1) البدائع 6 / 34، 76، 211، 217، 251، ومغني المحتاج 2 / 215، 270، 319، 370، والمهذب 1 / 366، 370 ط دار المعرفة، ومنتهى الإرادات 2 / 305، 315، 321 ط دار الفكر، والمغني 3 / 595 ط الرياض، وكشاف القناع 4 / 182 ط النصر الحديثة، وجواهر الإكليل 2 / 146 ط دار المعرفة، ومنح الجليل 3 / 392، 496 ط النجاح، والحطاب 5 / 14، والخرشي 4 / 255، 267

(3/284)


التَّفَاصِيل (1) .
كَذَلِكَ خِيَارُ الْعَيْبِ يَجْعَل الْعَقْدَ غَيْرَ لاَزِمٍ وَقَابِلاً لِلْفَسْخِ، فَإِذَا نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ بِخِيَارِ الْعَيْبِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَرَدَّ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ مَعِيبًا إِلَى الْبَائِعِ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ.
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي إِمْسَاكِ الْمَبِيعِ مَعِيبًا، وَالرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ فِي الْمَعِيبِ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يُعْطُونَهُ هَذَا الْحَقَّ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ، أَوْ يَمْسِكَ الْمَعِيبَ وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِنُقْصَانٍ؛ لأَِنَّ الأَْوْصَافَ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِأَقَل مِنَ الْمُسَمَّى، فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي مُمْكِنٌ بِالرَّدِّ بِدُونِ تَضَرُّرِهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَالرُّجُوعِ بِأَرْشِ الْعَيْبِ. وَيُفَصِّل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ غَيْرِ الْمُؤَثِّرِ، فَلاَ شَيْءَ فِيهِ وَلاَ رَدَّ بِهِ، وَبَيْنَ الْعَيْبِ الْمُؤَثِّرِ الَّذِي لَهُ قِيمَةٌ فَيَرْجِعُ بِأَرْشِهِ، وَبَيْنَ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ فَيَجِبُ هُنَا الرَّدُّ، حَتَّى إِذَا أَمْسَكَهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ، وَفِي خِيَارِ الْعَيْبِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِهِ.
هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِبَعْضِ الْخِيَارَاتِ الَّتِي تَجْعَل الْعَقْدَ غَيْرَ لاَزِمٍ، وَيَثْبُتُ بِهَا حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 264، 289، والهداية 3 / 36 ط المكتبة الإسلامية، وبداية المجتهد 2 / 209 ط مصطفى الحلبي، والجواهر 2 / 35، ومنح الجليل 2 / 637، ومغني المحتاج 2 / 46، 50، والمهذب 1 / 291، ومنتهى الإرادات 2 / 170، 174، 176

(3/284)


وَهُنَاكَ خِيَارَاتٌ أُخْرَى تَسِيرُ عَلَى هَذَا النَّمَطِ، كَخِيَارِ التَّعْيِينِ، وَخِيَارِ الْغَبْنِ، وَخِيَارِ التَّدْلِيسِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَار) .
8 - وَيَدْخُل الْخِيَارُ كَذَلِكَ عَقْدَ الإِْجَارَةِ، فَيَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ وَالرَّدِّ، فَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا حَادِثًا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى، فَلَهُ الْفَسْخُ وَالرَّدُّ (1) .

ثَالِثًا: الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ عِنْدَ عَدَمِ الإِْجَازَةِ:
9 - وَمِنْ أَشْهَرِ أَمْثِلَتِهِ: بَيْعُ الْفُضُولِيِّ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفُذُ لاِنْعِدَامِ الْمِلْكِ، لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ أَمْضَاهُ مَضَى، وَإِنْ رَدَّهُ رُدَّ. وَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ صَارَ الْفُضُولِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيل، وَيَنْتَقِل مِلْكُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْمَالِكِ؛ لأَِنَّهُ بَدَل مِلْكِهِ.
وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي وَجِهَةِ الْفُضُولِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ فَسَخَهُ الْفُضُولِيُّ قَبْل الإِْجَازَةِ انْفَسَخَ، وَاسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ إِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ قَدْ نَقَدَهُ، وَكَذَا إِذَا فَسَخَهُ الْمُشْتَرِي يَنْفَسِخُ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَهُوَ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الْفُضُولِيِّ وَمِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي، مُنْحَلٌّ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ (2) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ: فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ فِي الأَْصَحِّ وَيَجِبُ رَدُّهُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى: أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ (3) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ (ر: فُضُولِيّ - بَيْع) .
__________
(1) الهداية 3 / 249، والمهذب 1 / 407، ومنتهى الإرادات 2 / 375، ومنح الجليل 3 / 796
(2) البدائع 5 / 151،148، ومنح الجليل 2 / 481
(3) المهذب 1 / 269، والمغني 4 / 227

(3/285)


رَابِعًا: فَسَادُ الْعَقْدِ:
10 - يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَالْعَقْدُ الْبَاطِل عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا لَمْ يُشْرَعْ بِأَصْلِهِ وَلاَ وَصْفِهِ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ: هُوَ مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ. أَمَّا حُكْمُ الاِسْتِرْدَادِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ فَيَظْهَرُ فِيمَا يَأْتِي:
الْعَقْدُ الْبَاطِل لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ أَثَرَ لَهُ، وَلاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُجْبِرَ الآْخَرَ عَلَى تَنْفِيذِهِ.
فَفِي الْبَيْعِ يَقُول الْكَاسَانِيُّ: لاَ حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ (الْبَاطِل) أَصْلاً؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ، وَلاَ وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لاَ وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الأَْهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا، كَمَا لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إِلاَّ مِنْ الأَْهْل فِي الْمَحَل حَقِيقَةً، وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَكُل مَا لَيْسَ بِمَالٍ (1) .
وَمَا دَامَ الْعَقْدُ الْبَاطِل لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلاَ يُنْتِجُ أَيَّ أَثَرٍ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ بِاخْتِيَارِهِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ، كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَوْ بِالْقَبْضِ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ، فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لاَ يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنِ اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لَمْ يَنْقُل الْمِلْكِيَّةَ لِلْمُشْتَرِي، فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ مَالاً غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 305، وابن عابدين 4 / 110 ط ثالثة.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 2 / 133 ط المكتبة الإسلامية.

(3/285)


11 - أَمَّا الْعَقْدُ الْفَاسِدُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ، فَلِذَلِكَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، بَل هُوَ مُسْتَحِقٌّ الْفَسْخَ، حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ، وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَلْزِمُ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَرَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ، فَتَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا، وَيَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الاِسْتِرْدَادِ؛ لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَالاِسْتِرْدَادُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَمَا اجْتَمَعَ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ إِلاَّ غَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ لِحَاجَتِهِ (1) . وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّصَرُّفُ يَقْبَل الْفَسْخَ، أَوْ لاَ يَقْبَلُهُ، إِلاَّ الإِْجَارَةَ فَإِنَّهَا لاَ تَقْطَعُ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الاِسْتِرْدَادِ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُفْسَخُ بِالأَْعْذَارِ، وَفَسَادُ الشِّرَاءِ عُذْرٌ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
12 - أَمَّا الْجُمْهُورُ: فَإِنَّهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالْعَقْدِ الْبَاطِل. فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِل عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَحْصُل بِهِ الْمِلْكُ، سَوَاءٌ اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ، أَمْ لَمْ يَتَّصِل، وَيَلْزَمُ رَدُّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي هَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي.
أَمَّا إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ، وَيَكُونُ مِنْ حَقِّ الْبَائِعِ
__________
(1) الزيلعي 4 / 64، وابن عابدين 4 / 133 ط ثالثة، ودرر الحكام ص 175

(3/286)


اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي اسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَهُمْ رَدُّ الْمَبِيعِ الْفَاسِدِ لِرَبِّهِ إِنْ لَمْ يَفُتْ، كَأَنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ بِبَيْعٍ، أَوْ بُنْيَانٍ، أَوْ غَرْسٍ، فَإِنْ فَاتَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَلَوْ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ - بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَل مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ، ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ، وَضَمِنَ مِثْل الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، وَعَلِمَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ (1) .

خَامِسًا: انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْعَقْدِ:
13 - انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْعَقْدِ فِي الْعُقُودِ الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ يَثْبُتُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، فَفِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ يَكُونُ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا آجَرَهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ، فَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ، وَغَرْسِ الأَْشْجَارِ، وَمَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ، لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُقْلِعَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَيُسَلِّمَهَا إِلَى رَبِّهَا فَارِغَةً، لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا إِلَى صَاحِبِهَا غَيْرَ مَشْغُولَةٍ بِبِنَائِهِ وَغَرْسِهِ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لَيْسَ لَهُمَا حَالَةٌ مُنْتَظَرَةٌ يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهَا. وَفِي تَرْكِهِمَا عَلَى الدَّوَامِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ يَتَضَرَّرُ صَاحِبُ الأَْرْضِ، فَيَتَعَيَّنُ الْقَلْعُ فِي الْحَال، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا، وَيَتَمَلَّكَهُ، (وَذَلِكَ بِرِضَى صَاحِبِ الْغَرْسِ وَالشَّجَرِ، إِلاَّ أَنْ تَنْقُصَ الأَْرْضُ بِقَلْعِهِمَا، فَحِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُهُمَا بِغَيْرِ رِضَاهُ) أَوْ يَرْضَى بِتَرْكِهِ عَلَى حَالِهِ،
__________
(1) الدسوقي 3 / 71 ط دار الفكر، والكافي 2 / 725،724، والمهذب 1 / 268، 273، 275

(3/286)


فَيَكُونُ الْبِنَاءُ لِهَذَا، وَالأَْرْضُ لِهَذَا؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَلَهُ أَلاَّ يَسْتَوْفِيَهُ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ، أَوْ تَرْكِهِ بِأُجْرَتِهِ، أَوْ قَلْعِهِ وَضَمَانِ نَقْصِهِ، مَا لَمْ يُقْلِعْهُ مَالِكُهُ. وَمِثْل ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَاحِبُ الأَْرْضِ شَرَطَ الْقَلْعَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يُعْمَل بِشَرْطِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُجْبَرُ صَاحِبُ الْغَرْسِ عَلَى الْقَلْعِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَيَجُوزُ لِرَبِّ الأَْرْضِ كِرَاؤُهَا لَهُ مُدَّةً مُسْتَقْبَلَةً (1) ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلزِّرَاعَةِ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ لَمْ يُدْرَكْ، فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَرِدَّ أَرْضَهُ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ الزَّرْعَ عَلَى حَالِهِ إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ، وَيَكُونُ لِلْمَالِكِ أَجْرُ الْمِثْل؛ لأَِنَّ لِلزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، فَأَمْكَنَ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ.
وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِعَدَمِ التَّفْرِيطِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ كَانَ بِتَفْرِيطٍ أُجْبِرَ عَلَى الْقَلْعِ. وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الزَّرْعِ الْمُطْلَقِ، أَيِ الَّذِي لَمْ يُحَدَّدْ نَوْعُهُ، فَيَكُونُ لِلْمَالِكِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِنَقْلِهِ. وَأَمَّا فِي الزَّرْعِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ بِالْقَلْعِ، فَلَهُ جَبْرُ صَاحِبِ الزَّرْعِ عَلَى قَلْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَرْطٌ فَقَوْلاَنِ: بِالْجَبْرِ وَعَدَمِهِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَلْزَمُهُ الْبَقَاءُ إِلَى الْحَصَادِ (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَة) .
__________
(1) الهداية 3 / 235، والزيلعي 5 / 114، 115، ومنتهى الإرادات 2 / 381، والمهذب 1 / 411، ومنح الجليل 3 / 818
(2) البدائع 4 / 223، ومنتهى الإرادات 2 / 382، والمهذب 1 / 411،410، وجواهر الإكليل 2 / 197

(3/287)


سَادِسًا: الإِْقَالَةُ:
14 - الإِْقَالَةُ - سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ فَسْخًا أَمْ بَيْعًا - يَثْبُتُ بِهَا حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، لأَِنَّهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَقَال مُسْلِمًا أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (1)
وَالْقَصْدُ مِنَ الإِْقَالَةِ هُوَ: رَدُّ كُل حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ. فَفِي الْبَيْعِ يَعُودُ بِمُقْتَضَاهَا الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَالثَّمَنُ إِلَى الْمُشْتَرِي.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الثَّمَنِ الأَْوَّل، أَوْ مِثْلِهِ، وَلاَ يَجُوزُ رَدُّ زِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ نَقْصِهِ، أَوْ رَدُّ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ مُقْتَضَى الإِْقَالَةِ رَدُّ الأَْمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَرُجُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا كَانَ لَهُ.
وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ فِي الْجُمْلَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: الإِْقَالَةُ جَائِزَةٌ بِمَا سَمَّيَا كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ (2) .

سَابِعًا: الإِْفْلاَسُ:
15 - حَقُّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمُفْلِسِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ قَبْل أَدَاءِ الثَّمَنِ الْحَال - وَالْمَبِيعُ بِيَدِ الْبَائِعِ - فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، وَلَمْ يَدْفَعِ الثَّمَنَ، ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، وَوَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ
__________
(1) حديث: " من أقال مسلما. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 741 ط عيسى الحلبي) وأبو داود (عون المعبود 3 / 290 ط المطبعة الأنصارية بدهلي) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وقال ابن دقيق العيد: هو على شرطهما (فيض القدير 6 / 79 - ط المكتبة التجارية) .
(2) منتهى الإرادات 2 / 193، والهداية 3 / 54، وأسنى المطالب 2 / 74 ط المكتبة الإسلامية، والمهذب 1 / 309، ومنح الجليل 2 / 705، والدسوقي 3 / 156

(3/287)


مَالِهِ الَّذِي بَاعَهُ لِلْمُفْلِسِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ عِنْدَ إِنْسَانٍ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (1) ، وَبِهِ قَال عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمَا. فَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ اسْتَرَدَّهُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَفَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَحَاصَّ بَاقِيَ الْغُرَمَاءِ بِثَمَنِهِ. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ الَّتِي وُضِعَتْ لاِسْتِرْدَادِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، كَكَوْنِهِ بَاقِيًا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ (2) . . . إِلَخْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ يَسْقُطُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِإِذْنِهِ، وَيَصِيرُ أُسْوَةً بِالْغُرَمَاءِ، فَيُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بِالْحِصَصِ؛ لأَِنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ قَدْ زَال عَنِ الْمَبِيعِ، وَخَرَجَ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ، فَسَاوَى بَاقِيَ الْغُرَمَاءِ فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ (3) .
وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ، فَقَال مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ مَا قَبَضَ وَأَخَذَ السِّلْعَةَ كُلَّهَا، وَإِنْ شَاءَ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ فِيمَا بَقِيَ. وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَأْخُذُ مِنْ سِلْعَتِهِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ. وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْ
__________
(1) حديث أبي هريرة " من أدرك. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 62 ط السلفية) .
(2) مغني المحتاج 2 / 158، والمهذب 1 / 329، والدسوقي 3 / 282 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 94، ومنتهى الإرادات 2 / 279، والمغني 4 / 457
(3) ابن عابدين 4 / 46، 5 / 99 ط ثالثة، والهداية 3 / 287، والبدائع 5 / 252

(3/288)


أَهْل الْعِلْمِ: إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ: هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (1) .
وَلَوْ بَذَل الْغُرَمَاءُ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ فَيَلْزَمُهُ أَخْذُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ كَلاَمَ لَهُ فِيهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَهُ الْفَسْخُ؛ لِمَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الْمِنَّةِ، وَخَوْفِ ظُهُورِ غَرِيمٍ آخَرَ، وَقِيل: لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَلْزَمُهُ الْقَبُول مِنَ الْغُرَمَاءِ، إِلاَّ إِذَا بَذَلَهُ الْغَرِيمُ لِلْمُفْلِسِ، ثُمَّ بَذَلَهُ الْمُفْلِسُ لِرَبِّ السِّلْعَةِ (2) . وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي (حَجْر - إِفْلاَس) .

ثَامِنًا: الْمَوْتُ:
16 - مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تَعَلَّقَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ، وَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَبْل تَأْدِيَةِ ثَمَنِ مَا اشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ، وَوَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ فِي التَّرِكَةِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ، وَيَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَال فِي رَجُلٍ أَفْلَسَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ تَفِي بِالدَّيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ قَوْل أَبِي سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيِّ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لأَِنَّ الْمَال يَفِي بِالدَّيْنِ، فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ، كَالْحَيِّ الْمَلِيءِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ لِلْبَائِعِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 282، وجواهر الإكليل 2 / 94، ومغني المحتاج 2 / 159، ومنتهى الإرادات 2 / 279
(2) بداية المجتهد 2 / 286، ومنتهى الإرادات 2 / 280، ومغني المحتاج 2 / 161

(3/288)


الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، بَل يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعَهُ فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ. (1)
وَلأَِنَّ الْمِلْكَ انْتَقَل عَنِ الْمُفْلِسِ إِلَى الْوَرَثَةِ فَأَشْبَهَ. مَا لَوْ بَاعَهُ (2) .

تَاسِعًا: الرُّشْدُ:
17 - يَجِبُ دَفْعُ الْمَال إِلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ وَرَشَدَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (3) حَتَّى لَوْ مَنَعَهُ الْوَلِيُّ، أَوِ الْوَصِيُّ مِنْهُ حِينَ طَلَبِهِ مَالَهُ يَكُونُ ضَامِنًا (4) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ (ر: رُشْد - حَجْر) .

صِيغَةُ الاِسْتِرْدَادِ:
18 - فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ (وَهُوَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْفَسْخُ وَالرَّدُّ) يَكُونُ الْفَسْخُ بِالْقَوْل، كَفَسَخْتُ الْعَقْدَ أَوْ نَقَضْتُ أَوْ رَدَدْتُ، فَيَنْفَسِخُ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَلاَ إِلَى رِضَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ هَذَا الْبَيْعَ اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَيَكُونُ الرَّدُّ بِالْفِعْل، وَهُوَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ عَلَى بَائِعِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ رَدَّهُ (5) .
__________
(1) حديث: " أيما رجل باع متاعه. . . "، أخرجه بلفظ مقارب كل من مالك (2 / 678 - ط مصطفى الحلبي) وأبي داود (عون المعبود 3 / 309 ط المطبعة الأنصارية) وهو حديث صحيح لطرقه الكثيرة (تلخيص الحبير 3 / 39 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) منتهى الإرادات 2 / 280، والمهذب 1 / 334، ومنح الجليل 3 / 148، وبدائع الصنائع 5 / 252
(3) سورة النساء / 6
(4) ابن عابدين 5 / 98، والمغني 4 / 506، والدسوقي 3 / 292
(5) البدائع 5 / 300

(3/289)


وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ - وَهُوَ اسْتِرْدَادٌ - يَكُونُ بِقَوْل الْوَاهِبِ: رَجَعْتُ فِي هِبَتِي، أَوِ ارْتَجَعْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا، أَوْ عُدْتُ فِيهَا (1) . أَوْ يَكُونُ بِالأَْخْذِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ (2) ، أَوْ الإِْشْهَادِ (3) ، أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) .

كَيْفِيَّةُ الاِسْتِرْدَادِ:
إِذَا ثَبَتَ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ لإِِنْسَانٍ فِي شَيْءٍ مَا، بِأَيِّ سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا، فَإِنَّ الاِسْتِرْدَادَ يَتَحَقَّقُ بِعِدَّةِ أُمُورٍ:

الأَْوَّل: اسْتِرْدَادُ عَيْنِ الشَّيْءِ:
19 - إِذَا كَانَ مَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْدَادَهُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ بِعَيْنِهِ، فَالْمَغْصُوبُ، وَالْمَسْرُوقُ، وَالْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْمَفْسُوخُ لِخِيَارٍ، أَوْ لاِنْقِطَاعِ مُسْلَمٍ فِيهِ، أَوْ لإِِقَالَةٍ، كُل هَذَا يُسْتَرَدُّ بِعَيْنِهِ مَا دَامَ قَائِمًا. وَكَذَلِكَ الأَْمَانَاتُ، كَالْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيِّ تُرَدُّ بِعَيْنِهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَمِثْل ذَلِكَ مَا انْتَهَتْ مُدَّتُهُ فِي الْعَقْدِ كَالإِْجَارَةِ، وَالْعَارِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ بِأَجَلٍ، وَمَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ وَثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْهِبَةِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (5)
__________
(1) منح الجليل 4 / 104، ومنتهى الإرادات 2 / 527، ومغني المحتاج 2 / 403
(2) المغني5 / 675
(3) الحطاب 6 / 63
(4) البدائع 6 / 134
(5) سورة النساء / 58

(3/289)


وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ. وَقَوْلُهُ: مَنْ وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. (1)
وَرَدُّ الْعَيْنِ هُوَ الْوَاجِبُ الأَْصْلِيُّ (إِلاَّ مَا جَاءَ فِي الْقَرْضِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا) عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ (2) .
هَذَا إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا دُونَ حُدُوثِ تَغْيِيرٍ فِيهَا، لَكِنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةٍ، أَوْ نَقْصٍ، أَوْ تَغْيِيرِ صُورَةٍ، فَهَل يُؤَثِّرُ ذَلِكَ عَلَى اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ؟
أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ صُوَرًا كَثِيرَةً، وَفُرُوعًا مُتَعَدِّدَةً، وَأَهَمُّ مَا وَرَدَ فِيهِ ذَلِكَ: الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، وَالْغَصْبُ وَالْهِبَةُ. وَنُورِدُ فِيمَا يَلِي بَعْضَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِل.

أَوَّلاً: بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْغَصْبِ:
20 - يَتَشَابَهُ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْغَصْبِ، حَيْثُ إِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يَجِبُ فِيهِ الْفَسْخُ وَالرَّدُّ حَقًّا لِلشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ الْمَغْصُوبُ يَجِبُ رَدُّهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حديث " من جد ماله بعينه. . . " أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بهذا اللفظ (2 / 474 ط الميمنية) والبخاري بلفظ مقارب (فتح الباري 5 / 92 ط السلفية) .
(2) البدائع 7 / 83، 89، 148، 5 / 300،210،127، 6 / 216، ومنتهى الإرادات 2 / 188، 193، 223، 227، 397، 401، 455، ومغني المحتاج 2 / 40، 56، 67، 97، 99، 148، 319، والدسوقي 3 / 71، وجواهر الإكليل 2 / 94، 144، 146، 148، والحطاب 5 / 409 والكافي 2 / 840، 1086

(3/290)


أ - التَّغْيِيرُ بِالزِّيَادَةِ:
21 - إِذَا تَغَيَّرَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا أَوِ الْمَغْصُوبُ بِالزِّيَادَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنَ الأَْصْل، كَالسِّمَنِ وَالْجَمَال، أَوْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الأَْصْل، كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ، أَمْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الأَْصْل، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَسْتَرِدَّ الأَْصْل مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَتَابِعَةٌ لِلأَْصْل، وَالأَْصْل مَضْمُونُ الرَّدِّ، فَكَذَلِكَ التَّبَعُ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْغَصْبِ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا. أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا يَفُوتُ بِالزِّيَادَةِ، وَلاَ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ (1) .
وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الأَْصْل، كَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَمْتَنِعُ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِتَعَذُّرِ الْفَصْل، أَمَّا فِي الْغَصْبِ فَإِنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ دُونَ صَبْغٍ، وَمِثْلُهُ السَّوِيقُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا، وَذَلِكَ رِعَايَةٌ لِلْجَانِبَيْنِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. لاَ رَدَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَفِي الْغَصْبِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ، أَمَّا السَّوِيقُ فَلاَ يُسْتَرَدُّ؛ لأَِنَّهُ تَفَاضُل طَعَامَيْنِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: يُرَدُّ لِصَاحِبِهِ، وَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ إِنْ زَادَ بِذَلِكَ، وَيَقُول
__________
(1) البدائع 5 / 302، والهداية 4 / 19، ومنح الجليل 2 / 580، و3 / 524، ومغني المحتاج 2 / 295،286،40، والمهذب 1 / 275، 377، ومنتهى الإرادات 2 / 405، والمغني 4 / 253

(3/290)


الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَمْكَنَ قَلْعُ الصَّبْغِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ (1) .

