الموسوعة
الفقهية الكويتية اسْتِظْلاَلٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الاِسْتِظْلاَل فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الظِّل، وَالظِّل هُوَ: كُل مَا
لَمْ تَصِل إِلَيْهِ الشَّمْسُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ قَصْدُ الاِنْتِفَاعِ بِالظِّل (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِظْلاَل عُمُومًا - سَوَاءٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ
سَقْفٍ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ - مُبَاحٌ لِكُل مُسْلِمٍ مُحْرِمٍ أَوْ
غَيْرَ مُحْرِمٍ اتِّفَاقًا. أَمَّا الاِسْتِظْلاَل لِلْمُحْرِمِ فِي
الْمَحْمَل خَاصَّةً - وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ - فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مُطْلَقًا، وَهُمُ
الشَّافِعِيَّةُ (3) ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ أَلاَّ يُصِيبَ رَأْسَهُ
أَوْ وَجْهَهُ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ (4) . . .، وَكَرِهَ ذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (5) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - الاِسْتِظْلاَل فِي الإِْحْرَامِ مَوْطِنُهُ مَبْحَثُ الْحَجِّ، عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَنِ الْمُحْرِمِ: مَا يَجُوزُ لَهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ.
__________
(1) لسان العرب مادة: (ظل) ، والكليات لأبي البلقاء 1 / 266، 3 / 277
(2) ابن عابدين 2 / 168 ط المنار. الثالثة.
(3) مغني المحتاج 1 / 518 ط مصطفى الحلبي.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 164 ط بولاق الثالثة.
(5) المدونة 1 / 408 تصوير دار صادر، والمغني 3 / 307 ط الرياض.
(3/334)
وَالإِْجَارَةُ عَلَى الاِسْتِظْلاَل
ذَكَرُوهَا فِي الإِْجَارَةِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِهَا.
وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّل ذُكِرَ فِي الآْدَابِ
الشَّرْعِيَّةِ لِلْمَجَالِسِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ النَّوْمِ
وَالْجُلُوسِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّل. وَالنَّذْرُ بِتَرْكِ
الاِسْتِظْلاَل ذُكِرَ فِي النَّذْرِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ النَّذْرِ
الْمُبَاحِ.
اسْتِظْهَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - ذَكَرَ صَاحِبُ اللِّسَانِ لِلاِسْتِظْهَارِ ثَلاَثَةَ مَعَانٍ:
أ - أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: الاِسْتِعَانَةِ، أَيْ طَلَبِ الْعَوْنِ.
قَال: " اسْتَظْهَرَ بِهِ أَيِ اسْتَعَانَهُ، وَظَهَرْتُ عَلَيْهِ:
أَعَنْتُهُ، وَظَاهَرَ فُلاَنًا: أَعَانَهُ ". وَقَال أَيْضًا: "
اسْتَظْهَرَهُ: اسْتَعَانَهُ "، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفِعْل مِمَّا
يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ.
ب - وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، قَال: "
قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِي أَيْ: قَرَأْتُهُ مِنْ حِفْظِي،
وَقَدْ قَرَأَهُ ظَاهِرًا وَاسْتَظْهَرَهُ أَيْ: حَفِظَهُ وَقَرَأَهُ
ظَاهِرًا (1) ".
وَفِي الْقَامُوسِ " اسْتَظْهَرَهُ: قَرَأَهُ مِنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، أَيْ
حِفْظًا بِلاَ كِتَابٍ ".
ج - وَيَكُونُ بِمَعْنَى الاِحْتِيَاطِ، قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ: " فِي
كَلاَمِ أَهْل الْمَدِينَةِ إِذَا اسْتُحِيضَتْ
__________
(1) لسان العرب مادة: " ظهر ".
(3/334)
الْمَرْأَةُ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ
فَإِنَّهَا تَقْعُدُ أَيَّامَهَا لِلْحَيْضِ، فَإِذَا انْقَضَتِ
اسْتَظْهَرَتْ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، تَقْعُدُ فِيهَا لِلْحَيْضِ وَلاَ
تُصَلِّي، ثُمَّ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي. قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَمَعْنَى
الاِسْتِظْهَارِ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا: الاِحْتِيَاطُ وَالاِسْتِيثَاقُ (1)
".
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الاِسْتِظْهَارَ بِالْمَعَانِي الثَّلاَثَةِ
السَّابِقَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
اسْتِظْهَارُ الْقُرْآنِ:
2 - فِي كَوْنِ اسْتِظْهَارِ الْقُرْآنِ أَفْضَل مِنْ قِرَاءَتِهِ مِنَ
الْمُصْحَفِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَل مِنِ
اسْتِظْهَارِهِ، وَنَسَبَهُ النَّوَوِيُّ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال:
إِنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنِ السَّلَفِ. وَوَجْهُهُ: أَنَّ النَّظَرَ فِي
الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ. وَاحْتَجَّ لَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ
بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ مَرْفُوعًا: فَضْل قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ نَظَرًا عَلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ ظَاهِرًا كَفَضْل الْفَرِيضَةِ
عَلَى النَّافِلَةِ. قَال السُّيُوطِيُّ: سَنَدُهُ صَحِيحٌ (2) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 / 461 - 463 ط عيسى الحلبي 1376 هـ،
والإتقان للسيوطي 1 / 108 ط مصطفى الحلبي، والأذكار للنووي ص 100 ط مصطفى
الحلبي. ومما يتصل بهذا ما ذكره بعض العلماء: أن استماع القرآن أفضل من
قراءته، وانظر مصطلح " استماع ". وحديث: " فضل قراءة القرآن. . . " أخرجه
أبو عبيد في فضائله عن بعض الصحابة، ورواه أبو نعيم، والطبراني، والديلمي،
وفيه بقية المعروف بالتدليس (فيض القدير 4 / 437 ط المكتبة التجارية 1359
هـ) وقال السيوطي: سنده صحيح
(3/335)
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَنْ
ظَهْرِ قَلْبٍ أَفْضَل، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
السَّلاَمِ.
وَثَالِثُهَا: وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ، إِنَّ الْقَارِئَ مَنْ حَفِظَهُ
إِنْ كَانَ يَحْصُل لَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَجَمْعِ
الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُل لَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ فَالْقِرَاءَةُ
مِنَ الْحِفْظِ أَفْضَل، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَمِنَ الْمُصْحَفِ أَفْضَل.
وَبَقِيَّةُ مَبَاحِثِ الاِسْتِظْهَارِ تُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ
(تِلاَوَة) .
يَمِينُ الاِسْتِظْهَارِ:
3 - ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَمِينَ الاِسْتِظْهَارِ، وَفَسَّرَهَا
الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّهَا مُقَوِّيَةٌ لِلْحُكْمِ فَقَطْ،
فَلاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِدُونِهَا (1) . وَأَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ
عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَهُوَ يَمِينُ الْقَضَاءِ، أَوْ يَمِينُ
الاِسْتِبْرَاءِ. وَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي يَمِينَ الاِسْتِظْهَارِ إِذَا
ادَّعَى عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ بِالْحَقِّ (2)
.
فَمِنْ يَمِينِ الاِسْتِظْهَارِ مَا قَال الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ:
أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى مَنْ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ مِمَّنِ اسْتَوْلَى
عَلَيْهِمُ الْبُغَاةُ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْبُغَاةِ، فَإِنَّهُ
يَصْدُقُ بِلاَ يَمِينٍ لِبِنَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى التَّخْفِيفِ،
وَيُنْدَبُ الاِسْتِظْهَارُ بِيَمِينِهِ عَلَى صِدْقِهِ إِذَا اتُّهِمَ،
خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهَا (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَرْأَةِ تُرِيدُ الْفِرَاقَ مِنْ
زَوْجِهَا الْغَائِبِ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ
بَعِيدَةً
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 162
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 227
(3) نهاية المحتاج 7 / 392
(3/335)
أَجَّلَهَا الْقَاضِي بِحَسَبِ مَا
يَرَاهُ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ
(1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ ذَكَرُوا اسْتِحْلاَفَ الْمُدَّعِي
إِذَا ادَّعَى عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ وَأَقَامَ بَيِّنَةً (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ يَمِينَ الاِسْتِظْهَارِ فِي مَبَاحِثِ
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 1 / 132، والحطاب 6 / 149، 216
(2) ابن عابدين 4 / 346، 423 ط 1272 هـ، ومجلة الأحكام. العدلية المادة
1746، والمغني 9 / 109، 110
(3/336)
الدَّعْوَى، وَمَبَاحِثِ الْقَضَاءِ،
وَالْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.
وَأَمَّا الاِسْتِظْهَارُ - بِمَعْنَى الاِسْتِعَانَةِ - فَتُذْكَرُ
أَحْكَامُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ: (اسْتِعَانَة) . وَيُذْكَرُ الاِسْتِظْهَارُ
- بِمَعْنَى الاِحْتِيَاطِ - فِي مَبَاحِثِ الْحَيْضِ، وَانْظُرْ
(احْتِيَاط) .
(3/336)
اسْتِعَاذَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِعَاذَةُ لُغَةً: الاِلْتِجَاءُ، وَقَدْ عَاذَ بِهِ يَعُوذُ:
لاَذَ بِهِ، وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَاعْتَصَمَ بِهِ، وَعُذْتُ بِفُلاَنٍ
وَاسْتَعَذْتُ بِهِ: أَيْ لَجَأْتُ إِلَيْهِ. وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا
اصْطِلاَحًا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) ، فَقَدْ عَرَّفَهَا
الْبَيْجُورِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: الاِسْتِجَارَةُ إِلَى
ذِي مَنَعَةٍ عَلَى جِهَةِ الاِعْتِصَامِ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ (2) .
وَقَوْل الْقَائِل: أَعُوذُ بِاَللَّهِ. . خَبَرٌ لَفْظًا دُعَاءٌ مَعْنًى
(3) .
وَلَكِنْ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَلاَ سِيَّمَا عِنْدَ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ
أَوِ الصَّلاَةِ تَنْصَرِفُ إِلَى قَوْل: (أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَمَا بِمَنْزِلَتِهَا كَمَا سَيَأْتِي.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدُّعَاءُ:
2 - الدُّعَاءُ أَعَمُّ مِنْ الاِسْتِعَاذَةِ، فَهُوَ لِجَلْبِ الْخَيْرِ
أَوْ
__________
(1) تاج العروس (عوذ) ، وابن عابدين 1 / 20 ط الثالثة، والفخر الرازي 1 /
96 والدسوقي 2 / 212 ط دار الفكر.
(2) البيجوري على ابن قاسم 1 / 172 ط مصطفى الحلبي
(3) الفخر الرازي 1 / 96 المطبعة البهية
(4/5)
دَفْعِ الشَّرِّ وَالاِسْتِعَاذَةُ دُعَاءٌ
لِدَفْعِ الشَّرِّ (1) .
صِفَتُهَا (حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ) :
3 - الاِسْتِعَاذَةُ سُنَّةٌ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ، وَقَال
الْبَعْضُ بِوُجُوبِهَا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الْخَوْفِ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْحُكْمِ فِي كُل مَوْطِنٍ عَلَى حِدَةٍ (2) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِهَا:
4 - طَلَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِهِ
مِنْ كُل مَا فِيهِ شَرٌّ، وَشَرَعَهَا سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْقِيَامِ
بِبَعْضِ الأَْعْمَال، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ
وَخَارِجَهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَاسْتَعَاذَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرِّ
كُلِّهِ، (3) بَل إِنَّهُ اسْتَعَاذَ مِمَّا عُوفِيَ مِنْهُ وَعُصِمَ،
إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ، وَتَعْلِيمًا لأُِمَّتِهِ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 20 ط الثالثة، والرهوني 1 / 416 ط بولاق، والمجموع 3 /
323 ط المنيرية
(2) الزرقاني على خليل 1 / 105 ط دار الفكر
(3) حديث " استعاذ الرسول. . . " أخرجه الطيالسي والطبراني وأبو داود من
حديث جابر بن سمرة بن جندب بلفظ: " اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت
منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم " ورمز
الألباني لصحته. (فيض القدير 2 / 103 نشر المكتبة التجارية، والفتح الكبير
1 / 239 ط مصطفى الحلبي، وصحيح الجامع الصغير 1 / 404 نشر المكتب الإسلامي
1388 هـ.)
(4) الخرشي 1 / 143 ط بيروت دار صادر، وفتح الباري 2 / 321.
(4/5)
مَوَاطِنُ الاِسْتِعَاذَةِ.
أَوَّلاً: الاِسْتِعَاذَةُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
5 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ مِنَ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَلَكِنَّهَا تُطْلَبُ لِقِرَاءَتِهِ، لأَِنَّ
قِرَاءَتَهُ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ، وَسَعْيُ الشَّيْطَانِ لِلصَّدِّ
عَنْهَا أَبْلَغُ. وَأَيْضًا: الْقَارِئُ يُنَاجِي رَبَّهُ بِكَلاَمِهِ،
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْقَارِئَ الْحَسَنَ التِّلاَوَةِ
وَيَسْتَمِعُ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ الْقَارِئَ بِالاِسْتِعَاذَةِ لِطَرْدِ
الشَّيْطَانِ عِنْدَ اسْتِمَاعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ. (1)
حُكْمُهَا:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَعَنْ عَطَاءٍ
وَالثَّوْرِيِّ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} (2)
وَلِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلأَِنَّهَا
تَدْرَأُ شَرَّ الشَّيْطَانِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ
فَهُوَ وَاجِبٌ (3) .
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الأَْمْرَ لِلنَّدْبِ، وَصَرَفَهُ عَنِ
الْوُجُوبِ إِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى سُنِّيَّتِهِ (4) ، وَلِمَا رُوِيَ
__________
(1) القرطبي 1 / 86، والفخر الرازي 1 / 91، وغاية اللهفان 1 / 110.
(2) سورة النحل / 98
(3) البحر الرائق 1 / 338، وسعدي جلبي مع فتح القدير 1 / 203، والرهوني 1 /
424، والتاج والإكليل 1 / 544، والجمل 1 / 354، والمجموع 3 / 325، ومطالب
أولي النهى 1 / 599، والألوسي 14 / 229
(4) الألوسي 14 / 229، والبحر الرائق 1 / 328، وسعدي جلبي على العناية شرح
الهداية 1 / 253
(4/6)
مِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، (1) وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَفَى صَارِفًا. (2)
مَحَلُّهَا:
7 - لِلْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ فِي مَحَل الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ
الْقِرَاءَةِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا قَبْل الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ،
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَنَفَى صِحَّةَ
الْقَوْل بِخِلاَفِهِ. (3) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ
أَئِمَّةُ الْقُرَّاءِ مُسْنَدًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول قَبْل
الْقِرَاءَةِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (4) . دَل
الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيمَ هُوَ السُّنَّةُ، فَبَقِيَ
سَبَبِيَّةُ الْقِرَاءَةِ لَهَا، وَالْفَاءُ فِي " فَاسْتَعِذْ " دَلَّتْ
عَلَى السَّبَبِيَّةِ، فَلْتُقَدَّرِ " الإِْرَادَةُ " لِيَصِحَّ.
وَأَيْضًا الْفَرَاغُ مِنَ الْعَمَل لاَ يُنَاسِبُ الاِسْتِعَاذَةَ.
الثَّانِي: أَنَّهَا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى
حَمْزَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَنُقِل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ
__________
(1) روى مسلم من حديث عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين) (صحيح مسلم 1 /
357 ط عيسى الحلبي) .
(2) المبسوط 1 / 13 ط السعادة.
(3) المبسوط 1 / 13، وكشاف القناع 1 / 430 ط مكتبة النصر الحديثة بالرياض،
والنشر في القراءات العشر 1 / 255
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل القراءة. . . . "
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان من حديث جبير بن مطعم. ورواه
أحمد من حديث أبي أمامة، وفي إسناده من لم يسم. (تلخيص الحبير 1 / 229 -
230 ط شركة الطباعة الفنية بالمدينة) . وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم "
قال الحافظ البوصيري في الزوائد: وفي إسناده مقال (سنن ابن ماجه بتحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 266 ط عيسى الحلبي 1372 هـ) .
(4/6)
وَابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، عَمَلاً بِظَاهِرِ الآْيَةِ {فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ} . فَدَل عَلَى أَنَّ
الاِسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَالْفَاءُ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ.
وَرَدَّ صَاحِبُ كِتَابِ النَّشْرِ صِحَّةَ هَذَا النَّقْل عَمَّنْ رُوِيَ
عَنْهُمْ. (1)
الثَّالِثُ: الاِسْتِعَاذَةُ قَبْل الْقِرَاءَةِ وَبَعْدَهَا، ذَكَرَهُ
الإِْمَامُ الرَّازِيَّ، وَنَفَى ابْنُ الْجَزَرِيِّ الصِّحَّةَ عَمَّنْ
نُقِل عَنْهُ أَيْضًا. (2)
الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ بِهَا:
8 - لِلْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ فِي الْجَهْرِ بِالاِسْتِعَاذَةِ، أَوِ
الإِْسْرَارِ بِهَا آرَاءٌ:
أَوَّلُهَا: اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ بِهَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ،
(3) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (4) ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ
أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ حَمْزَةُ وَمَنْ
وَافَقَهُ، قَال الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو فِي جَامِعِهِ: لاَ أَعْلَمُ
خِلاَفًا فِي الْجَهْرِ بِالاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْقُرْآنِ،
وَعِنْدَ ابْتِدَاءِ كُل قَارِئٍ بِعَرْضٍ، أَوْ دَرْسٍ، أَوْ تَلْقِينٍ
فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، إِلاَّ مَا جَاءَ عَنْ نَافِعٍ وَحَمْزَةَ (5) .
وَقَيَّدَ الإِْمَامُ أَبُو شَامَةَ إطْلاَقَ اخْتِيَارِ الْجَهْرِ بِمَا
إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَنْ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ، لأَِنَّ
الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ إِظْهَارٌ
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 254.
(2) النشر في القراءات العشر 1 / 254 وما بعدها ط المطبعة التجارية.
(3) المجموع 3 / 324، 325.
(4) الفروع 1 / 304 ط المنار الأولى.
(5) النشر في القراءات العشر 1 / 252.
(4/7)
لِشَعَائِرِ الْقِرَاءَةِ كَالْجَهْرِ
بِالتَّلْبِيَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّ
السَّامِعَ يُنْصِتُ لِلْقِرَاءَةِ مِنْ أَوَّلِهَا لاَ يَفُوتُهُ مِنْهَا
شَيْءٌ، وَإِذَا أَخْفَى التَّعَوُّذَ لَمْ يَعْلَمِ السَّامِعُ
بِالْقِرَاءَةِ إلاَّ بَعْدَ أَنْ يَفُوتَهُ مِنَ الْمَقْرُوءِ شَيْءٌ،
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ خَارِجَ
الصَّلاَةِ وَفِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ الْمُخْتَارَ فِي الصَّلاَةِ
الإِْخْفَاءُ، لأَِنَّ الْمَأْمُومَ مُنْصِتٌ مِنْ أَوَّل الإِْحْرَامِ
بِالصَّلاَةِ. (1)
الثَّانِي: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنَّهُ
يَتَّبِعُ إِمَامَهُ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَهُمْ يَجْهَرُونَ بِهَا إِلاَّ
حَمْزَةَ فَإِنَّهُ يُخْفِيهَا، (2) وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ. (3)
الثَّالِثُ: الإِْخْفَاءُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ،
وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ، (4) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ حَمْزَةَ (5) .
الرَّابِعُ: الْجَهْرُ بِالتَّعَوُّذِ فِي أَوَّل الْفَاتِحَةِ فَقَطْ،
وَالإِْخْفَاءُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ
حَمْزَةَ (6) .
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى رَأْيِ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ
الاِسْتِعَاذَةِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، لَكِنْ يُسْتَأْنَسُ بِمَا رُوِيَ
عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِل عَنِ اسْتِعَاذَةِ أَهْل
الْمَدِينَةِ أَيَجْهَرُونَ
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 253.
(2) ابن عابدين 1 / 329 ط بولاق.
(3) الفروع 1 / 304.
(4) المرجعان السابقان.
(5) النشر في القراءات العشر 1 / 252.
(6) المرجع السابق 1 / 253.
(4/7)
بِهَا أَمْ يُخْفُونَهَا؟ قَال: مَا كُنَّا
نَجْهَرُ وَلاَ نُخْفِي، مَا كُنَّا نَسْتَعِيذُ أَلْبَتَّةَ. (1)
بَعْضُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا الإِْسْرَارُ:
9 - ذَكَرَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ
فِيهَا الإِْسْرَارُ بِالاِسْتِعَاذَةِ، مِنْهَا مَا إِذَا قَرَأَ
خَالِيًا، سَوَاءٌ أَقَرَأَ جَهْرًا أَمْ سِرًّا، وَمِنْهَا مَا إِذَا
قَرَأَ سِرًّا، وَمِنْهَا مَا إِذَا قَرَأَ فِي الدُّورِ وَلَمْ يَكُنْ فِي
قِرَاءَتِهِ مُبْتَدِئًا يُسِرُّ بِالتَّعَوُّذِ، لِتَتَّصِل الْقِرَاءَةُ،
وَلاَ يَتَخَلَّلُهَا أَجْنَبِيٌّ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ
أَجْلِهِ اُسْتُحِبَّ الْجَهْرُ - وَهُوَ الإِْنْصَاتُ - فُقِدَ فِي هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ. (2)
الْمُرَادُ بِالإِْخْفَاءِ:
10 - ذَكَرَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ اخْتِلاَفَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي
الْمُرَادِ بِالإِْخْفَاءِ، فَقَال: إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَالُوا: هُوَ
الْكِتْمَانُ، وَعَلَيْهِ حَمَل كَلاَمَ الشَّاطِبِيِّ أَكْثَرُ
الشُّرَّاحِ، فَعَلَى هَذَا يَكْفِي فِيهِ الذِّكْرُ فِي النَّفْسِ مِنْ
غَيْرِ تَلَفُّظٍ. وَقَال الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهِ الإِْسْرَارُ
وَعَلَيْهِ حَمَل الْجَعْبَرِيُّ كَلاَمَ الشَّاطِبِيِّ، فَلاَ يَكْفِي
فِيهِ إِلاَّ التَّلَفُّظُ وَإِسْمَاعُ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ،
لأَِنَّ نُصُوصَ الْمُتَقَدِّمِينَ كُلَّهَا عَلَى جَعْلِهِ ضِدًّا
لِلْجَهْرِ، وَكَوْنُهُ ضِدًّا لِلْجَهْرِ يَقْتَضِي الإِْسْرَارَ بِهِ.
(3)
__________
(1) المرجع السابق 1 / 252.
(2) النشر في القراءات العشر 1 / 254، والشبراملسي على نهاية المحتاج 1 /
456 ط مصطفى الحلبي.
(3) النشر في القراءات العشر 1 / 254.
(4/8)
صِيَغُ الاِسْتِعَاذَةِ وَأَفْضَلُهَا:
11 - وَرَدَتْ صِيغَتَانِ لِلاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقُرَّاءِ
وَالْفُقَهَاءِ، إِحْدَاهُمَا: " أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ " كَمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ النَّحْل مِنْ قَوْله تَعَالَى
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ} (1) . وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَابْنِ
كَثِيرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. قَال ابْنُ الْجَزَرِيِّ: إِنَّهُ
الْمُخْتَارُ لِجَمِيعِ الْقُرَّاءِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ، وَقَال
أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ (جَمَال الْقُرَّاءِ) : إِنَّ
إِجْمَاعَ الأُْمَّةِ عَلَيْهِ. قَال فِي النَّشْرِ: وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّعَوُّذُ بِهِ
لِلْقِرَاءَةِ وَلِسَائِرِ تَعَوُّذَاتِهِ، وَقَال أَبُو عَمْرٍو
الدَّانِيُّ: هُوَ الْمَأْخُوذُ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ،
كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. (2)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي إِذْهَابِ الْغَضَبِ: لَوْ قَال: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ (3) وَفِي غَيْرِ
الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ
أَمَامَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَال: أَعُوذُ بِاَللَّهِ
السَّمِيعِ الْعَلِيمِ فَقَال: قُل: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ وَهَكَذَا أَخَذْتُهُ عَنْ جِبْرِيل عَنْ مِيكَائِيل عَنِ
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (4) .
الثَّانِيَةُ " أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّ
اللَّهَ هُوَ
__________
(1) سورة النحل / 98.
(2) النشر في القراءات العشر 1 / 243، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 141.
(3) قول النبي صلى الله عليه وسلم في إذهاب الغضب أخرجه البخاري من حديث
سليمان بن جرد بلفظ: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " (فتح الباري 10 / 518 ط السلفية) .
(4) قال ابن الجزري: حديث غريب جيد الإسناد (النشر في القراءات العشر 1 /
244 نشر المكتبة التجارية) .
(4/8)
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "، حُكِيَ عَنْ
أَهْل الْمَدِينَةِ، وَنَقَلَهُ الرَّازِيَّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ
أَحْمَدَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَابْنِ
سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ نَافِعٍ، وَابْنِ عَامِرٍ،
وَالْكِسَائِيِّ (2) .
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُول: " أَعُوذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ "، قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ كَمَا فِي النَّشْرِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ كَمَا
فِي النَّشْرِ.
وَهُنَاكَ صِيَغٌ أُخْرَى أَوْرَدَهَا صَاحِبُ النَّشْرِ.
الْوَقْفُ عَلَى الاِسْتِعَاذَةِ:
12 - يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَالاِبْتِدَاءُ بِمَا بَعْدَهَا،
بَسْمَلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَيَجُوزُ وَصْلُهَا بِمَا بَعْدَهَا،
وَالْوَجْهَانِ صَحِيحَانِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الدَّانِيِّ أَنَّ
الأَْوْلَى وَصْلُهَا بِالْبَسْمَلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ شِيطَا
وَأَكْثَرُ الْعِرَاقِيِّينَ سِوَى وَصْل الاِسْتِعَاذَةِ بِالْبَسْمَلَةِ.
فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسَمِّ فَالأَْشْبَهُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ
وَصْلُهَا. (3)
إِعَادَةُ الاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ:
13 - إِذَا قَطَعَ الْقَارِئُ الْقِرَاءَةَ لِعُذْرٍ، مِنْ سُؤَالٍ أَوْ
كَلاَمٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ، لَمْ يُعِدْ التَّعَوُّذَ لأَِنَّهَا
قِرَاءَةٌ
__________
(1) سورة فصلت / 36.
(2) النشر في القراءات العشر 1 / 250، والمبسوط 1 / 13.
(3) النشر في القراءات العشر 1 / 257.
(4/9)
وَاحِدَةٌ (1) . وَفِي (مَطَالِبِ أُولِي
النُّهَى) : الْعَزْمُ عَلَى الإِْتْمَامِ بَعْدَ زَوَال الْعُذْرِ شَرْطٌ
لِعَدَمِ الاِسْتِعَاذَةِ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ الْقَطْعُ قَطْعَ
تَرْكٍ وَإِهْمَالٍ فَإِنَّهُ يُعِيدُ التَّعَوُّذَ (3) ، قَال
النَّوَوِيُّ: يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ وَالْكَلاَمُ الطَّوِيل سَبَبًا
لِلإِْعَادَةِ (4) .
الاِسْتِعَاذَةُ لِدُخُول الْخَلاَءِ:
14 - تُسْتَحَبُّ الاِسْتِعَاذَةُ عِنْدَ دُخُول الْخَلاَءِ، وَيُجْمَعُ
مَعَهَا التَّسْمِيَةُ، وَيُبْدَأُ بِالتَّسْمِيَةِ بِاتِّفَاقِ
الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ.
أَمَّا بَعْدَ الدُّخُول فَلاَ يَقُولُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُوَافِقُهُمُ الْمَالِكِيَّةُ إِنْ
كَانَ الْمَحَل مُعَدًّا لِذَلِكَ. وَقِيل يَتَعَوَّذُ وَإِنْ كَانَ
مُعَدًّا لِذَلِكَ. وَنَسَبَهُ الْعَيْنِيُّ إِلَى مَالِكٍ (5) .
صِيَغُ الاِسْتِعَاذَةِ لِدُخُول الْخَلاَءِ:
15 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ
الْمَذْهَبُ
__________
(1) النشر في القراءات العشر 1 / 259، ومطالب أولي النهى 1 / 599.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 599.
(3) النشر في القراءات العشر 1 / 259، ومطالب أولي النهى 1 / 599.
(4) المجموع 3 / 325.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 230 ط بولاق، والشرح الصغير 1 / 89 نشر دار
المعارف، ونهاية المحتاج 1 / 127 - 128، والمجموع 2 / 77 نشر المكتبة
العالمية، وعمدة القاري 1 / 699 والكافي 1 / 61 نشر المكتب الإسلامي بدمشق.
(4/9)
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - (1) أَنَّ صِيغَةَ
الاِسْتِعَاذَةِ لِدُخُول الْخَلاَءِ هِيَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ (2) .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقُول الرَّجُل إِذَا دَخَل
الْخَلاَءَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ، وَلَمْ
يَذْكُرِ التَّسْمِيَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (3)
وَزَادَ الْغَزَالِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ
النَّجِسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِمَا رُوِيَ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إِذَا دَخَل مِرْفَقَهُ أَنْ
يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النَّجِسِ
الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " اللهم إني أعوذ بك. . . " أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
والترمذي من حديث أنس (التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول 1 / 91. نشر
دار إحياء التراث العربي 1381 هـ) .
(3) المغني مع الشرح الكبير 1 / 162 ط المنار.
(4) حاشية الشرواني وابن قاسم العبادي 1 / 173 ط دار صادر، والمغني مع
الشرح الكبير 1 / 162 ط مطبعة المنار. وحديث " لا يعجز أحدكم. . . . "
أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة. قال الحافظ البوصيري في الزوائد: إسناده
ضعيف. (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 159 ط عيسى الحلبي
1372 هـ) .
(4/10)
وَالْخُبُثُ بِضَمِّ الْبَاءِ: ذُكْرَانُ
الشَّيَاطِينِ، وَالْخَبَائِثُ: إِنَاثُهُمْ، وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ:
الْخُبْثُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ: الشَّرُّ، وَالْخَبَائِثُ: الشَّيَاطِينُ
(1) .
قَال الْحَطَّابُ: وَخُصَّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِالاِسْتِعَاذَةِ
لِوَجْهَيْنِ. الأَْوَّل: بِأَنَّهُ خَلاَءٌ، وَلِلشَّيَاطِينِ بِقُدْرَةِ
اللَّهِ تَعَالَى تَسَلُّطٌ بِالْخَلاَءِ مَا لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَلأَِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَ الْخَلاَءِ قَذِرٌ يُنَزَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ
تَعَالَى فِيهِ عَنْ جَرَيَانِهِ عَلَى اللِّسَانِ، فَيَغْتَنِمُ
الشَّيْطَانُ عَدَمَ ذِكْرِهِ، لأَِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى
يَطْرُدُهُ، فَأُمِرَ بِالاِسْتِعَاذَةِ قَبْل ذَلِكَ لِيَعْقِدَهَا
عِصْمَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَخْرُجَ. (2)
الاِسْتِعَاذَةُ لِلتَّطَهُّرِ:
16 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال الطَّحَاوِيُّ: يَأْتِي بِهَا قَبْل
التَّسْمِيَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُوَضِّحْ حُكْمَهَا. (3)
وَتُسْتَحَبُّ الاِسْتِعَاذَةُ لِلْوُضُوءِ سِرًّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
قَبْل التَّسْمِيَةِ، قَال الشِّرْوَانِيُّ: وَأَنْ يَزِيدَ بَعْدَهَا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَل الْمَاءَ طَهُورًا، وَالإِْسْلاَمَ
نُورًا، {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ
رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونَ} (4) .
وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ الأَْذْكَارِ فِي الْوُضُوءِ
إِلاَّ
__________
(1) لعل المراد لغة، أما على معنى الحديث فبعيد، إذ كيف تصح الاستعاذة من
إناث الشياطين دون ذكرانهم، والتغليب يراعى فيه جانب التذكير غالبا.
(2) الحطاب 1 / 271.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 37.
(4) الشرواني على التحفة مع حاشية ابن قاسم العبادي 1 / 224، ونهاية
المحتاج 1 / 168.
(4/10)
التَّشَهُّدَانِ آخِرَهُ، وَالتَّسْمِيَةُ
أَوَّلَهُ. (1) وَلَمْ نَقِفْ لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِيهَا.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْفُقَهَاءُ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ
لِلاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ قَبْل الْغُسْل مَنْدُوبٌ، فَيَجْرِي
عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِ الاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ فِي الْفُرُوعِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ: أَنَّ
التَّعَوُّذَ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ كُل قُرْبَةٍ (2) فَيَدْخُل فِيهَا هَذَا
وَمَا كَانَ مِثْلَهُ.
الاِسْتِعَاذَةُ عِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ:
17 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
نَدْبِ الاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَقَدْ وَرَدَتْ
صِيغَةُ الاِسْتِعَاذَةِ لِدُخُول الْمَسْجِدِ فِيمَا وَرَدَ: أَعُوذُ
بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (3) الْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُمَّ صَل
وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي
ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، ثُمَّ يَقُول: بِاسْمِ
اللَّهِ، وَيُقَدِّمُ الْيُمْنَى فِي الدُّخُول، وَيُقَدِّمُ الْيُسْرَى
فِي الْخُرُوجِ وَيَقُول جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَاهُ إِلاَّ أَنَّهُ يَقُول:
أَبْوَابَ فَضْلِكَ بَدَل رَحْمَتِكَ. (4)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى قَوْلٍ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) المدني على كنون هامش حاشية الرهوني 1 / 150، وشرح ميارة على منظومة
ابن عاشر 1 / 171.
(2) الفروع 1 / 304.
(3) حديث " أعوذ بالله العظيم. . . . " أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن
عمرو بن العاص مرفوعا (عون المعبود 1 / 175 ط الهند، وبذل المجهود 3 / 307
- 308 نشر دار الكتب العلمية ببيروت) .
(4) الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية 2 / 41 - 42.
(4/11)
أَمَّا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ
الْمَسْجِدِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى نَدْبِ
الاِسْتِعَاذَةِ حِينَئِذٍ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَسْتَعِيذُ بِمَا
اسْتَعَاذَ بِهِ عِنْدَ الدُّخُول، وَقَدْ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ فِي
ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ (1) .
وَلَمْ يُوقَفْ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي
ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوا الاِسْتِعَاذَةَ عِنْدَ
الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (2) .
الاِسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلاَةِ
حُكْمُهَا:
18 - الاِسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلاَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3)
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَنْ
أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ وَاجِبٌ. (4)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّهَا جَائِزَةٌ فِي النَّفْل،
مَكْرُوهَةٌ فِي الْفَرْضِ. (5)
وَيُكْتَفَى فِي الاِسْتِدْلاَل عَلَى هَذِهِ الأَْقْوَال بِمَا تَقَدَّمَ
فِي الاِسْتِدْلاَل عَلَى أَحْكَامِهَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فِيمَا
عَدَا دَلِيل الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ
__________
(1) حديث " اللهم إني أعوذ بك. . . " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة
من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، وللحديث عدة طرق بين ضعيف وموقوف ومنقطع
ومرسل (الفتوحات الربانية 2 / 51 و 52 نشر المكتبة الإسلامية) .
(2) الجمل على شرح المنهج 2 / 424، وكشاف القناع 1 / 300 - 301 وشرح ميارة
لمنظومة ابن عاشر 2 / 137.
(3) ابن عابدين 1 / 443 ط الثالثة.
(4) الإنصاف 2 / 119.
(5) الرهوني 1 / 424، والدسوقي 1 / 251.
(4/11)
الشَّيْطَانَ يُدْبِرُ عِنْدَ الأَْذَانِ
وَالتَّكْبِيرِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَال:
صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ
بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (1) (2)
مَحَل الاِسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلاَةِ:
19 - تَكُونُ الاِسْتِعَاذَةُ قَبْل الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
(3) وَالشَّافِعِيَّةِ، (4) وَالْحَنَابِلَةِ، (5) وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَالْقَوْل الآْخَرُ
لِلْمَالِكِيَّةِ مَحَلُّهَا بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ، كَمَا فِي
الْمَجْمُوعَةِ (6) . وَيُسْتَدَل عَلَى ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَل
الاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (ف 7) .
تَبَعِيَّةُ الاِسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلاَةِ:
20 - الاِسْتِعَاذَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِدُعَاءِ
الاِسْتِفْتَاحِ (الثَّنَاءِ) أَوْ لِلْقِرَاءَةِ، وَتَبَعِيَّتُهَا
لِلْقِرَاءَةِ قَال بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا
سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ فَيَأْتِي بِهَا كُل قَارِئٍ، لأَِنَّهَا شُرِعَتْ
صِيَانَةً عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 203
(2) حديث أنس أخرجه مسلم وأحمد (نيل الأوطار 2 / 215 نشر دار الجيل ببيروت)
.
(3) كنز الدقائق 1 / 329، والفتاوى الهندية 1 / 74.
(4) الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية 2 / 185 وغيره من كتب الشافعية.
(5) مطالب أولي النهى 1 / 504.
(6) الرهوني 1 / 424.
(4/12)
فِي الْقِرَاءَةِ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهَا تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ، لأَِنَّهَا لِدَفْعِ
الْوَسْوَاسِ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا.
وَلَيْسَ لِلْخِلاَفِ ثَمَرَةٌ إِلاَّ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَتَظْهَرُ فِي مَسَائِل مِنْهَا: أَنَّهُ لاَ
يَأْتِي بِهَا الْمُقْتَدِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لأَِنَّهُ
لاَ قِرَاءَةَ عَلَيْهِ، وَيَأْتِي بِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّهُ
يَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ. (2)
فَوَاتُ التَّعَوُّذِ:
21 - يَفُوتُ التَّعَوُّذُ بِالشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، (3) وَذَلِكَ
لِفَوَاتِ الْمَحَل، وَتَرْكُ الْفَرْضِ لأَِجْل السُّنَّةِ مَرْفُوضٌ.
وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ كَذَلِكَ فِي النَّفْل، فَهِيَ
سُنَّةٌ قَوْلِيَّةٌ لاَ يَعُودُ إِلَيْهَا. (4)
الإِْسْرَارُ وَالْجَهْرُ بِالاِسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلاَةِ:
22 - لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
الأَْوَّل: اسْتِحْبَابُ الإِْسْرَارِ، وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي
الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، (5) وَمَعَهُمْ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 73، 74، والبحر الرائق 1 / 328، والنشر في
القراءات العشر 1 / 258، وفتح الجواد شرح الإمداد 1 / 97، والطحطاوي على
مراقي الفلاح 1 / 291، وفتح العزيز بهامش المجموع 3 / 318، والرهوني 1 /
424.
(2) المغني مع الشرح الكبير 1 / 575، والإنصاف 2 / 325، والبحر الرائق 1 /
328.
(3) ابن عابدين 1 / 456 ط الثالثة، والجمل 1 / 453، والمغني مع الشرح 1 /
522.
(4) الحطاب 2 / 44.
(5) البدائع 1 / 203، وفتح القدير 1 / 204، والبحر الرائق 1 / 328،
والفتاوى الهندية 1 / 73.
(4/12)
هَذَا الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ مَا
اسْتَثْنَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ (1) ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا الْمَالِكِيَّةُ
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ، (2) وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
(3)
وَالدَّلِيل عَلَى اسْتِحْبَابِ الإِْسْرَارِ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الإِْمَامُ، وَذَكَرَ مِنْهَا:
التَّعَوُّذَ وَالتَّسْمِيَةَ وَآمِينَ (4) ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَهْرُ. (5)
الرَّأْيُ الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ، وَهُوَ قَوْل
الْمَالِكِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَجْهَرُ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ فِي
الْجِنَازَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُطْلَبُ الإِْسْرَارُ فِيهِ تَعْلِيمًا
لِلسُّنَّةِ، وَلأَِجْل التَّأْلِيفِ، وَاسْتَحَبَّهَا ابْنُ قُدَامَةَ
وَقَال: اخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. وَقَال فِي الْفُرُوعِ: إنَّهُ
الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ (6) ، وَسَنَدُهُمْ فِي الْجَهْرِ قِيَاسُ
الاِسْتِعَاذَةِ عَلَى التَّسْمِيَةِ وَآمِينَ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الإِْسْرَارِ وَالْجَهْرِ،
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، جَاءَ فِي الأُْمِّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَعَوَّذُ فِي نَفْسِهِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجْهَرُ بِهِ. (7)
__________
(1) الفروع 1 / 304، والمغني 1 / 519.
(2) الرهوني 1 / 424.
(3) المجموع 3 / 336، والروضة 1 / 241، والجمل 1 / 345.
(4) روى علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود قال: ثلاث يخفيهن الإمام:
الاستعاذة وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين (نيل الأوطار 2 / 217 نشر دار
الجيل ببيروت) .
(5) فتح القدير 1 / 204، والبدائع 1 / 203.
(6) الرهوني 1 / 424، والروضة 1 / 241، والفروع 1 / 304.
(7) المجموع 3 / 322.
(4/13)
تَكْرَارُ الاِسْتِعَاذَةِ فِي كُل
رَكْعَةٍ:
23 - الاِسْتِعَاذَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بِاتِّفَاقٍ،
أَمَّا تَكْرَارُهَا فِي بَقِيَّةِ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: اسْتِحْبَابُ التَّكْرَارِ فِي كُل رَكْعَةٍ، وَهُوَ قَوْل
ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّ أَحَدًا
مِنْهُمْ خَالَفَهُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ صَحَّحَهَا صَاحِبُ الإِْنْصَافِ بَل قَال ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. (1)
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
(2) وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْل بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ
قَطَعَ الْقِرَاءَةَ خَارِجَ الصَّلاَةِ بِشُغْلٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا
يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّعَوُّذُ، وَلأَِنَّ الأَْمْرَ مُعَلَّقٌ عَلَى
شَرْطٍ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (3) وَأَيْضًا إِنْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً
فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي غَيْرِهَا مِنَ
الرَّكَعَاتِ قِيَاسًا، لِلاِشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ.
الثَّانِي: كَرَاهِيَةُ تَكْرَارِ الاِسْتِعَاذَةِ فِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (4)
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ كَمَا لَوْ سَجَدَ لِلتِّلاَوَةِ فِي قِرَاءَتِهِ
ثُمَّ
__________
(1) الهداية 1 / 51، والرهوني 1 / 424، والمجموع 3 / 324، والجمل 1 / 453،
والإنصاف 2 / 73، 74، 119، والمغني مع الشرح 1 / 552.
(2) سورة النحل / 98.
(3) سورة المائدة / 6.
(4) الهندية 1 / 74، والعناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 / 217،
والبحر الرائق 1 / 328، وابن عابدين 1 / 356 ط 3، والإنصاف 2 / 119،
والألوسي 14 / 229.
(4/13)
عَادَ إِلَيْهَا لاَ يُعِيدُ التَّعَوُّذَ،
وَكَأَنَّ رَابِطَةَ الصَّلاَةِ تَجْعَل الْكُل قِرَاءَةً وَاحِدَةً،
غَيْرَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ إِذَا قَامَ لِلْقَضَاءِ يَتَعَوَّذُ عِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ (1) .
صِيغَةُ الاِسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلاَةِ:
24 - تَحْصُل الاِسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلاَةِ بِكُل مَا اشْتَمَل عَلَى
التَّعَوُّذِ مِنَ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ
الْبَيْجُورِيُّ بِمَا إِذَا كَانَ وَارِدًا. وَعَلَى هَذَا
الْحَنَابِلَةُ، فَكَيْفَمَا تَعَوَّذَ مِنَ الذِّكْرِ الْوَارِدِ
فَحَسَنٌ. (2) وَاقْتَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى " أَعُوذُ " أَوْ "
أَسْتَعِيذُ ". (3)
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَفْضَل الصِّيَغِ عَلَى الإِْطْلاَقِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ " أَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " (4) وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْل الأَْكْثَرِ مِنَ الأَْصْحَابِ مِنْهُمْ وَمِنَ
الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ الْمَنْقُول مِنِ اسْتِعَاذَتِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول قَبْل
الْقِرَاءَةِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَجَاءَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقُول: " أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ
الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " (5) لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
__________
(1) فتح العزيز هامش المجموع 3 / 306.
(2) الجمل 1 / 354، والروضة 1 / 241، والبيجوري 1 / 173، والإنصاف 1 / 47.
(3) البحر الرائق 1 / 328، والطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 141.
(4) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل القراءة. . . " سبق
تخريجه (ر: ف 7) .
(5) حديث " أعوذ بالله السميع العليم. . . . " أخرجه أصحاب السنن الأربعة
من حديث أبي سعيد الخدري. قال الترمذي: هذا أشهر حديث في الباب وقد تكلم في
إسناده. . (نصب الراية 1 / 331 مطبوعات المجلس العلمي الطبعة الثانية،
وتحفة الأحوذي 2 / 50 نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة) قال الهيثمى:
رواه أحمد ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 2 / 265 نشر مكتبة القدسي 1352 هـ) .
(4/14)
فَإِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِهَذِهِ
الزِّيَادَةِ.
وَنَقَل حَنْبَلٌ عَنْهُ أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ " إِنَّ اللَّهَ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (1) .
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ " إِنَّ
اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (2) .
اسْتِعَاذَةُ الْمَأْمُومِ:
25 - لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِعَاذَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْمَامِ
عَمَّا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا.
أَمَّا الْمَأْمُومُ فَتُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3)
سَوَاءٌ أَكَانَتْ الصَّلاَةُ سِرِّيَّةً أَمْ جَهْرِيَّةً، وَمَعَهُمْ
أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، (4) لأَِنَّ التَّعَوُّذَ لِلثَّنَاءِ
عِنْدَهُ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَاتٍ ثَلاَثٍ عَنْ أَحْمَدَ (5) .
وَتُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ تَحْرِيمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْقِرَاءَةِ، وَلاَ قِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ،
لَكِنْ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ إِذَا اسْتَعَاذَ فِي الأَْصَحِّ (6) ،
وَعَلَى هَذَا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَمَّا
الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْهُ فَهِيَ إِنْ سَمِعَ الإِْمَامَ كُرِهَتْ
وَإِلاَّ فَلاَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهَا لِلإِْمَامِ
وَالْمَأْمُومِ فِي النَّفْل. أَمَّا فِي الْفَرْضِ فَمَكْرُوهَةٌ لَهُمَا
كَمَا سَبَقَ.
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 521، والبحر الرائق 1 / 328.
(2) البحر الرائق 1 / 328.
(3) المجموع شرح المهذب 2 / 259 ط 3.
(4) ابن عابدين 1 / 457 ط 3، والمبسوط 1 / 13.
(5) الإنصاف 2 / 233.
(6) ابن عابدين 1 / 438 ط 3، والدسوقي 1 / 251.
(4/14)
الاِسْتِعَاذَةُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
26 - مِنْ سُنَنِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ
يَسْتَعِيذَ فِي الْخُطْبَةِ الأُْولَى فِي نَفْسِهِ سِرًّا (1) قَبْل
الْحَمْدِ. وَيُسْتَدَل لَهُمْ بِمَا قَال سُوَيْدٌ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول عَلَى الْمِنْبَرِ: أَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (2) . وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ
بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ كَلاَمًا فِي ذَلِكَ.
مَحَل الاِسْتِعَاذَةِ فِي صَلاَةِ الْعِيدِ:
27 - يَسْتَعِيذُ بَعْدَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَكُونُ بَعْدَ
التَّكْبِيرِ، وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ أَحْمَدَ، لأَِنَّهَا تَبَعٌ
لِلْقِرَاءَةِ. (3)
وَتَكُونُ قَبْل تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهَا تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ،
وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ (4) .
حُكْمُهَا، وَمَحَلُّهَا فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
28 - لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِعَاذَةِ فِي الْجِنَازَةِ عَنْ
حُكْمِهَا فِي الصَّلاَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَيَجْرِي فِيهَا الْخِلاَفُ
الَّذِي جَرَى فِي الصَّلاَةِ الْمُطْلَقَةِ. (5)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 448.
(2) الفخر الرازي 1 / 75.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 291، والروضة 2 / 71، والفروع 1 / 579،
والفتاوى الهندية 1 / 74.
(4) الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 291، والفروع 1 / 579، وفتح العزيز
بهامش المجموع 3 / 301.
(5) المجموع 3 / 325، وكشاف القناع 2 / 101.
(4/15)
الْمُسْتَعَاذُ بِهِ:
29 - الاِسْتِعَاذَةُ تَكُونُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَأَسْمَائِهِ،
وَصِفَاتِهِ (1) ، وَقَال الْبَعْضُ: لاَ بُدَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ
الْقُرْآنِ لِلتَّعَوُّذِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَعَوَّذُ بِهِ، لاَ
نَحْوَ آيَةِ الدَّيْنِ. (2)
وَيَجُوزُ الاِسْتِعَاذَةُ بِالإِْنْسَانِ فِيمَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ
قُدْرَتِهِ الْحَادِثَةِ، كَأَنْ يَسْتَجِيرَ بِهِ مِنْ حَيَوَانٍ
مُفْتَرِسٍ، أَوْ مِنْ إِنْسَانٍ يُرِيدُ الْفَتْكَ بِهِ.
وَيَحْرُمُ الاِسْتِعَاذَةُ بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مَنِ اسْتَعَاذَ بِهِمْ زَادُوهُ رَهَقًا، كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِْنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (3)
الْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ:
30 - يَصْعُبُ ذِكْرُ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ تَفْصِيلاً، وَقَدْ عُنِيَتْ
كُتُبُ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَالأَْذْكَارِ بِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ
الأُْمُورِ، وَتَكْفِي الإِْشَارَةُ إِلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسْتَعَاذِ
مِنْهُ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل.
مِنْ ذَلِكَ: الاِسْتِعَاذَةُ مِنْ بَعْضِ صِفَاتِ اللَّهِ بِبَعْضِ
صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ.
وَمِنْهُ الاِسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ - شَرِّ النَّفْسِ
وَالْحَوَاسِّ، وَالأَْمَاكِنِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الاِسْتِعَاذَةُ مِنَ الْهَرَمِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ،
وَمِنَ الشِّقَاقِ، وَالنِّفَاقِ، وَسُوءِ الأَْخْلاَقِ، وَمِنَ الْجُبْنِ
وَالْبُخْل.
__________
(1) الفروع 1 / 599، وكشاف القناع 2 / 59، وتفسير القرطبي 19 / 10.
(2) الزرقاني على خليل 1 / 105.
(3) سورة الجن / 6.
(4/15)
إجَابَةُ الْمُسْتَعِيذِ:
31 - يُنْدَبُ لِلإِْنْسَانِ إِجَابَةُ مَنِ اسْتَعَاذَ بِهِ فِي أَمْرٍ
مَقْدُورٍ لَهُ، وَقَدْ تَكُونُ الإِْعَاذَةُ وَاجِبًا كِفَائِيًّا أَوْ
عَيْنِيًّا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاَللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ
بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ
إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ (1) إِلَخْ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ الْمُسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مُسْتَغِيثًا، فَيَكُونُ
تَفْصِيل الْحُكْمِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِغَاثَة) أَوْلَى.
تَعْلِيقُ التَّعْوِيذَاتِ:
يُرْجَعُ فِي حُكْمِ تَعْلِيقِ التَّعْوِيذَاتِ إِلَى مُصْطَلَحِ
(تَمِيمَة) .
اسْتِعَارَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِعَارَةُ هِيَ: طَلَبُ الإِْعَارَةِ، وَالإِْعَارَةُ تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ بِلاَ عِوَضٍ (3)
(صِفَتُهَا) حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ أُبِيحَ لَهُ
طَلَبُهُ،
__________
(1) الشبراملسي على النهاية 3 / 369.
(2) حديث " من استعاذكم بالله. . . " أخرجه أحمد بن حنبل وأبو داود
والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر، وقال النووي في رياض
الصالحين: حديث صحيح (فيض القدير 6 / 55 نشر المكتبة التجارية 1357 هـ) .
(3) الدر المختار مع رد المحتار 2 / 502 ط بولاق، وبلغة السالك على الشرح
الصغير 2 / 205، ومغني المحتاج 3 / 263، وغاية المنتهى 2 / 227.
(4/16)
وَمَنْ لاَ فَلاَ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِحَسَبِ الْحَالَةِ الَّتِي يَتِمُّ فِيهَا
الطَّلَبُ.
فَقَدْ تَكُونُ الاِسْتِعَارَةُ وَاجِبَةً إِذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهَا
إِحْيَاءُ نَفْسٍ، أَوْ حِفْظُ عِرْضٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ
الضَّرُورِيَّةِ، لأَِنَّ سَدَّ الضَّرُورَاتِ وَاجِبٌ لاَ يَجُوزُ
التَّسَاهُل فِيهِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ
وَاجِبٌ (1) .
وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْخَيْرِ
كَاسْتِعَارَةِ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ.
وَتَكُونُ الاِسْتِعَارَةُ مَكْرُوهَةً، عِنْدَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَّةٌ،
وَلِحَاجَةٍ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْهَا، وَقَدْ عَدَّ الْفُقَهَاءُ مِنْ
ذَلِكَ اسْتِعَارَةُ الْفَرْعِ أَصْلَهُ لِخِدْمَتِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ ذُل الْخِدْمَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهَا الآْبَاءُ.
(2)
وَقَدْ تَكُونُ الاِسْتِعَارَةُ مُحَرَّمَةً، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ
شَيْئًا لِيَتَعَاطَى بِهِ تَصَرُّفًا مُحَرَّمًا، كَاسْتِعَارَتِهِ
سِلاَحًا لِيَقْتُل بِهِ بَرِيئًا، أَوْ آلَةَ لَهْوٍ لِيَجْمَعَ عَلَيْهَا
الْفُسَّاقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. (3)
آدَابُ الاِسْتِعَارَةِ:
3 - مِنْ آدَابِهَا:
أ - أَلاَّ يُذِل نَفْسَهُ، بَل إِنِ اسْتَعَارَ اسْتَعَارَ بِعِزٍّ،
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِسْتِعَارَةِ وَالاِسْتِجْدَاءِ: أَنَّ
الاِسْتِجْدَاءَ
__________
(1) المحلى 9 / 158 طبع المنيرية. والفتاوى البزازية 6 / 357 طبع بولاق
الثانية بهامش الفتاوى الهندية، وانظر الحاجات الضرورية في تبيين الحقائق 1
/ 306 طبع بولاق 1313، وحاشية ابن عابدين 2 / 69 طبع بولاق الأولى.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 456 طبع دار إحياء التراث العربي.
(3) حاشية الجمل 3 / 455، ونهاية المحتاج 5 / 115 - 120، والمغني 2 / 692،
ومنتهى الإرادات 2 / 211.
(4/16)
يَكُونُ مَعَ الذُّل، وَالاِسْتِعَارَةُ
تَكُونُ مَعَ الْعِزِّ (1) ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ
الاِسْتِعَارَةَ مِمَّنْ يَمُنُّ عَلَيْهِ طَالَمَا لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ
ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
ب - وَأَلاَّ يُلْحِفَ فِي طَلَبِ الإِْعَارَةِ، وَالإِْلْحَافُ هُوَ
إِعَادَةُ السُّؤَال بَعْدَ الرَّدِّ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْمُلْحِفِينَ
بِالسُّؤَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ
يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (2) وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لأَِنَّ
هَذَا الإِْلْحَافَ قَدْ يُخْرِجُ الْمُعِيرَ عَنْ طَوْرِهِ، فَيَقَعُ فِي
شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، كَالْكَلاَمِ الْبَذِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَهُوَ أَذًى يُنْزِلُهُ الْمُسْتَعِيرُ بِالْمُعِيرِ، (3) قَال عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ (4) .
وَلَكِنْ يَجُوزُ التَّكْرَارُ لِبَيَانِ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى
الاِسْتِعَارَةِ. (5)
ج - وَأَنْ يُقَدِّمَ الاِسْتِعَارَةَ مِنَ الرَّجُل الصَّالِحِ عَلَى
الاِسْتِعَارَةِ مِنْ غَيْرِهِ، لِمَا يَتَحَرَّاهُ الصَّالِحُونَ مِنَ
الْمَال الْحَلاَل، وَلِمَا يَحْمِلُونَهُ مِنْ نُفُوسٍ طَيِّبَةٍ تَجُودُ
بِالْخَيْرِ. قَال النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنْ
كُنْتَ سَائِلاً لاَ بُدَّ فَاسْأَل الصَّالِحِينَ. (6)
__________
(1) شرح النووي لمسلم 7 / 127 طبع المطبعة المصرية.
(2) سورة البقرة 273.
(3) شرح النووي لمسلم 7 / 127، وعون المعبود 2 / 40، وتفسير القرطبي 3 /
346، وغاية المنتهى 1 / 316.
(4) أخرجه مسلم والنسائي من حديث معاوية (صحيح مسلم 2 / 718 ط عيسى الحلبي،
وسنن النسائي 5 / 73 ط مصطفى الحلبي الطبعة الأولى 1383 هـ) .
(5) أحكام ابن العربي 1 / 240 طبع عيسى البابي الحلبي.
(6) حديث " إن كنت سائلا. . . " أخرجه أبو داود (عون المعبود 5 / 61 ط
السلفية) والنسائي (سنن النسائي 5 / 95 ط المطبعة المصرية بالأزهر) من حديث
مسلم بن مخشي عن ابن الفراسي (عن الفراسي) . قال عبد الحق: وابن الفراسي لا
يعلم أنه روى عنه إلا بكر بن سوادة (فيض القدير 3 / 35) ورمز الألباني
لضعفه (ضعيف الجامع الصغير وزيادته 2 / 6 نشر المكتب الإسلامي) .
(4/17)
د - وَأَلاَّ يَسْأَل بِوَجْهِ اللَّهِ،
وَلاَ بِحَقِّ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ، أَوْ
بِحَقِّ اللَّهِ أَنْ تُعِيرَنِي كَذَا، لِمَا فِيهِ مِنِ اتِّخَاذِ اسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى آلَةً. (1) قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ
يُسْأَل بِوَجْهِ اللَّهِ إِلاَّ الْجَنَّةُ (2) وَقَال: مَلْعُونٌ مَنْ
سَأَل بِوَجْهِ اللَّهِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى (إِعَارَةٌ) .
اسْتِعَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِعَانَةُ مَصْدَرُ اسْتَعَانَ، وَهِيَ: طَلَبُ الْعَوْنِ،
يُقَال: اسْتَعَنْتُهُ وَاسْتَعَنْتُ بِهِ فَأَعَانَنِي (4)
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) المجموع 6 / 245، والزواجر 1 / 192، والفتاوى الهندية 4 / 408 و 5 /
315، والفواكه الدواني 2 / 427، والمغني 2 / 58.
(2) حديث " لا يسأل. . . " أخرجه أبو داود من حديث جابر. قال المنذري: في
إسناده سليمان بن معاذ، وقال الدارقطني: سليمان بن معاذ هو سليمان بن قرم.
علق صاحب عون المعبود على إسناد هذا الحديث وقال: وسليمان بن قرم تكلم فيه
غير واحد (عون المعبود 5 / 88 ط السلفية) .
(3) حديث " ملعون من. . . . " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من حديث أبي
موسى الأشعري. ورمز لحسنه. وقال الحافظ العراقي في شرح العمدة: إسناده حسن.
قال الهيثمي: فيه من لم أعرفه. وقال في موضع آخر: رواه الطبراني عن شيخه
يحيى بن عثمان بن صالح وهو ثقة وفيه ض وبقية رجاله رجال الصحيح (فيض القدير
6 / 4 نشر المكتبة التجارية الطبعة الأولى 1357 هـ) .
(4) الجوهري، ولسان العرب مادة (عون) .
(4/17)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَنْقَسِمُ الاِسْتِعَانَةُ إِلَى اسْتِعَانَةٍ بِاَللَّهِ،
وَاسْتِعَانَةٍ بِغَيْرِهِ.
فَالاِسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَطْلُوبَةٌ فِي كُل
شَيْءٍ: مَادِّيٍّ مِثْل قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، كَالتَّوَسُّعِ فِي
الرِّزْقِ، وَمَعْنَوِيٍّ مِثْل تَفْرِيجِ الْكُرُوبِ، مِصْدَاقًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) .
وقَوْله تَعَالَى: {قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ
وَاصْبِرُوا} (2) .
وَتَكُونُ الاِسْتِعَانَةُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِالدُّعَاءِ، كَمَا تَكُونُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ تَعَالَى بِفِعْل
الطَّاعَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاَةِ} (3)
3 - أَمَّا الاِسْتِعَانَةُ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ
بِالإِْنْسِ أَوْ بِالْجِنِّ.
فَإِنْ كَانَتْ الاِسْتِعَانَةُ بِالْجِنِّ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَقَدْ
تَكُونُ شِرْكًا وَكُفْرًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ
مِنَ الإِْنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}
(4)
4 - وَأَمَّا الاِسْتِعَانَةُ بِالإِْنْسِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ
عَلَى أَنَّهَا جَائِزَةٌ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ
__________
(1) سورة الفاتحة / 5.
(2) سورة الأعراف / 128.
(3) سورة البقرة / 45.
(4) سورة الجن / 6.
(4/18)
وَالْعُدْوَانِ} (1)
وَقَدْ يَعْتَرِيهَا الْوُجُوبُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ
فِي تَهْلُكَةٍ وَتَعَيَّنَتْ الاِسْتِعَانَةُ طَرِيقًا لِلنَّجَاةِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
(2)
اسْتِعَانَةُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي الْقِتَال:
5 - أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِعَانَةَ الْمُسْلِمِ
بِغَيْرِهِ فِي الْقِتَال عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ
بِشُرُوطٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطِ رِضَاهُ (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (جِهَادٌ)
الاِسْتِعَانَةُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ الْقِتَال:
6 - تَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ
الْقُرُبَاتِ، كَتَعْلِيمِ الْخَطِّ وَالْحِسَابِ وَالشِّعْرِ الْمُبَاحِ،
وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فِيمَا
لاَ يُمْنَعُ مِنْ مُزَاوَلَتِهِ شَرْعًا. وَلاَ تَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ
بِهِ فِي الْقُرُبَاتِ كَالأَْذَانِ وَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ،
وَفِي الأُْمُورِ الَّتِي يُمْنَعُ مِنْ مُزَاوَلَتِهَا شَرْعًا،
كَاِتِّخَاذِهِ فِي وِلاَيَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى
أَوْلاَدِهِمْ.
وَقَدْ تُبَاحُ الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الْكِتَابِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ فِي بَعْضِ
الأُْمُورِ، مِثْل الصَّيْدِ وَالذَّبْحِ، أَمَّا الْمُشْرِكُ
وَالْمَجُوسِيُّ
__________
(1) سورة المائدة / 2.
(2) سورة البقرة / 195.
(3) فتح القدير 4 / 327، وكشاف القناع 3 / 48، وابن عابدين 3 / 235.
(4/18)
فَلاَ يَتَوَلَّى الاِصْطِيَادَ
وَالذَّبْحَ لِمُسْلِمٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي
مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ) (وَصَيْدٌ) (وَذَبَائِحُ) (وَأَطْعِمَةٌ)
(وَوَكَالَةٌ) . (1)
الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الْبَغْيِ، وَعَلَيْهِمْ:
7 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الْبَغْيِ عَلَى
الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُجِزْ الاِسْتِعَانَةَ بِالْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ
إِلاَّ الْحَنَفِيَّةُ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ إِلَى مُصْطَلَحِ (بُغَاةٌ) (2)
الاِسْتِعَانَةُ بِالْغَيْرِ فِي الْعِبَادَةِ:
8 - الاِسْتِعَانَةُ بِالْغَيْرِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ جَائِزَةٌ،
وَلَكِنْ هَل يُعْتَبَرُ ذَلِكَ قُدْرَةً مُلْزَمَةً لِمَنْ لاَ
يَسْتَطِيعُ الأَْدَاءَ إِلاَّ بِهَا؟
قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: يُعْتَبَرُ الإِْنْسَانُ قَادِرًا، إِذَا وَجَدَ مَنْ
يُعِينُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ، مِثْل الْوُضُوءِ، أَوِ الْقِيَامِ فِي
الصَّلاَةِ. وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَصِيرُ قَادِرًا بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ
الْمَعُونَةَ تُعْتَبَرُ لَهُ نَافِلَةً. (3)
__________
(1) المغني 1 / 83، 5 / 506، 509، 6 / 591 ط الرياض، وابن عابدين 2 / 38، 4
/ 400، 5 / 189، وقليوبي وعميرة 2 / 156، 337، و 3 / 74، 178.
(2) فتح القدير 4 / 416، والتاج والإكليل 6 / 278، وبلغة السالك لأقرب
المسالك 2 / 415 ط الحلبي، والمغني 10 / 57 ط المنار، ومغني المحتاج 4 /
128 ط الحلبي، وبدائع الصنائع 7 / 141، والخرشي 5 / 302 ط الشرقية.
(3) فتح القدير 1 / 85 ط دار صادر، والتاج والإكليل على الحطاب 2 / 3 ط
ليبيا، ومغني المحتاج 1 / 61 ط الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 131 ط
دار الكتاب العربي.
(4/19)
اسْتِعْطَاء
اُنْظُرْ: (عَطَاءٌ) ، (عَطِيَّةٌ) .
اسْتِعْلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِعْلاَءُ فِي اللُّغَةِ: اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ
السُّمُوُّ وَالاِرْتِفَاعُ. وَالْمُسْتَعْلِي مِنَ الْحُرُوفِ:
الْمُفَخَّمُ مِنْهَا، وَمَعْنَى اسْتِعْلاَئِهَا: أَنَّهَا تَتَصَعَّدُ
فِي الْحَنَكِ الأَْعْلَى، وَاسْتَعْلَى عَلَى النَّاسِ: غَلَبَهُمْ
وَقَهَرَهُمْ وَعَلاَهُمْ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ عُلَمَاءِ الأُْصُول يُسْتَعْمَل الاِسْتِعْلاَءُ
بِمَعْنَى إِظْهَارِ الْعُلُوِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُنَاكَ عُلُوٌّ فِي
الْوَاقِعِ أَمْ لاَ (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَمْرٌ)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - التَّكَبُّرُ: هُوَ إِظْهَارُ الْكِبْرِ أَيِ الْعَظَمَةِ.
وَتَعْرِيفُهُ شَرْعًا: بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ، كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ. (3)
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، ومعجم مقاييس اللغة، والمصباح المنير، والمفردات
للراغب الأصفهاني مادة (علو) .
(2) حاشية البناني على المحلى 1 / 369 ط م الحلبي.
(3) حديث " الكبر من بطر الحق وغمط الناس " أخرجه أبو داود والحاكم من حديث
أبي هريرة، ورواه أبو يعلى من حديث ابن مسعود، وهو في مسلم من جملة حديث.
كما أخرجه أحمد بن حنبل من حديث عتبة بن عامر، وابن عساكر من حديث ابن عمر.
ورمز الألباني إلى صحته (فيض القدير 5 / 62 ط المكتبة التجارية، وصحيح
الجامع الصغير بتحقيق الألباني 4 / 193 نشر المكتب الإسلامي) .
(4/19)
وَهُوَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى
مَدْحٌ، لأَِنَّ شَأْنَهُ عَظِيمٌ، وَفِي صِفَاتِنَا ذَمٌّ، لأَِنَّ
شَأْنَنَا صَغِيرٌ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْعَظَمَةِ وَلَسْنَا بِأَهْلٍ لَهَا
(1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَرَى جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ أَنَّ الاِسْتِعْلاَءَ شَرْطٌ فِي
الأَْمْرِ، وَذَلِكَ احْتِرَازًا عَنِ الدُّعَاءِ وَالاِلْتِمَاسِ. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - الاِسْتِعْلاَءُ كَشَرْطٍ فِي الأَْمْرِ يَبْحَثُهُ الأُْصُولِيُّونَ
فِي مَسْأَلَةِ الأَْمْرِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ شُرُوطِهِ، وَدَلاَلَةُ
حَرْفِ " عَلَى " عَلَى الاِسْتِعْلاَءِ يُبْحَثُ فِي مَسَائِل حُرُوفِ
الْجَرِّ، عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ حَرْفِ الْجَرِّ " عَلَى " وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحِ الأُْصُولِيِّ.
اسْتِعْمَال
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِعْمَال فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْعَمَل، أَوْ تَوْلِيَتُهُ،
وَاسْتَعْمَلَهُ: عَمِل بِهِ، وَاسْتُعْمِل فُلاَنٌ: وَلِيَ عَمَلاً مِنْ
أَعْمَال السُّلْطَةِ، وَحَبْلٌ مُسْتَعْمَلٌ: قَدْ عُمِل بِهِ وَمُهِنَ.
(3)
__________
(1) الفروق في اللغة للعسكري.
(2) المستصفى للغزالي 1 / 369 ط بولاق.
(3) لسان العرب مادة (عمل) .
(4/20)
وَالاِسْتِعْمَال فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ
لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ عَبَّرَ الْفُقَهَاءُ
عَنْهُ بِمَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي التَّعْرِيفِ كَمَا
سَيَأْتِي بَعْدُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اسْتِئْجَار:
2 - الاِسْتِئْجَارُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الإِْجَارَةِ، وَاسْتَأْجَرَهُ:
اتَّخَذَهُ أَخِيرًا عَلَى الْعَمَل بِأَجْرٍ (1) . فَالاِسْتِعْمَال
أَعَمُّ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَجْرٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ
أَجْرٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِعْمَال بِحَسَبِ نَوْعِهِ،
وَلِلاِسْتِعْمَال أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ: وَمِنْهَا اسْتِعْمَال
الآْلاَتِ، وَاسْتِعْمَال الْمَوَادِّ، وَمِنْهَا اسْتِعْمَال
الأَْشْخَاصِ.
اسْتِعْمَال الْمَوَادِّ، وَمِنْ صُوَرِهِ:
أ - اسْتِعْمَال الْمَاءِ:
4 - إِذَا اُسْتُعْمِل الْمَاءُ الْمُطْلَقُ لِلطَّهَارَةِ مِنْ أَحَدِ
الْحَدَثَيْنِ امْتَنَعَ إِطْلاَقُ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ دُونَ قَيْدٍ،
وَصَارَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ مِنْ حَيْثُ الطَّهُورِيَّةُ. فَيُقَرِّرُ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ طَاهِرٌ فِي
نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لِغَيْرِهِ، وَخَالَفَ فِي هَذَا
الْمَالِكِيَّةُ، حَيْثُ أَجَازُوا التَّطَهُّرَ بِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ
إِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
بَحْثِ الْمِيَاهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (2)
__________
(1) متن اللغة 1 / 147، ولسان العرب مادة (أجر) .
(2) مراقي الفلاح 1 / 14 ط العثمانية، وحاشية الدسوقي 1 / 41 ط دار الفكر،
وحاشية الجمل 1 / 36 ط إحياء التراث الإسلامي، والمغني 1 / 21 ط السعودية.
(4/20)
ب - اسْتِعْمَال الطِّيبِ:
5 - اسْتِعْمَال الطِّيبِ مُسْتَحَبٌّ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ فِي
الإِْحْرَامِ، أَوِ الإِْحْدَادِ، أَوْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ بِالنِّسَاءِ
عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِحْرَامٌ) (وَإِحْدَادٌ) . (1)
ج - اسْتِعْمَال جُلُودِ الْمَيْتَةِ:
6 - اسْتِعْمَال جُلُودِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ قَبْل الدَّبْغِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ
بَعْدَ قَطْعِ الرُّطُوبَةِ بِالتَّشْمِيسِ أَوِ التَّتْرِيبِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَةٌ) . (2)
د - اسْتِعْمَال أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
7 - مَنَعَ الْعُلَمَاءُ اسْتِعْمَال أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي
الأَْكْل وَالشُّرْبِ، لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ نُصُوصٍ مِنْهَا: قَوْل
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآْخِرَةِ (3) .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (آنِيَةٌ) . (4)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 556، 2 / 616 ط بولاق الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 389،
1 / 96 ط ابن شقرون، وقليوبي 1 / 326 و2 / 133، 4 / 53 ط حلبي، والمغني 1 /
93، 3 / 315 - 317.
(2) ابن عابدين 1 / 937، والمغني 1 / 66، وجواهر الإكليل 1 / 9، والجمل 1 /
94.
(3) حديث " لا تشربوا. . . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة مرفوعا
(جامع الأصول 1 / 385 نشر مكتبة الحلواني 1389 هـ) .
(4) ابن عابدين 5 / 237، 8 / 381، وقليوبي وعميرة 3 / 297، وجواهر الإكليل
1 / 10.
(4/21)
الاِسْتِعْمَال الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ:
8 - قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ اسْتِعْمَال الْمَرْهُونِ
وَالْوَدِيعَةِ يُعْتَبَرُ تَعَدِّيًا يَضْمَنُ بِمُوجَبِهِ، لأَِنَّ
التَّعَدِّي سَبَبٌ لِلضَّمَانِ مُطْلَقًا، وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ
إِلَى مُصْطَلَحِ: (رَهْنٌ) (وَوَدِيعَةٌ) (وَضَمَانٌ) . (1)
اسْتِعْمَال الإِْنْسَانِ:
9 - يَجُوزُ اسْتِعْمَال الإِْنْسَانِ مُتَطَوِّعًا وَبِأَجْرٍ، مِثْل
الاِسْتِعْمَال عَلَى الإِْمَامَةِ وَالْقَضَاءِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ،
يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى الْوِلاَيَةِ وَالإِْمَامَةِ وَالْقَضَاءِ
فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. (2)
وَكَذَا اسْتِعْمَال الإِْنْسَانِ فِي الصِّنَاعَةِ وَالْخِدْمَةِ
وَالتِّجَارَةِ. وَمِنْهُ قَوْل الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ فِي
صُنْعِ الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ: " فَذَهَبَ أَبِي، فَقَطَعَ عِيدَانَ
الْمِنْبَرِ مِنَ الْغَابَةِ، قَال: فَمَا أَدْرِي عَمِلَهَا أَبِي أَوِ
اسْتَعْمَلَهَا ". (3)
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحِ (اسْتِصْنَاعٌ)
(وَإِجَارَةٌ) (وَوَكَالَةٌ) (4)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 413، 310، والمغني 4 / 385، 386، 6 / 401، وقليوبي 3 /
20.
(2) ابن عابدين 1 / 367، 368، 3 / 410، 4 / 305، وجواهر الإكليل 1 / 22،
83، وقليوبي وعميرة 2 / 112، 4 / 173، والمغني 2 / 205، 8 / 110.
(3) أثر العباس بن سهل الساعدي عن أبيه أخرجه أحمد بن حنبل (مسند أحمد بن
حنبل 5 / 337 ط الميمنية) .
(4) ابن عابدين 4 / 212، وفتح القدير 6 / 108، 7 / 145، والبزازية 5 / 409،
ونهاية المحتاج 5 / 14، 258، وحاشية الدسوقي 3 / 377، 4 / 2، والمغني 5 /
419، 512.
(4/21)
اسْتِغَاثَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِغَاثَةُ لُغَةً: طَلَبُ الْغَوْثِ وَالنَّصْرِ. (1)
وَالاِسْتِغَاثَةُ شَرْعًا: لاَ تَخْرُجُ فِي الْمَعْنَى عَنِ التَّعْرِيفِ
اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ تَكُونُ لِلْعَوْنِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُوبِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِخَارَةُ:
2 - الاِسْتِخَارَةُ لُغَةً: طَلَبُ الْخِيَرَةِ فِي الشَّيْءِ.
وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ صَرْفِ الْهِمَّةِ لِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ
اللَّهِ، وَالأَْوْلَى بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ. (2) فَالاِسْتِخَارَةُ
أَخَصُّ، لأَِنَّهَا لاَ تُطْلَبُ إِلاَّ مِنَ اللَّهِ.
الاِسْتِعَانَةُ:
3 - الاِسْتِعَانَةُ: طَلَبُ الْعَوْنِ. اسْتَعَنْتُ بِفُلاَنٍ طَلَبْتُ
مَعُونَتَهُ فَأَعَانَنِي، وَعَاوَنَنِي (3) . وَتَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ
فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَمِنَ اللَّهِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) فَالْفَرْقُ أَنَّ الاِسْتِغَاثَةَ لاَ
تَكُونُ إِلاَّ فِي الشِّدَّةِ.
__________
(1) الجوهري، لسان العرب مادة (غوث) .
(2) لسان العرب مادة (خير) ، والعدوي على الخرشي 1 / 36.
(3) الصحاح مادة (عون) .
(4) سورة الفاتحة / 5.
(4/22)
حُكْمُ الاِسْتِغَاثَةِ:
4 - لِلاِسْتِغَاثَةِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ:
الأَْوَّل: الإِْبَاحَةُ، وَذَلِكَ فِي طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنَ
الأَْحْيَاءِ، إِذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا - وَمِنْ ذَلِكَ
الدُّعَاءُ فَإِنَّهُ يُبَاحُ طَلَبُهُ مِنْ كُل مُسْلِمٍ، بَل يَحْسُنُ
ذَلِكَ - فَلَهُ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِالْمَخْلُوقِينَ أَوْ لاَ يَسْتَغِيثَ،
وَلَكِنْ لاَ يَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ السُّؤَال
وَالذُّل وَالْخُضُوعِ وَالتَّضَرُّعِ لَهُمْ كَمَا يَسْأَل اللَّهَ
تَعَالَى، لأَِنَّ مَسْأَلَةَ الْمَخْلُوقِينَ فِي الأَْصْل مُحَرَّمَةٌ،
وَلَكِنَّهَا أُبِيحَتْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَالأَْفْضَل
الاِسْتِعْفَافُ عَنْهَا (1) إِلاَّ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ
الاِسْتِغَاثَةِ هَلاَكٌ، أَوْ حَدٌّ، أَوْ ضَمَانٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ بِالاِسْتِغَاثَةِ أَوَّلاً. فَإِنْ لَمْ يَفْعَل
أَثِمَ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ سَبْقُ ضَمَانٍ لِلدِّمَاءِ وَالْحُقُوقِ
عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
الثَّانِي: النَّدْبُ، وَذَلِكَ إِذَا اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ، أَوْ
بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْكَرْبِ {أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} . (2)
الثَّالِثُ: الْوُجُوبُ، وَذَلِكَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ
الاِسْتِغَاثَةِ هَلاَكٌ أَوْ ضَمَانٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ مَعَ وُجُوبِهِ
أَثِمَ.
الرَّابِعُ: التَّحْرِيمُ، وَذَلِكَ إِذَا اسْتَغَاثَ بِمَنْ لاَ يَمْلِكُ
فِي الأُْمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالْقُوَّةِ أَوِ التَّأْثِيرِ، سَوَاءٌ
كَانَ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ إِنْسَانًا، أَوْ جِنًّا، أَوْ مَلَكًا، أَوْ
نَبِيًّا، فِي حَيَاتِهِ، أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} . (3)
__________
(1) كشاف القناع 4 / 113، والاستغاثة لابن تيمية ص 139.
(2) سورة النمل / 62.
(3) سورة يونس / 106.
(4/22)
الاِسْتِغَاثَةُ بِاَللَّهِ:
5 - (أ) فِي الأُْمُورِ الْعَادِيَةِ:
أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الأُْمَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الاِسْتِغَاثَةِ
بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قِتَال
عَدُوٍّ أَمِ اتِّقَاءِ سَبُعٍ أَمْ نَحْوِهِ. لاِسْتِغَاثَةِ الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَللَّهِ فِي مَوْقِعَةِ بَدْرٍ (1) ،
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْقُرْآنُ بِذَلِكَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ
مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ خَوْلَةَ
بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ نَزَل
مَنْزِلاً ثُمَّ قَال: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ
شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِل مِنْ مَنْزِلِهِ.
(3)
__________
(1) حديث استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم بالله في موقعة بدر. أخرجه مسلم
والترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ " لما كان يوم بدر نظر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة
وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه
فجعل يهتف بربه يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني،
اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف
بربه مادا يديه (مست
(2) سورة الأنفال / 9.
(3) حديث " من نزل منزلا. . . ". أخرجه مسلم وأحمد بن حنبل وأبو داود
والترمذي من حديث خولة بنت حكيم السلمية مرفوعا (صحيح مسلم بتحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي 4 / 2080 ط عيسى الحلبي 1375 هـ، والفتح الكبير 3 / 242 ط
مصطفى الحلبي 1350 هـ) .
(4/23)
(ب) وَتُسْتَحَبُّ أَيْضًا الاِسْتِغَاثَةُ
بِاَللَّهِ فِي الأُْمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالْقُوَّةِ وَالتَّأْثِيرِ،
وَفِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
مِثْل إِنْزَال الْمَطَرِ، وَكَشْفِ الضُّرِّ، وَشِفَاءِ الْمَرَضِ،
وَطَلَبِ الرِّزْقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ
فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} . (2)
وَيُسْتَغَاثُ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، لِمَا رُوِيَ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَال: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ
بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ (3)
الاِسْتِغَاثَةُ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6 - الاِسْتِغَاثَةُ بِالرَّسُول أَقْسَامٌ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الاِسْتِغَاثَةُ بِالرَّسُول فِيمَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ. اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الاِسْتِغَاثَةِ بِرَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِكُل مَخْلُوقٍ حَال
حَيَاتِهِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ
__________
(1) سورة يونس / 106.
(2) سورة الأنعام / 17.
(3) حديث " كان النبي صلى الله عليه إذا كربه أمر. . . ". أخرجه الترمذي من
حديث أنس بن مالك وقال: هذا حديث غريب، وقد روي هذا الحديث عن أنس من غير
هذا الوجه. وقد حكم الألباني بحسنه وقال: فيه عن الترمذي (4 / 267) الرقاشي
واسمه يزيد كما وقع عند ابن السني (332) وهو ضعيف، لكن له شاهد في المستدرك
1 / 509 (فيض القدير 5 / 159 ط المكتبة التجارية 1356 هـ، وصحيح الجامع
الصغير بتحقيق الألباني 4 / 231 نشر المكتب الإسلامي 1399 هـ، والكلم الطيب
بتحقيق الألباني ص 72 نشر المكتب الإسلامي) .
(4/23)
النَّصْرُ} (1) وَلِقَوْلِهِ:
{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (2)
وَهِيَ مِنْ قَبِيل الْعَوْنِ وَالنَّجْدَةِ، كَمَا قَال تَعَالَى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (3)
الْقِسْمُ الثَّانِي: الاِسْتِغَاثَةُ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَيْهَا وَالْخِلاَفُ
فِيهَا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَغِيثَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ تَعَالَى
مُتَقَرِّبًا بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنْ
يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَفْعَل كَذَا كَمَا سَيَأْتِي.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الاِسْتِغَاثَةُ بِذَاتِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي.
أَنْوَاعُ الاِسْتِغَاثَةِ بِالْخَلْقِ:
7 - وَالاِسْتِغَاثَةُ بِالْخَلْقِ - فِيمَا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ -
تَكُونُ عَلَى أَرْبَعِ صُوَرٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَسْأَل اللَّهَ بِالْمُتَوَسَّل بِهِ تَفْرِيجَ
الْكُرْبَةِ، وَلاَ يَسْأَل الْمُتَوَسَّل بِهِ شَيْئًا، كَقَوْل
الْقَائِل: اللَّهُمَّ بِجَاهِ رَسُولِكَ فَرِّجْ كُرْبَتِي. وَهُوَ عَلَى
هَذَا سَائِلٌ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَمُسْتَغِيثٌ بِهِ، وَلَيْسَ
مُسْتَغِيثًا بِالْمُتَوَسَّل بِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَيْسَتْ
شِرْكًا، لأَِنَّهَا اسْتِغَاثَةٌ بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى،
وَلَيْسَتِ اسْتِغَاثَةً بِالْمُتَوَسَّل بِهِ؛ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا
فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْحِل وَالْحُرْمَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
__________
(1) سورة الأنفال / 72.
(2) سورة القصص / 15.
(3) فتاوى ابن تيمية 1 / 103، 104، والاستغاثة في الرد على البكري 1 / 124،
والآية من سورة المائدة / 2.
(4/24)
8 - الْقَوْل الأَْوَّل: جَوَازُ
التَّوَسُّل بِالأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ حَال حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ
مَمَاتِهِمْ. قَال بِهِ مَالِكٌ، وَالسُّبْكِيُّ، وَالْكَرْمَانِيُّ،
وَالنَّوَوِيُّ، وَالْقَسْطَلاَّنِيُّ، وَالسَّمْهُودِيُّ، وَابْنُ
الْحَاجِّ، وَابْنُ الْجَزَرِيِّ (1) .
9 - وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الاِسْتِغَاثَةِ بِالأَْنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا وَرَدَ مِنَ
الأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِثْل أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ
مَمْشَايَ هَذَا إِلَيْكَ (2) ".
وَمِنْهَا مَا قَالَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الدُّعَاءِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أُسْدٍ اغْفِرْ لأُِمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ
أُسْدٍ، وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا، بِحَقِّ نَبِيِّك
وَالأَْنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي،
__________
(1) القسطلاني 8 / 304، والمجموع للنووي 8 / 274، والمواهب اللدنية 8 / 303
- 305، ووفاء الوفا 3 / 1371، 1372، 1376، والمدخل لابن الحاج 2 / 249،
والحصن الحصين وجلاء العينين 1 / 436.
(2) حديث " أسألك بحق السائلين. . . ". أخرجه ابن ماجه وسمويه وابن السني
من حديث أبي سعيد الخدري. قال الحافظ البوصيري في الزوائد تعليقا على رواية
ابن ماجه: هذا إسناد مسلسل بالضعفاء، عطية - وهو العوفي - وفضل بن مرزوق،
والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء. لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضل بن
مرزوق، فهو صحيح عنده. قال المنذري: ذكره رزين، ولم أره في شيء من الأصول
التي جمعها، إنما رواه ابن ماجه بإسناد فيه مقال، وحسنه شيخنا الحافظ أبو
الحسن. وحكم الألباني بضعفه وبين وجوه ضعف الحديث بمختلف طرقه. (سنن ابن
ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 256 ط عيسى الحلبي 1352 هـ، والفتح
الكبير 3 / 188 - 189 ط مصطفى البابي 1350 هـ، والترغيب والترهيب 3 / 272
نشر المكتبة التجارية 1380 هـ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة، والموضوعة 1 / 34
نشر المكتب الإسلامي) .
(4/24)
فَإِنَّك أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. (1)
وَمِنَ الأَْدِلَّةِ حَدِيثُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي (2) .
وَمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى مُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
قَبْرِهِ وَالصَّلاَةُ تَسْتَدْعِي حَيَاةَ الْبَدَنِ. (3)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {
__________
(1) دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أسد. أخرجه الطبراني في
الكبير والأوسط ضمن قصة مطولة من حديث أنس بن مالك، قال الهيثمي: وفيه روح
بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأخرجه
أيضا أبو نعيم في الحلية، وقال: غريب من حديث عاصم والثوري، لم نكتبه إلا
من حديث روح بن صلاح تفرد به. وحكم الألباني بضعفه (مجمع الزوائد 9 / 256 -
257 نشر مكتبة القدسي 1353 هـ، وحلية الأولياء 3 / 121 ط مكتبة الخانجي
ومطبعة السعادة 1352 هـ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة 1 / 32 ح 23 نشر المكتب
الإسلامي) .
(2) حديث " من زار قبري. . . ". أخرجه ابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب
الإيمان والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعا، ورمز الألباني إلى أنه منكر
(الفتح الكبير 3 / 195 ط مصطفى الحلبي 1350 هـ، وسنن الدارقطني 2 / 278 ط
شركة الطباعة الفنية، وإرواء الغليل 4 / 336 نشر المكتب الإسلامي 1399 هـ،
وضعيف الجامع الصغير 5 / 202 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) حديث " إن النبي صلى الله عليه وسلم مر على موسى وهو قائم. . . ".
أخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " مررت على موسى وهو قائم
يصلي في قبره " وزاد في حديث عيسى بن يونس " مررت ليلة أسري بي " (صحيح
مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4 / 1845 ط عي
(4/25)
وَكَانُوا مِنْ قَبْل يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) أَنَّهُ قَال: كَانَ أَهْل خَيْبَرَ
تُقَاتِل غَطَفَانَ، كُلَّمَا الْتَقَتَا هَزَمَتْ غَطَفَانُ الْيَهُودَ،
فَدَعَتِ الْيَهُودُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ
بِحَقِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنْ تُخْرِجَهُ لَنَا إِلاَّ نَصَرْتَنَا
عَلَيْهِمْ. فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ
فَتَهْزِمُ الْيَهُودُ غَطَفَانَ (2) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُول لَوَجَدُوا
اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (3) . وَهَذَا تَفْخِيمٌ لِلرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ. (4)
وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ الأَْعْمَى الْمُتَوَسِّل بِرَسُول اللَّهِ فِي
رَدِّ بَصَرِهِ. (5)
__________
(1) سورة البقرة / 89.
(2) حديث ابن عباس عن قوله تعالى (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)
. # أخرجه الحاكم في مستدركه أثرا عن ابن عباس رضي الله عنه وقال: أدت
الضرورة إلى إخراجه. قال ابن تيمية: وهذا مما أنكره عليه العلماء، فإن عبد
الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك بل كذاب.
(قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 119 ط المطبعة المنيرية 1373 هـ) .
(3) سورة النساء / 64.
(4) جلاء العينين 1 / 440.
(5) حديث " الأعمى المتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في رد بصره ".
أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عثمان بن حنيف، ولفظ الترمذي " أن
رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني،
قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فأدعه +، قال: فأمره أن
يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك
محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى إلي، اللهم
فشفعه في ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا
الوجه من قال الحاكم: على شرطهما وأقره الذهبي. وحكم عليه الألباني بالصحة
(فيض القدير 2 / 134 ط المكتبة التجارية 1356 هـ، وتحفة الأحوذي 10 / 32
نشر المكتبة السلفية، وسنن ابن ماجه 1 / 441 ط عيسى الحلبي 1372 هـ، وصحيح
الجامع الصغير بتحقيق. الألباني 1 / 404 نشر المكتب الإسلامي 1388 هـ،
ومشكاة المصابيح بتحقيق الألباني 2 / 768 نشر المكتب الإسلامي 1399 هـ) .
(4/25)
10 - الْقَوْل الثَّانِي: أَجَازَ الْعِزُّ
بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ (1) وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ الاِسْتِغَاثَةَ
بِاَللَّهِ مُتَوَسِّلاً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالصَّالِحِينَ حَال حَيَاتِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَصَرَ ذَلِكَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ.
وَاسْتَشْهَدَ لِهَذَا بِحَدِيثِ الأَْعْمَى الَّذِي دَعَا اللَّهَ
سُبْحَانَهُ مُتَوَسِّلاً بِرَسُول اللَّهِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
بَصَرَهُ.
فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلاً ضَرِيرًا أَتَاهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَقَال: اُدْعُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ
يُعَافِيَنِي، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ
أَخَّرْتَ وَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتَ. فَقَال: اُدْعُ قَال:
فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا
الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ
بِحَبِيبِكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي
أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ فِي حَاجَتِي لِتُقْضَى. اللَّهُمَّ
شَفِّعْهُ فِيَّ (2) وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ: فَقَامَ، وَقَدْ
أَبْصَرَ.
11 - الْقَوْل الثَّالِثُ: عَدَمُ جَوَازِ الاِسْتِغَاثَةِ إِلاَّ
بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمُنِعَ التَّوَسُّل فِي تِلْكَ
الاِسْتِغَاثَةِ بِالأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَحْيَاءً كَانُوا أَوْ
أَمْوَاتًا.
__________
(1) جلاء العينين 1 / 434، ومجموعة فتاوى ابن تيمية 1 ص 102 ط الملك سعود.
(2) حديث عثمان بن حنيف سبق تخريجه مع اختلاف يسير في اللفظ (ف / 9) .
(4/26)
وَصَاحِبُ هَذَا الرَّأْيِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ (1) ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَل مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ
عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (2) .
وَبِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ،
فَقَال بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لاَ يُسْتَغَاثُ بِي
وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ (3) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
12 - اسْتِغَاثَةٌ بِاَللَّهِ وَاسْتِغَاثَةٌ بِالشَّفِيعِ أَنْ يَدْعُوَ
اللَّهَ لَهُ: وَهُوَ أَنْ يَسْأَل اللَّهَ، وَيَسْأَل الْمُتَوَسَّل بِهِ
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، كَمَا كَانَ يَفْعَل الصَّحَابَةُ، وَيَسْتَغِيثُونَ
وَيَتَوَسَّلُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الاِسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ (4) ،
وَيَزِيدَ بْنِ الأَْسْوَدِ الْجُرَشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَهُوَ
اسْتِغَاثَةٌ بِاَللَّهِ، وَاسْتِغَاثَةٌ بِالشَّفِيعِ أَنْ
__________
(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية 1 / 104، وقرة عيون الموحدين ص 105، والاستغاثة
ص 315، 316.
(2) سورة الأحقاف / 5.
(3) حديث " أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين.
. . " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير بإسناده، وأخرجه أحمد بن حنبل من
حديث عبادة بن الصامت بلفظ مقارب، وفي إسناده ابن لهيعة (مجموع فتاوى ابن
تيمية 1 / 110 ط مطابع الرياض 1381 هـ، ومسند أحمد بن حنبل 5 / 317 نشر
المكتب الإسلامي) .
(4) أخرج البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى
بالعباس بن عبد المطلب فقال: " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا،
وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " (فتح الباري 2 / 494 ط السلفية
بالسعودية)
(4/26)
يَسْأَل اللَّهَ لَهُ. فَهُوَ مُتَوَسِّلٌ
بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ
فِي حَيَاةِ الشَّفِيعِ، وَلاَ يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ. (1)
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْل الْجَنَّةِ، كُل
ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ (2) قَال
الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى اللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا
لأََوْقَعَ مَطْلُوبَهُ، فَيَبَرُّ بِقَسَمِهِ إِكْرَامًا لَهُ، لِعِظَمِ
مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ. (3)
فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَصَّهُ اللَّهُ بِإِجَابَةِ
الدَّعْوَةِ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُسْأَل فَيَدْعُوَ لِلْمُسْتَغِيثِ،
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتِغَاثَةٌ فِي سُؤَال اللَّهِ:
13 - وَهِيَ أَنْ يَسْتَغِيثَ الإِْنْسَانُ بِغَيْرِهِ فِي سُؤَال اللَّهِ
لَهُ تَفْرِيجَ الْكَرْبِ، وَلاَ يَسْأَل اللَّهَ هُوَ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا
جَائِزٌ لاَ يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ.
وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَل
تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ (4) أَيْ بِدُعَائِهِمْ،
وَصَلاَتِهِمْ،
__________
(1) الاستغاثة، الرد على البكري ص 123.
(2) حديث " ألا أخبركم بأهل الجنة. . . " أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
مرفوعا من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه (جامع الأصول في أحاديث الرسول
10 / 547 نشر مكتبة الحلواني 1392 هـ) .
(3) جلاء العيون ص 443.
(4) حديث " هل تنصرون وترزقون. . . . " أخرجه البخاري من حديث مصعب بن سعد
بن أبي وقاص، ولم يصرح مصعب بسماعه من سعد فيما رواه البخاري، فهو مرسل
عنده. قال ابن حجر: إن صورة هذا السياق مرسل لأن مصعبا لم يدرك زمان القول،
لكن هو محمول على أنه سمع ذلك من أبيه، وقد وقع التصريح من مصعب بالرواية
له عن أبيه عند الإسماعيلي وغيره (فيض القدير 6 / وفتح الباري 6 / 88، 89 ط
السلفية) .
(4/27)
وَاسْتِغْفَارِهِمْ.
وَمِنْ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ (1) . أَيْ يَسْتَنْصِرُ
بِهِمْ. فَالاِسْتِنْصَارُ وَالاِسْتِرْزَاقُ يَكُونُ بِالْمُؤْمِنِينَ
بِدُعَائِهِمْ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَفْضَل مِنْهُمْ. لَكِنَّ دُعَاءَهُمْ وَصَلاَتَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ
الأَْسْبَابِ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَنْصِرِ بِهِ
وَالْمُسْتَرْزِقِ بِهِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ. وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ. مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ
مَالِكٍ (2) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُوَيْسٍ
الْقَرَنِيِّ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يُسْتَغْفَرَ لَكَ فَافْعَل (3)
وَقَوْل الرَّسُول
__________
(1) حديث " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين "
أخرجه الطبراني من حديث أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد، وفي رواية "
يستنصر بصعاليك المسلمين " قال الهيثمي: ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح
(مجمع الزوائد 10 / 262 نشر مكتبة القدسي 1353 هـ) .
(2) حديث " إن من عباد الله من لو أقسم على الله. . . . " أخرجه الترمذي من
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا
يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك " قال الترمذي: هذا
حديث صحيح حسن من هذا الوجه (سنن الترم وجامع الأصول 9 / 92 نشر مكتبة
الحلواني)
(3) حديث أويس القرني. أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا بلفظ "
يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص
فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن
استطعت أن يستغفر لك فافعل " (مختصر صحيح وجامع الأصول 9 / 231 - 232 نشر
مكتبة الحلواني 1392 هـ) .
(4/27)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعُمَرَ لَمَّا وَدَّعَهُ لِلْعُمْرَةِ: لاَ تَنْسَنَا مِنْ دُعَائِكَ (1)
.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ:
14 - أَنْ يَسْأَل الْمُسْتَغَاثَ بِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلاَ
يَسْأَل اللَّهَتَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَأَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِ أَنْ
يُفَرِّجَ الْكَرْبَ عَنْهُ، أَوْ يَأْتِيَ لَهُ بِالرِّزْقِ. فَهَذَا
غَيْرُ جَائِزٍ وَقَدْ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الشِّرْكِ، (2) "
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ
وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ
يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: شُجَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكُسِرَتْ
رَبَاعِيَتُهُ، فَقَال: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ (4) ؟
فَنَزَلَتْ {لَيْسَ لَكَ
__________
(1) حديث " لا تنسنا من دعائك ". أخرجه أبو داود والترمذي بألفاظ مقاربة.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال صاحب عون المعبود: وفي إسناده عاصم بن
عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.
وحكم الألباني بضعف الحديث (تحفة الأحوذي 10 / 7 نشر المكتبة السلفية، وعون
المعبود 4 / 365، 366 نشر المكتبة السلفية، ومشكاة المصابيح بتحقيق
الألباني 2 / 695 نشر المكتب الإسلامي، وضعيف الجامع الصغير بتحقيق
الألباني 6 / 78 نشر المكتب الإسلامي) .
(2) الرد على البكري استغاثة ص 123، وفتح المجيد ص 180 وما بعدها.
(3) سورة يونس / 106 - 107.
(4) حديث: " شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. . . ". أخرجه مسلم
والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظ مسلم: " أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول:
كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله
عز وجل ليس لك من الأمر شيء) " وأخرج البخاري ذكر الشج والآية تعليقا (صح
وجامع الأصول 8 / 252 نشر مكتبة الحلواني 1392 هـ، وفتح الباري 7 / 365،
366 ط السلفية) .
(4/28)
مِنَ الأَْمْرِ شَيْءٌ} (1) فَإِذَا نَفَى
اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مَا لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ
جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى.
الاِسْتِغَاثَةُ بِالْمَلاَئِكَةِ:
15 - الاِسْتِغَاثَةُ بِهِمُ اسْتِغَاثَةٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَكُل اسْتِغَاثَةٍ بِغَيْرِ اللَّهِ مَمْنُوعَةٌ، لِحَدِيثِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنَّهُ لاَ يُسْتَغَاثُ بِي،
وَلَكِنْ يُسْتَغَاثُ بِاَللَّهِ (2) وَلِحَدِيثِهِ أَيْضًا عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ اعْتَرَضَهُ
جِبْرِيل، فَقَال لَهُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَال: أَمَّا إِلَيْكَ فَلاَ (3)
__________
(1) سورة آل عمران / 128.
(2) سبق تخريج الحديث هامش فقرة 11.
(3) حديث " لما ألقي إبراهيم في النار. . . " أخرجه الطبري من حديث معتمر
بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال: جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام،
وهو يوثق أو يقمط ليلقى في النار قال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك
فلا. وأورده ابن كثير في تفسيره نقلا (تفسير الطبري 17 / 45 مصطفى الحلبي
1373 هـ، وتفسير ابن كثير 4 / 572 ط دار الأندلس، وسلسلة الأحاديث الضعيفة
والموضوعة 1 / 28، 29 نشر المكتب الإسلامي، ومجموعة التوحيد ص 123) .
(4/28)
الاِسْتِغَاثَةُ بِالْجِنِّ:
16 - الاِسْتِغَاثَةُ بِالْجِنِّ مُحَرَّمَةٌ، لأَِنَّهَا اسْتِغَاثَةٌ
بِمَنْ لاَ يَمْلِكُ، وَتُؤَدِّي إِلَى ضَلاَلٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ
تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِْنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (1)
وَيُعْتَبَرُ هَذَا مِنَ السِّحْرِ.
الْمُسْتَغِيثُ وَأَنْوَاعُهُ:
17 - إِذَا اسْتَغَاثَ الْمُسْلِمُ لِدَفْعِ شَرٍّ وَجَبَتْ إِغَاثَتُهُ،
لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُغِيثُوا
الْمَلْهُوفَ وَتَهْدُوا الضَّال (2) وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ
نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ
عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (3) وَهَذَا إِذَا لَمْ
يَخْشَ الْمُغِيثُ عَلَى نَفْسِهِ ضَرًّا، لأَِنَّ لَهُ الإِْيثَارَ
بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ حَقِّ غَيْرِهِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (4) . أَمَّا الإِْمَامُ
وَنُوَّابُهُ فَإِنَّهُ
__________
(1) سورة الجن / 6.
(2) حديث " وتغيثوا الملهوف. . . " أخرجه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب
مرفوعا، وأورده المنذري بلفظ " ويغيثوا الملهوف ويهدوا الضال " وعلق على
إسناده فقال: ابن حجير العدوي مجهول. وقال البزار: هذا الحديث لا يعلم أحد
أسنده إلا جرير بن حازم عن إسحاق بن سويد، ولا رواه عن جرير مسندا إلا ابن
المبارك، وروى هذا الحديث حماد بن زيد عن إسح (سنن أبي داود بتحقيق محمد
محيي الدين عبد الحميد 4 / 355 ط مطبعة السعادة 1369 هـ، وجامع الأصول 6 /
532 نشر مكتبة الحلواني 1394 هـ، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 7 / 181 ط
دار المعرفة) .
(3) حديث " من نفس عن مؤمن كربة. . . ". أخرجه مسلم وأحمد ابن حنبل وأبو
داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (صحيح مسلم بتحقيق
فؤاد عبد الباقي 4 / 2074 ط عيسى الحلبي 1375 هـ، والفتح الكبير 3 / 243 ط
مصطفى الحلبي 1350 هـ) .
(4) سورة الأحزاب / 6.
(4/29)
يَجِبُ عَلَيْهِمُ الإِْغَاثَةُ، وَلَوْ
مَعَ الْخَشْيَةِ عَلَى النَّفْسِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى وَظَائِفِهِمْ
(1) .
18 - وَإِذَا اسْتَغَاثَ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يُغَاثُ لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ،
وَلأَِنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْغَيْرِ إِذَا كَانَ آدَمِيًّا
مُحْتَرَمًا، وَلَمْ يَخْشَ الْمُغِيثُ عَلَى نَفْسِهِ هَلاَكًا، لأَِنَّ
لَهُ الإِْيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ حَقِّ غَيْرِهِ (2) وَلِحَدِيثِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
إِغَاثَةَ الْمَلْهُوفِ (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ (4) . وَكَذَلِكَ
إِذَا كَانَ الْكَافِرُ حَرْبِيًّا وَاسْتَغَاثَ، فَإِنَّهُ يُجَابُ إِلَى
طَلَبِهِ، لَعَلَّهُ يَسْمَعُ كَلاَمَ اللَّهِ، أَوْ يَرْجِعُ عَمَّا فِي
نَفْسِهِ مِنْ شَرٍّ وَيَأْسِرُهُ الْمَعْرُوفُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (5) " أَيْ
فَأَجِرْهُ، وَأَمِّنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَإِنِ اهْتَدَى
وَآمَنَ عَنْ عِلْمٍ وَاقْتِنَاعٍ فَذَاكَ، وَإِلاَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 24.
(2) نهاية المحتاج 8 / 24.
(3) حديث " إن الله يحب إغاثة الملهوف. . . . ". أخرجه ابن عساكر في
التاريخ من حديث أبي هريرة بلفظ " إن الله يحب إغاثة اللهفان " وأخرجه أيضا
أبو يعلى والديلمي من حديث أنس رضي الله عنه بهذا اللفظ، وحكم عليه
الألباني بالضعف لانفراد هؤلاء بإخراجه محيلا على ما في مقدمة جمع الجوامع
للسيوطي من أن كل ما عزي لمثل هؤلاء فهو ضعيف (فيض القدير 2 / 287 ط
المكتبة التجارية، وضعيف الجامع الصغير بتحقيق الألباني 2 / 113، 1 / 21،
22 نشر المكتب الإسلامي) .
(4) حديث " لا تنزع الرحمة إلا من شقي ". أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي
وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال
الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي. ورواه البخاري في الأدب المفرد قال ابن الجوزي
في شرح الشهاب: وإسناده صالح. ورواه أيضا البيهقي، قال في المهذب: وإسناده
صالح (تحفة الأحوذي 6 / 50 نشر المكتبة السلفية 1385 هـ، وفيض القدير 6 /
422 ط المكتبة التجارية 1357 هـ) .
(5) سورة براءة / 6.
(4/29)
فَالْوَاجِبُ أَنْ تُبْلِغَهُ الْمَكَانَ
الَّذِي يَأْمَنُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِي عَقِيدَتِهِ.
(1)
الاِسْتِعَانَةُ بِالْكَافِرِ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ:
19 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِغَاثَةَ لِدَفْعِ شَرٍّ،
أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْمَخْلُوقُ تَجُوزُ
بِالْمَخْلُوقِينَ مُطْلَقًا، فَيُسْتَغَاثُ بِالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ،
وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، كَمَا يُسْتَغَاثُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسْتَنْصَرُ بِهِ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ
بِالرَّجُل الْفَاجِرِ (2) " فَلَمْ تَكُنِ الإِْغَاثَةُ مِنْ خَصَائِصِ
الْمُؤْمِنِينَ فَضْلاً عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّينَ
أَوِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ
الآْدَمِيِّينَ. (3)
اسْتِغَاثَةُ الْحَيَوَانِ:
20 - يَجِبُ إِغَاثَةُ الْحَيَوَانِ، لِمَا رُوِيَ مِنَ الأَْحَادِيثِ عَنْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلاً دَنَا
إِلَى بِئْرٍ فَنَزَل، فَشَرِبَ مِنْهَا وَعَلَى الْبِئْرِ كَلْبٌ
يَلْهَثُ، فَرَحِمَهُ، فَنَزَعَ أَحَدَ خُفَّيْهِ فَسَقَاهُ، فَشَكَرَ
اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (4)
__________
(1) الطبري 10 / 79.
(2) حديث " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ". رواه ابن أبي الدنيا
في المداراة عن أبي هريرة بلفظ " إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر " روى
البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: " يا بلال قم فأذن لا يدخل
الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين وابن حبان من حديث أنس بن مالك
وأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة بلفظ " إن الله تعالى يؤيد هذا الدين
بأقوام لا خلاق لهم " قال الحافظ العراقي: إسناده جيد، وقال الهيثمي: رجال
أحمد ثقات. (كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1 / 273، 274 ط مؤسسة الرسالة، وفيض
القدير 2 / 279 ط المكتبة التجارية 1356 هـ) .
(3) الاستغاثة لابن تيمية ص 138 ط السلفية
(4) حديث " إن رجلا دنا إلى بئر ". أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان في صحيحه
من حديث أبي هريرة مرفوعا واللفظ لابن حبان (الترغيب والترهيب 3 / 210، 2 /
71، 72 نشر مصطفى البابي الحلبي 1373 هـ، وفتح الباري 5 / 40، 41 ط
السلفية) .
(4/30)
حَالَةُ الْمُسْتَغِيثِ:
21 - إِذَا كَانَ الْمُسْتَغِيثُ عَلَى حَقٍّ وَجَبَتْ إِغَاثَتُهُ، لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ إِغَاثَةِ الْمُسْلِمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) " أَيْ إِنِ
اسْتَنْقَذُوكُمْ فَأَعِينُوهُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ، فَذَلِكَ فَرْضٌ
عَلَيْكُمْ، فَلاَ تَخْذُلُوهُمْ إِلاَّ أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلَى
قَوْمٍ كُفَّارٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَلاَ تَنْصُرُوهُمْ
عَلَيْهِمْ. إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا أَسْرَى مُسْتَضْعَفِينَ، فَإِنَّ
الْوِلاَيَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ، وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ وَاجِبَةٌ، حَتَّى
لاَ تَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرُفُ، حَتَّى نَخْرُجَ إِلَى
اسْتِنْقَاذِهِمْ إِنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِل ذَلِكَ، أَوْ نَبْذُل
جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ حَتَّى لاَ يَبْقَى لأَِحَدٍ
دِرْهَمٌ، كَذَلِكَ قَال مَالِكٌ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ (2)
وَلِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أُذِل
عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ
يَنْصُرَهُ، أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (3)
22 - أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَغِيثُ عَلَى بَاطِلٍ، فَإِنْ أَرَادَ
النُّزُوعَ عَنْهُ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ اُسْتُنْقِذَ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ
__________
(1) سورة الأنفال / 72.
(2) القرطبي 8 / 57.
(3) حديث " من أذل عنده مؤمن فلم ينصره. . . . . ". أخرجه أحمد بن حنبل
بهذا اللفظ من حديث سهل بن حنيف مرفوعا، قال الهيثمي: فيه ابن لهيعة وهو
حسن الحديث وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات (مسند أحمد بن حنبل 3 / 487 نشر
المكتب الإسلامي 1398 هـ، وفيض القدير 6 / 46 ط المكتبة التجارية 1357 هـ.)
.
(4/30)
الْبَقَاءَ عَلَى بَاطِلِهِ فَلاَ.
وَكَذَلِكَ كُل ظَالِمٍ فَإِنَّ نُصْرَتَهُ مُحَرَّمَةٌ، لِحَدِيثِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَل الَّذِي يُعِينُ
قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ كَمَثَل بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ
فَهُوَ يَنْزِعُ بِذَنَبِهِ (1) . وَقَوْلُهُ: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ
دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي مُلْكِهِ،
وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ لاَ يَعْلَمُ أَحَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ فَهُوَ
فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ (2) .
وَقَال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِذَا اسْتَغَاثَ الظَّالِمُ وَطَلَبَ
شَرْبَةَ مَاءٍ فَأَعْطَيْتَهُ إِيَّاهَا كَانَ ذَلِكَ إِعَانَةً لَهُ
عَلَى ظُلْمِهِ (3) .
ضَمَانُ هَلاَكِ الْمُسْتَغِيثِ:
23 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْعَ
الْمُسْتَغِيثِ عَمَّا يُنْقِذُ حَيَاتَهُ - مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى
إِغَاثَتِهِ بِلاَ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ إِنْ
لَمْ يُغِثْهُ - يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلَهُ
بِيَدِهِ.
__________
(1) حديث " مثل الذي يعين قومه. . . " أخرجه أبو داود وابن حبان من حديث
عبد الله بن مسعود بهذا اللفظ، وأخرجه البيهقي بلفظ مقارب. قال المناوي:
وفيه انقطاع فإن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه (الترغيب والترهيب 3 / 198 نشر
مصطفى الحلبي 1373 هـ، وفيض القدير 5 / 511 ط المكتبة التجارية 1356 هـ) .
(2) حديث " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله. . . ". أخرجه الطبراني من
رواية رجاء بن صبيح السقطي من حديث أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ. وأخرجه
أبو داود والطبراني والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر بهذا المعنى، وأورد
الألباني أسانيد الحديث المختلفة وحكم بصحته (الترغيب والترهيب 3 / 199 نشر
مصطفى الحلبي 1373 هـ وعون المعبود 10 / 65 نشر المكتبة السلفية 1399 هـ،
وإرواء الغليل 7 / 349 - 351 نشر المكتب الإسلامي 1399 هـ، وسلسلة الأحاديث
الصحيحة 1 / 178 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) إحياء علوم الدين 2 / 143
(4/31)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ فِيهِ الضَّمَانَ (الدِّيَةَ) ، وَسَوَّى أَبُو
الْخَطَّابِ بَيْنَ طَلَبِ الْغَوْثِ، أَوْ رُؤْيَةِ مَنْ يَحْتَاجُ
لِلْغَوْثِ بِلاَ طَلَبٍ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ ضَمَانَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُبَاشِرِ الْفِعْل
الْقَاتِل (1) .
حُكْمُ مَنْ أَحْجَمَ عَنْ إِجَابَةِ الْمُسْتَغِيثِ.
الاِسْتِغَاثَةُ عِنْدَ الإِْشْرَافِ عَلَى الْهَلاَكِ:
24 - إِذَا اسْتَغَاثَ الْمُشْرِفُ عَلَى الْهَلاَكِ مِنَ الْجُوعِ أَوِ
الْعَطَشِ وَجَبَتْ إِغَاثَتُهُ، فَإِنْ مُنِعَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى
الْهَلاَكِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْمُسْتَغِيثِ أَنْ يُقَاتِل
بِالسِّلاَحِ، إِنْ كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ مُحَرَّزٍ فِي إِنَاءٍ، لِمَا
وَرَدَ عَنْ الْهَيْثَمِ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ
وَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى بِئْرٍ فَأَبَوْا،
فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ:
إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ أَنْ تُقْطَعَ،
فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، فَقَال لَهُمْ عُمَرُ: فَهَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ.
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ فِي الْمَاءِ حَقُّ الشَّفَةِ. فَإِذَا
مَنَعَ الْمُسْتَغَاثُ بِهِمْ حَقَّ الْمُسْتَغِيثِينَ بِقَصْدِ
إِتْلاَفِهِمْ كَانَ لِلْمُسْتَغِيثِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَنْ
أَنْفُسِهِمْ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُحَرَّزًا، فَلَيْسَ لِلَّذِي يَخَافُ
الْهَلاَكَ مِنَ الْعَطَشِ أَنْ يُقَاتِل صَاحِبَ الْمَاءِ بِالسِّلاَحِ،
بَل لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ سِلاَحٍ، وَكَذَلِكَ فِي
__________
(1) تكملة البحر الرائق 8 / 335، والدسوقي 4 / 242، ومغني المحتاج 4 / 5،
وكشاف القناع 6 / 15 ط الرياض، والمغني 9 / 580.
(4/31)
الطَّعَامِ، لأَِنَّهُ مِلْكٌ مُحَرَّزٌ
لِصَاحِبِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الآْخِذُ ضَامِنًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُقَاتِل
بِالسِّلاَحِ، وَيَكُونُ دَمُ الْمَانِعِ هَدَرًا (2) .
الاِسْتِغَاثَةُ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ:
25 - لإِِغَاثَةِ مَنْ سَيَتَعَرَّضُ لِلْحَدِّ حَالَتَانِ:
الأُْولَى: قَبْل أَنْ يَصِل أَمْرُهُ إِلَى الإِْمَامِ، أَوِ الْحَاكِمِ،
يُسْتَحَبُّ إِغَاثَتُهُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ عِنْدَ
صَاحِبِ الْحَقِّ، وَعَدَمِ رَفْعِ أَمْرِهِ لِلْحَاكِمِ (3) .
لِمَا رُوِيَ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَجُلاً سَرَقَ بُرْدَهُ
فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ
بِقَطْعِهِ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ، قَال:
فَلَوْلاَ كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ يَا أَبَا وَهْبٍ
فَقَطَعَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا وَصَل أَمْرُهُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَلاَ إِغَاثَةَ
وَلاَ شَفَاعَةَ. لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ
قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ،
فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةَ حِبُّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَكَلَّمَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ
حُدُودِ اللَّهِ؟ ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّمَا ضَل مَنْ كَانَ
__________
(1) المبسوط 23 / 166.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 242، والمغني 9 / 580.
(3) فتح الباري 12 / 72 - 73 ط المطبعة البهية
(4) خبر صفوان أخرجه أبو داود ومالك والنسائي واللفظ له، قال عبد القادر
الأرناؤوط: وإسناده حسن (جامع الأصول في أحاديث الرسول 3 / 600 - 602 نشر
مكتبة الحلواني 1390 هـ، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 6 / 225 ط دار
المعرفة، وسنن النسائي 8 / 68 نشر المكتبة التجارية، وتنوير الحوالك شرح
على موطأ مالك 3 / 49 نشر مكتبة المشهد الحسيني) .
(4/32)
قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ
فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ
أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ
مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا (1) .
الاِسْتِغَاثَةُ عِنْدَ الْغَصْبِ:
26 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ
وَالْمَسْرُوقَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغِيثَ أَوَّلاً، وَأَنْ
يَدْفَعَ الصَّائِل أَوِ السَّارِقَ بِغَيْرِ الْقَتْل. فَإِذَا لَمْ
يَنْدَفِعْ، أَوْ كَانَ لَيْلاً، أَوْ لَمْ يُغِثْهُ أَحَدٌ، أَوْ مَنَعَهُ
الصَّائِل، أَوِ السَّارِقُ مِنْ الاِسْتِغَاثَةِ، أَوْ عَاجَلَهُ، فَلَهُ
دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ - وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً -
وَلَوْ بِالْقَتْل، لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ
عِرْضِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى
لِصًّا فَأَصْلَتَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَال: فَلَوْ تَرَكْنَاهُ
لَقَتَلَهُ. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ فَقَال: لِصٌّ دَخَل بَيْتِي
وَمَعَهُ حَدِيدَةٌ، أَقْتُلُهُ؟ قَال:
__________
(1) روت عائشة رضي الله عنها " أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي
سرقت. . . ". أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي
من حديث عائشة رضي الله عنها (فتح الباري 12 / 87 ط السلفية، وجامع الأصول
في أحاديث الرسول 3 / 561 نشر مكتبة الحلواني 1390 هـ) .
(2) حديث " من قتل دون ماله. . . ". أخرجه أحمد بن حبل وأبو داود والترمذي
والنسائي من حديث سعيد بن زيد مرفوعا ولفظ أبي داود: " ومن قتل دون ماله
فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه فهو شهيد " قال
الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني أيضا، وأخرج البخاري الجزء
الأول من الحديث " من قتل دون ماله فهو شهيد " من حديث عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما (فيض القدير 6 / 195 ط المكتبة التجارية 1357 هـ، ومختصر سنن
أبي داود للمنذري 7 / 158 ط دار المعرفة، وتحفة الأحوذي 4 / 681 ط السلفية،
وصحيح الجامع الصغير بتحقيق الألباني 5 / 335 نشر المكتب الإسلامي، وفتح
الباري 5 / 123 ط السلفية) .
(4/32)
نَعَمْ بِأَيِّ شَيْءٍ قَدَرْتَ.
27 - فَإِذَا قَتَل الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ، أَوِ الْمَسْرُوقُ
مِنْهُ السَّارِقَ بِدُونِ اسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِعَانَةٍ مَعَ قُدْرَتِهِ
عَلَيْهَا، وَإِمْكَانِ دَفْعِهِ بِمَا هُوَ دُونَ الْقَتْل، فَفِي
الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ الْقَوَدُ.
الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَضْمَنُ
الْقَاتِل، لأَِنَّهُ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِغَيْرِ الْقَتْل، لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ دَفْعُهُ فَإِذَا انْدَفَعَ بِقَلِيلٍ فَلاَ يَلْزَمُ
أَكْثَرُ مِنْهُ، وَإِنْ ذَهَبَ مُوَلِّيًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَتْلُهُ
كَأَهْل الْبَغْيِ. فَإِنْ فَعَل غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَدِّيًا (1) .
الاِسْتِغَاثَةُ فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْفَاحِشَةِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِغَاثَةَ عِنْدَ
الْفَاحِشَةِ عَلاَمَةٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الإِْكْرَاهِ الَّتِي تُسْقِطُ
الْحَدَّ عَنِ الْمُكْرَهَةِ الأُْنْثَى (2) ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 321 بولاق، والمغني لابن قدامة 9 / 181، 282 وحاشية
الدسوقي 4 / 357، والجمل 5 / 168، قليوبي 3 / 332.
(2) الشرح الصغير 4 / 455، والمغني 9 / 59 ط القاهرة والمحلى 8 / 231، وفتح
القدير 4 / 166.
(3) حديث " عفي عن أمتي الخطأ والنسيان. . ". أخرجه الطبراني من حديث ثوبان
بلفظ " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، قال السخاوي:
والحديث يروى عن ثوبان وأبي الدرداء ذر + ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث
أصلا، لا سيما وأصل الباب حديث أبي هريرة في 35 ط المكتبة التجارية 1356
هـ، والمقاصد الحسنة ص 228 - 230 نشر مكتبة الخانجي بمصر 1375 هـ. وإرواء
الغليل 1 / 123 نشر المكتب الإسلامي)
(4/33)
اسْتِغْرَاق
.
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِغْرَاقُ لُغَةً: الاِسْتِيعَابُ وَالشُّمُول (1)
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ بِتَمَامِ أَجْزَائِهِ
وَأَفْرَادِهِ.
2 - وَقَدْ قَسَّمَ صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ اسْتِغْرَاقَ اللَّفْظِ
إِلَى: اسْتِغْرَاقٍ حَقِيقِيٍّ، وَاسْتِغْرَاقٍ عُرْفِيٍّ.
أ - فَالاِسْتِغْرَاقُ الْحَقِيقِيُّ: هُوَ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ كُل
فَرْدٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، أَوِ الشَّرْعِ، أَوِ
الْعُرْفِ الْخَاصِّ، (2) مِثْل قَوْله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ} (3) .
ب - وَالاِسْتِغْرَاقُ الْعُرْفِيُّ: هُوَ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ كُل
فَرْدٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ بِحَسَبِ مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ، مِثْل جَمَعَ
الأَْمِيرُ الصَّاغَةَ، أَيْ كُل صَاغَةِ بَلَدِهِ. (4)
3 - أَمَّا الْكَفَوِيُّ (أَبُو الْبَقَاءِ) فَقَدْ قَسَّمَهُ إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - اسْتِغْرَاقٌ جِنْسِيٌّ مِثْل: لاَ رَجُل فِي الدَّارِ.
ب - اسْتِغْرَاقٌ فَرْدِيٌّ مِثْل: لاَ رَجُلٌ فِي الدَّارِ.
ج - اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ: وَهُوَ مَا يَكُونُ الْمَرْجِعُ فِي
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب في مادة - (غرق) .
(2) دستور العلماء 1 / 108
(3) سورة الأنعام / 73.
(4) دستورالعلماء 1 / 108، 109.
(4/33)
شُمُولِهِ وَإِحَاطَتِهِ إِلَى حُكْمِ
الْعُرْفِ مِثْل: جَمَعَ الأَْمِيرُ الصَّاغَةَ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - ذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ الاِسْتِغْرَاقَ أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَلَى
تَعْرِيفِ الْعَامِّ، فَقَالُوا: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ
لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، أَيْ يَتَنَاوَلُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ
غَيْرِ حَصْرٍ (2) . وَاعْتِبَارُ الاِسْتِغْرَاقِ فِي الْعَامِّ إِنَّمَا
هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ عَامَّتِهِمْ فَيَكْفِي فِي الْعُمُومِ انْتِظَامُ جَمْعٍ
مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ.
(3)
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِسْتِغْرَاقُ أَشْمَل مِنَ الْعُمُومِ. فَلَفْظُ
الأَْسَدِ يَصْدُقُ أَنْ يُقَال: إِنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ مَا
يَصْلُحُ لَهُ، وَلَيْسَ بِعَامٍّ. (4)
الأَْلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الاِسْتِغْرَاقِ:
5 - هُنَاكَ بَعْضُ الأَْلْفَاظِ تَدُل عَلَى الاِسْتِغْرَاقِ، كَلَفْظِ
كُلٍّ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ أَفْرَادِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ
الْمُنَكَّرِ، مِثْل {كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (5) كَمَا أَنَّهَا
تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ أَجْزَاءِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمُفْرَدِ
الْمَعْرِفَةِ، نَحْوُ: كُل زَيْدٍ حَسَنٌ، أَيْ كُل أَجْزَائِهِ. (6)
كَذَلِكَ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِالأَْلِفِ وَاللاَّمِ يُفِيدُ
الاِسْتِغْرَاقَ: نَحْوُ: {
__________
(1) الكليات القسم الأول ص 155.