ب - التَّغْيِيرُ بِالنَّقْصِ:
22 - إِذَا كَانَ التَّغْيِيرُ بِالنَّقْصِ، كَمَا إِذَا نَقَصَ الْعَقَارُ بِسُكْنَاهُ وَزِرَاعَتِهِ، وَكَتَخَرُّقِ الثَّوْبِ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَمْ بِفِعْل الْغَاصِبِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْغَصْبِ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ التَّغْيِيرُ بِالنَّقْصِ مَانِعًا لِلرَّدِّ وَفَوْتًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، كَالزِّيَادَةِ.

ج - التَّغْيِيرُ بِالصُّورَةِ وَالشَّكْل:
23 - وَإِذَا تَغَيَّرَتْ صُورَةُ الْمُسْتَحَقِّ، بِأَنْ كَانَ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ غَزْلاً فَنَسَجَهُ، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَخَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ طِينًا جَعَلَهُ لَبِنًا أَوْ فَخَّارًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهِ فِي الاِسْتِرْدَادِ، وَيَجِبُ رَدُّهُ لِصَاحِبِهِ؛ لأَِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ أَرْشُ نَقْصِهِ إِنْ نَقَصَ بِذَلِكَ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهِ فِي اسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ، لأَِنَّ اسْمَهُ قَدْ تَبَدَّل (3) .

د - التَّغْيِيرُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ:
24 - وَالْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ لاَ يَمْنَعُ الاِسْتِرْدَادَ، وَيُؤْمَرُ صَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ بِقَلْعِ
__________
(1) البدائع 5 / 302، والهداية 4 / 17، ومنح الجليل 3 / 538، والمواق بهامش الحطاب 5 / 280، ومنتهى الإرادات 2 / 411، ومغني المحتاج 2 / 291
(2) البدائع 5 / 302، والهداية 4 / 16، 19، والمغني 5 / 247، ومنح الجليل 3 / 508، ومغني المحتاج 2 / 281
(3) منتهى الإرادات 2 / 406، والمهذب 1 / 376، ومنح الجليل 3 / 518، والبدائع 5 / 303، والاختيار 3 / 62

(3/291)


غَرْسِهِ، وَنَقْضِ بِنَائِهِ، وَرَدِّ الأَْرْضِ لِصَاحِبِهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْحُكْمُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْغَصْبِ دُونَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُعْتَبَرُ فَوْتًا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ حَصَلاَ بِتَسْلِيطٍ مِنَ الْبَائِعِ، فَيَنْقَطِعُ حَقُّهُ فِي الاِسْتِرْدَادِ (1) .
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ إِلاَّ بِالْهَلاَكِ الْكُلِّيِّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَنْقَطِعُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ فِي الْمُسْتَحَقِّ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَتْ صُورَتُهُ وَتَبَدَّل اسْمُهُ.
وَالأَْمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْغَصْبِ، أَمَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالتَّغْيِيرَ يُعْتَبَرُ فَوْتًا، وَلاَ يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفَاصِيل كَثِيرَةٌ وَمَسَائِل مُتَعَدِّدَةٌ. (ر: غَصْب - بَيْع - فَسَاد - فَسْخ) .

ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْهِبَةِ:
25 - مَنْ وَهَبَ لِمَنْ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ - عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، تَفْصِيلُهُ فِي الْهِبَةِ - فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَيَسْتَرِدَّهَا مَا دَامَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا.
فَإِنْ زَادَتِ الْهِبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً - كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ - فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لاَ تَمْنَعُ الاِسْتِرْدَادَ، لَكِنَّهُ يَسْتَرِدُّ الأَْصْل فَقَطْ، دُونَ الزِّيَادَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) منح الجليل 3 / 523، ومنتهى الإرادات 2 / 402، والهداية 4 / 17، والمهذب 1 / 378

(3/291)


وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ. وَإِذَا نَقَصَتِ الْهِبَةُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَإِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْ غَيْرِ أَرْشِ مَا نَقَصَ (1) .
وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ ثَوَابٍ مَعْلُومٍ تَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ مَجْهُولاً لَمْ تَصِحَّ، كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَصَارَتْ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُهُ، وَتُرَدُّ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ؛ لأَِنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِ الْوَاهِبِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ يُجِيزُ لِلأَْبِ، وَلِمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِثَوَابٍ الرُّجُوعَ فِيهَا، إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا، فَإِنْ حَدَثَ فِيهَا تَغْيِيرٌ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فَلاَ تُسْتَرَدُّ، أَوْ كَانَ الْوَلَدُ الْمَوْهُوبُ لَهُ تَزَوَّجَ لأَِجْل الْهِبَةِ، فَذَلِكَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهَا (3) .

الثَّانِي: الإِْتْلاَفُ بِوَاسِطَةِ الْمُسْتَحَقِّ:
26 - يُعْتَبَرُ إِتْلاَفُ الْمَالِكِ مَا يَسْتَحِقُّهُ عِنْدَ وَاضِعِ الْيَدِ عَلَيْهِ اسْتِرْدَادًا لَهُ، فَالطَّعَامُ الْمَغْصُوبُ إِذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ لِمَالِكِهِ، فَأَكَلَهُ عَالِمًا أَنَّهُ طَعَامُهُ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنَ الضَّمَانِ، وَاعْتُبِرَ الْمَالِكُ مُسْتَرِدًّا
__________
(1) الهداية 3 / 227، والزيلعي 5 / 98، ومنتهى الإرادات 2 / 526، ومغني المحتاج 2 / 403
(2) مغني المحتاج 2 / 405، والمهذب 1 / 454، 455، ومنتهى الإرادات 2 / 518، 519
(3) منح الجليل 4 / 106

(3/292)


لِطَعَامِهِ؛ لأَِنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ عَالِمًا مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَالِكُ أَنَّهُ طَعَامُهُ، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرِ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنَ الضَّمَانِ (1) .
وَإِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَثَبَتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ فِيهِ لأَِيِّ سَبَبٍ، فَأَتْلَفَهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ بِالاِسْتِهْلاَكِ. وَإِذَا هَلَكَ الْبَاقِي مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْجَمِيعِ، وَيَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ تَلَفَ الْبَاقِي حَصَل مُضَافًا إِلَى فِعْلِهِ فَصَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْكُل. وَلَوْ قَتَل الْبَائِعُ الْمَبِيعَ يُعْتَبَرُ مُسْتَرِدًّا بِالْقَتْل، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ الْبَائِعُ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهِ وَمَاتَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَتْل فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا (2) .

مَنْ لَهُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ:
27 - يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ - إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ - اسْتِرْدَادُ مَا يَسْتَحِقُّ لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَكَمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلْمَالِكِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَالْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي تَخْلِيصِ حَقِّهِ مِنْ رَدِّ وَدِيعَةٍ، وَمَغْصُوبٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَمَا يُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَجَمْعِ الأَْمْوَال الضَّائِعَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الاِسْتِرْدَادُ.
__________
(1) البدائع 7 / 150، ومغني المحتاج 2 / 280، الدسوقي 3 / 452، ومنح الجليل 3 / 534، ومنتهى الإرادات 2 / 227، 228 وكشاف القناع 4 / 103 ط النصر بالرياض.
(2) البدائع 5 / 239، 241، 303، ومغني المحتاج 2 / 67 والدسوقي 3 / 105، والمغني 4 / 124

(3/292)


وَإِذَا تَبَرَّعَ الصَّبِيُّ لاَ تَنْفُذُ تَبَرُّعَاتُهُ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ رَدُّهَا (1) .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيل يَقُومُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ فِيمَا وُكِّل فِيهِ، وَالرَّدُّ عَلَى الْوَكِيل حِينَئِذٍ يَكُونُ كَالرَّدِّ عَلَى الْمُوَكِّل، حَيْثُ إِنَّ الْوَكَالَةَ تَجُوزُ فِي الْفُسُوخِ، وَفِي قَبْضِ الْحُقُوقِ (2) .
وَمِثْل ذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَدَّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَضُرُّ بِالْوَقْفِ (3) .
وَالْحَاكِمُ أَوِ الْقَاضِي لَهُ النَّظَرُ فِي مَال الْغَائِبِ، وَيَأْخُذُ لَهُ الْمَال مِنَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَيَحْفَظُهُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ (4) .
28 - كَذَلِكَ لِلإِْمَامِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، فَمَنْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ شَيْئًا مِنَ الْمَوَاتِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ، لَكِنْ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ، كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الإِْحْيَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ بِلاَل بْنِ الْحَارِثِ حَيْثُ اسْتَرْجَعَ عُمَرُ مِنْهُ مَا عَجَزَ عَنْ إِحْيَائِهِ، مِنَ الْعَقِيقِ الَّذِي أَقْطَعَهُ إِيَّاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) ، وَلَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْجَاعُهُ.
وَكَذَلِكَ رَدُّ عُمَرَ قَطِيعَةَ أَبِي بَكْرٍ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، فَسَأَل عُيَيْنَةُ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ كِتَابًا فَقَال: لاَ، وَاَللَّهِ لاَ أُجَدِّدُ شَيْئًا رَدَّهُ عُمَرُ. لَكِنِ الْمُقْطَعُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ
__________
(1) قليوبي 3 / 181، 183، 186، وابن عابدين 5 / 465، 466 ط ثالثة، والاختيار 5 / 67، والحطاب 4 / 245، ومنح الجليل 3 / 169، ومنتهى الإرادات 2 / 293
(2) الدسوقي 3 / 377، والبحر الرائق 6 / 62، ومنتهى الإرادات 2 / 302، 304، وقليوبي 3 / 183
(3) جامع الفصولين 2 / 18 ط بولاق أولى.
(4) الاختيار 3 / 67،65، وابن عابدين 5 / 467، وقليوبي 3 / 182، والحطاب 4 / 156، والمغني 4 / 520
(5) حديث بلال بن حارث أخرجه البيهقي (6 / 148 - 149 ط دائرة المعارف العثمانية) .

(3/293)


مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، وَأَوْلَى بِإِحْيَائِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ وَإِلاَّ قَال لَهُ السُّلْطَانُ: ارْفَعْ يَدَكَ عَنْهُ (1) .

مَوَانِعُ الاِسْتِرْدَادِ:
29 - سُقُوطُ حَقِّ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الاِسْتِرْدَادِ لِمَانِعٍ مِنَ الْمَوَانِعِ يَشْمَل مَا يَأْتِي:
أ - سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ مَعَ سُقُوطِ الضَّمَانِ.
ب - سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ فِي الضَّمَانِ.
ج - سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالضَّمَانُ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً.

أَوَّلاً: يَسْقُطُ الْحَقُّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالضَّمَانِ بِمَا يَأْتِي:

أ - حُكْمُ الشَّرْعِ:
30 - وَذَلِكَ كَالصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لأَِنَّ الصَّدَقَةَ لإِِرَادَةِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، وَقَدْ قَال سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لأَِنَّ الرَّأْيَ الرَّاجِحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ لِلتَّطَوُّعِ عَلَى الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا (2) .
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَحْمَدَ: لاَ يَجُوزُ رُجُوعُ الْمَرْأَةِ فِيمَا وَهَبَتْهُ لِزَوْجِهَا. وَلِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ هِبَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 579، والمهذب 2 / 241، ومنح الجليل 4 / 17، وابن عابدين 5 / 278
(2) المغني 5 / 684، ونهاية المحتاج 5 / 413 ط المكتبة الإسلامية، والهداية 3 / 231، والكافي 2 / 1008

(3/293)


عِنْدَهُمْ، وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. (1)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُل أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهَا أَيْ لَمْ يُعَوِّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لأَِنَّ التَّوَاصُل سَبَبُ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الآْخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَال (2) .
وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ إِذَا تَمَّ وَلَزِمَ، لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالاً أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ فَقَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُبْتَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ (3) .
وَالْخَمْرُ لاَ تُسْتَرَدُّ؛ لِحُرْمَةِ تَمَلُّكِهَا لِلْمُسْلِمِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْدَادُهَا إِنْ غُصِبَتْ مِنْهُ، وَيَجِبُ إِرَاقَتُهَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا (4) .
__________
(1) حديث " لا يحل لرجل. . . . "، أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وابن عباس وقال: " هذا حديث حسن صحيح ". وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه (تحفة الأحوذي 6 / 333 نشر محمد عبد المحسن الكتبي ط مطبعة الفجالة بمصر) .
(2) البدائع 6 / 132، والمغني 5 / 682 و683، والحطاب 6 / 64، والمهذب 1 / 454
(3) الكافي 2 / 1012، والمغني 5 / 600، وابن عابدين 3 / 361، ونهاية المحتاج 5 / 385
(4) منح الجليل 3 / 519، والمغني 5 / 299، ومغني المحتاج 2 / 285، وابن عابدين 5 / 137. وحديث " أمر أبا طلحة. . . " أخرجه أبو داود مطولا (عون المعبود 3 / 367 ط المطبعة الأنصارية) وأخرجه بالإسناد نفسه مسلم في صحيحه مختصرا (3 / 1573 ط عيسى الحلبي) .

(3/294)


ب - التَّصَرُّفُ وَالإِْتْلاَفُ:
31 - الْهِبَةُ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلاِبْنِ أَمْ لِلأَْجْنَبِيِّ - عَلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ - إِذَا تَصَرَّفَ فِيهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ أَتْلَفَهَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا مَعَ سُقُوطِ الضَّمَانِ (1) .

ج - التَّلَفُ:
32 - مَا كَانَ أَمَانَةً، كَالْمَال تَحْتَ يَدِ الْوَكِيل وَعَامِل الْقِرَاضِ، وَكَالْوَدِيعَةِ، وَكَالْعَارِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - إِذَا تَلِفَ دُونَ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ - فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الاِسْتِرْدَادِ (2) مَعَ سُقُوطِ الضَّمَانِ.

ثَانِيًا: مَا يُسْقِطُ الْحَقَّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْحَقِّ فِي الضَّمَانِ:
33 - اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ هُوَ الأَْصْل لِمَا يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ، كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، فَمَا دَامَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ.
بَل إِنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ لاَ يَمْنَعُ الرَّدَّ، فَيَجْتَمِعُ عَلَى السَّارِقِ: الْقَطْعُ وَضَمَانُ مَا سَرَقَهُ؛ لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ، فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا، فَيَرُدُّ السَّارِقُ مَا سَرَقَهُ لِمَالِكِهِ إِنْ بَقِيَ؛ لأَِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ.
وَقَدْ يَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ مَا يَمْنَعُ رَدَّهَا وَذَلِكَ بِاسْتِهْلاَكِهَا، أَوْ تَلَفِهَا، أَوْ تَغَيُّرِهَا تَغَيُّرًا يُخْرِجُهَا عَنِ اسْمِهَا، وَعِنْدَئِذٍ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِي الضَّمَانِ (الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةُ) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَان) .
__________
(1) منح الجليل 4 / 106، والبدائع 6 / 128، 129، والزيلعي 5 / 98، ومنتهى الإرادات 2 / 526، ومغني المحتاج 2 / 403
(2) لهداية 3 / 203، 215، 220، وجواهر الإكليل 2 / 145،130،104، والمهذب 1 / 366، 364، 395، ومنتهى الإرادات 2 / 337، 455

(3/294)


ثَالِثًا: سُقُوطُ الْحَقِّ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالضَّمَانِ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً:
34 - وَذَلِكَ كَمَا لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا دَخَل دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَلاَ بِالضَّمَانِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَل جَلاَلُهُ.

عَوْدَةُ حَقِّ الاِسْتِرْدَادِ بَعْدَ زَوَال الْمَانِعِ:
35 - مَا وَجَبَ رَدُّهُ ثُمَّ بَطَل حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ فِيهِ لِمَانِعٍ، فَإِنَّ هَذَا الْحَقَّ يَعُودُ إِذَا زَال الْمَانِعُ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ إِذَا زَال عَادَ الْمَمْنُوعُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
الْبَيْعُ الْفَاسِدُ - حَيْثُ يَجِبُ فِيهِ الرَّدُّ - إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ سَقَطَ حَقُّ الرَّدِّ، فَإِنْ رُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ شَرْطٍ، أَوْ رُؤْيَةٍ، أَوْ عَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ، وَعَادَ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الأَْوَّل عَادَ حَقُّ الْفَسْخِ وَالرَّدِّ؛ لأَِنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسْخٌ مَحْضٌ، فَكَانَ دَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنَ الأَْصْل وَجَعْلاً لَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. أَمَّا لَوِ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، أَوْ عَادَ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ مُبْتَدَأٍ لاَ يَعُودُ حَقُّ الْفَسْخِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ اخْتَلَفَ لاِخْتِلاَفِ السَّبَبِ، فَكَانَ اخْتِلاَفُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلاَفِ الْعَقْدَيْنِ.
هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُسَايِرُهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَوْدَةِ حَقِّ الاِسْتِرْدَادِ إِذَا زَال الْمَانِعُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّهُ لَوْ عَادَ الْمَبِيعُ الْفَاسِدُ إِلَى الْمُشْتَرِي بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ - سَوَاءٌ كَانَ عَوْدُهُ اخْتِيَارِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا كَإِرْثٍ - فَإِنَّهُ يَعُودُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ، مَا لَمْ يَحْكُمْ حَاكِمٌ بِعَدَمِ الرَّدِّ، أَوْ كَانَ الْفَوَاتُ رَاجِعًا لِتَغَيُّرِ السُّوقِ، ثُمَّ عَادَ السُّوقُ إِلَى حَالَتِهِ الأُْولَى، فَلاَ

(3/295)


يَرْتَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ الْمَانِعِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الرَّدُّ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: فَإِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ عِنْدَهُمْ لاَ يَحْصُل بِهِ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِبَيْعٍ وَلاَ هِبَةٍ وَلاَ عِتْقٍ وَلاَ غَيْرِهِ، هُوَ وَاجِبُ الرَّدِّ مَا لَمْ يَتْلَفْ فَيَكُونُ فِيهِ الضَّمَانُ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَنَافِعِ الأَْعْضَاءِ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى حَالَتِهَا الطَّبِيعِيَّةِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تُسْتَرَدُّ. وَعَلَى ذَلِكَ: مَنْ جَنَى عَلَى سَمْعِ إِنْسَانٍ فَزَال السَّمْعُ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الدِّيَةُ، ثُمَّ عَادَ السَّمْعُ، وَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ السَّمْعَ لَمْ يَذْهَبْ؛ لأَِنَّهُ لَوْ ذَهَبَ لَمَا عَادَ. وَمَنْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْنِ فَذَهَبَ ضَوْءُهُمَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ، فَإِنْ أُخِذَتِ الدِّيَةُ، ثُمَّ عَادَ الضَّوْءُ وَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ (2) . (ر: جِنَايَة - دِيَة) .

أَثَرُ الاِسْتِرْدَادِ:
36 - الاِسْتِرْدَادُ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَثْبُتُ نَتِيجَةً لِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَفِي الْغَصْبِ يَثْبُتُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ مِنَ الْغَاصِبِ، وَفِي الْعَارِيَّةِ يَثْبُتُ لِلْمُعِيرِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، وَفِي الْوَدِيعَةِ يَثْبُتُ لِلْمُودِعِ حَقُّ الاِسْتِرْدَادِ مِنَ الْمُودَعِ، وَفِي الرَّهْنِ يَثْبُتُ لِلرَّاهِنِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْمَرْهُونِ مِنَ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ.
__________
(1) البدائع 5 / 301، 302، والدسوقي 3 / 75، والمغني 4 / 252، 253
(2) الحطاب 6 / 261 - 264، ونهاية المحتاج 7 / 316، والمحرر 2 / 129، والزيلعي 6 / 138

(3/295)


وَمَا وَجَبَ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالأَْمَانَاتِ حِينَ طَلَبِهَا إِذَا رُدَّتْ أَوِ اسْتَرَدَّهَا كُلَّهَا فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
أ - الْبَرَاءَةُ مِنَ الضَّمَانِ، فَالْغَاصِبُ يَبْرَأُ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُودَعُ يَبْرَأُ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ، وَهَكَذَا.
ب - يُعْتَبَرُ الرَّدُّ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، فَرَدُّ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا يُعْتَبَرُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ.
ج - تَرَتُّبُ بَعْضِ الْحُقُوقِ، كَثُبُوتِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ لِمَنِ اسْتُحِقَّ بِيَدِهِ شَيْءٌ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ.

اسْتِرْسَالٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِرْسَال أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ وَالثَّبَاتُ. وَمِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: الاِسْتِئْنَاسُ وَالطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الإِْنْسَانِ وَالثِّقَةُ بِهِ. (1)
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِعِدَّةِ مَعَانٍ:
أ - بِمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى الإِْنْسَانِ وَالثِّقَةِ بِهِ، وَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ (2) .
ب - بِمَعْنَى الاِنْسِحَابِ وَاللَّحَاقِ وَالاِنْجِرَارِ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ (3) ، وَذَلِكَ فِي الْوَلاَءِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (رسل) .
(2) الحطاب 4 / 470 ط دار الفكر، والمغني 3 / 584 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(3) الوجيز 2 / 279 ط مطبعة الآداب، والمواق بهامش الحطاب 6 / 361 ط دار الفكر.

(3/296)


ج - بِمَعْنَى الاِنْطِلاَقِ وَالاِنْبِعَاثِ بِدُونِ بَاعِثٍ (1) ، وَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ:
2 - الْمُسْتَرْسِل هُوَ الْجَاهِل بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَلاَ يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: الْمُسْتَرْسِل: هُوَ الَّذِي لاَ يُمَاكِسُ، فَكَأَنَّهُ اسْتَرْسَل إِلَى الْبَائِعِ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ، مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ وَلاَ مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَرْسِل إِذَا غَبَنَ غَبْنًا يَخْرُجُ عَنِ الْعَادَةِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَبْنُ الْمُسْتَرْسِل حَرَامٌ. (2) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَثْبُتُ لَهُ الرَّدُّ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ سَلِيمٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ تَدْلِيسٌ، وَإِنَّمَا فَرَّطَ الْمُشْتَرِي فِي تَرْكِ التَّأَمُّل، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الرَّدُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يُفْتَى بِالرَّدِّ إِنْ حَدَثَ غَرَرٌ، وَذَلِكَ رِفْقًا بِالنَّاسِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ غَبْنًا وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ، وَهَل يُقَدَّرُ بِالثُّلُثِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (غَبْن - خِيَار) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 211 ط دار المعرفة بيروت، والوجيز 2 / 207
(2) المغني 3 / 584، والحطاب 4 / 470، والمواق بهامش الحطاب 4 / 468، وحديث " غبن المسترسل حرام " أخرجه الطبراني8 / 149 ط وزارة الأوقاف العراقية. وقال الهيثمي: " فيه موسى بن عمير الأعمى وهو ضعيف جدا ". انظر مجمع الزوائد (4 / 76 ط القدسي) .
(3) ابن عابدين 4 / 166، 167 ط بولاق الثالثة، والمهذب 1 / 294 ط دار المعرفة بيروت.