(2) جمع الجوامع 1 / 399، والإحكام للآمدي 2 / 36.
(3) شرح البدخشي 2 / 57.
(4) شرح البدخشي 2 / 58.
(5) سورة آل عمران / 185.
(6) جمع الجوامع 1 / 349، 350.
(4/34)
مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا (1) .
6 - وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي الْعُمُومِ
فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
7 - أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَيَسْتَعْمِلُونَ الاِسْتِغْرَاقَ أَيْضًا
بِمَعْنَى الاِسْتِيعَابِ وَالشُّمُول.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الزَّكَاةِ: اسْتِغْرَاقُ الأَْصْنَافِ
الثَّمَانِيَةِ فِي صَرْفِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَلِلتَّفْصِيل
يُنْظَرُ بَابُ الزَّكَاةِ.
اسْتِغْفَار
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْمَقَال
وَالْفِعَال. (2)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: سُؤَال الْمَغْفِرَةِ كَذَلِكَ، وَالْمَغْفِرَةُ
فِي الأَْصْل: السَّتْرُ، وَيُرَادُ بِهَا التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ
وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَأَضَافَ بَعْضُهُمْ: إِمَّا بِتَرْكِ
التَّوْبِيخِ وَالْعِقَابِ رَأْسًا، أَوْ بَعْدَ التَّقْرِيرِ بِهِ فِيمَا
بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. (3)
وَيَأْتِي الاِسْتِغْفَارُ بِمَعْنَى الإِْسْلاَمِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (4) أَيْ
يُسْلِمُونَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ. كَذَلِكَ يَأْتِي
__________
(1) شرح البدخشي 2 / 62.
(2) مفردات الراغب الأصفهاني (غفر) .
(3) البحر المحيط 5 / 201 ط السعادة، والفتوحات الربانية 7 / 267 - 273 ط
المكتبة الإسلامية.
(4) تفسير القرطبي 7 / 399، والآية من سورة الأنفال / 33.
(4/34)
الاِسْتِغْفَارُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ
وَالتَّوْبَةِ، وَسَتَأْتِي صِلَتُهُ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّوْبَةُ:
2 - الاِسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَذَلِكَ يَشْتَرِكَانِ فِي
طَلَبِ إِزَالَةِ مَا لاَ يَنْبَغِي، إِلاَّ أَنَّ الاِسْتِغْفَارَ طَلَبٌ
مِنَ اللَّهِ لإِِزَالَتِهِ. وَالتَّوْبَةُ سَعْيٌ مِنَ الإِْنْسَانِ فِي
إِزَالَتِهِ. (1)
وَعِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَدْخُل كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مُسَمَّى الآْخَرِ،
وَعِنْدَ اقْتِرَانِهِمَا يَكُونُ الاِسْتِغْفَارُ طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ
مَا مَضَى وَالتَّوْبَةُ الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا
يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ، فَفِي
التَّوْبَةِ أَمْرَانِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا: مُفَارَقَةُ شَيْءٍ،
وَالرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَخُصَّتِ التَّوْبَةُ بِالرُّجُوعِ
وَالاِسْتِغْفَارُ بِالْمُفَارَقَةِ، وَعِنْدَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا
يَتَنَاوَل كُلٌّ مِنْهُمَا الآْخَرَ. (2)
وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ يَكُونُ الاِسْتِغْفَارُ الْمَقْرُونُ
بِالتَّوْبَةِ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ بِاللِّسَانِ،
وَالتَّوْبَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الإِْقْلاَعِ عَنِ الذَّنْبِ بِالْقَلْبِ
وَالْجَوَارِحِ. (3)
ب - الدُّعَاءُ:
3 - كُل دُعَاءٍ فِيهِ سُؤَال الْغُفْرَانِ فَهُوَ اسْتِغْفَارٌ. (4)
إِلاَّ أَنَّ بَيْنَ الاِسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ عُمُومًا وَخُصُوصًا
مِنْ
__________
(1) الفخر الرازي 17 / 181، 182 ط البهية، 27 / 99 ط أولى.
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3 / 460، ومدارج السالكين 1 / 308 ط
السنة المحمدية.
(3) شرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 902 المكتب الإسلامي.
(4) الفتوحات الربانية 7 / 273.
(4/35)
وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي طَلَبِ
الْمَغْفِرَةِ، وَيَنْفَرِدُ الاِسْتِغْفَارُ إِنْ كَانَ بِالْفِعْل لاَ
بِالْقَوْل، كَمَا يَنْفَرِدُ الدُّعَاءُ إِنْ كَانَ بِطَلَبِ غَيْرِ
الْمَغْفِرَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلاِسْتِغْفَارِ:
4 - الأَْصْل فِي الاِسْتِغْفَارِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، (1) لِقَوْل
اللَّهِ سُبْحَانَهُ. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} (2) يُحْمَل عَلَى النَّدْبِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ
مَعْصِيَةٍ، لَكِنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ عَنِ النَّدْبِ إِلَى الْوُجُوبِ (3)
كَاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَالاِسْتِغْفَارِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ (4) .
وَقَدْ يَخْرُجُ إِلَى الْكَرَاهَةِ كَالاِسْتِغْفَارِ لِلْمَيِّتِ خَلْفَ
الْجِنَازَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَدْ يَخْرُجُ إِلَى الْحُرْمَةِ، كَالاِسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ (5) .
الاِسْتِغْفَارُ الْمَطْلُوبُ:
5 - الاِسْتِغْفَارُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يُحِل عُقْدَةَ
الإِْصْرَارِ، وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجَنَانِ، لاَ التَّلَفُّظُ
__________
(1) القرطبي 4 / 39 دار الكتب المصرية، والشرح الصغير 4 / 765 ط. دار
المعارف، والفتوحات الربانية 7 / 272، وشرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 902،
وإتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين 5 / 56 ط الميمنية.
(2) سورة المزمل / 20.
(3) الفخر الرازي 5 / 199 ط عبد الرحمن محمد، والفواكه الدواني 2 / 396 ط
الحلبي، وإتحاف السادة المتقين 8 / 511.
(4) منح الجليل 1 / 306 ط ليبيا.
(5) ابن عابدين 1 / 301 ط بولاق، والفروق 4 / 260 ط دار إحياء الكتب
العربية، ونهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي عليها 2 / 484 ط الحلبي،
والمغني مع الشرح الكبير 2 / 357.
(4/35)
بِاللِّسَانِ، فَإِنْ كَانَ بِاللِّسَانِ -
وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ - فَإِنَّهُ ذَنْبٌ يَحْتَاجُ إِلَى
اسْتِغْفَارٍ (1) . كَمَا رُوِيَ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لاَ
ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ
كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ (2)
وَيُطْلَبُ لِلْمُسْتَغْفِرِ بِلِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُلاَحِظًا لِهَذِهِ
الْمَعَانِي بِجِنَانِهِ، لِيَفُوزَ بِنَتَائِجِ الاِسْتِغْفَارِ، فَإِنْ
لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ فَيَسْتَغْفِرُ بِلِسَانِهِ، وَيُجَاهِدُ
نَفْسَهُ عَلَى مَا هُنَالِكَ، فَالْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ
(3) . فَإِنِ انْتَفَى الإِْصْرَارُ، وَكَانَ الاِسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ
مَعَ غَفْلَةِ الْقَلْبِ، فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: وَصْفُهُ بِأَنَّهُ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، وَهُوَ قَوْل
الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ
أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوهُ مَعْصِيَةً لاَحِقَةً بِالْكَبَائِرِ،
وَقَال الآْخَرُونَ: بِأَنَّهُ لاَ جَدْوَى مِنْهُ فَقَطْ. (4)
الثَّانِي: اعْتِبَارُهُ حَسَنَةً وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ
لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ الاِسْتِغْفَارَ عَنْ غَفْلَةٍ
خَيْرٌ مِنَ الصَّمْتِ وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِغْفَارٍ، لأَِنَّ
اللِّسَانَ إِذَا أَلِفَ ذِكْرًا يُوشِكُ أَنْ يَأْلَفَهُ الْقَلْبُ
فَيُوَافِقُهُ
__________
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3 / 460، 485، وتنبيه الغافلين ص
197 ط المشهد الحسيني، والفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية 7 / 267،
وشرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 903.
(2) خبر " التائب من الذنب كمن لا ذنب له. . . " أخرجه البيهقي وابن عساكر
كما في الفتوحات الربانية 7 / 268 نشر المكتبة الإسلامية.
(3) شرح الأذكار 7 / 268.
(4) إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين 8 / 604، 605، والفتوحات
الربانية 7 / 268، والفواكه الدواني 2 / 396 ط الحلبي، ومرقاة المفاتيح 3 /
460.
(4/36)
عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْعَمَل لِلْخَوْفِ
مِنْهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ. (1)
صِيَغُ الاِسْتِغْفَارِ:
6 - وَرَدَ الاِسْتِغْفَارُ بِصِيَغٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْمُخْتَارُ
مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ
إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى
عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا
صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي
فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. (2)
7 - وَمِنْ أَفْضَل أَنْوَاعِ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُول الْعَبْدُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. (3) وَهَذَا عَلَى سَبِيل الْمِثَال وَلَيْسَ
الْحَصْرِ كَمَا
__________
(1) شرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 903، وإتحاف السادة المتقين 8 / 607، ومرقاة
المفاتيح 3 / 810 ط المكتبة الإسلامية، والفتوحات الربانية 7 / 292،
واليواقيت والجواهر شرح بيان عقائد الأكابر 2 / 104 ط دار المعرفة.
(2) تفسير القرطبي 4 / 40، والأذكار 71، 359 ط الحلبي، ومدارج السالكين 1 /
221 ط نصار، وفتاوى ابن تيمية 10 / 249، وإتحاف السادة المتقين شرح إحياء
علوم الدين 5 / 60، والكلم الطيب والعمل الصالح لابن القيم ص 22 ط الرياض.
وحديث شداد بن أوس أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 97 ط السلفية) .
(3) حديث " أستغفر الله الذي. . . . " أخرجه أبو داود والترمذي مرفوعا من
حديث زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ " أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب
إليه، غفر له وإن كان فر من الزحف " قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا
من هذا الوجه، وقا والفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية 7 / 287 - 289
نشر المكتبة الإسلامية، ومجمع الزوائد 10 / 210 نشر مكتبة القدسي) .
(4/36)
أَنَّ بَعْضَ الأَْوْقَاتِ وَبَعْضَ
الْعِبَادَاتِ تَخْتَصُّ بِصِيَغٍ مَأْثُورَةٍ تَكُونُ أَفْضَل مِنْ
غَيْرِهَا وَيَنْبَغِي التَّقَيُّدُ بِأَلْفَاظِهَا، وَمَوْطِنُ بَيَانِهَا
غَالِبًا كُتُبُ السُّنَّةِ وَالأَْذْكَارِ وَالآْدَابِ، فِي أَبْوَابِ
الدُّعَاءِ وَالاِسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ.
وَإِذَا كَانَتْ صِيَغُ الاِسْتِغْفَارِ السَّابِقَةِ مَطْلُوبَةً فَإِنَّ
بَعْضَ صِيَغِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، (1) فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ
الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ (2)
اسْتِغْفَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
8 - اسْتِغْفَارُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاجِبٌ
عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3)
، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا عَدِيدَةً فِي
اسْتِغْفَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا: أَنَّهُ
يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مِنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ عَنْ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا كَانَ لِتَعْلِيمِ أُمَّتِهِ، وَرَأْيُ
السُّبْكِيِّ: أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاَ يَحْتَمِل إِلاَّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهُوَ: تَشْرِيفُهُ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
__________
(1) مرقاة المفاتيح 2 / 634 ط المكتبة الإسلامية، والزرقاني على الموطأ 2 /
34 ط الاستقامة، والفتاوى الكبرى لابن حجر 1 / 149 ط عبد الحميد أحمد حنفي،
وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد 452 ط دار الكتب العلمية.
(2) حديث " لا يقولن أحدكم. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 139 ط
السلفية) .
(3) سورة محمد / 19.
(4/37)
لاَ يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. (1)
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَسْتَغْفِرُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَمِائَةَ
مَرَّةٍ، (2) بَل كَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ
الْوَاحِدِ قَبْل أَنْ يَقُومَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ
أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ. (3)
الاِسْتِغْفَارُ فِي الطَّهَارَةِ:
أَوَّلاً: الاِسْتِغْفَارُ عَقِبَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ:
9 - يُنْدَبُ الاِسْتِغْفَارُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ
الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنَ
الْخَلاَءِ قَال: غُفْرَانَكَ. (4) وَوَجْهُ سُؤَال الْمَغْفِرَةِ هُنَا
كَمَا قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ - هُوَ
__________
(1) الفتوحات الربانية 7 / 269، والزرقاني على خليل 1 / 77 ط دار الفكر،
والفواكه الدواني 2 / 432، ومرقاة المفاتيح 3 / 60، وفتاوى ابن تيمية 15 /
57، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3 / 464.
(2) مدارج السالكين 1 / 178، 179، والحطاب 1 / 271 ط النجاح.
(3) أخرج أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر أنه قال: إنا
كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: " رب اغفر لي وتب
علي إنك أنت التواب الغفور " مائة مرة. قال الألباني: صحيح على شرط
الشيخين. ولكن الرواة اختلفوا على مالك في قوله " الغفور " (مشكاة المصابيح
نشر المكتب الإسلامي، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2 / 89 نشر المكتب
الإسلامي) .
(4) حديث " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء. . . " أخرجه
أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة. قال الترمذي: هذا حديث
حسن غريب، والحديث صححه الحاكم وأبو حاتم. قال في البدر المنير: ورواه
الدارمي وصححه ابن خزيمة وابن حبان (نيل الأوطار 1 / 88 ط دار الجيل، وتحفة
الأحوذي 1 / 49 نشر المكتبة السلفية) .
(4/37)
الْعَجْزُ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ فِي
تَيْسِيرِ الْغِذَاءِ، وَإِيصَال مَنْفَعَتِهِ، وَإِخْرَاجِ فَضْلَتِهِ.
(1)
ثَانِيًا: الاِسْتِغْفَارُ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
10 - يُسَنُّ الاِسْتِغْفَارُ ضِمْنَ الذِّكْرِ الْوَارِدِ عِنْدَ
إِتْمَامِ الْوُضُوءِ (2) رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: مَنْ تَوَضَّأَ فَقَال: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ
إِلَيْكَ، كُتِبَ فِي رَقٍّ، ثُمَّ جُعِل فِي طَابَعٍ، فَلَمْ يُكْسَرْ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (3)
وَقَدْ وَرَدَتْ صِيَغٌ أُخْرَى تَتَضَمَّنُ الاِسْتِغْفَارَ عَقِبَ
الاِنْتِهَاءِ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَثْنَاءَهُ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي
سُنَنِ الْوُضُوءِ.
الاِسْتِغْفَارُ عِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ:
11 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ، الاِسْتِغْفَارُ عِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ وَعِنْدَ
الْخُرُوجِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 230، والفواكه الدواني 2 / 434 مصطفى الحلبي، والكافي
لابن عبد البر 1 / 172 ط الرياض، والحطاب 1 / 270، 271، وشرح الروض 1 / 72،
والمغني لابن قدامة 1 / 168 ط الرياض.
(2) ابن عابدين 1 / 87 ط بولاق، وحاشية البناني على عبد الباقي 1 / 73 ط
دار الفكر، والفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية 2 / 317، ومدارج
السالكين 1 / 176.
(3) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه الحاكم في المستدرك وقال:
صحيح على شرط مسلم. قال ابن حجر الهيثمي: إنه ضعيف وإن قال الحاكم إنه
صحيح. رواه سفيان الثوري عن أبي هاشم فرفعه. وأخرجه الطبراني في الأوسط
بلفظ مقارب، ورواته رواة الصحيح، وصوب النسائي وقفه على أبي سعيد الخدري
(الفتوحات الربانية 2 / 20 نشر المكتبة الإسلامية، ومجمع الزوائد 1 / 239
نشر دار الكتاب العربي 1402 هـ) .
(4/38)
مِنْهُ (1) . لِمَا وَرَدَ عَنْ فَاطِمَةَ
بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ
رَسُول اللَّهِ إِذَا دَخَل الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ،
وَقَال: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ،
وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، وَقَال: رَبِّ اغْفِرْ
لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ (2)
وَالْوَارِدُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقُول عِنْدَ
دُخُول الْمَسْجِدِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَعِنْدَ
خُرُوجِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ (3)
الاِسْتِغْفَارُ فِي الصَّلاَةِ:
أَوَّلاً - الاِسْتِغْفَارُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ:
12 - جَاءَ الاِسْتِغْفَارُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي
دُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ فِي الصَّلاَةِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ
مُطْلَقًا، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي صَلاَةِ اللَّيْل، (4)
مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ
__________
(1) شرح ميارة الصغير 2 / 137 ط الحلبي، ومنح الجليل 1 / 56 ط ليبيا،
والجمل 1 / 453، والمغني لابن قدامة 1 / 455 ط الرياض، والأذكار النووية 25
ط البارودي ودار الفلاح، وكشاف القناع 1 / 301.
(2) حديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن ماجه والترمذي
وحسنه لكثرة طرقه (تحفة الأحوذي 2 / 253 - 255 نشر المكتبة السلفية، وسنن
ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 253 ط عيسى الحلبي) .
(3) مراقي الفلاح ص 215، 216 ط بولاق. أخرج مسلم من حديث أبي أسيد مرفوعا "
إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل:
اللهم إني أسألك من فضلك " (صحيح مسلم 1 / 494 ط عيسى الحلبي) .
(4) المجموع 3 / 315 ط المنيرية، والمغني لابن قدامة 1 / 474 ط الرياض،
والأذكار ص 43، 44، وفتاوى ابن تيمية 10 / 249، والكلم الطيب والعمل الصالح
لابن القيم ص 220 ط الرياض.
(4/38)
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ،
وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. (1)
وَيُكْرَهُ الاِفْتِتَاحُ فِي الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2)
وَمَحَل الاِسْتِغْفَارِ فِي دُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ يَذْكُرُهُ
الْفُقَهَاءُ فِي سُنَنِ الصَّلاَةِ، أَوْ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلاَةِ.
ثَانِيًا: الاِسْتِغْفَارُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ
بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
13 يُسَنُّ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُكْثِرُ أَنْ يَقُول فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي (3) يَتَأَوَّل الْقُرْآنَ، أَيْ
يُحَقِّقُ قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}
(4) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ
لِلْمُنْفَرِدِ، وَلإِِمَامِ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ رَضُوا بِالتَّطْوِيل.
وَلاَ يَأْتِي بِغَيْرِ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ
يُجِيزُونَ الاِسْتِغْفَارَ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ (5) .
__________
(1) حديث " اللهم إني ظلمت نفسي ظلما. . . . . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 2 / 317 ط السلفية) .
(2) الكافي لابن عبد البر 1 / 206 ط الرياض.
(3) حديث عائشة أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (التاج الجامع
للأصول في أحاديث الرسول 1 / 190 ط دار إحياء التراث العربي 1381 هـ) .
(4) سورة النصر / 3.
(5) الزرقاني على خليل 1 / 217، وابن عابدين 1 / 340 والجمل على المنهج 1 /
364 ط دار إحياء التراث العربي، والزوائد في فقه الإمام أحمد 1 / 120 ط
السلفية.
(4/39)
14 - وَفِي السُّجُودِ يُنْدَبُ الدُّعَاءُ
بِالْمَغْفِرَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ (1) . .
15 - وَفِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ يُسَنُّ الاِسْتِغْفَارُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
قَوْلٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّهُ
صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَقُول
بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي. (2)
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الاِسْتِغْفَارُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ صَلاَتَهُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْل
إِسْحَاقَ وَدَاوُدَ، وَأَقَلُّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَقَل الْكَمَال
ثَلاَثٌ، وَالْكَمَال لِلْمُنْفَرِدِ مَا لاَ يُخْرِجُهُ إِلَى السَّهْوِ،
وَبِالنِّسْبَةِ لِلإِْمَامِ: مَا لاَ يَشُقُّ عَلَى الْمُصَلِّينَ. (3)
الاِسْتِغْفَارُ فِي الْقُنُوتِ:
16 - جَاءَ الاِسْتِغْفَارُ فِي أَلْفَاظِ الْقُنُوتِ، قُنُوتِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُنُوتِ عُمَرَ، وَأَلْفَاظُهُ
كَبَقِيَّةِ الأَْلْفَاظِ الْوَارِدَةِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى أَمْرٍ
يَخُصُّهُ، إِلاَّ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين. . . . "
أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث حذيفة، وأخرجه أيضا الترمذي وأبو داود
مطولا، والحديث أصله في مسلم (نيل الأوطار 2 / 293 ط دار الجيل، وتحفة
الأحوذي 2 / 162 نشر السلفية) .
(3) ابن عابدين 1 / 340، والحطاب 1 / 545، والخرشي 1 / 290 ط دار صادر،
والزرقاني على خليل 1 / 217، ونهاية المحتاج 1 / 496 ط الحلبي، والزوائد 1
/ 120 ط السلفية، ومغني ابن قدامة 1 / 503، 522 ط الرياض، والفتاوى
الحامدية الكبرى ص / 78 ط دار نشر الثقافة.
(4/39)
وَالْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ
بِالْمَغْفِرَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْقُنُوتِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ (1) .
الاِسْتِغْفَارُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ:
17 - يُنْدَبُ الاِسْتِغْفَارُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ (2) ،
وَرَدَ فِي السُّنَّةِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا
كَثِيرًا، وَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي
مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ وَرَدَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ،
وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ
وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ (4)
الاِسْتِغْفَارُ عَقِبَ الصَّلاَةِ:
18 - يُسَنُّ الاِسْتِغْفَارُ عَقِبَ الصَّلاَةِ ثَلاَثًا، (5) لِمَا
__________
(1) فتح القدير 1 / 306 ط بولاق، والشرح الصغير 1 / 331، 332 ط دار
المعارف، والخرشي 1 / 283 ط دار صادر، والمجموع 3 / 493، والفروع 1 / 413 ط
المنار.
(2) الأذكار ص / 65، والثمر الداني شرح رسالة القيرواني 1 / 92 ط الحلبي،
وشرح منتهى الإرادات 1 / 192 ط الرياض، وفتاوى ابن تيمية 10 / 263.
(3)) حديث: " اللهم إني ظلمت نفسي. . . . " أخرجه البخاري ومسلم وأحمد
والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر وأبي بكر (كنز العمال 2 / 199
نشر مكتبة التراث الإسلامي 1389 هـ) .
(4) حديث: " اللهم اغفر لي ما قدمت. . . . " أخرجه مسلم من حديث علي بن أبي
طالب مرفوعا، وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة (صحيح مسلم 1 / 536 ط عيسى
الحلبي، وكنز العمال 2 / 208 نشر مكتبة التراث الإسلامي) .
(5) الطحطاوي على المراقي 1 / 71 ط العثمانية، وأصول السرخسي 1 / 333 ط دار
الكتاب العربي، والحطاب 2 / 127، والشرح الصغير 4 / 766، وإنارة الدجى 1 /
166 ط الحلبي، وإعانة الطالبين 1 / 184، ومدارج السالكين 1 / 175.
(4/40)
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: مَنْ قَال أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ
الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ،
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ
الْبَحْرِ (1) وَوَرَدَتْ رِوَايَاتٌ أُخْرَى يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي
الذِّكْرِ الْوَارِدِ عَقِبَ الصَّلاَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي دُبُرِ كُل
صَلاَةٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَقَال: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَل ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ (2)
الاِسْتِغْفَارُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْصُل الاِسْتِسْقَاءُ
بِالاِسْتِغْفَارِ وَحْدَهُ (3) . غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
__________
(1) المجموع 3 / 485، وشرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 902، وفتاوى ابن تيمية 10
/ 136، وحديث " من قال: أستغفر الله العظيم. . . " أخرجه الترمذي مرفوعا من
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا
من هذا الوجه. وأخرجه الطبراني موقوفا من حديث عبد الله ابن مسعود بلفظ "
لا يقول رجل أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث
مرات إلا غفر له وإن كان فر من الزحف " وقال الهيثمي: ورجاله وثقوا. (صحي
ومجمع الزوائد 10 / 210 نشر دار الكتاب العربي 1402 هـ) .
(2) حديث " من استغفر الله تعالى في دبر كل صلاة. . . " أخرجه ابن السني من
حديث البراء بن عازب مرفوعا بهذا اللفظ، وأخرجه أبو داود والترمذي مرفوعا
من عدة طرق، منها حديث ابن مسعود، ومنها حديث زيد مولى النبي صلى الله عليه
وسلم، وقال المنذري: إسناده جيد متصل. وليس في روايات أبي داود والترمذي
عبارة " في دبر كل صلاة ثلاث مرات " (عمل اليوم والليلة ص 38 ط دائرة
المعارف العثمانية، والفتوحات الربانية على الأذكار النووية 7 / 287 - 289
نشر المكتبة الإسلامية، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3 / 76، 77) .
(3) البدائع 1 / 283، والحطاب 2 / 205، والمجموع 5 / 91، والمغني مع الشرح
الكبير 2 / 291 ط المنار الأولى.
(4/40)
يُقْصِرُهُ عَلَى ذَلِكَ (1) ،
مُسْتَدِلًّا بِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا} (2) لأَِنَّ الآْيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الاِسْتِغْفَارَ
وَسِيلَةٌ لِلسُّقْيَا. بِدَلِيل {يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا} وَلَمْ تَزِدِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الاِسْتِغْفَارِ،
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى
الاِسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يُصَل بِجَمَاعَةٍ، بَل صَعِدَ الْمِنْبَرَ،
وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا
اسْتَسْقَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَال: لَقَدِ اسْتَسْقَيْتُ
بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي بِهَا يُسْتَنْزَل الْغَيْثُ (3) .
20 - وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْقَائِلُونَ بِنَدْبِ صَلاَةِ
الاِسْتِسْقَاءِ وَالْخُطْبَتَيْنِ، أَوِ الْخُطْبَةِ الْوَاحِدَةِ،
يُسَنُّ عِنْدَهُمْ الإِْكْثَارُ مِنْ الاِسْتِغْفَارِ فِي الْخُطْبَةِ،
وَتُبَدَّل تَكْبِيرَاتُ الاِفْتِتَاحِ الَّتِي فِي خُطْبَتَيِ
الْعِيدَيْنِ بِالاِسْتِغْفَارِ فِي خُطْبَتَيْ الاِسْتِسْقَاءِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَصِيغَتُهُ كَمَا أَوْرَدَهَا
النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ " أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ (4) ".
وَيُكَبَّرُ كَخُطْبَتَيِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (5) ،
وَنَفَى
__________
(1) البدائع 1 / 283، والمغني مع الشرح 2 / 288
(2) سورة نوح / 5.
(3) ما روي عن عمر رضي الله عنه " أنه خرج إلى الاستسقاء ولم يصل بجماعة. .
. " أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة بألفاظ مقاربة (مصنف عبد الرزاق بتحقيق
حبيب الرحمن الأعظمي 3 / 87 ط المجلس العلمي 1390 هـ، ومصنف ابن أبي شيبة 2
/ 274 نشر دار السلفية بالهند 1399 هـ) .
(4) جواهر الإكليل 1 / 103، 106، والقليوبي 1 / 316، والحطاب 2 / 207،
والمجموع 5 / 83، والمغني مع الشرح 2 / 288.
(5) المغني مع الشرح 2 / 288.
(4/41)
الْحَنَفِيَّةُ التَّكْبِيرَ وَلَمْ
يَتَعَرَّضُوا لِلاِسْتِغْفَارِ فِي الْخُطْبَةِ (1) .
الاِسْتِغْفَارُ لِلأَْمْوَاتِ:
21 - الاِسْتِغْفَارُ عِبَادَةٌ قَوْلِيَّةٌ يَصِحُّ فِعْلُهَا لِلْمَيِّتِ
(2) . وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الاِسْتِغْفَارُ لِلأَْمْوَاتِ، فَفِي
صَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَرَدَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ،
لَكِنْ لاَ يُسْتَغْفَرُ لِصَبِيٍّ وَنَحْوِهِ (3) .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي صَلاَةِ
الْجِنَازَةِ.
وَعَقِبَ الدَّفْنِ يُنْدَبُ أَنْ يَقِفَ جَمَاعَةٌ يَسْتَغْفِرُونَ
لِلْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ فِي سُؤَال مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، رَوَى
أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَفَنَ الرَّجُل وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَال:
اسْتَغْفِرُوا لأَِخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثَبُّتَ فَإِنَّهُ الآْنَ
يُسْأَل (4) وَصَرَّحَ بِذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (5) .
22 - وَمِنْ آدَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 300.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 568 ط الرياض.
(3) فتح القدير 1 / 459، والبحر الرائق 1 / 198 ط العلمية، وحاشية الصعيدي
على الكفاية 1 / 334 ط الحلبي، والمجموع 5 / 144، والمغني مع الشرح الكبير
2 / 372.
(4) حديث " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرجل. . . " أخرجه أبو
داود والحاكم والبزار من حديث عثمان بن عفان. قال البزار: لا يروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، وسكت عنه المنذري. ووافق الذهبي
الحاكم على تصحيحه (تلخيص الحبير 2 / 135 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة
بالقاهرة، وعون المعبود 3 / 209 ط الهند، والمستدرك 1 / 370 - 371 نشر دار
الكتاب العربي) .
(5) ابن عابدين 1 / 601، والأنوار السنية 1 / 121 ط الحلبي، والمجموع 5 /
294، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 385، والشرح الصغير للدردير 1 / 568.
(4/41)
وَالشَّافِعِيَّةِ، الدُّعَاءُ
بِالْمَغْفِرَةِ لأَِهْلِهَا عَقِبَ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ،
وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ (1) .
23 - وَهَذَا كُلُّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ، أَمَّا الْكَافِرُ الْمَيِّتُ
فَيَحْرُمُ الاِسْتِغْفَارُ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالإِْجْمَاعِ (2) .
الاِسْتِغْفَارُ عَنِ الْغِيبَةِ:
24 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّ الَّذِي اغْتَابَ، هَل يَلْزَمُهُ
اسْتِحْلاَل مَنِ اُغْتِيبَ، مَعَ الاِسْتِغْفَارِ لَهُ، أَمْ يَكْفِيهِ
الاِسْتِغْفَارُ؟ .
الأَْوَّل: إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَنِ اُغْتِيبَ فَيَكْفِي الاِسْتِغْفَارُ،
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ
لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلأَِنَّ إِعْلاَمَهُ رُبَّمَا يَجُرُّ فِتْنَةً، وَفِي
إِعْلاَمِهِ إِدْخَال غَمٍّ عَلَيْهِ. لِمَا رَوَى الْخَلاَّل
بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا كَفَّارَةُ مَنِ اُغْتِيبَ أَنْ
يُسْتَغْفَرَ لَهُ (3) . فَإِنْ عَلِمَ فَلاَ بُدَّ مِنِ اسْتِحْلاَلِهِ
مَعَ الاِسْتِغْفَارِ لَهُ.
الثَّانِي: يَكْفِي الاِسْتِغْفَارُ سَوَاءٌ عَلِمَ الَّذِي اُغْتِيبَ أَمْ
لَمْ يَعْلَمْ، وَلاَ يَجِبُ اسْتِحْلاَلُهُ، وَهُوَ قَوْل الطَّحَاوِيِّ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنِ اسْتِحْلاَل الْمُغْتَابِ
إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، أَوْ أَحَدًا مِنْ
وَرَثَتِهِ
__________
(1) المدني على كنون هامش الرهوني 2 / 219، وفتح القدير 2 / 338 ط بولاق،
والمجموع 5 / 309، وابن عابدين 1 / 604، والبحر الرائق 2 / 210 ط العلمية،
والكافي 1 / 366 ط المكتب الإسلامي.
(2) المجموع 5 / 144، وانظر الاستغفار للكافر فقرة 26.
(3) ابن عابدين 5 / 263، 264، وشرح الروض 4 / 357 ط الميمنية، ومطالب أولي
النهى 6 / 210 ط المكتب الإسلامي، ومدارج السالكين 1 / 290، 291، وشرح
ثلاثيات مسند أحمد 1 / 372، وشرح ميارة الكبير 2 / 174 ط مصطفى الحلبي.
(2) ابن عابدين 1 / 350، الشرح الصغير 1 / 333، 4 / 776 ط دار المعارف،
والجمل على المنهج 1 / 390، 391.
(3) حديث " ما من دعاء أحب إلى الله. . . . " أخرجه الخطيب في تاريخه من
حديث أبي هريرة مرفوعا، كما أخرجه بلفظ " اللهم ارحم أمة محمد رحمة عامة "
قال المناوي: فيه عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد الأنصاري، قال الذهبي في
الضعفاء: لا يعرف، وفي الميزان كأنه موضوع. وحكم عليه الألباني بأنه ضعيف
جدا (كنز العمال 2 / 77 نشر مكتبة التراث الإسلامي 1389 هـ، وفيض القدير 5
/ 478 نشر المكتبة التجارية، وضعيف الجامع الصغير بتحقيق الألباني 5 / 115
نشر المكتب الإسلامي) .
(4) حديث " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه. . . " أخرجه
البخاري من حديث أبي هريرة (فتح الباري 10 / 438 ط السلفية) .
(4/42)
رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ
بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَل فَقَدْ خَانَهُمْ (1)
الاِسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ
مَحْظُورٌ، بَل بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَال: إِنَّ الاِسْتِغْفَارَ
لِلْكَافِرِ يَقْتَضِي كُفْرَ مَنْ فَعَلَهُ، لأَِنَّ فِيهِ تَكْذِيبًا
لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ الَّتِي تَدُل عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ
مِنْ أَهْل النَّارِ.
27 - وَأَمَّا مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْكَافِرِ الْحَيِّ رَجَاءَ أَنْ
يُؤْمِنَ فَيُغْفَرَ لَهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِإِجَازَةِ
ذَلِكَ، وَجَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ الدُّعَاءَ بِالْهِدَايَةِ، وَلاَ
يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ
جَوَازَ الدُّعَاءِ لأَِطْفَال الْكُفَّارِ بِالْمَغْفِرَةِ، لأَِنَّ هَذَا
مِنْ أَحْكَامِ الآْخِرَةِ (2) .
تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِالاِسْتِغْفَارِ:
28 - الاِسْتِغْفَارُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ يُرْجَى
أَنْ
__________
(1) حديث " لا يؤم رجل قوما فيخص نفسه. . . . " أورده الترمذي ضمن رواية
أخرجها من حديث ثوبان مرفوعا، وقال: حديث ثوبان حديث حسن، وأخرجه أيضا أبو
داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري (تحفة الأحوذي 2 / 342 ط
السلفية) .
(2) ابن عابدين 1 / 351، وفتح القدير 1 / 467، وأصول السرخسي 2 / 135،
والنسفي 2 / 148 ط الحلبي، والألوسي 10 / 148، 11 / 34، 38 ط المنيرية،
والفروق 4 / 260 ط دار إحياء الكتب العربية، ونهاية المحتاج وحاشية
الشبراملسي عليها 2 / 484 ط الحلبي، والمجموع 5 / 144، والمغني مع الشرح
الكبير 2 / 357، والفروع 1 / 699، وفتاوى ابن تيمية 1 / 146، 147، وفتح
الباري 3 / 177 ط البهية، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 445 ط دار
المجد، والآداب الشرعية 1 / 416.
(4/43)
يُكَفَّرَ بِهِ الذُّنُوبُ إِنْ
تَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّوْبَةِ، يَقُول اللَّهُ سُبْحَانَهُ:
{وَمَنْ يَعْمَل سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) وَيَقُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَسُول اللَّهِ: مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي دُبُرِ
كُل صَلاَةٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَقَال: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ
وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ (2) وَقَدْ قِيل: لاَ صَغِيرَةَ
مَعَ الإِْصْرَارِ، وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ الاِسْتِغْفَارِ فَالْمُرَادُ
بِالاِسْتِغْفَارِ هُنَا التَّوْبَةُ. (3)
29 - فَإِنْ كَانَ الاِسْتِغْفَارُ عَلَى وَجْهِ الاِفْتِقَارِ
وَالاِنْكِسَارِ دُونَ تَحَقُّقِ التَّوْبَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ يُكَفِّرُ
الصَّغَائِرَ دُونَ الْكَبَائِرِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَهُوَ مَا صَرَّحَتْ بِهِ بَعْضُ كُتُبِ
الْحَنَفِيَّةِ. (4) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الاِسْتِغْفَارُ مِمْحَاةٌ لِلذُّنُوبِ (5) .
__________
(1) سورة النساء / 110.
(2) حديث " من استغفر الله تعالى، في دبر كل صلاة. . . . " سبق تخريجه (ر:
ف / 18)
(3) مرقاة المفاتيح 3 / 66، 77، وابن عابدين 5 / 352، والطحطاوي على مراقي
الفلاح 1 / 172، والفتوحات الربانية 7 / 282، ومدارج السالكين 1 / 290،
308، وشرح ميارة الصغير 2 / 181 ط الحلبي، والزواجر لابن حجر 1 / 9، وفتح
الباري 11 / 81 ط البهية، وفتاوى ابن تيمية 10 / 655، 15 / 41، والمغني مع
الشرح 2 / 80 ط المنار الأولى.
(4) ابن عابدين 1 / 288، ومرقاة المفاتيح 3 / 81، وفتاوى ابن تيمية 10 /
655، ومرقاة المفاتيح 3 / 480، ومدارج السالكين 1 / 290 ط السنة المحمدية.
(5) حديث " الاستغفار ممحاة. . . " أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث
حذيفة بن اليمان، وفيه عبيد بن كثير التمار. قال الذهبي: قال الأزدي: متروك
عن عبيد الله بن خراش، ضعفه الدارقطني عن عمه العوام بن هوشب، ورمز
الألباني إلى أنه ضعيف جدا (فيض القدير 3 / 177 ط المكتبة التجارية، وضعيف
الجامع الصغير بتحقيق الألباني 2 / 277 نشر المكتب الإسلامي) .
(4/43)
الاِسْتِغْفَارُ عِنْدَ النَّوْمِ:
30 - يُسْتَحَبُّ الاِسْتِغْفَارُ عِنْدَ النَّوْمِ مَعَ بَعْضِ
الأَْدْعِيَةِ الأُْخْرَى، لِيَكُونَ الاِسْتِغْفَارُ خَاتِمَةَ عَمَلِهِ
إِذَا رُفِعَتْ رُوحُهُ، (1) رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:
مَنْ قَال حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلاَثَ
مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ
الْبَحْرِ (2) .
الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِلْمُشَمِّتِ:
31 - يُسَنُّ لِلْعَاطِسِ أَنْ يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ شَمَّتَهُ
بِقَوْلِهِ: " يَرْحَمُكَ اللَّهُ " فَيَقُول لَهُ الْعَاطِسُ: " يَغْفِرُ
اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ " أَوْ يَقُول لَهُ: " يَهْدِيكُمْ اللَّهُ
وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ (3) " أَوْ يَقُول: " يَرْحَمُنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ "، لِمَا فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ
نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيل لَهُ: يَرْحَمُكَ
اللَّهُ، قَال: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا
وَلَكُمْ (4) .
__________
(1) مرقاة المفاتيح 3 / 77، والفواكه الدواني 2 / 432، والأذكار للنووي 88
وما بعدها ط الحلبي، والشرح الصغير 4 / 765، ومجموعة التوحيد لابن تيمية
ومحمد بن عبد الوهاب 665، 666.
(2) حديث " من قال حين يأوي إلى فراشه. . . . . " أخرجه الترمذي من حديث
أبي سعيد مرفوعا وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (تحفة
الأحوذي 9 / 341 نشر المكتبة السلفية) .
(3) ابن عابدين 1 / 366، والفواكه الدواني 2 / 451، والأذكار ص 241 ط
الحلبي، والشرح الصغير 4 / 765.
(4) شرح ثلاثيات مسند أحمد 1 / 333، والأثر عن عبد الله بن عمر أخرجه مالك
(شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 4 / 365 ط مطبعة الاستقامة 1379 هـ) .
(4/44)
اخْتِتَامُ الأَْعْمَال بِالاِسْتِغْفَارِ:
32 - الْمُتَتَبِّعُ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالأَْذْكَارِ النَّبَوِيَّةِ
يَجِدُ اخْتِتَامَ كَثِيرٍ مِنَ الأَْعْمَال بِالاِسْتِغْفَارِ، فَقَدْ
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ
بِالاِسْتِغْفَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (1) .
33 - وَفِي اخْتِتَامِ الصَّلاَةِ، وَتَمَامِ الْوُضُوءِ يُنْدَبُ
الاِسْتِغْفَارُ كَمَا تَقَدَّمَ (2) .
34 - وَالاِسْتِغْفَارُ فِي نِهَايَةِ الْمَجْلِسِ كَفَّارَةٌ لِمَا يَقَعُ
فِي الْمَجْلِسِ مِنْ لَغَطٍ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
جَلَسَ مَجْلِسًا فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَال قَبْل أَنْ يَقُومَ مِنْ
مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ
لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ (3) .
35 - وَمِنْ آكِدِ أَوْقَاتِ الاِسْتِغْفَارِ: السَّحَرُ (آخَرُ اللَّيْل)
(4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالأَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (5)
وَلِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: يَنْزِل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل
لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ
__________
(1) مدارج السالكين، والآية من سورة النصر / 3.
(2) انظر فقرة 10.
(3) إتحاف السادة المتقين 8 / 65، وتنبيه الغافلين 144، والألوسي 20 / 258
ط المنيرية، والأذكار للنووي 265 ط الحلبي، وفتاوى ابن تيمية 10 / 262.
وحديث " من جلس مجلسا. . . " أخرجه أبو داود والترمذي واللفظ له، والنسائي
وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب (الترغيب
والترهيب 3 / 217 ط مطبعة السعادة 1380 هـ) .
(4) الزرقاني على الموطأ 2 / 35، 36 ط الاستقامة، وإعانة الطالبين 1 / 268
ط الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 777 ط المنار الثالثة، وفتاوى ابن
تيمية 10 / 136، وتفسير أبي السعود 1 / 221 ط صبيح.
(5) سورة الذاريات / 18.
(4/44)
اللَّيْل الأَْخِيرِ، فَيَقُول: مَنْ
يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ . (1)
اسْتِغْلاَل
اُنْظُرْ: اسْتِثْمَار
اسْتِفَاضَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِفَاضَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَفَاضَ. يُقَال:
اسْتَفَاضَ الْحَدِيثُ وَالْخَبَرُ وَفَاضَ بِمَعْنَى: ذَاعَ وَانْتَشَرَ
(2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ لَهُ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِفَاضَةُ مُسْتَنَدٌ لِلشَّهَادَةِ، يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا
الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ، فَتَقُومُ مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ فِي أُمُورٍ
__________
(1) حديث " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة. . . . " أخرجه البخاري ومسلم
ومالك والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة مرفوعا (الترغيب والترهيب 3 / 293
ط مطبعة السعادة 1380 هـ. وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 2 / 35 - 37
ط مطبعة الاستقامة 1373 هـ) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة (فيض) .
(3) جواهر الإكليل 2 / 241، 242 ط دار المعرفة بيروت، وبدائع الصنائع 6 /
266 ط الجمالية، ومغني المحتاج 4 / 448، 449 ط مصطفى الحلبي، والمغني 9 /
161 ط الرياض الحديثة.
(4/45)
مُعَيَّنَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا.
وَلِذَلِكَ يُطْلِقُ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ " الشَّهَادَةَ
بِالاِسْتِفَاضَةِ " وَيُطْلِقُونَ عَلَيْهَا أَيْضًا " الشَّهَادَةَ
بِالسَّمَاعِ " أَوْ بِالتَّسَامُعِ، أَوْ بِالشُّهْرَةِ، أَوْ
بِالاِشْتِهَارِ، وَهُمْ فِي كُل ذَلِكَ يَقْصِدُونَ الشَّهَادَةَ
بِسَمَاعِ مَا شَاعَ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ.
وَيَقُول عَنْهَا ابْنُ عَرَفَةَ الْمَالِكِيُّ: " شَهَادَةُ السَّمَاعِ "
لَقَبٌ لِمَا يُصَرِّحُ الشَّاهِدُ فِيهِ بِإِسْنَادِ شَهَادَتِهِ
لِسَمَاعِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ (1) . وَيَقُول عَنْهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ:
الشُّهْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ (2) .
3 - هَذَا وَإِنَّ شَهَادَةَ الاِسْتِفَاضَةِ تَكُونُ فِي الأُْمُورِ
الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الاِشْتِهَارِ، كَالْمَوْتِ، وَالنِّكَاحِ،
وَالنَّسَبِ، لأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ غَالِبًا بِدُونِ
الاِسْتِفَاضَةِ، وَلأَِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا
خَوَاصُّ مِنَ النَّاسِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَل فِيهَا الشَّهَادَةُ
بِالتَّسَامُعِ لأََدَّى إِلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيل الأَْحْكَامِ، كَمَا
يَقُول الْفُقَهَاءُ.
4 - وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ
بِالاِسْتِفَاضَةِ (3) . إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي أُمُورٍ:
5 - أ - شَرْطُ التَّسَامُعِ. وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ مِنْ
جَمَاعَةٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدٍ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ.
وَقِيل: يَكْفِي رَجُلاَنِ عَدْلاَنِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَهُوَ
قَوْل الْخَصَّافِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ،
وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (4) . مَعَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 242.
(2) جامع الفصولين 1 / 171 ط المطبعة الأزهرية.
(3) المراجع السابقة.
(4) جواهر الإكليل 2 / 242، ومغني المحتاج 4 / 448، 449 وبدائع الصنائع 6 /
266، والمغني 9 / 161 وما بعدها.
(4/45)
تَفْصِيلٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ
يُنْظَرُ فِي (شَهَادَة) .
6 - ب - الأُْمُورُ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ
يَتَّفِقُونَ فِي جَوَازِهَا: فِي الْمَوْتِ، وَالنِّكَاحِ، وَالنَّسَبِ،
وَعَدَّ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَشَرَةَ أُمُورٍ تَجُوزُ
فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالاِسْتِفَاضَةِ، وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ
لِلشَّافِعِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ، وَمِثْلُهَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَقَدْ تَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَعَدُّوا أَشْيَاءَ
كَثِيرَةً تَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ الْفَاشِي، كَالْمِلْكِ، وَالْوَقْفِ،
وَعَزْل الْقَاضِي، وَالْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيل، وَالْكُفْرِ،
وَالإِْسْلاَمِ، وَالسَّفَهِ، وَالرُّشْدِ، وَالْهَيْئَةِ، وَالصَّدَقَةِ،
وَالْوِلاَدَةِ، وَالْحِرَابَةِ (1) . وَغَيْرِ ذَلِكَ (ر: شَهَادَةٌ) .
7 - ج - وَهَل إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ بَنَى شَهَادَتَهُ عَلَى السَّمَاعِ
تُقْبَل أَوْ تُرَدُّ؟ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (شَهَادَة) كَذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ
8 - الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْحَدِيثِ
(الْمَشْهُورِ) وَهُوَ مِنَ الآْحَادِ، إِلاَّ أَنَّهُ مِمَّا يُقَيَّدُ
بِهِ الْمُطْلَقُ، يُخَصَّصُ بِهِ الْعَامُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَغَيْرِهِمْ.
وَتَعْرِيفُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ مَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ مِنَ
الصَّحَابَةِ، أَوْ يَرْوِيهِ عَنِ الصَّحَابِيِّ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ،
ثُمَّ يَنْتَشِرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَرْوِيهِ قَوْمٌ يُؤْمَنُ
تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَيُفِيدُ الْيَقِينَ، وَلَكِنَّهُ
أَضْعَفُ مِمَّا لاَ يُفِيدُهُ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ.
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ: كُل حَدِيثٍ لاَ يَقِل عَدَدُ رُوَاتِهِ
عَنْ ثَلاَثَةٍ فِي أَيِّ طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ السَّنَدِ، وَلَمْ
__________
(1) المراجع السابقة، وابن عابدين 4 / 375 بولاق ط أولى
(4/46)
يَبْلُغْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ (1) .
9 - وَأَمَّا ذُيُوعُ الْحَدَثِ، كَرُؤْيَةِ الْهِلاَل فَإِنَّهُ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لُزُومُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ، وَوُجُوبُ
الْفِطْرِ فِي أَوَّل شَوَّالٍ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي شَهْرِ ذِي
الْحِجَّةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
10 - مَوَاطِنُ الْبَحْثِ فِي الاِسْتِفَاضَةِ يُنْظَرُ فِي الشَّهَادَةِ
بِالاِسْتِفَاضَةِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَفِي
الصَّوْمِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَيُرْجَعُ إِلَى
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ
الْمُسْتَفِيضِ.
اسْتِفْتَاء
اُنْظُرْ: فَتْوَى
اسْتِفْتَاح
التَّعْرِيفُ:
الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ:
1 - الاِسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ الْفَتْحِ، وَالْفَتْحُ نَقِيضُ الإِْغْلاَقِ.
وَمِنْهُ فَتَحَ الْبَابَ، وَاسْتَفْتَحَهُ: إِذَا طَرَقَهُ لِيُفْتَحَ
لَهُ.
__________
(1) مقدمة في علوم الحديث لابن الصلاح بتحقيق نور الدين العتر ص 239
(4/46)
وَيَكُونُ الْفَتْحُ أَيْضًا بِمَعْنَى
الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ
شُعَيْبٍ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (1) } .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}
حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنَ تَقُول لِزَوْجِهَا: تَعَال
أُفَاتِحْكَ، أَيْ أُحَاكِمْكَ (2) . وَالاِسْتِفْتَاحُ طَلَبُ الْقَضَاءِ.
وَيَكُونُ الْفَتْحُ بِمَعْنَى النَّصْرِ، وَاسْتَفْتَحَ: طَلَبَ
النَّصْرَ. وَمِنْهُ الآْيَةُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ
الْفَتْحُ} . (3)
وَفِي تَاجِ الْعَرُوسِ: فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى مَا قَالَهُ
الْفَيْرُوزَ آبَادِيُّ: إِنَّ فَتَحَ عَلَيْهِ يَكُونُ بِمَعْنَى
عَرَّفَهُ وَعَلَّمَهُ. قَال: وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ قَوْله تَعَالَى:
{قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} (4)
الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ:
2 - يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الاِسْتِفْتَاحَ بِمَعَانٍ:
الأَْوَّل: اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ، وَهُوَ الذِّكْرُ
__________
(1) سورة الأعراف / 89
(2) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه الطبري بطريقين: أما الطريقة
الأولى: فعن قتادة عن ابن عباس، وقتادة لم يسمع من ابن عباس. وأما الطريقة
الثانية: فقد أخرجها الطبري أيضا بإسناده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس،
وعلي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس ولم ي (تفسير الطبري 12 / 564، نشر دار
المعارف بمصر، وتهذيب التهذيب 7 / 339، 8 / 351 - 356 دار صادر) .
(3) لسان العرب - بتصرف. والآية من سورة الأنفال / 19.
(4) سورة البقرة / 76.
(4/47)
الَّذِي تُبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ بَعْدَ
التَّكْبِيرِ.
وَقَدْ يُقَال لَهُ: دُعَاءُ الاِسْتِفْتَاحِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ
لأَِنَّهُ أَوَّل مَا يَقُولُهُ الْمُصَلِّي بَعْدَ التَّكْبِيرِ، فَهُوَ
يَفْتَتِحُ بِهِ صَلاَتَهُ، أَيْ يَبْدَؤُهَا بِهِ.
الثَّانِي: اسْتِفْتَاحُ الْقَارِئِ إِذَا اُرْتُجَّ عَلَيْهِ، أَيْ
اُسْتُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقِرَاءَةِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهَا،
فَهُوَ يُعِيدُ الآْيَةَ وَيُكَرِّرُهَا لِيَفْتَحَ عَلَيْهِ مَنْ
يَسْمَعُهُ.
الثَّالِثُ: طَلَبُ النُّصْرَةِ.
اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ:
3 - يُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا بِدُعَاءِ
الاِسْتِفْتَاحِ، وَبِالاِفْتِتَاحِ، وَبِدُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ. إِلاَّ
أَنَّ الأَْكْثَرَ يَقُولُونَ: الاِسْتِفْتَاحُ. وَاسْتَفْتَحَ: أَيْ قَال
الذِّكْرَ الْوَارِدَ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الثَّنَاءُ:
4 - الثَّنَاءُ لُغَةً: الْمَدْحُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا كَانَ مِنْ
ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَصْفًا لَهُ بِأَوْصَافِهِ الْحَمِيدَةِ،
وَشُكْرًا لَهُ عَلَى نِعَمِهِ الْجَلِيلَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالصِّيغَةِ
الْوَارِدَةِ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . إِلَخْ "، أَوْ
غَيْرِهَا مِمَّا يَدُل عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ. أَمَّا الدُّعَاءُ
فَلَيْسَ ثَنَاءً. وَهَذَا هُوَ الْجَارِي مَعَ الاِسْتِعْمَال
اللُّغَوِيِّ.
وَفِي اصْطِلاَحٍ آخَرَ: الثَّنَاءُ لِكُل مَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ وَلَوْ
كَانَ دُعَاءً. قَال الإِْمَامُ الرَّافِعِيُّ: وَكُل وَاحِدٍ مِنْ
هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ، أَعْنِي " وَجَّهْتُ وَجْهِي. . . "
__________
(1) حاشية الشرواني على التحفة 1 / 550، وفتح العزيز 3 / 302.
(4/47)
وَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ. . . " يُسَمَّى
دُعَاءَ الاِسْتِفْتَاحِ وَثَنَاءَهُ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالاِسْتِفْتَاحُ أَخَصُّ مِنَ الثَّنَاءِ.
حُكْمُ الاِسْتِفْتَاحِ:
5 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الاِسْتِفْتَاحُ سُنَّةٌ، لِمَا وَرَدَ
فِي الأَْحَادِيثِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الصِّيَغِ
الْمَأْثُورَةِ فِي الاِسْتِفْتَاحِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ
الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ، كَالاِسْتِفْتَاحِ بِنَحْوِ " سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . " وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ بَطَّةَ
وَغَيْرِهِ، وَذُكِرَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَال ابْنُ
الْقَاسِمِ: كَانَ مَالِكٌ لاَ يَرَى هَذَا الَّذِي يَقُول النَّاسُ "
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى
جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ". وَكَانَ لاَ يَعْرِفُهُ. ثُمَّ نَقَل
مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ بِسَنَدِهِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (3) : قَال: وَقَال مَالِكٌ: مَنْ كَانَ وَرَاءَ الإِْمَامِ،
وَمَنْ هُوَ وَحْدَهُ، وَمَنْ كَانَ إِمَامًا فَلاَ يَقُل: " سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ. . . إِلَخْ ". وَلَكِنْ
يُكَبِّرُونَ ثُمَّ
__________
(1) فتح العزيز 3 / 302.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 22 / 388.
(3) أخرجه مسلم وأحمد من حديث أنس بن مالك قال: " صليت خلف النبي صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا
يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها " (صحيح مسلم 1 /
299 ط عيسى الحلبي، ونيل الأوطار 2 / 199 ط المطبعة العثمانية المصرية 1357
هـ) .
(4/48)
يَبْتَدِئُونَ الْقِرَاءَةَ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْحُكْمَ كَرَاهَةُ
الْفَصْل بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِدُعَاءٍ. سَوَاءٌ أَكَانَ
دُعَاءَ الاِسْتِفْتَاحِ أَوْ غَيْرَهُ. إِلاَّ أَنَّ فِي كِفَايَةِ
الطَّالِبِ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، ثُمَّ قَال:
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الْفَصْل بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ: " سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . إِلَخْ ". وَقَال الْعَدَوِيُّ مُعَلِّقًا
عَلَى ذَلِكَ: فِي قَوْلِهِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ إِلَخْ إِشَارَةٌ
إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْل لِمَالِكٍ " إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ مَشْهُورًا
عَنْهُ (2) .
ثُمَّ قَدْ جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل تَعْلِيقًا عَلَى قَوْل
خَلِيلٍ بِالْكَرَاهَةِ: أَيْ يُكْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِلْعَمَل،
وَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِهِ - يَعْنِي مَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ:
لأَِنَّهُ لَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلٌ - ثُمَّ قَال: وَعَنْ مَالِكٍ نَدْبُ
قَوْلِهِ قَبْلَهَا - أَيْ قَبْل تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ -: سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . إِلَخْ، وَجَّهْتُ وَجْهِي. . . إِلَخْ،
اللَّهُمَّ بَاعِدْ. . . إِلَخْ. قَال ابْنُ حَبِيبٍ: يَقُولُهُ بَعْدَ
الإِْقَامَةِ وَقَبْل الإِْحْرَامِ. قَال فِي الْبَيَانِ: وَذَلِكَ حَسَنٌ
(3) . . اهـ. وَكَذَلِكَ نَقَل الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ
مَالِكٍ قَوْلَهُ: لاَ يُسْتَفْتَحُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ إِلاَّ
بِالْفَاتِحَةِ، وَالدُّعَاءُ وَالتَّعَوُّذُ يُقَدِّمُهُمَا عَلَى
التَّكْبِيرِ (4) . فَكَأَنَّ خِلاَفَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الاِسْتِفْتَاحِ
رَاجِعٌ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَعِنْدَهُمْ يَكُونُ قَبْل التَّكْبِيرِ،
وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ بَعْدَهُ (5) .
__________
(1) المدونة 1 / 62.
(2) كفاية الطالب الرباني بحاشية العدوي 1 / 205.
(3) جواهر الإكليل 1 / 53، وانظر أيضا الرهوني 1 / 425، والدسوقي 1 / 252.
(4) فتح العزيز 3 / 301.
(5) ناقش النووي احتجاج المالكية بحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين " بأنه ليس فيه التصريح بنفي
الاستفتاح. ولو صرح بنفيه لكانت الأحاديث الصحيحة بإثباته مقدمة، لأنها
زيادة ثقات، وهي إثبات، والإثبات مقدم على النفي. (المجموع 3 / 321) .
والحديث أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 357 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(4/48)
هَذَا وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ
حَالَةَ خَشْيَةِ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْل تَمَامِ الصَّلاَةِ، فَلاَ
يَأْتِي بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ إلاَّ حَيْثُ لَمْ يَخَفْ خُرُوجَ
شَيْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا، فَإِنْ خَافَ خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ
الصَّلاَةِ عَنِ الْوَقْتِ حَرُمَ الإِْتْيَانُ بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ.
وَهُوَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِبَقِيَّةِ سُنَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ
السُّنَنَ يَأْتِي بِهَا إِذَا أَحْرَمَ فِي وَقْتٍ يَسَعُهَا وَإِنْ
لَزِمَ صَيْرُورَتُهَا قَضَاءً، قَال الشَّبْرَامَلُّسِيُّ: وَيُمْكِنُ
الْفَرْقُ بَيْنَ الاِفْتِتَاحِ وَبَقِيَّةِ السُّنَنِ بِأَنَّهُ عَهِدَ
طَلَبَ تَرْكِ دُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ فِي الْجِنَازَةِ، وَفِيمَا لَوْ
أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي رُكُوعٍ أَوِ اعْتِدَالٍ، فَانْحَطَّتْ رُتْبَتُهُ
عَنْ بَقِيَّةِ السُّنَنِ. أَوْ بِأَنَّ السُّنَنَ شُرِعَتْ مُسْتَقِلَّةً
وَلَيْسَتْ مُقَدِّمَةً لِشَيْءٍ، بِخِلاَفِ دُعَاءِ الاِفْتِتَاحِ،
فَإِنَّهُ شُرِعَ مُقَدِّمَةً لِغَيْرِهِ، يَعْنِي لِلْقِرَاءَةِ.
قَالُوا: وَلَوْ خَشِيَ إنِ اشْتَغَل بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ فَوْتَ
الصَّلاَةِ لِهُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ فِيهَا، أَوْ خَشِيَتْ طُرُوَّ
دَمِ الْحَيْضِ، فَلاَ يُشْتَغَل بِهِ كَذَلِكَ (1) .
صِيَغُ الاِسْتِفْتَاحِ الْمَأْثُورَةِ:
6 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ بِصِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ أَشْهُرُهَا
ثَلاَثٌ:
الأُْولَى: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " قَالَتْ: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ
قَال: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ،
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 / 456.
(4/49)
وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إلَهَ غَيْرُكَ.
(1) وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَفْتَحَ بِهِ (2) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَذْكُرُوا فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ " وَجَل
ثَنَاؤُكَ "، وَذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ. فَفِي شَرْحِ مُنْيَةِ
الْمُصَلِّي: إنْ زَادَ فِي دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَتَعَالَى جَدُّكَ " وَجَل ثَنَاؤُكَ " لاَ يُمْنَعُ مِنْ زِيَادَتِهِ،
وَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ لاَ يُؤْمَرُ بِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي
الأَْحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ
مِنْ قَوْلِهِمْ (3) .
الثَّانِيَةُ: عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ
قَال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ
حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ،
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَفِي رِوَايَةٍ:
وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ - اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي،
وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لاَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَِحْسَنِ الأَْخْلاَقِ
لاَ يَهْدِي لأَِحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ
يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ،
__________
(1) المجموع للنووي 3 / 320، وشرح الإقناع للبهوتي 1 / 309. وحديث عائشة
أخرجه أبو داود والحاكم مرفوعا. قال الحافظ ابن حجر: رجال إسناده ثقات، لكن
فيه انقطاع. وله طرق أخرى رواها الترمذي وابن ماجه من طريق حارثة بن أبي
الرجال. وله طريق أخرى رواها الترمذي وابن ماجه من طريق حارثة بن أبي
الرجال وهو ضعيف. والحديث صحيح موقوفا على عمر، وفي الباب عن ابن مسعود
وعدد من الصحابة (تلخيص الحبير 1 / 229 شركة الطباعة الفنية 1384 هـ،
والمستدرك 1 / 235 نشر دار الكتاب العربي)
(3) شرح منية المصلي ص 302.
(4/49)
لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ
كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ،
تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. (1)
هَل يَقُول (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَوْ (أَوَّل الْمُسْلِمِينَ) :
7 - وَدُعَاءُ التَّوَجُّهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَرَدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِرِوَايَتَيْنِ:
الأُْولَى " وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَالثَّانِيَةُ " وَأَنَا
أَوَّل الْمُسْلِمِينَ " وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَانِ.
فَلَوْ قَال الْمُسْتَفْتِحُ: (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) - وَهُوَ
الأَْوْلَى - فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ.
وَإِنْ قَال: (وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ) فَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ: تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ قَوْلَهُ هَذَا كَذِبٌ،
فَلَيْسَ هُوَ أَوَّل الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ، بَل
أَوَّلُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالأَْصَحُّ
عِنْدَهُمْ أَنَّ صَلاَتَهُ لاَ تَفْسُدُ، لأَِنَّهُ تَالٍ لِلآْيَةِ
وَحَاكٍ لاَ مُخْبِرٌ.
__________
(1) . (4)
قَال: وَقِيَاسُ ذَلِكَ أَنْ تَأْتِيَ الْمَرْأَةُ أَيْضًا بِ (حَنِيفًا
مُسْلِمًا) بِالتَّذْكِيرِ، عَلَى إِرَادَةِ الشَّخْصِ، مُحَافَظَةً عَلَى
الْوَارِدِ مَا أَمْكَنَ، فَهُمَا حَالاَنِ مِنَ الْفَاعِل أَوِ
الْمَفْعُول (5) .
الثَّالِثَةُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
__________
(1) شرح منية المصلي ص 303.
(2) حاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 173 ط مصطفى الحلبي 1343 هـ.
(3) سورة التحريم / 12.
(4) حديث " وقد لقن النبي صلى الله عليه وسلم (وأنا من المسلمين) 000 "
أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه
مرفوعا بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة قومي فاشهدي
أضحيتك فإنه يغفر لك بكل قطرة من دمها كل ذنب عملتيه وقولي: إن صلاتي ونسكي
ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. .
. . " قال الهيثمي: وفيه أبو حمزة الشمالي وهو ضعيف (مجمع الزوائد 4 / 17
نشر مكتبة القدسي 1353 هـ) .
(5) الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 2 / 167.
(4/50)
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاَةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْل
الْقِرَاءَةِ. فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا
رَسُول اللَّهِ، فِي إسْكَاتِكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا
تَقُول؟ قَال: أَقُول: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ
كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ نَقِّنِي
مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ.
اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَبِالْمَاءِ
وَالْبَرَدِ. (1)
مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الصِّيغَةِ الْمُخْتَارَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَخْتَارُونَهُ مِنَ الصِّيَغِ
الْمَأْثُورَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: قَال جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ: يَسْتَفْتِحُ
بِ (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . إلَخْ) (2) مُقْتَصِرًا
عَلَيْهِ، فَلاَ يَأْتِي بِ (وَجَّهْتُ وَجْهِي. . . إِلَخْ) (3) وَلاَ
غَيْرِهِ فِي الْفَرِيضَةِ. (4)
الثَّانِي: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُعْتَمَدِهِمْ، وَقَوْل
الآْجُرِّيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: اخْتِيَارُ الاِسْتِفْتَاحِ بِمَا فِي
خَبَرِ عَلِيٍّ " وَجَّهْتُ وَجْهِي. . . ".
قَال النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَاَلَّذِي يَلِي هَذَا
الاِسْتِفْتَاحَ فِي الْفَضْل حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَعْنِي "
اللَّهُمَّ بَاعِدْ. . . إِلَخْ ". (5)
__________
(1) المجموع للنووي 3 / 319، وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري ومسلم وأحمد
والنسائي وأبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار 2 / 191 ط المطبعة العثمانية
المصرية 1357 هـ) .
(2) سبق تخريجه (ر: ف 6) .
(3) سبق تخريجه (ر: ف 6) .
(4) شرح منية المصلي ص 302، والبحر الرائق 1 / 328، ومجموع الفتاوى 22 /
396.
(5) المجموع 3 / 320، 322، وحديث أبي هريرة سبق تخريجه (ر: ف 6) .
(4/51)
الثَّالِثُ: مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ
صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، مِنْهُمْ
أَبُو إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ "
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . " " وَوَجَّهْتُ وَجْهِي. . . "
وَنَسَبَهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ إلَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ هَذَا، وَقَدِ
اسْتَحَبَّ النَّوَوِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الاِسْتِفْتَاحُ بِمَجْمُوعِ
الصِّيَغِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا لِمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، وَلِلإِْمَامِ
إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمَأْمُومُونَ (1) وَجَمِيعُ الآْرَاءِ السَّابِقَةِ
إنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرِيضَةِ.
أَمَّا فِي النَّافِلَةِ، وَخَاصَّةً فِي صَلاَةِ اللَّيْل، فَقَدِ
اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّنَاءِ وَدُعَاءِ التَّوَجُّهِ. قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: لِحَمْل مَا وَرَدَ مِنَ الأَْخْبَارِ عَلَيْهَا، فَيَقُولُهُ
- أَيِ التَّوَجُّهَ - فِي صَلاَةِ اللَّيْل، لأَِنَّ الأَْمْرَ فِيهَا
وَاسِعٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا
اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ - كَبَّرَ ثُمَّ قَال: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ حَنِيفًا. . . (2) وَكَذَا قَال أَحْمَدُ
عَنْ سَائِرِ الأَْخْبَارِ فِي الاِسْتِفْتَاحِ سِوَى " سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . " (3) : إنَّمَا هِيَ عِنْدِي فِي
التَّطَوُّعِ. (4)
__________
(1) المجموع 1 / 320، وشرح منية المصلي ص 302، والأذكار والفتوحات الربانية
2 / 178، والبحر الرائق 1 / 328.
(2) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة. . . " أخرجه
مسلم من حديث بن أبي طالب (صحيح مسلم 1 / 534 - 536 ط عيسى الحلبي) .
(3) سبق تخريجه (ر: ف 6) .
(4) شرح منية المصلي ص 303، والفروع 1 / 303.
(4/51)
كَيْفِيَّةُ الإِْتْيَانِ بِدُعَاءِ
الاِسْتِفْتَاحِ، وَمَوْضِعُهُ:
الإِْسْرَارُ بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ:
9 - اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِسُنِّيَّةِ الاِسْتِفْتَاحِ، عَلَى أَنَّ
سُنَّتَهُ أَنْ يَقُولَهُ الْمُصَلِّي سِرًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ إمَامًا
أَمْ مَأْمُومًا أَمْ مُنْفَرِدًا، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ
الْمُتَقَدِّمُ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ فِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
كَانَ يَجْهَرُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ. . . " فَقَدْ حَمَلَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَصْدِ
تَعْلِيمِهِ النَّاسَ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: السُّنَّةُ فِيهِ الإِْسْرَارُ،
فَلَوْ جَهَرَ بِهِ كَانَ مَكْرُوهًا، وَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ. (2)
مَوْضِعُ الاِسْتِفْتَاحِ مِنَ الصَّلاَةِ:
10 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُخَالِفُونَ فِي مَوْضِعِ
الاِسْتِفْتَاحِ، فَيَمْنَعُونَ وُقُوعَهُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ
وَالْقِرَاءَةِ، وَأَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ مِنْهُمْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَأْتِي
بِهِ قَبْل تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (ف 5) .
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ
الاِسْتِفْتَاحَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، بَعْدَ تَكْبِيرَةِ
الإِْحْرَامِ، وَقَبْل التَّعَوُّذِ وَالشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ.
وَبَعْضُ مَنْ اخْتَارَ مِنْهُمْ الاِسْتِفْتَاحَ " بِسُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . " أَجَازَ أَنْ يَقُول دُعَاءَ التَّوَجُّهِ
قَبْل تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالنِّيَّةِ (ف 5) وَقَدْ سَبَقَ
__________
(1) شرح منية المصلي ص 301، والبحر الرائق 1 / 328. والأثر عن عمر رضي الله
عنه أخرجه مسلم في صحيحه بلفظ: أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: "
سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " (صحيح مسلم 1
/ 299 ط عيسى الحلبي، ونيل الأوطار 2 / 195 ط المطبعة العثمانية المصرية
1357 هـ) .
(2) الأذكار مع الفتوحات الربانية 2 / 185.
(4/52)
مَا يَتَّصِل بِمَوْضِعِ الاِسْتِفْتَاحِ
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الأَْمْرِ مَسْأَلَتَانِ:
الأُْولَى: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ سُنَّتُهُ أَنْ
يَتَّصِل بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، بِمَعْنَى أَلاَّ يَفْصِل بَيْنَ
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَبَيْنَ الاِسْتِفْتَاحِ تَعَوُّذٌ أَوْ
دُعَاءٌ، أَوْ قِرَاءَةٌ. وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا فِي
حَاشِيَةِ الْقَلْيُوبِيِّ - تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَلاَ يَفُوتُ
الاِسْتِفْتَاحُ بِقَوْلِهَا، لِنُدْرَتِهَا. (1)
أَمَّا لَوْ كَبَّرَ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ
اسْتَفْتَحَ فَلاَ بَأْسَ (2) . فَلَوْ كَبَّرَ، ثُمَّ تَعَوَّذَ سَهْوًا
أَوْ عَمْدًا لَمْ يَعُدْ إلَى الاِسْتِفْتَاحِ، لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ،
وَلاَ يَتَدَارَكُهُ فِي بَاقِي الرَّكَعَاتِ.
قَال النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ،
وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ: إِذَا تَرَكَهُ وَشَرَعَ فِي التَّعَوُّذِ
يَعُودُ إلَيْهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: لَكِنْ لَوْ خَالَفَ. وَأَتَى بِهِ بَعْدَ
التَّعَوُّذِ كُرِهَ، وَلَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ ذِكْرٌ، كَمَا
لَوْ دَعَا أَوْ سَبَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ (3) . وَسَيَأْتِي لِهَذَا
الْمَعْنَى تَكْمِيلٌ وَاسْتِثْنَاءٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ
اسْتِفْتَاحِ الْمَسْبُوقِ.
الثَّانِيَةُ: لاَ يُشْرَعُ لِتَرْكِ الاِسْتِفْتَاحِ عَمْدًا أَوْ
سَهْوًا، أَوْ لِجَهْرِ الإِْمَامِ بِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ سُجُودُ
سَهْوٍ. وَهَذَا عِنْدَ كُل مَنْ يَرَى أَنَّ الاِسْتِفْتَاحَ مُسْتَحَبٌّ،
وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ. أَمَّا مَنْ قَال بِأَنَّهُ
وَاجِبٌ - كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ -
فَيَنْبَغِي إِذَا نَسِيَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ.
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 1 / 305.
(2) نهاية المحتاج، وحاشية الرشيدي 1 / 453.
(3) المجموع 3 / 318، والأذكار مع الفتوحات 2 / 183.
(4/52)
وَالْعِلَّةُ لِتَرْكِ سُجُودِ السَّهْوِ
أَنَّ السُّجُودَ زِيَادَةٌ فِي الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ إلاَّ
بِتَوْقِيفٍ. (1)
اسْتِفْتَاحُ الْمَأْمُومِ:
11 - لاَ إشْكَال فِي مَشْرُوعِيَّةِ اسْتِفْتَاحِ كُلٍّ مِنَ الإِْمَامِ
وَالْمُنْفَرِدِ، إلاَّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الإِْمَامَ يُرَاعِي مَنْ
خَلْفَهُ، مِنْ حَيْثُ التَّطْوِيل وَالاِخْتِصَارُ فِيمَا يَسْتَفْتِحُ
بِهِ. أَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَتَعَلَّقُ بِاسْتِفْتَاحِهِ مَسْأَلَتَانِ:
الأُْولَى: يَسْتَفْتِحُ الْمَأْمُومُ سَوَاءٌ اسْتَفْتَحَ إمَامُهُ أَمْ
لَمْ يَسْتَفْتِحْ. قَال فِي شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي مِنْ كُتُبِ
الْحَنَفِيَّةِ: تِسْعَةُ أَشْيَاءَ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهَا الإِْمَامُ لاَ
يَتْرُكْهَا الْقَوْمُ، فَذَكَرَ مِنْهَا: الاِسْتِفْتَاحَ (2) .
وَهُوَ يُفْهَمُ أَيْضًا مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
الثَّانِيَةُ: إِذَا لَمْ يَسْتَفْتِحْ الْمَأْمُومُ حَتَّى شَرَعَ
الإِْمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا
عَلَى آرَاءٍ:
الأَْوَّل: قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَأْتِي الْمَأْمُومُ بِدُعَاءِ
الاِسْتِفْتَاحِ إِذَا شَرَعَ الإِْمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ الإِْمَامُ يَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهِ أَمْ يُخَافِتُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَسْتَفْتِحُ الْمَأْمُومُ إنْ كَانَ الإِْمَامُ
يُخَافِتُ بِقِرَاءَتِهِ (3) قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَعَلَّلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ بِمَا
حَاصِلُهُ أَنَّ الاِسْتِمَاعَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْجَهْرِ لَيْسَ
بِفَرْضٍ، بَل يُسَنُّ (4) .
__________
(1) شرح الإقناع 1 / 310، 362، والأذكار 2 / 185.
(2) شرح منية المصلي ص 528.
(3) الدر المختار 1 / 328.
(4) تعظيما للقراءة، فكان سنة غير مقصودة لذاتها. وليس ثناء الإمام ثناء
للمؤتم. فإذا تركه يلزمهم ترك سنة مقصودة لذاتها، للإنصات الذي هو سنة
تبعا، بخلاف تركه حال الجهر. وفي قول: يأتي بالثناء عند سكتات الإمام. وفي
قول آخر: يثني إذا كان الإمام في الفاتحة، ولا يثني في السورة. قال شارح
المنية: والأصح لا يأتي به مطلقا. (شرح منية المصلي ص 304، والبحر الرائق 1
/ 327) .
(4/53)
الثَّانِي. قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ
لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَسْتَفْتِحَ، وَلَوْ كَانَ الإِْمَامُ يَجْهَرُ
وَالْمَأْمُومُ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ لِلسُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ - فَإِنَّهُ
يُسَنُّ لِلْمَأْمُومِ الإِْنْصَاتُ لَهَا - وَبَيْنَ الاِفْتِتَاحِ -
فَيُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَهُ - بِأَنَّ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ تُعَدُّ
قِرَاءَةً لِلْمَأْمُومِ، فَأَغْنَتْ عَنْ قِرَاءَتِهِ، وَسُنَّ
اسْتِمَاعُهُ لَهَا، وَلاَ كَذَلِكَ الاِفْتِتَاحُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ
مِنْهُ الدُّعَاءُ لِلإِْمَامِ، وَدُعَاءُ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ لاَ
يُعَدُّ دُعَاءً لِغَيْرِهِ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالُوا: يُسَنُّ لَهُ
الإِْسْرَاعُ بِهِ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ إمَامِهِ (1) .
الثَّالِثُ: قَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ
يَسْتَفْتِحَ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُسِرُّ فِيهَا الإِْمَامُ، أَوِ
الَّتِي فِيهَا سَكَتَاتٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ. وَفِي كَشَّافِ
الْقِنَاعِ: أَنَّ الْمَأْمُومَ يَسْتَفْتِحُ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ
الإِْمَامُ يَجْهَرُ، إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ لاَ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ.
قَالُوا: أَمَّا إنْ لَمْ يَسْكُتِ الإِْمَامُ أَصْلاً فَلاَ يَسْتَفْتِحُ
الْمَأْمُومُ. وَإِنْ سَكَتَ الإِْمَامُ قَدْرًا يَتَّسِعُ
لِلاِسْتِفْتَاحِ اسْتَفْتَحَ الْمَأْمُومُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ كَانَ
الْمَأْمُومُ مِمَّنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الإِْمَامِ اسْتَفْتَحَ
(2) .
اسْتِفْتَاحُ الْمَسْبُوقِ:
12 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَسْتَفْتِحُ الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ
الإِْمَامَ حَال الْقِرَاءَةِ، وَفِي قَوْلٍ: يَسْتَفْتِحُ إنْ كَانَ
الإِْمَامُ يُخَافِتُ.
ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا قَامَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ يَسْتَفْتِحُ مَرَّةً
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 454.
(2) المغني 1 / 607 ط 1، وكشاف القناع 1 / 429.
(4/53)
أُخْرَى. وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْقِيَامَ
إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ يُعْتَبَرُ كَتَحْرِيمَةٍ أُخْرَى، لِلْخُرُوجِ
بِهِ مِنْ حُكْمِ الاِقْتِدَاءِ إلَى حُكْمِ الاِنْفِرَادِ (1) .
أَمَّا إنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ أَوْ فِي السَّجْدَةِ الأُْولَى مِنَ
الرَّكْعَةِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى فِي الإِْتْيَانِ بِالثَّنَاءِ
(الاِسْتِفْتَاحِ) ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ أَتَى
بِهِ يُدْرِكُ الإِْمَامَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَأْتِي
بِهِ قَائِمًا ثُمَّ يَرْكَعُ، لإِِمْكَانِ إحْرَازِ الْفَضِيلَتَيْنِ
مَعًا، فَلاَ يَفُوتُ إحْدَاهُمَا. وَمَحَل الاِسْتِفْتَاحِ هُوَ
الْقِيَامُ، فَيَفْعَلُهُ فِيهِ.
أَمَّا إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَل
بِالاِسْتِفْتَاحِ لاَ يُدْرِكُ الإِْمَامَ فِي شَيْءٍ مِنَ الرُّكُوعِ،
أَوِ السَّجْدَةِ الأُْولَى مِنَ الرَّكْعَةِ، فَإِنَّهُ يَرْكَعُ، أَوْ
يَسْجُدُ مَعَ الإِْمَامِ لِئَلاَّ تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ فِي
الرَّكْعَةِ أَوِ السَّجْدَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إحْرَازِ
فَضِيلَةِ الثَّنَاءِ، لأَِنَّ سُنِّيَّةَ الْجَمَاعَةِ آكَدُ وَأَقْوَى
مِنْ سُنِّيَّتِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَسْتَفْتِحُ الْمَأْمُومُ إِذَا أَدْرَكَ
الإِْمَامَ فِي قِيَامِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَوْ غَيْرِهَا، وَغَلَبَ
عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِهِ يُدْرِكُ الْفَاتِحَةَ قَبْل
رُكُوعِ إمَامِهِ. فَإِنْ خَافَ أَلاَّ يُدْرِكَ الْفَاتِحَةَ، فَإِنَّهُ
يَشْتَغِل بِهَا وَيَتْرُكُ الاِسْتِفْتَاحَ، لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ
وَالاِسْتِفْتَاحُ سُنَّةٌ (2) .
أَمَّا لَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الإِْمَامَ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ:
إمَّا فِي الرُّكُوعِ، وَإِمَّا فِي السُّجُودِ، وَإِمَّا فِي
التَّشَهُّدِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مَعَهُ، وَيَأْتِي بِالذِّكْرِ الَّذِي
يَأْتِي بِهِ الإِْمَامُ، وَلاَ يَأْتِي بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ فِي
الْحَال وَلاَ فِيمَا بَعْدُ (3) .
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ. قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ أَدْرَكَ
الإِْمَامَ فِي الْقُعُودِ الأَْخِيرِ، فَكَبَّرَ لِلإِْحْرَامِ،
__________
(1) شرح منية المصلي ص 304، 305.
(2) أذكار النووي ص 44.
(3) الأذكار ص 44
(4/54)
فَسَلَّمَ الإِْمَامُ قَبْل قُعُودِهِ لاَ
يَقْعُدُ، وَيَأْتِي بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ. فَإِنْ قَعَدَ قَبْل أَنْ
يَسْتَفْتِحَ فَسَلَّمَ الإِْمَامُ فَقَامَ، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي
بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَوْ أَمَّنَ الإِْمَامُ يُؤَمِّنُ الْمَسْبُوقُ،
ثُمَّ يَأْتِي بِالاِسْتِفْتَاحِ، لأَِنَّ التَّأْمِينَ فَاصِلٌ يَسِيرٌ
(1) . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
إِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الإِْمَامَ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ
الأُْولَى لَمْ يَسْتَفْتِحْ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ
مِنْ أَنَّ مَا يُدْرِكُهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ إمَامِهِ هُوَ آخِرُ
صَلاَتِهِ لاَ أَوَّلُهَا، فَإِذَا قَامَ لِلْقَضَاءِ اسْتَفْتَحَ. نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ (2) .
أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّ مَا
يُدْرِكُهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ إمَامِهِ هُوَ أَوَّل صَلاَتِهِ - فَإِنَّهُ
يَسْتَفْتِحُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (3) .
أَمَّا إِذَا أَدْرَكَهُ فِي قِيَامِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى، فَكَمَا
تَقَدَّمَ فِي اسْتِفْتَاحِ الْمَأْمُومِ (ف 9) .
الصَّلَوَاتُ الَّتِي يَدْخُلُهَا الاِسْتِفْتَاحُ وَاَلَّتِي لاَ
يَدْخُلُهَا
13 - الاِسْتِفْتَاحُ - عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ - سُنَّةٌ فِي كُل
الصَّلَوَاتِ وَفِي جَمِيعِ الأَْحْوَال. قَال النَّوَوِيُّ:
الاِسْتِفْتَاحُ مُسْتَحَبٌّ لِكُل مُصَلٍّ، مِنْ إمَامٍ، وَمَأْمُومٍ،
وَمُنْفَرِدٍ، وَامْرَأَةٍ، وَصَبِيٍّ، وَمُسَافِرٍ، وَمُفْتَرِضٍ،
وَمُتَنَفِّلٍ، وَقَاعِدٍ، وَمُضْطَجِعٍ، وَغَيْرِهِمْ. قَال: وَيَدْخُل
فِيهِ النَّوَافِل الْمُرَتَّبَةُ وَالْمُطْلَقَةُ، وَالْعِيدُ،
وَالْكُسُوفُ فِي الْقِيَامِ الأَْوَّل،
__________
(1) المجموع 3 / 318.
(2) المغني 1 / 575، وكشاف القناع 1 / 426.
(3) المغني 2 / 265
(4/54)
وَالاِسْتِسْقَاءُ. (1)
غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ اسْتَثْنَى صَلاَةَ الْجِنَازَةِ. وَفِيهَا -
وَفِي الاِسْتِفْتَاحِ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَصَلاَةِ قِيَامِ
اللَّيْل - كَلاَمٌ نُورِدُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الاِسْتِفْتَاحُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الاِسْتِفْتَاحِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ
عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل. قَوْل الْحَنَفِيَّةِ: إنَّ الاِسْتِفْتَاحَ فِيهَا
سُنَّةٌ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى، وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، فَلاَ
يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ، إذْ لاَ تُشْرَعُ الْقِرَاءَةُ عِنْدَهُمْ فِي
صَلاَةِ الْجِنَازَةِ. قَالُوا: إلاَّ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ
بِنِيَّةِ الثَّنَاءِ، لاَ بِنِيَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: يُقَدَّمُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ (أَيْ بَعْدَ
التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى) وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيْ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ) عَلَى
الدُّعَاءِ، لأَِنَّ سُنَّةَ الدُّعَاءِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ حَمْدُ
اللَّهِ وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُولِهِ. (2)
وَالْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ،
وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ صَلاَةَ
الْجِنَازَةِ مُسْتَثْنَاةٌ فَلاَ يُشْرَعُ فِيهَا اسْتِفْتَاحٌ أَصْلاً،
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ عَلَى غَائِبٍ أَوْ قَبْرٍ، قَالُوا:
لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالاِخْتِصَارِ. وَلِذَلِكَ
لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا قِرَاءَةُ سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الاِسْتِفْتَاحُ فِيهَا
كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ (3) .
__________
(1) المجموع 3 / 318، 319.
(2) البحر الرائق وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 193، 194، والبدائع 1 / 313.
(3) المجموع 3 / 319، وكشاف القناع 2 / 101، والمغني 2 / 369.
(4/55)
ثَانِيًا: الاِسْتِفْتَاحُ فِي صَلاَةِ
الْعِيدِ:
15 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمُقَدَّمُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الاِسْتِفْتَاحَ فِي صَلاَةِ الْعِيدِ بَعْدَ
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقَبْل التَّكْبِيرَاتِ الأُْخْرَى
(الزَّوَائِدِ) فِي أَوَّل الرَّكْعَةِ. فَيُكَبِّرُ لِلإِْحْرَامِ، ثُمَّ
يُثْنِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَاتِ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: يَسْتَفْتِحُ بَعْدَ
التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وَقَبْل الْقِرَاءَةِ (1) وَنَقَلَهُ
الْكَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (2)
ثَالِثًا: الاِسْتِفْتَاحُ فِي النَّوَافِل:
16 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ صَلاَةَ النَّافِلَةِ إِذَا كَانَتْ
بِأَكْثَرَ مِنْ سَلاَمٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي التَّرَاوِيحِ، وَالضُّحَى،
وَصَلاَةِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ، إِذَا كَانَتْ أَرْبَعًا وَصَلاَّهَا
بِسَلاَمَيْنِ، فَإِنَّهُ يَسْتَفْتِحُ فِي كُل رَكْعَتَيْنِ عَلَى
الأَْصْل، لأَِنَّ كُل رَكْعَتَيْنِ صَلاَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَفِي قَوْلٍ
آخَرَ عِنْدَهُمْ: يَكْتَفِي بِاسْتِفْتَاحٍ وَاحِدٍ فِي أَوَّل صَلاَتِهِ.
(3)
وَإِنْ صَلَّى النَّافِلَةَ الرُّبَاعِيَّةَ بِسَلاَمٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ النَّافِلَةَ الرُّبَاعِيَّةَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: شَبَّهُوهُ بِالْفَرِيضَةِ لِتَأَكُّدِهِ، وَهُوَ
الأَْرْبَعُ قَبْل صَلاَةِ الظُّهْرِ، وَالأَْرْبَعُ قَبْل صَلاَةِ
الْجُمُعَةِ، وَالأَْرْبَعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، فَهَذَا النَّوْعُ
لَيْسَ فِيهِ إلاَّ اسْتِفْتَاحٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، وَهُوَ مَا يَقُولُهُ فِي
__________
(1) شرح منية المصلي 1 / 303، 567، وشرح منهاج الطالبين مع حاشية القليوبي
1 / 305، والفروع 1 / 579، وكشاف القناع 2 / 46.
(2) بدائع الصنائع 1 / 277.
(3) شرح الإقناع 1 / 403، ومطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 1 / 427.
(4/55)
أَوَّل الرَّكْعَةِ الأُْولَى.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِل، وَفِي هَذَا
النَّوْعِ اسْتِفْتَاحٌ آخَرُ يَقُولُهُ فِي أَوَّل الْقِيَامِ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ. قَالُوا: وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ نَذَرَ أَنْ
يُصَلِّيَ أَرْبَعًا. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا، إلاَّ
أَنَّهُ فِي الأَْصْل نَفْلٌ عَرَضَ لَهُ الاِفْتِرَاضُ. قَالُوا:
يَسْتَفْتِحُ الْمَرَّةَ الأُْخْرَى، لأَِنَّ كُل اثْنَتَيْنِ مِنَ
الأَْرْبَعِ صَلاَةٌ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ مِنْ بَعْضِ الأَْوْجُهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مَرْوِيَّةً عَنِ
الْمُتَقَدِّمِينَ. وَإِنَّمَا هِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَال: وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ مَرَّةً
وَاحِدَةً فَقَطْ كَالنَّوْعِ الأَْوَّل (1) .
اسْتِفْتَاحُ الْقَارِئِ:
17 - الاِسْتِفْتَاحُ أَنْ يَطْلُبَ الْقَارِئُ بِقَوْلِهِ أَوْ حَالَةَ
الْفَتْحِ إِذَا اُرْتُجَّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ مَا يَقْرَأُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ فِي قِرَاءَةٍ فَنَسِيَ مَا بَعْدَ الآْيَةِ الَّتِي
يَقْرَؤُهَا، أَمْ أَرَادَ ابْتِدَاءَ الْقِرَاءَةِ فَلَمْ يَعْلَمْ مَا
يَقُول. وَالْفَتْحُ عَلَيْهِ أَنْ تُخْبِرَهُ بِمَا نَسِيَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ أَنْ
يُلْجِئَ الْمَأْمُومَ إلَى الْفَتْحِ عَلَيْهِ. وَلِلإِْمَامِ بَدَل
ذَلِكَ أَنْ يَرْكَعَ إِذَا قَرَأَ قَدْرَ الْفَرْضِ. وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ
قَدْرَ الْفَرْضِ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ. وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
(إمَامَة) (وَفَتْحٌ عَلَى الإِْمَامِ) .
الاِسْتِفْتَاحُ (بِمَعْنَى الاِسْتِنْصَارِ) :
18 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْقِتَال أَنْ يَدْعُوَ الْمُسْلِمُونَ اللَّهَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 454، 455، وحاشية الطحطاوي على الدر.
(4/56)
تَعَالَى أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ
يَنْصُرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذْكَارٌ مُعَيَّنَةٌ فِي
وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ ر: (دُعَاء) وَ (جِهَاد) .
الاِسْتِفْتَاحُ (بِمَعْنَى طَلَبِ الْعِلْمِ بِالْمَغِيبِ) :
19 - تَقَدَّمَ أَوَّل هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ اسْتِعْمَال هَذِهِ
الْكَلِمَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى دَائِرٌ فِي كَلاَمِ الْعَوَّامِ.
وَأَنَّهُ يَقِل فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي حُكْمِهِ قَوْلاَنِ لِلْفُقَهَاءِ فِي اسْتِفْتَاحِ الْفَأْل فِي
الْمُصْحَفِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ حَرَامٌ. نُقِل عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ،
وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الشَّيْخِ (ابْنِ
تَيْمِيَّةَ) . (1) وَصَرَّحَ بِهِ الْقَرَافِيُّ وَالطُّرْطُوشِيُّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ، قَال الطُّرْطُوشِيُّ: لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ
الاِسْتِقْسَامِ بِالأَْزْلاَمِ، لأَِنَّ الْمُسْتَقْسِمَ يَطْلُبُ
قَسْمَهُ مِنَ الْغَيْبِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ الْفَأْل مِنَ
الْمُصْحَفِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَقْصِدَ إنْ
خَرَجَ جَيِّدًا اتَّبَعَهُ، أَوْ رَدِيًّا اجْتَنَبَهُ، فَهُوَ عَيْنُ
الاِسْتِقْسَامِ بِالأَْزْلاَمِ الَّذِي وَرَدَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِهِ
فَيَحْرُمُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّالِثُ: الْجَوَازُ، وَنُقِل فِعْلُهُ عَنْ ابْنِ بَطَّةَ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ (2) .
__________
(1) قلت: وهو الأولى، لما في ذلك من اعتقاد معرفة الغيب.
(2) كشاف القناع ط الرياض 1 / 136، والفروق للقرافي 4 / 240.
(4/56)
اسْتِفْرَاش
التَّعْرِيفُ:
1 - يَقُول أَهْل اللُّغَةِ: إِذَا اتَّخَذَ الرَّجُل امْرَأَةً لِلَذَّةٍ
" افْتَرَشَهَا " وَلَمْ أَجِدْ مَنْ قَال: " اسْتَفْرَشَهَا ". (1)
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالاِسْتِفْرَاشِ،
وَيَقُولُونَ عَنِ الْمَرْأَةِ: مُسْتَفْرَشَةٌ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ
إلاَّ فِي الْحِل (2) .
وَلاَ يَرِدُ ذِكْرُ الاِسْتِفْرَاشِ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ - فِيمَا
نَعْلَمُ - إلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ:
الأَْوَّل: فِي الْكَفَّارَةِ فِي النِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: لِلتَّعْبِيرِ عَنِ التَّسَرِّي.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِمْتَاعُ:
2 - الاِسْتِمْتَاعُ: أَعَمُّ مِنْ الاِسْتِفْرَاشِ مُطْلَقًا، إذْ يَدْخُل
فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِالْحَلاَل وَالْحَرَامِ، وَمُتْعَةِ الْحَجِّ
وَغَيْرِهَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - الأَْصْل فِي الاِسْتِفْرَاشِ الإِْبَاحَةُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحَيْ (نِكَاحٌ) (وَتَسَرِّي) .
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس مادة (فرش) .
(2) بدائع الصنائع 3 / 1522 طبع مطبعة الإمام، والهداية بشرح فتح القدير 2
/ 418 طبع بولاق 1315 هـ.
(4/57)
اسْتِفْسَار
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِفْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَفْسَرْتُهُ كَذَا إِذَا
سَأَلْتُهُ أَنْ يُفَسِّرَهُ لِي (1) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ فِي الْفِقْهِ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ.
وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: طَلَبُ ذِكْرِ مَعْنَى اللَّفْظِ، حِينَ
تَكُونُ فِيهِ غَرَابَةٌ أَوْ إِجْمَالٌ (2) .
فَالاِسْتِفْسَارُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ أَخَصُّ مِنْهُ عِنْدَ أَهْل
اللُّغَةِ وَأَهْل الْفِقْهِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السُّؤَال:
2 - السُّؤَال هُوَ: الطَّلَبُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَبَ
تَوْضِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِكَ: سَأَلْتُهُ عَنْ كَذَا، وَسَأَلْتُ
اللَّهَ الْعَافِيَةَ. أَمَّا الاِسْتِفْسَارُ فَهُوَ خَاصٌّ بِطَلَبِ
التَّوْضِيحِ (3) .
ب - الاِسْتِفْصَال:
3 - الاِسْتِفْصَال هُوَ طَلَبُ التَّفْصِيل (ر: اسْتِفْصَالٌ) ، فَهُوَ
أَخَصُّ مِنْ الاِسْتِفْسَارِ، لأَِنَّ
__________
(1) التاج واللسان مادة: " فسر ".
(2) شرح جمع الجوامع للمحلي 2 / 331 ط مصطفى الحلبي، ومسلم الثبوت 2 / 330.
(3) المصباح مادة: " سول ".
(4/57)
التَّفْسِيرَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ
التَّفْصِيل، كَمَا فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - حُكْمُهُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
الاِسْتِفْسَارُ مِنْ آدَابِ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِذَا خَفِيَ عَلَى
الْمُنَاظِرِ مَفْهُومُ كَلاَمِ الْمُسْتَدِل لإِِجْمَالٍ أَوْ غَرَابَةٍ
فِي الاِسْتِعْمَال اسْتَفْسَرَهُ، وَعَلَى الْمُسْتَدِل بَيَانُ مُرَادِهِ
عِنْدَ الاِسْتِفْسَارِ، حَتَّى لاَ يَكُونَ هُنَاكَ لَبْسٌ وَلاَ إيهَامٌ،
وَحَتَّى تَجْرِي الْمُنَاظَرَةُ عَلَى خَيْرِ الْوُجُوهِ.
مِثَال الإِْجْمَال: أَنْ يَقُول الْمُسْتَدِل: يَلْزَمُ الْمُطَلَّقَةَ
أَنْ تَعْتَدَّ بِالأَْقْرَاءِ، فَيَطْلُبُ الْمُنَاظِرُ تَفْسِيرَ
الْقُرْءِ، لأَِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى
الْحَيْضِ.
وَمِثَال الْغَرَابَةِ قَوْلُهُ: لاَ يَحِل السِّيدُ (بِكَسْرِ السِّينِ
وَسُكُونِ الْيَاءِ) فَيَسْتَفْسِرُ الْمُنَاظِرُ مَعْنَاهُ، فَيُجِيبُهُ
بِأَنَّهُ الذِّئْبُ.
هَذَا، وَيَعُدُّ الأُْصُولِيُّونَ الاِسْتِفْسَارَ مِنْ جُمْلَةِ
الاِعْتِرَاضَاتِ بِمَعْنَى الْقَوَادِحِ، وَيُرَتِّبُونَهُ فِي
أَوَّلِهَا، (1) وَمَوْطِنُ اسْتِيفَائِهِ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
حُكْمُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْسِرَ ذَوِي الْعَلاَقَةِ الأُْمُورَ
الْغَامِضَةَ، لِيَكُونَ فِي حُكْمِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، كَاسْتِفْسَارِهِ
مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مُبْهَمٍ، وَاسْتِفْسَارِهِ الشَّاهِدَ السَّبَبَ،
كَمَا إِذَا شَهِدَا أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى
أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ التَّفْصِيل.
6 - وَقَدْ لاَ يَجِبُ الاِسْتِفْسَارُ لاِعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ،
__________
(1) شرح جمع الجوامع للمحلي 2 / 330، وفواتح الرحموت المطبوع أسفل المستصفى
2 / 330.
(4/58)
كَاسْتِفْسَارِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ
الْمُسْكِرِ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يُسْتَفْسَرُ
كَيْفِيَّةُ حُصُول الإِْكْرَاهِ، دَرْءًا لِلْحُدُودِ مَا أَمْكَنَ،
خِلاَفًا لِلأَْذْرَعِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِل بِوُجُوبِ
الاِسْتِفْسَارِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
7 - بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ أَوْرَدُوا الْمَبَادِئَ الْمَنْطِقِيَّةَ،
كَمُقَدِّمَةٍ لِعِلْمِ الأُْصُول، وَذَكَرُوا الاِسْتِفْسَارَ ضِمْنَهَا،
وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُهُ فِي مَبَاحِثِ الْقَوَادِحِ فِي الدَّلِيل.
كَمَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الإِْقْرَارِ، حِينَ الْكَلاَمِ
عَلَى الإِْقْرَارِ بِمُبْهَمٍ، وَفِي بَحْثِ طَلاَقِ الْمُكْرَهِ مِنْ
كِتَابِ الطَّلاَقِ، بِمُنَاسَبَةِ كَلاَمِهِمْ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى
شُرْبِ الْمُسْكِرِ، هَل يُسْتَفْسَرُ؟ وَفِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ،
عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى مَا يَجِبُ فِيهِ ذِكْرُ سَبَبِ الشَّهَادَةِ،
وَفِي كِتَابِ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ.
اسْتِفْصَال
التَّعْرِيفُ:
1 - يُسْتَفَادُ مِنْ سِيَاقِ عِبَارَاتِ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ
أَنَّ الاِسْتِفْصَال: طَلَبُ التَّفْصِيل. وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ
الْكَلِمَةُ فِي الْمَعَاجِمِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا،
وَهِيَ
__________
(1) القليوبي 3 / 333 ط عيسى الحلبي، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 335 ط
التجارية.
(4/58)
مَعَ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ
فِي كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً فِي لُغَةِ الْعَرَبِ.
(1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِفْسَارُ:
2 - الاِسْتِفْسَارُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: طَلَبُ ذِكْرِ مَعْنَى
اللَّفْظِ حِينَ تَكُونُ فِيهِ غَرَابَةٌ أَوْ خَفَاءٌ، وَهُوَ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ: طَلَبُ التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا. (2)
ب - السُّؤَال:
3 - السُّؤَال: الطَّلَبُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَلَبَ
تَفْصِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
حُكْمُهُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ تَرْكَ الاِسْتِفْصَال فِي
حِكَايَةِ الْحَال، مَعَ قِيَامِ الاِحْتِمَال، يَنْزِل مَنْزِلَةَ
الْعُمُومِ فِي الْمَقَال. وَمِثَالُهُ أَنَّ غَيْلاَنَ الثَّقَفِيَّ
أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ
(3) وَلَمْ يَسْأَل عَنْ كَيْفِيَّةِ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 87 ط دار إحياء الكتب، وإرشاد الفحول ص 132 ط مصطفى
الحلبي، والشرواني 10 / 275 ط الميمنية.
(2) فواتح الرحموت 2 / 330.
(3) حديث غيلان الثقفي أخرجه مالك، من حديث ابن شهاب بهذا اللفظ، وأخرجه
الشافعي وأحمد وابن ماجه والترمذي بلفظ مقارب، وأخرجه أيضا ابن حبان
والحاكم. وحكى الأشرم عن أحمد أن العمل عليه، بعد أن أعله بتفرد معمر في
وصله وتحديثه به في غير بلده. وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة. (تنوير
الحوالك شرح على موطأ مالك 2 / 102، نشر مكتبة المشهد الحسيني، ونيل
الأوطار 6 / 302 ط دار الجيل 1973 م، وتحفة الأحوذي 4 / 278 نشر السلفية) .
(4/59)
وُرُودِ عَقْدِهِ عَلَيْهِنَّ، أَكَانَ
مُرَتَّبًا أَمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؟ فَكَانَ إطْلاَقُ الْقَوْل، دَالًّا
عَلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ. (1)
وَفِي دَلاَلَةِ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ وَعَدَمِهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي
الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
حُكْمُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْصِل فِي الأُْمُورِ
الأَْسَاسِيَّةِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ الصَّحِيحُ
عَلَى مَعْرِفَتِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى أُمُورٍ وَاضِحَةٍ
لاَ لَبْسَ فِيهَا وَلاَ غُمُوضَ. (2) كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ
إذْ أَقَرَّ بِالزِّنَا، فَلَمْ يَرْجُمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ بَعْدَ أَنِ اسْتَفْصَل مِنْهُ فَقَال: لَعَلَّكَ
قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ قَال: لاَ يَا رَسُول اللَّهِ.
قَال: أَنِكْتَهَا لاَ يُكَنِّي قَال فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ.
(3)
فَلَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَالاً
لاِحْتِمَال التَّجَوُّزِ.
6 - وَهُنَاكَ أُمُورٌ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الأَْهَمِّيَّةِ فَيُنْدَبُ
فِيهَا لِلْحَاكِمِ الاِسْتِفْصَال وَلاَ يَجِبُ، كَمَا إِذَا لَمْ
يُبَيِّنْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ جِهَةَ تَحَمُّلِهَا،
وَوَثِقَ الْقَاضِي بِمَعْرِفَةِ الشَّاهِدِ عَلَى الشَّاهِدِ بِشَرَائِطِ
التَّحَمُّل، وَكَانَ مُوَافِقًا لِلْقَاضِي فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ،
فَيُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْصِلَهُ، فَيَسْأَلَهُ: بِأَيِّ سَبَبٍ ثَبَتَ
هَذَا الْمَال؟ وَهَل أَخْبَرَك بِهِ الأَْصْل (الشَّاهِدُ الأَْصْلِيُّ)
أَوَّلاً وَكَمَا إِذَا شَهِدَ الْمُغَفَّل الَّذِي لاَ يَضْبِطُ دَائِمًا
أَوْ غَالِبًا، وَبَيَّنَ
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 289 ط بولاق، والفروق للقرافي 2 / 87، والتقرير
والتحبير 1 / 234 ط بولاق، وتيسير التحرير 1 / 366 ط صبيح، وإرشاد الفحول ص
132.
(2) القليوبي 4 / 38 ط الحلبي.
(3) حديث ماعز أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه (فتح الباري 12
/ 113 ط مطبعة الهيئة المصرية) .
(4/59)
سَبَبَ الشَّهَادَةِ، كَأَشْهَدُ أَنَّ
لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفًا قَرْضًا، فَيُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ
اسْتِفْصَالُهُ فِيهِ. (1)
7 - عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ الاِسْتِفْصَال لاِعْتِبَارَاتٍ
خَاصَّةٍ، كَمَا إِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكٌ لَهُ،
أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ أَنَّهُ دُونَ
نِصَابٍ، أَوْ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ فِي الأَْخْذِ، لَمْ يُقْطَعْ،
وَلاَ يُسْتَفْصَل فِي دَعْوَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ عُلِمَ
كَذِبُهُ، نَظَرًا إلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - يَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ الاِسْتِفْصَال فِي مَبَاحِثِ الْعَامِّ
مَعَ صِيَغِ الْعُمُومِ.
كَمَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابِ: الْقَذْفِ وَاللِّعَانِ،
وَالسَّرِقَةِ، وَالشَّهَادَاتِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَقَدَّمَ.
اسْتِقَاءَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِقَاءَةُ: طَلَبُ الْقَيْءِ، وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ مَا فِي
الْجَوْفِ عَمْدًا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 307 ط الحلبي، والشرواني 10 / 275، وشرح المنهج
بحاشية الجمل 5 / 403 ط الميمنية، والقليوبي 4 / 322، 331.
(2) القليوبي 4 / 187.
(3) لسان العرب المحيط، والنهاية في غريب الحديث والأثر. مادة: (قيأ) .
(4/60)
اللُّغَوِيِّ. (1) فَإِنْ ذَرَعَهُ
الْقَيْءُ أَيْ: غَلَبَهُ وَسَبَقَهُ فَهُوَ يَخْتَلِفُ عَنْ
الاِسْتِقَاءَةِ الَّتِي بِهَا طَلَبٌ وَاسْتِدْعَاءٌ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِقَاءَةُ الْوَارِدَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَكْثَرُ مَا
يَكُونُ وُرُودُهَا فِي الصِّيَامِ، لِتَأْثِيرِهَا فِيهِ. وَيَرَى
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا اسْتَقَاءَ مُتَعَمِّدًا
أَفْطَرَ، (3) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنِ
اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ. (4)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا مِلْءَ الْفَمِ
أَفْطَرَ، لأَِنَّ مَا دُونَ مِلْءِ الْفَمِ تَبَعٌ لِلرِّيقِ. (5)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَأْتِي الْكَلاَمُ عَنْ الاِسْتِقَاءَةِ فِي الْغَالِبِ فِي بَابِ
الصَّوْمِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَمَّا يُفْسِدُ الصِّيَامَ. كَمَا تَرِدُ
فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.
__________
(1) المغني 3 / 117 ط الرياض، والمصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 114 ط بولاق، والمغني 3 / 117 ط الرياض.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 114 ط بولاق، والحطاب على خليل 2 / 427 ط النجاح،
وحاشية عمير مع القليوبي 2 / 55 ط عيسى الحلبي، والمغني 3 / 117 - 118 ط
الرياض، ومسائل الإمام أحمد ص 90 ط بيروت.
(4) حديث " من ذرعه القيء. . . . " أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي
هريرة. أعله أحمد وقواه الدارقطني. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال محمد
- يعني البخاري - لا أراه محفوظا (نصب الراية 2 / 448 مطبوعات المجلس
العلمي. وتحفة الأحوذي 3 / 409 نشر المكتبة السلفية) .
(5) الاختيار للموصلي 1 / 132 ط دار المعرفة.
(4/60)
اسْتِقْبَال
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِقْبَال فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَقْبَل الشَّيْءَ إِذَا
وَاجَهَهُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لَيْسَتَا لِلطَّلَبِ،
فَاسْتَفْعَل هُنَا بِمَعْنَى فَعَل، كَاسْتَمَرَّ وَاسْتَقَرَّ وَمِثْلُهُ
الْمُقَابَلَةُ. (1)
وَيُقَابِلُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى الاِسْتِدْبَارُ.
وَيَرِدُ الاِسْتِقْبَال فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بِمَعْنَى:
الاِسْتِئْنَافِ، يُقَال اقْتَبَل الأَْمْرَ وَاسْتَقْبَلَهُ: إِذَا
اسْتَأْنَفَهُ. (2)
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَيْنِ الإِْطْلاَقَيْنِ
فَيَقُولُونَ: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ أَيْ مُقَابَلَتُهَا وَيَقُولُونَ:
اسْتَقْبَل حَوْل الزَّكَاةِ أَيِ: ابْتَدَأَهُ وَاسْتَأْنَفَهُ. (3)
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ إطْلاَقَهُ عَلَى طَلَبِ الْقَبُول الَّذِي
يُقَابِل الإِْيجَابَ فِي الْعُقُودِ، فَقَالُوا: يَصِحُّ الْبَيْعُ
بِالاِسْتِقْبَال، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ: اشْتَرِ مِنِّي، فَإِنَّهُ
اسْتِقْبَالٌ قَائِمٌ مَقَامَ الإِْيجَابِ، وَمِثْل الْبَيْعِ الرَّهْنُ،
فَيَصِحُّ بِنَحْوِ: ارْتَهِنْ دَارِي بِكَذَا. (4)
__________
(1) المصباح واللسان (قبل) ، والبحر الرائق 1 / 299 ط المطبعة العلمية، ورد
المحتار 1 / 286 ط أولى.
(2) الأساس للزمخشري (قبل) .
(3) منح الجليل 1 / 348 ط بولاق.
(4) البجيرمي على المنهج 2 / 167 ط التجارية، والشرواني 5 / 51 ط الميمنية.
(4/61)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الاِسْتِئْنَافُ:
2 - الاِسْتِئْنَافُ: ابْتِدَاءُ الأَْمْرِ، (1) وَعَلَيْهِ فَهُوَ
مُرَادِفٌ لِلاِسْتِقْبَال فِي أَحَدِ إطْلاَقَاتِهِ.
ب - الْمُسَامَتَةُ:
3 - الْمُسَامَتَةُ بِمَعْنَى: الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَاةِ، وَهِيَ
مُرَادِفَةٌ لِلاِسْتِقْبَال عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الاِسْتِقْبَال
بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ بِلاَ انْحِرَافٍ
يَمْنَةً وَلاَ يَسْرَةً. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي
الاِسْتِقْبَال هَذَا الشَّرْطَ كَالْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا
بَيْنَهُمَا، فَخَصُّوا الْمُسَامَتَةَ بِاسْتِقْبَال عَيْنِ الشَّيْءِ
تَمَامًا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَجَعَلُوا الاِسْتِقْبَال أَعَمَّ مِنْ
ذَلِكَ، لِصِدْقِهِ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ عَنْ مُحَاذَاةِ
الْعَيْنِ.
ج - الْمُحَاذَاةُ:
4 - الْمُحَاذَاةُ بِمَعْنَى: الْمُوَازَاةِ. (2) وَمَا قِيل فِي
الْمُسَامَتَةِ يُقَال هُنَا أَيْضًا.
د - الاِلْتِفَاتُ:
5 - الاِلْتِفَاتُ صَرْفُ الْوَجْهِ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَال.
وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الاِنْحِرَافُ بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ أَيْضًا كَمَا
وَرَدَ فِي مُسْنَدِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: " فَجَعَلَتْ تَلْتَفِتُ
خَلْفَهَا " وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَوُّل إلَى خَلْفٍ لاَ يَكُونُ إلاَّ
بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ (3) .
__________
(1) المصباح (أنف) .
(2) المصباح (حذو) ، والزرقاني 3 / 185.
(3) المصباح (لفت) ، ومسند أحمد 6 / 11 ط الميمنية، وفتح الباري 2 / 234 ط
السلفية.
(4/61)
6 - هَذَا وَالاِسْتِقْبَال عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ قَدْ يَكُونُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَقَدْ يَكُونُ إلَى غَيْرِ
الْقِبْلَةِ. وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ قَدْ يَكُونُ فِي الصَّلاَةِ،
وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الأَْقْسَامِ وَاحِدًا بَعْدَ الآْخَرِ.
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، لأَِنَّهُ لَوْ نُقِل
بِنَاؤُهَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَصُلِّيَ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ. (1)
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ النَّاسَ يُقَابِلُونَهَا فِي صَلاَتِهِمْ.
وَمَا فَوْقَ الْكَعْبَةِ إلَى السَّمَاءِ يُعَدُّ قِبْلَةً، وَهَكَذَا مَا
تَحْتَهَا مَهْمَا نَزَل، فَلَوْ صَلَّى فِي الْجِبَال الْعَالِيَةِ
وَالآْبَارِ الْعَمِيقَةِ جَازَ مَا دَامَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهَا،
لأَِنَّهَا لَوْ زَالَتْ صَحَّتِ الصَّلاَةُ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلأَِنَّ
الْمُصَلِّي عَلَى الْجَبَل يُعَدُّ مُصَلِّيًا إلَيْهَا (2) .
اسْتِقْبَال الْحِجْرِ:
8 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَل
الْمُصَلِّي الْحِجْرَ دُونَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ، لأَِنَّ كَوْنَهُ
مِنَ الْبَيْتِ مَظْنُونٌ لاَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهُوَ لاَ يُكْتَفَى بِهِ
فِي الْقِبْلَةِ احْتِيَاطًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى جَوَازِ
الصَّلاَةِ إلَى الْحِجْرِ، لأَِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ، لِلْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
الْحِجْرُ مِنَ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 406 ط الحلبي، ورد المحتار 1 / 290.
(2) البحر الرائق 1 / 299، 300، ونهاية المحتاج 1 / 407، 417، 418، ورد
المحتار 1 / 290، وحاشية الدسوقي 1 / 224، 299، والشرح الكبير مع المغني 1
/ 490 ط الأولى، وكشاف القناع 1 / 274، والجمل على المنهج 1 / 313، والتاج
والمصباح (كعب) .
(4/62)
الْبَيْتِ. (1) وَفِي رِوَايَةٍ: سِتُّ
أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ (2) وَلأَِنَّهُ لَوْ طَافَ فِيهِ
لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ. وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ الأَْصَحِّ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَقَدَّرَهُ
الْحَنَابِلَةُ بِسِتِّ أَذْرُعٍ وَشَيْءٍ، فَمَنِ اسْتَقْبَل عِنْدَهُمْ
مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ أَلْبَتَّةَ. عَلَى أَنَّ
هَذَا التَّقْدِيرَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الطَّوَافِ، أَمَّا
بِالنِّسْبَةِ لَهُ فَلاَ بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ عَنْ جَمِيعِهِ احْتِيَاطًا
(3) .
حُكْمُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
9 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ
__________
(1) حديث " الحجر من البيت ". أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي
بهذا المعنى من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا، ولفظ الشيخين في إحدى
الروايات عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " سألت النبي صلى الله عليه
وسلم عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟
قال: إن قومك قصرت بهم النفقة " وفي رواية لمسلم أن عائشة رضي الله عنها
قالت: " سألت ر (فتح الباري 3 / 439 - 443 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 973 ط عيسى الحلبي 1374 هـ، وجامع الأصول 9 / 294
وما بعدها نشر مكتبة الحلواني 1392 هـ) .
(2) حديت " ست أذرع من الحجر. . ". أخرجه مسلم من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "
يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت
لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا
اقتصرتها حيث بنت الكعبة " (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 /
969، 970 ط عيسى الحلبي، وجامع الأصول 9 / 296 نشر مكتبة الحلواني 1392 هـ)
.
(3) رد المحتار 1 / 286 ط الأولى، ونهاية المحتاج 1 / 418، وحاشية الدسوقي
1 / 229، والمجموع للنووي 3 / 192 ط المنيرية، وكشاف القناع 1 / 274.
(4/62)
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أَيْ جِهَتَهُ. (1)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا
الاِسْتِقْبَال، كَصَلاَةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ،
وَنَفْل السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا، (2) وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ
نِيَّةَ الاِسْتِقْبَال لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَلَى الرَّاجِحِ، اُنْظُرِ
الْكَلاَمَ عَلَى النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ. (3)
تَرْكُ الاِسْتِقْبَال:
10 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلاَةِ تَحْوِيل
الْمُصَلِّي صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ اتِّفَاقًا، وَإِنْ
تَعَمَّدَ الصَّلاَةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَلَى سَبِيل
الاِسْتِهْزَاءِ يَكْفُرُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ مَعَ الْقَوَاعِدِ
الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا إِذَا صَلَّى بِلاَ تَحَرٍّ فَظَهَرَ
أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ،
لِبِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ
الصَّلاَةِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ مَا فُرِضَ لِغَيْرِهِ -
كَالاِسْتِقْبَال الْمَشْرُوطِ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ - يُشْتَرَطُ
حُصُولُهُ لاَ تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ حَصَل وَلَيْسَ فِيهِ بِنَاءُ
الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ. (4)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ لِجِهَةٍ فَخَالَفَهَا
وَصَلَّى مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ،
وَيُعِيدُ أَبَدًا. وَأَمَّا لَوْ صَلَّى لِغَيْرِهَا نَاسِيًا وَصَادَفَ
الْقِبْلَةَ فَهَل يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْخِلاَفِ مَا يَجْرِي فِي
__________
(1) سورة البقرة / 144.
(2) شرح الروض 1 / 133، والبحر الرائق 1 / 299، والمغني 1 / 431 ط الرياض،
ومواهب الجليل 1 / 507.
(3) ابن عابدين 1 / 285.
(4) ابن عابدين 1 / 55، 292.
(4/63)
النَّاسِي إِذَا أَخْطَأَ، أَوْ يُجْزَمُ
بِالصِّحَّةِ لأَِنَّهُ صَادَفَ وَهُوَ الظَّاهِرُ؟ .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ اسْتِقْبَالُهَا بِجَهْلٍ
وَلاَ غَفْلَةٍ وَلاَ إكْرَاهٍ وَلاَ نِسْيَانٍ، فَلَوْ اسْتَدْبَرَ
نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّ (1) لَوْ عَادَ عَنْ قُرْبٍ. (2) وَيُسَنُّ عِنْدَ
ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ لأَِنَّ تَعَمُّدَ الاِسْتِدْبَارِ
مُبْطِلٌ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ أُمِيل عَنْهَا قَهْرًا فَإِنَّهَا
تَبْطُل، وَإِنْ قَل الزَّمَنُ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ. (3) وَلَوْ دَخَل فِي
الصَّلاَةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْخَطَأُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِأَنَّ مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ
اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ شُرِطَ اسْتِقْبَالُهَا. كَمَا نَصُّوا
فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلاَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لاَ تَسْقُطُ
عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً. (4)
هَذَا، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَوْل أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ
نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا حَوَّل وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ عَنِ
الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ، حَيْثُ بَقِيَتْ رِجْلاَهُ إلَى
الْقِبْلَةِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ
بِلاَ ضَرُورَةٍ، وَقَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ مُعَايِنِ
الْكَعْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، فَإِنْ خَرَجَ
مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ أُصْبُعًا مِنْ سَمْتِهَا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. (5)
__________
(1) عبارة حاشية الجمل " المطبوعة ": مطبوع حاشية الجمل: " لم يصح " وهو
تحريف عما أثبت. ر: القليوبي 1 / 132 ط الحلبي.
(2) الجمل 1 / 312.
(3) نهاية المحتاج 1 / 418، 428، وانظر حكم استقبال النساء لجماعة العراة
(شرح الروض 1 / 177 شروط الصلاة - ستر العورة) .
(4) مطالب أولي النهى 1 / 536.
(5) الزرقاني 1 / 219، ومواهب الجليل 1 / 508 وكشاف القناع 1 / 369 ط
الرياض.
(4/63)
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ اسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّدْرِ لاَ
بِالْوَجْهِ، خِلاَفًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْله
تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لأَِنَّ
الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا الذَّاتُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الذَّاتِ
بَعْضُهَا وَهُوَ الصَّدْرُ فَهُوَ مَجَازٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مَجَازٍ. (1)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الاِسْتِقْبَال
بِالْقَدَمَيْنِ.
أَمَّا الاِسْتِقْبَال بِالْوَجْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ، وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ
عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ.
وَهَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ. أَمَّا الَّذِي يُصَلِّي
مُسْتَلْقِيًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِعَجْزِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا
الاِسْتِقْبَال بِالْوَجْهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي صَلاَةِ
الْمَرِيضِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
فِي الاِسْتِقْبَال التَّوَجُّهُ بِالصَّدْرِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الَّذِي
لاَ بُدَّ مِنْهُ فَهُوَ التَّوَجُّهُ بِالرِّجْلَيْنِ.
عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَعَرَّضُوا لأَِعْضَاءٍ أُخْرَى يَسْتَقْبِل
بِهَا الْمُصَلِّي الْقِبْلَةَ فِي مُنَاسِبَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ
الصَّلاَةِ، نَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ إلَى بَعْضِهَا دُونَ تَفْصِيلٍ
لِكَوْنِهَا بِتِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَلْصَقَ، وَلِسِيَاقِ الْفُقَهَاءِ
أَنْسَبَ مِنْ جِهَةٍ، وَتَفَادِيًا لِلتَّكْرَارِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.
وَمِنْ ذَلِكَ:
اسْتِحْبَابِ الاِسْتِقْبَال بِبُطُونِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي
__________
(1) ابن عابدين 1 / 432، ونهاية المحتاج 1 / 406، والجمل على المنهج 1 /
312.
(2) نهاية المحتاج 1 / 406، والجمل على المنهج 1 / 312، وشرح الروض 1 /
147، وانظر صلاة الجالس والمستلقي. المغني 1 / 783، وكشاف القناع 1 / 370.
(4/64)
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَبِالْيَدَيْنِ
وَبِأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَبِأَصَابِعِ يُسْرَاهُ فِي
التَّشَهُّدِ. وَذَلِكَ حِينَ الْكَلاَمِ عَلَى " صِفَةِ الصَّلاَةِ ". (1)
فَمَنْ أَرَادَهَا بِالتَّفْصِيل فَلْيَرْجِعْ إلَى مَوَاطِنِهَا هُنَاكَ.
اسْتِقْبَال الْمَكِّيِّ لِلْقِبْلَةِ:
اسْتِقْبَال الْمَكِّيِّ الْمُعَايِنِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ
يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ فَعَلَيْهِ إصَابَةُ عَيْنِهَا فِي الصَّلاَةِ، أَيْ
مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، وَلاَ يَكْفِي
الاِجْتِهَادُ وَلاَ اسْتِقْبَال جِهَتِهَا، لأَِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى
الْيَقِينِ وَالْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ الاِجْتِهَادِ وَالْجِهَةِ
الْمُعَرَّضَيْنِ لِلْخَطَأِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنِ انْحَرَفَ عَنْ
مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فَهُوَ لَيْسَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَهُ. (2)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ - وَأَقَرُّوهُ - أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي مَكَّةَ وَمَا فِي
حُكْمِهَا مِمَّنْ تُمْكِنُهُ الْمُسَامَتَةُ لَوِ اسْتَقْبَل طَرَفًا مِنَ
الْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ وَخَرَجَ بَاقِيهِ - لَوْ عُضْوًا وَاحِدًا
- عَنِ اسْتِقْبَالِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي التَّوَجُّهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ.