(3/296)


ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لِلصَّيْدِ:
3 - يُشْتَرَطُ لإِِبَاحَةِ مَا قَتَلَهُ الْحَيَوَانُ الْجَارِحُ إِرْسَال الصَّائِدِ لَهُ. فَإِذَا اسْتَرْسَل مِنْ نَفْسِهِ دُونَ إِرْسَال الصَّائِدِ فَلاَ يَحِل مَا قَتَلَهُ، إِلاَّ إِذَا وَجَدَهُ غَيْرَ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِل فَذَكَّاهُ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا أَشْلاَهُ الصَّائِدُ - أَيْ أَغْرَاهُ - أَوْ زَجَرَهُ أَثْنَاءَ اسْتِرْسَالِهِ، هَل يَحِل أَوْ لاَ؟ عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (صَيْد - وَإِرْسَال) .

ثَالِثًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْوَلاَءِ:
4 - إِذَا تَزَوَّجَ الْمَمْلُوكُ حُرَّةً مَوْلاَةً لِقَوْمٍ أَعْتَقُوهَا، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلاَدًا فَهُمْ مَوَالٍ لِمَوَالِي أُمِّهِمْ، مَا دَامَ الأَْبُ رَقِيقًا مَمْلُوكًا، فَإِذَا عَتَقَ الأَْبُ اسْتُرْسِل الْوَلاَءُ (انْجَرَّ وَانْسَحَبَ) مِنْ مَوَالِي الأُْمِّ إِلَى مَوَالِي الْعَبْدِ.
أَمَّا لَوْ وَلَدَتْ الأَْمَةُ قَبْل عِتْقِهَا، ثُمَّ عَتَقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ يَنْسَحِبُ الْوَلاَءُ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ مَسَّهُ رِقٌّ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ فِي بَابِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَفِي بَابِ الْوَلاَءِ، وَفِي شُرُوطِ حِل الصَّيْدِ فِي بَابِ الصَّيْدِ (3) .
__________
(1) المغني 8 / 550، 545، والبدائع 5 / 55 ط الجمالية، وجواهر الإكليل 1 / 211، والوجيز 2 / 207
(2) الوجيز 2 / 279، والمهذب 2 / 23، والمواق بهامش الحطاب 6 / 361، والمغني 6 / 361، والهداية 1 / 271، 272، ط المكتبة الإسلامية، والزاهر فقرة 428، 993 ط وزارة الأوقاف الكويتية.
(3) المراجع السابقة.

(3/297)


اسْتِرْقَاقٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِرْقَاقُ لُغَةً: الإِْدْخَال فِي الرِّقِّ، وَالرِّقُّ (1) : كَوْنُ الآْدَمِيِّ مَمْلُوكًا مُسْتَعْبَدًا. وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْسْرُ وَالسَّبْيُ:،
2 - الأَْسْرُ هُوَ: الشَّدُّ بِالإِْسَارِ، وَالإِْسَارُ: مَا يُشَدُّ بِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الأَْسْرُ عَلَى الأَْخْذِ ذَاتِهِ. وَالسَّبْيُ هُوَ: الأَْسْرُ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَغْلِبُ إِطْلاَقُ السَّبْيِ عَلَى أَخْذِ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ.
وَالأَْسْرُ وَالسَّبْيُ مَرْحَلَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الاِسْتِرْقَاقِ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ يَتْبَعُهَا اسْتِرْقَاقٌ أَوْ لاَ يَتْبَعُهَا، إِذْ قَدْ يُؤْخَذُ الْمُحَارِبُ، ثُمَّ يُمَنُّ عَلَيْهِ، أَوْ يُفْدَى، أَوْ يُقْتَل وَلاَ يُسْتَرَقُّ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلاِسْتِرْقَاقِ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِرْقَاقِ بِاخْتِلاَفِ الْمُسْتَرَقِّ (بِالْفَتْحِ) ، فَإِنْ كَانَ الأَْسِيرُ مِمَّنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي الْحَرْبِ فَلاَ يَجِبُ اسْتِرْقَاقُهُ، بَل يَجُوزُ، وَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ إِلَى
__________
(1) لسان العرب مادة: (رق) .
(2) لسان العرب، وتاج العروس مادة: (رق) و (أسر) و (سبى) ، والمغني 8 / 375 طبعة المنار الثالثة، أو طبعة مكتبة الرياض الحديثة، وأسنى المطالب 4 / 193 طبع المكتبة الإسلامية، وحاشية الدسوقي 2 / 200 طبع دار الفكر.

(3/297)


الإِْمَامِ، إِنْ رَأَى فِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ قَتَلَهُ، وَإِنْ رَأَى فِي اسْتِرْقَاقِهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ اسْتَرَقَّهُ، كَمَا يَجُوزُ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ أَيْضًا. أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي الْحَرْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ اسْتِرْقَاقِهِ، بَل إِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ يُسْتَرَقُّ بِنَفْسِ الأَْسْرِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِ، حَيْثُ يُخَيَّرُ الإِْمَامُ بَيْنَ الاِسْتِرْقَاقِ وَغَيْرِهِ، كَجَعْلِهِمْ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوِ الْمُفَادَاةِ بِهِمْ (2) ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ - كَمَا فَعَل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ - عَلَى مَا يَرَى مِن الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ. وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَسْرَى)

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الاِسْتِرْقَاقِ:
4 - قَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبُخَارِيُّ شَيْخُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ:
" الرِّقُّ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي بَنِي آدَمَ لاِسْتِنْكَافِهِمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَكُلُّهُمْ عَبِيدُهُ وَأَرِقَّاؤُهُ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُمْ وَكَوَّنَهُمْ، فَلَمَّا اسْتَنْكَفُوا عَنْ عُبُودِيَّتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى جَزَاهُمْ بِرِقِّهِمْ لِعِبَادِهِ، فَإِذَا أَعْتَقَهُ فَقَدْ أَعَادَهُ الْمُعْتِقُ إِلَى رِقِّهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، فَعَسَى يَرَى هَذِهِ الْمِنَّةَ: أَنَّهُ لَوِ اسْتَنْكَفَ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لاَبْتُلِيَ بِرِقٍّ لِعَبِيدِهِ، فَيُقِرُّ لِلَّهِ تَعَالَى
__________
(1) الأم 4 / 144 طبع دار المعرفة، وأسنى المطالب 4 / 193، والكافي 3 / 271
(2) بدائع الصنائع 9 / 4348، وفتح القدير 4 / 306، ومواهب الجليل 3 / 351

(3/298)


بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَفْتَخِرُ بِعُبُودِيَّتِهِ (1) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} . (2)
5 - وَكَانَ طَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنَ الرِّقِّ الَّذِي انْتَهَجَهُ الإِْسْلاَمُ يَتَلَخَّصُ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: حَصْرِ مَصَادِرِ الاِسْتِرْقَاقِ بِمَصْدَرَيْنِ اثْنَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا، وَإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ أَيُّ مَصْدَرٍ غَيْرُهُمَا مَصْدَرًا مَشْرُوعًا لِلاِسْتِرْقَاقِ:
أَحَدُهُمَا: الأَْسْرَى وَالسَّبْيُ مِنْ حَرْبٍ لِعَدُوٍّ كَافِرٍ إِذَا رَأَى الإِْمَامُ أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ اسْتِرْقَاقَهُمْ.
وَثَانِيهُمَا: مَا وُلِدَ مِنْ أُمٍّ رَقِيقَةٍ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا، أَمَّا لَوْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا فَهُوَ حُرٌّ.
الأَْمْرُ الثَّانِي: فَتْحُ أَبْوَابِ تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ عَلَى مَصَارِيعِهَا، كَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ، وَالْعِتْقِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُكَاتَبَةِ، وَالاِسْتِيلاَدِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالْعِتْقِ بِمِلْكِ الْمَحَارِمِ، وَالْعِتْقِ بِإِسَاءَةِ الْمُعَامَلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

6 - مَنْ لَهُ حَقُّ الاِسْتِرْقَاقِ:
اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَهُ حَقُّ الاِسْتِرْقَاقِ أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ هُوَ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ لِلْمُسْلِمِينَ، بِحُكْمِ وِلاَيَتِهِ الْعَامَّةِ، أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ، وَلِذَلِكَ جُعِل إِلَيْهِ أَمْرُ الْخِيَارِ فِي الاِسْتِرْقَاقِ وَعَدَمِهِ (3) .
__________
(1) محاسن الإسلام للبخاري شيخ صاحب الهداية ص 55 ط القدسي.
(2) سورة النساء / 172
(3) المغني 8 / 372، 377، وأسنى المطالب 4 / 193 طبع المكتبة الإسلامية، وحاشية الدسوقي 2 / 205، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 447 طبع دار المعرفة.

(3/298)


أَسْبَابُ الاِسْتِرْقَاقِ:

أَوَّلاً - مَنْ يُضْرَبُ عَلَيْهِ الرِّقُّ:
7 - لاَ يَجُوزُ ضَرْبُ الرِّقِّ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيمَنْ يُسْتَرَقُّ صِفَتَانِ: الصِّفَةُ الأُْولَى الْكُفْرُ، وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ الْحَرْبُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَارِبًا بِنَفْسِهِ، أَمْ تَابِعًا لِمُحَارِبٍ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:

أ - الأَْسْرَى مِن الَّذِينَ اشْتَرَكُوا فِي حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ فِعْلاً.
8 - وَهَؤُلاَءِ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، أَوْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، أَوْ مِنَ الْبُغَاةِ.
(1) فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ: جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ بِالاِتِّفَاقِ، وَالْمَجُوسُ يُعَامَلُونَ مِثْلَهُمْ فِي هَذَا.
(2) أَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ. وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ.
أَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْعَرَبِ: فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْقُرَشِيِّينَ، فَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، بَل لاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ رَفَضُوهُ قُتِلُوا؛ وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ هَذَا التَّفْرِيقَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَالْقُرْآنَ نَزَل بِلُغَتِهِمْ، فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ، فَكَانَ

(3/299)


كُفْرُهُمْ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أَغْلَظَ مِنْ كُفْرِ الْعَجَمِ (1) .
(3) وَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ: فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بِالاِتِّفَاقِ، وَلاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ رَفَضُوهُ قُتِلُوا لِغِلَظِ كُفْرِهِمْ (2) .
(4) وَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْبُغَاةِ: فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَالإِْسْلاَمُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الرِّقِّ (3) .

ب - الأَْسْرَى مِنَ الَّذِينَ أُخِذُوا فِي الْحَرْبِ مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، كَالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ:
9 - وَهَؤُلاَءِ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بِالاِتِّفَاقِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، أَوْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ الْمُشْرِكِينَ (4) ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الرُّهْبَانَ الْمُنْقَطِعِينَ عَنِ النَّاسِ فِي الْجِبَال،
__________
(1) فتح القدير على الهداية 4 / 371 طبع بولاق سنة1316 هـ، والبحر الرائق 5 / 89 طبع المطبعة العلمية، ومجمع الأنهر 1 / 59 طبع المطبعة العثمانية سنة 1327 هـ، وبدائع الصنائع 9 / 4348 طبع مطبعة الإمام، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 447 طبع بولاق سنة 1254 هـ، وحاشية ابن عابدين 3 / 229 طبع بولاق الأولى، وأسنى المطالب 4 / 193 طبع المكتبة الإسلامية، وحاشية الجمل 5 / 197 طبع دار إحياء التراث العربي، والمدونة 2 / 24 طبع مطبعة السعادة بمصر، وحاشية الدسوقي 2 / 184 طبع دار الفكر، ومواهب الجليل 3 / 358، والمغني لابن قدامة 8 / 372، و376، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 31 و125
(2) بدائع الصنائع 9 / 4348، وفتح القدير 4 / 371، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 447، وحاشية ابن عابدين 3 / 229، وحاشية الدسوقي 2 / 205 و201، وأسنى المطالب 4 / 123
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 311، والمدونة 2 / 21، والشرح الصغير 4 / 428 طبع دار المعارف، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 39
(4) بدائع الصنائع 9 / 4348، وحاشية ابن عابدين 3 / 229، 269، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 447، وحاشية الدسوقي 2 / 205،201،184، والمغني 8 / 376، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 127، وأسنى المطالب 4 / 193

(3/299)


إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ (1) ، وَإِنَّمَا كَانَ الاِسْتِرْقَاقُ لِهَؤُلاَءِ دُونَ الْقَتْل لِلتَّوَسُّل إِلَى إِسْلاَمِهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْحَرْبِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ أَهْل الْكِتَابِ بِاسْتِرْقَاقِ رَسُول اللَّهِ نِسَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ سَبْيِ الْمُرْتَدِّينَ بِاسْتِرْقَاقِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ سَبْيِ الْمُشْرِكِينَ بِاسْتِرْقَاقِ رَسُول اللَّهِ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَهُمْ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ (2) .
أَمَّا مَنْ يُؤْخَذُ مِنْ نِسَاءِ الْبُغَاةِ وَذَرَارِيِّهِمْ، فَلاَ يُسْتَرَقُّونَ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَالإِْسْلاَمُ يَمْنَعُ ضَرْبَ الرِّقِّ ابْتِدَاءً (3) .

ج - اسْتِرْقَاقُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَْسْرَى أَوِ السَّبْيِ:
10 - مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَْسْرَى بَعْدَ الأَْخْذِ فَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ لاَ يُنَافِي الرِّقَّ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ الأَْصْلِيِّ، وَقَدْ وُجِدَ الإِْسْلاَمُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ، وَهُوَ الأَْخْذُ (4) .

د - الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ:
11 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ارْتَدَّتْ، وَأَصَرَّتْ عَلَى رِدَّتِهَا لاَ تُسْتَرَقُّ، بَل تُقْتَل كَالْمُرْتَدِّ، مَا دَامَتْ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ: تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 177
(2) البدائع 9 / 4348، والمغني 8 / 123
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 311، والمدونة 2 / 21، والشرح الصغير 4 / 428، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 39
(4) فتح القدير 4 / 306، والبحر الرائق 5 / 94، وحاشية ابن عابدين 3 / 229، 233، وحاشية الجمل 2 / 198، والمغني 8 / 374، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 125

(3/300)


الإِْسْلاَمِ أَيْضًا. قِيل: لَوْ أُفْتِيَ بِهَذِهِ لاَ بَأْسَ بِهِ فِيمَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، حَسْمًا لِقَصْدِهَا السَّيِّئِ بِالرِّدَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْفُرْقَةِ (1) .

هـ - اسْتِرْقَاقُ الذِّمِّيِّ النَّاقِضِ لِلذِّمَّةِ:
12 - إِذَا أَتَى الذِّمِّيُّ مَا يُعْتَبَرُ نَقْضًا لِلذِّمَّةِ - عَلَى اخْتِلاَفِ الاِجْتِهَادَاتِ فِيمَا يُعْتَبَرُ نَقْضًا لِلذِّمَّةِ وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ (ر: ذِمَّة) - فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ وَحْدَهُ، دُونَ نِسَائِهِ وَذَرَارِيِّهِ؛ لأَِنَّهُ بِنَقْضِهِ الذِّمَّةَ قَدْ عَادَ حَرْبِيًّا، فَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ مَا يُطَبَّقُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ.
أَمَّا نِسَاؤُهُ وَذَرَارِيُّهُ فَيَبْقَوْنَ عَلَى الذِّمَّةِ، إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ نَقْضٌ لَهَا. (2)

و الْحَرْبِيُّ الَّذِي دَخَل إِلَيْنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ.
13 - إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ بِلاَدَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَمُقْتَضَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (3) ، وَالشَّافِعِيَّةِ (4) ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ يَصِيرُ فَيْئًا بِالدُّخُول، وَيَجُوزُ عِنْدَئِذٍ اسْتِرْقَاقُهُ، إِلاَّ الرُّسُل فَإِنَّهُمْ لاَ يُرَقُّونَ بِالاِتِّفَاقِ (ر: رَسُول) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ إِنَّمَا دَخَل لِيَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ، وَلِيَتَعَرَّفَ عَلَى شَرِيعَةِ الإِْسْلاَمِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ فَيْئًا (5) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 388، والسير الكبير للإمام محمد بن الحسن 3 / 1030، ومصنف عبد الرزاق10 / 176 طبع المكتب الإسلامي.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 243 و277، والشرح الصغير 4 / 430، وحاشية الدسوقي 2 / 187، 205، وأسنى المطالب 4 / 223، والمغني 8 / 458
(3) بدائع الصنائع 9 / 4344، وحاشية ابن عابدين 3 / 233
(4) أسنى المطالب 4 / 212، والمغني 8 / 403، 521
(5) أسنى المطالب 4 / 211

(3/300)


ز - التَّوَلُّدُ مِنَ الرَّقِيقَةِ:
14 - مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْحُرِّيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الأُْمُّ حُرَّةً كَانَ وَلَدُهَا حُرًّا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ وَلَدُهَا رَقِيقًا، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) . وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ التَّوَلُّدُ مِنْ سَيِّدِ الأَْمَةِ، إِذْ يُولَدُ حُرًّا وَيَنْعَقِدُ لأُِمِّهِ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ، فَتُصْبِحُ حُرَّةً بِمَوْتِ سَيِّدِهَا.

انْتِهَاءُ الاِسْتِرْقَاقِ:
15 - يَنْتَهِي الاِسْتِرْقَاقُ بِالْعِتْقِ. وَالْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ، وَكَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ. وَقَدْ يَكُونُ الْعِتْقُ بِالإِْعْتَاقِ لِمُجَرَّدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْعِتْقِ، كَأَنْ يُعْتِقَهُ فِي كَفَّارَةٍ (ر: كَفَّارَة) ، أَوْ نَذْرٍ (ر: نَذْر) . كَمَا تَنْتَهِي بِالتَّدْبِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهُ حُرًّا دُبُرَ وَفَاتِهِ أَيْ بَعْدَهَا (ر: تَدْبِير) ، أَوْ بِالْمُكَاتَبَةِ، أَوْ إِجْبَارِ وَلِيِّ الأَْمْرِ سَيِّدًا عَلَى إِعْتَاقِ عَبْدِهِ لإِِضْرَارِهِ بِهِ (ر: عِتْق) .

آثَارُ الاِسْتِرْقَاقِ:
16 - أ - يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِسْتِرْقَاقِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَسْنُونَةِ إِذَا كَانَتْ مُخِلَّةً بِحَقِّ السَّيِّدِ، كَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ مَثَلاً (ر: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) ، أَوِ الْوَاجِبَاتِ الْكِفَائِيَّةِ؛ لإِِخْلاَلِهَا بِحَقِّ السَّيِّدِ أَيْضًا، أَوْ لأَِمْرٍ آخَرَ كَالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ يُرَخِّصُ
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 7 / 299، 8 / 385، وآثار أبي يوسف ص 192، وآثار الإمام محمد ص 115، وأسنى المطالب 4 / 469

(3/301)


لِلْعَبْدِ فِي تَرْكِهَا. وَمِنْهَا جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنِ الْمَرْءِ بِاسْتِرْقَاقِهِ، لأَِنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ الْمَال، كَالزَّكَاةِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالصَّدَقَاتِ وَالْحَجِّ.
17 - ب - الْوَاجِبَاتُ الْمَالِيَّةُ عَلَى مَنِ اسْتُرِقَّ إِنْ كَانَ لَهَا بَدَلٌ بَدَنِيٌّ، فَإِنَّهُ يُصَارُ إِلَى بَدَلِهَا، كَالْكَفَّارَاتِ، فَالرَّقِيقُ لاَ يُكَفِّرُ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ وَلاَ بِالإِْطْعَامِ وَلاَ بِالْكِسْوَةِ، وَلَكِنَّهُ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ بَدَلٌ بَدَنِيٌّ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمُسْتَرَقِّ، فَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ عَلَى يَدِ إِنْسَانٍ فَقَطَعَهَا خَطَأً، وَكَانَتْ دِيَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، لَمْ يُكَلَّفِ الْمَالِكُ بِأَكْثَرَ مِنْ دَفْعِ الْعَبْدِ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَمَا يُذْكَرُ فِي أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ. وَكَذَا إِذَا اسْتَدَانَ مِنْ شَخْصٍ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ، وَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ، وَلاَ يُكَلَّفُ سَيِّدُهُ بِوَفَائِهِ. فَإِنِ اسْتُرِقَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَمْ يَسْقُطِ الدَّيْنُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ شَغْل ذِمَّتِهِ قَدْ حَصَل، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُسْقِطُهُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ لِحَرْبِيٍّ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ؛ لِعَدَمِ احْتِرَامِ الْحَرْبِيِّ (1) .
18 - ج - وَالاِسْتِرْقَاقُ يَمْنَعُ الْمُسْتَرَقَّ مِنْ سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
19 - د - كَمَا يَمْنَعُ الاِسْتِرْقَاقُ مِنْ سَائِرِ الاِسْتِحْقَاقَاتِ الْمَالِيَّةِ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا اسْتَحَقَّهُ الْمَالِكُ لاَ الرَّقِيقُ، فَالرَّقِيقُ لاَ يَرِثُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ.
وَإِنْ اسْتُرِقَّ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، فَإِنَّ سَيِّدَهُ هُوَ الَّذِي يُطَالَبُ بِهَذَا الدَّيْنِ، أَمَّا إِنْ كَانَ
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 195

(3/301)


الدَّيْنُ عَلَى حَرْبِيٍّ فَيَسْقُطُ (1) .
20 - هـ - وَإِذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ دُونَ وَالِدَيْهِ، حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ تَبَعًا لِلسَّابِي؛ لأَِنَّ لَهُ عَلَيْهِ وِلاَيَةً، وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ فَيَتْبَعُهُ (2) .
21 - وَ - وَالاِسْتِرْقَاقُ يَمْنَعُ الرَّجُل مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الرَّقِيقَ لاَ يَكُونُ أَمِيرًا وَلاَ قَاضِيًا؛ لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَمَانُ الرَّقِيقِ، وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ أَيْضًا، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ.
22 - ز - وَالاِسْتِرْقَاقُ مُخَفِّضٌ لِلْعُقُوبَةِ، فَتُنَصَّفُ الْحُدُودُ فِي حَقِّ الرَّقِيقِ، إِنْ كَانَتْ قَابِلَةً لِلتَّنْصِيفِ.
23 - ح - وَلِلاِسْتِرْقَاقِ أَثَرٌ فِي النِّكَاحِ، إِذِ الْعَبْدُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْحُرَّةِ، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَلاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ نِكَاحَ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَتَيْنِ، وَلاَ تُنْكَحُ أَمَةٌ عَلَى حُرَّةٍ.
24 - ط - وَلَهُ أَثَرٌ فِي الطَّلاَقِ أَيْضًا، إِذْ لاَ يَمْلِكُ الرَّقِيقُ مِنَ الطَّلاَقِ أَكْثَرَ مِنْ طَلْقَتَيْنِ، وَإِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَالطَّلاَقُ بِيَدِ سَيِّدِهِ.
25 - ي - وَلَهُ أَثَرٌ فِي الْعِدَّةِ، إِذْ عِدَّةُ الأَْمَةِ فِي الطَّلاَقِ حَيْضَتَانِ، لاَ ثَلاَثُ حِيَضٍ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهِ.
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 195، وحاشية الجمل 5 / 198
(2) أسنى المطالب 2 / 501، 4 / 195، وبدائع الصنائع 9 / 4314 مطبعة الإمام.

(3/302)


اسْتِسْعَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِسْعَاءُ لُغَةً: سَعْيُ الرَّقِيقِ فِي فِكَاكِ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّهِ إِذَا عَتَقَ بَعْضُهُ، فَيَعْمَل وَيَكْسِبُ، وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إِلَى مَوْلاَهُ. وَاسْتَسْعَيْتُهُ فِي قِيمَتِهِ: طَلَبْتُ مِنْهُ السَّعْيَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ (2)
وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَسْعَى غَيْرُ الإِْعْتَاقِ بِالْكِتَابَةِ، فَالْمُسْتَسْعَى لاَ يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ (3) ، لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لاَ إِلَى أَحَدٍ، وَالإِْسْقَاطُ لاَ إِلَى أَحَدٍ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، بِخِلاَفِ الْمُكَاتَبِ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الإِْقَالَةُ وَالْفَسْخُ (4) ، لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْكِتَابَةَ فِي أَنَّهُ إِعْتَاقٌ بِعِوَضٍ.
وَمَحَل الاِسْتِسْعَاءِ: مَنْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ فَإِنَّهُ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ، وَلاَ يُسْتَسْعَى؛
__________
(1) لسان العرب (سعى)
(2) الزاهر ص 427 ط وزارة الأوقاف بالكويت، وابن عابدين 3 / 15 ط بولاق، والطحطاوي على الدر 2 / 296
(3) العدوي على خليل 8 / 126 ط دار صادر
(4) الهداية مع فتح القدير 3 / 378 ط بولاق

(3/302)


لأَِنَّ الْعِتْقَ لاَ يَتَبَعَّضُ ابْتِدَاءً (1) ، وَلِحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ غُلاَمٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ، وَأَجَازَ عِتْقَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي لَفْظٍ: هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ، لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ. (2)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَسْعَى فِي الْبَاقِي.
3 - أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا، وَأَعْتَقَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَقَدْ خَيَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ الشَّرِيكَ الآْخَرَ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ: الْعِتْقُ، أَوْ تَضْمِينُ الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ، أَوِ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ، بَيْنَ الإِْعْتَاقِ وَبَيْنَ الاِسْتِسْعَاءِ فَقَطْ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُنَا: لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ، وَالسِّعَايَةُ مَعَ الإِْعْسَارِ، وَقَوْلُهُمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (3) ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ (4) أَيْ لاَ يُغْلِي عَلَيْهِ الثَّمَنُ (5) . وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَظَاهِرُ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 3 / 377، 382، والحطاب 6 / 336، 337 ط ليبيا، وتحفة المحتاج مع الشرواني وابن قاسم العبادي 10 / 354 ط دار صادر، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 269 ط المنار الأولى.
(2) حديث: " ليس لله شريك. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود 4 / 36 ط المطبعة الأنصارية) وأحمد 5 / 74، 75 ط الميمنية. وقال ابن حجر: " إسناده قوي " (فتح الباري 5 / 159 ط السلفية) .
(3) فتح القدير 3 / 377، 382
(4) حديث " منى أعتق شقصا. . . " أخرجه البخاري 5 / 156 (فتح الباري ط السلفية) ، ومسلم 2 / 1140 ط عيسى الحلبي، واللفظ لأبي داود، (عون المعبود 4 / 37 - ط المطبعة الأنصارية) .
(5) الهداية مع فتح القدير 3 / 380، 381، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 249، 250

(3/303)


مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ مَعَ الْيَسَارِ يَسْرِي الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي، وَيَغْرَمُ الْمُعْتِقُ قِيمَةَ حِصَّةِ الشُّرَكَاءِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلاَ سِرَايَةَ وَلاَ اسْتِسْعَاءَ (1) .
4 - وَيَقَعُ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ دَبَّرَ، أَوْ أَوْصَى بِعَبِيدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ جُزْءٌ مِنْ كُل وَاحِدٍ، وَيُسْتَسْعَى فِي بَاقِيهِ، وَقَال غَيْرُهُ: يُعْتَقُ ثُلُثُهُمْ بِالاِقْتِرَاعِ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْحُرِّيَّةِ عَتَقَ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُسْتَسْعَى دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، يُقَدِّرُهَا عَدْلٌ، وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الأَْحْرَارِ، وَقَال الْبَعْضُ: لاَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْحُرِّ إِلاَّ بَعْدَ الأَْدَاءِ. وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الإِْعْتَاقِ؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الإِْتْلاَفِ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - الْكَلاَمُ عَنِ الاِسْتِسْعَاءِ مَنْثُورٌ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَأَغْلَبُ ذِكْرِهِ مَعَ السِّرَايَةِ، وَفِي بَابِ (الْعَبْدُ يُعْتَقُ بَعْضُهُ) (وَالإِْعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ) كَمَا يُذْكَرُ فِي الْكَفَّارَةِ.
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 338 هامش الحطاب ليبيا، والخرشي 8 / 126، 127، والعدوي بهامشه 8 / 126 ط دار صادر، والشرح الكبير مع المغني 12 / 248

(3/303)


اسْتِسْقَاءٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِسْقَاءُ لُغَةً: طَلَبُ السُّقْيَا، أَيْ طَلَبُ إِنْزَال الْغَيْثِ عَلَى الْبِلاَدِ وَالْعِبَادِ. وَالاِسْمُ: السُّقْيَا بِالضَّمِّ، وَاسْتَسْقَيْتُ فُلاَنًا: إِذَا طَلَبْتَ مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَكَ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلاِسْتِسْقَاءِ هُوَ: طَلَبُ إِنْزَال الْمَطَرِ مِنَ اللَّهِ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (2) .

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الاِسْتِسْقَاءُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلاَةِ أَمْ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ، فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتُهُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَال بِسُنِّيَّةِ الدُّعَاءِ فَقَطْ، وَبِجَوَازِ غَيْرِهِ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الثَّلاَثَةُ التَّالِيَةُ:
الأَْوَّل: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، إِذَا كَانَ لِلْمَحَل وَالْجَدْبِ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى الشُّرْبِ لِشِفَاهِهِمْ، أَوْ لِدَوَابِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا فِي حَضَرٍ، أَمْ سَفَرٍ فِي صَحْرَاءَ، أَوْ سَفِينَةٍ فِي بَحْرٍ مَالِحٍ.
الثَّانِي: مَنْدُوبٌ، وَهُوَ الاِسْتِسْقَاءُ مِمَّنْ كَانَ فِي خِصْبٍ لِمَنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ وَجَدْبٍ؛ لأَِنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ
__________
(1) لسان العرب مادة: (سقى)
(2) ابن عابدين 1 / 790 ط الثالثة، وفتح العزيز بهامش المجموع 5 / 87، والشرح الصغير 1 / 537 ط المعارف.
(3) نهاية المحتاج 2 / 402، والمغني 2 / 283 ط رشيد رضا، وابن عابدين 1 / 791 ط الثالثة.

(3/304)


عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَلِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَل الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. (1) وَصَحَّ: دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَِخِيهِ بِخَيْرٍ قَال الْمَلَكُ الْمُوَكَّل بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلٍ. (2) وَلَكِنَّ الأَْوْزَاعِيَّ وَالشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَلاَّ يَكُونَ الْغَيْرُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ أَوْ ضَلاَلَةٍ وَبَغْيٍ. وَإِلاَّ لَمْ يُسْتَحَبَّ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا؛ وَلأَِنَّ الْعَامَّةَ تَظُنُّ بِالاِسْتِسْقَاءِ لَهُمْ حُسْنَ طَرِيقِهِمْ وَالرِّضَى بِهَا، وَفِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا فِيهَا (3) . مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوِ احْتَاجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ وَسَأَلُوا الْمُسْلِمِينَ الاِسْتِسْقَاءَ لَهُمْ فَهَل يَنْبَغِي إِجَابَتُهُمْ أَمْ لاَ؟
الأَْقْرَبُ: الاِسْتِسْقَاءُ لَهُمْ وَفَاءً بِذِمَّتِهِمْ. ثُمَّ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: وَلاَ يُتَوَهَّمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّا فَعَلْنَاهُ لِحُسْنِ حَالِهِمْ؛ لأَِنَّ كُفْرَهُمْ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ. وَلَكِنْ تُحْمَل إِجَابَتُنَا لَهُمْ عَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمْ مِنْ ذَوِي الرُّوحِ، بِخِلاَفِ الْفَسَقَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ (4) .
الثَّالِثُ: مُبَاحٌ، وَهُوَ اسْتِسْقَاءُ مَنْ لَمْ يَكُونُوا فِي مَحَلٍّ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الشُّرْبِ، وَقَدْ أَتَاهُمُ الْغَيْثُ، وَلَكِنْ لَوِ اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ لَكَانَ دُونَ السِّعَةِ، فَلَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ (5) .
__________
(1) حديث: " ترى المؤمنين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 438 - ط السلفية) .
(2) حديث: " دعوة المرء المسلم. . . " أخرجه مسلم (4 / 2094 - ط عيسى الحلبي) .
(3) نهاية المحتاج 2 / 403 ط الحلبي.
(4) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 2 / 403
(5) الخرشي على مختصر خليل 2 / 13

(3/304)


دَلِيل الْمَشْرُوعِيَّةِ:
3 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} . (1)
كَمَا اسْتَدَل لَهُ بِعَمَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْقَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّاسَ قَدْ قَحَطُوا فِي زَمَنِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَل رَجُلٌ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ. فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَخَشِينَا الْهَلاَكَ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَرَفَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَال: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا غَدَقًا مُغْدِقًا عَاجِلاً غَيْرَ رَائِثٍ. قَال الرَّاوِي: مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَارْتَفَعَتِ السَّحَابُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا حَتَّى صَارَتْ رُكَامًا، ثُمَّ مَطَرَتْ سَبْعًا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. ثُمَّ دَخَل ذَلِكَ الرَّجُل، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، وَالسَّمَاءُ تَسْكُبُ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُل، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَلاَلَةِ بَنِي آدَمَ. قَال الرَّاوِي: وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ خَضْرَاءَ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَال: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآْكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَْوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَانْجَابَتِ السَّمَاءُ عَنِ الْمَدِينَةِ حَتَّى صَارَتْ حَوْلَهَا
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 402 والآيات من سورة نوح 10 - 12

(3/305)


كَالإِْكْلِيل. (1)
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ أَصْلاً، وَقَال: إِنَّ السُّنَّةَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ هِيَ الدُّعَاءُ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ صَلاَةٍ وَلاَ خُرُوجٍ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل ثُمَّ قَال: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل أَنْ تَدْعُوَهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ. ثُمَّ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَفْعَل مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِل عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَل مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلَى حِينٍ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَل فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّل إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ أَوْ حَوَّل رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَل عَلَى النَّاسِ، وَنَزَل فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُول، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكُنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِزُهُ فَقَال: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. (2)
__________
(1) فتح القدير 1 / 437 ط بولاق. وحديث: " اللهم اسقنا غياثا مغيثا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 508، 509، 212 - ط السلفية) .
(2) نيل الأوطار للشوكاني 4 / 3 المطبعة العثمانية المصرية. وحديث: " إنكم شكوتم جدب دياركم. . . " أخرجه أبو داود عون المعبود (2 / 354 - 355 - ط المطبعة الأنصارية) وقال: " إسناده جيد ".

(3/305)


وَقَدِ اسْتَسْقَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعَبَّاسِ، وَقَال: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّل بِعَمِّ نَبِيِّكَ فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ (1) .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَسْقَى بِيَزِيدَ بْنِ الأَْسْوَدِ. فَقَال: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَسْقِي بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَسْقِي بِيَزِيدَ بْنِ الأَْسْوَدِ، يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى " فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ. فَثَارَتْ سَحَابَةٌ مِنَ الْغَرْبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ، وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ، فَسُقُوا حَتَّى كَادَ النَّاسُ أَلاَّ يَبْلُغُوا مَنَازِلَهُمْ. (2)

حِكْمَةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:
4 - إِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ الْكَوَارِثُ، وَأَحْدَقَتْ بِهِ الْمَصَائِبُ فَبَعْضُهَا قَدْ يَسْتَطِيعُ إِزَالَتَهَا، وَبَعْضُهَا لاَ يَسْتَطِيعُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنَ الْوَسَائِل، وَمِنْ أَكْبَرِ الْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ الْجَدْبُ الْمُسَبَّبُ عَنِ انْقِطَاعِ الْغَيْثِ، الَّذِي هُوَ حَيَاةُ كُل ذِي رَوْحٍ وَغِذَاؤُهُ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ الإِْنْسَانُ إِنْزَالَهُ أَوِ الاِسْتِعَاضَةَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَطِيعُهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَشَرَعَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ الاِسْتِسْقَاءَ، طَلَبًا لِلرَّحْمَةِ وَالإِْغَاثَةِ بِإِنْزَال الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ كُل شَيْءٍ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ جَل جَلاَلُهُ.
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 65، والطحطاوي على الدر المختار 1 / 360، والمغني 2 / 295. وأثر " استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 494 - ط السلفية) .
(2) أثر: " استسقى معاوية بيزيد بن الأسود. . . " أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه بسند صحيح، (التلخيص الحبير 2 / 101 - ط شركة الطباعة الفنية) .

(3/306)


أَسْبَابُ الاِسْتِسْقَاءِ:
5 - الاِسْتِسْقَاءُ يَكُونُ فِي أَرْبَعِ حَالاَتٍ:
الأُْولَى: لِلْمَحَل وَالْجَدْبِ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى الشُّرْبِ لِشِفَاهِهِمْ، أَوْ دَوَابِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا فِي حَضَرٍ، أَمْ سَفَرٍ فِي صَحْرَاءَ، أَمْ سَفِينَةٍ فِي بَحْرٍ مَالِحٍ. وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ.
الثَّانِيَةُ: اسْتِسْقَاءُ مَنْ لَمْ يَكُونُوا فِي مَحَلٍّ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الشُّرْبِ، وَقَدْ أَتَاهُمُ الْغَيْثُ، وَلَكِنْ لَوِ اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ لَكَانَ دُونَ السِّعَةِ، فَلَهُمْ أَنْ يَسْتَسْقُوا وَيَسْأَلُوا اللَّهَ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ. وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .
الثَّالِثَةُ: اسْتِسْقَاءُ مَنْ كَانَ فِي خِصْبٍ لِمَ كَانَ فِي مَحَلٍّ وَجَدْبٍ، أَوْ حَاجَةٍ إِلَى شُرْبٍ. قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ (2) .
الرَّابِعَةُ: إِذَا اسْتَسْقَوْا وَلَمْ يُسْقُوا. اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَكْرَارِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَالإِْلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ (3) ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (4) وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي تَكْرَارِ الاِسْتِسْقَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسْتَجَابُ لأَِحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَل، يَقُول: دَعَوْتُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي (5) وَلأَِنَّ
__________
(1) الخرشي 2 / 13، والمجموع للنووي 5 / 90
(2) الخرشي 2 / 16، والمجموع للنووي 5 / 64، وابن عابدين 1 / 792
(3) حديث: " إن الله يحب الملحين في الدعاء. . . " أخرجه الحكيم الترمذي وابن عابدين، وضعفه الحافظ ابن حجر (فيض القدير 2 / 292 ط الثالثة) .
(4) سورة الأنعام / 43
(5) حديث: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي، أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 140 - ط السلفية) .

(3/306)


الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلاِسْتِسْقَاءِ هِيَ الْحَاجَةُ إِلَى الْغَيْثِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْغَيْثِ قَائِمَةٌ. قَال أَصْبَغُ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ: وَقَدْ فُعِل عِنْدَنَا بِمِصْرِ، وَاسْتَسْقَوْا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا مُتَوَالِيَةً يَسْتَسْقُونَ عَلَى سُنَّةِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِالْخُرُوجِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَقَالُوا: لَمْ يُنْقَل أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ (2) . وَلَكِنْ صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ قَال: يَخْرُجُ النَّاسُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ. وَرُوِيَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ (3) .

أَنْوَاعُهُ وَأَفْضَلُهُ:
6 - وَالاِسْتِسْقَاءُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ. اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ؛ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ فَضَّل بَعْضُ الأَْئِمَّةِ بَعْضَ الأَْنْوَاعِ عَلَى بَعْضٍ، وَرَتَّبُوهَا حَسَبَ أَفْضَلِيَّتِهَا.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الاِسْتِسْقَاءُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: وَهُوَ أَدْنَاهَا، الدُّعَاءُ بِلاَ صَلاَةٍ، وَلاَ بَعْدَ صَلاَةٍ، فُرَادَى وَمُجْتَمِعِينَ لِذَلِكَ، فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُهُ مَا كَانَ مِنْ أَهْل الْخَيْرِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ أَوْسَطُهَا، الدُّعَاءُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَفِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 792 ط الثالثة، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 16، وحاشية الدسوقي 1 / 405، والمغني 2 / 295، وكشاف القناع 2 / 59، ونهاية المحتاج 2 / 403، والرهوني 2 / 189، 190، والمجموع 5 / 87
(2) ابن عابدين 1 / 792، وشرح فتح القدير 1 / 447
(3) الاختيار 1 / 70

(3/307)


وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ يُقِيمُ مُؤَذِّنًا فَيَأْمُرُهُ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ أَنْ يَسْتَسْقِيَ، وَيَحُضَّ النَّاسَ عَلَى الدُّعَاءِ، فَمَا كَرِهْتُ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَخَصَّ الْحَنَابِلَةُ هَذَا النَّوْعَ بِأَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مِنَ الإِْمَامِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَفْضَلُهَا، الاِسْتِسْقَاءُ بِصَلاَةِ رَكْعَتَيْنِ وَخُطْبَتَيْنِ، وَتَأَهُّبٍ لَهَا قَبْل ذَلِكَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكَيْفِيَّةِ. يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَهْل الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ وَالْبَوَادِي وَالْمُسَافِرُونَ، وَيُسَنُّ لَهُمْ جَمِيعًا الصَّلاَةُ وَالْخُطْبَتَانِ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْمُنْفَرِدِ إِلاَّ الْخُطْبَةَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الاِسْتِسْقَاءُ بِالدُّعَاءِ سُنَّةٌ، أَيْ: سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَلاَةٍ أَمْ بِغَيْرِ صَلاَةٍ، وَلاَ يَكُونُ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ إِلَى الْغَيْثِ، حَيْثُ فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَضِّل الدُّعَاءَ وَالاِسْتِغْفَارَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ؛ لأَِنَّهُ السُّنَّةُ، وَأَمَّا الصَّلاَةُ فُرَادَى فَهِيَ مُبَاحَةٌ عِنْدَهُ، وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ، لِفِعْل الرَّسُول لَهَا مَرَّةً وَتَرْكِهَا أُخْرَى (3) . وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَدْ قَال: الاِسْتِسْقَاءُ يَكُونُ بِالدُّعَاءِ، أَوْ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ، وَالْكُل عِنْدَهُ سُنَّةٌ، وَفِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ (4)
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَالنَّقْل عَنْهُ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَسْأَلَةِ،
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 64 ط المنيرية، والمغني 2 / 297 ط المنار الأولى.
(2) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 2 / 205 ط ليبيا، والرهوني 2 / 190، والشرح الصغير 1 / 537
(3) الطحطاوي علي مراقي الفلاح ص 300، وابن عابدين 1 / 791
(4) فتح القدير 1 / 438

(3/307)


فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّهُ مَعَ الإِْمَامِ، وَرَوَى الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ (1) ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ (2)

وَقْتُ الاِسْتِسْقَاءِ
7 - إِذَا كَانَ الاِسْتِسْقَاءُ بِالدُّعَاءِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي أَيِّ وَقْتٍ،
وَإِذَا كَانَ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ، فَالْكُل مُجْمِعٌ عَلَى مَنْعِ أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا تَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ عَدَا أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ. وَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَقْتِ الأَْفْضَل، مَا عَدَا الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: وَقْتُهَا مِنْ وَقْتِ الضُّحَى إِلَى الزَّوَال، فَلاَ تُصَلَّى قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْوَقْتِ الأَْفْضَل ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ (3) :
الأَْوَّل: وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) : وَقْتُ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ وَقْتُ صَلاَةِ الْعِيدِ. وَبِهَذَا قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإِْسْفَرَايِينِيُّ وَصَاحِبُهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي كُتُبِهِ: الْمَجْمُوعُ، وَالتَّجْرِيدُ، وَالْمُقْنِعُ، وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ. وَقَدْ يُسْتَدَل لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَتْهُ السُّنَنُ الأَْرْبَعُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ قَال: أَرْسَلَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ - وَكَانَ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ - إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ عَنِ اسْتِسْقَاءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا، حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَل فِي الدُّعَاءِ
__________
(1) شرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 / 440 ط بولاق.
(2) ابن عابدين 1 / 567
(3) المجموع للنووي 5 / 76 ط المنيرية.
(4) الخرشي 2 / 14

(3/308)


وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ (1) .
الثَّانِي: أَوَّل وَقْتِهَا وَقْتُ صَلاَةِ الْعِيدِ، وَتَمْتَدُّ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ. لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ لأَِنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي الْوَضْعِ وَالصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ، إِلاَّ أَنَّ وَقْتَهَا لاَ يَفُوتُ بِالزَّوَال. (2)
الثَّالِثُ: وَعَبَّرَ عَنْهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالصَّحِيحِ وَالصَّوَابِ، وَهُوَ الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا (3) : أَنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، بَل تَجُوزُ فِي كُل وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلاَّ أَوْقَاتَ الْكَرَاهَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَصَحَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ. وَمِمَّنْ قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ، وَصَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَاسْتَصْوَبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ كَصَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ، وَرَكْعَتَيِ الإِْحْرَامِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالُوا: إِنَّ تَخْصِيصَهَا بِوَقْتٍ كَصَلاَةِ الْعِيدِ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ أَصْلاً. وَلأَِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَأَكْثَرَ الأَْصْحَابِ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْخُرُوجُ إِلَيْهَا عِنْدَ زَوَال
__________
(1) فتح القدير 1 / 437. وحديث: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتذلا متواضعا متضرعا. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود 1 / 453 - ط المطبعة الأنصارية) والترمذي (2 / 445 - ط مصطفى الحلبي) وصححه.
(2) وقت صلاة العيد حين ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين. وحديث عائشة: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس. . . . " شطر من الحديث المتقدم فقرة (3) بلفظ " إنكم شكوتم جدب دياركم. . . . . ".
(3) المغني 2 / 286

(3/308)


الشَّمْسِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ (1) . وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَمْ يُذْكَرْ عِنْدَهُمْ وَقْتٌ لَهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي تَحْدِيدِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا؛ لأَِنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الإِْمَامِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ الدُّعَاءُ، وَالدُّعَاءُ فِي كُل وَقْتٍ، وَلَيْسَ لَهُ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ.

مَكَانُ الاِسْتِسْقَاءِ:
8 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِسْقَاءَ يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَارِجَ الْمَسْجِدِ. إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ تَقُول بِالْخُرُوجِ إِلاَّ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ إِلَى الْغَيْثِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَضِّلُونَ الْخُرُوجَ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلاِسْتِسْقَاءِ مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَل فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُصَلِّي الإِْمَامُ فِي الصَّحْرَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَّهَا فِي الصَّحْرَاءِ؛ وَلأَِنَّهُ يَحْضُرُهَا غَالِبُ النَّاسِ وَالصِّبْيَانُ وَالْحُيَّضُ وَالْبَهَائِمُ وَغَيْرُهُمْ، فَالصَّحْرَاءُ أَوْسَعُ لَهُمْ وَأَرْفَقُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِالْخُرُوجِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ أَهْل مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدَيْنِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي كَذَلِكَ لأَِهْل الْمَدِينَةِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَشْرَفِ بِقَاعِ الأَْرْضِ، إِذْ حَل فِيهِ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّل ابْنُ عَابِدِينَ جَوَازَ الاِجْتِمَاعِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المرجع السابق، والمجموع 5 / 76، 77
(2) المغني 2 / 283، ومواهب الجليل 2 / 205، والرهوني 2 / 190
(3) المجموع للنووي 5 / 72

(3/309)


بِقَوْلِهِ: يَنْبَغِي الاِجْتِمَاعُ لِلاِسْتِسْقَاءِ فِيهِ، إِذْ لاَ يُسْتَغَاثُ وَتُسْتَنْزَل الرَّحْمَةُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُل حَادِثَةٍ (1) .