(3)
__________
(1) كشاف القناع 1 / 307، 323، 356، 360 ط الرياض، والزرقاني 1 / 213، وشرح
الروض 1 / 162.
(2) رد المحتار 1 / 287، والدسوقي 1 / 223، ونهاية المحتاج 1 / 408، والشرح
الكبير مع المغني 1 / 489، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 115.
(3) نهاية المحتاج 1 / 417، 418، والدسوقي 1 / 223، والشرح الكبير مع
المغني 1 / 489، والفروع 1 / 278، والمجموع 1 / 192 ط الأولى.
(4/64)
صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ قُرْبَ الْكَعْبَةِ:
13 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ
مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ إنِ امْتَدَّ صَفٌّ
طَوِيلٌ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمُحَاذَاةِ
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، لِعَدَمِ اسْتِقْبَالِهِمْ لَهَا، بِخِلاَفِ الْبُعْدِ
عَنْهَا، فَيُصَلُّونَ فِي حَالَةِ الْقُرْبِ دَائِرَةً أَوْ قَوْسًا إنْ
قَصُرُوا عَنِ الدَّائِرَةِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى
هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَى يَوْمِنَا هَذَا (1) .
اسْتِقْبَال الْمَكِّيِّ غَيْرِ الْمُعَايِنِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ
حَائِلٌ فَهُوَ كَالْغَائِبِ عَلَى الأَْصَحِّ، فَيَكْفِيهِ اسْتِقْبَال
الْجِهَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل مَذْهَبِهِمْ فِي إصَابَةِ الْجِهَةِ فِي
" اسْتِقْبَال الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ ". وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَل بِالْمَسْجِدِ مِنْ أَهْل
مَكَّةَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ، وَهُوَ
قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَتَفْصِيل مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا إصَابَةَ
الْعَيْنِ يَقِينًا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ أَوْ نَاشِئًا
بِهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ مُحْدَثٍ كَالْحِيطَانِ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ
فَفَرْضُهُ الْخَبَرُ، كَمَا إِذَا وَجَدَ مُخْبِرًا يُخْبِرُهُ عَنْ
يَقِينٍ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا نَزَل بِمَكَّةَ فَأَخْبَرَهُ أَهْل الدَّارِ
بِهَا. (3)
__________
(1) رد المحتار 1 / 288، 613، والدسوقي 1 / 223، ونهاية المحتاج 1 / 418.
(2) قال الرافعي في تقريره على ابن عابدين 1 / 52: " ليس في عبارته (يعني
عبارة الفتح) دلالة على أنه لا يصار إلى الجهة مع إمكان التعيين. واستقبال
الجهة فيه إصابة جزء من العين كما يأتي عن المعراج، والتصحيح الصريح أقوى
".
(3) رد المحتار 1 / 287، والدسوقي 1 / 223، والمغني 1 / 456.
(4/65)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَى
مَنْ نَشَأَ بِمَكَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ إصَابَةُ الْعَيْنِ
إنْ تَيَقَّنَ إصَابَتَهَا، وَإِلاَّ جَازَ لَهُ الاِجْتِهَادُ لِمَا فِي
تَكْلِيفِهِ الْمُعَايَنَةَ مِنَ الْمَشَقَّةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ ثِقَةً
يُخْبِرُهُ عَنْ عِلْمٍ. (1)
15 - الاِسْتِقْبَال عِنْدَ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْكَعْبَةِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى صِحَّةِ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ دَاخِل
الْكَعْبَةِ. مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالثَّوْرِيُّ،
لِحَدِيثِ بِلاَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ. (2) قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ
اسْتِقْبَال جُزْءٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ
الْجُزْءُ قِبْلَةً بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ.
وَمَتَى صَارَ قِبْلَةً فَاسْتِدْبَارُ غَيْرِهِ لاَ يَكُونُ مُفْسِدًا.
وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ صَلَّى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى
لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ صَارَ مُسْتَدْبِرًا الْجِهَةَ الَّتِي صَارَتْ
قِبْلَةً فِي حَقِّهِ بِيَقِينٍ بِلاَ ضَرُورَةٍ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تُصَلَّى الْفَرِيضَةُ
وَالْوِتْرُ فِي الْكَعْبَةِ، لأَِنَّهَا مِنَ الْمَوَاطِنِ السَّبْعِ
الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْخْلاَل
بِالتَّعْظِيمِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (3) قَالُوا: وَالشَّطْرُ: الْجِهَةُ. وَمَنْ صَلَّى
فِيهَا أَوْ عَلَى سَطْحِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِجِهَتِهَا،
وَلأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَدْبِرًا مِنَ الْكَعْبَةِ مَا لَوِ
اسْتَقْبَلَهُ مِنْهَا وَهُوَ فِي خَارِجِهَا صَحَّتْ صَلاَتُهُ،
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 420.
(2) حديث بلال: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة ". أخرجه
البخاري (1 / 500 - الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 967 ط الحلبي) .
(3) سورة البقرة / 144.
(4/65)
وَلأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى
ظَهْرِهَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَبْعُ
مَوَاطِنَ لاَ تَجُوزُ فِيهَا الصَّلاَةُ: ظَهْرُ بَيْتِ اللَّهِ
وَالْمَقْبَرَةُ. . إِلَخْ (1) ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى النَّهْيِ عَنِ
الصَّلاَةِ فِيهَا لأَِنَّهَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. وَتَوَجُّهُ
الْمُصَلِّي فِي دَاخِلِهَا إلَى الْجِدَارِ لاَ أَثَرَ لَهُ، إذِ
الْمَقْصُودُ الْبُقْعَةُ، بِدَلِيل أَنَّهُ يُصَلِّي لِلْبُقْعَةِ حَيْثُ
لاَ جِدَارَ. وَإِنَّمَا جَازَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ مَعَ أَنَّهُ أَعْلَى
مِنْ بِنَائِهَا لأَِنَّ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ مُصَلٍّ لَهَا، وَأَمَّا
الْمُصَلِّي عَلَى ظَهْرِهَا فَهُوَ فِيهَا.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ الصَّلاَةِ فِي الْكَعْبَةِ
مَعَ الْكَرَاهَةِ. (2)
الاِسْتِقْبَال عِنْدَ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ:
16 - وَأَمَّا صَلاَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَقَدْ
أَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ
عِنْدَهُمْ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ
جَوَازِ الْفَرْضِ وَالْوِتْرِ عَلَيْهَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي
الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
صَلاَةُ النَّافِلَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهَا:
17 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ إلَى جَوَازِ صَلاَةِ النَّفْل
الْمُطْلَقِ دَاخِل الْكَعْبَةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهَا، وَلِلأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى
صِحَّةِ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ، وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِهَا
__________
(1) حديث: " سبع مواطن. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 246 ط الحلبي) ، ونقل
المناوي تضعيفه عن الذهبي في الفيض (4 / 88 ط المكتبة التجارية) .
(2) رد المحتار 1 / 612، والدسوقي 1 / 229، والمجموع للنووي 1 / 194،
ونهاية المحتاج 1 / 417 فما بعدها، 2 / 61، وكشاف القناع 1 / 270، 274.
(4/66)
فِي الْكَعْبَةِ كَذَلِكَ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: الْحُرْمَةُ بِأَدِلَّتِهِمْ
عَلَى مَنْعِ الْفَرِيضَةِ، وَالْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى النَّفْل
الْمُطْلَقِ، وَالثَّالِثُ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَذَهَبَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ لاَ
تَصِحُّ صَلاَةُ النَّافِلَةِ فِيهَا.
أَمَّا صَلاَةُ النَّافِلَةِ عَلَى ظَهْرِهَا فَتَجُوزُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ
لِلْمَالِكِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي اسْتِقْبَال الْهَوَاءِ
أَوِ اسْتِقْبَال قِطْعَةٍ مِنَ الْبِنَاءِ وَلَوْ مِنْ حَائِطِ السَّطْحِ.
هَذَا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ
لِبُعْدِهِ عَنِ الأَْدَبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرِيضَةِ.
هَذَا، وَمَا وَرَدَ فِي شَأْنِ الصَّلاَةِ فِي الْكَعْبَةِ يَرِدُ فِي
الْحِجْرِ (الْحَطِيمِ) لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْكَعْبَةِ. (1)
18 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، إلَى أَنَّ الصَّلاَةَ
الَّتِي تَجُوزُ فِي الْكَعْبَةِ، تَصِحُّ لأَِيِّ جِهَةٍ وَلَوْ لِجِهَةِ
بَابِهَا مَفْتُوحًا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَقْبِل شَيْئًا فِي هَذِهِ الْحَال،
لأَِنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الْعَرْصَةُ وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ
السَّمَاءِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْبِنَاءُ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ نُقِل إلَى
عَرْصَةٍ أُخْرَى وَصَلَّى إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَلأَِنَّهُ لَوْ صَلَّى
عَلَى جَبَل أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ بِالإِْجْمَاعِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ
يُصَل إلَى الْبِنَاءِ. (2) وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِجَوَازِ الصَّلاَةِ
فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَيْهَا أَنْ يَسْتَقْبِل جِدَارًا مِنْهَا أَيًّا
كَانَ، أَوْ يَسْتَقْبِل الْبَابَ إنْ كَانَ مَفْتُوحًا وَكَانَ لَهُ
عَتَبَةٌ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ الآْدَمِيِّ تَقْرِيبًا عَلَى
الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ
__________
(1) رد المحتار 1 / 290، 612، والدسوقي 1 / 229، والمجموع للنووي 1 / 194،
ونهاية المحتاج 1 / 417 فما بعدها، وكشاف القناع 1 / 274.
(2) قال الرافعي في تقريره 1 / 125: لم يظهر عدم صحة الاقتداء في صورة ما
إذا قام المقتدي في داخل الكعبة أمام الإمام، وهو في خارجها وجهه لظهر
المقتدي، إذ الجهة مختلفة، فإن الإمام إذا استقبل باب الكعبة مثلا يكون
مستقبلا جهة الباب، والمقتدي مستدبر لها مستقبل وانظر الدسوقي 1 / 228.
(4/66)
هَذَا الْمِقْدَارَ هُوَ سُتْرَةُ
الْمُصَلِّي فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرُهَا. (1)
وَاخْتَارَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ
يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا شَاخِصٌ يَتَّصِل بِهَا، كَالْبِنَاءِ وَالْبَابِ
وَلَوْ مَفْتُوحًا، فَلاَ اعْتِبَارَ بِالآْجُرِّ غَيْرِ الْمَبْنِيِّ،
وَلاَ الْخَشَبِ غَيْرِ الْمَسْمُورِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ،
لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوا ارْتِفَاعَ الشَّاخِصِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ
أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنَ
الْكَعْبَةِ إِذَا سَجَدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاخِصٌ، اخْتَارَهَا
الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ. (2)
اسْتِقْبَال الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ:
19 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَكْفِي
الْمُصَلِّي الْبَعِيدَ عَنْ مَكَّةَ اسْتِقْبَال جِهَةِ الْكَعْبَةِ
بِاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ، فَيَكْفِي غَلَبَةُ
ظَنِّهِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَمَامَهُ، وَلَوْ لَمْ
يُقَدَّرْ أَنَّهُ مُسَامِتٌ وَمُقَابِلٌ لَهَا.
وَفَسَّرَ الْحَنَفِيَّةُ جِهَةَ الْكَعْبَةِ بِأَنَّهَا الْجَانِبُ
الَّذِي إِذَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ الإِْنْسَانُ يَكُونُ مُسَامِتًا
لِلْكَعْبَةِ، أَوْ هَوَائِهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْرِيبًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِالآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (3) وَقَالُوا: شَطْرَ الْبَيْتِ نَحْوَهُ
وَقِبَلَهُ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 406، والمجموع 3 / 194.
(2) كشاف القناع 1 / 274.
(3) سورة البقرة / 144 ص.
(4/67)
وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ (1)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَمَا فِي
حُكْمِهَا مِنَ الأَْمَاكِنِ الْمَقْطُوعِ بِقِبْلَتِهَا، عَلَى مَا
سَيَأْتِي فِي اسْتِقْبَال الْمَحَارِيبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لاِبْنِ الْقَصَّارِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو
الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ تَلْزَمُ إصَابَةُ الْعَيْنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أَيْ جِهَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْجِهَةِ هُنَا
الْعَيْنُ؛ وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ هُنَا الْعَيْنُ أَيْضًا،
لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ قِبَل الْكَعْبَةِ، وَقَال: هَذِهِ الْقِبْلَةُ
فَالْحَصْرُ هُنَا يَدْفَعُ حَمْل الآْيَةِ عَلَى الْجِهَةِ. وَإِطْلاَقُ
الْجِهَةِ عَلَى الْعَيْنِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا
(2) .
اسْتِقْبَال أَهْل الْمَدِينَةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ
إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى أَهْل الْمَدِينَةِ - كَغَيْرِهَا -
الاِجْتِهَادُ لإِِصَابَةِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ جَارٍ مَعَ الأَْصْل
فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ.
__________
(1) رد المحتار 1 / 287، والدسوقي 1 / 224، والشرح الكبير مع المغني 1 /
489. وحديث " ما بين المشرق. . . إلخ " أخرجه الترمذي (2 / 171، 173 ط
الحلبي) وقواه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي.
(2) الدسوقي 1 / 224، ونهاية المحتاج 1 / 407، 418، والجمل 1 / 313، والشرح
الكبير مع المغني 1 / 489. وحديث: " ركع ركعتين قبل الكعبة. . . إلخ "
أخرجه البخاري (1 / 501 - الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 968 ط الحلبي) .
(4/67)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ،
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ
(وَأَرَادُوا بِالْمَدَنِيِّ مَنْ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ) : يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي فِي
الْمَدِينَةِ إصَابَةُ عَيْنِ الْقِبْلَةِ لِثُبُوتِ مِحْرَابِ مَسْجِدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، فَهُوَ كَمَا
لَوْ كَانَ مُشَاهِدًا لِلْبَيْتِ، بَل أَوْرَدَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي
الشِّفَاءِ أَنَّهُ رُفِعَتْ لَهُ الْكَعْبَةُ حِينَ بَنَى مَسْجِدَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
اسْتِقْبَال مَحَارِيبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:
21 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ مَحَارِيبَ الصَّحَابَةِ، كَجَامِعِ
دِمَشْقَ، وَجَامِعِ عَمْرٍو بِالْفُسْطَاطِ، وَمَسْجِدِ الْكُوفَةِ
وَالْقَيْرَوَانِ وَالْبَصْرَةِ، لاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ مَعَهَا فِي
إثْبَاتِ الْجِهَةِ، لَكِنْ لاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الاِنْحِرَافِ
الْيَسِيرِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، وَلاَ تَلْحَقُ بِمَحَارِيبِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لاَ يَجُوزُ فِيهَا
أَدْنَى انْحِرَافٍ.
وَكَذَلِكَ مَحَارِيبُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَحَارِيبُ جَادَّتِهِمْ أَيْ
مُعْظَمُ طَرِيقِهِمْ وَقُرَاهُمُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا
قُرُونٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ صَلُّوا إلَى هَذَا
الْمِحْرَابِ وَلَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ طَعَنَ فِيهَا،
لأَِنَّهَا لَمْ تُنْصَبْ إلاَّ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ مِنْ أَهْل
الْمَعْرِفَةِ بِالأَْدِلَّةِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ.
لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ: إنْ فَرَضَ مَنْ كَانَ فِيهَا إصَابَةَ
الْعَيْنِ بِبَدَنِهِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى قِبْلَتِهِ، مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ
بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ. (2)
__________
(1) رد المحتار 1 / 287، والدسوقي 1 / 224، والمغني مع الشرح الكبير 1 /
457 طبعة أولى، ونهاية المحتاج 1 / 421، والشرح الكبير 1 / 485.
(2) رد المحتار 1 / 288، والدسوقي 1 / 224، وكشاف القناع 1 / 280، ونهاية
المحتاج 1 / 420.
(4/68)
الإِْخْبَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ
مَحَارِيبُ مَنْصُوبَةً فِي الْحَضَرِ، فَيَسْأَل مَنْ يَعْلَمُ
بِالْقِبْلَةِ مِمَّنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْمَكَانِ
مِمَّنْ يَكُونُ بِحَضْرَتِهِ. أَمَّا غَيْرُ مَقْبُول الشَّهَادَةِ،
كَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِإِخْبَارِهِ
فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ
صِدْقُهُ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلأَِنَّهُ
يُخْبِرُ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَلاَ يُتْرَكُ اجْتِهَادُهُ بِاجْتِهَادِ
غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْل الْمَسْجِدِ أَحَدٌ
فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَرْعُ الأَْبْوَابِ.
وَأَمَّا فِي الْمَفَازَةِ فَالدَّلِيل عَلَيْهَا النُّجُومُ كَالْقُطْبِ،
وَإِلاَّ فَمِنْ أَهْلِهَا الْعَالِمِ بِهَا مِمَّنْ لَوْ صَاحَ بِهِ
سَمِعَهُ، وَالاِسْتِدْلاَل بِالنُّجُومِ فِي الْمَفَازَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى
السُّؤَال، وَالسُّؤَال مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحَرِّي (1) .
اخْتِلاَفُ الْمُخْبِرِينَ:
23 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ عِنْدَ اخْتِلاَفِ اثْنَيْنِ فِي
الإِْخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَيَأْخُذُ بِقَوْل
أَحَدِهِمَا، وَقِيل: يَتَسَاقَطَانِ وَيَجْتَهِدُ لِنَفْسِهِ، وَلاَ
يَأْخُذُ بِقَوْل أَحَدِهِمَا إلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الاِجْتِهَادِ،
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اُضْطُرَّ لِلأَْخْذِ بِقَوْل أَحَدِهِمَا، أَمَّا
فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْمُخْبِرَانِ اخْتَلَفَا فِي عَلاَمَةٍ
وَاحِدَةٍ لِعَارِضٍ فِيهَا وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّسَاقُطِ (2) .
وَمَا صَرَّحُوا بِهِ لاَ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 425
(4/68)
أَدِلَّةُ الْقِبْلَةِ:
24 - سَبَقَ مَا يَتَّصِل بِالاِسْتِدْلاَل عَلَى الْقِبْلَةِ
بِالْمَحَارِيبِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَهُنَاكَ عَلاَمَاتٌ يُمْكِنُ
الاِعْتِمَادُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْل الْخِبْرَةِ بِهَا، مِنْهَا:
أ - النُّجُومُ:
وَأَهَمُّهَا الْقُطْبُ، لأَِنَّهُ نَجْمٌ ثَابِتٌ وَيُمْكِنُ بِهِ
مَعْرِفَةُ الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ
الْقِبْلَةِ وَلَوْ عَلَى سَبِيل التَّقْرِيبِ. وَتَخْتَلِفُ قِبْلَةُ
الْبِلاَدِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ اخْتِلاَفًا كَبِيرًا. (1)
ب - الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ:
يُمْكِنُ التَّعَرُّفُ بِمَنَازِل الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى الْجِهَاتِ
الأَْرْبَعِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الاِعْتِدَالَيْنِ (الرَّبِيعِيِّ
وَالْخَرِيفِيِّ) بِالنِّسْبَةِ لِلشَّمْسِ، وَاسْتِكْمَال الْبَدْرِ فِيهِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْقَمَرِ. وَفِي غَيْرِ الاِعْتِدَالَيْنِ يُنْظَرُ إلَى
اتِّجَاهِ تِلْكَ الْمَنَازِل، وَهُوَ مَعْرُوفٌ لأَِهْل الْخِبْرَةِ
فَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ فِيهِ، وَفِي كُتُبِ الْفِقْهِ تَفَاصِيل عَنْ ذَلِكَ
(2) . وَيُتَّبَعُ ذَلِكَ الاِسْتِدْلاَل بِمَطَالِعِ الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ وَمَغَارِبِهِمَا.
ج - الإِْبْرَةُ الْمِغْنَاطِيسِيَّةُ:
مِنْ الاِسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْيَقِينِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا تُحَدِّدُ
جِهَةَ الشَّمَال تَقْرِيبًا، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ الْجِهَاتُ الأَْرْبَعُ
وَتُحَدَّدُ الْقِبْلَةُ. (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 422، ورد المحتار 1 / 288، والمغني 1 / 459،
والرهوني على الزرقاني 1 / 353.
(2) المغني 1 / 465، والشرح الكبير المطبوع مع المغني 1 / 492.
(3) نهاية المحتاج 1 / 423.
(4/69)
تَرْتِيبُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ:
25 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الدَّلِيل عَلَى الْقِبْلَةِ فِي
الْمَفَاوِزِ وَالْبِحَارِ النُّجُومُ كَالْقُطْبِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
لِوُجُودِ غَيْمٍ أَوْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ
يَسْأَل عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ لَمْ
يُخْبِرْهُ الْمَسْئُول عَنْهَا فَيَتَحَرَّى.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَتْ الأَْدِلَّةُ عَلَى
الْقِبْلَةِ فَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ خَبَرِ جَمْعٍ بَلَغَ عَدَدُهُمْ حَدَّ
التَّوَاتُرِ، لإِِفَادَتِهِ الْيَقِينَ، ثُمَّ الإِْخْبَارُ عَنْ عِلْمٍ
بِرُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ رُؤْيَةُ الْمَحَارِيبِ الْمُعْتَمَدَةِ،
ثُمَّ رُؤْيَةُ الْقُطْبِ.
وَأَمَّا بَيْتُ الإِْبْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ
الْمُجْتَهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الاِجْتِهَادِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ
عَنْ يَقِينٍ مُقَدَّمٌ عَلَى الاِجْتِهَادِ. (1)
تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ:
26 - تَعَلُّمُ الْعَلاَمَاتِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْقِبْلَةُ
مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
عِنْدَهُمْ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى سَبِيل الْكِفَايَةِ. وَقَدْ
يُصْبِحُ تَعَلُّمُ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ وَاجِبًا عَيْنِيًّا، كَمَنْ
سَافَرَ سَفَرًا يَجْهَل مَعَهُ اتِّجَاهَ الْقِبْلَةِ، وَيَقِل فِيهَا
الْعَارِفُونَ بِهَا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ
الْعَلاَمَاتِ، وَكُل ذَلِكَ تَحْقِيقًا لإِِصَابَةِ الْقِبْلَةِ.
وَهَل يَجُوزُ تَعَلُّمُهَا مِنْ كَافِرٍ؟ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ لاَ
تَمْنَعُ ذَلِكَ. لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي اتِّجَاهِ
الْقِبْلَةِ، وَإِنَّمَا
__________
(1) رد المحتار 1 / 288، والدسوقي 1 / 227، ونهاية المحتاج 1 / 422 - 424،
والمغني 1 / 480، والشرح الكبير مع المغني 1 / 494.
(4/69)
فِي مَعْرِفَةِ الْعَلاَمَاتِ الَّتِي لاَ
يَخْتَلِفُ فِيهَا الْكَافِرُ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ كَتَعَلُّمِ
سَائِرِ الْعُلُومِ (1) .
الاِجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ:
27 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ الاِجْتِهَادِ
فِي الْقِبْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ. (2)
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إنْ فَقَدَ الْمُصَلِّي مَا ذُكِرَ
مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالْمَحَارِيبِ وَالْمُخْبِرِ وَأَمْكَنَهُ
الاِجْتِهَادُ، بِأَنْ كَانَ بَصِيرًا يَعْرِفُ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ
وَجَبَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِأَحْكَامِ
الشَّرْعِ، إذْ كُل مَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ شَيْءٍ كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ،
وَلأَِنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ
الاِسْتِدْلاَل عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ مَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ، لأَِنَّهُ
يَتَمَكَّنُ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا بِدَلِيلِهِ.
وَقَالُوا: أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ عَنْ الاِجْتِهَادِ
صَلَّى حَسَبَ حَالِهِ وَلاَ يُقَلِّدُ، كَالْحَاكِمِ لاَ يَسَعُهُ
تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلاَةَ. وَصَرَّحَ ابْنُ
قُدَامَةَ بِأَنَّ شَرْطَ الاِجْتِهَادِ لاَ يَسْقُطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ
مَعَ إمْكَانِهِ. (3)
الشَّكُّ فِي الاِجْتِهَادِ وَتَغَيُّرُهُ:
28 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عَمِل بِالاِجْتِهَادِ الثَّانِي
حَتْمًا، إِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 422 - 427.
(2) نهاية المحتاج 1 / 422، والشرح الكبير مع المغني 1 / 490، ورد المحتار
1 / 288، والدسوقي 1 / 224.
(3) نهاية المحتاج 1 / 423، والمغني 1 / 469، والشرح الكبير مع المغني 1 /
490، 493، 494.
(4/70)
تَرَجَّحَ عَلَى الأَْوَّل، وَعَمِل
بِالأَْوَّل إِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الثَّانِي. وَقَال الْحَنَابِلَةُ:
وَإِنْ شَكَّ فِي اجْتِهَادِهِ لَمْ يَزُل عَنْ جِهَتِهِ، لأَِنَّ
الاِجْتِهَادَ ظَاهِرٌ فَلاَ يَزُول عَنْهُ بِالشَّكِّ. وَلاَ يُعِيدُ مَا
صَلَّى بِالاِجْتِهَادِ الأَْوَّل، كَالْحَاكِمِ لَوْ تَغَيَّرَ
اجْتِهَادُهُ فِي الْحَادِثَةِ الثَّانِيَةِ عَمِل فِيهَا بِالاِجْتِهَادِ
الثَّانِي، وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ الأَْوَّل بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّ
الاِجْتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِالاِجْتِهَادِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ
الْمُصَلِّيَ بِالاِجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا تَحَوَّل رَأْيُهُ
اسْتَدَارَ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ
وَبَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا اسْتَدَارَ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ
صَلاَتِهِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لأَِرْبَعِ
جِهَاتٍ بِالاِجْتِهَادِ جَازَ، لأَِنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَدَّاهُ
اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ، فَلَمْ تَجُزْ لَهُ الصَّلاَةُ إلَى غَيْرِهَا،
كَمَا لَوْ أَرَادَ صَلاَةً أُخْرَى، وَلَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ
لاِجْتِهَادِهِ، لأَِنَّا لَمْ نُلْزِمْهُ إعَادَةَ مَا مَضَى، وَإِنَّمَا
نُلْزِمُهُ الْعَمَل بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لِمَنْ صَلَّى
بِالاِجْتِهَادِ خَطَأُ اجْتِهَادِهِ فِي الصَّلاَةِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا
وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ قَطَعَهَا وُجُوبًا. أَمَّا بَعْدَ إتْمَامِ
الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يُعِيدُهَا نَدْبًا لاَ وُجُوبًا. قِيَاسًا عَلَى
الْقَاضِي إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأُ الدَّلِيل قَبْل بَتِّ الْحُكْمُ،
فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ الأَْوَّل، وَإِنْ
حَكَمَ بِهِ نُقِضَ. أَمَّا إنْ شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ
يُتِمُّ صَلاَتَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الأَْوَّل. (2)
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 422 - 427، والشرح الكبير مع المغني 1 / 497.
(2) الدسوقي 1 / 227.
(4/70)
الاِخْتِلاَفُ فِي الاِجْتِهَادِ فِي
الْقِبْلَةِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ
لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَلاَ يَؤُمُّهُ، لأَِنَّ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ خَطَأَ الآْخَرِ فَلَمْ يَجُزْ
الاِئْتِمَامُ.
وَعِنْدَ ابْنِ قُدَامَةَ أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ.
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ، ذَلِكَ أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلاَةِ الآْخَرِ، وَأَنَّ فَرْضَهُ التَّوَجُّهُ إلَى
مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ اخْتِلاَفُ الْجِهَةِ
الاِقْتِدَاءَ بِهِ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْل الْكَعْبَةِ.
وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْجِهَةِ وَاخْتَلَفَا فِي الاِنْحِرَافِ يَمِينًا
أَوْ شِمَالاً فَالْمَذْهَبُ صِحَّةُ الاِئْتِمَامِ بِلاَ خِلاَفٍ
لاِتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِهَةِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الاِسْتِقْبَال.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اجْتَهَدَ اثْنَانِ فِي الْقِبْلَةِ،
وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُهُمَا، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ، ثُمَّ
تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَزِمَهُ الاِنْحِرَافُ إلَى
الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ الْمُفَارَقَةَ وَإِنْ
اخْتَلَفَا تَيَامُنًا وَتَيَاسُرًا، وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الْمُفَارَقَةِ
فَلاَ تَفُوتُهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَمَحَل ذَلِكَ حَيْثُ عَلِمَ
الْمَأْمُومُ بِانْحِرَافِ إمَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلاَّ
بَعْدَ السَّلاَمِ فَالأَْقْرَبُ وُجُوبُ الإِْعَادَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ فَتَحَوَّل رَأْيُ
مَسْبُوقٍ وَلاَحِقٍ (1) اسْتَدَارَ الْمَسْبُوقُ، لأَِنَّهُ مُنْفَرِدٌ
فِيمَا يَقْضِيهِ، وَاسْتَأْنَفَ اللاَّحِقُ، لأَِنَّهُ مُقْتَدٍ فِيمَا
يَقْضِيهِ. وَالْمُقْتَدِي إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَرَاءَ الإِْمَامِ أَنَّ
الْقِبْلَةَ غَيْرُ الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا الإِْمَامُ لاَ
يُمْكِنُهُ إصْلاَحُ صَلاَتِهِ،
__________
(1) المسبوق من فاتته ركعة فأكثر مع الإمام. أما اللاحق فهو من ابتدأ صلاته
مع الإمام، ثم عرض له عارض منعه من متابعة الإمام حتى فاتته ركعة أو أكثر.
(4/71)
لأَِنَّهُ إنِ اسْتَدَارَ خَالَفَ إمَامَهُ
فِي الْجِهَةِ قَصْدًا وَهُوَ مُفْسِدٌ، وَإِلاَّ كَانَ مُتِمًّا صَلاَتَهُ
إلَى مَا هُوَ غَيْرُ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ مُفْسِدٌ أَيْضًا. (1)
خَفَاءُ الْقِبْلَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ:
30 - خَفَاءُ الْقِبْلَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل
الصَّلاَةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل
التَّحَرِّي أَوْ بَعْدَهُ، وَسَنَتَنَاوَل بِالْبَحْثِ كُلًّا عَلَى
حِدَةٍ.
خَفَاءُ الْقِبْلَةِ قَبْل الصَّلاَةِ وَالتَّحَرِّي:
31 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ
مَنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ بِالاِسْتِدْلاَل، وَخَفِيَتْ
عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ لِفَقْدِهَا أَوْ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ أَوِ
الْتِبَاسٍ مَعَ ظُهُورِهَا، حَيْثُ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الأَْمَارَاتُ،
فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي، وَتَصِحُّ صَلاَتُهُ عِنْدَئِذٍ،
لأَِنَّهُ بَذَل وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مَعَ عِلْمِهِ
بِأَدِلَّتِهِ، أَشْبَهَ الْحَاكِمَ إِذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ،
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ،
فَصَلَّى كُل رَجُلٍ مِنَّا حِيَالَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا
ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَل:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} } (2)
__________
(1) رد المحتار 1 / 291، الدسوقي 1 / 226، ونهاية المحتاج 1 / 429، والمغني
1 / 474، والشرح الكبير مع المغني 1 / 493، وغنية المتملي شرح منية المصلي
ص 225.
(2) حديث: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة. . . "
أخرجه الترمذي واللفظ له وابن ماجه من حديث ربيعة. قال الترمذي: هذا حديث
ليس إسناده بذاك - أي ليس بالقوي - لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان،
وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الح (تحفة الأحوذي 2 / 321، 322
نشر السلفية 1384 هـ وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 326 ط
عيسى الحلبي 1372 هـ) . والآية من سورة البقرة / 115.
(4/71)
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ التَّحَرِّيَ
بِأَنَّهُ بَذْل الْجُهُودِ لِنَيْل الْمَقْصُودِ. وَأَفَادَ ابْنُ
عَابِدِينَ بِأَنَّ قِبْلَةَ التَّحَرِّي مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُجَرَّدِ
شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ
بِأَنَّهُ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ يُصَلِّي
إلَيْهَا صَلاَةً وَاحِدَةً، وَلاَ إعَادَةَ لِسُقُوطِ الطَّلَبِ عَنْهُ،
وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل
بَعْضِهِمْ بِتَكْرَارِ الصَّلاَةِ إلَى الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ فِي
حَالَةِ التَّحَرِّي وَعَدَمِ الرُّكُونِ إلَى جِهَةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي كَيْفَ كَانَ لِحُرْمَةِ
الْوَقْتِ، وَيَقْضِي لِنُدْرَتِهِ (1) .
تَرْكُ التَّحَرِّي:
32 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ مَعْرِفَةِ
الْقِبْلَةِ بِالأَْدِلَّةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلاَةِ
دُونَ أَنْ يَتَحَرَّى وَإِنْ أَصَابَ، لِتَرْكِهِ فَرْضَ التَّحَرِّي،
إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعِيدُ إنْ عَلِمَ إصَابَتَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ
اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بِخِلاَفِ إِذَا عَلِمَ الإِْصَابَةَ
قَبْل التَّمَامِ، فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل لأَِنَّهُ بَنَى قَوِيًّا
عَلَى ضَعِيفٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي تَخْفَى عَلَيْهِ
أَدِلَّةُ الْقِبْلَةِ يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ،
وَيُصَلِّي إلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الطَّلَبُ لِعَجْزِهِ، وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُعِيدُ مَنْ صَلَّى بِلاَ تَحَرٍّ أَوْ
تَعَذَّرَ عَلَيْهِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 289، 291، والبحر الرائق 1 / 303، والزرقاني 1 / 189،
والدسوقي 1 / 225، ونهاية المحتاج 1 / 422، والشرح الكبير مع المغني 1 /
493.
(4/72)
التَّحَرِّي، سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ
الصَّوَابُ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا (1) .
ظُهُورُ الصَّوَابِ لِلْمُتَحَرِّي:
33 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ إنْ ظَهَرَ صَوَابُهُ فِي
أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لاَ تَفْسُدُ، وَعِنْدَ
بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ لاَ خِلاَفَ فِي صِحَّتِهَا.
وَعِبَارَةُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَالصَّحِيحُ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ
وَالْخَانِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصَّلاَةِ، لأَِنَّ
صَلاَتَهُ كَانَتْ جَائِزَةً مَا لَمْ يَظْهَرِ الْخَطَأُ، فَإِذَا
تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ لاَ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ. وَقِيل: تَفْسُدُ،
لأَِنَّ افْتِتَاحَ الصَّلاَةِ كَانَ ضَعِيفًا، وَقَدْ قَوِيَ حَالُهُ
بِظُهُورِ الصَّوَابِ، وَلاَ يُبْنَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ (2) .
التَّقْلِيدُ فِي الْقِبْلَةِ:
34 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يُقَلِّدُ الْمُجْتَهِدُ مُجْتَهِدًا
غَيْرَهُ، لأَِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الاِجْتِهَادِ تَمْنَعُ مِنَ
التَّقْلِيدِ.
وَمَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ
غَيْرَهُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ
يُقَلِّدَ الْمُجْتَهِدَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْل
الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . (3)
وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ أَكْثَرُ مِنْ مُجْتَهِدٍ فَالْمُقَلِّدُ لَهُ أَنْ
يَخْتَارَ
__________
(1) رد المحتار 1 / 290، 291، والفروع 1 / 383، وكشاف القناع 1 / 307، 313،
ومغني المحتاج 1 / 146، والروضة 1 / 218، والدسوقي 1 / 227.
(2) رد المحتار 1 / 292، والبحر الرائق 1 / 305، والدسوقي 1 / 227، ومغني
المحتاج 1 / 146، والروضة 1 / 218، وكشاف القناع 1 / 312.
(3) سورة النحل / 43.
(4/72)
أَحَدَهُمْ، وَالأَْوْلَى أَنْ يَخْتَارَ
مَنْ يَثِقُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. (1)
تَرْكُ التَّقْلِيدِ:
35 - لَيْسَ لِمَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَوَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَنْ
يَسْتَقْبِل بِمُجَرَّدِ مَيْل نَفْسِهِ إلَى جِهَةٍ، فَقَدْ ذَكَرَ
الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَ التَّقْلِيدَ
وَاخْتَارَ لَهُ جِهَةً تَرْكَنُ لَهَا نَفْسُهُ وَصَلَّى لَهَا كَانَتْ
صَلاَتُهُ صَحِيحَةً إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ، وَزَادَ
الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِي الصَّلاَةِ قَطَعَهَا
حَيْثُ كَانَ كَثِيرًا، وَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَهَا فَقَوْلاَنِ
بِالإِْعَادَةِ أَبَدًا أَوْ فِي الْوَقْتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي "
تَبَيُّنِ الْخَطَأِ فِي الصَّلاَةِ ".
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ
الإِْعَادَةُ مُطْلَقًا وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ (2) .
اسْتِقْبَال الأَْعْمَى وَمَنْ فِي ظُلْمَةٍ لِلْقِبْلَةِ:
36 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إلَى
أَنَّ الأَْعْمَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَل عَنِ الْقِبْلَةِ، لأَِنَّ
مُعْظَمَ الأَْدِلَّةِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا
تَحَرَّى، وَكَذَا لَوْ سَأَلَهُ عَنْهَا فَلَمْ يُخْبِرْهُ، حَتَّى إنَّهُ
لَوْ أَخْبَرَهُ بَعْدَمَا صَلَّى لاَ يُعِيدُ.
وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَتَحَرَّى: إنْ أَصَابَ جَازَ وَإِلاَّ لاَ.
وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلاَةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَسَوَّاهُ رَجُلٌ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 424، 425، والمغني 1 / 472، 474، والدسوقي 1 / 226،
وابن عابدين 1 / 291، والشرح الكبير مع المغني 1 / 493.
(2) الدسوقي 1 / 226، 227، ونهاية المحتاج 1 / 425، والمغني 1 / 489 ط
ثانية، ورد المحتار 1 / 290.
(4/73)
إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ وَجَدَ الأَْعْمَى
وَقْتَ الشُّرُوعِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا فَلَمْ يَسْأَلْهُ لَمْ تَجُزْ
صَلاَتُهُ، وَإِلاَّ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِهَذَا
الرَّجُل الاِقْتِدَاءُ بِهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ
الْمُجْتَهِدِ بَل عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَل عَنِ الأَْدِلَّةِ عَدْلاً فِي
الرِّوَايَةِ لِيَهْتَدِيَ بِهَا إلَى الْقِبْلَةِ. (1)
تَبَيُّنُ الْخَطَأِ فِي الْقِبْلَةِ:
37 - أَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَوْل بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ الَّذِي لَمْ
يَشُكَّ فِي الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَتَحَرَّ إِذَا ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي
الْقِبْلَةِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، بِخِلاَفِ مَنْ
خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَشَكَّ فِيهَا وَتَحَرَّى، ثُمَّ ظَهَرَ
لَهُ خَطَؤُهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي
انْتَهَى إلَيْهَا تَحَرِّيهِ، أَمَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ بَعْدَ
انْتِهَاءِ الصَّلاَةِ فَإِنَّ صَلاَتَهُ صَحِيحَةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الإِْعَادَةِ
عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ إِذَا كَانَتْ عَلاَمَاتُ الْقِبْلَةِ
ظَاهِرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِيهَا، لأَِنَّهُ لاَ عُذْرَ
لأَِحَدٍ فِي الْجَهْل بِالأَْدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ. أَمَّا دَقَائِقُ
عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَصُوَرُ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي
الْجَهْل بِهَا فَلاَ إعَادَةَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ مَا إِذَا
كَانَتِ الأَْدِلَّةُ ظَاهِرَةً فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَوْ خَفِيَتْ،
وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ أَدِلَّةٌ خَفِيَّةٌ، لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا
أُمِرَ فِي الْحَالَيْنِ وَعَجَزَ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الإِْعَادَةِ. أَمَّا فِي
الْقَوْل
__________
(1) رد المحتار 1 / 289، 291، والدسوقي 1 / 226، ونهاية المحتاج 1 / 422،
425، والمغني 1 / 469، 474، والشرح الكبير مع المغني 1 / 490، 494.
(4/73)
الأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ فَتَلْزَمُهُ
الإِْعَادَةُ لأَِنَّهُ أَخْطَأَ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ. (1)
الْعَجْزُ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ.
38 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ إلَى أَنَّ مَنْ بِهِ عُذْرٌ
حِسِّيٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ الاِسْتِقْبَال كَالْمَرِيضِ، وَالْمَرْبُوطِ
يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، لأَِنَّ
الاِسْتِقْبَال شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ
فَأَشْبَهَ الْقِيَامَ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالصَّاحِبَانِ مِنِ الْحَنَفِيَّةِ
لِسُقُوطِ الْقِبْلَةِ عَنْهُ أَنْ يَعْجِزَ أَيْضًا عَمَّنْ يُوَجِّهُهُ
وَلَوْ بِأَجْرِ الْمِثْل، كَمَا اسْتَظْهَرَهُ. الشَّيْخُ إسْمَاعِيل
النَّابُلُسِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ. وَبِالنِّسْبَةِ لإِِعَادَةِ
الصَّلاَةِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا تَفْصِيلُهُ فِي مَبَاحِثِ
الصَّلاَةِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ،
لأَِنَّ الْقَادِرَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَاجِزٌ. وَبِقَوْلِهِمَا جَزَمَ
فِي الْمُنْيَةِ وَالْمِنَحِ وَالدُّرِّ وَالْفَتْحِ بِلاَ حِكَايَةِ
خِلاَفٍ.
وَلَوْ وَجَدَ أَجِيرًا بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ
اسْتِئْجَارُهُ إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ دُونَ نِصْفِ دِرْهَمٍ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُجْرَةُ الْمِثْل كَمَا فَسَّرُوهُ
فِي التَّيَمُّمِ. (2)
أَمَّا مَنْ بِهِ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ الاِسْتِقْبَال فَقَدْ
تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِلصُّوَرِ الآْتِيَةِ مِنْهُ وَهِيَ:
الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ، وَذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَذَلِكَ كَالْخَوْفِ مِنْ سَبُعٍ
__________
(1) رد المحتار 1 / 289، 292، والدسوقي 1 / 224، 226 - 228، ونهاية المحتاج
1 / 427، والمغني 1 / 449 ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 312 ط مكتبة النصر -
الرياض.
(2) رد المحتار 1 / 289 - 392، والدسوقي 1 / 224، ونهاية المحتاج 1 / 408،
والجمل على المنهج 1 / 314، والشرح الكبير مع المغني 1 / 486.
(4/74)
وَعَدُوٍّ، فَلَهُ حِينَئِذٍ أَنْ
يَتَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَمِثْلُهُ الْهَارِبُ مِنَ
الْعَدُوِّ رَاكِبًا يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ صُوَرِ الْعُذْرِ: الْخَوْفَ مِنْ
الاِنْقِطَاعِ عَنْ رُفْقَتِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ: الاِسْتِيحَاشَ وَإِنْ لَمْ
يَتَضَرَّرْ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ: الْخَوْفَ
مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ ثِيَابُهُ بِالطِّينِ وَنَحْوِهِ لَوْ نَزَل عَنْ
دَابَّتِهِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ عَجْزَهُ عَنِ النُّزُول، فَإِنْ قَدَرَ
عَلَيْهِ نَزَل وَصَلَّى وَاقِفًا بِالإِْيمَاءِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى
الْقُعُودِ دُونَ السُّجُودِ أَوْمَأَ قَاعِدًا.
وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ: مَا لَوْ
خَافَ عَلَى مَالِهِ - مِلْكًا أَوْ أَمَانَةً - لَوْ نَزَل عَنْ
دَابَّتِهِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ: الْعَجْزَ
عَنِ الرُّكُوبِ فِيمَنْ احْتَاجَ فِي رُكُوبِهِ بَعْدَ نُزُولِهِ
لِلصَّلاَةِ إلَى مُعِينٍ وَلاَ يَجِدُهُ، كَأَنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ
جَمُوحًا، أَوْ كَانَ هُوَ ضَعِيفًا فَلَهُ أَلاَّ يَنْزِل. (1)
وَمِنَ الأَْعْذَارِ: الْخَوْفُ وَقْتَ الْتِحَامِ الْقِتَال، فَقَدِ
اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنْ يَسْقُطَ شَرْطُ
الاِسْتِقْبَال فِي حَال الْمُسَايَفَةِ وَقْتَ الْتِحَامِ الصُّفُوفِ فِي
شِدَّةِ الْخَوْفِ إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنْهُ (2) . وَلِمَعْرِفَةِ
مَاهِيَّةِ هَذَا الْقِتَال، وَمَا يَلْحَقُ بِهِ، وَوَقْتُ صَلاَتِهِ،
وَإِعَادَتُهَا حِينَ الأَْمْنِ، وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا (ر: صَلاَةُ
الْخَوْفِ) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 290، والدسوقي 1 / 224، 229، ونهاية المحتاج 1 / 408،
416، والشرح الكبير مع المغني 1 / 486.
(2) رد المحتار 1 / 569، والدسوقي 1 / 222، 223، 229، ونهاية المحتاج 1 /
409، والشرح الكبير مع المغني 1 / 486، 450، والمغني 2 / 416 ط الرياض.
(4/74)
اسْتِقْبَال الْمُتَنَفِّل عَلَى
الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ
فِي السَّفَرِ لِجِهَةِ سَفَرِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَوْ بِلاَ
عُذْرٍ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يُصَلِّي
عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ (1) وَفُسِّرَ
قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
بِالتَّوَجُّهِ فِي نَفْل السَّفَرِ (2) .
وَفِي الشُّرُوطِ الْمُجَوِّزَةِ لِذَلِكَ خِلاَفٌ فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ
فِي مَبْحَثِ صَلاَةِ الْمُسَافِرِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
اسْتِقْبَال الْمُتَنَفِّل مَاشِيًا فِي السَّفَرِ:
40 - مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ كَلاَمُ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ
لاَ يُبَاحُ لِلْمُسَافِرِ الْمَاشِي الصَّلاَةُ فِي حَال مَشْيِهِ،
لأَِنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي الرَّاكِبِ، فَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُ
الْمَاشِي عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ، وَمَشْيٌ
مُتَتَابِعٌ يُنَافِي الصَّلاَةَ فَلَمْ يَصِحَّ الإِْلْحَاقُ.
وَمَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ثَانِيَةُ الرِّوَايَتَيْنِ
__________
(1) حديث: " كان صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته. . . " أخرجه البخاري
ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ " كان النبي صلى الله عليه وسلم
يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء، صلاة الليل إلا
الفرائض، ويوتر على راحلته " وفي رواية لمسلم من حديث ابن عمر رضي الله
عنهما " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى
المدينة على راحلته حيث كان وجهه. . . " (اللؤلؤ والمرجان ص 138 نشر وزارة
الأوقاف والشئون وفتح الباري 2 / 489 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي 1 / 486، 487 ط عيسى الحلبي) .
(2) رد المحتار 1 / 469، والدسوقي 1 / 225، ونهاية المحتاج 1 / 409، وشرح
الروض 1 / 134 ط الميمنية، والمغني 1 / 445، والشرح الكبير مع المغني 1 /
486.
(4/75)
عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَاشِيًا قِيَاسًا عَلَى
الرَّاكِبِ، لأَِنَّ الْمَشْيَ إحْدَى حَالَتَيْ سَيْرِ الْمُسَافِرِ،
وَلأَِنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ فَكَذَا فِي
النَّافِلَةِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إلَى
الأَْسْفَارِ، فَلَوْ شَرَطَا فِيهَا الاِسْتِقْبَال لِلتَّنَفُّل لأََدَّى
إلَى تَرْكِ أَوْرَادِهِمْ أَوْ مَصَالِحِ مَعَايِشِهِمْ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ
عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ لاِفْتِتَاحِ الصَّلاَةِ، ثُمَّ
يَنْحَرِفُ إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يَلْزَمُهُ
الاِسْتِقْبَال فِي السَّلاَمِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. (1)
اسْتِقْبَال الْمُفْتَرِضِ عَلَى السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا:
41 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِقْبَال
الْمُفْتَرِضِ عَلَى السَّفِينَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ صَلاَتِهِ،
وَذَلِكَ لِتَيَسُّرِ الاِسْتِقْبَال عَلَيْهِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهَا إِذَا
دَارَتْ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الصَّلاَةُ فِي السَّفِينَةِ) .
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
42 - قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ هِيَ أَشْرَفُ
الْجِهَاتِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا حِينَ
__________
(1) رد المحتار 1 / 469، والدسوقي 1 / 225، ونهاية المحتاج 1 / 410، 414،
والشرح الكبير مع المغني 1 / 488.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 223 ط بولاق، ومغني المحتاج 1 / 144،
ومواهب الجليل 1 / 509، والمغني 1 / 435 - 436، والإنصاف 2 / 4.
(4/75)
الْجُلُوسِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ مَا اسْتَقْبَل
الْقِبْلَةَ. (1)
قَال صَاحِبُ الْفُرُوعِ: وَيُتَّجَهُ فِي كُل طَاعَةٍ إلاَّ لِدَلِيلٍ.
(2)
وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا تَغْلِيطُ الأَْمْرِ
وَإِلْقَاءُ الرَّهْبَةِ فِي قَلْبِ مَنْ طُلِبَ مِنْهُ التَّوَجُّهُ
إلَيْهَا، كَمَا فِي تَغْلِيظِ الْقَاضِي الْيَمِينَ عَلَى حَالِفِهَا
بِذَلِكَ (ر: إثْبَاتٌ ف 26) .
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ أَحْوَالٌ تَرْفَعُ هَذَا
الاِسْتِحْبَابَ، بَل قَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُهَا حَرَامًا أَوْ
مَكْرُوهًا (ر: قَضَاءُ الْحَاجَةِ. اسْتِنْجَاء) .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ زَائِرَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَسْتَقْبِل الْقَبْرَ
الشَّرِيفَ (3) .
اسْتِقْبَال غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
43 - الأَْصْل فِي اسْتِقْبَال الْمُصَلِّي لِلأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةُ،
مَا دَامَ مُتَوَجِّهًا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، لَكِنْ هُنَاكَ أَشْيَاءُ
مُعَيَّنَةٌ نُهِيَ الْمُصَلِّي عَنْ أَنْ يَجْعَلَهَا أَمَامَهُ
لاِعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ فِي وُجُودِهَا أَمَامَهُ
تَشَبُّهٌ بِالْمُشْرِكِينَ، كَمَا فِي الصَّنَمِ وَالنَّارِ وَالْقَبْرِ،
أَوْ لِكَوْنِهَا قَذِرَةً أَوْ نَجِسَةً يُصَانُ وَجْهُ الْمُصَلِّي
وَنَظَرُهُ عَنْهَا، كَمَا فِي
__________
(1) حديث: " إن سيد المجالس. . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " إن لكل شيء سيدا، وإن سيد المجالس قبالة
القبلة " قال الهيثمي والمنذري وغيرهما: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 8 / 59
نشر مكتبة القدس 1353 هـ، وفيض القدير 2 / 512، نشر المكتبة التجارية 1356
هـ) .
(2) الفروع 1 / 80.
(3) شرح الأذكار لابن علان 5 / 33.
(4/76)
الصَّلاَةِ إلَى الْحَشِّ (1)
وَالْمَجْزَرَةِ، أَوْ قَدْ يَكُونُ أَمَامَهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ
فِكْرَهُ كَمَا فِي الصَّلاَةِ إلَى الطَّرِيقِ. وَقَدْ تَنَاوَلَهَا
الْفُقَهَاءُ بِالْبَحْثِ فِي الْكَلاَمِ عَلَى مَكْرُوهَاتِ الصَّلاَةِ.
(2)
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي أَمَامَ الْمُصَلِّي أَمْرًا
مَرْغُوبًا فِيهِ، لِكَوْنِهِ عَلاَمَةً عَلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِمَنْعِ
الْمَارِّينَ مِنَ الْمُرُورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، كَمَا فِي
الصَّلاَةِ إلَى السُّتْرَةِ. وَقَدْ بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ ضِمْنَ سُنَنِ
الصَّلاَةِ. (3)
اسْتِقْبَال غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
44 - الأَْصْل فِي تَوَجُّهِ الإِْنْسَانِ إلَى الأَْشْيَاءِ فِي غَيْرِ
الصَّلاَةِ الإِْبَاحَةُ أَيْضًا، وَلَكِنْ قَدْ يُطْلَبُ التَّوَجُّهُ
إلَى الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ فِي الأَْحْوَال الشَّرِيفَةِ طَلَبًا
لِخَيْرِهَا وَفَضْلِهَا، كَاسْتِقْبَال السَّمَاءِ بِالْبَصَرِ
وَبِبُطُونِ الْكَفَّيْنِ فِي الدُّعَاءِ. (4)
كَمَا يُطْلَبُ عَدَمُ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا فِي الأَْحْوَال
الْخَسِيسَةِ، كَاسْتِقْبَال قَاضِي الْحَاجَةِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوِ
الْمُصْحَفَ الشَّرِيفَ (ر: قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
وَقَدْ يُطْلَبُ تَجَنُّبُ اسْتِقْبَالِهَا صِيَانَةً لَهُ عَنْهَا
لِنَجَاسَتِهَا أَوْ حِفْظًا لِبَصَرِهِ عَنِ النَّظَرِ إلَيْهَا،
كَاسْتِقْبَال قَاضِي الْحَاجَةِ مَهَبَّ الرِّيحِ، وَاسْتِقْبَال
__________
(1) الحش: هو الموضع الذي تقضى فيه الحاجة في البساتين ثم أطلقت على الكنف.
(المصباح المنير) حسن.
(2) تحفة الأحوذي 2 / 326، والمغني 2 / 72، 80، والخرشي 1 / 294 ط بولاق،
وشرح الروض 1 / 174، ونهاية المحتاج 2 / 54، 60، 61، ورد المحتار 1 / 433،
438، وتقرير الرافعي عليه 1 / 85، وكشاف القناع 1 / 342 ط السنة المحمدية.
(3) نهاية المحتاج 2 / 54، والمغني 2 / 66، 71.
(4) شرح الأذكار 2 / 27.
(4/76)
الْمُسْتَأْذِنِ لِلدُّخُول بَابَ
الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ الدُّخُول إلَيْهِ. (1)
وَقَدْ يُطْلَبُ الاِسْتِقْبَال حِفَاظًا عَلَى الآْدَابِ وَمَكَارِمِ
الأَْخْلاَقِ وَتَوْفِيرًا لِحُسْنِ الإِْصْغَاءِ، كَمَا فِي اسْتِقْبَال
الْخَطِيبِ لِلْقَوْمِ وَاسْتِقْبَالِهِمْ لَهُ، وَاسْتِقْبَال الإِْمَامِ
النَّاسَ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ (2) .
وَكَمَا فِي اسْتِقْبَال الضُّيُوفِ وَالْمُسَافِرِينَ إبْقَاءً عَلَى
الرَّوَابِطِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ مَتِينَةً. (3)
وَمِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ: الْوُضُوءُ، وَالتَّيَمُّمُ، وَالأَْذَانُ
وَالإِْقَامَةُ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ بَعْدَ الْوُضُوءِ، وَالدُّعَاءُ فِي
الاِسْتِسْقَاءِ، وَالذِّكْرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَانْتِظَارُ
الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْحَجُّ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، تُعْلَمُ
بِتَتَبُّعِ كِتَابِ الْحَجِّ كَالإِْهْلاَل، وَشُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ،
وَتَوْجِيهِ الْهَدْيِ حِينَ الذَّبْحِ لِلْقِبْلَةِ، وَقَضَاءِ الْقَاضِي
بَيْنَ الْخُصُومِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعِهَا.
كَمَا يُسْتَحَبُّ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي مَوَاطِنَ خَاصَّةٍ طَلَبًا
لِبَرَكَتِهَا وَكَمَال الْعَمَل بِاسْتِقْبَالِهَا، كَمَا فِي تَوْجِيهِ
الْمُحْتَضَرِ إلَيْهَا، وَكَذَا الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الدَّفْنِ
(ر: كِتَابُ الْجَنَائِزِ) ، وَمِثْلُهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، أَوْ
أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِل بِهَا
الْقِبْلَةَ (ر: كِتَابُ الذَّبَائِحِ) .
__________
(1) المغني 1 / 155، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 / 119، وشرح
منتهى الإرادات 1 / 30، والآداب لابن مفلح 1 / 445.
(2) كشاف القناع 2 / 31 ط السنة المحمدية، والمبسوط - افتتاح الصلاة،
والشرح مع المغني 2 / 80، وإعلام الساجد ص 404.
(3) شرح الأذكار 5 / 175.
(4/77)
اسْتِقْرَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِقْرَاءُ لُغَةً: التَّتَبُّعُ، يُقَال: قَرَأَ الأَْمْرَ،
وَأَقْرَأَهُ أَيْ: تَتَبَّعَهُ، وَاسْتَقْرَأْتُ الأَْشْيَاءَ:
تَتَبَّعْتُ أَفْرَادَهَا لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا وَخَوَاصِّهَا. (1)
وَعَرَّفَهُ الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ: تَصَفُّحُ
جُزْئِيَّاتِ كُلِّيٍّ لِيُحْكَمَ بِحُكْمِهَا عَلَى ذَلِكَ الْكُلِّيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِيَاسُ:
2 - الْقِيَاسُ: هُوَ إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي حُكْمٍ
لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ. (3)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الاِسْتِقْرَاءُ إنْ كَانَ تَامًّا بِمَعْنَى تَتَبُّعِ جَمِيعِ
الْجُزْئِيَّاتِ مَا عَدَا صُورَةِ النِّزَاعِ (أَيِ الصُّورَةِ الْمُرَادِ
مَعْرِفَةُ حُكْمِهَا) يُعْتَبَرُ دَلِيلاً قَطْعِيًّا حَتَّى فِي صُورَةِ
النِّزَاعِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَال بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، بَل هُوَ ظَنِّيٌّ، لاِحْتِمَال
مُخَالَفَةِ تِلْكَ الصُّورَةِ لِغَيْرِهَا عَلَى بُعْدٍ.
__________
(1) تاج العروس ط ليبيا، والمصباح المنير ط دار المعارف في مادة (قرى) .
(2) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 346 ط الحلبي، والتعريفات للجرجاني
ص 13 ط مصطفى الحلبي.
(3) فواتح الرحموت 2 / 246 - 247.
(4/77)
وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ الأَْخْذَ
بِالاِسْتِقْرَاءِ فِي: الْحَيْضِ، وَالاِسْتِحَاضَةِ، وَالْعِدَّةِ عَلَى
خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتُ.
4 - وَإِنْ كَانَ الاِسْتِقْرَاءُ نَاقِصًا أَيْ بِأَكْثَرِ
الْجُزْئِيَّاتِ الْخَالِي عَنْ صُورَةِ النِّزَاعِ فَهُوَ ظَنِّيٌّ فِي
تِلْكَ الصُّورَةِ لاَ قَطْعِيٌّ، لاِحْتِمَال مُخَالَفَةِ صُورَةِ
النِّزَاعِ لِذَلِكَ الْمُسْتَقْرَأِ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ:
إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالأَْغْلَبِ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا احْتَجُّوا فِيهِ بِالاِسْتِقْرَاءِ: الْمُعْتَدَّةُ
عِنْدَ الْيَأْسِ تَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي
الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ: يُعْتَبَرُ فِي عِدَّةِ الْيَائِسَةِ اسْتِقْرَاءُ
نِسَاءِ أَقَارِبِهَا مِنَ الأَْبَوَيْنِ الأَْقْرَبَ فَالأَْقْرَبَ،
لِتَقَارُبِهِنَّ طَبْعًا وَخَلْقًا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ
رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - بِاسْتِقْرَاءِ حَالاَتِ النِّسَاءِ
وَاعْتِبَارِ حَالِهَا بِحَال مَثِيلاَتِهَا فِي السِّنِّ عِنْدَ ذَلِكَ،
عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ
(عِدَّةٌ) (وَإِيَاسٌ) . (2)
__________
(1) شرح جمع الجوامع 2 / 346
(2) ابن عابدين 2 / 606 ط الأولى، وحواش التحفة 8 / 238 ط دار صادر،
والمغني 7 / 461 ط السعودية، والحطاب 4 / 146، 147 ط ليبيا.
(4/78)
اسْتِقْرَاض
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِقْرَاضُ لُغَةً: طَلَبُ الْقَرْضِ. (1) وَيَسْتَعْمِلُهُ
الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْقَرْضِ، أَوِ الْحُصُول عَلَيْهِ، وَلَوْ
بِدُونِ طَلَبٍ. (2)
وَالْقَرْضُ مَا تُعْطِيهِ مِنْ مِثْلِيٍّ لِيَتَقَاضَى مِثْلَهُ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِدَانَةُ:
2 - الاِسْتِقْرَاضُ أَخَصُّ مِنْ الاِسْتِدَانَةِ، فَإِنَّ الدَّيْنَ
عَامٌّ شَامِلٌ لِلْقَرْضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ
كَالسَّلَمِ. وَالدَّيْنُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَجَلٌ، وَالأَْجَل فِيهِ
مُلْزَمٌ، أَمَّا الْقَرْضُ فَإِنَّ الأَْجَل فِيهِ غَيْرُ مُلْزَمٍ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إنَّ اشْتِرَاطَهُ مُلْزَمٌ،
وَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُقْرِضِ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَقْرِضِ مَا لَمْ يَحِل
الأَْجَل كَغَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ (4) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ. (5)
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب (قرض) .
(2) المبسوط 18 / 19 ط دار الفكر، وأدب الأوصياء 2 / 173 وما بعدها.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون، (قرض) والفتاوى الهندية 5 / 366، ورد المحتار 4
/ 171.
(4) ابن عابدين 4 / 172، والحطاب 4 / 545، وشرح الروض 2 / 140، والمغني مع
الشرح الكبير 4 / 354 ط المنار الثانية.
(5) حديث " المؤمنون عند شروطهم " أورده البخاري معلقا بدون سند بلفظ: "
المسلمون عند شروطهم " ولم يوصله في مكان آخر. وأخرجه إسحاق في مسنده من
طريق كثير بن عبد الله بزيادة " إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما " وكثير
هذا ضعفه الأكثر، لكن البخاري ومن تبعه يقوون أمره. وأخرجه الترمذي
بالإسناد نفسه وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد نوقش في تصحيحه هذا الحديث.