الآْدَابُ السَّابِقَةُ عَلَى الاِسْتِسْقَاءِ:
9 - أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ آدَابًا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهَا قَبْل الاِسْتِسْقَاءِ، فَقَالُوا: يَعِظُ الإِْمَامُ النَّاسَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ؛ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الإِْجَابَةِ، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ الْجَدْبِ، وَالطَّاعَةَ سَبَبُ الْبَرَكَةِ. . قَال تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2)
وَرَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَال: " إِذَا بُخِسَ الْمِكْيَال حُبِسَ الْقَطْرُ " وَقَال مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (3) قَال: دَوَابُّ الأَْرْضِ تَلْعَنُهُمْ يَقُولُونَ: يُمْنَعُ الْقَطْرُ بِخَطَايَاهُمْ. كَمَا يُتْرَكُ التَّشَاحُنُ وَالتَّبَاغُضُ؛ لأَِنَّهَا تُحْمَل عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْبُهُتِ، وَتَمْنَعُ نُزُول الْخَيْرِ. بِدَلِيل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَرَجْتُ لأُِخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 792 ط الثالثة، وحاشية الشرنبلالي على الدرر شرح الغرر 1 / 148، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 301
(2) المجموع للنووي 5 / 65، والمغني 2 / 84، وكشاف القناع 2 / 58، ومراقي الفلاح والحاشية 1 / 301، والطحطاوي ص 360، والآية من سورة الأعراف / 96
(3) سورة البقرة / 159
(4) كشاف القناع 2 / 59. وحديث: " خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 267 - ط السلفية) .

(3/309)


الصِّيَامُ قَبْل الاِسْتِسْقَاءِ:
10 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى الصِّيَامِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، وَالْخُرُوجِ بِهِ إِلَى الاِسْتِسْقَاءِ. لأَِنَّ الصِّيَامَ مَظِنَّةُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ (1) . . . وَلِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ الشَّهْوَةِ، وَحُضُورِ الْقَلْبِ، وَالتَّذَلُّل لِلرَّبِّ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يَأْمُرُهُمُ الإِْمَامُ بِصَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ قَبْل الْخُرُوجِ، وَيَخْرُجُونَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَهُمْ صِيَامٌ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخُرُوجِ بَعْدَ الصِّيَامِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مُفْطِرِينَ؛ لِلتَّقَوِّي عَلَى الدُّعَاءِ، كَيَوْمِ عَرَفَةَ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِالصِّيَامِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَيَخْرُجُونَ فِي آخِرِ أَيَّامِ صِيَامِهِمْ.

الصَّدَقَةُ قَبْل الاِسْتِسْقَاءِ:
11 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ قَبْل الاِسْتِسْقَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ الإِْمَامِ بِهَا، قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَأْمُرُهُمُ الإِْمَامُ بِالصَّدَقَةِ فِي حُدُودِ طَاقَتِهِمْ (3) .
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَأْمُرُهُمْ بِهَا، بَل يَتْرُكُ هَذَا لِلنَّاسِ بِدُونِ أَمْرٍ؛ لأَِنَّهُ أَرْجَى لِلإِْجَابَةِ، حَيْثُ
__________
(1) حديث: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر. . . . " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 7 / 229، 10 / 56 - نشر السلفية) وفي إسناده ضعف وجهالة.
(2) المجموع للنووي 2 / 65، وشرح العناية على الهداية على هامش فتح القدير 1 / 441، وكشاف القناع 2 / 59، وحاشية الدسوقي 1 / 206 ط دار الفكر.
(3) حاشية الشرنبلالي على الدرر 1 / 148

(3/310)


تَكُونُ صَدَقَتُهُمْ بِدَافِعٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لاَ بِأَمْرٍ مِنَ الإِْمَامِ.

آدَابٌ شَخْصِيَّةٌ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى آدَابٍ شَخْصِيَّةٍ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَهَا النَّاسُ قَبْل الاِسْتِسْقَاءِ، بَعْدَ أَنْ يَعِدَهُمُ الإِْمَامُ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ (1) فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِلاِسْتِسْقَاءِ: التَّنَظُّفُ بِغُسْلٍ وَسِوَاكٍ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ يُسَنُّ لَهَا الاِجْتِمَاعُ وَالْخُطْبَةُ، فَشُرِعَ لَهَا الْغُسْل، كَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ: أَنْ يَتْرُكَ الإِْنْسَانُ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ، فَلَيْسَ هَذَا وَقْتَ الزِّينَةِ، وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ، وَيَخْرُجُ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ، وَهِيَ ثِيَابُ مِهْنَتِهِ (2) ، وَيَخْرُجُ مُتَوَاضِعًا خَاشِعًا مُتَذَلِّلاً مُتَضَرِّعًا مَاشِيًا، وَلاَ يَرْكَبُ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِهِ ذَهَابًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ. وَالأَْصْل فِي هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاضِعًا مُتَبَذِّلاً مُتَخَشِّعًا مُتَضَرِّعًا وَهِيَ مُسْتَحَبَّاتٌ لَمْ يَرِدْ فِيهَا خِلاَفٌ (3) .

الاِسْتِسْقَاءُ بِالدُّعَاءِ:
13 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الاِسْتِسْقَاءَ هُوَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ، وَلَيْسَ فِيهِ صَلاَةٌ مَسْنُونَةٌ فِي جَمَاعَةٍ. فَإِنْ صَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا جَازَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْتُ
__________
(1) حديث عائشة تقدم فقرة (3)
(2) المجموع للنووي 5 / 66، والمغني 2 / 284، وكشاف القناع 2 / 59، والطحطاوي ص 360
(3) المغني 2 / 283 ط المنار، وفتح القدير 1 / 437، والمجموع للنووي 5 / 66

(3/310)


اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (1) الآْيَةَ، وَقَدْ اسْتَدَل لَهُ كَذَلِكَ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتِسْقَائِهِ بِالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ صَلاَةٍ، مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الاِقْتِدَاءِ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ عَلَّل ابْنُ عَابِدِينَ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَال: الْحَاصِل أَنَّ الأَْحَادِيثَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي الصَّلاَةِ بِالْجَمَاعَةِ وَعَدَمِهَا عَلَى وَجْهٍ لاَ يَصِحُّ مَعَهُ إِثْبَاتُ السُّنِّيَّةِ، لَمْ يَقُل أَبُو حَنِيفَةَ بِسُنِّيَّتِهَا، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ، كَمَا نَقَل بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ، بَل هُوَ قَال بِالْجَوَازِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ النَّدْبُ وَالاِسْتِحْبَابُ، لِقَوْلِهِ فِي الْهِدَايَةِ: لَمَّا فَعَلَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ سُنَّةً؛ لأَِنَّ السُّنَّةَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ. وَالْفِعْل مَرَّةً وَالتَّرْكُ أُخْرَى يُفِيدُ النَّدْبَ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: فَقَالُوا بِسُنِّيَّةِ الدُّعَاءِ وَحْدَهُ، وَبِسُنِّيَّتِهِ مَعَ صَلاَةٍ لَهُ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي تَقَدَّمَ.

الاِسْتِسْقَاءُ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلاَةِ:
14 - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: الاِسْتِسْقَاءُ يَكُونُ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ وَالْخُطْبَةِ، لِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ خُطْبَةَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ، وَمَا
__________
(1) سورة نوح / 10 - 11
(2) ابن عابدين 1 / 791 ط الثالثة، وشرح العناية على الهداية بهامش القدير 1 / 440 ط بولاق.

(3/311)


تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ لاَ يُثْبِتُ الْخُطْبَةَ؛ لأَِنَّ طَلَبَ السُّقْيَا مِنْ رَسُول اللَّهِ وَقَعَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَالْخُطْبَةُ سَابِقَةٌ (1) فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَلَى الإِْخْبَارِ بِالْجَدْبِ.

تَقْدِيمُ الصَّلاَةِ عَلَى الْخُطْبَةِ وَتَأْخِيرُهَا:
15 - فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
الأَْوَّل: تَقْدِيمُ الصَّلاَةِ عَلَى الْخُطْبَةِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْل أَبِي هُرَيْرَةَ: صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَطَبَنَا وَلِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: صَنَعَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ كَمَا يَصْنَعُ فِي الْعِيدِ؛ وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ ذَاتُ تَكْبِيرَاتٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلاَةَ الْعِيدِ (2) .
الثَّانِي: تَقْدِيمُ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلاَةِ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَخِلاَفُ الأَْوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَهِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيل، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (3) . وَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ وَصَلَّى، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ يَسْتَسْقِي حَوَّل إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّل رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ
__________
(1) الطحطاوي ص 360 ط المعرفة.
(2) المجموع للنووي 5 / 77، والطحطاوي ص 360، والمغني 2 / 187، والشرح الصغير 1 / 539 ط المعارف.
(3) المجموع النووي 5 / 93، والمغني 2 / 188

(3/311)


فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
الثَّالِثُ: هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْخُطْبَةِ قَبْل الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لِوُرُودِ الأَْخْبَارِ بِكِلاَ الأَْمْرَيْنِ، وَدَلاَلَتِهَا عَلَى كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ.

كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ:
16 - لاَ يُعْلَمُ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ خِلاَفٌ فِي أَنَّهَا رَكْعَتَانِ، وَاخْتُلِفَ فِي صِفَتِهَا عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل، وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِمُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ يُكَبِّرُ فِي الأُْولَى سَبْعًا، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ مِثْل صَلاَةِ الْعِيدِ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ: وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يُصَلُّونَ صَلاَةَ الاِسْتِسْقَاءِ يُكَبِّرُونَ فِيهَا سَبْعًا وَخَمْسًا. (2)
الرَّأْيُ الثَّانِي: وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْل الثَّانِي لِمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ: تُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَصَلاَةِ النَّافِلَةِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِمَا رُوِيَ
__________
(1) حديث عبد الله بن زيد: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يستسقي حول ظهره إلى الناس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 514 - ط السلفية "، ومسلم (2 / 611 - ط عيسى الحلبي) .
(2) المغني 2 / 284 ط المنار، والمجموع للنووي 5 / 74، وابن عابدين 1 / 791، وبدائع الصنائع 1 / 283. والحديث روي عن جعفر عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعا وخمسا " أخرجه عبد الرزاق (3 / 85 - ط المجلس العلمي) ، والشافعي في الأم 1 / 249 - ط شركة الطباعة الفنية. وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وهو متروك كما في التقريب لابن حجر.

(3/312)


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرَا التَّكْبِيرَ (1) ، فَتَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلاَةِ الْمُطْلَقَةِ.
وَاتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ ذَاتُ خُطْبَةٍ (2) ، وَكُل صَلاَةٍ لَهَا خُطْبَةٌ فَالْقِرَاءَةُ فِيهَا تَكُونُ جَهْرًا؛ لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلسَّمَاعِ، وَيَقْرَأُ بِمَا شَاءَ، وَلَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِمَا كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدِ، وَقِيل: يَقْرَأُ بِسُورَتَيْ ق وَنُوحٍ (3) ، أَوْ يَقْرَأُ بِسُورَتَيِ الأَْعْلَى وَالْغَاشِيَةِ (4) ، أَوْ بِسُورَتَيِ الأَْعْلَى وَالشَّمْسِ. وَحَذْفُ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ بَعْضِهَا أَوِ الزِّيَادَةُ فِيهَا لاَ تُفْسِدُ الصَّلاَةَ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ تَرَكَ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ زَادَ فِيهِنَّ لاَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ بَعْضَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّائِدَةِ فَهَل يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ؟ قَالُوا: فِيهَا الْقَوْلاَنِ، مِثْل صَلاَةِ الْعِيدِ (5) .

كَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ وَمُسْتَحَبَّاتُهَا:
17 - قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَخْطُبُ الإِْمَامُ خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ بِأَرْكَانِهِمَا وَشُرُوطِهِمَا وَهَيْئَاتِهِمَا، وَفِي الْجُلُوسِ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَجْهَانِ كَمَا فِي الْعِيدِ أَيْضًا، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 537 ط دار المعارف، وابن عابدين 1 / 191، والمغني 2 / 285. والحديث رواه أحمد وأبو عوانة والبيهقي ورواته ثقات (نيل الأوطار 4 / 6)
(2) المجموع للنووي 5 / 63، وابن عابدين 1 / 791، والمغني 2 / 293، وحاشية الدسوقي 1 / 405
(3) المجموع للنووي 5 / 73، والمغني 2 / 293
(4) المغني 2 / 893
(5) المجموع للنووي 5 / 75

(3/312)


الْمُتَقَدِّمِ؛ وَلأَِنَّهَا أَشْبَهَتْهَا فِي التَّكْبِيرِ وَفِي صِفَةِ الصَّلاَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: يَخْطُبُ الإِْمَامُ خُطْبَةً وَاحِدَةً يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَل فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ مَا فَصَل بَيْنَ ذَلِكَ بِسُكُوتٍ وَلاَ جُلُوسٍ؛ وَلأَِنَّ كُل مَنْ نَقَل الْخُطْبَةَ لَمْ يَنْقُل خُطْبَتَيْنِ (2) .
وَلاَ يُخْرِجُ الْمِنْبَرَ إِلَى الْخَلاَءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ السُّنَّةِ. وَقَدْ عَابَ النَّاسُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ عِنْدَ إِخْرَاجِهِ الْمِنْبَرَ فِي الْعِيدَيْنِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ.
وَيَخْطُبُ الإِْمَامُ عَلَى الأَْرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا، وَيَخْطُبُ مُقْبِلاً بِوَجْهِهِ إِلَى النَّاسِ (3) . وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ عَلَى الأَْرْضِ مَنْدُوبَةٌ، وَعَلَى الْمِنْبَرِ مَكْرُوهَةٌ (4) . أَمَّا إِذَا كَانَ الْمِنْبَرُ مَوْجُودًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الصَّلاَةُ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ فَفِيهِ رَأْيَانِ: الْجَوَازُ، وَالْكَرَاهَةُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ (5) ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمَرْجُوحِ: يُكَبِّرُ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا فِي صَلاَةِ الْعِيدِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ: يَسْتَبْدِل بِالتَّكْبِيرِ الاِسْتِغْفَارَ، فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي أَوَّل الْخُطْبَةِ
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 64، 83، والشرح الصغير 1 / 539، والطحطاوي ص 360
(2) المغني 2 / 291 ط المنار، وابن عابدين 1 / 791 ط الثالثة.
(3) بدائع الصنائع 1 / 283 ط المطبوعات العلمية، والمجموع 5 / 84، والشرح الصغير 1 / 539، والمغني 2 / 291، وحاشية العدوي 2 / 16
(4) العدوي على الخرشي 2 / 16
(5) بدائع الصنائع 1 / 283

(3/313)


الأُْولَى تِسْعًا، وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعًا، يَقُول: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، وَيَخْتِمُ كَلاَمَهُ بِالاِسْتِغْفَارِ، وَيُكْثِرُ مِنْهُ فِي الْخُطْبَةِ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الآْيَةَ، وَيُخَوِّفُهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْجَدْبِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالإِْنَابَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: يَسْتَقْبِل الإِْمَامُ النَّاسَ فِي الْخُطْبَةِ مُسْتَدْبِرًا الْقِبْلَةَ، حَتَّى إِذَا قَضَى خُطْبَتَهُ تَوَجَّهَ بِوَجْهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَفِي لَفْظٍ: فَحَوَّل إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ يَدْعُو (1) .

صِيَغُ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورَةُ:
18 - يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بِمَا أُثِرَ عَنِ النَّبِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي الاِسْتِسْقَاءِ فَيَقُول: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا مُرِيعًا غَدَقًا مُجَلِّلاً سَحًّا عَامًّا طَبَقًا دَائِمًا. اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْبِلاَدِ وَالْعِبَادِ وَالْخَلْقِ مِنَ اللأَّْوَاءِ وَالضَّنْكِ مَا لاَ نَشْكُو إِلاَّ إِلَيْكَ. اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الأَْرْضِ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا، فَأَرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا، فَإِذَا مُطِرُوا. قَالُوا:
__________
(1) المغني 2 / 289، والكافي 1 / 322 ط آل ثاني، وكشاف القناع 2 / 62.

(3/313)


اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا. وَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِفَضْل اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. (1)
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، حِينَ قَال لَهُ الرَّجُل: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكَتِ الأَْمْوَال، وَانْقَطَعَتِ السُّبُل، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُغِيثَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَال:
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. (2)
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: " لِيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ، وَوَعَدْتَنَا إِجَابَتَكَ، وَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا، فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا، اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ مَا قَارَفْنَا، وَإِجَابَتِكَ فِي سُقْيَانَا، وَسِعَةِ رِزْقِنَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ أَقْبَل عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَقَرَأَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَتَيْنِ، وَيُكْثِرُ مِنْ الاِسْتِغْفَارِ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَسْقَى فَكَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ الاِسْتِغْفَارَ، وَقَال: لَقَدِ اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 440، والكافي 1 / 322، 323، وحديث: " اللهم اسقنا غياثا معينا هنيئا. . . . " رواه ابن ماجه ورجاله ثقات (نيل الأوطار 4 / 11)
(2) حديث: " اللهم أغثنا. . . " أخرجه البخاري ومسلم (نيل الأوطار 4 / 15)

(3/314)


رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ:
19 - اسْتَحَبَّ الأَْئِمَّةُ رَفْعَ الْيَدَيْنِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ (1) . وَأَنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ. وَفِي حَدِيثٍ لأَِنَسٍ فَرَفَعَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاَثِينَ حَدِيثًا فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ.
وَذَكَرَ الأَْئِمَّةُ: أَنَّهُ يَدْعُو سِرًّا وَجَهْرًا، فَإِذَا دَعَا سِرًّا دَعَا النَّاسُ سِرًّا، فَيَكُونُ أَبْلَغُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الرِّيَاءِ. وَإِذَا دَعَا جَهْرًا أَمَّنَ النَّاسُ عَلَى دُعَاءِ الإِْمَامِ (2) .
وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بَعْضَ الدُّعَاءِ سِرًّا، وَبَعْضَهُ جَهْرًا، وَيَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ فِي دُعَائِهِ مُتَضَرِّعًا خَاشِعًا مُتَذَلِّلاً تَائِبًا.

الاِسْتِسْقَاءُ بِالصَّالِحِينَ:
20 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الاِسْتِسْقَاءِ بِأَقَارِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالصَّالِحِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالتَّقْوَى وَالاِسْتِقَامَةِ، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ وَقَال: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّل بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، فَيُسْقَوْنَ (3) .
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 517 - ط السلفية) .
(2) المجموع للنووي 5 / 79، والطحطاوي ص 359، والمغني 2 / 289، والشرح الصغير 1 / 540
(3) تقدم تخريجه (ف 3)

(3/314)


وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَسْقَى بِيَزِيدَ بْنِ الأَْسْوَدِ فَقَال:
" اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَسْقِي بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَسْقِي بِيَزِيدَ بْنِ الأَْسْوَدِ. يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ، فَثَارَتْ سَحَابَةٌ مِنَ الْمَغْرِبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ، وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ، فَسُقُوا حَتَّى كَادَ النَّاسُ أَلاَّ يَبْلُغُوا مَنَازِلَهُمْ (1) .

التَّوَسُّل بِالْعَمَل الصَّالِحِ:
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَسَّل كُلٌّ فِي نَفْسِهِ بِمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ.
وَاسْتَدَل عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ، وَهُمُ الثَّلاَثَةُ الَّذِينَ آوَوْا إِلَى الْغَارِ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَتَوَسَّل كُل وَاحِدٍ بِصَالِحِ عَمَلِهِ، فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الصَّخْرَةَ، وَقَشَعَ الْغُمَّةَ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ (2) .

تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ:
21 - قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ (3) : يُسْتَحَبُّ تَحْوِيل الرِّدَاءِ لِلإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ، لِفِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَلأَِنَّ مَا فَعَلَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ. وَقَدْ
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 65، والطحطاوى ص 360، والمغني 2 / 295 والحديث تقدم تخريجه (ف 3)
(2) حديث. قصة أصحاب الغار. أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 505 - 506 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2099 - 2100 ط عيسى الحلبي) .
(3) المجموع للنووي 5 / 85، والمغني 2 / 489، والشرح الصغير 1 / 539 - 540

(3/315)


عُقِل الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، وَهُوَ التَّفَاؤُل بِقَلْبِ الرِّدَاءِ، لِيَقْلِبَ اللَّهُ مَا بِهِمْ مِنَ الْجَدْبِ إِلَى الْخِصْبِ. وَهُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ: إِنَّ تَحْوِيل الرِّدَاءِ مُخْتَصٌّ بِالإِْمَامِ فَقَطْ دُونَ الْمَأْمُومِ؛ لأَِنَّهُ نُقِل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَصْحَابِهِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُسَنُّ تَقْلِيبُ الرِّدَاءِ؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ فَلاَ يُسْتَحَبُّ تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِيهِ، كَسَائِرِ الأَْدْعِيَةِ (2) .

كَيْفِيَّةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ:
22 - قَال الْحَنَابِلَةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ (3) : يَقْلِبُ الْمُسْتَسْقُونَ أَرْدِيَتَهُمْ، فَيَجْعَلُونَ مَا عَلَى الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ، وَمَا عَلَى الْيَسَارِ عَلَى الْيَمِينِ، وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَّل رِدَاءَهُ، وَجَعَل عِطَافَهُ الأَْيْمَنَ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ، وَجَعَل عِطَافَهُ الأَْيْسَرَ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْمَنِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَل تَحْوِيل الرِّدَاءِ جَمَاعَةٌ، كُلُّهُمْ نَقَلُوهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَعَل أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
__________
(1) شرح العناية على هامش فتح القدير 1 / 440، والمغني 2 / 289
(2) شرح العناية على هامش فتح القدير 1 / 440
(3) المغني 2 / 290، والشرح الصغير 1 / 539 - 540، والمجموع للنووي 5 / 85

(3/315)


الرَّأْيِ الرَّاجِحِ (1) : إِنْ كَانَ الرِّدَاءُ مُدَوَّرًا بِأَنْ كَانَ جُبَّةً يَجْعَل الأَْيْمَنَ عَلَى الأَْيْسَرِ، وَالأَْيْسَرَ عَلَى الأَْيْمَنِ، وَإِنْ كَانَ الرِّدَاءُ مُرَبَّعًا يَجْعَل أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ، وَأَسْفَلَهُ أَعْلاَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَل أَسْفَلَهَا أَعْلاَهَا، فَلَمَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ جَعَل الْعِطَافَ الَّذِي فِي الأَْيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْمَنِ، وَاَلَّذِي عَلَى الأَْيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ، وَيَبْدَأُ بِتَحْوِيل الرِّدَاءِ عِنْدَ الْبَدْءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (2) .

الْمُسْتَسْقُونَ
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى، أَنَّ السُّنَّةَ خُرُوجُ الإِْمَامِ لِلاِسْتِسْقَاءِ مَعَ النَّاسِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ فَقَدْ أَسَاءَ بِتَرْكِ السُّنَّةِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.

تَخَلُّفُ الإِْمَامِ عَنْ الاِسْتِسْقَاءِ:
24 - فِي مَسْأَلَةِ تَخَلُّفِ الإِْمَامِ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِذَا تَخَلَّفَ الإِْمَامُ عَنْ الاِسْتِسْقَاءِ أَنَابَ عَنْهُ. فَإِذَا لَمْ يُنِبْ لَمْ يَتْرُكِ النَّاسُ الاِسْتِسْقَاءَ، وَقَدَّمُوا أَحَدَهُمْ لِلصَّلاَةِ، كَمَا إِذَا خَلَتِ الأَْمْصَارُ مِنَ الْوُلاَةِ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَالْكُسُوفِ، كَمَا قَدَّمَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي عُمَرَ وَبَنِيَّ عَوْفٍ، وَقَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ تَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) شرح العناية على هامش فتح القدير 1 / 440، والمجموع للنووي 5 / 85
(2) الشرح الصغير 1 / 539، والمغني 2 / 288، والمجموع للنووي 5 / 85، وابن عابدين 1 / 791

(3/316)


لِحَاجَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ (1) . قَال الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا جَازَ فِي الْمَكْتُوبَةِ فَغَيْرُهَا أَوْلَى.
الرَّأْيُ الثَّانِي: لاَ يُسْتَحَبُّ الاِسْتِسْقَاءُ بِالصَّلاَةِ إِلاَّ بِخُرُوجِ الإِْمَامِ، أَوْ رَجُلٍ مِنْ قِبَلِهِ. وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا خَرَجُوا بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ دَعَوْا وَانْصَرَفُوا بِلاَ صَلاَةٍ وَلاَ خُطْبَةٍ (2) .

مَنْ يُسْتَحَبُّ خُرُوجُهُمْ، وَمَنْ يَجُوزُ، وَمَنْ يُكْرَهُ:
25 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ خُرُوجُ الشُّيُوخِ وَالضُّعَفَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَجَزَةِ وَغَيْرِ ذَاتِ الْهَيْئَةِ مِنَ النِّسَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بِخُرُوجِ مَنْ يَعْقِل مِنَ الصِّبْيَانِ، أَمَّا مَنْ لاَ يَعْقِل فَيُكْرَهُ خُرُوجُهُمْ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِلصَّلاَةِ. وَاسْتَدَلُّوا لِخُرُوجِ مَنْ ذُكِرَ بِقَوْل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هَل تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ. (3)

إِخْرَاجُ الدَّوَابِّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ:
26 - فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
الأَْوَّل: يُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُ الدَّوَابِّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ تَكُونُ السُّقْيَا بِسَبَبِهِمْ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلاَ عِبَادٌ لِلَّهِ
__________
(1) الحديث رواه مسلم 1 / 317 - 318 ط عيسى الحلبي
(2) المجموع للنووي 5 / 64، 94، وبدائع الصنائع 1 / 282 ط المطبوعات العلمية، وابن عابدين 1 / 791، والمغني 2 / 294
(3) المجموع للنووي 5 / 70، والطحطاوي ص 360، والشرح الكبير على المغني 2 / 287 ط المنار، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 2 / 206، وحاشية العدوي على الشرح الصغير 1 / 538. وحديث: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 88 - ط السلفية) .

(3/316)


رُكَّعٌ، وَصِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمْ الْعَذَابُ صَبًّا، ثُمَّ رُصَّ رَصًّا.
وَلِمَا رَوَى الإِْمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي، فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهِمَا إِلَى السَّمَاءِ. فَقَال: ارْجِعُوا فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ مِنْ أَجْل هَذِهِ النَّمْلَةِ (1) " وَقَال أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ: إِذَا أُقِيمَتْ فِي الْمَسْجِدِ، أُوقِفَتِ الدَّوَابُّ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ.
الثَّانِي: لاَ يُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُ الْبَهَائِمِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ. وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ (2) . الثَّالِثُ: لاَ يُسْتَحَبُّ وَلاَ يُكْرَهُ، وَهُوَ رَأْيٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (3) .

خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْل الذِّمَّةِ:
27 - فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يُسْتَحَبُّ خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْل الذِّمَّةِ، بَل يُكْرَهُ، وَلَكِنْ إِذَا خَرَجُوا مَعَ النَّاسِ فِي يَوْمِهِمْ، وَانْفَرَدُوا فِي مَكَانٍ وَحْدَهُمْ لَمْ يُمْنَعُوا. وَجُمْلَةُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُ أَهْل الذِّمَّةِ وَالْكُفَّارِ؛ لأَِنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَهُمْ بَعِيدُونَ مِنَ الإِْجَابَةِ. وَإِنْ أُغِيثَ الْمُسْلِمُونَ
__________
(1) الطحطاوي ص361، والمجموع للنووي 5 / 66 - 71 وحديث: " لولا عباد لله ركع وصبيان رضع وبهائم رتع. . . " أخرجه الطبراني والبيهقي، وضعفه الذهبي والهيثمي (فيض القدير 5 / 344 - طبع المكتبة التجارية) .
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 538، والشرح الكبير على المغني 2 / 287. والمجموع للنووي 5 / 71
(3) المجموع للنووي 5 / 71

(3/317)


فَرُبَّمَا قَالُوا: هَذَا حَصَل بِدُعَائِنَا وَإِجَابَتِنَا، وَإِنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا؛ لأَِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ فَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ قَدْ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَكِنْ يُؤْمَرُونَ بِالاِنْفِرَادِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِعَذَابٍ فَيَعُمَّ مَنْ حَضَرَهُمْ. وَلاَ يَخْرُجُونَ وَحْدَهُمْ، فَإِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَتَّفِقَ نُزُول الْغَيْثِ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ وَحْدَهُمْ، فَيَكُونُ أَعْظَمَ فِتْنَةً لَهُمْ، وَرُبَّمَا افْتُتِنَ غَيْرُهُمْ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، قَال بِهِ أَشْهَبُ وَابْنُ حَبِيبٍ: لاَ يَحْضُرُ الذِّمِّيُّ وَالْكَافِرُ الاِسْتِسْقَاءَ، وَلاَ يَخْرُجُ لَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدُعَائِهِ. وَالاِسْتِسْقَاءُ لاِسْتِنْزَال الرَّحْمَةِ، وَهِيَ لاَ تَنْزِل عَلَيْهِمْ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْخُرُوجِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يُسْقَوْا فَتَفْتَتِنَ بِهِ الضُّعَفَاءُ وَالْعَوَامُّ (2) .

اسْتِسْلاَمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِسْلاَمُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ لِلْغَيْرِ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 409، والمجموع للنووي 5 / 71، والمغني 2 / 298، والخرشي 2 / 109
(2) الطحطاوي ص 360، والخرشي 2 / 109
(3) تاج العروس ولسان العرب مادة: (مسلم) بتصرف

(3/317)


وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " اسْتِسْلاَمٍ " بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا (1) .
وَيُعَبِّرُونَ أَيْضًا عَنْ الاِسْتِسْلاَمِ بِ " النُّزُول عَلَى الْحُكْمِ وَقَبُول الْجِزْيَةِ ".

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - أ - اسْتِسْلاَمُ الْعَدُوِّ سَوَاءٌ أَكَانَ كَافِرًا - مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ - أَمْ مُسْلِمًا بَاغِيًا مُوجِبٌ لِلْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِ (2) .
وَقَدْ أَفَاضَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَفِي كِتَابِ الْبُغَاةِ.
3 - ب - لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِعَدُوِّهِ الظَّالِمِ - سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا - إِلاَّ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلاَ يَجِدُ حِيلَةً لِلْحِفَاظِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالاِسْتِسْلاَمِ، فَيَجُوزُ لَهُ الاِسْتِسْلاَمُ حِينَئِذٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ الاِسْتِسْلاَمُ لِعَدُوِّهِمْ فِي سَاحَةِ الْمَعْرَكَةِ إِلاَّ بِهَذَا الشَّرْطِ (3) .
وَذَكَرُوا فِي كِتَابِ الصِّيَال: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَصُول عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلصَّائِل إِلاَّ بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا (4) .
وَذَكَرُوا فِي كِتَابِ الإِْكْرَاهِ: أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى بَعْضِ الأَْفْعَال، لاَ تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الاِسْتِسْلاَمُ لِلْمُكْرِهِ (بِكَسْرِ الرَّاءِ) بِهَذَا الشَّرْطِ (5) .
__________
(1) حاشية عميرة 4 / 207 طبع مصطفى البابي الحلبي.
(2) فتح القدير شرح الهداية 2 / 282 طبع بولاق، والمغني لابن قدامة المقدسي 8 / 479 الطبعة الثالثة طبع المنار، وتفسير النسفي 1 / 242 طبع عيسى البابي الحلبي.
(3) فتح القدير 4 / 296
(4) حاشية عميرة 4 / 207
(5) فتح القدير 7 / 298

(3/318)


اسْتِشَارَةٌ

اُنْظُرْ: شُورَى

اسْتِشْرَافٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِشْرَافُ فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْحَاجِبِ لِلنَّظَرِ، كَاَلَّذِي يَسْتَظِل مِنَ الشَّمْسِ حَتَّى يَسْتَبِينَ الشَّيْءَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّرَفِ: الْعُلُوُّ، وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ بِالأَْلِفِ: اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى: التَّطَلُّعِ إِلَى الشَّيْءِ، كَمَا فِي اسْتِشْرَافِ الأُْضْحِيَّةِ (2) . وَهُوَ فِي الأَْمْوَال بِأَنْ يَقُول: سَيَبْعَثُ إِلَيَّ فُلاَنٌ، أَوْ لَعَلَّهُ يَبْعَثُ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَل.
وَقَال أَحْمَدُ: الاِسْتِشْرَافُ بِالْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ، قِيل لَهُ: إِنَّ هَذَا شَدِيدٌ، قَال: وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فَهُوَ هَكَذَا، قِيل لَهُ: فَإِنْ كَانَ الرَّجُل لَمْ يَوَدَّ فِي أَنْ يُرْسِل إِلَيَّ شَيْئًا، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ بِقَلْبِي، فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيَّ، قَال: هَذَا إِشْرَافٌ،
__________
(1) نهاية ابن الأثير، والمصباح المنير، والصحاح مادة: (شرف) .
(2) البحر الرائق 8 / 201 ط العلمية، ومغني ابن قدامة 8 / 625 ط الثالثة.

(3/318)


فَإِذَا جَاءَكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحِسَّهُ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِكَ، فَهَذَا الآْنَ لَيْسَ فِيهِ إِشْرَافٌ (1) .
وَقَال الْبَعْضُ: الاِسْتِشْرَافُ هُوَ: التَّعَرُّضُ لِلسُّؤَال (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَنْبَغِي اسْتِشْرَافُ الأُْضْحِيَّةِ لِتُعْرَفَ سَلاَمَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الإِْجْزَاءِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُْذُنَ، وَإِلاَّ نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ، وَلاَ مُدَابَرَةٍ، وَلاَ شَرْقَاءَ، وَلاَ خَرْقَاءَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (3) .
3 - أَمَّا الاِسْتِشْرَافُ فِي الأَْمْوَال: فَإِنْ كَانَ بِالْقَلْبِ فَلاَ يُؤَاخَذُ الإِْنْسَانُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الأُْمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا، مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْهُ جَارِحَةٌ، وَمَا اعْتَقَدَهُ الْقَلْبُ مِنَ الْمَعَاصِي - غَيْرِ الْكُفْرِ - فَلَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْمَل بِهِ، وَخَطِرَاتُ النَّفْسِ مُتَجَاوَزٌ عَنْهَا بِالإِْجْمَاعِ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ: الاِسْتِشْرَافُ بِالْقَلْبِ كَالتَّعَرُّضِ بِاللِّسَانِ (4) .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي قَبُول الْمَال دُونَ اسْتِشْرَافٍ - بِمَعْنَى
__________
(1) القرطبي 3 / 346 ط دار الكتب المصرية، والزواجر 1 / 187 ط دار المعرفة، والفروع 1 / 944 ط أمير قطر.
(2) الشبراملسي على النهاية 6 / 170 ط الحلبي.
(3) البحر الرائق 8 / 201 ط العلمية، والمغني لابن قدامة 8 / 625 الطبعة الثالثة ومطالب أولي النهى 2 / 466 و (المقابلة) الشاة التي يقطع من أذنيها قطعة ولا تبين، وتبقى معلقة من قدام، فإن كانت من آخر فهي (المدابرة) ، و (الشرقاء) هي الشاة المشقوقة الأذنين " المصباح ".
(4) تفسير القرطبي 3 / 346 ط دار الكتب المصرية، والزواجر 1 / 187 ط دار المعرفة. ولواقح الأنوار ص 137 ط الحلبي، والفروع 1 / 944

(3/319)


التَّحَدُّثِ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ - ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
4 - أ - جَوَازُ الْقَبُول وَعَدَمُهُ، غَيْرَ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِمَنْ مَلَكَ أَقَل مِنْ نِصَابٍ، وَقَال قَوْمٌ: إِنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِعَطِيَّةِ غَيْرِ السُّلْطَانِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتَهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتَهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَال: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَال حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافٍ لَمْ يُبَارَكْ فِيهِ، وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُل وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى. قَال حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ (1) أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَل مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَال: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2) .
5 - ب وُجُوبُ الآْخِذِ، وَحُرْمَةُ الرَّدِّ، لِحَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُول: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَال وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلاَ
__________
(1) أصل الرزء: النقص، ومعنى " لم يرزأ، أي لم ينقص أحدا شيئا بالأخذ منه (المجموع 6 / 245 - 246)
(2) المجموع 6 / 245، 246 ط المنيرية، والبحر الرائق 2 / 269 ط العلمية، والفروع 1 / 943

(3/319)


مُشْرِفٍ فَخُذْهُ، وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ، قَال: فَكَانَ سَالِمٌ لاَ يَسْأَل أَحَدًا شَيْئًا، وَلاَ يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (1) .
6 - ج - اسْتِحْبَابُ الأَْخْذِ، وَحَمْل النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ لِلْوُجُوبِ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، غَيْرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى عَطِيَّةِ غَيْرِ السُّلْطَانِ.
جَاءَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: " الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: يُسْتَحَبُّ الْقَبُول فِي غَيْرِ عَطِيَّةِ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا عَطِيَّةُ السُّلْطَانِ فَحَرَّمَهَا قَوْمٌ، وَأَبَاحَهَا قَوْمٌ، وَكَرِهَهَا قَوْمٌ، قَال: وَالصَّحِيحُ إِنْ غَلَبَ الْحَرَامُ فِيمَا فِي يَدِ السُّلْطَانِ حُرِّمَتْ، وَإِلاَّ أُبِيحَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَابِضِ مَانِعٌ مِنْ الاِسْتِحْقَاقِ (2) ".
7 - وَالاِسْتِشْرَافُ بِمَعْنَى التَّعَرُّضِ لِلسُّؤَال، لاَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ عَنْ أَحْكَامِ السُّؤَال. (ر: سُؤَال) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنْ الاِسْتِشْرَافِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَفِي الأُْضْحِيَّةِ، وَفِي الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ.

اسْتِشْهَادٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِشْهَادُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الشَّهَادَةِ مِنَ الشُّهُودِ، فَيُقَال: اسْتَشْهَدَهُ: إِذَا سَأَلَهُ تَحَمُّل أَوْ
__________
(1) المجموع 6 / 245، والفروع 1 / 943
(2) الفروع 1 / 944

(3/320)


أَدَاءَ الشَّهَادَةِ، قَال تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1)
وَاسْتُعْمِل فِي الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّهِ، فَيُقَال: اسْتُشْهِدَ: قُتِل فِي سَبِيل اللَّهِ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُهُمْ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (3) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ فِي الْغَالِبِ لَفْظَةَ إِشْهَادٍ، وَيُرَادُ بِهَا: الاِسْتِشْهَادُ عَلَى حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ (4) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِشْهَادُ - بِمَعْنَى طَلَبِ الشَّهَادَةِ - يَخْتَلِفُ مِنْ حَقٍّ إِلَى حَقٍّ؛ لِذَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ تَبَعًا لِلْمَوَاطِنِ، وَمِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ: الاِسْتِشْهَادُ فِي الرَّجْعَةِ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (5) ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (6) ، وَوَاجِبٌ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (7) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يُفَصِّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الاِسْتِشْهَادِ بِالنِّسْبَةِ لِكُل مَسْأَلَةٍ فِي مَوْضِعِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ: النِّكَاحُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالزِّنَا، وَاللُّقَطَةُ، وَاللَّقِيطُ،
__________
(1) سورة البقرة / 282
(2) لسان العرب المحيط، وتاج العروس، والصحاح مادة: (شهد) .
(3) طلبة الطلبة ص 132 ط دار الطباعة العامرة.
(4) طلبة الطلبة ص 132، والنظم المستعذب مع المهذب 2 / 325 ط مصطفى الحلبي.
(5) فتح القدير 3 / 162 ط بولاق، والمهذب 2 / 104 ط مصطفى الحلبي، والإقناع 4 / 66 ط دار المعرفة.
(6) الشرح الصغير 2 / 616
(7) المهذب 2 / 104

(3/320)


وَكِتَابُ الْقَاضِي لِلْقَاضِي، وَغَيْرُهَا عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ الاِسْتِشْهَادِ، أَوِ الإِْشْهَادِ فِيهَا.
4 - أَمَّا الاِسْتِعْمَال الثَّانِي - بِمَعْنَى الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّهِ - فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى الْجَنَائِزِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ غُسْل الْمَيِّتِ وَعَدَمِ غُسْلِهِ. وَالْجِهَادِ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ فَضْل الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّهِ.

اسْتِصْبَاحٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِصْبَاحُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَصْبَحَ بِمَعْنَى: أَوْقَدَ الْمِصْبَاحَ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَعِل مِنْهُ الضَّوْءُ. وَاسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ وَنَحْوِهِ: أَيْ أَمَدَّ بِهِ مِصْبَاحَهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي السُّؤَال عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ. . وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ: أَيْ يُشْعِلُونَ بِهَا سُرُجَهُمْ (1) "
وَلَمْ يَخْرُجِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) ، فَقَدْ وَرَدَ فِي طِلْبَةِ الطَّلَبَةِ (3) الاِسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ: إِيقَادُ الْمِصْبَاحِ، وَهُوَ السِّرَاجُ. وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ (4) اسْتَصْبَحْتُ بِالْمِصْبَاحِ، وَاسْتَصْبَحْتُ بِالدُّهْنِ: نَوَّرْتُ بِهِ الْمِصْبَاحَ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والصحاح، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط مادة: (صبح) ، والنهاية في غريب الحديث 3 / 7، وحديث " ويستصبح بها الناس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424 - ط السلفية) وفي أوله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ".
(2) المغرب في ترتيب المعرب.
(3) طلبة الطلبة ص 9
(4) المصباح المنير مادة: (صبح)

(3/321)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِقْتِبَاسُ:
2 - الاِقْتِبَاسُ لَهُ مَعَانٍ عِدَّةٌ أَهَمُّهَا: طَلَبُ الْقَبَسِ، وَهُوَ الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ يَخْتَلِفُ عَنْ الاِسْتِصْبَاحِ، كَمَا ظَهَرَ مِنَ التَّعْرِيفِ. وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيْنَ طَلَبِ الشُّعْلَةِ، وَإِيقَادِ الشَّيْءِ لِتَتَكَوَّنَ لَنَا شُعْلَةٌ، فَالإِْيقَادُ سَابِقٌ لِطَلَبِ الشُّعْلَةِ (1) .
أَمَّا كَوْنُ الاِقْتِبَاسِ بِمَعْنَى تَضْمِينِ الْمُتَكَلِّمِ كَلاَمَهُ - شِعْرًا كَانَ أَوْ نَثْرًا - شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، أَوِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ، فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ مَعْنَى الاِسْتِصْبَاحِ.

ب - الاِسْتِضَاءَةُ:
3 - الاِسْتِضَاءَةُ مَصْدَرُ: اسْتَضَاءَ. وَالاِسْتِضَاءَةُ: طَلَبُ الضَّوْءِ. يُقَال: اسْتَضَاءَ بِالنَّارِ: أَيِ اسْتَنَارَ بِهَا، أَيِ انْتَفَعَ بِضَوْئِهَا (2) ، فَإِيقَادُ السِّرَاجِ غَيْرُ الاِنْتِفَاعِ بِضَوْئِهِ، إِذْ أَنَّهُ يَكُونُ سَابِقًا لِلاِسْتِضَاءَةِ (3) .

حُكْمُ الاِسْتِصْبَاحِ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِصْبَاحِ بِاخْتِلاَفِ مَا يُسْتَصْبَحُ بِهِ، وَالْمَكَانُ الَّذِي يُسْتَصْبَحُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مَا يُسْتَصْبَحُ بِهِ طَاهِرًا فَبِهَا، وَإِلاَّ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا هُوَ نَجِسٌ وَمَا هُوَ مُتَنَجِّسٌ، وَمَا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا إِذَا كَانَ فِي غَيْرِهِ.
أ - فَإِنْ كَانَ مَا يُسْتَصْبَحُ بِهِ نَجَسًا بِعَيْنِهِ، كَشَحْمِ
__________
(1) الكليات 1 / 253
(2) الكليات لأبي البقاء 1 / 253
(3) الفروق في اللغة ص 307 ط بيروت، والشرح الصغير 4 / 9 ط دار المعارف.

(3/321)


الْخِنْزِيرِ، أَوْ شَحْمِ الْمَيْتَةِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى حُرْمَةِ الاِسْتِصْبَاحِ بِهِ (1) ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِلأَْدِلَّةِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنْ الاِنْتِفَاعِ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ بِاسْتِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِ قَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ. (2)
ثَانِيًا: وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ. (3)
ثَالِثًا: وَلأَِنَّهُ مَظِنَّةُ التَّلَوُّثِ بِهِ، وَلِكَرَاهَةِ دُخَانِ النَّجَاسَةِ (4) .
ب - وَإِنْ كَانَ مُتَنَجِّسًا، أَيْ أَنَّ الْوَقُودَ طَاهِرٌ فِي الأَْصْل، وَأَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَ الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ (5) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الاِسْتِصْبَاحُ بِالْمُتَنَجِّسِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (6) ، لأَِنَّ الْوَقُودَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 220 ط بولاق، والحطاب 1 / 117 - 119 ط ليبيا، وإعلام الساجد للزركشي ص 361 ط القاهرة، والقواعد لابن رجب ص 192 ط الصدق الخيرية، والمغني 6 / 610
(2) نيل الأوطار 5 / 161 ط الحلبي، وحديث: " سئل عن الانتفاع. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424 ط السلفية)
(3) نيل الأوطار 5 / 161 ط م الحلبي "، وحديث " لا تنتفعوا من الميتة بشيء. . . " رواه ابن وهب في مسنده، وفي إسناده زمعة بن صالح، وهو ضعيف. (تلخيص الحبير 1 / 48 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 220، والحطاب 1 / 117 - 119، وإعلام الساجد للزركشي ص 361، والقواعد لابن رجب ص 192
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 220، وجواهر الإكليل 1 / 10، 2 / 203 ط م الحلبي، وإعلام الساجد ص 361
(6) حاشية ابن عابدين 1 / 220، وجواهر الإكليل 1 / 10، 2 / 203، وإعلام الساجد ص 361، وفتاوى ابن تيمية 21 / 83، 608 ط الرياض.

(3/322)


يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَجَازَ كَالطَّاهِرِ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ (1) (الإِْبِل الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا) وَهَذَا الْوَقُودُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ، وَلاَ هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ (2) .