وأخرجه أبو داود من وللدارقطني والحاكم من حديث عائشة مثله وزاد " ما وافق
الحق " (فتح الباري 4 / 451 نشر السلفية وتحفة الأحوذي 4 / 584 نشر
السلفية، وعون المعبود 9 / 516 نشر السلفية) .
(4/78)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - الاِسْتِقْرَاضُ جَائِزٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْرِضِ بِشُرُوطٍ
يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابِ الْقَرْضِ، وَنَقَل بَعْضُهُمْ
الإِْجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ (1) ، وَرَوَى أَبُو رَافِعٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ
بَكْرًا، (2) فَقَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ
الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، (3) فَقَال:
أَعْطِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (4)
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلاِسْتِقْرَاضِ مَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْجَوَازِ
كَحُرْمَةِ الاِسْتِقْرَاضِ بِشَرْطِ نَفْعٍ لِلْمُقْرِضِ، وَكَوُجُوبِ
اسْتِقْرَاضِ الْمُضْطَرِّ (5) ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ
الَّتِي تُذْكَرُ فِي بَابِ الْقَرْضِ. وَيَصِحُّ التَّوْكِيل فِي
الاِسْتِقْرَاضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) المبسوط 14 / 30، والحطاب 4 / 545، وشرح الروض 2 / 140، والمغني لابن
قدامة 4 / 346 ط الرياض.
(2) البكر: الجمل الفتي القوي.
(3) رباعيا: أي ذكرا من الجمال نبتت رباعيته، وهي رابعة أسنانه من الأمام.
(4) مغني ابن قدامة 4 / 347 ط الرياض. وحديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم
استسلف من رجل بكرا. . . " أخرجه مسلم من حديث أبي رافع (صحيح مسلم 3 /
1224 ط عيسى الحلبي) .
(5) الزرقاني على خليل 5 / 226، والمغني لابن قدامة 4 / 351، والمبسوط 14 /
32، ونهاية المحتاج 4 / 216.
(4/79)
وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الاِسْتِقْرَاضَ طَلَبُ تَبَرُّعٍ مِنَ
الْمُقْرِضِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّكَدِّي (الشِّحَاذَةِ) وَلاَ يَصِحُّ
التَّوْكِيل فِيهِ. (1)
وَالاِسْتِقْرَاضُ أَحْيَانًا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ مِنَ الْقَاضِي،
كَاسْتِقْرَاضِ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِنَفَقَةِ الْقَرِيبِ عَلَى قَرِيبِهِ
الْمُعْسِرِ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، (2) وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ
فِي أَحْكَامِ النَّفَقَةِ.
وَلَوِ اسْتَقْرَضَ الأَْبُ مِنْ وَلَدِهِ فَإِنَّ لِلْوَلَدِ
مُطَالَبَتَهُ، عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ
فَجَازَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَغَيْرِهِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ
يُطَالَبُ، لِحَدِيثِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ. (3)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - أَغْلَبُ أَحْكَامِ الاِسْتِقْرَاضِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تُذْكَرُ فِي
بَابِ الْقَرْضِ، وَبِالإِْضَافَةِ إلَى ذَلِكَ تَأْتِي بَعْضُ أَحْكَامِهِ
فِي الشَّرِكَةِ، أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَنْ إِذْنِ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ
(4) ، وَفِي الْوَكَالَةِ عِنْدَ بَيَانِ مَا تَصِحُّ فِيهِ
__________
(1) شرح الروض 2 / 278، والمغني لابن قدامة 5 / 89، وابن عابدين 4 / 175.
(2) الزرقاني على خليل 4 / 258، وشرح الروض 3 / 244.
(3) حديث " أنت ومالك. . . " أخرجه البيهقي من حديث جابر بن عبد الله
مرفوعا، قال ابن حجر في تخريج الهداية: رجاله ثقات، لكن قال البزار: إنما
يعرف عن هشام عن ابن المكندر مرسلا. وقال البيهقي: أخطأ من وصله عن جابر،
وأخرجه الطبراني والبزار من حديث سمرة بن جندب، علق الهيثمي على إسناد هذا
الحديث فقال: فيه عبد الله بن إسماعيل الحوداني. قال أبو حاتم: لين وبقية
رجال البزار ثقات، ومفهومه أن رجال الطبراني ليسوا كذلك. كما أخرجه
الطبراني من حديث ابن مسعود، وذكر الهيثم
(4) ابن عابدين 3 / 353
(4/79)
الْوَكَالَةُ، (1) وَفِي الْوَقْفِ فِي
الاِسْتِدَانَةِ عَلَى الْوَقْفِ، (2) وَفِي النَّفَقَةِ فِي
الاِسْتِقْرَاضِ عَلَى الْغَائِبِ وَالْمُعْسِرِ. (3)
اسْتِقْسَام
التَّعْرِيفُ:
1 - يَأْتِي الاِسْتِقْسَامُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: طَلَبِ الْقَسْمِ
بِالأَْزْلاَمِ وَنَحْوِهَا، وَالْقَسْمُ هُنَا: مَا قُدِّرَ لِلإِْنْسَانِ
مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى طَلَبِ: الْقَسْمِ
الْمُقَدَّرِ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ، وَالْقَسْمُ هُنَا: النَّصِيبُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَقْصُودِ
بِالاِسْتِقْسَامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالأَْزْلاَمِ} . (4) فَقَال الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ الأَْزْهَرِيُّ
وَالْهَرَوِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ
وَالْقَفَّال وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَى الاِسْتِقْسَامِ
بِالأَْزْلاَمِ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِوَاسِطَةِ ضَرْبِ
الْقِدَاحِ، فَكَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا،
أَوْ غَزْوًا، أَوْ تِجَارَةً، أَوْ نِكَاحًا، أَوْ أَوْ أَمْرًا آخَرَ
ضَرَبَ بِالْقِدَاحِ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا عَلَى بَعْضِهَا " أَمَرَنِي
رَبِّي " وَعَلَى بَعْضِهَا " نَهَانِي رَبِّي " وَتَرَكُوا بَعْضَهَا
خَالِيًا عَنِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ خَرَجَ الأَْمْرُ أَقْدَمَ عَلَى
الْفِعْل، وَإِنْ خَرَجَ النَّهْيُ أَمْسَكَ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْل
أَعَادَ الْعَمَل
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 89.
(2) ابن عابدين 3 / 419.
(3) الزرقاني على خليل 4 / 258، وشرح الروض 3 / 438.
(4) سورة المائدة / 3.
(4/80)
مَرَّةً أُخْرَى، فَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنَ
الأَْزْلاَمِ أَنْ تَدُلَّهُمْ عَلَى قَسْمِهِمْ.
وَقَال الْمُؤَرَّجُ وَالْعَزِيزِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ:
الاِسْتِقْسَامُ هُنَا هُوَ الْمَيْسِرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ،
وَالأَْزْلاَمُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ
يَيْسِرُوا ابْتَاعُوا نَاقَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى يَضْمَنُونَهُ
لِصَاحِبِهَا، وَلَمْ يَدْفَعُوا الثَّمَنَ حَتَّى يَضْرِبُوا بِالْقِدَاحِ
عَلَيْهَا، فَيَعْلَمُوا عَلَى مَنْ يَجِبُ الثَّمَنُ. (1)
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ اللُّغَوِيِّينَ
وَالْمُفَسِّرِينَ (2) مِنْ أَنَّهُ الاِمْتِثَال لِمَا تُخْرِجُهُ
الأَْزْلاَمُ مِنَ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ فِي شُئُونِ حَيَاتِهِمْ،
وَالأَْقْدَاحُ هِيَ أَقْدَاحُ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّرْقُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الطَّرْقِ: الضَّرْبُ بِالْحَصَى، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ
التَّكَهُّنِ، وَشَبِيهُ الْخَطِّ فِي الرَّمْل، (3) وَفِي الْحَدِيثِ:
الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ (4)
__________
(1) لسان العرب (بتصرف) مادة (قسم) ، وتفسير الرازي 11 / 135 ط المطبعة
البهية المصرية، والقرطبي 6 / 58 وما بعدها ط دار الكتب المصرية، والطبري 9
/ 510 وما بعدها ط دار المعارف بمصر، وفتح الباري 8 / 277 ط البحوث العلمية
بالسعودية، والميسر والقداح لابن قتيبة ص 33 ط المطبعة السلفية بمصر،
وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 543 ط عيسى الحلبي.
(2) المبسوط 24 / 2 ط دار المعرفة بيروت، والدسوقي 2 / 129 ط دار الفكر،
والمغني 7 / 8 ط الرياض، والنظم المستعذب مع المهذب 2 / 287 ط دار المعرفة
بيروت، والفروق 4 / 240 ط دار المعرفة بيروت.
(3) لسان العرب، والزواجر 2 / 109، 110 ط دار المعرفة بيروت وابن عابدين 3
/ 306 ط بولاق، ومنتهى الإرادات 3 / 395 ط دار الفكر.
(4) حديث: " العيافة والطيرة. . . . " أخرجه أبو داود والنسائي من حديث
قبيصة بن برمة الأسدي. وقال النووي بعد عزو الحديث لأبي داود: إسناده حسن
(فيض القدير 4 / 395 - 396 ط المكتبة التجارية 1356 هـ) .
(4/80)
وَمِنْ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الطَّرْقَ
بِالْحَصَى وَالاِسْتِقْسَامَ كِلاَهُمَا لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ الْحُظُوظِ.
ب - الطِّيَرَةُ:
3 - هِيَ التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْعَرَبِيَّ كَانَ إِذَا أَرَادَ
الْمُضِيَّ لِمُهِمٍّ مَرَّ بِمَجَاثِمِ الطَّيْرِ وَأَثَارِهَا، فَإِنْ
تَيَامَنَتْ مَضَى، وَإِنْ تَشَاءَمَتْ تَطَيَّرَ وَعَدَل. فَنَهَى
الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ (1) فَفِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ
تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ (2) وَهِيَ بِهَذَا تُشْبِهُ
الاِسْتِقْسَامَ فِي أَنَّهَا طَلَبُ مَعْرِفَةِ قَسْمِهِ مِنَ الْغَيْبِ.
ج - الْفَأْل:
4 - الْفَأْل هُوَ أَنْ تَسْمَعَ كَلاَمًا حَسَنًا فَتَتَيَمَّنَ بِهِ،
وَالْفَأْل ضِدُّ الطِّيَرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْفَأْل وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 579 ط بولاق ثالثة، وإعلام الموقعين 4 / 397 ط دار
الجيل بيروت، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 376 ط المنار، والزواجر 2 /
109، 110.
(2) حديث: " ليس منا من تطير. . . ". أخرجه الطبراني والبزار من حديث عمران
بن حصين. قال المنذري: إسناد الطبراني حسن وإسناد البزار جيد، وقال
الهيثمي: فيه إسحاق بن الربيع العطار وثقه أبو حاتم وضعفه غيره وبقية رجاله
ثقات (فيض القدير 5 / 385 ط المكتبة التجارية الكبرى 1356 هـ) .
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل. . . ". أخرجه أحمد بن
حنبل من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، وأخرجه ابن ماجه بلفظ " كان النبي صلى
الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن ويكره
الطيرة " قال الحافظ البوصيري إسناده
صحيح، ورجاله ثقات (مسند أحمد بن حنبل 2 / 332 نشر المكتب الإسلامي 1398
هـ، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1170 ط عيسى الحلبي) .
(4/81)
وَالْفَأْل مُسْتَحْسَنٌ إِذَا كَانَ مِنْ
قَبِيل الْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُل مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ،
نَحْوُ: يَا فَلاَّحُ وَيَا مَسْعُودُ فَيَسْتَبْشِرُ بِهَا.
وَالْفَأْل بِهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ قَبِيل الاِسْتِقْسَامِ
(الْمَنْهِيِّ عَنْهُ) أَمَّا إِذَا قَصَدَ بِالْفَأْل طَلَبَ مَعْرِفَةِ
الْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ عَنْ طَرِيقِ أَخْذِهِ مِنْ مُصْحَفٍ، أَوْ ضَرْبِ
رَمْلٍ، أَوْ قُرْعَةٍ وَنَحْوِهَا - وَهُوَ يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَقْصِدَ
إنْ خَرَجَ جَيِّدًا اتَّبَعَهُ، وَإِنْ خَرَجَ رَدِيًّا اجْتَنَبَهُ -
فَهُوَ حَرَامٌ، لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل الاِسْتِقْسَامِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ. (1)
د - الْقُرْعَةُ:
5 - الْقُرْعَةُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الاِقْتِرَاعِ وَهُوَ
الاِخْتِيَارُ بِإِلْقَاءِ السِّهَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَيْسَتِ
الْقُرْعَةُ مِنَ الْمَيْسِرِ كَمَا يَقُول الْبَعْضُ، لأَِنَّ الْمَيْسِرَ
هُوَ الْقِمَارُ، وَتَمْيِيزُ الْحُقُوقِ لَيْسَ قِمَارًا.
وَلَيْسَتْ مِنْ الاِسْتِقْسَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لأَِنَّ
الاِسْتِقْسَامَ تَعَرُّضٌ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ، وَهُوَ مِمَّا
اسْتَأْثَرَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فِي حِينِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تَمْيِيزُ
نَصِيبٍ مَوْجُودٍ، فَهِيَ أَمَارَةٌ عَلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ قَطْعًا
لِلْخُصُومَةِ، أَوْ لإِِزَالَةِ الإِْبْهَامِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقُرْعَةُ الَّتِي تَكُونُ لِتَمْيِيزِ الْحُقُوقِ
مَشْرُوعَةٌ.
أَمَّا الْقُرْعَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الْفَأْل، أَوِ الَّتِي
يُطْلَبُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْغَيْبِ وَالْمُسْتَقْبَل فَهِيَ فِي مَعْنَى
الاِسْتِقْسَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والفروق 4 / 240، وإعلام الموقعين 4 /
397، والآداب الشرعية 3 / 376، والقرطبي 6 / 59، وأحكام القرآن لابن العربي
2 / 543، وابن عابدين 1 / 555.
(2) لسان العرب، والفروق 4 / 111، 112، 113، 240، والقرطبي 6 / 59، ومنتهى
الإرادات 3 / 515.
(4/81)
هـ - الْكِهَانَةُ:
6 - الْكِهَانَةُ أَوِ التَّكَهُّنُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ،
وَالْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ بَعْضِ الْمُضْمَرَاتِ، فَيُصِيبُ
بَعْضَهَا، وَيُخْطِئُ أَكْثَرَهَا، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْجِنَّ يُخْبِرُهُ
بِذَلِكَ، وَمِثْل الْكَاهِنِ: الْعَرَّافُ، وَالرَّمَّال، وَالْمُنَجِّمُ،
وَهُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَل بِطُلُوعِ النَّجْمِ
وَغُرُوبِهِ. (1)
وَفِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ
تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ وَمَنْ أَتَى
كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى
مُحَمَّدٍ. (2) وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكِهَانَةُ هِيَ مِنْ قَبِيل
الاِسْتِقْسَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
صِفَةُ الاِسْتِقْسَامِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - الاِسْتِقْسَامُ بِالأَْزْلاَمِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا - سَوَاءٌ كَانَ
لِطَلَبِ الْقَسْمِ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ الْغَيْبِيَّةِ، أَوْ كَانَ
لِلْمُقَامَرَةِ - وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ خَيْرًا - حَرَامٌ،
كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ} . (3)
وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} . . .
إلَى قَوْلِهِ {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} .
(4)
فَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، لأَِنَّهُ تَعَرُّضٌ لِعِلْمِ
__________
(1) المهذب 2 / 225، والزواجر 2 / 109، والقرطبي 6 / 59، وابن عابدين 3 /
306، ومنتهى الإرادات 3 / 395.
(2) حديث: (ليس منا من تطير أو تطير له. . .) سبق تخريجه فقرة 3، وعبارة "
من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " للبزار فقط.
(3) سورة المائدة / 90.
(4) سورة المائدة / 3.
(4/82)
الْغَيْبِ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ
الْمُقَامَرَةِ، وَكِلاَهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. (1)
إِحْلاَل الشَّرْعِ الاِسْتِخَارَةَ مَحَل الاِسْتِقْسَامِ:
8 - لَمَّا كَانَ الإِْنْسَانُ بِطَبْعِهِ يَمِيل إلَى التَّعَرُّفِ عَلَى
طَرِيقِهِ، وَالاِطْمِئْنَانِ إلَى أُمُورِ حَيَاتِهِ، فَقَدْ أَوْجَدَ
الشَّرْعُ لِلإِْنْسَانِ مَا يُلْجَأُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
لِيَشْرَحَ صَدْرَهُ لِمَا فِيهِ الْخَيْرُ فَيَتَّجِهُ إلَيْهِ.
وَالاِسْتِخَارَةُ طَلَبُ الْخِيَرَةِ فِي الشَّيْءِ (2) ، وَالتَّفْصِيل
فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخَارَةٌ) .
اسْتِقْلاَل
اُنْظُرْ: انْفِرَادٌ
اسْتِكْسَاب
اُنْظُرْ: إنْفَاقٌ، وَنَفَقَةٌ
__________
(1) القرطبي 6 / 59، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 543، والمغني 7 / 8،
والمبسوط 24 / 2، وابن عابدين 1 / 31، 32، 3 / 306، والفروق 4 / 240،
والزواجر 2 / 109 وما بعدها، وإعلام الموقعين 4 / 397، والآداب الشرعية
لابن مفلح 3 / 376، ومنتهى الإرادات 3 / 395، وزاد المعاد 4 / 254 ط مصطفى
الحلبي.
(2) الأذكار للنووي ص 101 ط دار الملاح للطباعة والنشر، والمغني 2 / 133،
وابن عابدين 1 / 461، ومنح الجليل 1 / 10.
(4/82)
اسْتِلاَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِلاَمِ فِي اللُّغَةِ: اللَّمْسُ بِالْيَدِ أَوِ
الْفَمِ. وَالاِسْتِلاَمُ مَأْخُوذٌ إمَّا مِنَ السَّلاَمِ أَيِ
التَّحِيَّةِ، (1) وَإِمَّا مِنَ السَّلاَمِ أَيِ الْحِجَارَةِ، لِمَا
فِيهِ مِنْ لَمْسِ الْحَجَرِ. وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ
الْمَعَانِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الطَّوَافِ. (2)
وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَال الاِسْتِلاَمِ بِمَعْنَى التَّسَلُّمِ،
فَيُرْجَعُ إلَيْهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي مُصْطَلَحِ: (تَسَلُّمٌ) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِالْيَدِ فِي أَوَّل الطَّوَافِ
(3) ، رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَسْتَلِمُ إلاَّ الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ
الْيَمَانِيَّ. (4) وَقَال ابْنُ عُمَرَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ
الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُمَا فِي شِدَّةٍ وَلاَ
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس (سلم) .
(2) طلبة الطلبة ص 29 ط مكتبة المثنى، والنظم المستعذب 1 / 229 ط مصطفى
الحلبي، والمغني لابن قدامة 3 / 371 ط الرياض.
(3) ابن عابدين 3 / 169 ط بولاق، والعدوي على الكفاية 1 / 404 ط مصطفى
الحلبي، وشرح الروض 1 / 480، 481 ط الميمنية، والمغني لابن قدامة 3 / 379،
380 ط الرياض.
(4) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر. . . "
أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر (صحيح مسلم 2 / 924 ط عيسى الحلبي 1374
هـ) .
(4/83)
رَخَاءٍ. (1) وَلأَِنَّ الرُّكْنَ
الْيَمَانِيَّ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَسُنَّ اسْتِلاَمُهُ، كَاسْتِلاَمِ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ.
(2) وَالاِسْتِلاَمُ فِي كُل طَوْفَةٍ كَالْمَرَّةِ الأُْولَى عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ بِالاِسْتِحْبَابِ. (3)
وَالاِسْتِلاَمُ بِالْفَمِ كَالاِسْتِلاَمِ بِالْيَدِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْحَجَرِ، إلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إنَّ الاِسْتِلاَمَ
بِالْيَدِ يَكُونُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الاِسْتِلاَمِ بِالْفَمِ. (4)
وَفِي اسْتِلاَمِ الْيَمَانِيِّ بِالْفَمِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
يُذْكَرُ فِي أَحْكَامِ الطَّوَافِ.
وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الاِسْتِلاَمِ بِالْيَدِ يَسْتَلِمُ الإِْنْسَانُ
بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِلاَمُهُ أَصْلاً أَشَارَ إلَيْهِ وَكَبَّرَ
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إلَيْهِ
وَكَبَّرَ. (5)
وَبَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ يُسَنُّ كَذَلِكَ
__________
(1) حديث ابن عمر " ما تركت استلام هذين الركنين. . . ". أخرجه مسلم (صحيح
مسلم 2 / 924 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(2) المغني لابن قدامة 3 / 380.
(3) ابن عابدين 2 / 169، وشرح الروض 1 / 480، والمهذب 1 / 229، والمغني
لابن قدامة 3 / 380، والعدوي على الكفاية 1 / 404.
(4) ابن عابدين 2 / 166، ومغني المحتاج 1 / 487 ط مصطفى الحلبي، والمغني
لابن قدامة 3 / 379.
(5) ابن عابدين 2 / 166، والكفاية 1 / 405 ط مصطفى الحلبي، وشرح الروض 1 /
480، وشرح منتهى الإرادات 2 / 50 ط الرياض، والمغني لابن قدامة 3 / 381.
وحديث: " طاف النبي. . . " أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما،
ولفظه: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما أتى على الركن
أشار بشيء في يده وكبر " (فتح الباري 3 / 476 ط السلفية) .
(4/83)
الْعَوْدُ لاِسْتِلاَمِ الْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ (1) . وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل، وَيَخْتَلِفُ
الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال.
وَاسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ تَعَبُّدِيٌّ
وَخُصُوصِيَّةٌ لَهُمَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي
أَحْكَامِ الطَّوَافِ.
اسْتِلْحَاق
التَّعْرِيفُ
1 - الاِسْتِلْحَاقُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَلْحَقَ، يُقَال: اسْتَلْحَقَهُ
ادَّعَاهُ. (2)
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ. وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ
الاِسْتِلْحَاقِ هُوَ اسْتِعْمَال الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي
الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى قِلَّةٍ. (3)
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
2 - جَاءَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ كُل مُسْتَلْحَقٍ اُسْتُلْحِقَ
بَعْدَ أَبِيهِ الَّذِي
__________
(1) ابن عابدين 2 / 169، والعدوي على الكفاية 1 / 405، ومغني المحتاج 1 /
487.
(2) لسان العرب، وتاج العروس، والصحاح في مادة (لحق) .
(3) حاشية البجيرمي على شرح المنهج 3 / 91 ط المكتب الإسلامي، وفتح العزيز
3 / 261، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 412.
(4/84)
يُدْعَى لَهُ فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ
اسْتَلْحَقَهُ (1) قَال الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أَحْكَامٌ وَقَعَتْ فِي
أَوَّل زَمَانِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لأَِهْل
الْجَاهِلِيَّةِ إمَاءٌ بَغَايَا، وَكَانَ سَادَتُهُنَّ يُلِمُّونَ
بِهِنَّ، فَإِذَا جَاءَتْ إِحْدَاهُنَّ بِوَلَدٍ رُبَّمَا ادَّعَاهُ
السَّيِّدُ وَالزَّانِي، فَأَلْحَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالسَّيِّدِ، لأَِنَّ الأَْمَةَ فِرَاشٌ كَالْحُرَّةِ، فَإِنْ
مَاتَ السَّيِّدُ وَلَمْ يَسْتَلْحِقْهُ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ وَرَثَتُهُ
بَعْدَهُ لَحِقَ بِأَبِيهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الاِسْتِلْحَاقِ عِنْدَ
الصِّدْقِ وَاجِبٌ، وَمَعَ الْكَذِبِ فِي ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ حَرَامٌ،
وَيُعَدُّ مِنَ الْكَبَائِرِ، لأَِنَّهُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، لِمَا
صَحَّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ،
فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ
جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ
احْتَجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ
الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2)
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق. . . " أخرجه
أبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " أن النبي
صلى الله عليه وسلم قضى - وفي ابن ماجه قال - أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه
الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد
لحق بمن استلحقه ". قال الحافظ البوصيري عند ال وسنن ابن ماجه تحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي 2 / 917 - 918 ط عيسى الحلبي 1373 هـ) .
(2) حديث: " أيما امرأة أدخلت على قوم. . . " أخرجه أبو داود والنسائي وابن
ماجه وابن حبان والحاكم - وصححاه ووافق الذهبي الحاكم على تصحيحه - من حديث
أبي هريرة، وصححه الدارقطني في العلل، مع اعترافه بتفرد عبد الله بن يوسف
عن سعيد المقبري، وأنه لا يعرف إلا به. وقال في الفتح بعد ما عزاه لأبي
داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن يوسف حجازي: ما روى عنه
سوى يزيد بن الهاد. (فيض القدير 3 / 137 ط المكتبة والمستدرك 2 / 203 نشر
دار الكتاب العربي) .
(4/84)
هَذَا وَيَشْتَرِطُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ
لِصِحَّةِ الاِسْتِلْحَاقِ شُرُوطًا مُعَيَّنَةً، مِنْهَا: أَنْ يُولَدَ
مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَجْهُول النَّسَبِ، وَأَلاَّ
يُكَذِّبَهُ الْمُقِرُّ لَهُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْل الإِْقْرَارِ عَلَى
تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ) (1) وَفِي بَابِهِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ.
اسْتِمَاع
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِمَاعُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: قَصْدُ السَّمَاعِ بُغْيَةَ
فَهْمِ الْمَسْمُوعِ أَوْ الاِسْتِفَادَةِ مِنْهُ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّمَاعُ:
2 - الاِسْتِمَاعُ لاَ يَكُونُ اسْتِمَاعًا إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَ فِيهِ
الْقَصْدُ، أَمَّا السَّمَاعُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدٍ، أَوْ
بِدُونِ قَصْدٍ. (3) وَغَالِبُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلسَّمَاعِ
يَنْصَرِفُ إلَى اسْتِمَاعِ آلاَتِ الْمَلاَهِي، أَيْ بِالْقَصْدِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 228، ونهاية المحتاج 5 / 106 ط المكتب الإسلامي،
والمغني 5 / 200 ط السعودية، ومواهب الجليل 5 / 238 ط ليبيا، والنهاية لابن
الأثير (لحق) .
(2) المصباح المنير مادة (سمع) والفروق في اللغة ص 81 طبع دار الآفاق،
وحاشية قليوبي 3 / 297.
(3) المصباح المنير مادة (سمع) .
(4/85)
ب - اسْتِرَاقُ السَّمْعِ:
الاِسْتِمَاعُ قَدْ يَكُونُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِخْفَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ
عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ، وَلَكِنَّ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ لاَ يَكُونُ
إلاَّ عَلَى سَبِيل الاِسْتِخْفَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: اسْتِرَاقُ
السَّمْعِ هُوَ الاِسْتِمَاعُ مُسْتَخْفِيًا (1) (ر: اسْتِرَاقُ السَّمْعِ)
.
ج - التَّجَسُّسُ:
الاِسْتِمَاعُ لاَ يَكُونُ إلاَّ بِالسَّمْعِ، أَمَّا التَّجَسُّسُ
فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالسَّمْعِ وَبِغَيْرِهِ فَضْلاً عَنْ أَنَّ
التَّجَسُّسَ يَكُونُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِخْفَاءِ، (2) فِي حِينِ أَنَّ
الاِسْتِمَاعَ يَكُونُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِخْفَاءِ، أَوْ عَلَى سَبِيل
الْمُجَاهَرَةِ (ر: تَجَسُّسٌ) .
د - الإِْنْصَاتُ:
الإِْنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ (3) . وَيَكُونُ
الاِسْتِمَاعُ إمَّا لِصَوْتِ الإِْنْسَانِ، أَوِ الْحَيَوَانِ، أَوِ
الْجَمَادِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: اسْتِمَاعُ صَوْتِ الإِْنْسَانِ.
أ - حُكْمُ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
3 - الاِسْتِمَاعُ إلَى تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ حِينَ يُقْرَأُ
وَاجِبٌ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُذْرٌ مَشْرُوعٌ لِتَرْكِ الاِسْتِمَاعِ.
(4)
__________
(1) المصباح المنير مادة (سرق) .
(2) المصباح المنير مادة (جس) .
(3) المصباح المنير مادة (نصت) .
(4) فتح القدير للشوكاني 2 / 267 طبع مصطفى البابي الحلبي 1350 هـ، وأحكام
القرآن للجصاص 3 / 49 طبع المطبعة البهية المصرية، وحاشية ابن عابدين 1 /
366 الطبعة الأولى.
(4/85)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا
الْوُجُوبِ، هَل هُوَ وُجُوبٌ عَيْنِيٌّ، أَوْ وُجُوبٌ كِفَائِيٌّ؟ قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: الأَْصْل أَنَّ الاِسْتِمَاعَ لِلْقُرْآنِ فَرْضُ
كِفَايَةٍ، لأَِنَّهُ لإِِقَامَةِ حَقِّهِ، بِأَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا
إلَيْهِ غَيْرَ مُضَيِّعٍ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِإِنْصَاتِ الْبَعْضِ، كَمَا
فِي رَدِّ السَّلاَمِ.
وَنَقَل الْحَمَوِيُّ عَنْ أُسْتَاذِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ يَحْيَى
الشَّهِيرِ بِمِنْقَارِي زَادَهْ: أَنَّ لَهُ رِسَالَةً حَقَّقَ فِيهَا
أَنَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ فَرْضُ عَيْنٍ. (1)
نَعَمْ إنَّ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الأَْعْرَافِ {وَإِذَا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (2) قَدْ نَزَلَتْ لِنَسْخِ
جَوَازِ الْكَلاَمِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ. (3) إلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ
لِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَفْظُهَا يَعُمُّ
قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ وَفِي غَيْرِهَا. (4)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ اسْتِمَاعُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ. (5)
4 - وَيُعْذَرُ الْمُسْتَمِعُ بِتَرْكِ الاِسْتِمَاعِ لِتِلاَوَةِ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَلاَ يَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ - بَل الآْثِمُ هُوَ
التَّالِي، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ - إِذَا وَقَعَتِ
التِّلاَوَةُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ فِي أَمَاكِنِ الاِشْتِغَال،
وَالْمُسْتَمِعُ فِي حَالَةِ اشْتِغَالٍ، كَالأَْسْوَاقِ الَّتِي بُنِيَتْ
لِيَتَعَاطَى فِيهَا النَّاسُ أَسْبَابَ الرِّزْقِ، وَالْبُيُوتِ فِي
حَالَةِ تَعَاطِي أَهْل الْبَيْتِ أَعْمَالَهُمْ مِنْ كَنْسٍ وَطَبْخٍ
وَنَحْوِ ذَلِكَ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 367.
(2) سورة الأعراف / 204.
(3) انظر تفسير القرطبي لهذه الآية (7 / 353 ط دار الكتب المصرية 1960 م) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 366.
(5) شرح منتهى الإرادات 1 / 242.
(4/86)
وَفِي حَضْرَةِ نَاسٍ يَتَدَارَسُونَ
الْفِقْهَ، وَفِي الْمَسَاجِدِ، لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ إنَّمَا بُنِيَتْ
لِلصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تَبَعٌ لِلصَّلاَةِ، فَلاَ تُتْرَكُ
الصَّلاَةُ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ فِيهِ. وَإِنَّمَا سَقَطَ إثْمُ تَرْكِ
الاِسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ فِي حَالاَتِ الاِشْتِغَال دَفْعًا لِلْحَرَجِ
عَنِ النَّاسِ. قَال تَعَالَى - {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ} (1) وَإِنَّمَا أَثِمَ الْقَارِئُ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ مُضَيِّعٌ
لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ. (2)
ب - طَلَبُ تِلاَوَتِهِ لِلاِسْتِمَاعِ إلَيْهِ:
5 - يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَطْلُبَ مِمَّنْ يُعْلَمُ مِنْهُ
إجَادَةُ التِّلاَوَةِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ
التِّلاَوَةَ لِيَسْتَمِعَ إلَيْهَا، قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: "
اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقِرَاءَةِ بِالأَْصْوَاتِ
الْحَسَنَةِ أَنْ يَقْرَءُوا وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ
عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَهُوَ مِنْ عَادَةِ الأَْخْيَارِ الْمُتَعَبِّدِينَ
وَعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال لِي رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقُلْتُ:
يَا رَسُول اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِل؟ قَال: نَعَمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْتُ
سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى هَذِهِ الآْيَةِ {فَكَيْفَ إِذَا
جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ
شَهِيدًا} (3) قَال: حَسْبُكَ الآْنَ، فَالْتَفَتُّ
__________
(1) سورة الحج / 78.
(2) مواهب الجليل 2 / 62 طبع مكتبة النجاح طرابلس ليبيا، وجواهر الإكليل 1
/ 71 طبع عباس شقرون، وحاشية ابن عابدين 1 / 366 و 367، والفتاوى الهندية 5
/ 316.
(3) سورة النساء / 41.
(4/86)
إلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
(1)
وَرَوَى الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُول لأَِبِي مُوسَى
الأَْشْعَرِيِّ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا، فَيَقْرَأُ عِنْدَهُ الْقُرْآنَ (2)
. وَالآْثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
6 - قَال النَّوَوِيُّ: وَقَدِ اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُسْتَفْتَحَ
مَجْلِسُ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْتَمُ
بِقِرَاءَةِ قَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ مِمَّا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ
(3) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
أَفْضَل مِنْ قِرَاءَةِ الإِْنْسَانِ الْقُرْآنَ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ
الْمُسْتَمِعَ يَقُومُ بِأَدَاءِ فَرْضٍ بِالاِسْتِمَاعِ، بَيْنَمَا
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، قَال أَبُو السُّعُودِ فِي
حَاشِيَتِهِ عَلَى مُلاَّ مِسْكِينٍ: اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ أَثْوَبُ مِنْ
قِرَاءَتِهِ، لأَِنَّ اسْتِمَاعَهُ فَرْضٌ بِخِلاَفِ الْقِرَاءَةِ. (4)
ج - اسْتِمَاعُ التِّلاَوَةِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِمَاعِ تِلاَوَةِ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالتَّرْجِيعِ وَالتَّلْحِينِ الْمُفْرِطِ الَّذِي
فِيهِ التَّمْطِيطُ، وَإِشْبَاعُ الْحَرَكَاتِ. وَالتَّرْجِيعُ: أَيِ
التَّرْدِيدُ لِلْحُرُوفِ وَالإِْخْرَاجُ لَهَا مِنْ غَيْرِ مَخَارِجِهَا.
وَقَالُوا: التَّالِي وَالْمُسْتَمِعُ فِي الإِْثْمِ سَوَاءٌ، أَيْ إِذَا
لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَوْ يُعَلِّمْهُ. أَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ
بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لأُِصُول الْقِرَاءَةِ
فَهُوَ
__________
(1) حديث " اقرأ علي القرآن. . . " أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه مرفوعا.
(2) والأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه الدارمي (سنن الدارمي 2 /
472 ط المطبعة الحديثة بدمشق 1349 هـ) .
(3) التبيان في آداب حملة القرآن ص 64 ط دار الفكر.
(4) أبو السعود على ملا مسكين 3 / 390.
(4/87)
مُسْتَحَبٌّ، وَاسْتِمَاعُهُ حَسَنٌ،
لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَيِّنُوا
الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ (1) وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا
مِنْ مَزَامِيرِ آل دَاوُدَ. (2)
وَعَلَى هَذَا يُحْمَل قَوْل الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الأُْمِّ: لاَ
بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ بِالأَْلْحَانِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِهَا بِأَيِّ
وَجْهٍ مَا كَانَ، وَأَحَبُّ مَا يُقْرَأُ إِلَيَّ حَدْرًا وَتَحْزِينًا:
(3)
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - كَالْمَاوَرْدِيِّ - إلَى أَنَّ
التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ حَرَامٌ مُطْلَقًا، لإِِخْرَاجِهِ عَنْ نَهْجِهِ
الْقَوِيمِ، وَقَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِمَا إِذَا وَصَل بِهِ إلَى حَدٍّ لَمْ
يَقُل بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ
كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى إلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِالأَْلْحَانِ
مَكْرُوهَةٌ عَلَى كُل حَالٍ، لإِِخْرَاجِ الْقُرْآنِ عَنْ نَهْجِهِ
الْقَوِيمِ،
__________
(1) حديث " زينو القرآن بأصواتكم " أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه
مرفوعا من حديث البراء بن عازب، سكت عنه المنذري، وصححه الألباني. (مختصر
أبي داود للمنذري 2 / 137، 138، نشر دار المعرفة، وجامع الأصول 2 / 454 نشر
مكتبة الحلواني 1389 هـ، وصحيح الجامع الصغير بتحقيق الألباني 3 / 194 نشر
المكتب الإسلامي، ومشكاة المصابيح 1 / 674 نشر المكتب الإسلامي 1399 هـ) .
(2) حاشية أبي السعود على ملا مسكين 3 / 390، وحاشية ابن عابدين على الدر 5
/ 270، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 528، والفتاوى الهندية 5 / 317،
وجواهر الإكليل 1 / 71 طبع عباس شقرون، وكفاية الطالب 2 / 345، والمغني 9 /
179 وما بعدها، وحاشية قليوبي 4 / 320. وحديث: " لقد أوتي مزمارا من مزامير
آل داود ". أخرجه مسلم من حديث بريدة مرفوعا بلفظ: " إن عبد الله بن قيس أو
" الأشعري " أعطي مزمارا من مزامير آل داود ". (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد
عبد الباقي 1 / 546 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(3) الأم 6 / 215 طبع بولاق 1326 هـ.
(4/87)
وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ
بِأَنَّ مَعْنَاهُ: يَسْتَغْنِي بِهِ. (1)
8 - وَفِي كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ - كَمَا
يَفْعَل الْمُتَعَلِّمُونَ عِنْدَ الشَّيْخِ وَهُوَ يَسْتَمِعُ لَهُمْ -
رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ حَسَنٌ.
وَالثَّانِيَةُ: الْكَرَاهَةُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ،
قَال ابْنُ رُشْدٍ: كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ هَذَا وَلاَ يَرْضَاهُ، ثُمَّ
رَجَعَ وَخَفَّفَهُ.
وَجْهُ الْكَرَاهَةِ: أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مَرَّةً
وَاحِدَةً لاَ بُدَّ أَنْ يَفُوتَهُ سَمَاعُ مَا يَقْرَأُ بِهِ بَعْضُهُمْ،
مَا دَامَ يُصْغِي إلَى غَيْرِهِمْ، وَيَشْتَغِل بِالرَّدِّ عَلَى الَّذِي
يُصْغِي إلَيْهِ، فَقَدْ يُخْطِئُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ
قَدْ سَمِعَهُ، وَأَجَازَ قِرَاءَتَهُ، فَيُحْمَل عَنْهُ الْخَطَأُ،
وَيَظُنُّهُ مَذْهَبًا لَهُ.
وَوَجْهُ التَّخْفِيفِ: الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُقْرِئِ
بِانْفِرَادِ كُل وَاحِدٍ حِينَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ إِذَا كَثُرُوا،
وَقَدْ لاَ يَعُمُّهُمْ، فَرَأَى جَمْعَهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ أَحْسَنَ
مِنَ الْقَطْعِ بِبَعْضِهِمْ. (2)
د - اسْتِمَاعُ الْكَافِرِ الْقُرْآنَ:
9 - لاَ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ الاِسْتِمَاعِ إلَيْهِ، لِقَوْلِهِ جَل
__________
(1) المغني 9 / 180، وحاشية القليوبي 4 / 320 وحديث " ليس منا من لم يتغن
بالقرآن ". أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، وأحمد بن حنبل وأبو داود وابن
حبان من حديث سعد بن أبي وقاص، وأبو داود من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر،
والحاكم من حديث ابن عباس عن عائشة (فيض القدير 5 / 387 - 388 ط المكتبة
التجارية 1356 هـ) .
(2) مواهب الجليل 2 / 64 ط مكتبة النجاح ليبيا، والفتاوى الهندية 5 / 317.
(4/88)
شَأْنُهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}
(1) . وَرَجَاءَ أَنْ يَشْرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِْسْلاَمِ
فَيَهْتَدِيَ. (2)
هـ - اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ اسْتِمَاعَ الْمَأْمُومِ فِي
الصَّلاَةِ لِقِرَاءَةِ الإِْمَامِ وَالإِْنْصَاتَ إلَيْهِ وَاجِبٌ،
وَقِرَاءَتُهُ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً، سَوَاءٌ أَكَانَ
ذَلِكَ فِي الْجَهْرِيَّةِ أَمِ السِّرِّيَّةِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ اسْتِمَاعَ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ
الإِْمَامِ تُسْتَحَبُّ فِي الْجَهْرِيَّةِ، أَمَّا السِّرِّيَّةُ
فَإِنَّهَا تُسْتَحَبُّ فِيهَا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، خِلاَفًا
لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ ذَهَبَ إلَى وُجُوبِهَا فِي السِّرِّيَّةِ.
(4)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ
فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ فَاتَهُ
الاِسْتِمَاعُ. (5)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ
الاِسْتِمَاعُ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ فِي
الْجَهْرِيَّةِ، (6) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ) .
و اسْتِمَاعُ آيَةِ السَّجْدَةِ:
11 - يَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِمَاعِ أَوْ سَمَاعِ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ
السَّجْدَةِ السُّجُودُ لِلتِّلاَوَةِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
فِي حُكْمِ السُّجُودِ، تَجِدُهُ مَعَ أَدِلَّتِهِ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودُ
التِّلاَوَةِ) .
__________
(1) سورة التوبة / 6.
(2) التبيان ص 103، وحاشية قليوبي 3 / 288.
(3) ابن عابدين 1 / 366، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 123 المطبعة
الأميرية ط 3.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 236.
(5) نهاية المحتاج 1 / 457.
(6) المغني 1 / 563.
(4/88)
ثَانِيًا: اسْتِمَاعُ غَيْرِ الْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ:
أ - حُكْمُ اسْتِمَاعِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ
لِلْخُطْبَةِ.
12 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ،
وَالأَْوْزَاعِيُّ إلَى وُجُوبِ الاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ، وَهُوَ مَا
ذَهَبَ إلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،
وَابْنُ مَسْعُودٍ (1) ، حَتَّى قَال الْحَنَفِيَّةُ: كُل مَا حَرُمَ فِي
الصَّلاَةِ حَرُمَ فِي الْخُطْبَةِ، فَيَحْرُمُ أَكْلٌ، وَشُرْبٌ،
وَكَلاَمٌ، وَلَوْ تَسْبِيحًا، أَوْ رَدَّ سَلاَمٍ، أَوْ أَمْرًا
بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: -
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا} (2)
- وَبِأَنَّ الْخُطْبَةَ كَالصَّلاَةِ، فَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ
رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ تَحْذِيرَ مَنْ خِيفَ هَلاَكُهُ،
لأَِنَّهُ يَجِبُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، أَمَّا
الإِْنْصَاتُ فَهُوَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ. (3)
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا: الذِّكْرَ الْخَفِيفَ إنْ كَانَ
لَهُ سَبَبٌ، كَالتَّهْلِيل، وَالتَّحْمِيدِ، وَالاِسْتِغْفَارِ،
وَالتَّعَوُّذِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الإِْسْرَارِ بِهَذِهِ
الأَْذْكَارِ الْخَفِيفَةِ. (4)
وَاسْتَدَل مَنْ قَال بِوُجُوبِ الاِسْتِمَاعِ لِلْخُطْبَةِ بِمَا رَوَاهُ
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: {
__________
(1) المغني 2 / 320، والمجموع 4 / 525، وحاشية ابن عابدين 1 / 366.
(2) سورة الأعراف / 204.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 366 والمغني 2 / 333.
(4) مواهب الجليل 2 / 176 طبع دار الفكر.
(4/89)
إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ - وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ - فَقَدْ لَغَوْتَ. (1)
13 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الاِسْتِمَاعَ وَالإِْنْصَاتَ
أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ سُنَّةٌ، وَلاَ يَحْرُمُ الْكَلاَمُ، بَل يُكْرَهُ،
وَحَكَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (2) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى
الْكَرَاهَةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ:
أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ (3) وَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ:
فَبَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ
عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَال: يَا
رَسُول اللَّهِ، هَلَكَ الْمَال وَجَاعَ الْعِيَال فَادْعُ لَنَا أَنْ
يَسْقِيَنَا. قَال: فَرَفَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ. . . (4)
وَإِنْ عَرَضَ لَهُ نَاجِزٌ كَتَعْلِيمِ خَيْرٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ،
وَإِنْذَارِ إنْسَانٍ عَقْرَبًا، أَوْ أَعْمَى بِئْرًا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ
الْكَلاَمِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الإِْشَارَةِ إنْ
أَغْنَتْ، وَيُبَاحُ لَهُ - أَيِ الْكَلاَمُ - بِلاَ كَرَاهَةٍ.
وَيُبَاحُ الْكَلاَمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِلدَّاخِل فِي أَثْنَاءِ
__________
(1) حديث " إذا قلت لصاحبك. . . ". أخرجه البخاري واللفظ له، ومسلم وأحمد
بن حنبل ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا (فتح
الباري 2 / 414 ط السلفية، وفيض القدير 1 / 418 ط المكتبة التجارية 1356
هـ) .
(2) المجموع 4 / 525 الطبعة الأولى، وأسنى المطالب 1 / 258، والمغني لابن
قدامة 2 / 320.
(3) حديث " إذا قلت لصاحبك. . . ". سبق تخريجه ف / 12.
(4) " فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة قام
أعرابي فقال: يا رسول الله. . . ". أخرجه البخاري واللفظ له، ومسلم من حديث
أنس بن مالك رضي الله عنه (فتح الباري 2 / 519 ط السلفية، وصحيح مسلم بشرح
النووي 6 / 193، 194 ط المطبعة المصرية) .
(4/89)
الْخُطْبَةِ مَا لَمْ يَجْلِسْ، كَمَا
صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ دَاخِلٌ عَلَى مُسْتَمِعِ الْخُطْبَةِ
وَهُوَ يَخْطُبُ، وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الإِْنْصَاتَ سُنَّةٌ، وَيُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ
اللَّهَ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ كَسَائِرِ
الْكَلاَمِ لأَِنَّ سَبَبَهُ قَهْرِيٌّ. (1)
14 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ لِلْبَعِيدِ
الَّذِي لاَ يَسْمَعُ صَوْتَ الْخَطِيبِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ،
وَيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، لأَِنَّهُ إنْ
رَفَعَ صَوْتَهُ مَنَعَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ مِنْ الاِسْتِمَاعِ،
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ (2) ،
حَتَّى قَال النَّخَعِيُّ: إنِّي لأََقْرَأُ جُزْئِي إِذَا لَمْ أَسْمَعِ
الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (3) .
وَسَأَل إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَلْقَمَةَ: أَقْرَأُ فِي نَفْسِي
أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ؟ فَقَال عَلْقَمَةُ: لَعَل ذَلِكَ أَلاَّ يَكُونَ
بِهِ بَأْسٌ (4) .
ب - اسْتِمَاعُ صَوْتِ الْمَرْأَةِ:
15 - إِذَا كَانَ مَبْعَثُ الأَْصْوَاتِ هُوَ الإِْنْسَانُ، فَإِنَّ هَذَا
الصَّوْتَ إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْزُونٍ وَلاَ مُطْرِبٍ، أَوْ
يَكُونُ مُطْرِبًا.
فَإِنْ كَانَ الصَّوْتُ غَيْرَ مُطْرِبٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَوْتَ
رَجُلٍ أَوْ صَوْتَ امْرَأَةٍ، فَإِنْ كَانَ صَوْتَ رَجُلٍ: فَلاَ قَائِل
بِتَحْرِيمِ اسْتِمَاعِهِ.
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 258 وما بعدها.
(2) المغني 2 / 322، ومصنف عبد الرزاق 3 / 213، وطرح التثريب 3 / 183، ونيل
الأوطار 3 / 273 طبع مصطفى البابي الحلبي 1374 هـ، والمجموع 4 / 429 طبع
مطبعة الإمام.
(3) المغني 2 / 322.
(4) مصنف عبد الرزاق 3 / 213.
(4/90)
أَمَّا إنْ كَانَ صَوْتَ امْرَأَةٍ، فَإِنْ
كَانَ السَّامِعُ يَتَلَذَّذُ بِهِ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِتْنَةً
حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَحْرُمُ، (1) وَيُحْمَل
اسْتِمَاعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَصْوَاتَ
النِّسَاءِ حِينَ مُحَادَثَتِهِنَّ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ
تَرْخِيمُ الصَّوْتِ وَتَنْغِيمُهُ وَتَلْيِينُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ
إثَارَةِ الْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْل فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (2) .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الصَّوْتُ مُطْرِبًا فَهَذَا الْغِنَاءُ اسْتِمَاعٌ،
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل الْقَوْل فِيهِ:
ج - الاِسْتِمَاعُ إلَى الْغِنَاءِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ
يَكُونُ مُحَرَّمًا فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:
أ - إِذَا صَاحَبَهُ مُنْكَرٌ.
ب - إِذَا خُشِيَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى فِتْنَةٍ كَتَعَلُّقٍ بِامْرَأَةٍ،
أَوْ بِأَمْرَدَ، أَوْ هَيَجَانِ شَهْوَةٍ مُؤَدِّيَةٍ إِلَى الزِّنَى.
ج - إِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ وَاجِبٍ دِينِيٍّ كَالصَّلاَةِ، أَوْ
دُنْيَوِيٍّ كَأَدَاءِ عَمَلِهِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا أَدَّى
إِلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا. كَقِيَامِ اللَّيْل،
وَالدُّعَاءِ فِي الأَْسْحَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (3)
__________
(1) حاشية قليوبي 3 / 208 طبع مصطفى الحلبي، وحاشية الدسوقي 1 / 195،
وإحياء علوم الدين 2 / 281، وحاشية ابن عابدين 1 / 271، 5 / 236.
(2) سورة الأحزاب / 32.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 269، وسنن البيهقي 5 / 69، 97، وأسنى المطالب 4 /
44 طبع المكتبة الإسلامية، وحاشية الجمل 5 / 380 ط إحياء التراث العربي،
وحاشية ابن عابدين 5 / 22 و 4 / 384، وحاشية الدسوقي 4 / 166، والمغني 9 /
175 طبع المنار الثالثة، وعمدة القاري 71 طبع المنيرية.
(4/90)
الْغِنَاءُ لِلتَّرْوِيحِ عَنِ النَّفْسِ:
أَمَّا إِذَا كَانَ الْغِنَاءُ بِقَصْدِ التَّرْوِيحِ عَنِ النَّفْسِ،
وَكَانَ خَالِيًا عَنِ الْمَعَانِي السَّابِقَةِ فَقَدِ اُخْتُلِفَ فِيهِ،
فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ وَأَجَازَهُ آخَرُونَ.
17 - وَقَدْ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى تَحْرِيمِهِ،
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْل الْعِرَاقِ، مِنْهُمْ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَامِرُ الشَّعْبِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ،
وَالْحَنَفِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ. (1)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ عَلَى التَّحْرِيمِ: - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِل عَنْ سَبِيل اللَّهِ}
(2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لَهْوُ الْحَدِيثِ هُوَ:
الْغِنَاءُ.
وَبِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُغَنِّيَاتِ،
وَعَنْ شِرَائِهِنَّ، وَعَنْ كَسْبِهِنَّ، وَعَنْ أَكْل أَثْمَانِهِنَّ.
(3)
__________
(1) سنن البيهقي 10 / 223، والمغني 9 / 175، والمحلى 9 / 59 طبع المنيرية،
وعمدة القاري 6 / 271، ومصنف عبد الرزاق 11 / 4، 6 طبع المكتب الإسلامي،
وإحياء علوم الدين 2 / 269 طبع مطبعة الاستقامة، وفتح القدير 6 / 35،
وبدائع الصنائع 6 / 2972
(2) سورة لقمان / 6.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المغنيات وعن شرائهن
وعن كسبهن وعن. . . " أخرجه أحمد وابن ماجه واللفظ له والترمذي من حديث أبي
أمامة رضي الله عنه وقال: حديث أبي أمامة إنما نعرف مثل هذا من هذا الوجه،
وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه، وهو شامي. قال البخاري: منكر
الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال الدارقطني:
متروك (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 733 ط عيسى الحلبي
1373 هـ، وتحفة الأحوذي 4 / 502 - 504 نشر المكتبة السلفية) .
(4/91)
وَبِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل شَيْءٍ يَلْهُو
بِهِ الرَّجُل فَهُوَ بَاطِلٌ، إلاَّ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَرَمْيَهُ
بِقَوْسِهِ، وَمُلاَعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ. (1)
18 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنِ
امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَعَلَّل
الْمَالِكِيَّةُ الْكَرَاهَةَ بِأَنَّ سَمَاعَهُ مُخِلٌّ بِالْمُرُوءَةِ،
وَعَلَّلَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: لِمَا فِيهِ مِنَ اللَّهْوِ.
وَعَلَّلَهَا الإِْمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ: لاَ يُعْجِبُنِي الْغِنَاءُ
لأَِنَّهُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ. (2)
19 - وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ،
وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،
وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَطَاءٌ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَبَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّل، وَصَاحِبُهُ أَبُو
بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى
إبَاحَتِهِ. (3)
__________
(1) حديث " كل شيء يلهو به الرجل. . . " أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي
والحاكم من حديث عقبة بن عامر مرفوعا، ولفظ أبي داود: " ليس من اللهو [أي
المباح] إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله. .
. " قال الترمذي: هذا حديث حسن، والكلام الذي بين القوسين المعقوفين من
كلام شراح الحديث، وفي الباب عن كعب بن مرة وعمرو بن عبسة وعبد الله بن
عمرو. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (تحفة
الأحوذي 5 / 365 - 367 نشر المكتبة السلفية، ومختصر أبي داود للمنذري 3 /
370 نشر دار المعرفة، وجامع الأصول 5 / 41، 42 نشر مكتبة الحلواني 1390 هـ،
والمستدرك 2 / 95 نشر دار الكتاب العربي) .
(2) حاشية الدسوقي 4 / 166، والمغني 9 / 175، وأسنى المطالب 4 / 344.
(3) المغني 9 / 175، ومصنف عبد الرزاق 11 / 5، وإحياء علوم الدين 2 / 269.
(4/91)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصِّ
وَالْقِيَاسِ.
أَمَّا النَّصُّ: فَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ
بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّل وَجْهَهُ،
وَدَخَل أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَال: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَل عَلَيْهِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: دَعْهُمَا،
فَلَمَّا غَفَل غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا (1) .
وَيَقُول عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْغِنَاءُ زَادُ الرَّاكِبِ (2)
فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَسْتَمِعُ إلَى غِنَاءِ خَوَّاتٍ، فَلَمَّا
كَانَ السَّحَرُ قَال لَهُ: ارْفَعْ لِسَانَكَ يَا خَوَّاتُ، فَقَدْ
أَسَحَرَنَا (3)
__________
(1) حديث: " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان. .
. " أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (فتح
الباري 2 / 440 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 607
ط عيسى الحلبي) .
(2) " الغناء زاد الراكب ". أخرجه البيهقي أثرا عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، (السنن الكبرى 5 / 68 ط مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند 1352 هـ)
.
(3) " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستمع إلى غناء خوات. . . " أخرجه
البيهقي أثرا عن خوات بن جبير بلفظ " خرجنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
قال: فسرنا في ركب فيهم أبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف رضي الله
عنهما، قال: فقال القوم: غننا يا خوات، فغناهم. قالوا: غننا من شعر ضرار،
فقال عمر رضي الله عنه: دعوا أبا عبد الله يتغنى من بنيات فؤاده يعني من
شعره. قال: فما زلت أغنيهم حتى إذا كان السحر، فقال عمر: ارفع لسانك يا
خوات فقد أسحرنا ". وأورده ابن حجر معزوا لابن السراج في تأريخه دون تعقيب.
(سنن البيهقي 5 / 69 ط مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند 1352 هـ،
والإصابة 1 / 457) .
(4/92)
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَإِنَّ الْغِنَاءَ
الَّذِي لاَ يُصَاحِبُهُ مُحَرَّمٌ، فِيهِ سَمَاعُ صَوْتٍ طَيِّبٍ
مَوْزُونٍ، وَسَمَاعُ الصَّوْتِ الطَّيِّبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَيِّبٌ لاَ
يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ، لأَِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَلَذُّذِ حَاسَّةِ
السَّمْعِ بِإِدْرَاكِ مَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِهِ، كَتَلَذُّذِ الْحَوَاسِّ
الأُْخْرَى بِمَا خُلِقَتْ لَهُ.
20 - وَأَمَّا الْوَزْنُ فَإِنَّهُ لاَ يُحَرِّمُ الصَّوْتَ، أَلاَ تَرَى
أَنَّ الصَّوْتَ الْمَوْزُونَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ حَنْجَرَةِ
الْعَنْدَلِيبِ لاَ يَحْرُمُ سَمَاعُهُ، فَكَذَلِكَ صَوْتُ الإِْنْسَانِ،
لأَِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ حَنْجَرَةٍ وَحَنْجَرَةٍ.
وَإِذَا انْضَمَّ الْفَهْمُ إلَى الصَّوْتِ الطَّيِّبِ الْمَوْزُونِ، لَمْ
يَزِدِ الإِْبَاحَةَ فِيهِ إلاَّ تَأْكِيدًا.
21 - أَمَّا تَحْرِيكُ الْغِنَاءِ الْقُلُوبَ، وَتَحْرِيكُهُ الْعَوَاطِفَ،
فَإِنَّ هَذِهِ الْعَوَاطِفَ إنْ كَانَتْ عَوَاطِفَ نَبِيلَةً فَمِنَ
الْمَطْلُوبِ تَحْرِيكُهَا، وَقَدْ وَقَعَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنِ
اسْتَمَعَ إلَى الْغِنَاءِ فِي طَرِيقِهِ لِلْحَجِّ - كَمَا تَقَدَّمَ -
وَكَانَ الصَّحَابَةُ يُنْشِدُونَ الرَّجَزِيَّاتِ لإِِثَارَةِ الْجُنْدِ
عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَعِيبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ،
وَرَجَزِيَّاتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَغَيْرِهِ مَعْرُوفَةٌ
مَشْهُورَةٌ. (1)
الْغِنَاءُ لأَِمْرٍ مُبَاحٍ:
22 - إِذَا كَانَ الْغِنَاءُ لأَِمْرٍ مُبَاحٍ، كَالْغِنَاءِ فِي
الْعُرْسِ، وَالْعِيدِ، وَالْخِتَانِ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ، تَأْكِيدًا
لِلسُّرُورِ الْمُبَاحِ، وَعِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَأْكِيدًا
لِلسُّرُورِ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ سَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ لِلْحَرْبِ إِذَا
كَانَ لِلْحَمَاسِ فِي نُفُوسِهِمْ، أَوْ لِلْحُجَّاجِ لإِِثَارَةِ
الأَْشْوَاقِ فِي نُفُوسِهِمْ إلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، أَوْ
لِلإِْبِل لِحَثِّهَا
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 270 وما بعدها.
(4/92)
عَلَى السَّيْرِ - وَهُوَ الْحُدَاءُ -
أَوْ لِلتَّنْشِيطِ عَلَى الْعَمَل كَغِنَاءِ الْعُمَّال عِنْدَ
مُحَاوَلَةِ عَمَلٍ أَوْ حَمْل ثَقِيلٍ، أَوْ لِتَسْكِيتِ الطِّفْل
وَتَنْوِيمِهِ كَغِنَاءِ الأُْمِّ لِطِفْلِهَا، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ كُلُّهُ
بِلاَ كَرَاهَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ سَابِقًا مِنْ حَدِيثِ
الْجَارِيَتَيْنِ الَّذِي رَوَتْهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا (2) وَهَذَا نَصٌّ فِي إبَاحَةِ الْغِنَاءِ فِي الْعِيدِ.
وَبِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ
جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ
- إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا - أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ
بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلاَّ فَلاَ. (3)
وَهَذَا نَصٌّ فِي إبَاحَةِ الْغِنَاءِ عِنْدَ قُدُومِ الْغَائِبِ
تَأْكِيدًا لِلسُّرُورِ، وَلَوْ كَانَ الْغِنَاءُ حَرَامًا لَمَا جَازَ
نَذْرُهُ، وَلَمَا أَبَاحَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِعْلَهُ.
وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَنْكَحَتْ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 276، 277، وحاشية الجمل 5 / 380، و 381، وأسنى
المطالب 4 / 344، وقليوبي 4 / 220، والمغني 9 / 176، وحاشية الدسوقي 4 /
166، والتاج والإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل 4 / 4 الطبعة الثانية
سنة 1399 هـ، وحاشية ابن عابدين 5 / 222، وحاشية أبي السعود على ملا مسكين
3 / 389 طبع مطبعة المويلحي سنة 1287 هـ.
(2) حديث الجاريتين سبق تخريجه ف / 19.
(3) حديث: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف
جاءت جارية سوداء. . . " أخرجه الترمذي من حديث بريدة وقال: هذا حديث حسن
صحيح غريب من حديث بريدة، وفي الباب عن عمر وعائشة. قال المباركفوري:
وأخرجه أحمد، وذكر الحافظ حديث بريدة هذا في الفتح وسكت عنه (تحفة الأحوذي
10 / 179 نشر المكتبة السلفية، وجامع الأصول 8 / 617 نشر مكتبة الحلواني
1392 هـ) .
(4/93)
مِنَ الأَْنْصَارِ، فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ
فَقَال: أَهْدَيْتُمُ الْفَتَاةَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَال: أَرْسَلْتُمْ
مَعَهَا مَنْ يُغَنِّي؟ قَالَتْ: لاَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ الأَْنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ،
فَلَوْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يَقُول: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ،
فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ. (1) وَهَذَا نَصٌّ فِي إبَاحَةِ الْغِنَاءِ فِي
الْعُرْسِ.
وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
جَيِّدَ الْحُدَاءِ، وَكَانَ مَعَ الرِّجَال، وَكَانَ أَنْجَشَةُ مَعَ
النِّسَاءِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِبْنِ
رَوَاحَةَ: حَرِّكِ الْقَوْمَ، فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ، فَتَبِعَهُ
أَنْجَشَةُ، فَأَعْنَفَتِ الإِْبِل، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنْجَشَةَ رُوَيْدَكَ، رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ.
يَعْنِي النِّسَاءَ. (2)
وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: كُنَّا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَنَحْنُ نَؤُمُّ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها " أنكحت ذات قرابة لها. . . " أخرجه ابن ماجه
من حديث ابن عباس بهذا اللفظ، قال الحافظ البوصيري في الزوائد: إسناده
مختلف فيه من أجل الأجلح وأبي الزبير يقولون: إنه - أي أبا الزبير - لم
يسمع من ابن عباس. وأثبت أبو حاتم أنه رأى ابن وأصل الحديث رواه البخاري من
حديث عائشة بلفظ " أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله: يا
عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو " (سنن ابن ماجه بتحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 612 ط عيسى الحلبي 1372 هـ، وفتح الباري 9 / 225
ط السلفية) .
(2) حديث: " أن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء. . . ". أخرجه البخاري
ومسلم من حديث أنس بن مالك، ولفظ مسلم " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
في بعض أسفاره، وغلام أسود يقال له: أنجشة يحدو فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: يا أنجشة! رويدك سوقا بالقوارير ". (فتح الباري 10 / 538 ط
السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4 / 1811 ط عيسى الحلبي
1375 هـ، وجامع الأصول 5 / 171، 172 نشر مكتبة الحلواني 1390 هـ) .
(4/93)
مَكَّةَ، اعْتَزَل عَبْدُ الرَّحْمَنِ
الطَّرِيقَ، ثُمَّ قَال لِرَبَاحِ بْنِ الْمُغْتَرِفِ: غَنِّنَا يَا أَبَا
حَسَّانَ، وَكَانَ يُحْسِنُ النَّصْبَ - وَالنَّصْبُ ضَرْبٌ مِنَ
الْغِنَاءِ - فَبَيْنَا رَبَاحٌ يُغَنِّيهِ أَدْرَكَهُمْ عُمَرُ فِي
خِلاَفَتِهِ فَقَال: مَا هَذَا؟ فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا بَأْسٌ
بِهَذَا؟ نَلْهُو وَنُقَصِّرُ عَنَّا السَّفَرَ، فَقَال عُمَرُ: فَإِنْ
كُنْتَ آخِذًا فَعَلَيْكَ بِشِعْرِ ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ بْنِ
مِرْدَاسٍ فَارِسِ قُرَيْشٍ (1) .
وَكَانَ عُمَرُ يَقُول. الْغِنَاءُ مِنْ زَادِ الرَّاكِبِ (2) ، وَهَذَا
يَدُل عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ لِتَرْوِيحِ النَّفْسِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْحُدَاءِ (3) .
د - الاِسْتِمَاعُ إلَى الْهَجْوِ وَالنَّسِيبِ:
23 - يُشْتَرَطُ فِي الْكَلاَمِ - سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْزُونًا
(كَالشِّعْرِ) أَمْ غَيْرَ مَوْزُونٍ، مُلَحَّنًا (كَالْغِنَاءِ) أَمْ
غَيْرَ مُلَحَّنٍ - حَتَّى يَحِل اسْتِمَاعُهُ أَلاَّ يَكُونَ فَاحِشًا،
وَلَيْسَ فِيهِ هَجْوٌ، وَلاَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلاَ
عَلَى الصَّحَابَةِ، وَلاَ وَصْفُ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنِ
اُسْتُمِعَ إلَى شَيْءٍ مِنَ الْكَلاَمِ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ،
فَالْمُسْتَمِعُ شَرِيكُ الْقَائِل فِي الإِْثْمِ. (4)
__________
(1) الأثر عن السائب بن يزيد أخرجه البيهقي، وأورده ابن حجر في الإصابة دون
تعقيب (سنن البيهقي 10 / 224 ط مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند 1355
هـ، والإصابة في تمييز الصحابة 1 / 502) .
(2) سنن البيهقي 5 / 68، والمغني 9 / 175.
(3) مصنف ابن أبي شيبة 1 / 177 مخطوط استانبول.
(4) إحياء علوم الدين 2 / 282، وانظر الفتاوى الهندية 5 / 352. والنسيب هو
في الشعر: الرقيق منه المتغزل به في النساء، يقال: نسب الشاعر بالمرأة: عرض
بهواها وحبها. (المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة: نسب) .
(4/94)
أَمَّا هِجَاءُ الْكُفَّارِ وَأَهْل
الْبِدَعِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَدْ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ شَاعِرُ
رَسُول اللَّهِ يُهَاجِي الْكُفَّارَ بِعِلْمِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمْرِهِ، وَقَدْ قَال لَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اُهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيل مَعَكَ (1)
وَأَمَّا النَّسِيبُ فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ يُقَال
أَمَامَ رَسُول اللَّهِ وَهُوَ يَسْتَمِعُ إلَيْهِ فَقَدِ اسْتَمَعَ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إلَى قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ
زُهَيْرٍ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُول
مَعَ مَا فِيهَا مِنَ النَّسِيبِ. (2)
النَّوْعُ الثَّانِي:
اسْتِمَاعُ صَوْتِ الْحَيَوَانِ:
24 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ اسْتِمَاعِ أَصْوَاتِ
الْحَيَوَانَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الأَْصْوَاتُ قَبِيحَةً كَصَوْتِ
الْحِمَارِ وَالطَّاوُوسِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ عَذْبَةً مَوْزُونَةً
كَأَصْوَاتِ الْعَنَادِل وَالْقَمَارِيِّ وَنَحْوِهَا، قَال الْغَزَالِيُّ:
__________
(1) حديث: " اهجهم وجبريل معك ". أخرجه البخاري ومسلم مرفوعا من حديث
البراء بن عازب (اللؤلؤ والمرجان ص 273 نشر وزارة الأوقاف والشئون
الإسلامية بدولة الكويت، وجامع الأصول 5 / 74 نشر مكتبة الحلواني 1390 هـ)
.
(2) حديث: " استمع صلوات الله وسلامه عليه إلى قصيدة كعب بن زهير " قال ابن
هشام: أورد محمد بن إسحاق هذه القصيدة ولم يذكر لها إسنادا وقد رواها
الحافظ البيهقي في دلائل النبوة بإسناد متصل. وقال أبو عمر في الاستيعاب:
إن كعب بن زهير قدم على رسول الله صلى الله عل (البداية والنهاية 3 / 369 -
372 ط مطبعة السعادة 1351 هـ، والاستيعاب 3 / 1313 - 1314 نشر مكتبة نهضة
مصر، والإصابة في تمييز الصحابة 3 / 295 ط مكتبة المثنى ببغداد) .
(4/94)
فَسَمَاعُ هَذِهِ الأَْصْوَاتِ يَسْتَحِيل
أَنْ يَحْرُمَ لِكَوْنِهَا طَيِّبَةً أَوْ مَوْزُونَةً، فَلاَ ذَاهِبَ إلَى
تَحْرِيمِ صَوْتِ الْعَنْدَلِيبِ وَسَائِرِ الطُّيُورِ. (1)
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
اسْتِمَاعُ أَصْوَاتِ الْجَمَادَاتِ:
25 - إِذَا انْبَعَثَتْ أَصْوَاتُ الْجَمَادَاتِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا
أَوْ بِفِعْل الرِّيحِ فَلاَ قَائِل بِتَحْرِيمِ اسْتِمَاعِ هَذِهِ
الأَْصْوَاتِ.
أَمَّا إِذَا انْبَعَثَتْ بِفِعْل الإِْنْسَانِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ
غَيْرَ مَوْزُونَةٍ وَلاَ مُطْرِبَةٍ، كَصَوْتِ طَرْقِ الْحَدَّادِ عَلَى
الْحَدِيدِ، وَصَوْتِ مِنْشَارِ النَّجَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ قَائِل
بِتَحْرِيمِ اسْتِمَاعِ صَوْتٍ مِنْ هَذِهِ الأَْصْوَاتِ.
وَإِمَّا أَنْ يَنْبَعِثَ الصَّوْتُ مِنَ الآْلاَتِ بِفِعْل الإِْنْسَانِ
مَوْزُونًا مُطْرِبًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمُوسِيقَى. فَتَفْصِيل
الْقَوْل فِيهِ كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً - اسْتِمَاعُ الْمُوسِيقَى:
26 - إنَّ مَا حَل تَعَاطِيهِ (أَيْ فِعْلُهُ) مِنَ الْمُوسِيقَى
وَالْغِنَاءِ حَل الاِسْتِمَاعُ إلَيْهِ، وَمَا حَرُمَ تَعَاطِيهِ
مِنْهُمَا حَرُمَ الاِسْتِمَاعُ إلَيْهِ، لأَِنَّ تَحْرِيمَ الْمُوسِيقَى
أَوِ الْغِنَاءِ لَيْسَ لِذَاتِهِ، وَلَكِنْ لأَِنَّهُ أَدَاةٌ
لِلإِْسْمَاعِ، وَيَدُل عَلَى هَذَا قَوْل الْغَزَالِيِّ فِي مَعْرِضِ
حَدِيثِهِ عَنْ شِعْرِ الْخَنَا، وَالْهَجْوِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَسَمَاعُ
ذَلِكَ حَرَامٌ بِأَلْحَانٍ وَبِغَيْرِ أَلْحَانٍ، وَالْمُسْتَمِعُ شَرِيكٌ
لِلْقَائِل. (2) وَقَوْل ابْنِ عَابِدِينَ: وَكُرِهَ كُل لَهْوٍ
وَاسْتِمَاعُهُ. (3)
__________
(1) إحياء علوم الدين للغزالي 2 / 271 طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
(2) إحياء علوم الدين 2 / 282 طبع مطبعة الاستقامة بمصر.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 253 طبعة بولاق الأولى.
(4/95)
أ: الاِسْتِمَاعُ لِضَرْبِ الدُّفِّ
وَنَحْوِهِ مِنَ الآْلاَتِ الْقَرْعِيَّةِ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حِل الضَّرْبِ بِالدُّفِّ
وَالاِسْتِمَاعِ إلَيْهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ، هَل هَذِهِ
الإِْبَاحَةُ هِيَ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ، أَمْ هِيَ فِي الْعُرْسِ
دُونَ غَيْرِهِ؟ وَهَل يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الدُّفُّ
خَالِيًا مِنَ الْجَلاَجِل أَمْ لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؟ وَسَتَجِدُ ذَلِكَ
التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَعَازِفُ) (وَسَمَاعٌ) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَصْل مَا بَيْنَ
الْحَلاَل وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ. (1)
وَبِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ،
وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَال (2) . وَمَا رَوَتِ الرُّبَيِّعُ
بِنْتُ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي،
وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِل مِنْ آبَائِي
__________
(1) حديث: " فصل ما بين الحلال. . . " أخرجه الترمذي وأحمد والنسائي وابن
ماجه والحاكم مرفوعا واللفظ لابن ماجه، قال الترمذي: حديث محمد بن حاطب
حديث حسن. قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (تحفة
الأحوذي 4 / 208 - 210 نشر المكتبة السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي 1 / 611 ط عيسى الحلبي 1372 هـ، وجامع الأصول 11 / 440 نشر
مكتبة الحلواني 1392 هـ، والمستدرك 2 / 184 نشر دار الكتاب العربي) .
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح. . . ". أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي
الله عنها مرفوعا. قال الحافظ البوصيري في الزوائد: في إسناده خالد بن
إلياس أبو الهيثم العدوي، اتفقوا على ضعفه، بل نسبه ابن حبان والحاكم وأبو
سعيد النقاش إلى الوضع (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 611
ط عيسى الحلبي 1372 هـ) .
(4/95)
يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ
إِحْدَاهُنَّ:
وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ
، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقُولِي
هَكَذَا وَقَوْلِي كَمَا كُنْتِ تَقُولِينَ. (1)
28 - وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْغَزَالِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ بِالدُّفِّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الطُّبُول - وَهِيَ
الآْلاَتُ الْفَرْعِيَّةُ - مَا لَمْ يَكُنْ اسْتِعْمَالُهَا لِلَهْوٍ
مُحَرَّمٍ. (2)
وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ - كَالْغَزَالِيِّ مَثَلاً -
الْكُوبَةَ، لأَِنَّهَا مِنْ آلاَتِ الْفَسَقَةِ. (3)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ. (4) قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: ضَرْبُ النَّوْبَةِ لِلتَّفَاخُرِ لاَ يَجُوزُ،
وَلِلتَّنْبِيهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ
بُوقُ الْحَمَّامِ وَطَبْل الْمُسَحِّرِ، ثُمَّ قَال: وَهَذَا يُفِيدُ
أَنَّ آلَةَ اللَّهْوِ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً بِعَيْنِهَا بَل لِقَصْدِ
اللَّهْوِ فِيهَا، إمَّا مِنْ سَامِعِهَا، أَوْ مِنَ الْمُشْتَغِل بِهَا،
وَبِهِ تُشْعِرُ الإِْضَافَةُ - يَعْنِي إضَافَةَ الآْلَةِ إلَى اللَّهْوِ
-
__________
(1) حديث الربيع بنت معوذ قالت: " دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم غداة
بني علي. . . ". أخرجه البخاري من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء بلفظ "
جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بني علي فجلس على فراشي كمجلسك مني،
فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من ق (فتح الباري 9 / 202 ط السلفية)
.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 339 طبع دار الفكر، وحاشية ابن عابدين 5 / 34 و 223.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 282. والكوبة: الطبل الصغير المخصر، المصباح
المنير مادة (كوب) .
(4) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 6 / 13 طبع دار المعرفة، وبدائع الصنائع
6 / 2972 طبع مطبعة الإمام. والقضيب: الغصن المقطوع. المعجم الوسيط مادة
(قضب) .
(4/96)
أَلاَ تَرَى أَنَّ ضَرْبَ تِلْكَ الآْلَةِ
حَل تَارَةً وَحَرُمَ أُخْرَى بِاخْتِلاَفِ النِّيَّةِ، وَالأُْمُورُ
بِمَقَاصِدِهَا (1) .
ب - الاِسْتِمَاعُ لِلْمِزْمَارِ وَنَحْوِهِ مِنَ الآْلاَتِ
النَّفْخِيَّةِ:
29 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الاِسْتِمَاعَ إلَى الآْلاَتِ النَّفْخِيَّةِ
كَالْمِزْمَارِ وَنَحْوِهِ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُمْ، (2) وَرَوَى ابْنُ
أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إبَاحَةَ
الاِسْتِمَاعِ إلَيْهِ، فَقَدْ رَوَى بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ دَخَل عُرْسًا فَوَجَدَ فِيهِ مَزَامِيرَ وَلَهْوًا، فَلَمْ يَنْهَ
عَنْهُ (3) . وَمَنَعَهُ غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ. (4)
30 - أَمَّا الآْلاَتُ الْوَتَرِيَّةُ كَالْعُودِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ
الاِسْتِمَاعَ إلَيْهَا مَمْنُوعٌ فِي الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. (5)
وَذَهَبَ أَهْل الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ
إلَى التَّرْخِيصِ فِيهَا، وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِيهَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَشُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ
الزُّهْرِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ شَرَاحِيل الشَّعْبِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. (6)
ثَانِيًا: اسْتِمَاعُ الصَّوْتِ وَالصَّدَى:
31 - مِنْ تَتَبُّعِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ
يُرَتِّبُونَ آثَارَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 223.
(2) المراجع السابقة، والفتاوى الهندية 5 / 352 طبع بولاق.
(3) مصنف ابن أبي شيبة 1 / 214 مخطوط استانبول.
(4) كشاف القناع 5 / 170، وأسنى المطالب 4 / 344 - 345، والفتاوى الهندية 5
/ 352. والبوق: أداة مجوفة لينفخ فيها ويزمر. المعجم الوسيط مادة (بوق) .
(5) حاشية الدسوقي 2 / 339، وحاشية ابن عابدين 5 / 253، وأسنى المطالب 4 /
345، وإحياء علوم الدين 2 / 282.
(6) نيل الأوطار 8 / 104 وما بعدها طبعة ثالثة مصطفى الحلبي.
(4/96)
الاِسْتِمَاعِ عَلَى اسْتِمَاعِ الصَّوْتِ،
أَمَّا اسْتِمَاعُ الصَّدَى فَلَمْ يَتَحَدَّثْ عَنْهُ إلاَّ
الْحَنَفِيَّةُ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُرَتِّبُونَ آثَارَ الاِسْتِمَاعِ
عَلَى اسْتِمَاعِ الصَّدَى، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ
سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ بِسَمَاعِهَا مِنْ الصَّدَى (1) .
اسْتِمْتَاع
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِمْتَاعُ: طَلَبُ التَّمَتُّعِ، وَالتَّمَتُّعُ الاِنْتِفَاعُ،
يُقَال: اسْتَمْتَعْتُ بِكَذَا وَتَمَتَّعْتُ بِهِ: انْتَفَعْتُ. (2) وَلاَ
يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
وَأَغْلَبُ وُرُودِهِ عِنْدَهُمْ فِي اسْتِمْتَاعِ الرَّجُل بِزَوْجَتِهِ.
(3)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِمْتَاعُ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي الْحَالاَتِ
الْمَشْرُوعَةِ جَائِزٌ، كَالاِسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ مِنْ وَطْءٍ
وَمُقَدِّمَاتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ مَوَانِعُ شَرْعِيَّةٌ،
كَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ وَإِحْرَامٍ وَصِيَامِ فَرْضٍ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ
مَوَانِعُ شَرْعِيَّةٌ حَرُمَ الْوَطْءُ. (4)
__________
(1) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 264 طبع المطبعة العثمانية.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والمفردات في غريب القرآن.
(3) البدائع 2 / 331 ط الجمالية.
(4) البدائع 2 / 331 والدسوقي 2 / 215، 216 ط عيسى الحلبي، والمهذب 2 / 35
ط عيسى الحلبي، والمغني 6 / 557 ط مكتبة الرياض.
(4/97)
أَمَّا الاِسْتِمْتَاعُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ
بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الاِسْتِمْتَاعِ كَنَظَرٍ، وَلَمْسٍ،
وَقُبْلَةٍ، وَوَطْءٍ، فَهُوَ مَحْظُورٌ، يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْحَدَّ
إنْ كَانَ زَنَى، وَالتَّعْزِيرَ إنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ كَمُقَدِّمَاتِ
الْوَطْءِ. (1)
وَيُرَتِّبُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الاِسْتِمْتَاعِ بِالزَّوْجَةِ آثَارًا
كَتَمَامِ الْمَهْرِ وَاسْتِقْرَارِهِ وَالنَّفَقَةِ.
وَتُنْظَرُ تَفَاصِيل الْمَوْضُوعِ فِي (النِّكَاحِ) وَ (الْمَهْرِ) وَ
(النَّفَقَةِ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - الاِسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ يَرِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي
أَبْوَابِ النِّكَاحِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَمَحْظُورَاتِ
الإِْحْرَامِ فِي الْحَجِّ، وَالصِّيَامِ، وَالاِعْتِكَافِ، وَتُنْظَرُ فِي
أَبْوَابِهَا. وَالاِسْتِمْتَاعُ الْمُحَرَّمُ يَرِدُ فِي بَابِ حَدِّ
الزِّنَا، وَبَابِ التَّعْزِيرِ، وَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
اسْتِمْنَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِمْنَاءُ: مَصْدَرُ اسْتَمْنَى، أَيْ طَلَبَ خُرُوجَ
الْمَنِيِّ.
وَاصْطِلاَحًا: إخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، مُحَرَّمًا كَانَ،
كَإِخْرَاجِهِ بِيَدِهِ اسْتِدْعَاءً لِلشَّهْوَةِ، أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ
كَإِخْرَاجِهِ بِيَدِ زَوْجَتِهِ. (2)
__________
(1) البدائع 5 / 119، والدسوقي 1 / 214، والمهذب 1 / 34، والمغني 6 / 558.
(2) ترتيب القاموس (مني) ، وابن عابدين 2 / 100، 3 / 156، ونهاية المحتاج 3
/ 169، والشرواني على التحفة 3 / 410.
(4/97)
2 - وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الإِْمْنَاءِ
وَالإِْنْزَال، فَقَدْ يَحْصُلاَنِ فِي غَيْرِ الْيَقِظَةِ وَدُونَ طَلَبٍ،
أَمَّا الاِسْتِمْنَاءُ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنِ اسْتِدْعَاءِ الْمَنِيِّ
فِي يَقَظَةِ الْمُسْتَمْنِي بِوَسِيلَةٍ مَا. وَيَكُونُ الاِسْتِمْنَاءُ
مِنَ الرَّجُل وَمِنَ الْمَرْأَةِ.
وَيَقَعُ الاِسْتِمْنَاءُ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْحَائِل. جَاءَ فِي ابْنِ
عَابِدِينَ: لَوْ اسْتَمْنَى بِكَفِّهِ بِحَائِلٍ يَمْنَعُ الْحَرَارَةَ
يَأْثَمُ أَيْضًا. وَفِي الشِّرْوَانِيِّ عَلَى التُّحْفَةِ: إنْ قَصَدَ
بِضَمِّ امْرَأَةٍ الإِْنْزَال - وَلَوْ مَعَ الْحَائِل - يَكُونُ
اسْتِمْنَاءً مُبْطِلاً لِلصَّوْمِ. بَل صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الاِسْتِمْنَاءَ يَحْصُل بِالنَّظَرِ. (1)
وَلَمَّا كَانَ الإِْنْزَال بِالاِسْتِمْنَاءِ يَخْتَلِفُ أَحْيَانًا عَنِ
الإِْنْزَال بِغَيْرِهِ كَالْجِمَاعِ وَالاِحْتِلاَمِ أُفْرِدَ
بِالْبَحْثِ.
وَسَائِل الاِسْتِمْنَاءِ:
3 - يَكُونُ الاِسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ
الْمُبَاشَرَةِ، أَوْ بِالنَّظْرِ، أَوْ بِالْفِكْرِ.
الاِسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ.
4 - أ - الاِسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ إنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ اسْتِدْعَاءِ
الشَّهْوَةِ فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْجُمْلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ
ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (2) .
وَالْعَادُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ الْمُتَجَاوِزُونَ، فَلَمْ يُبِحِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 68، وشرح الروض 1 / 314، وكشف المخدرات 159، والشرواني على
التحفة 3 / 409، وألحق ابن عابدين بالاستمناء في الإثم من أدخل ذكره في
حائط حتى أمنى (ابن عابدين 2 / 100) .
(2) سورة المؤمنون / 5 - 7.
(4/98)
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الاِسْتِمْتَاعَ إلاَّ بِالزَّوْجَةِ وَالأَْمَةِ، وَيَحْرُمُ بِغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالإِْمَامِ أَحْمَدَ:
أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا.
ب - وَإِنْ كَانَ الاِسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ لِتَسْكِينِ الشَّهْوَةِ
الْمُفْرِطَةِ الْغَالِبَةِ الَّتِي يُخْشَى مَعَهَا الزِّنَى فَهُوَ
جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، بَل قِيل بِوُجُوبِهِ، لأَِنَّ فِعْلَهُ
حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ قَبِيل الْمَحْظُورِ الَّذِي تُبِيحُهُ
الضَّرُورَةُ، وَمِنْ قَبِيل ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَحْرُمُ وَلَوْ خَافَ
الزِّنَى، لأَِنَّ لَهُ فِي الصَّوْمِ بَدِيلاً، وَكَذَلِكَ الاِحْتِلاَمُ
مُزِيلٌ لِلشَّبَقِ.
وَعِبَارَاتُ الْمَالِكِيَّةِ تُفِيدُ الاِتِّجَاهَيْنِ: الْجَوَازَ
لِلضَّرُورَةِ، وَالْحُرْمَةَ لِوُجُودِ الْبَدِيل، وَهُوَ الصَّوْمُ. (1)
ج - وَصَرَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ
تَعَيَّنَ الْخَلاَصُ مِنَ الزِّنَى بِهِ وَجَبَ. (2)
الاِسْتِمْنَاءُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ:
5 - الاِسْتِمْنَاءُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَشْمَل كُل
اسْتِمْتَاعٍ - غَيْرَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ - مِنْ وَطْءٍ فِي غَيْرِ
الْفَرْجِ، أَوْ تَبْطِينٍ، أَوْ تَفْخِيذٍ، أَوْ لَمْسٍ، أَوْ تَقْبِيلٍ.
وَلاَ يَخْتَلِفُ أَثَرُ الاِسْتِمْنَاءِ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ فِي
الْعِبَادَةِ عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 100، والزيلعي 1 / 323، والحطاب 6 / 320، والشرح الصغير
2 / 331، والمهذب 2 / 270، ونهاية المحتاج 1 / 312، والبيجوري 1 / 303،
وروضة الطالبين 10 / 91، وكشاف القناع 6 / 102، والإنصاف 10 / 251.
(2) ابن عابدين 2 / 100 - 101، واللجنة ترى أن ما صرح به ابن عابدين ينسجم
مع قواعد الشريعة من حيث ارتكاب الضرر الأخف لاتقاء الضرر الأشد.
(4/98)
أَثَرِهَا فِي الاِسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَيَبْطُل
بِهِ الصَّوْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، دُونَ كَفَّارَةٍ. وَلاَ يَخْتَلِفُ
أَثَرُهُ فِي الْحَجِّ عَنْ أَثَرِ الاِسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ فِيهِ. (1)
الاِغْتِسَال مِنْ الاِسْتِمْنَاءِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغُسْل يَجِبُ بِالاِسْتِمْنَاءِ،
إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ عَنْ لَذَّةٍ وَدَفْقٍ، وَلاَ عِبْرَةَ
بِاللَّذَّةِ وَالدَّفْقِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ خِلاَفُ
الْمَشْهُورِ. وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِتَرَتُّبِ الأَْثَرِ عَلَى
الْمَنِيِّ أَنْ يَخْرُجَ بِلَذَّةٍ وَدَفْقٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ
الْمَالِكِيَّةِ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ مَا لَمْ تَكُنْ لَذَّةٌ،
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَحْمَدَ عَلَى هَذَا، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ
الأَْصْحَابِ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. (2)
أَمَّا إنْ أَحَسَّ بِانْتِقَال الْمَنِيِّ مِنْ صُلْبِهِ فَأَمْسَكَ
ذَكَرَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَال، وَلاَ عَلِمَ
خُرُوجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ غُسْل عَلَيْهِ عِنْدَ كَافَّةِ
الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَّقَ الاِغْتِسَال عَلَى الرُّؤْيَةِ. (3)
__________
(1) الزيلعي 1 / 324، والبحر الرائق 2 / 213، والهندية 1 / 204، 213، 244،
والمبسوط 3 / 123، وابن عابدين 2 / 208، والدسوقي 1 / 529، 2 / 68، والحطاب
2 / 416، ومغني المحتاج 1 / 430، 431، 452، 522، والشرواني 3 / 410،
والمغني مع الشرح الكبير 3 / 47.
(2) الهندية 1 / 14، والرهوني 1 / 206، والمجموع 2 / 139، والإنصاف 1 / 228
وما قبلها.
(3) أخرج البخاري ومسلم وأبو داود قصة من حديث أبي سعيد الخدري قال: " خرجت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم، وقف
رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان (بن مالك) فصرخ به، فخرج يجر
إزاره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجلنا الرجل ماذا عليه؟ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الماء من الماء " (جامع الأصول في
أحاديث الرسول 7 / 271 - 272 نشر مكتبة الحلواني، ونصب الراية 1 / 80 - 81
ط مطبعة دار المأمون 1357 هـ) .
(4/99)
وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل، لأَِنَّهُ لاَ
يَتَصَوَّرُ رُجُوعُ الْمَنِيِّ، وَلأَِنَّ الْجَنَابَةَ فِي حَقِيقَتِهَا
هِيَ: انْتِقَال الْمَنِيِّ عَنْ مَحَلِّهِ وَقَدْ وُجِدَ. وَأَيْضًا
فَإِنَّ الْغُسْل يُرَاعَى فِيهِ الشَّهْوَةُ، وَقَدْ حَصَلَتْ
بِانْتِقَالِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ظَهَرَ.
فَإِنْ سَكَنَتِ الشَّهْوَةُ ثُمَّ أَنْزَل بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ
يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ،
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَصْبَغَ وَابْنِ الْمَوَّازِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَغْتَسِل، وَلَكِنْ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ،
وَهُوَ قَوْل الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. (1)
وَلِتَفْصِيل مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (غُسْلٌ) .
اغْتِسَال الْمَرْأَةِ مِنْ الاِسْتِمْنَاءِ:
7 - يَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ إنْ أَنْزَلَتْ بِالاِسْتِمْنَاءِ
بِأَيِّ وَسِيلَةٍ حَصَل. وَالْمُرَادُ بِالإِْنْزَال أَنْ يَصِل إلَى
الْمَحَل الَّذِي تَغْسِلُهُ فِي الاِسْتِنْجَاءِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ
عِنْدَ جُلُوسِهَا وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ
الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَا (سَنَدٍ) ، فَقَدْ قَال: إنَّ
بُرُوزَ الْمَنِيِّ مِنَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ شَرْطًا، بَل مُجَرَّدُ
الاِنْفِصَال عَنْ مَحَلِّهِ يُوجِبُ الْغُسْل، لأَِنَّ عَادَةَ مَنِيِّ
الْمَرْأَةِ أَنْ يَنْعَكِسَ إلَى الرَّحِمِ. (2)
__________
(1) الهندية 1 / 14، والخانية 1 / 44، والرهوني 1 / 24، والحطاب 1 / 306،
307، والمجموع 2 / 140، ونهاية المحتاج 1 / 199، 200، والمغني 1 / 200 ط
الرياض، وشرح المفردات ص 42، 43.
(2) ابن عابدين 1 / 108، والخانية 1 / 44، والدسوقي 1 / 126، 127، والخرشي
1 / 162، والحطاب 1 / 307، والمجموع 2 / 140، والإنصاف 1 / 231.
(4/99)
أَثَرُ الاِسْتِمْنَاءِ فِي الصَّوْمِ:
8 - الاِسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ يُبْطِل الصَّوْمَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، (1) وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى
ذَلِكَ، (2) لأَِنَّ الإِْيلاَجَ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ مُفْطِرٌ،
فَالإِْنْزَال بِشَهْوَةٍ أَوْلَى. وَقَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الإِْسْكَافِ،
وَأَبُو الْقَاسِمِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَبْطُل بِهِ الصَّوْمُ،
لِعَدَمِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى. (3)
وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ مَعَ الإِْبْطَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ إفْطَارٌ مِنْ غَيْرِ
جِمَاعٍ، وَلأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ وَلاَ
إجْمَاعَ.
وَمُعْتَمَدُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مَعَ
الْقَضَاءِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعُمُومُ رِوَايَةِ
الرَّافِعِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاَلَّتِي حَكَاهَا عَنْ أَبِي
خَلَفٍ الطَّبَرِيِّ يُفِيدُ ذَلِكَ، فَمُقْتَضَاهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ
بِكُل مَا يَأْثَمُ بِالإِْفْطَارِ بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ: أَنَّهُ تَسَبُّبٌ فِي إنْزَالٍ فَأَشْبَهَ الإِْنْزَال
بِالْجِمَاعِ. (4)
9 - أَمَّا الاِسْتِمْنَاءُ بِالنَّظَرِ فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّوْمَ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، تَكَرَّرَ النَّظَرُ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ
أَكَانَتْ عَادَتُهُ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 707، والدسوقي 1 / 529، والمهذب 1 / 183، والمجموع 6
/ 322، ومغني المحتاج 1 / 430، ومنتهى الإرادات 1 / 221، والمغني والشرح
الكبير 3 / 48، والكافي 1 / 477.
(2) الزيلعي 1 / 323، والهندية 1 / 205، والخانية 1 / 208.
(3) شرح العناية بهامش فتح القدير 2 / 64، والهندية 1 / 205.
(4) المجموع 6 / 322، ومغني المحتاج 1 / 430، والدسوقي 1 / 529، والشرح
الصغير 2 / 94، والمغني مع الشرح 3 / 50، 337.
(4/100)
الإِْنْزَال أَمْ لاَ، وَالْحَنَابِلَةُ
مَعَهُمْ فِي الإِْبْطَال إنْ تَكَرَّرَ النَّظَرُ. وَالاِسْتِمْنَاءُ
بِالتَّكْرَارِ مُبْطِلٌ لِلصَّوْمِ فِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا،
وَقِيل. إنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الإِْنْزَال أَفْطَرَ، وَفِي " الْقُوتِ "
أَنَّهُ إِذَا أَحَسَّ بِانْتِقَال الْمَنِيِّ فَاسْتَدَامَ النَّظَرَ
فَإِنَّهُ يَفْسُدُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ لاَ يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ مُطْلَقًا، وَهُوَ
الْمُعْتَمَدُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ إلاَّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَالاَتِ الَّتِي تَجِبُ
فِيهَا الْكَفَّارَةُ. إنْ تَكَرَّرَ النَّظَرُ وَكَانَتْ عَادَتُهُ
الإِْنْزَال أَوِ اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
قَطْعًا.
وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ الإِْنْزَال فَقَوْلاَنِ.
أَمَّا مُجَرَّدُ النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدَامَةٍ فَظَاهِرُ كَلاَمِ
ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ. وَقَال
الْقَابِسِيُّ: كَفَّرَ إنْ أَمْنَى مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ. (1)
10 - وَأَمَّا الاِسْتِمْنَاءُ بِالتَّفْكِيرِ فَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ
عَنْ حُكْمِ الاِسْتِمْنَاءِ بِالنَّظَرِ، مِنْ حَيْثُ الإِْبْطَال
وَالْكَفَّارَةُ وَعَدَمُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، عَدَا أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ، فَقَالُوا
بِعَدَمِ الإِْفْسَادِ بِالإِْنْزَال بِالتَّفْكِيرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُفِيَ لأُِمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ
أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ. (2)
وَقَال أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ بِالإِْبْطَال، وَاخْتَارَهُ
__________
(1) الزيلعي 1 / 323، والبحر الرائق 2 / 293، 299، وفتح القدير 2 / 64،
وشرح ميارة 1 / 1769، والدسوقي على الدردير 1 / 523، 529، ومغني المحتاج 1
/ 430، وشرح الروض 1 / 414، والمغني والشرح الكبير 3 / 49.
(2) حديث: " عفي لأمتي ما حدثت به. . . " أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ: " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت
به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا ". وأخرجه أبو داود بلفظ مقارب (جامع
الأصول في أحاديث الرسول 2 / 62 نشر مكتبة الحلواني 1389 هـ) .
(4/100)
ابْنُ عَقِيلٍ، لأَِنَّ الْفِكْرَةَ
تُسْتَحْضَرُ وَتَدْخُل تَحْتَ الاِخْتِيَارِ، وَمَدَحَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَْرْضِ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي الآْلاَءِ.
(1) وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ
بِهَا. (2)
أَثَرُ الاِسْتِمْنَاءِ فِي الاِعْتِكَافِ:
11 - يَبْطُل الاِعْتِكَافُ بِالاِسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
إلاَّ أَنَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ ذَكَرَهُ قَوْلاً وَاحِدًا،
وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَظْهَرَ الْبُطْلاَنَ. (3)
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ اُنْظُرْ (اعْتِكَاف) .
أَمَّا الاِسْتِمْنَاءُ بِالنَّظَرِ وَالتَّفْكِيرِ فَلاَ يَبْطُل بِهِ
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله. . . "
أخرجه أبو الشيخ والطبراني وابن عدي والبيهقي من حديث ابن عمر. قال
البيهقي: هذا إسناد فيه نظر. قال الحافظ العراقي: فيه الوزاع بن نافع
متروك. قال السخاوي: أسانيدها ضعيفة، لكن اجتماعها يكتسب قوة. ورمز
الألباني لحسنه (فيض القدير 3 / 263 ط المكتبة التجارية 1356 هـ، والمقاصد
الحسنة ص 159 نشر مكتبة الخانجي بمصر، وصحيح الجامع الصغير تحقيق الألباني
3 / 49) .
(2) فتح القدير 2 / 70، والدسوقي على الدردير 1 / 523، 529، وشرح الروض 1 /
414، ومغني المحتاج 1 / 430، والمغني والشرح الكبير 3 / 49.
(3) الهندية 1 / 213، والمبسوط 3 / 123، والحطاب 2 / 456، 457، والجمل 2 /
363، وإعانة الطالبين 2 / 263، وشرح الروض 1 / 334، ونهاية المحتاج 3 /
214، ومغني المحتاج 1 / 452، والكافي 1 / 504.
(4/101)
الاِعْتِكَافُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَيَبْطُل بِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ
الْحَنَابِلَةُ، إذْ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ بُطْلاَنُ الاِعْتِكَافِ،
لِفِقْدَانِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ مِمَّا يُوجِبُ الْغُسْل. (1)
أَثَرُ الاِسْتِمْنَاءِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
12 - لاَ يَفْسُدُ الْحَجُّ بِالاِسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ يَجِبُ فِيهِ
دَمٌ، لأَِنَّهُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي التَّحْرِيمِ
وَالتَّعْزِيرِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْجَزَاءِ. (2) وَيَفْسُدُ
الْحَجُّ بِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَوْجَبُوا فِيهِ الْقَضَاءَ
وَالْهَدْيَ وَلَوْ كَانَ نَاسِيًا، لأَِنَّهُ أَنْزَل بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ.
وَلِبَيَانِ نَوْعِ الدَّمِ وَوَقْتِهِ اُنْظُرْ (إحْرَامٌ) .
وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ عُمُومِ
كَلاَمِ الْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِ
بَهْرَامٌ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْحَجِّ فِي
بَعْضِ الأَْحْوَال مِنْ وَطْءٍ وَإِنْزَالٍ يُوجِبُ الْهَدْيَ فِي
الْعُمْرَةِ، لأَِنَّ أَمْرَهَا أَخَفُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَيْسَتْ
فَرْضًا. (3)
13 - أَمَّا الاِسْتِمْنَاءُ بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ
الْحَجُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، بِاسْتِدْعَاءِ الْمَنِيِّ بِنَظَرٍ أَوْ
فِكْرٍ مُسْتَدَامَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ بِمُجَرَّدِ الْفِكْرِ أَوِ
النَّظَرِ لَمْ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 328، والحطاب 2 / 456، ونهاية المحتاج 2 / 263، 3 /
214، وكشاف المخدرات ص 166.
(2) المهذب 1 / 216، وفتح القدير 2 / 239، والهندية 1 / 244، والدسوقي 2 /
68، ومغني المحتاج 1 / 522، ونهاية المحتاج 3 / 329، 330، وشرح الروض 1 /
563، والجمل 2 / 321، 517، ومنتهى الإرادات 1 / 262، والشرواني على التحفة
4 / 174، والمغني مع الشرح + الكبير 3 / 341.
(3) الحطاب 2 / 423، ونهاية المحتاج 3 / 330.
(4/101)
يَفْسُدْ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ وُجُوبًا،
وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ جَهْلاً أَمْ نِسْيَانًا. وَلاَ يَفْسُدُ
بِهِ الْحَجُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ الْفِدْيَةُ فِي النَّظَرِ، وَأَمَّا التَّفْكِيرُ
فَانْفَرَدَ بِالْفِدْيَةِ فِيهِ مِنْهُمْ أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ (1)
.
الاِسْتِمْنَاءُ عَنْ طَرِيقِ الزَّوْجَةِ:
14 - أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ الاِسْتِمْنَاءِ بِالزَّوْجَةِ
مَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ، (2) لأَِنَّهَا مَحَل اسْتِمْتَاعِهِ، كَمَا
لَوْ أَنْزَل بِتَفْخِيذٍ أَوْ تَبْطِينٍ، وَلِبَيَانِ الْمَانِعِ اُنْظُرْ
(حَيْضٌ، نِفَاسٌ، صَوْمٌ، اعْتِكَافٌ، حَجٌّ) .
وَقَال بِكَرَاهَتِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، نَقَل
صَاحِبُ الدُّرِّ عَنِ الْجَوْهَرَةِ: وَلَوْ مَكَّنَ امْرَأَتَهُ مِنَ
الْعَبَثِ بِذَكَرِهِ فَأَنْزَل كُرِهَ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، غَيْرَ
أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ حَمَلَهَا عَلَى الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ.
وَفِي نِهَايَةِ الزَّيْنِ: وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي: لَوْ غَمَرَتِ
الْمَرْأَةُ ذَكَرَ زَوْجِهَا بِيَدِهَا كُرِهَ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ
إِذَا أَمْنَى، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الْعَزْل، وَالْعَزْل مَكْرُوهٌ. (3)
__________
(1) الدسوقي على الدردير 2 / 68، والهندية 1 / 244، والمبسوط 3 / 120، 121،
والرهوني 2 / 459، ونهاية المحتاج 3 / 214، ومغني المحتاج 1 / 452،
والشرواني على التحفة 4 / 174، والجمل 2 / 517، والشرح الكبير مع المغني 3
/ 341، وكشاف القناع 2 / 287، 3 / 399.
(2) ابن عابدين 2 / 100، 3 / 156، والخرشي 1 / 208، والدسوقي 1 / 173،
ونهاية المحتاج 3 / 169، وكشاف القناع 5 / 148، والإنصاف 4 / 152.
(3) ابن عابدين 3 / 156، ونهاية الزين في إرشاد المبتدئين ص 349.
(4/102)
عُقُوبَةُ الاِسْتِمْنَاءِ:
15 - الاِسْتِمْنَاءُ الْمُحَرَّمُ يُعَزَّرُ فَاعِلُهُ بِاتِّفَاقٍ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ} . (1)
اسْتِمْهَال
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِمْهَال فِي اللُّغَةِ. طَلَبُ الْمُهْلَةِ. وَالْمُهْلَةُ
التُّؤَدَةُ وَالتَّأْخِيرُ. (2)
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ " الاِسْتِمْهَال. بِهَذَا الْمَعْنَى
الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ بِهِ أَهْل اللُّغَةِ. (3)
حُكْمُ الاِسْتِمْهَال:
2 - الاِسْتِمْهَال قَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ
مَشْرُوعٍ:
أ - الاِسْتِمْهَال الْمَشْرُوعُ، وَهُوَ عَلَى أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: الاِسْتِمْهَال لإِِثْبَاتِ حَقٍّ، كَاسْتِمْهَال
الْمُدَّعِي الْقَاضِي لإِِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 156، والحطاب 6 / 320، والمجموع 6 / 321، والمهذب 2 /
269، وكشاف القناع 6 / 102، والآية من سورة المؤمنون 5 - 6.
(2) لسان العرب مادة: (مهل) .
(3) حاشية قليوبي 4 / 172 طبع عيسى البابي الحلبي.
(4/102)
مُرَاجَعَةِ الْحِسَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى. (1)
النَّوْعُ الثَّانِي: الاِسْتِمْهَال الْوَارِدُ مَوْرِدَ الشَّرْطِ فِي
الْعُقُودِ، كَاشْتِرَاطِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَرْكَ مُهْلَةٍ لَهُ
لِلتَّرَوِّي، كَمَا هُوَ الْحَال فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ
الْمُشْتَرِي إمْهَال الْبَائِعِ لَهُ بِدَفْعِ الثَّمَنِ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الاِسْتِمْهَال الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيل
التَّبَرُّعِ، كَاسْتِمْهَال الْمَدِينِ الدَّائِنَ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ
(2) . وَاسْتِمْهَال الْمُسْتَعِيرِ الْمُعِيرَ فِي رَدِّ مَا اسْتَعَارَهُ
مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ.
ب - الاِسْتِمْهَال غَيْرُ الْمَشْرُوعِ:
وَمِنْهُ الاِسْتِمْهَال فِي الْحُقُوقِ الَّتِي اشْتَرَطَ فِيهَا
الشَّارِعُ الْفَوْرِيَّةَ، أَوِ الْمَجْلِسَ، كَاسْتِمْهَال أَحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ الآْخَرَ فِي تَسْلِيمِ الْبَدَل فِي بَيْعِ الصَّرْفِ
(3) ، وَاسْتِمْهَال الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ فِي تَسْلِيمِهِ رَأْسَ مَال
السَّلَمِ (4) ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَيْعِ السَّلَمِ.
3 - وَمِنْ الاِسْتِمْهَال مَا يُسْقِطُ الْحَقَّ، كَاسْتِمْهَال
الشَّفِيعِ الْمُشْتَرِي لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ (5) ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ
فِي بَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَكَاسْتِمْهَال الزَّوْجَةِ
الصَّغِيرَةِ - إِذَا بَلَغَتْ - فِي الإِْفْصَاحِ عَنْ
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 406 طبع المكتبة الإسلامية، وحاشية قليوبي 4 / 337
طبع عيسى البابي الحلبي، والاختيار لتعليل المختار 2 / 112 طبع دار
المعرفة.
(2) انظر تفسير القرطبي في تفسير قوله تعالى: (فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة) . سورة البقرة / 280.
(3) المغني 4 / 51.
(4) المغني 4 / 295.
(5) ابن عابدين 2 / 310.
(4/103)
اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا أَوْ فِرَاقِهِ
(1) ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
مُدَّةُ الْمُهْلَةِ الَّتِي تُعْطَى فِي الاِسْتِمْهَال:
4 - مُدَّةُ الْمُهْلَةِ إمَّا مُحَدَّدَةٌ مِنْ قِبَل الشَّرْعِ
فَتُلْتَزَمُ، كَإِمْهَال الْعِنِّينِ سَنَةً، كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عُمَرَ وَعَلِيٍّ. وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَإِمَّا مَتْرُوكَةٌ لِلْقَضَاءِ،
كَمُهْلَةِ الْمُدَّعِي لإِِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ، وَإِمْهَال الزَّوْجَةِ
لِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِزَوْجِهَا بَعْدَ قَبْضِهَا الْمَهْرَ بِقَدْرِ
مَا تُنَظِّفُ نَفْسَهَا وَتَتَهَيَّأُ لَهُ. وَإِمَّا اتِّفَاقِيَّةٌ
بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، كَإِمْهَال الدَّائِنِ لِلْمَدِينِ فِي وَفَاءِ
الدَّيْنِ، اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَجَل) .
حُكْمُ إجَابَةِ الْمُسْتَمْهِل:
5 - أ - يَجِبُ الإِْمْهَال فِي حَالاَتِ الاِسْتِمْهَال لإِِثْبَاتِ
حَقٍّ، وَالاِسْتِمْهَال الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيل الْمُطَالَبَةِ بِحَقٍّ،
وَالاِسْتِمْهَال الْوَارِدِ مَوْرِدَ الشَّرْطِ فِي الْعُقُودِ.
ب - يُنْدَبُ الإِْمْهَال عِنْدَمَا يَكُونُ الإِْمْهَال مِنْ قَبِيل
التَّبَرُّعِ (2) .
ج - يَحْرُمُ الإِْمْهَال فِي الْحُقُوقِ الَّتِي اشْتَرَطَ فِيهَا
الشَّارِعُ الْفَوْرِيَّةَ أَوِ الْمَجْلِسَ، لأَِنَّ الإِْمْهَال فِيهَا
يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِهَا. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي
الأَْبْوَابِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ
الْحَالاَتِ.
د - يَبْطُل الْحَقُّ فِي مِثْل الْحَالاَتِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا
فِي (ف 3) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 309.
(2) الاختيار 3 / 115، والمغني 6 / 668، 669.
(4/103)
اسْتِنَابَة
اُنْظُرْ: إنَابَةٌ
اسْتِنَاد
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِنَادُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَنَدَ. وَأَصْلُهُ سَنَدَ. يُقَال:
سَنَدْتُ إلَى الشَّيْءِ، وَأَسْنَدْتُ إلَيْهِ وَاسْتَنَدْتُ إلَيْهِ:
إِذَا مِلْتَ إلَيْهِ وَاعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ. وَالْمَسْنَدُ: مَا
اسْتَنَدْتَ إلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِ، وَاسْتَنَدَ إلَى فُلاَنٍ: لَجَأَ
إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْعَوْنِ. (1) وَلِلاِسْتِنَادِ فِي الاِصْطِلاَحِ
مَعَانٍ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: الاِسْتِنَادُ الْحِسِّيُّ، وَهُوَ أَنْ يَمِيل الإِْنْسَانُ
عَلَى الشَّيْءِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، وَالاِسْتِنَادُ بِهَذَا الْمَعْنَى
طِبْقَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الثَّانِي: الاِسْتِنَادُ إلَى الشَّيْءِ بِمَعْنَى الاِحْتِجَاجِ بِهِ.
الثَّالِثُ: الاِسْتِنَادُ بِمَعْنَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِأَثَرٍ
رَجْعِيٍّ، وَهُوَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ يُعْتَبَرُ
اسْتِنَادًا مَعْنَوِيًّا.
الْمَبْحَثُ الأَْوَّل
الاِسْتِنَادُ الْحِسِّيُّ:
2 - الاِسْتِنَادُ إلَى الشَّيْءِ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَيْل عَلَى
__________
(1) اللسان، والمرجع في اللغة مادة (سند) .
(4/104)
الشَّيْءِ مَعَ الاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا لَهُ صِلَةٌ بِالاِسْتِنَادِ: الاِتِّكَاءُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو
الْبَقَاءِ أَنَّ الاِسْتِنَادَ عَلَى الشَّيْءِ الاِتِّكَاءُ عَلَيْهِ
بِالظَّهْرِ خَاصَّةً، قَال: الاِتِّكَاءُ أَعَمُّ مِنْ الاِسْتِنَادِ،
وَهُوَ - يَعْنِي الاِتِّكَاءَ - الاِعْتِمَادُ عَلَى الشَّيْءِ بِأَيِّ
شَيْءٍ كَانَ، وَبِأَيِّ جَانِبٍ كَانَ.
وَالاِسْتِنَادُ: اتِّكَاءٌ بِالظَّهْرِ لاَ غَيْرُ. (1) وَلَمْ نَطَّلِعْ
عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ.
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الاِسْتِنَادِ فِي الصَّلاَةِ:
أ - الاِسْتِنَادُ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ:
3 - الاِسْتِنَادُ إلَى عِمَادٍ - كَحَائِطٍ أَوْ سَارِيَةٍ - فِي صَلاَةِ
الْفَرِيضَةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ مُسْتَقِلًّا دُونَ اعْتِمَادٍ.
لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ اتِّجَاهَاتٌ ثَلاَثَةٌ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ مَنْعَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ. قَالُوا: مَنِ
اعْتَمَدَ عَلَى عَصًا أَوْ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ يَسْقُطُ لَوْ
زَال الْعِمَادُ، لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، قَالُوا: لأَِنَّ الْفَرِيضَةَ
مِنْ أَرْكَانِهَا الْقِيَامُ، وَمَنِ اسْتَنَدَ عَلَى الشَّيْءِ بِحَيْثُ
لَوْ زَال مِنْ تَحْتِهِ سَقَطَ، لاَ يُعْتَبَرُ قَائِمًا.
أَمَّا إنْ كَانَ لاَ يَسْقُطُ لَوْ زَال مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ، فَهُوَ
عِنْدَهُمْ مَكْرُوهٌ، صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ. قَال الْحَلَبِيُّ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: يُكْرَهُ
اتِّفَاقًا - أَيْ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ - لِمَا فِيهِ مِنْ
إسَاءَةِ الأَْدَبِ وَإِظْهَارِ التَّجَبُّرِ. وَعَلَّل ابْنُ أَبِي
تَغْلِبَ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - لِلْكَرَاهَةِ بِكَوْنِ الاِسْتِنَادِ
يُزِيل مَشَقَّةَ الْقِيَامِ.
وَالاِتِّجَاهُ الثَّانِي: قَوْل الشَّافِعِيَّةِ الْمُقَدَّمُ لَدَيْهِمْ
أَنَّ صَلاَةَ الْمُسْتَنِدِ تَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، قَالُوا:
لأَِنَّهُ يُسَمَّى قَائِمًا وَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيل مَا
اعْتَمَدَ عَلَيْهِ لَسَقَطَ.
__________
(1) الكليات 1 / 38 ط دمشق.
(4/104)
وَالاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: أَنَّ
اسْتِنَادَ الْقَائِمِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ جَائِزٌ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ.
ثُمَّ إنَّ الصَّلاَةَ الْمَفْرُوضَةَ - الَّتِي هَذَا حُكْمُ
الاِسْتِنَادِ فِيهَا - تَشْمَل الْفَرْضَ الْعَيْنِيَّ وَالْكِفَائِيَّ،
كَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَصَلاَةِ الْعِيدِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهَا.
وَتَشْمَل الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ عَلَى مَنْ نَذَرَ الْقِيَامَ فِيهِ
عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الدُّسُوقِيُّ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ
سُنَّةَ الْفَجْرِ عَلَى قَوْلٍ لِتَأَكُّدِهَا. (1)
ب - الاِسْتِنَادُ فِي الْفَرْضِ فِي حَال الضَّرُورَةِ:
4 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ الضَّرُورَةُ،
بِحَيْثُ لاَ يَسْتَطِيعُ الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا إِلاَّ
بِالاِسْتِنَادِ، أَنَّ الاِسْتِنَادَ جَائِزٌ لَهُ. (2) وَلَكِنْ هَل
يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فَيَجُوزُ لَهُ الصَّلاَةُ جَالِسًا
مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْقِيَامِ بِالاِسْتِنَادِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ وَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ
جَالِسًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ،
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ.
قَال شَارِحُ الْمُنْيَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ قَدَرَ عَلَى
الْقِيَامِ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ خَادِمٍ. قَال الْحَلْوَانِيُّ:
الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ مُتَّكِئًا.
الثَّانِي: وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) شرح منية المصلي ص 271 ط دارالسعادة 1325 هـ، وابن عابدين 1 / 299 ط
بولاق، وحاشية الدسوقي 1 / 255 - 258 ط عيسى الحلبي، ونهاية المحتاج 1 /
445، 446 ط مصطفى الحلبي، ونيل المآرب 1 / 39، 40 ط بولاق.
(2) المجموع 3 / 259 ط المنيرية.
(4/105)
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ - كَمَا تَقَدَّمَ -
أَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ سَاقِطٌ عَنْهُ حِينَئِذٍ، وَتَجُوزُ صَلاَتُهُ
جَالِسًا. قَال الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ ابْنِ رُشْدٍ: لأَِنَّهُ لَمَّا
سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، صَارَ
قِيَامُهُ نَافِلَةً، فَجَازَ أَنْ يَعْتَمِدَ فِيهِ كَمَا يَعْتَمِدُ فِي
النَّافِلَةِ، وَالْقِيَامُ مَعَ الاِعْتِمَادِ أَفْضَل.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ الصَّلاَةِ مَعَ الاِعْتِمَادِ أَنْ
يَكُونَ اسْتِنَادُهُ لِغَيْرِ حَائِضٍ أَوْ جُنُبٍ، فَإِنْ صَلَّى
مُسْتَنِدًا إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، أَيِ الْوَقْتِ
الضَّرُورِيِّ لاَ الاِخْتِيَارِيِّ. (1)
ج - الاِسْتِنَادُ فِي الصَّلاَةِ أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ:
5 - الْحُكْمُ فِي الاِسْتِنَادِ فِي الْجُلُوسِ كَالْحُكْمِ فِي
الاِسْتِنَادِ فِي الْقِيَامِ تَمَامًا، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ
الْحَنَفِيَّةُ: فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ مُسْتَوِيًا،
وَقَدَرَ مُتَّكِئًا، يَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا
(2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَال الدَّرْدِيرُ مَا مَعْنَاهُ:
الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَنِدًا أَوْلَى مِنَ الْجُلُوسِ
مُسْتَقِلًّا. (3) أَمَّا الْجُلُوسُ مُسْتَقِلًّا فَوَاجِبٌ لاَ يَعْدِل
عَنْهُ إلَى الْجُلُوسِ مُسْتَنِدًا إلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ. وَكَذَا لاَ
يُصَارُ إلَى الْجُلُوسِ مُسْتَنِدًا مِمَّنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ
بِالاِسْتِنَادِ. وَمِثْل ذَلِكَ الْجُلُوسِ مُسْتَنِدًا، فَهُوَ مُقَدَّمٌ
وُجُوبًا عَلَى الصَّلاَةِ مُضْطَجِعًا، وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ ذِكْرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
د - الاِسْتِنَادُ فِي النَّفْل:
6 - قَال النَّوَوِيُّ: الاِتِّكَاءُ فِي صَلاَةِ النَّفْل جَائِزٌ
__________
(1) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 2 / 257، والمواق بهامش مواهب الجليل 2 /
3، وشرح منية المصلي ص 262، وكشاف القناع 1 / 498.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 34 نقلا عن الذخيرة.
(3) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 2 / 257.
(4/105)
عَلَى الْعِصِيِّ وَنَحْوِهَا بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ إلاَّ ابْنَ سِيرِينَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ كَرَاهَتُهُ.
وَقَال مُجَاهِدٌ: يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ بِقَدْرِهِ (1) .
وَقَدْ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي
التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ فِي الْفَرْضِ.
لَكِنْ لَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَعْيَا - أَيْ كَل
وَتَعِبَ - فَلاَ بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَى عَصًا أَوْ
حَائِطٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. (2)
وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الاِسْتِنَادِ فِي الْفَرْضِ
فَمَنَعُوهُ، وَأَجَازُوهُ فِي النَّفْل، لأَِنَّ النَّفَل تَجُوزُ
صَلاَتُهُ مِنْ جُلُوسٍ دُونَ قِيَامٍ، فَكَذَا يَجُوزُ الاِسْتِنَادُ
فِيهِ مَعَ الْقِيَامِ.
الاِسْتِنَادُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
أ - اسْتِنَادُ النَّائِمِ الْمُتَوَضِّئِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ إِذَا نَامَ مُسْتَنِدًا
إلَى شَيْءٍ - بِحَيْثُ لَوْ زَال لَسَقَطَ - لاَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُ
الْمُسْتَنِدِ فِي الأَْصَحِّ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَهَذَا
إِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْعَدَتُهُ زَائِلَةً عَنِ الأَْرْضِ وَإِلاَّ نُقِضَ
اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ
مِنَ النَّوْمِ الثَّقِيل، فَإِنْ كَانَ لاَ يَسْقُطُ فَهُوَ مِنَ
النَّوْمِ الْخَفِيفِ الَّذِي لاَ يَنْقُضُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ نَوْمَ الْمُسْتَنِدِ قَلِيلاً
كَانَ أَوْ كَثِيرًا يَنْقُضُ (3) .
__________
(1) المجموع 3 / 259، والحطاب 2 / 7.
(2) شرح منية المصلي ص 271.
(3) ابن عابدين 1 / 95، 96، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 52، وشرح
الزرقاني 1 / 86، وكفاية الطالب 1 / 111، والمجموع 2 / 16، 17، ونهاية
المحتاج 1 / 100، 101، والمغني 1 / 129، والإنصاف 1 / 201.
(4/106)
ب - الاِسْتِنَادُ إلَى الْقُبُورِ:
8 - يُكْرَهُ الاِسْتِنَادُ إلَى الْقُبُورِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَدْ أَلْحَقُوا الاِسْتِنَادَ بِالْجُلُوسِ الَّذِي
وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ، وَالاِتِّكَاءُ عَلَيْهِ،
وَالاِسْتِنَادُ إلَيْهِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لأََنْ
يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى
جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ (1) .
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً قَدِ اتَّكَأَ عَلَى قَبْرٍ فَقَال: لاَ تُؤْذِ
صَاحِبَ الْقَبْرِ (2) .
وَقَدْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْكَرَامَةَ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى
الاِسْتِنَادِ، وَبِكَوْنِ الاِسْتِنَادِ إلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ.
وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لاَ تَأْبَى هَذَا التَّقْيِيدَ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ فِي الْجُلُوسِ
عَلَى الْقَبْرِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى الاِسْتِنَادُ إلَيْهِ. قَال
الدُّسُوقِيُّ: يَجُوزُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا
مَا وَرَدَ مِنْ حُرْمَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ
عَلَى الْجُلُوسِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ (3) .
__________
(1) حديث " لأن يجلس أحدكم على جمرة. . . " أخرجه مسلم وأحمد والنسائي وأبو
داود وابن ماجه مرفوعا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (نيل الأوطار 4 /
135 ط الجيل 1973 م) .
(2) حديث: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " رأى رجلا اتكأ على قبر
فقال: لا تؤذ صاحب القبر ". أخرجه أحمد من حديث عمرو بن حزم مرفوعا بلفظ: "
رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر فقال: لا تؤذ صاحب هذا
القبر، أو لا تؤذوه " قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح. (نيل الأوطار 4 /
135، 136 ط دار الجيل 1973 م) .
(3) ابن عابدين 1 / 606، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 428، وشرح
المنهاج ومعه حاشية القليوبي 1 / 342، والمغني 2 / 508 ط 3
(4/106)
الْمَبْحَثُ الثَّانِي
الاِسْتِنَادُ بِمَعْنَى الاِحْتِجَاجِ:
9 - يَأْتِي الاِسْتِنَادُ بِمَعْنَى الاِحْتِجَاجِ بِمَا يُقَوِّي
الْقَضِيَّةَ الْمُدَّعَاةَ، وَيَكُونُ إمَّا فِي مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ
وَالاِسْتِدْلاَل وَالاِجْتِهَادِ، فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ
إلَى أَبْوَابِ الأَْدِلَّةِ، وَبَابِ الاِجْتِهَادِ مِنْ عِلْمِ
الأُْصُول.
وَإِمَّا فِي دَعْوَى أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ
أَحْكَامِهِ إلَى مُصْطَلَحِ (إثْبَاتٌ) .
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ.