حُكْمُ اسْتِعْمَال مُخَلَّفَاتِهِمَا:
5 - إِذَا اسْتُصْبِحَ بِالْمُتَنَجِّسِ، أَوِ النَّجَسِ فَلاَ بَأْسَ بِدُخَانِهِ أَوْ رَمَادِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَقُ بِالثِّيَابِ، وَذَلِكَ لاِضْمِحْلاَل النَّجَاسَةِ بِالنَّارِ، وَزَوَال أَثَرِهَا، فَمُجَرَّدُ الْمُلاَقَاةِ لاَ يُنَجِّسُ، بَل يُنَجِّسُ إِذَا عَلِقَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُلُوقِ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ، أَمَّا مُجَرَّدُ الرَّائِحَةِ فَلاَ. وَكَذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلاَبُ الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ يُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ كَالنَّجَسِ (4) ؛ لأَِنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيل مِنْهُ، وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ تَطْهُرُ، فَإِنْ عَلِقَ شَيْءٌ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ (5) ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ. وَقِيل أَيْضًا بِأَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ نَجَسٌ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَا يَنْفَصِل مِنَ
__________
(1) أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 293 ط عبد الرحمن محمد) .
(2) المغني 8 / 608 - 610 ط الرياض.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 210، 216، والحطاب 1 / 107، 120، وفتح الباري 11 / 85 - 86 نشر دار البحوث بالرياض، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 261 ط المنار، وشرح الزرقاني للموطأ 4 / 302 ط الاستقامة.
(4) المجموع 2 / 530 ط العامة، والمغني 8 / 610 ط الرياض، ومنتهى الإرادات 1 / 43 ط دار العروبة.
(5) المغني 8 / 610

(3/322)


الدُّخَانِ يُؤَثِّرُ فِي الْحِيطَانِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَنْجِيسِهَا فَلاَ يَجُوزُ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذَا فِي (نَجَاسَة) .

آدَابُ الاِسْتِصْبَاحِ:
6 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِطْفَاءُ الْمِصْبَاحِ عِنْدَ النَّوْمِ، خَوْفًا مِنَ الْحَرِيقِ الْمُحْتَمَل بِالْغَفْلَةِ، فَإِنْ وُجِدَتِ الْغَفْلَةُ حَصَل النَّهْيُ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُل عَلَى هَذَا، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمِّرُوا الآْنِيَةَ أَيْ غَطُّوهَا وَأَجِيفُوا الأَْبْوَابَ أَيْ أَغْلِقُوهَا وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ، فَأَحْرَقَتْ أَهْل الْبَيْتِ. (2)
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: يُسْتَحَبُّ إِطْفَاءُ النَّارِ عِنْدَ النَّوْمِ؛ لأَِنَّهَا عَدُوٌّ مَزْمُومٌ بِزِمَامٍ لاَ يُؤْمَنُ لَهَبُهَا فِي حَالَةِ نَوْمِ الإِْنْسَانِ. أَمَّا إِنْ جَعَل الْمِصْبَاحَ فِي شَيْءٍ مُعَلَّقٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لاَ يُمْكِنُ الْفَوَاسِقُ وَالْهَوَامُّ التَّسَلُّقَ إِلَيْهِ فَلاَ أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا (3) .

اسْتِصْحَابٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِصْحَابُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلاَزَمَةُ، يُقَال: اسْتَصْحَبْتُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ: حَمَلْتُهُ بِصُحْبَتِي (4) .
__________
(1) إعلام الساجد ص 361
(2) فتح الباري 11 / 85 - 86 ط السلفية، وشرح الزرقاني للموطأ 4 / 302
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 261
(4) القاموس والمصباح المنير، مادة: (صحب)

(3/323)


وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَقَدْ عُرِّفَ بِعِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا مَا عَرَّفَهُ بِهِ الإِْسْنَوِيُّ بِقَوْلِهِ: الاِسْتِصْحَابُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ أَمْرٍ فِي الزَّمَنِ الآْتِي، بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الزَّمَنِ الأَْوَّل (1) . وَمِثَالُهُ: أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ بِيَقِينٍ يَبْقَى عَلَى وُضُوئِهِ وَإِنْ شَكَّ فِي نَقْضِ طَهَارَتِهِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْبَاحَةُ:
2 - الإِْبَاحَةُ الأَْصْلِيَّةُ - بِمَعْنَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ - نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاِسْتِصْحَابِ، وَهِيَ مَا يُسَمَّى بِاسْتِصْحَابِ الْعَدَمِ الأَْصْلِيِّ (2) . وَأَمَّا الإِْبَاحَةُ الَّتِي هِيَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، فَهِيَ مُغَايِرَةٌ لِلاِسْتِصْحَابِ، إِذِ الاِسْتِصْحَابُ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ - نَوْعٌ مِنَ الأَْدِلَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الإِْبَاحَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الأَْحْكَامِ.

أَنْوَاعُ الاِسْتِصْحَابِ:
3 - لِلاِسْتِصْحَابِ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، هِيَ (3) :
أ - اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الأَْصْلِيِّ، كَنَفْيِ وُجُوبِ صَلاَةٍ سَادِسَةٍ، وَنَفْيِ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ.
ب - اسْتِصْحَابُ الْعُمُومِ إِلَى أَنْ يَرِدَ الْمُخَصِّصُ، كَبَقَاءِ الْعُمُومِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4) ، وَاسْتِصْحَابُ النَّصِّ إِلَى أَنْ يَرِدَ نَاسِخٌ،
__________
(1) نهاية السول في شرح منهاج الأصول 3 / 112 مطبعة التوفيق الأدبية.
(2) المستصفى 1 / 218 طبعة بولاق.
(3) المستصفى 1 / 217 وما بعدها، والإبهاج 3 / 110
(4) سورة البقرة / 275

(3/323)


كَوُجُوبِ جَلْدِ كُل قَاذِفٍ زَوْجًا أَوْ غَيْرَهُ، إِلَى أَنْ وَرَدَ النَّاسِخُ الْجُزْئِيُّ، بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ.
ج - اسْتِصْحَابُ حُكْمٍ دَل الشَّرْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ وَدَوَامِهِ، كَالْمِلْكِ عِنْدَ جَرَيَانِ الْعَقْدِ الَّذِي يُفِيدُ التَّمْلِيكَ، وَكَشَغْل الذِّمَّةِ عِنْدَ جَرَيَانِ إِتْلاَفٍ أَوْ إِلْزَامٍ، فَيَبْقَى الْمِلْكُ وَالدَّيْنُ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ زَوَالُهُمَا بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ.
وَهُنَاكَ نَوْعَانِ آخَرَانِ لِلاِسْتِصْحَابِ مُخْتَلَفٌ فِي حُجِّيَّتِهِمَا، وَمَوْضِعُ تَفْصِيلِهِمَا الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.

حُجِّيَّتُهُ:
4 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي حُجِّيَّةِ الاِسْتِصْحَابِ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهُرُهَا (1) :
أ - قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةُ بِحُجِّيَّتِهِ مُطْلَقًا، أَيْ فِي النَّفْيِ وَالإِْثْبَاتِ.
ب - وَقَال أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِعَدَمِ حُجِّيَّتِهِ مُطْلَقًا.
ج - وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِحُجِّيَّتِهِ فِي النَّفْيِ دُونَ الإِْثْبَاتِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْضِعُهَا وَتَفْصِيلُهَا فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

مَرْتَبَتُهُ فِي الْحُجِّيَّةِ:
5 - الاِسْتِصْحَابُ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِحُجِّيَّتِهِ - هُوَ آخِرُ دَلِيلٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ مَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّهُ آخِرُ مَدَارِ الْفَتْوَى (2) ،
__________
(1) إرشاد الفحول ص 238 وما بعدها، والإبهاج على البيضاوي 3 / 111
(2) إرشاد الفحول للشوكاني ص 236

(3/324)


وَعَلَيْهِ ثَبَتَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ: (الأَْصْل بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِهِ) وَالْقَاعِدَةُ: (مَا ثَبَتَ بِالْيَقِينِ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ (1)) .

اسْتِصْلاَحٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِصْلاَحُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الاِسْتِفْسَادِ (2) .
وَعِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: اسْتِنْبَاطُ الْحُكْمِ فِي وَاقِعَةٍ لاَ نَصَّ فِيهَا وَلاَ إِجْمَاعَ، بِنَاءً عَلَى مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لاَ دَلِيل عَلَى اعْتِبَارِهَا وَلاَ إِلْغَائِهَا. وَيُعَبَّرُ عَنْهُ أَيْضًا بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ.
2 - وَالْمَصْلَحَةُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْمَفْسَدَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْخَمْسَةِ (3) .
3 - وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ: مَا لاَ يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ بِالاِعْتِبَارِ وَلاَ بِالإِْلْغَاءِ، لاَ بِالنَّصِّ وَلاَ بِالإِْجْمَاعِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِحْسَانُ:
4 - عَرَّفَهُ الأُْصُولِيُّونَ بِتَعَارِيفَ كَثِيرَةٍ، الْمُخْتَارُ مِنْهَا: الْعُدُول إِلَى خِلاَفِ النَّظِيرِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ،
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية مادة: (4 - 10)
(2) لسان العرب. مادة: (صلح)
(3) المستصفى 1 / 286، 287، 2 / 306 ط بولاق، وشرح جمع الجوامع 2 / 284 ط مصطفى الحلبي.
(4) ابن الحاجب 2 / 289 ط الكلية الأزهرية 1293 هـ

(3/324)


كَدُخُول الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانِ مُكْثٍ، وَلاَ مِقْدَارِ مَاءٍ، لِدَلِيل الْعُرْفِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالاِسْتِحْسَانُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ بِقِيَاسٍ، أَوْ بِمُقَابَلَةِ نَصٍّ بِقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَالاِسْتِصْلاَحُ لَيْسَ كَذَلِكَ.

ب - الْقِيَاسُ:
5 - وَهُوَ مُسَاوَاةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ (2) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِسْتِصْلاَحِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ لِلْقِيَاسِ أَصْلاً يُقَاسُ الْفَرْعُ عَلَيْهِ، فِي حِينِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلاِسْتِصْلاَحِ هَذَا الأَْصْل.

أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَل:
6 - الْمُنَاسِبُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الاِسْتِصْلاَحُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّارِعُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الاِعْتِبَارَاتِ.
ب - وَإِمَّا أَنْ يُلْغِيَهُ.
ج - وَإِمَّا أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ. وَالأَْخِيرُ هُوَ الاِسْتِصْلاَحُ (3) .

حُجِّيَّةُ الاِسْتِصْلاَحِ:
7 - اخْتُلِفَ فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ كَثِيرَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا مِنْ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ إِلاَّ يَأْخُذُ بِهِ إِجْمَالاً،
__________
(1) ابن الحاجب 2 / 282
(2) مسلم الثبوت 2 / 246
(3) تقرير الشربيني على جمع الجوامع 2 / 283، والتوضيح 2 / 392 وحاشية السعد على شرح ابن الحاجب 2 / 243

(3/325)


وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُهُمْ قُيُودًا لِجَوَازِ الأَْخْذِ بِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ (1) .

اسْتِصْنَاعٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِصْنَاعُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَصْنَعَ الشَّيْءَ: أَيْ دَعَا إِلَى صُنْعِهِ، وَيُقَال: اصْطَنَعَ فُلاَنٌ بَابًا: إِذَا سَأَل رَجُلاً أَنْ يَصْنَعَ لَهُ بَابًا، كَمَا يُقَال: اكْتَتَبَ أَيْ أَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ عَلَى مَا عَرَّفَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ شُرِطَ فِيهِ الْعَمَل (3) . فَإِذَا قَال شَخْصٌ لآِخَرَ مِنْ أَهْل الصَّنَائِعِ: اصْنَعْ لِي الشَّيْءَ الْفُلاَنِيَّ بِكَذَا دِرْهَمًا، وَقَبِل الصَّانِعُ ذَلِكَ، انْعَقَدَ اسْتِصْنَاعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) ، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، حَيْثُ يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ الاِسْتِصْنَاعَ: بَيْعُ سِلْعَةٍ لَيْسَتْ عِنْدَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ السَّلَمِ، فَيُرْجَعُ فِي هَذَا كُلِّهِ عِنْدَهُمْ
__________
(1) نهاية السول 3 / 25، وتقربر الشربيني على جمع الجوامع 2 / 283، والتوضيح 2 / 392، وتيسير التحرير 3 / 314، والمستصفى 1 / 284، 315، وإرشاد الفحول 2 / 242
(2) لسان العرب والصحاح وتاج العروس مادة: (صنع) .
(3) البدائع للكاساني 6 / 2677 ط الإمام.
(4) المبسوط للسرخسي 12 / 138 ط السعادة، وتحفة الفقهاء 2 / 538 ط الأولى جامعة دمشق، ومجلة الأحكام العدلية - المادة / 388

(3/325)


إِلَى الْبَيْعِ وَشُرُوطِهِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْبَيْعِ بِالصَّنْعَةِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ أَلْحَقُوهُ بِالسَّلَمِ، فَيُؤْخَذُ تَعْرِيفُهُ وَأَحْكَامُهُ مِنَ السَّلَمِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ السَّلَفِ فِي الشَّيْءِ الْمُسْلَّمِ لِلْغَيْرِ مِنَ الصِّنَاعَاتِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْجَارَةُ (عَلَى الصُّنْعِ) :
2 - الإِْجَارَةُ عَلَى الصُّنْعِ هِيَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: بَيْعُ عَمَلٍ تَكُونُ الْعَيْنُ فِيهِ تَبَعًا (3) . فَالإِْجَارَةُ عَلَى الصُّنْعِ تَتَّفِقُ مَعَ الاِسْتِصْنَاعِ فِي كَوْنِ الْعَمَل عَلَى الْعَامِل، وَهُوَ الصَّانِعُ فِي الاِسْتِصْنَاعِ، وَالأَْجِيرُ فِي الإِْجَارَةِ عَلَى الصُّنْعِ. وَيَفْتَرِقَانِ فِي مَحَل الْبَيْعِ. فَفِي الإِْجَارَةِ عَلَى الصُّنْعِ: الْمَحَل هُوَ الْعَمَل، أَمَّا فِي الاِسْتِصْنَاعِ: فَهُوَ الْعَيْنُ الْمَوْصُوفَةُ فِي الذِّمَّةِ، لاَ بَيْعُ الْعَمَل (4) . وَفَرْقٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ الإِْجَارَةَ عَلَى الصُّنْعِ تَكُونُ بِشَرْطِ: أَنْ يُقَدِّمَ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْعَامِل " الْمَادَّةَ "، فَالْعَمَل عَلَى الْعَامِل، وَالْمَادَّةُ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، أَمَّا فِي الاِسْتِصْنَاعِ: فَالْمَادَّةُ وَالْعَمَل مِنَ الصَّانِعِ.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 132 ط أنصار السنة المحمدية، والإنصاف 4 / 350 ط أنصار السنة المحمدية، والفروع 2 / 458 ط المنار.
(2) الحطاب 4 / 514، 539 ط النجاح، والمدونة 9 / 18 ط السعادة والمقدمات 2 / 193 ط السعادة، والشرح الصغير 3 / 287 ط دار المعارف، والأم 3 / 131 وما بعدها ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 4 / 26 وما بعدها ط المكتب الإسلامي، والمهذب 1 / 297 - 298 ط عيسى الحلبي.
(3) المبسوط 15 / 84 ط دار المعرفة بيروت.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 225 ط 2 مصطفى الحلبي.

(3/326)


ب - السَّلَمُ (فِي الصِّنَاعَاتِ) :
3 - السَّلَمُ فِي الصِّنَاعَاتِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السَّلَمِ، إِذْ أَنَّ السَّلَمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالصِّنَاعَاتِ أَوْ بِالْمَزْرُوعَاتِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالسَّلَمُ هُوَ: " شِرَاءُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ (1) "
فَالاِسْتِصْنَاعُ يَتَّفِقُ مَعَ السَّلَمِ بِصُورَةٍ كَبِيرَةٍ، فَالآْجِل الَّذِي فِي السَّلَمِ هُوَ مَا وُصِفَ فِي الذِّمَّةِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا جَعْل الْحَنَفِيَّةِ مَبْحَثَ الاِسْتِصْنَاعِ ضِمْنَ مَبْحَثِ السَّلَمِ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّ السَّلَمَ عَامٌّ لِلْمَصْنُوعِ وَغَيْرِهِ، وَالاِسْتِصْنَاعُ خَاصٌّ بِمَا اشْتُرِطَ فِيهِ الصُّنْعُ، وَالسَّلَمُ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْجِيل الثَّمَنِ، فِي حِينِ أَنَّ الاِسْتِصْنَاعَ التَّعْجِيل - فِيهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ - لَيْسَ بِشَرْطٍ (2) .

ج - الْجَعَالَةُ:
4 - الْجَعَالَةُ هِيَ: الْتِزَامُ عِوَضٍ مَعْلُومٍ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مَجْهُولٍ عَسِرَ عَمَلُهُ، وَهِيَ عَقْدٌ عَلَى عَمَلٍ (3) . فَالْجَعَالَةُ تَتَّفِقُ مَعَ الاِسْتِصْنَاعِ فِي أَنَّهُمَا عَقْدَانِ شُرِطَ فِيهِمَا الْعَمَل. وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْجَعَالَةَ عَامَّةٌ فِي الصِّنَاعَاتِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنَّ الاِسْتِصْنَاعَ خَاصٌّ فِي الصِّنَاعَاتِ، كَمَا أَنَّ الْجَعَالَةَ الْعَمَل فِيهَا قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولاً، فِي حِينِ أَنَّ الاِسْتِصْنَاعَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا.

مَعْنَى الاِسْتِصْنَاعِ:
5 - اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ مُوَاعَدَةٌ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ. وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ بَيْعٌ لَكِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 212 ط 3 بولاق.
(2) فتح القدير 5 / 355، والبدائع 6 / 2677، والمبسوط 12 / 138 وما بعدها.
(3) البجيرمي على شرح الخطيب 3 / 238 ط مصطفى محمد.

(3/326)


لِلْمُشْتَرِي فِيهِ خِيَارٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، بِدَلِيل أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي جَوَازِهِ الْقِيَاسَ وَالاِسْتِحْسَانَ، وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ فِي الْعِدَّاتِ. وَكَذَا أَثْبَتَ فِيهِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْبِيَاعَاتِ. وَكَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّقَاضِي، وَأَنَّ مَا يُتَقَاضَى فِيهِ الْوَاجِبُ، لاَ الْمَوْعُودُ (1) .
وَهُنَاكَ رَأْيٌ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَعْدٌ (2) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الصَّانِعَ لَهُ أَلاَّ يَعْمَل، وَبِذَلِكَ كَانَ ارْتِبَاطُهُ مَعَ الْمُسْتَصْنِعِ ارْتِبَاطَ وَعْدٍ لاَ عَقْدٍ؛ لأَِنَّ كُل مَا لاَ يَلْزَمُ بِهِ الصَّانِعُ مَعَ إِلْزَامِ نَفْسِهِ بِهِ يَكُونُ وَعْدًا لاَ عَقْدًا، لأَِنَّ الصَّانِعَ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْعَمَل بِخِلاَفِ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ مُجْبَرٌ بِمَا الْتَزَمَ بِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمُسْتَصْنِعَ لَهُ الْحَقُّ فِي عَدَمِ تَقَبُّل مَا يَأْتِي بِهِ الصَّانِعُ مِنْ مَصْنُوعٍ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَمَّا اسْتَصْنَعَهُ قَبْل تَمَامِهِ وَرُؤْيَتِهِ، وَهَذَا عَلاَمَةُ أَنَّهُ وَعْدٌ لاَ عَقْدٌ (3) .

الاِسْتِصْنَاعُ بَيْعٌ أَمْ إِجَارَةٌ:
6 - يَرَى أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الاِسْتِصْنَاعَ بَيْعٌ. فَقَدْ عَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْوَاعَ الْبُيُوعِ، وَذَكَرُوا مِنْهَا الاِسْتِصْنَاعَ، عَلَى أَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ شُرِطَ فِيهِ الْعَمَل (4) ، أَوْ هُوَ بَيْعٌ لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرُّؤْيَةِ (5) ، فَهُوَ بَيْعٌ إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، فَخَالَفَ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَمَل فِي الاِسْتِصْنَاعِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَمَل. وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الاِسْتِصْنَاعَ إِجَارَةٌ
__________
(1) البدائع 5 / 2 ط الأولى.
(2) فتح القدير 5 / 355، والمبسوط 12 / 138 وما بعدها.
(3) فتح القدير 5 / 355
(4) المبسوط 15 / 84 وما بعدها، والإنصاف 4 / 300
(5) البدائع 6 / 2677

(3/327)


مَحْضَةٌ (1) ، وَقِيل: إِنَّهُ إِجَارَةٌ ابْتِدَاءً، بَيْعٌ انْتِهَاءً (2) .

صِفَةُ الاِسْتِصْنَاعِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - الاِسْتِصْنَاعُ - بِاعْتِبَارِهِ عَقْدًا مُسْتَقِلًّا - مَشْرُوعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْسَانِ (3) ، وَمَنَعَهُ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ (4) . وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: اسْتِصْنَاعُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَاتَمَ (5) ، وَالإِْجْمَاعُ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ نَكِيرٍ (6) ، وَتَعَامُل النَّاسِ بِهَذَا الْعَقْدِ وَالْحَاجَةُ الْمَاسَّةُ إِلَيْهِ. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اسْتِصْنَاعُ سِلْعَةٍ، لأَِنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ عَلَى وَجْهِ غَيْرِ السَّلَمِ، وَقِيل: يَصِحُّ بَيْعُهُ إِلَى الْمُشْتَرِي إِنْ صَحَّ جَمْعٌ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ مِنْهُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ وَسَلَمٌ (7) .

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِصْنَاعِ:
8 - الاِسْتِصْنَاعُ شُرِعَ لِسَدِّ حَاجَاتِ النَّاسِ وَمُتَطَلَّبَاتِهِمْ؛ نَظَرًا لِتَطَوُّرِ الصِّنَاعَاتِ تَطَوُّرًا كَبِيرًا،
__________
(1) فتح القدير 5 / 356
(2) فتح القدير 5 / 356، 357، وحاشية ابن عابدين 4 / 213
(3) البدائع 6 / 2678، وشرح فتح القدير 5 / 355، وتحفة الفقهاء 2 / 538، والفتاوى الأسعدية 2 / 57 ط الخيرية.
(4) فتح القدير 5 / 355
(5) روى البخاري اصطناع الرسول صلى الله عليه وسلم للخاتم في الأيمان والنذور (فتح الباري 11 / 454 ط عبد الرحمن محمد) ، وفي النهاية في غريب الحديث 3 / 57 ط عيسى الحلبي ما نصه " اصطنع الرسول صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب "، قال ابن الأثير: أي أمر أن يصنع له كما تقول: اكتتب أي أمر أن يكتب له، وقال صاحب الاعتبار ص 187 ط المنيرية: هذا حديث صحيح ثابت، وله طرق في الصحاح عدة.
(6) البدائع 6 / 2678
(7) الإنصاف 4 / 300

(3/327)


فَالصَّانِعُ يَحْصُل لَهُ الاِرْتِفَاقُ بِبَيْعِ مَا يَبْتَكِرُ مِنْ صِنَاعَةٍ هِيَ وَفْقُ الشُّرُوطِ الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا الْمُسْتَصْنِعُ فِي الْمُوَاصَفَاتِ وَالْمُقَايَسَاتِ، وَالْمُسْتَصْنِعُ يَحْصُل لَهُ الاِرْتِفَاقُ بِسَدِّ حَاجِيَّاتِهِ وَفْقَ مَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَمَالِهِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فِي السُّوقِ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ السَّابِقَةِ الصُّنْعِ فَقَدْ لاَ تَسُدُّ حَاجَاتِ الإِْنْسَانِ. فَلاَ بُدَّ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى مَنْ لَدَيْهِ الْخِبْرَةُ وَالاِبْتِكَارُ.

أَرْكَانُ الاِسْتِصْنَاعِ:
أَرْكَانُ الاِسْتِصْنَاعِ هِيَ: الْعَاقِدَانِ، وَالْمَحَل، وَالصِّيغَةُ.
9 - أَمَّا الصِّيغَةُ، أَوِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فَهِيَ: كُل مَا يَدُل عَلَى رِضَا الْجَانِبَيْنِ " الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي (1) " وَمِثَالُهَا هُنَا: اصْنَعْ لِي كَذَا، وَنَحْوِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَفْظًا أَوْ كِتَابَةً.
10 - وَأَمَّا مَحَل الاِسْتِصْنَاعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ، هَل هُوَ الْعَيْنُ أَوِ الْعَمَل؟ فَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَوِ اسْتَصْنَعَ رَجُلٌ فِي عَيْنٍ يُسَلِّمُهَا لَهُ الصَّانِعُ بَعْدَ اسْتِكْمَال مَا يَطْلُبُهُ الْمُسْتَصْنِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّنْعَةُ قَدْ تَمَّتْ بِفِعْل الصَّانِعِ أَمْ بِفِعْل غَيْرِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ، وَلاَ تُرَدُّ الْعَيْنُ لِصَانِعِهَا إِلاَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. فَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ وَارِدًا عَلَى صَنْعَةِ الصَّانِعِ أَيْ " عَمَلِهِ " لَمَا صَحَّ الْعَقْدُ إِذَا تَمَّتِ الصَّنْعَةُ بِصُنْعِ غَيْرِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَيْنِ
__________
(1) الأخيار 2 / 4 ط مصطفى الحلبي، والشرح الصغير 3 / 14، والمهذب 1 / 57، وكشاف القناع 3 / 115 وما بعدها.

(3/328)


لاَ عَلَى الصَّنْعَةِ (1) . وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَنَّ الاِسْتِصْنَاعَ ثَبَتَ فِيهِ لِلْمُسْتَصْنِعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْعَيْنُ لاَ الصَّنْعَةُ (2) . وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الاِسْتِصْنَاعِ هُوَ الْعَمَل (3) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عَقْدَ الاِسْتِصْنَاعِ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى عَمَلٍ، فَالاِسْتِصْنَاعُ طَلَبُ الْعَمَل لُغَةً، وَالأَْشْيَاءُ الَّتِي تُسْتَصْنَعُ بِمَنْزِلَةِ الآْلَةِ لِلْعَمَل (4) ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الاِسْتِصْنَاعِ عَقْدَ عَمَلٍ لَمَا جَازَ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّسْمِيَةِ.

الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ لِلاِسْتِصْنَاعِ:
11 - لِلاِسْتِصْنَاعِ شُرُوطٌ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ مَعْلُومًا، وَذَلِكَ بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ. وَالاِسْتِصْنَاعُ يَسْتَلْزِمُ شَيْئَيْنِ هُمَا: الْعَيْنُ وَالْعَمَل، وَكِلاَهُمَا يُطْلَبُ مِنَ الصَّانِعِ.
ب - أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ؛ لأَِنَّ مَا لاَ تَعَامُل فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ لِلْقِيَاسِ فَيُحْمَل عَلَى السَّلَمِ وَيَأْخُذُ أَحْكَامَهُ (5) .
ج - عَدَمُ ضَرْبِ الأَْجَل: اخْتُلِفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ، فَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ
__________
(1) لمبسوط 12 / 139، وفتح القدير 5 / 355، وحاشية الشرنبلالي على الدرر 2 / 198 مع حاشية منلا خسرو - ط محمد أحمد كامل.
(2) المبسوط 12 / 139
(3) فتح القدير 5 / 355 وما بعدها، والدرر شرح الغرر 2 / 198 وما بعدها ط 1 محمد أحمد كامل.
(4) المبسوط 12 / 139
(5) البدائع 6 / 2678، وفتح القدير 5 / 355 - 356

(3/328)


الاِسْتِصْنَاعِ خُلُوُّهُ مِنَ الأَْجَل، فَإِذَا ذُكِرَ الأَْجَل فِي الاِسْتِصْنَاعِ صَارَ سَلَمًا، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ (1) .
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ عَدَمِ ضَرْبِ الأَْجَل فِي الاِسْتِصْنَاعِ: بِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلاً. فَإِذَا مَا ضُرِبَ فِي الاِسْتِصْنَاعِ أَجَلٌ صَارَ بِمَعْنَى السَّلَمِ وَلَوْ كَانَتِ الصِّيغَةُ اسْتِصْنَاعًا (2) . وَبِأَنَّ التَّأْجِيل يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ؛ لأَِنَّهُ وُضِعَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَقْدٍ فِيهِ مُطَالَبَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي السَّلَمِ، إِذْ لاَ دَيْنَ فِي الاِسْتِصْنَاعِ (3) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، إِذْ أَنَّ الْعُرْفَ عِنْدَهُمَا جَرَى بِضَرْبِ الأَْجَل فِي الاِسْتِصْنَاعِ، وَالاِسْتِصْنَاعُ إِنَّمَا جَازَ لِلتَّعَامُل، وَمِنْ مُرَاعَاةِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ رَأَى الصَّاحِبَانِ: أَنَّ. الاِسْتِصْنَاعَ قَدْ تُعُورِفَ فِيهِ عَلَى ضَرْبِ الأَْجَل، فَلاَ يَتَحَوَّل إِلَى السَّلَمِ بِوُجُودِ الأَْجَل (4) . وَعِنْدَهُمَا: أَنَّ الاِسْتِصْنَاعَ إِذَا أُرِيدَ يُحْمَل عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنَّ كَلاَمَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُحْمَل عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالأَْجَل يُحْمَل عَلَى الاِسْتِعْجَال لاَ الاِسْتِمْهَال، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ أَبِي حَنِيفَةَ (5) .

الآْثَارُ الْعَامَّةُ لِلاِسْتِصْنَاعِ:
12 - الاِسْتِصْنَاعُ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ تَمَّ أَمْ لَمْ يَتِمَّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا لِلصِّفَاتِ
__________
(1) البدائع 6 / 2678
(2) تحفة الفقهاء 2 / 539
(3) المبسوط 12 / 140
(4) المبسوط 12 / 139
(5) الدرر شرح الغرر 2 / 198، وحاشية ابن عابدين 43 / 221 وما بعدها ط بولاق، والبدائع 6 / 2679

(3/329)


الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَمْ غَيْرَ مُوَافِقٍ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَمَّ صُنْعُهُ - وَكَانَ مُطَابِقًا لِلأَْوْصَافِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا - يَكُونُ عَقْدًا لاَزِمًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لَهَا فَهُوَ غَيْرُ لاَزِمٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛ لِثُبُوتِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ (1) .

مَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الاِسْتِصْنَاعِ:
13 - يَنْتَهِي الاِسْتِصْنَاعُ بِتَمَامِ الصُّنْعِ، وَتَسْلِيمِ الْعَيْنِ، وَقَبُولِهَا، وَقَبْضِ الثَّمَنِ. كَذَلِكَ يَنْتَهِي الاِسْتِصْنَاعُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لِشِبْهِهِ بِالإِْجَارَةِ (2) .

اسْتِطَابَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الطَّيِّبُ لُغَةً: خِلاَفُ الْخُبْثِ، يُقَال: شَيْءٌ طَيِّبٌ: أَيْ طَاهِرٌ نَظِيفٌ (3) .
وَالاِسْتِطَابَةُ: مَصْدَرُ اسْتَطَابَ، بِمَعْنَى: رَآهُ طَيِّبًا، وَمِنْ مَعَانِيهَا: الاِسْتِنْجَاءُ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَنْجِيَ يُطَهِّرُ الْمَكَانَ وَيُنَظِّفُهُ مِنَ النَّجَسِ، فَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ (4) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 355 - 356، ومجلة الأحكام العدلية المادة 392. واللجنة ترجح رأي أبي يوسف الذي أخذت به المجلة، وترى لزوم عقد الاستصناع، لما يترتب على استقلال أحد الطرفين بفسخه من المضار إلا إذا جاء على خلاف الوصف المتفق عليه
(2) فتح القدير 5 / 356
(3) المغرب مادة: (طيب)
(4) المصباح المنبر ولسان العرب مادة: (طيب) .

(3/329)


وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الاِسْتِطَابَةَ عَلَى الاِسْتِنْجَاءِ، وَيَجْعَلُونَ الْكَلِمَتَيْنِ مُتَرَادِفَتَيْنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: " الاِسْتِطَابَةُ هِيَ: الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أَوِ الأَْحْجَارِ، سُمِّيَ اسْتِطَابَةً؛ لأَِنَّهُ يُطَيِّبُ جَسَدَهُ بِإِزَالَةِ الْخَبَثِ عَنْهُ ". وَقَدْ وَرَدَتِ اسْتِطَابَةٌ بِمَعْنَى حَلْقِ الْعَانَةِ فِي حَدِيثِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ أَنَّهُ قَال لاِمْرَأَةِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: " ابْغِنِي حَدِيدَةً أَسْتَطِيبُ بِهَا ".
2 - وَلأَِحْكَامِ الاِسْتِطَابَةِ بِمَعْنَى الاِسْتِنْجَاءِ (ر: اسْتِنْجَاء) . وَلأَِحْكَامِهَا بِمَعْنَى حَلْقِ الْعَانَةِ (ر: اسْتِحْدَاد) .

اسْتِطَاعَةٌ

التَّعْرِيفُ
1 - الاِسْتِطَاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ. وَالْقُدْرَةُ: هِيَ صِفَةٌ بِهَا إِنْ شَاءَ فَعَل، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَل. وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ، فَهُمْ يَقُولُونَ مَثَلاً: الاِسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ.

(3/330)


وَإِذَا كَانَتِ الاِسْتِطَاعَةُ وَالْقُدْرَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نُنَوِّهَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ كِلْتَا الْكَلِمَتَيْنِ: (اسْتِطَاعَةٌ، قُدْرَةٌ) . وَأَنَّ الأُْصُولِيِّينَ يَسْتَعْمِلُونَ كَلِمَةَ: (قُدْرَةٌ) . قَال فِي فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ شَرْحِ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: اعْلَمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْفِعْل، الْمُسْتَجْمِعَةَ لِجَمِيعِ الشَّرَائِطِ الَّتِي يُوجَدُ الْفِعْل بِهَا، أَوْ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهَا، تُسَمَّى: (اسْتِطَاعَةً) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْطَاقَةُ
2 - لاَ خِلاَفَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ اسْتِطَاعَةٍ وَإِطَاقَةٍ، إِذْ أَنَّ كُل كَلِمَةٍ مِنْهُمَا تَدُل عَلَى غَايَةِ مَقْدُورِ الْقَادِرِ، وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي الْمَقْدُورِ. إِلاَّ أَنَّ مَا يُفَرِّقهُمَا عَنِ (الْقُدْرَةِ) فِي الاِسْتِعْمَال اللُّغَوِيِّ هُوَ: أَنَّ الْقُدْرَةَ لَيْسَتْ لِغَايَةِ الْمَقْدُورِ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَادِرِ وَلاَ يُوصَفُ بِالْمُطِيقِ أَوِ الْمُسْتَطِيعِ.

الاِسْتِطَاعَةُ شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِمَا لاَ يُسْتَطَاعُ عَادَةً، دَل عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَقَال جَل شَأْنُهُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ

(3/330)


فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُل، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ. (1)
وَقَدْ حَكَى فِي عُمْدَةِ الْقَارِي عِنْدَ كَلاَمِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الاِتِّفَاقَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّكْلِيفِ بِغَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ (2) .
وَإِذَا صَدَرَ التَّكْلِيفُ حِينَ الاِسْتِطَاعَةِ، ثُمَّ فُقِدَتْ هَذِهِ الاِسْتِطَاعَةُ حِينَ الأَْدَاءِ، أُوقِفَ هَذَا التَّكْلِيفُ إِلَى حِينِ الاِسْتِطَاعَةِ (3) . فَقَدْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَرَادَ الصَّلاَةَ بِالْوُضُوءِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْهُ سَقَطَ عَنْهُ الْوُضُوءُ، وَصُيِّرَ إِلَى الْبَدَل، وَهُوَ التَّيَمُّمُ.
وَكَلَّفَ الْحَانِثَ فِي يَمِينِهِ بِكَفَّارَةِ الإِْطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوِ الإِْعْتَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ وَاحِدًا مِنْهَا حِينَ الأَْدَاءِ سَقَطَتْ عَنْهُ وَصِيرَ إِلَى الْبَدَل، وَهُوَ الصِّيَامُ.
وَكَلَّفَ الْمُسْلِمَ بِالْحَجِّ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْهُ حِينَ الأَْدَاءِ لِمَرَضٍ، أَوْ فَقْدِ نَفَقَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، سَقَطَ هَذَا التَّكْلِيفُ إِلَى حِينِ الاِسْتِطَاعَةِ.
وَتَجِدُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَفِي مَبْحَثِ الْحُكْمِ مِنْ كُتُبِ الأُْصُول.

شَرْطُ الاِسْتِطَاعَةِ:
4 - وَشَرْطُ تَحَقُّقِ الاِسْتِطَاعَةِ: وُجُودُهَا حَقِيقَةً لاَ حُكْمًا. وَمَعْنَى وُجُودِهَا حَقِيقَةً وُجُودُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْل مِنْ غَيْرِ تَعَسُّرٍ (4) ، وَمَعْنَى وُجُودِهَا حُكْمًا الْقُدْرَةُ عَلَى الأَْدَاءِ بِتَعَسُّرٍ.
__________
(1) أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 84 - ط السلفية) ومسلم 3 / 1283 ط عيسى الحلبي، كلاهما في كتاب الإيمان.
(2) عمدة القاري 1 / 208
(3) فواتح الرحموت 1 / 127
(4) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 234

(3/331)


أَنْوَاعُ الاِسْتِطَاعَةِ:
5 - يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الاِسْتِطَاعَةِ إِلَى عِدَّةِ تَقْسِيمَاتٍ بِحَسَبِ أَنْوَاعِهَا:

التَّقْسِيمُ الأَْوَّل: اسْتِطَاعَةٌ مَالِيَّةٌ، وَاسْتِطَاعَةٌ بَدَنِيَّةٌ.
6 - الاِسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ: يُشْتَرَطُ تَوَافُرُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ، كَالزَّكَاةِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالْهَدْيِ فِي الْحَجِّ، وَالنَّفَقَةِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالنَّذْرِ الْمَالِيِّ، وَالْكَفَالَةِ بِالْمَال، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: فِي الْوَاجِبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ الْقِيَامُ بِهَا عَلَى الاِسْتِطَاعَةِ الْمَالِيَّةِ، كَقُدْرَةِ فَاقِدِ الْمَاءِ عَلَى شِرَائِهِ بِثَمَنِ الْمِثْل لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل، وَقُدْرَةِ فَاقِدِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ عَلَى شِرَاءِ ثَوْبٍ بِثَمَنِ الْمِثْل لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَقُدْرَةِ مُرِيدِ الْحَجِّ عَلَى تَوْفِيرِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَنَفَقَةِ الْعِيَال، وَقَدْ فَصَّل ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْبْوَابِ الْمَذْكُورَةِ.
7 - أَمَّا الاِسْتِطَاعَةُ الْبَدَنِيَّةُ. فَإِنَّهَا مُشْتَرَطَةٌ فِي وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، كَوُجُوبِ الطَّهَارَةِ، وَأَدَاءِ الصَّلاَةِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، وَفِي الصَّوْمِ، وَفِي الْحَجِّ، وَفِي النَّذْرِ الْبَدَنِيِّ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، وَفِي الْكَفَّارَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصِّيَامِ، وَفِي النِّكَاحِ، وَفِي الْحَضَانَةِ، وَفِي الْجِهَادِ، وَقَدْ فُصِّلَتْ أَحْكَامُ ذَلِكَ فِي الأَْبْوَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

التَّقْسِيمُ الثَّانِي: اسْتِطَاعَةٌ بِالنَّفْسِ، وَاسْتِطَاعَةٌ بِالْغَيْرِ.
8 - الاِسْتِطَاعَةُ بِالنَّفْسِ: تَكُونُ بِقُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إِلَى غَيْرِهِ.
9 - وَالاِسْتِطَاعَةُ بِالْغَيْرِ: هِيَ قُدْرَةُ الْمُكَلَّفِ عَلَى

(3/331)


الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ، وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الاِسْتِطَاعَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحَقُّقِ شَرْطِ التَّكْلِيفِ بِهِ:
فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ الْمُسْتَطِيعَ بِغَيْرِهِ مُكَلَّفًا بِمُقْتَضَى هَذِهِ الاِسْتِطَاعَةِ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَطِيعَ بِغَيْرِهِ يُعْتَبَرُ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمُسْتَطِيعُ بِغَيْرِهِ عَاجِزٌ وَغَيْرُ مُسْتَطِيعٌ؛ لأَِنَّ الْعَبْدِ يُكَلَّفُ بِقُدْرَةِ نَفْسِهِ لاَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ يُعَدُّ قَادِرًا إِذَا اخْتُصَّ بِحَالَةٍ تُهَيِّئُ لَهُ الْفِعْل مَتَى أَرَادَ، وَهَذَا لاَ يَتَحَقَّقُ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ.
وَيَسْتَثْنِي أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ:
الْحَالَةَ الأُْولَى: مَا إِذَا وَجَدَ مَنْ كَانَتْ إِعَانَتُهُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، كَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ.
الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ: مَا إِذَا وَجَدَ مَنْ إِذَا اسْتَعَانَ بِهِ أَعَانَهُ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ، كَزَوْجَتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ هَؤُلاَءِ (1) .
وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا، وَمِنْهَا:
الْعَاجِزُ عَنِ الْوُضُوءِ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُعِينُهُ.
وَالْعَاجِزُ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ إِذَا وَجَدَ مَنْ يُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا.
وَالأَْعْمَى إِذَا وَجَدَ مَنْ يَقُودُهُ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
__________
(1) البحر الرائق 1 / 147 - 148، و 302، وحاشية ابن عابدين 1 / 290، و 470 - 471، ونهاية المحتاج 1 / 408، والمغني 1 / 240، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 113

(3/332)


وَالأَْعْمَى وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا وَجَدَا مَنْ يُعِينُهُمَا عَلَى أَدَاءِ أَفْعَال الْحَجِّ.

التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ - اسْتِطَاعَةٌ مُمْكِنَةٌ، وَاسْتِطَاعَةٌ مُيَسِّرَةٌ:
10 - الاِسْتِطَاعَةُ الْمُمْكِنَةُ مُفَسَّرَةٌ بِسَلاَمَةِ الآْلاَتِ وَصِحَّةِ الأَْسْبَابِ، وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، إِذْ عَدِيمُ الرِّجْلَيْنِ لاَ يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ، وَمَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَهَكَذَا.
وَالاِسْتِطَاعَةُ الْمُمْكِنَةُ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَيْنًا، فَإِنْ فَاتَتْ لاَ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنِ الذِّمَّةِ بِفَوَاتِهَا.
وَلاَ يُشْتَرَطُ تَوَفُّرُهَا فِي قَضَاءِ الْوَاجِبِ؛ لأَِنَّ اشْتِرَاطَهَا لِتَحَقُّقِ التَّكْلِيفِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَإِذَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الْوُجُوبُ لاَ يَجِبُ تَكَرُّرُ الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ الْوُجُوبِ.
11 - أَمَّا الاِسْتِطَاعَةُ الْمُيَسِّرَةُ، فَهِيَ قُدْرَةُ الإِْنْسَانِ عَلَى الْفِعْل بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ.
وَالاِسْتِطَاعَةُ الْمُيَسِّرَةُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِهَا، حَتَّى لَوْ فَاتَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ سَقَطَ الْوَاجِبُ عَنِ الذِّمَّةِ. فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ، وَمِنْ وُجُوهِ الْيُسْرِ فِيهَا: أَنَّهَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، وَتُؤَدَّى مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْحَوْل، وَلِهَذَا التَّيْسِيرِ سَقَطَ وُجُوبُهَا بِهَلاَكِ النِّصَابِ، إِذْ لَوْ وَجَبَتْ مَعَ الْهَلاَكِ انْقَلَبَ الْيُسْرُ عُسْرًا (1) .

اخْتِلاَفُ الاِسْتِطَاعَةِ مِنْ شَخْصٍ لآِخَرَ، وَمِنْ عَمَلٍ لآِخَرَ:
12 - الاِسْتِطَاعَةُ تَخْتَلِفُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، فَتُجَاهَ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ قَدْ يَكُونُ شَخْصٌ مُسْتَطِيعًا
__________
(1) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 137، 140

(3/332)


لَهُ، وَشَخْصٌ آخَرُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لَهُ، كَالْمَرَضِ بِأَنْوَاعِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ أَثَرُهَا عَلَى الْقُدْرَةِ.
كَمَا تَخْتَلِفُ الاِسْتِطَاعَةُ مِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ، فَالأَْعْرَجُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِلْجِهَادِ بِالنَّفْسِ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِلْجِهَادِ بِالْمَال، وَمُسْتَطِيعٌ لأَِدَاءِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَهَكَذَا.

اسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ

التَّعْرِيفُ:
1 - اسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَشْيُهُ، وَكَثْرَةُ خُرُوجِ مَا فِيهِ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، فَقَدْ عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ: اسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ هُوَ: جَرَيَانُ مَا فِيهِ مِنَ الْغَائِطِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ الْعِبَادَةَ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ. وَشُرُوطُ اعْتِبَارِهِ عُذْرًا هُوَ: أَنْ يَسْتَوْعِبَ وُجُودُهُ تَمَامَ وَقْتِ صَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُعْتَبَرُ عُذْرًا إِنْ لاَزَمَ الْحَدَثُ كُل الْوَقْتِ، أَوْ أَغْلَبَهُ، أَوْ نِصْفَهُ. وَيَخْتَلِفُ الْمَالِكِيَّةُ فِي
__________
(1) لسان العرب مادة: (طلق)
(2) ابن عابدين 1 / 202

(3/333)


الْمَقْصُودِ بِالْوَقْتِ، هَل هُوَ وَقْتُ الصَّلاَةِ أَوِ الْوَقْتِ مُطْلَقًا؟ أَيْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ وَقْتَ صَلاَةٍ، فَيَشْمَل مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالزَّوَال عَلَى قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ وَقْتُ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ غَيْرَ وَقْتِ الصَّلاَةِ لاَ عِبْرَةَ بِمُفَارَقَتِهِ وَمُلاَزَمَتِهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ مُخَاطَبًا حِينَئِذٍ بِالصَّلاَةِ (1) .
وَالْوُضُوءُ وَاجِبٌ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ. (2)
وَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَيُنْتَقَضُ عِنْدَ زُفَرَ بِدُخُول الْوَقْتِ. وَبِأَيِّهِمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يُنْتَقَضُ، وَهُوَ (أَيِ الْوُضُوءُ) غَيْرُ وَاجِبٍ وَلاَ مُسْتَحَبٍّ لِمَنْ لاَزَمَهُ الْحَدَثُ كُل الْوَقْتِ، وَمُسْتَحَبٌّ فَقَطْ لِمَنْ لاَزَمَهُ الْحَدَثُ أَكْثَرَ الْوَقْتِ أَوْ نِصْفَهُ، وَقِيل: إِنْ لاَزَمَهُ نِصْفَهُ وَجَبَ الْوُضُوءُ لِكُل صَلاَةٍ (3) .
__________
(1) الحطاب 1 / 293
(2) حديث: " أنها تتوضأ. . . . " أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث جد عدي بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: قال في المستحاضة: " تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي " قال صاحب تلخيص الحبير (1 / 169 ط شركة الطباعة الفنية) : " وإسناده ضعيف " ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث عائشة بلفظ: " ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة ثم صلي " نيل الأوطار 1 / 347 - 348 نشر دار الجيل ببيروت ورواه الدارقطني وضعفه، والطبراني في معجمه الصغير، وابن حبان في صحيحه (نصب الراية 1 / 200، 202) .
(3) الاختيار 1 / 29، 30، وابن عابدين 1 / 202، والمجموع 3 / 541، والمغني 1 / 341 ومنح الجليل 1 / 65، والحطاب 1 / 291

(3/333)