الاِسْتِنَادُ بِمَعْنَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِأَثَرٍ رَجْعِيٍّ:
10 - الاِسْتِنَادُ بِهَذَا الْمَعْنَى: هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي
الْحَال لِتَحَقُّقِ عِلَّتِهِ، ثُمَّ يَعُودُ الْحُكْمُ الْقَهْقَرِيُّ
لِيَثْبُتَ فِي الْمَاضِي تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْحَاضِرِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: أَنَّ الْمَغْصُوبَ إِذَا تَلِفَ تَحْتَ يَدِ
الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ
بِقِيمَتِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ مَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ
وُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ، حَتَّى أَنَّهُ يَمْلِكُ زَوَائِدَهُ
الْمُتَّصِلَةَ الَّتِي وُجِدَتْ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إِلَى حِينِ
الضَّمَانِ، لأَِنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا أَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ نَفَاذُهُ عَلَى
إجَازَةِ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ - كَبَيْعِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ
يَقِفُ نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ - إِذَا أَجَازَهُ نَفَذَ
نَفَاذًا مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْعَقْدِ، حَتَّى يَمْلِكَ
الْمُشْتَرِي زَوَائِدَهُ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ. (1)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، وحاشية الحموي ص 156، 157 ط استانبول،
وكشاف اصطلاحات الفنون 3 / 647.
(4/107)
وَاسْتِعْمَال لَفْظِ الاِسْتِنَادِ
بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مُصْطَلَحٌ لِلْحَنَفِيَّةِ خَاصَّةً.
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَسْتَعْمِلُونَ
بَدَلاً مِنْهُ اصْطِلاَحَ " التَّبَيُّنِ "، (1) وَالْمَالِكِيَّةُ
يُعَبِّرُونَ أَيْضًا عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى " بِالاِنْعِطَافِ ". (2)
وَمَعْنَى الاِسْتِنَادِ فِي الإِْجَازَةِ مَثَلاً أَنَّ الْعَقْدَ
الْمَوْقُوفَ إِذَا أُجِيزَ يَكُونُ لِلإِْجَازَةِ اسْتِنَادٌ
وَانْعِطَافٌ، أَيْ تَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ، فَبَعْدَ الإِْجَازَةِ
يَسْتَفِيدُ الْعَاقِدُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ مُنْذُ انْعِقَادِهِ،
لأَِنَّ الإِْجَازَةَ لَمْ تُنْشِئِ الْعَقْدَ إنْشَاءً بَل أَنْفَذَتْهُ
إنْفَاذًا، أَيْ فَتَحَتْ الطَّرِيقَ لآِثَارِهِ الْمَمْنُوعَةِ
الْمُتَوَقِّفَةِ لِكَيْ تَمُرَّ وَتَسْرِيَ، فَتَلْحَقُ تِلْكَ الآْثَارُ
بِالْعَقْدِ الْمُوَلِّدِ لَهَا اعْتِبَارًا مِنْ تَارِيخِ انْعِقَادِهِ،
لاَ مِنْ تَارِيخِ الإِْجَازَةِ فَقَطْ. فَبَعْدَ الإِْجَازَةِ يُعْتَبَرُ
الْفُضُولِيُّ كَوَكِيلٍ عَنْ صَاحِبِ الْعَقْدِ قَبْل الْعَقْدِ، وَبِمَا
أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْوَكِيل نَافِذَةٌ عَلَى الْمُوَكِّل مُنْذُ
صُدُورِهَا، يَكُونُ عَقْدُ الْفُضُولِيِّ نَافِذًا عَلَى الْمُجِيزِ
نَفَاذًا مُسْتَنِدًا إلَى تَارِيخِ الْعَقْدِ. (3)
هَذَا، وَمِنْ أَجْل أَنَّ هَذَا الاِصْطِلاَحَ خَاصٌّ بِالْحَنَفِيَّةِ
فَسَيَكُونُ كَلاَمُنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ مُعَبِّرًا عَنْ مَذْهَبِ
الْحَنَفِيَّةِ خَاصَّةً، إلاَّ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنُصُّ فِيهَا
عَلَى غَيْرِهِمْ.
11 - وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ الأَْحْكَامَ تَثْبُتُ بِطُرُقٍ
أَرْبَعٍ، فَذَكَرَ مَعَ الاِسْتِنَادِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ:
أ - الاِقْتِصَارَ: وَهُوَ الأَْصْل. كَمَا إِذَا أَنْشَأَ طَلاَقًا
مُنَجَّزًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ عِنْدَ هَذَا
الْقَوْل
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 396، ونهاية المحتاج 6 / 67، والمغني 6 / 25.
(2) المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقاء 1 / 534 (الحاشية) مطبعة
الجامعة السورية الطبعة الخامسة.
(3) الأشباه والنظائر بتوضيح يسير ص 156 - 157.
(4/107)
فِي الْحَال، فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَلاَ
يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ.
ب - وَالاِنْقِلاَبَ: هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي وَقْتٍ لاَحِقٍ
مُتَأَخِّرٍ عَنِ الْقَوْل، كَمَا لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ
إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، لاَ يَثْبُتُ بِهِ الطَّلاَقُ فِي الْحَال، لَكِنْ
إِنْ دَخَلَتْهَا طُلِّقَتْ بِدُخُولِهَا. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ
انْقِلاَبًا: أَنَّ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ - وَهُوَ الصِّيغَةُ
الْمُعَلَّقَةُ - انْقَلَبَ عِلَّةً بِوُجُودِ الدُّخُول، إِذْ إِنَّ
قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلطَّلاَقِ قَبْل دُخُولِهَا
الْبَيْتَ، وَمَتَى دَخَلَتِ انْقَلَبَ فَأَصْبَحَ عِلَّةً، لأَِنَّ ذَلِكَ
الْقَائِل جَعَل لِلْعِلِّيَّةِ شَرْطًا وَقَدْ تَحَقَّقَ.
ج - وَالتَّبَيُّنَ أَوِ الظُّهُورَ: (1) وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَال
أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ قَبْل، كَمَا لَوْ قَال يَوْمَ
الْجُمُعَةِ: إنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ
يَتَبَيَّنُ يَوْمَ السَّبْتِ أَنَّ زَيْدًا كَانَ فِي الدَّارِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ
قَوْلِهِ ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ وَقَعَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ إلاَّ فِي يَوْمِ السَّبْتِ. وَالْعِدَّةُ تَبْتَدِئُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ.
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الاِسْتِنَادِ وَالتَّبَيُّنِ:
12 - فِي حَالَةِ الاِسْتِنَادِ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي نَفْسِ
الأَْمْرِ فِي الْمَاضِي، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ فِي الْحَاضِرِ رَجَعَ
ثُبُوتُهُ الْقَهْقَرِيُّ فَانْسَحَبَ عَلَى الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ،
أَمَّا فِي التَّبَيُّنِ فَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي نَفْسِ
الأَْمْرِ وَلَكِنْ تَأَخَّرَ الْعِلْمُ بِهِ، وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ بَيْنَ
الأَْمْرَيْنِ الْفُرُوقُ التَّالِيَةُ:
الأَْوَّل: أَنَّ حَالَةَ التَّبَيُّنِ يُمْكِنُ أَنْ يَطَّلِعَ الْعِبَادُ
فِيهَا عَلَى الْحُكْمِ. وَفِي الاِسْتِنَادِ لاَ يُمْكِنُ. فَفِي
__________
(1) كذا ورد في بعض المواضع " التبيّن " وهو أولى. والغالب في كلامهم
(التبيين) .
(4/108)
الْمِثَال السَّابِقِ لِلتَّبَيُّنِ وَهُوَ
قَوْلُهُ: إنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ عَلِمَ
كَوْنَهُ فِي الدَّارِ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ فِي
الدَّارِ مِمَّا يَدْخُل فِي طَوْقِ الْعِبَادِ، بِخِلاَفِ الْعِلْمِ
بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ لِبَيْعِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ
الْعِلْمُ بِإِجَازَتِهِ قَبْل أَنْ يُجِيزَ.
الثَّانِي: أَنَّ حَالَةَ التَّبَيُّنِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا قِيَامُ
الْمَحَل عِنْدَ حُصُول تَبَيُّنِ الْحُكْمِ، وَلاَ اسْتِمْرَارُ وُجُودِهِ
إلَى حِينِ التَّبَيُّنِ. فَلَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ
كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ، فَحَاضَتْ ثَلاَثَ حِيَضٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا
ثَلاَثًا، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ زَيْدًا كَانَ فِي الدَّارِ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ، لاَ تَقَعُ الثَّلاَثُ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ وُقُوعُ الأَْوَّل،
وَأَنَّ إِيقَاعَ الثَّلاَثِ كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
أَمَّا فِي حَالَةِ الاِسْتِنَادِ فَلاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَحَل حَال
ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَعَدَمِ انْقِطَاعِ وُجُودِهِ مِنْ وَقْتِ ثُبُوتِ
الْحُكْمِ، عَوْدًا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ، كَمَا فِي
الزَّكَاةِ تَجِبُ بِتَمَامِ الْحَوْل، وَيَسْتَنِدُ وُجُوبُهَا إلَى
وَقْتِ وُجُودِ النِّصَابِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ تَمَّامِ الْحَوْل
مَفْقُودًا، أَوِ انْقَطَعَ أَثْنَاءَهُ لَمْ يَثْبُتِ الْوُجُوبُ فِي
آخِرِ الْحَوْل. (1)
الاِسْتِنَادُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ:
13 - إِذَا اسْتَنَدَ الْمِلْكُ فَإِنَّهُ فِي الْفَتْرَةِ مَا بَيْنَ
التَّصَرُّفِ إلَى حُصُول الإِْجَازَةِ وَمَا يَقُومُ مَعَهَا - كَضَمَانِ
الْمَضْمُونَاتِ - مِلْكٌ نَاقِصٌ، وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمِلْكِ
التَّامِّ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرْعَانِ:
الْفَرْعُ الأَْوَّل: لَوْ غَصَبَ عَيْنًا فَزَادَتْ عِنْدَهُ زِيَادَةً
مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ، أَوْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ، فَإِذَا ضَمِنَ
__________
(1) حاشية الأشباه والنظائر للحموي ص 157، 158.
(4/108)
الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ فِيمَا بَعْدُ،
مَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ. أَمَّا الزِّيَادَةُ
الْمُتَّصِلَةُ كَسِمَنِ الدَّابَّةِ فَلاَ يَضْمَنُهَا، لأَِنَّهَا
تَكُونُ قَدْ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ
الْمُنْفَصِلَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بَعْدَ الْغَصْبِ وَقَبْل الضَّمَانِ،
لَوْ بَاعَهَا أَوِ اسْتَهْلَكَهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، لأَِنَّهَا فِي
الأَْصْل غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ حَدَثَتْ عِنْدَهُ
أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَلاَ يَضْمَنُهَا إلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ
التَّفْرِيطِ، وَبِبَيْعِهَا أَوِ اسْتِهْلاَكِهَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا،
فَكَانَ غَاصِبًا لَهَا فَيَضْمَنُهَا عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ
الْغَصْبُ.
فَظَهَرَ الاِسْتِنَادُ مِنْ جِهَةِ الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ،
وَاقْتَصَرَ الْمِلْكُ عَلَى الْحَال مِنْ جِهَةِ الزَّوَائِدِ
الْمُنْفَصِلَةِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ بِطَرِيقِ
الاِسْتِنَادِ، فَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ عَلَى
الْحَال مِنْ وَجْهٍ، فَيَعْمَل بِشَبَهِ الظُّهُورِ فِي الزَّوَائِدِ
الْمُتَّصِلَةِ، وَبِشَبَهِ الاِقْتِصَارِ فِي الْمُنْفَصِلَةِ، لِيَكُونَ
عَمَلاً بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ. (1)
الْفَرْعُ الثَّانِي: لَوِ اسْتَغَل الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ، كَمَا لَوْ
آجَرَ الدَّابَّةَ، فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ عَلَى قَوْل أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ
عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّهُ حَصَل فِي مِلْكِهِ حِينَ أَدَّى
ضَمَانَهُ مُسْتَنِدًا إلَى حِينِ الْغَصْبِ. وَقَال الْبَابَرْتِيُّ:
وَإِنَّمَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ بِالتَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ لأَِنَّهَا
حَصَلَتْ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ،
وَهُوَ وَإِنْ دَخَل فِي مِلْكِهِ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ، إلاَّ أَنَّ
الْمِلْكَ الْمُسْتَنَدَ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا فِيهِ مِنْ وَجْهٍ
__________
(1) البدائع 7 / 144 ط دار الكتاب العربي - بيروت.
(4/109)
دُونَ وَجْهٍ، وَلِهَذَا يَظْهَرُ فِي
حَقِّ الْمَغْصُوبِ الْقَائِمِ دُونَ الْفَائِتِ، فَلاَ يَنْعَدِمُ فِيهِ
الْخُبْثُ. (1)
مَا نَشَأَ عَنِ اعْتِبَارِ الإِْجَازَةِ مُسْتَنِدَةً فِي الْبَيْعِ
الْمَوْقُوفِ:
14 - نَشَأَ عَنْ نَظَرِيَّةِ اسْتِنَادِ إِجَازَةِ التَّصَرُّفَاتِ
الْمَوْقُوفَةِ إلَى وَقْتِ الاِنْعِقَادِ إنِ اشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ
الإِْجَازَةِ قِيَامَ الْمُجِيزِ وَالْمَحَل عِنْدَ الْعَقْدِ،
بِالإِْضَافَةِ إلَى قِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ. وَلِذَا يَقُول
الْحَصْكَفِيُّ: كُل تَصَرُّفٍ صَدَرَ مِنَ الْفُضُولِيِّ وَلَهُ مُجِيزٌ -
أَيْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إمْضَائِهِ حَال وُقُوعِهِ - انْعَقَدَ
مَوْقُوفًا، وَمَا لاَ مُجِيزَ لَهُ لاَ يَنْعَقِدُ أَصْلاً. فَلَوْ أَنَّ
صَبِيًّا بَاعَ عَيْنًا ثُمَّ بَلَغَ قَبْل إِجَازَةِ وَلِيِّهِ
فَأَجَازَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ، لأَِنَّ لَهُ وَلِيًّا يُجِيزُهُ حَالَةَ
الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ طَلَّقَ مَثَلاً ثُمَّ بَلَغَ فَأَجَازَهُ
بِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ وَقْتَ قِيَامِ التَّصَرُّفِ لاَ مُجِيزَ لَهُ -
أَيْ لأَِنَّ وَلِيَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِجَازَةَ الطَّلاَقِ - فَيَبْطُل،
إِلاَّ أَنْ يُوقِعَ الطَّلاَقَ حِينَئِذٍ، كَأَنْ يَقُول بَعْدَ
الْبُلُوغِ: أَوْقَعْتُ ذَلِكَ الطَّلاَقَ. (2)
مَا يَدْخُلُهُ الاِسْتِنَادُ:
15 - يَدْخُل الاِسْتِنَادُ فِي تَصَرُّفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ كَثِيرَةٍ:
مِنْهَا فِي الْعِبَادَةِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ:
أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِتَمَامِ الْحَوْل مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّل
وُجُودِ النِّصَابِ.
وَكَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ
مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْحَدَثِ، لاَ إِلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ،
وَكَطَهَارَةِ الْمُتَيَمِّمِ، تَنْتَقِضُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ
__________
(1) الهداية وشرحها العناية للبابرتي 8 / 356.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 2 / 327 و 4 / 135.
(4/109)
مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْحَدَثِ لاَ
إلَى رُؤْيَةِ الْمَاءِ، فَلَوْ لَبِسَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الْخُفَّ مَعَ
السَّيَلاَنِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ تَمْسَحْ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَبِسَ
الْمُتَيَمِّمُ الْخُفَّ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ
عَلَيْهِ. (1)
وَوَضَّحَ ذَلِكَ الْكَرْلاَنِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ
لِلْمُسْتَحَاضَةِ بِأَنَّ الثَّابِتَ بِالاِسْتِنَادِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ
دُونَ وَجْهٍ، لأَِنَّهُ بَيْنَ الظُّهُورِ وَالاِقْتِصَارِ، لأَِنَّ
انْتِقَاضَ الْوُضُوءِ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَالْحَدَثُ وُجِدَ فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ، فَهَذَا يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهَا مُحْدَثَةً مُعَلَّقَةً
بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ وُجِدَ الآْنَ، فَهَذَا
يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهَا مُحْدَثَةً فِي الْحَال، فَجَعَلْنَاهُ ظُهُورًا
مِنْ وَجْهٍ اقْتِصَارًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَانَ ظُهُورًا مِنْ كُل
وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ، وَلَوْ كَانَ اقْتِصَارًا مِنْ كُل وَجْهٍ
لَجَازَ الْمَسْحُ، فَقُلْنَا لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ أَخْذًا
بِالاِحْتِيَاطِ. (2)
16 - وَيَكُونُ الاِسْتِنَادُ أَيْضًا فِي الْبُيُوعِ الْمَوْقُوفِ
نَفَاذُهَا عَلَى الإِْجَازَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنَ الْبُيُوعِ
الْمَوْقُوفَةِ بَيْعُ الْمُكْرَهِ وَالْمُرْتَدِّ، وَمَا صَدَرَ مِنْ
مَالِكٍ غَيْرِ أَهْلٍ لِتَوَلِّي طَرَفَيِ الْعَقْدِ، كَالصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ وَالسَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَبَيْعِ الْمَحْجُورِ
عَلَيْهِ لِحَقِّ الدَّائِنِينَ، وَمَا صَدَرَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ
وِلاَيَةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْفُضُولِيِّ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمَالِكُ مَا
تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَالْمَرْهُونِ.
وَيَدْخُل الاِسْتِنَادُ أَيْضًا سَائِرَ الْعُقُودِ وَالإِْسْقَاطَاتِ
وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى الإِْجَازَةِ، فَمَثَلاً كُل
تَصَرُّفٍ صَدَرَ مِنَ الْفُضُولِيِّ تَمْلِيكًا كَتَزْوِيجٍ، أَوْ
إِسْقَاطًا كَطَلاَقٍ وَإِعْتَاقٍ، يَنْعَقِدُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 158.
(2) الكفاية مطبوع مع شرح فتح القدير 1 / 129.
(4/110)
مَوْقُوفًا عَلَى الإِْجَازَةِ
وَيَسْتَنِدُ. وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ " الإِْجَازَةَ
اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ (1) " (ر: إجَازَةٌ) .
وَكَذَا الْعُقُودُ الَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلطَّرَفَيْنِ، أَوْ
لأَِحَدِهِمَا إِذَا أَجَازَهَا مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلَزِمَتْ،
فَإِنَّهَا تَلْزَمُ لُزُومًا مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الاِنْعِقَادِ،
لأَِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَوْلٍ، (2) وَالْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ
بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مِلْكًا مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ سَبَبِ الضَّمَانِ.
(3)
وَيَكُونُ الاِسْتِنَادُ أَيْضًا فِي الْوَصِيَّةِ إِذَا قَبِل الْمُوصَى
لَهُ الْمُعَيَّنَ مَا أُوْصِيَ لَهُ بِهِ، عِنْدَ مَنْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ
فِيهِ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي، وَهُوَ الْقَوْل الأَْصَحُّ
لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
وَعَلَيْهِ فَيُطَالِبُ الْمُوصَى لَهُ بِثَمَرَةِ الْمُوصَى بِهِ،
وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حِينِ مَوْتِ
الْمُوصِي. (4)
وَمِمَّا يَدْخُلُهُ الاِسْتِنَادُ: الْوَصِيَّةُ لأَِجْنَبِيٍّ بِأَكْثَرَ
مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ لِوَارِثٍ، وَتَبَرُّعَاتُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ، إِذْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ،
وَيَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ وَفَاةِ الْمُوصِي عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
الاِسْتِنَادُ فِي الْفَسْخِ وَالاِنْفِسَاخِ:
17 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
أَنَّ الْفَسْخَ لاَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا فِي
فَسْخٍ فِيمَا يُسْتَقْبَل مِنَ الزَّمَانِ دُونَ الْمَاضِي عَلَى مَا
نَقَل شَيْخُ الإِْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 138، 139.
(2) ابن عابدين 4 / 45، 140.
(3) فتح القدير وشروح الهداية 8 / 256.
(4) نهاية المحتاج 6 / 45، 67، والمغني 6 / 5.
(5) حاشية شلبي على تبيين الحقائق 4 / 37، 38 وشرح الأشباه ص 527 ط الهند،
والأشباه للسيوطي ص 236، 237.
(4/110)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل
الْمَرْجُوحِ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ يَسْتَنِدُ
الْفَسْخُ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ. (1)
اسْتِنْبَاطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِنْبَاطُ لُغَةً: اسْتِفْعَالٌ مِنْ أَنْبَطَ الْمَاءَ
إِنْبَاطًا بِمَعْنَى اسْتَخْرَجَهُ.
وَكُل مَا أُظْهِرَ بَعْدَ خَفَاءٍ فَقَدْ أُنْبِطَ وَاسْتُنْبِطَ.
وَاسْتَنْبَطَ الْفَقِيهُ الْحُكْمَ: اسْتَخْرَجَهُ بِاجْتِهَادِهِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أُولِي
الأَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (2)
وَاسْتَنْبَطَهُ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ عِلْمًا وَخَيْرًا وَمَالاً:
اسْتَخْرَجَهُ. وَهُوَ مَجَازٌ. (3)
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ
تَعْرِيفُ الاِسْتِنْبَاطِ بِأَنَّهُ: اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ أَوِ
الْعِلَّةِ إِذَا لَمْ يَكُونَا مَنْصُوصَيْنِ وَلاَ مُجْمَعًا عَلَيْهِمَا
بِنَوْعٍ مِنْ الاِجْتِهَادِ. فَيُسْتَخْرَجُ الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ، أَوْ
الاِسْتِدْلاَل، أَوْ الاِسْتِحْسَانِ، أَوْ نَحْوِهَا، وَتُسْتَخْرَجُ
الْعِلَّةُ بِالتَّقْسِيمِ وَالسَّبْرِ، أَوِ الْمُنَاسَبَةِ، أَوْ
غَيْرِهَا مِمَّا يُعْرَفُ بِمَسَالِكِ الْعِلَّةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِجْتِهَادُ:
2 - هُوَ بَذْل الطَّاقَةِ مِنَ الْفَقِيهِ فِي تَحْصِيل حُكْمٍ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 236، والمغني 6 / 25.
(2) سورة النساء / 83.
(3) القاموس وتاج العروس مادة (نبط) والتعريفات
للجرجاني ص 17.
(4/111)
شَرْعِيٍّ ظَنِّيٍّ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الاِسْتِنْبَاطِ (1) أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الاِسْتِنْبَاطِ،
لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ كَمَا يَكُونُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ أَوِ
الْعِلَّةِ، يَكُونُ فِي دَلاَلاَتِ النُّصُوصِ وَالتَّرْجِيحِ عِنْدَ
التَّعَارُضِ.
ب - التَّخْرِيجُ:
3 - يَسْتَعْمِل هَذَا التَّعْبِيرَ كُلٌّ مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالأُْصُولِيِّينَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الاِسْتِنْبَاطِ، وَمَعْنَاهُ
عِنْدَهُمُ: اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى نَصِّ الإِْمَامِ
فِي صُورَةٍ مُشَابِهَةٍ، أَوْ عَلَى أُصُول إِمَامِ الْمَذْهَبِ
كَالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَأْخُذُ بِهَا، أَوِ الشَّرْعِ،
أَوِ الْعَقْل، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ
مِنَ الإِْمَامِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: التَّفْرِيعُ عَلَى قَاعِدَةِ
عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ. هَذَا حَاصِل مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
بَدْرَانَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. (2)
وَقَال السَّقَّافُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ
التَّخْرِيجَ أَنْ يَنْقُل فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْحُكْمَ مِنْ نَصِّ
إِمَامِهِمْ فِي صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ مُشَابِهَةٍ. وَقَدْ يَكُونُ
لِلإِْمَامِ نَصٌّ فِي الصُّورَةِ الْمَنْقُول إِلَيْهَا مُخَالِفٌ
لِلْحُكْمِ الْمَنْقُول، فَيَكُونُ لَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلاَنِ،
قَوْلٌ مَنْصُوصٌ وَقَوْلٌ مُخَرَّجٌ. (3)
وَتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَعْنَاهُ: إِظْهَارُ مَا
عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (4) ، أَيْ إِظْهَارُ الْعِلَّةِ.
ج - الْبَحْثُ:
4 - قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: الْبَحْثُ مَا يُفْهَمُ فَهْمًا
__________
(1) مسلم الثبوت 2 / 362.
(2) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ص 53، 190.
(3) الفوائد المكية للشيخ علوي السقاف، ضمن " مجموعة رسائل كتب مفيدة ص 42،
43 ط مصطفى الحلبي.
(4) شرح المحلي على جمع الجوامع 2 / 273.
(4/111)
وَاضِحًا مِنَ الْكَلاَمِ الْعَامِّ
لِلأَْصْحَابِ، الْمَنْقُول عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ بِنَقْلٍ عَامٍّ.
وَقَال السَّقَّافُ: الْبَحْثُ هُوَ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ الْبَاحِثُ مِنْ
نُصُوصِ الإِْمَامِ وَقَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِل الاِسْتِنْبَاطِ إِلَى (الاِجْتِهَادِ)
(وَالْقِيَاسِ - مَسَالِكِ الْعِلَّةِ) وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اسْتِنْتَار
اُنْظُرْ: اسْتِبْرَاء
اسْتِنْثَار
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِنْثَارُ: هُوَ نَثْرُ مَا فِي الأَْنْفِ مِنْ مُخَاطٍ
وَغَيْرِهِ بِالنَّفَسِ، وَاسْتَنْثَرَ الإِْنْسَانُ: اسْتَنْشَقَ
الْمَاءَ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ بِنَفَسِ الأَْنْفِ. (1) وَلاَ
يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (2)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح مادة (نثر) .
(2) المغني 1 / 120 ط الرياض، والمجموع 1 / 353 ط المنيرية.
(4/112)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِنْثَارُ سُنَّةٌ فِي الطَّهَارَةِ، لِمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ
وُضُوءِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ. (1)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّتِهِ. (2)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - تُنْظَرُ أَحْكَامُ الاِسْتِنْثَارِ وَكَيْفِيَّتُهُ تَحْتَ مُصْطَلَحِ
(وُضُوء) (وَغُسْل) .
اسْتِنْجَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِنْجَاءِ: الْخَلاَصُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَال:
اسْتَنْجَى حَاجَتَهُ مِنْهُ، أَيْ خَلَّصَهَا. وَالنَّجْوَةُ مَا
ارْتَفَعَ مِنَ الأَْرْضِ فَلَمْ يُعْلِهَا السَّيْل، فَظَنَنْتَهَا
نَجَاءَكَ.
__________
(&# x661 ;) حديث " أنه صلى
الله عليه وسلم تمضمض. . . " أخرجه الأئمة الستة من حديث مالك عن عمرو بن
يحيى المازني عن أبيه، قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بتور من ماء، فتوضأ لهم وضوء رسول
الله صلى الله عليه وسل فأكفأ على يده من التور، فغسل يديه ثلاثا، ثم أدخل
يديه في التور، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات. . . (نصب الراية
1 / 10 ط مطبعة دار أكامدن 1357 هـ) .
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 39 ط العثمانية، والمجموع 1 / 357،
والشرح الصغير 1 / 47 ط مصطفى الحلبي، والمغني 1 / 120، 121.
(4/112)
وَأَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ
وَاسْتَنْجَيْتُهَا: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا. (1)
وَمَأْخَذُ الاِسْتِنْجَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، قَال شِمْرٌ: أَرَاهُ مِنْ
الاِسْتِنْجَاءِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، لِقَطْعِهِ الْعَذِرَةَ بِالْمَاءِ،
وَقَال ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَةِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ
مِنَ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ إِذَا أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرَ
بِهَا. (2)
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الاِسْتِنْجَاءِ
اصْطِلاَحًا، وَكُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَنَّ الاِسْتِنْجَاءَ إزَالَةُ
مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، سَوَاءٌ بِالْغَسْل أَوِ الْمَسْحِ
بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.
وَلَيْسَ غَسْل النَّجَاسَةِ عَنِ الْبَدَنِ أَوْ عَنِ الثَّوْبِ
اسْتِنْجَاءً. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِطَابَةُ:
2 - الاِسْتِطَابَةُ هِيَ بِمَعْنَى الاِسْتِنْجَاءِ، تَشْمَل اسْتِعْمَال
الْمَاءِ وَالْحِجَارَةِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا
خَاصَّةٌ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ أَخَصَّ مِنْ
الاِسْتِنْجَاءِ. وَأَصْلُهَا مِنَ الطِّيبِ، لأَِنَّهَا تُطَيِّبُ
الْمَحَل بِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنَ الأَْذَى، وَلِذَا يُقَال فِيهَا
أَيْضًا الإِْطَابَةُ (4) .
ب - الاِسْتِجْمَارُ:
3 - الْجِمَارُ: الْحِجَارَةُ، جَمْعُ جَمْرَةٍ وَهِيَ الْحَصَاةُ.
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب، والمغني 1 / 111 ط مكتبة القاهرة.
(3) حاشية القليوبي 1 / 42.
(4) المغني 1 / 111، والمجموع 2 / 73.
(4/113)
وَمَعْنَى الاِسْتِجْمَارِ: اسْتِعْمَال
الْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي إزَالَةِ مَا عَلَى السَّبِيلَيْنِ مِنَ
النَّجَاسَةِ (1) .
ج - الاِسْتِبْرَاءُ:
4 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ:
طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْخَارِجِ بِمَا تَعَارَفَهُ الإِْنْسَانُ مِنْ
مَشْيٍ أَوْ تَنَحْنُحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ
الْمَادَّةُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الاِسْتِنْجَاءِ، لأَِنَّهُ
مُقَدِّمَةٌ لَهُ (2) .
د - الاِسْتِنْقَاءُ:
5 - الاِسْتِنْقَاءُ: طَلَبُ النَّقَاوَةِ، وَهُوَ أَنْ يَدْلُكَ
الْمَقْعَدَةَ بِالأَْحْجَارِ، أَوْ بِالأَْصَابِعِ حَالَةَ
الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ حَتَّى يُنَقِّيَهَا، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ
الاِسْتِنْجَاءِ، وَمِثْلُهُ الإِْنْقَاءُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هُوَ
أَنْ تَذْهَبَ لُزُوجَةُ النَّجَاسَةِ وَآثَارُهَا. (3)
حُكْمُ الاِسْتِنْجَاءِ:
6 - فِي حُكْمِ الاِسْتِنْجَاءِ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ - رَأْيَانِ
لِلْفُقَهَاءِ: الأَْوَّل: أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ، وَهُوَ
الْخَارِجُ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلاَثَةِ
أَحْجَارٍ، يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ، فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ (4)
وَقَوْلِهِ: لاَ يَسْتَنْجِي
__________
(1) رد المحتار 1 / 230، وحاشية الدسوقي 1 / 110.
(2) ابن عابدين 1 / 229.
(3) المغني 1 / 119.
(4) حديث " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط. . . " رواه أبو داود والنسائي عن
عائشة (سنن أبي داود 1 / 41 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط مطبعة
السعادة بمصر 1369 هـ، وسنن النسائي 1 / 38 بشرح السيوطي ط البابي الحلبي
الأولى 1383 هـ) .
(4/113)
أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) وَفِي لَفْظٍ لَهُ: لَقَدْ نَهَانَا أَنْ
نَسْتَنْجِيَ بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، (2) قَالُوا: وَالْحَدِيثُ
الأَْوَّل أَمْرٌ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَقَال: فَإِنَّهَا
تُجْزِي عَنْهُ وَالإِْجْزَاءُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَل فِي الْوَاجِبِ،
وَنَهَى عَنْ الاِقْتِصَارِ عَلَى أَقَل مِنْ ثَلاَثَةٍ، وَالنَّهْيُ
يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَإِذَا حَرَّمَ تَرْكَ بَعْضِ النَّجَاسَةِ
فَجَمِيعُهَا أَوْلَى (3) .
7 - الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَهُوَ
قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. فَفِي مُنْيَةِ
الْمُصَلِّي: الاِسْتِنْجَاءُ مُطْلَقًا سُنَّةٌ لاَ عَلَى سَبِيل
التَّعْيِينِ مِنْ كَوْنِهِ بِالْحَجَرِ أَوْ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْل
الْمُزَنِيِّ (4) مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَنَقَل صَاحِبُ
الْمُغْنِي مِنْ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَلَمْ
يَسْتَنْجِ، قَال: لاَ أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا.
قَال الْمُوَفَّقُ: يُحْتَمَل أَنَّهُ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الاِسْتِنْجَاءِ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اسْتَجْمَرَ
فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَل فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ (5)
قَال فِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ:
__________
(1) حديث " لا يستنجي أحدكم بدون. . . " رواه مسلم عن سلمان الفارسي (صحيح
مسلم 1 / 224 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط البابي الحلبي) .
(2) حديث " لقد نهانا أن نستنجي بدون. . . " رواه مسلم من حديث سلمان
الفارسي - مطولا - وفيه: " أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار " (صحيح مسلم
1 / 223 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط البابي الحلبي الأولى 1374 هـ -
1955 م) .
(3) المغني 1 / 112، وحاشية الدسوقي 1 / 111، ونهاية المحتاج وحواشيه 1 /
128، 129.
(4) حاشية القليوبي 1 / 42، والذخيرة 1 / 35.
(5) حديث " من استنجى فليوتر، من فعل فقد أحسن. . . " أخرجه أحمد وأبو داود
وابن ماجه وابن حبان والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال
الشوكاني: ومداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي وفيه اختلاف: قيل إنه
صحابي، قال الحافظ: ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول. وقال
أبو زرعة: شيخ. وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني (نيل الأوطار 1 /
116، 117 ط دار الجيل، والمستدرك 1 / 158 نشر دار الكتاب العربي) .
(4/114)
لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا
انْتَفَى الْحَرَجُ عَنْ تَارِكِهِ. (1)
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ، وَالنَّجَاسَةُ
الْقَلِيلَةُ عَفْوٌ. (2)
وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ لِلْحَنَفِيَّةِ: الاِسْتِنْجَاءُ خَمْسَةُ
أَنْوَاعٍ. أَرْبَعَةٌ فَرِيضَةٌ: مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
وَالْجَنَابَةِ، وَإِذَا تَجَاوَزَتِ النَّجَاسَةُ مَخْرَجَهَا. وَوَاحِدٌ
سُنَّةٌ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْرَ الْمَخْرَجِ.
وَقَدْ رَفَضَ ابْنُ نُجَيْمٍ هَذَا التَّقْسِيمَ، وَقَرَّرَ أَنَّ
الثَّلاَثَةَ هِيَ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ، وَالرَّابِعُ مِنْ
بَابِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ عَنِ الْبَدَنِ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ مِنْ بَابِ الاِسْتِنْجَاءِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْقِسْمُ
الْمَسْنُونُ.
وَأَقَرَّ ابْنُ عَابِدِينَ التَّقْرِيرَ. (3)
وَقَال الْقَرَافِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ
الاِسْتِنْجَاءَ وَصَلَّى بِالنَّجَاسَةِ أَعَادَ، قَال: وَلِمَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ: مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ
فَعَل فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ وَقَال: الْوِتْرُ
يَتَنَاوَل الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 65 ط عثمانية.
(2) البحر الرائق 1 / 253، وفتح القدير 1 / 48.
(3) البحر الرائق وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 252.
(4/114)
نَفَاهَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، وَلأَِنَّهُ
مَحَلٌّ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَيُعْفَى عَنْهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي
أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلاً بِعَدَمِ الْوُجُوبِ. (1)
ثُمَّ هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمُوَاظَبَتِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبَنَى ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَرْكِهِ، وَنَقَلَهُ
أَيْضًا عَنِ الْبَدَائِعِ. وَنَقَل عَنِ الْخُلاَصَةِ وَالْحِلْيَةِ
نَفْيَ الْكَرَاهَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لاَ سُنَّةٌ،
بِخِلاَفِ النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ
الْحَدَثِ فَتَرْكُهَا يُكْرَهُ. (2)
وَقْتُ وُجُوبِ الاِسْتِنْجَاءِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ:
8 - إِنَّ وُجُوبَ الاِسْتِنْجَاءِ إِنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ.
وَلِذَا قَال الشَّبْرَامَلُّسِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجِبُ
الاِسْتِنْجَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، بَل عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ
حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ دَخَل وَقْتُ الصَّلاَةِ وَإِنْ لَمْ
يُرِدْ فِعْلَهَا فِي أَوَّلِهِ. فَإِذَا دَخَل وَقْتُ الصَّلاَةِ وَجَبَ
وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِسَعَةِ الْوَقْتِ، وَمُضَيَّقًا بِضِيقِهِ.
ثُمَّ قَال: نَعَمْ، إِنْ قَضَى حَاجَتَهُ فِي الْوَقْتِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ
لاَ يَجِدُ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، وَجَبَ اسْتِعْمَال الْحَجَرِ فَوْرًا.
(3)
عَلاَقَةُ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْوُضُوءِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا:
9 - الاِسْتِنْجَاءُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ قَبْلَهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ
لِلْحَنَابِلَةِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ جَازَ وَفَاتَتْهُ
السُّنِّيَّةُ، لأَِنَّهُ إِزَالَةُ نَجَاسَةٍ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ
لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ.
__________
(1) الذخيرة 1 / 205.
(2) رد المحتار 1 / 224، والبحر الرائق 1 / 253.
(3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 / 128 - 129.
(4/115)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ
يُعَدُّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَإِنِ اسْتَحَبُّوا تَقْدِيمَهُ
عَلَيْهِ.
أَمَّا الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالاِسْتِنْجَاءُ
قَبْل الْوُضُوءِ - إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ - شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
الصَّلاَةِ. فَلَوْ تَوَضَّأَ قَبْل الاِسْتِنْجَاءِ لَمْ يَصِحَّ، وَعَلَى
هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا فِي حَقِّ السَّلِيمِ، أَمَّا فِي حَقِّ
صَاحِبِ الضَّرُورَةِ - يَعْنُونَ صَاحِبَ السَّلَسِ وَنَحْوِهِ - فَيَجِبُ
تَقْدِيمُ الاِسْتِنْجَاءِ عَلَى الْوُضُوءِ.
وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا تَوَضَّأَ السَّلِيمُ قَبْل الاِسْتِنْجَاءِ،
يَسْتَجْمِرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالأَْحْجَارِ، أَوْ يَغْسِلُهُ بِحَائِلٍ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَلاَ يَمَسُّ الْفَرْجَ. (1) وَقَوَاعِدُ
الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى ذَلِكَ التَّفْصِيل.
عَلاَقَةُ الاِسْتِنْجَاءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا:
10 - لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الاِسْتِجْمَارِ عَلَى
التَّيَمُّمِ، وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ
احْتِمَالَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعَلَّل الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لاَ بُدَّ أَنْ
يَتَّصِل بِالصَّلاَةِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ اسْتَنْجَى فَقَدْ
فَرَّقَهُ بِإِزَالَةِ النَّجْوِ.
وَعَلَّل الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ذَلِكَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لاَ
يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلاَةُ، وَمَنْ
عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا لاَ تُبَاحُ لَهُ الصَّلاَةُ،
فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الاِسْتِبَاحَةِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ قَبْل
الْوَقْتِ.
وَالاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّرْتِيبَ هُنَا لاَ يَجِبُ، وَهُوَ
__________
(1) تحفة الفقهاء 1 / 13، ونهاية المحتاج 1 / 115، 129، والخرشي 1 / 141،
والمغني 1 / 82، وكشاف القناع 1 / 60.
(4/115)
الاِحْتِمَال الثَّانِي عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ. قَال
الْقَرَافِيُّ: كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَطِئَ نَعْلَهُ عَلَى رَوْثٍ،
فَإِنَّهُ يَمْسَحُهُ وَيُصَلِّي. وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى:
لأَِنَّهُ طَهَارَةٌ فَأَشْبَهَتِ الْوُضُوءَ، وَالْمَنْعُ مِنَ
الإِْبَاحَةِ لِمَانِعٍ آخَرَ لاَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ،
كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي مَوْضِعٍ نُهِيَ عَنِ الصَّلاَةِ فِيهِ، أَوْ
تَيَمَّمَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ.
وَقِيل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ عَنِ التَّيَمُّمِ
قَوْلاً وَاحِدًا. (1)
حُكْمُ اسْتِنْجَاءِ مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ:
11 - مَنْ كَانَ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ
وَنَحْوِهِ، يُخَفَّفُ فِي شَأْنِهِ حُكْمُ الاِسْتِنْجَاءِ، كَمَا
يُخَفَّفُ حُكْمُ الْوُضُوءِ.
فَفِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
يَسْتَنْجِي وَيَتَحَفَّظُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ لِكُل صَلاَةٍ بَعْدَ دُخُول
الْوَقْتِ. فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ
إِعَادَةُ الاِسْتِنْجَاءِ وَالْوُضُوءِ بِسَبَبِ السَّلَسِ وَنَحْوِهِ،
مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ. أَوْ إِلَى
أَنْ يَدْخُل وَقْتُ الصَّلاَةِ الأُْخْرَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ
قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ. (2)
وَأَمَّا عَلَى قَوْل الْمَالِكِيَّةِ: فَلاَ يَلْزَمُ مَنْ بِهِ السَّلَسُ
التَّوَضُّؤُ مِنْهُ لِكُل صَلاَةٍ، بَل يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ مَا لَمْ
يَشُقَّ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَدَثِ إِذَا كَانَ
مُسْتَنْكِحًا - أَيْ كَثِيرًا يُلاَزِمُ كُل الزَّمَنِ أَوْ جُلَّهُ،
بِأَنْ
__________
(1) المغني 1 / 82، والذخيرة 1 / 205.
(2) الاختيار 1 / 29، ونهاية المحتاج وحواشيه 1 / 315 - 320، وكشاف القناع
1 / 196.
(4/116)
يَأْتِيَ كُل يَوْمٍ مَرَّةً فَأَكْثَرَ -
فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ غَسْل مَا أَصَابَ مِنْهُ
وَلاَ يُسَنُّ، وَإِنْ نَقَضَ الْوُضُوءَ وَأَبْطَل الصَّلاَةَ فِي بَعْضِ
الأَْحْوَال، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَائِطًا، أَمْ بَوْلاً، أَمْ مَذْيًا،
أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ. (1)
مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ:
12 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ
الْمُعْتَادَ النَّجِسَ الْمُلَوِّثَ يُسْتَنْجَى مِنْهُ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ. أَمَّا مَا عَدَاهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ، (2) وَتَفْصِيلٌ بَيَانُهُ
فِيمَا يَلِي:
الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ:
13 - الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ،
لاَ يُسْتَنْجَى مِنْهُ إِذَا خَرَجَ جَافًّا، طَاهِرًا كَانَ أَوْ
نَجِسًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ بِهِ بِلَّةٌ وَلَوَّثَ الْمَحَل فَيُسْتَنْجَى
مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يُلَوِّثِ الْمَحَل فَلاَ يُسْتَنْجَى مِنْهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ
كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
يُسْتَنْجَى مِنْ كُل مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ غَيْرِ الرِّيحِ. (3)
الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَشَبَهُهُمَا مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَادِ:
14 - إنْ خَرَجَ الدَّمُ أَوِ الْقَيْحُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ
فَفِيهِ قَوْلاَنِ لِلْفُقَهَاءِ:
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 71، 111، والفواكه الدواني 1 / 133.
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص 24 - 25، والذخيرة 1 / 200، والمغني 1
/ 111، وكشاف القناع 1 / 60.
(3) رد المحتار 1 / 223، وحاشية الدسوقي 1 / 113، ونهاية المحتاج 1 / 138،
والمغني 1 / 111، وكشاف القناع 1 / 60.
(4/116)
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ
غَسْلِهِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلاَ يَكْفِي فِيهِ الاِسْتِجْمَارُ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
لأَِنَّ الأَْصْل فِي النَّجَاسَةِ الْغَسْل، وَتَرْكُ ذَلِكَ فِي الْبَوْل
وَالْغَائِطِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ هُنَا، لِنُدْرَةِ هَذَا
النَّوْعِ مِنَ الْخَارِجِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِغَسْل الذَّكَرِ مِنَ الْمَذْيِ (1)
وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الآْثَارَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلاَفِ أَلْفَاظِهَا
وَأَسَانِيدِهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الاِسْتِجْمَارِ، إِنَّمَا هُوَ
الْغَسْل. كَالأَْمْرِ بِالْغَسْل مِنَ الْمَذْيِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ الاِسْتِجْمَارُ، وَهُوَ
رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهَذَا إنْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِبَوْلٍ
أَوْ غَائِطٍ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْل، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ فِيهِ الْغَسْل
لِعَدَمِ تَكَرُّرِهِ، فَهُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ. وَأَمَّا الْمَذْيُ
فَمُعْتَادٌ كَثِيرٌ، وَيَجِبُ غَسْل الذَّكَرِ مِنْهُ تَعَبُّدًا، وَقِيل:
لاَ يَجِبُ. (2)
مَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجٍ بَدِيلٍ عَنِ السَّبِيلَيْنِ:
15 - إِذَا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ لِلْحَدَثِ، وَصَارَ مُعْتَادًا،
اسْتَجْمَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ يَلْحَقُ بِالْجَسَدِ،
لأَِنَّهُ أَصْبَحَ مُعْتَادًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ
الْمُعَيَّنِ.
__________
(1) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر. . . . " أخرجه
البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه (فتح الباري 1 / 379 ط السلفية، وصحيح
مسلم بتحقيق محمد عبد الباقي 1 / 247 ط عيسى الحلبي) .
(2) فتح القدير 1 / 150، والبحر الرائق 1 / 253، والذخيرة 1 / 200،
والقليوبي 1 / 43. وشرح منظومة المعفوات للشرنبلالي ص 25 ط دمشق، والمغني 1
/ 114.
(4/117)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا انْسَدَّ
الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ وَانْفَتَحَ آخَرُ، لَمْ يُجْزِئْهُ
الاِسْتِجْمَارُ فِيهِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ
السَّبِيل الْمُعْتَادِ. وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ: يُجْزِئُ.
وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ. (1)
الْمَذْيُ:
16 - الْمَذْيُ نَجِسٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا يُسْتَنْجَى
مِنْهُ كَغَيْرِهِ، بِالْمَاءِ أَوْ بِالأَْحْجَارِ. وَيُجْزِئُ
الاِسْتِجْمَارُ أَوْ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ هُوَ خِلاَفُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ،
وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ
الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَاءُ وَلاَ
يُجْزِئُ الْحَجَرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: كُنْت رَجُلاً مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَتْ أَنْ أَسْأَل رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ
الْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَال: يَغْسِل ذَكَرَهُ
وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ. وَفِي لَفْظٍ يَغْسِل ذَكَرَهُ
وَيَتَوَضَّأُ. (2)
وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْغُسْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا
خَرَجَ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، أَمَّا إِنْ خَرَجَ بِلاَ لَذَّةٍ أَصْلاً
فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ، مَا لَمْ يَكُنْ يَأْتِي كُل يَوْمٍ
عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ، فَلاَ يُطْلَبُ فِي إِزَالَتِهِ مَاءٌ وَلاَ
حَجَرٌ، بَل يُعْفَى عَنْهُ. (3)
__________
(1) الذخيرة 1 / 203، والمغني 1 / 118.
(2) حديث علي رضي الله عنه: " كنت رجلا مذاء " رواه البخاري ومسلم وأبو
داود والبيهقي، وتفرد أبو داود بلفظ " وأنثييه " (فتح الباري 1 / 379 ط
السلفية، وصحيح مسلم 1 / 247 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وسنن أبي داود 1
/ 142 ط السعادة، وسنن البيهقي 1 / 115 ط دار المعرفة) .
(3) الطحطاوي على الدر 1 / 164، والذخيرة للقرافي 1 / 200.
(4/117)
الْوَدْيُ:
17 - الْوَدْيُ خَارِجٌ نَجِسٌ، وَيَجْزِي فِيهِ الاِسْتِنْجَاءُ
بِالْمَاءِ أَوْ بِالأَْحْجَارِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ
الأَْرْبَعَةِ. (1)
الرِّيحُ:
18 - لاَ اسْتِنْجَاءَ مِنَ الرِّيحِ. صَرَّحَ بِذَلِكَ فُقَهَاءُ
الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ بِدْعَةٌ،
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُحَرَّمٌ، وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ
الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، بَل يَحْرُمُ، لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ
فَاسِدَةٌ.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الدُّسُوقِيُّ:
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا مَنِ
اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ (2) وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ. وَقَال صَاحِبُ
نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجِبُ وَلاَ
يُسْتَحَبُّ الاِسْتِنْجَاءُ مِنَ الرِّيحِ وَلَوْ كَانَ الْمَحَل رَطْبًا.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ: يُكْرَهُ مِنَ الرِّيحِ إِلاَّ إِنْ
خَرَجَتْ وَالْمَحَل رَطْبٌ.
وَاَلَّذِي عَبَّرَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ مِنْهَا،
وَمُقْتَضَى اسْتِدْلاَلِهِمُ الآْتِي الْكَرَاهَةُ عَلَى الأَْقَل.
قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: لِلْحَدِيثِ مَنِ اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ فَلَيْسَ
مِنَّا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
__________
(1) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 164، وحاشية القليوبي 1 / 43.
(2) حديث " ليس منا من استنجى من ريح، أخرجه ابن عساكر في تاريخه من حديث
جابر بن عبد الله بلفظ " من استنجى من الريح
فليس منا " وفيه شرفي بن قطامي. قال في الميزان: له نحو عشرة أحاديث فيها
مناكير وساق هذا منها. وقال الساجي: شرفي ضعيف. وفي اللسان عن النديم: (فيض
القدير 6 / 6 ط المكتبة التجارية 1357 هـ) .
(4/118)
الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} .
الآْيَةَ (1) إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ. وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ،
يَعْنِي فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأََمَرَ بِهِ، لأَِنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ
خُرُوجِ الرِّيحِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ، وَلأَِنَّ الْوُجُوبَ
مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِالاِسْتِنْجَاءِ هَاهُنَا نَصٌّ، وَلاَ
هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الاِسْتِنْجَاءَ شُرِعَ
لإِِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَلاَ نَجَاسَةَ هَاهُنَا. (2)
الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ:
19 - يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ الاِسْتِنْجَاءُ
بِالْمَاءِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
إنْكَارُ الاِسْتِنْجَاءِ بِهِ، وَلَعَل ذَلِكَ لأَِنَّهُ مَطْعُومٌ.
وَالْحُجَّةُ لإِِجْزَاءِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُل
الْخَلاَءَ، فَأَحْمِل أَنَا وَغُلاَمٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ
وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (3) وَعَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا
بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ. (4)
__________
(1) سورة المائدة / 6
(2) البحر الرائق 1 / 252، وحاشية الدسوقي 1 / 113، ونهاية المحتاج 1 /
138، وحاشية القليوبي 1 / 42، والمغني 1 / 111.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء. . . " رواه البخاري
ومسلم واللفظ له (فتح الباري 1 / 252 ط السلفية، وصحيح مسلم 1 / 227 بتحقيق
محمد فؤاد عبد الباقي ط البابي الحلبي) .
(4) حديث " مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء. . . " رواه الترمذي عن عائشة
رضي الله عنها واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه النسائي وأحمد في
مسنده (سنن الترمذي 1 / 30 بتحقيق أحمد شاكر ط البابي الحلبي، وسنن النسائي
1 / 42 - 43 بشرح السيوطي وبحاشية السندي ط الأولى 1348 هـ المطبعة المصرية
بالأزهر، والفتح الرباني 1 / 285 ط مطبعة الإخوان المسلمين) .
(4/118)
وَقَدْ حَمَل الْمَالِكِيَّةُ مَا وَرَدَ
عَنِ السَّلَفِ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِأَنَّهُ فِي حَقِّ
مَنْ أَوْجَبَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ.
وَحَمَل صَاحِبُ كِفَايَةِ الطَّالِبِ مَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَل يَفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ النِّسَاءُ؟
عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَاجِبِهِنَّ. (1)
الاِسْتِنْجَاءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ:
20 - لاَ يُجْزِئُ الاِسْتِنْجَاءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ
عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ تُعَدُّ
ضَعِيفَةً فِي الْمَذْهَبِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: بَل يَحْرُمُ الاِسْتِنْجَاءُ بِمَائِعٍ غَيْرِ
الْمَاءِ لِنَشْرِهِ النَّجَاسَةَ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَتِمَّ الاِسْتِنْجَاءُ - كَمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ - بِكُل
مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ، كَالْخَل وَمَاءِ الْوَرْدِ، دُونَ مَا لاَ
يُزِيل كَالزَّيْتِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَهُوَ
إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ.
ثُمَّ قَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُكْرَهُ الاِسْتِنْجَاءُ بِمَائِعٍ
غَيْرِ الْمَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَال بِلاَ ضَرُورَةٍ. (2)
أَفْضَلِيَّةُ الْغَسْل بِالْمَاءِ عَلَى الاِسْتِجْمَارِ:
21 - إِنَّ غَسْل الْمَحَل بِالْمَاءِ أَفْضَل مِنْ الاِسْتِجْمَارِ،
لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْنْقَاءِ، وَلإِِزَالَتِهِ عَيْنَ النَّجَاسَةِ
وَأَثَرَهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: الأَْحْجَارُ أَفْضَل، ذَكَرَهَا
__________
(1) المغني 1 / 112، والذخيرة 1 / 201، وكفاية الطالب 1 / 142، والمجموع 2
/ 101.
(2) البحر الرائق 1 / 254، وحاشية الدسوقي 1 / 113، والمجموع 1 / 115.
(4/119)
صَاحِبُ الْفُرُوعِ. وَإِذَا جَمَعَ
بَيْنَهُمَا بِأَنِ اسْتَجْمَرَ ثُمَّ غَسَل كَانَ أَفْضَل مِنَ الْكُل
بِالاِتِّفَاقِ.
وَبَيَّنَ النَّوَوِيُّ وَجْهَ الأَْفْضَلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: تَقْدِيمُ
الأَْحْجَارِ لِتَقِل مُبَاشَرَةُ النَّجَاسَةِ وَاسْتِعْمَال الْمَاءِ،
فَلَوِ اسْتَعْمَل الْمَاءَ أَوَّلاً لَمْ يَسْتَعْمِل الْحِجَارَةَ
بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الاِسْتِجْمَارِ عَلَى الْغَسْل مُسْتَحَبٌّ،
وَإِنْ قَدَّمَ الْمَاءَ وَأَتْبَعَهُ الْحِجَارَةَ كُرِهَ، لِقَوْل
عَائِشَةَ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يُتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ
فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ. (1) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قِيل: الْغَسْل
بِالْمَاءِ سُنَّةٌ، وَقِيل: الْجَمْعُ سُنَّةٌ فِي زَمَانِنَا. وَقِيل:
سُنَّةٌ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى
كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
هَذَا وَقَدِ احْتَجَّ الْخَرَشِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ بِأَنَّ أَهْل قُبَاءَ كَانُوا
يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2)
وَحَقَّقَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ
فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا فِيهَا
أَنَّهُمْ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ. (3)
مَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ:
22 - الاِسْتِجْمَارُ يَكُونُ بِكُل جَامِدٍ إلاَّ مَا مُنِعَ مِنْهُ
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ،
وَمِنْهُمْ
__________
(1) حديث " مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء. . . " سبق تخريجه ف / 19.
(2) سورة البقرة / 222.
(3) البحر الرائق 1 / 254، والمجموع 2 / 100، وحاشية الدسوقي 1 / 110، 111،
والخرشي 1 / 148، وكشاف القناع 55، والفروع 1 / 51.
(4/119)
الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ
الْمُعْتَمَدَةِ عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ: لاَ يُجْزِئُ فِي
الاِسْتِجْمَارِ شَيْءٌ مِنَ الْجَوَامِدِ مِنْ خَشَبٍ وَخِرَقٍ إِلاَّ
الأَْحْجَارَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ بِالأَْحْجَارِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلأَِنَّهُ
مَوْضِعُ رُخْصَةٍ وَرَدَ فِيهَا الشَّرْعُ بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَوَجَبَ
الاِقْتِصَارُ عَلَيْهَا، كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ.
وَالدَّلِيل لِقَوْل الْجُمْهُورِ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ
خُزَيْمَةَ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الاِسْتِطَابَةِ فَقَال: بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ
(1) فَلَوْلاَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَمْ
يَسْتَثْنِ الرَّجِيعَ، لأَِنَّهُ لاَ يُحْتَاجُ لِذِكْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ
لِتَخْصِيصِ الرَّجِيعِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى.
وَعَنْ سَلْمَانَ قَال: قِيل لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُل
شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَ قَال: فَقَال: أَجَل، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ
نَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ
بِالْيَمِينِ. أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ،
أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ (2) .
__________
(1) الرجيع: الروث والعذرة، كما في المصباح مادة (رجع) . وحديث: " سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال: بثلاثة أحجار. . . . " رواه
أبو داود وابن ماجه والبغوي عن خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وصححه الشوكاني وكذلك شعيب الأرناؤوط (الأم 1 / 22 ط الكليات
الأزهرية، وسنن ابن ماجه 1 / 114 تحقيق فؤاد عبد الباقي، وشرح السنة بتحقيق
شعيب الأرناؤوط 1 / 365 ط المكتب الإسلامي 1390 هـ، ونيل الأوطار 1 / 117 ط
دار الجيل، وعون المعبود 1 / 15 ط الهند) .
(2) حديث سلمان أنه قال: قيل له: " قد علمكم نبيكم. . . " أخرجه مسلم (صحيح
مسلم 1 / 223 ط عيسى الحلبي) .
(4/120)
وَفَارَقَ التَّيَمُّمَ، لأَِنَّ الْقَصْدَ
هُنَا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ تَحْصُل بِغَيْرِ الأَْحْجَارِ،
أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُول الْمَعْنَى.
الاِسْتِجْمَارُ هَل هُوَ مُطَهِّرٌ لِلْمَحَل؟
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْمَحَل يَصِيرُ طَاهِرًا بِالاِسْتِجْمَارِ، وَهُوَ
قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَاَلَّذِي يَدُل عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ
طَهَارَتُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ
يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَال: إِنَّهُمَا لاَ يُطَهِّرَانِ
(1) فَعُلِمَ أَنَّ مَا أُطْلِقَ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ يُطَهِّرُ، إِذْ
لَوْ لَمْ يُطَهِّرْ لَمْ يُطْلَقْ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ لِهَذِهِ
الْعِلَّةِ. وَكَذَلِكَ قَال الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ: يَكُونُ
الْمَحَل طَاهِرًا لِرَفْعِ الْحُكْمِ وَالْعَيْنِ عَنْهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِكُلٍّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمَحَل يَكُونُ نَجِسًا مَعْفُوًّا عَنْهُ
لِلْمَشَقَّةِ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: ظَاهِرُ مَا فِي الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ
الْمَحَل لاَ يَطْهُرُ بِالْحَجَرِ. وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ
لِلْحَنَابِلَةِ: أَثَرُ الاِسْتِجْمَارِ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ
فِي مَحَلِّهِ لِلْمَشَقَّةِ.
وَفِي الْمُغْنِي: وَعَلَيْهِ لَوْ عَرَقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا. (2)
24 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّطُوبَةَ إِذَا أَصَابَتِ
الْمَحَل بَعْدَ الاِسْتِجْمَارِ يُعْفَى عَنْهَا.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بروث. . . " رواه
الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال إسناده صحيح (سنن
الدارقطني 1 / 56 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة، ونصب الراية 1 / 220) .
(2) البحر الرائق 1 / 254، وفتح القدير 1 / 149، وحاشية الدسوقي 1 / 111،
والمغني 1 / 118.
(4/120)
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمَحَل بَعْدَ الاِسْتِجْمَارِ نَجِسٌ
مَعْفُوٌّ عَنْهُ، يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ السَّبِيل
بِإِصَابَةِ الْمَاءِ. وَفِيهِ الْخِلاَفُ الْمَعْرُوفُ فِي مَسْأَلَةِ
الأَْرْضِ إِذَا جَفَّتْ بَعْدَ التَّنَجُّسِ ثُمَّ أَصَابَهَا الْمَاءُ،
وَقَدِ اخْتَارُوا فِي الْجَمِيعِ عَدَمَ عَوْدِ النَّجَاسَةِ، فَلْيَكُنْ
كَذَلِكَ هُنَا. ثُمَّ نُقِل عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ قَوْلُهُ: أَجْمَعَ
الْمُتَأَخِّرُونَ - أَيْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى أَنَّهُ لاَ
يَنْجَسُ الْمَحَل بِالْعَرَقِ، حَتَّى لَوْ سَال الْعَرَقُ مِنْهُ،
وَأَصَابَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لاَ
يَمْنَعُ (أَيْ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ) .
وَنَقَل الْقَرَافِيُّ عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَابْنِ رُشْدٍ: يُعْفَى
عَنْهُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى. قَال: وَقَدْ عُفِيَ عَنْ ذَيْل الْمَرْأَةِ
تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ، مَعَ إمْكَانِ شَيْلِهِ، فَهَذَا أَوْلَى،
وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَجْمِرُونَ
وَيَعْرَقُونَ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ: قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَنْجَسُ إِنْ لَمْ تَتَعَدَّ الرُّطُوبَةُ مَحَل
الاِسْتِجْمَارِ، وَيَنْجَسُ إِنْ تَعَدَّتْ النَّجَاسَةُ مَحَل
الْعَفُوِّ. (1)
الْمَوَاضِعُ الَّتِي لاَ يُجْزِئُ فِيهَا الاِسْتِجْمَارُ:
أ - النَّجَاسَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمَخْرَجِ مِنْ خَارِجِهِ:
25 - إِنْ كَانَ النَّجَسُ طَارِئًا عَلَى الْمَحَل مِنْ خَارِجٍ أَجْزَأَ
فِيهِ الاِسْتِجْمَارُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْحَجَرَ لاَ
يُجْزِئُ فِيهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ. وَهُوَ قَوْلٌ
آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ. وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَا لَوْ
طَرَأَ عَلَى
__________
(1) البحر الرائق 1 / 254، والذخيرة 1 / 205، وحاشية الشبراملسي على
النهاية 1 / 137.
(4/121)
الْمَحَل الْمُتَنَجِّسِ بِالْخَارِجِ
طَاهِرٌ رَطْبٌ، أَوْ يَخْتَلِطُ بِالْخَارِجِ كَالتُّرَابِ. وَمِثْلُهُ
مَا لَوِ اسْتَجْمَرَ بِحَجَرٍ مُبْتَلٍّ، لأَِنَّ بَلَل الْحَجَرِ
يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ الْمَحَل ثُمَّ يُنَجِّسُهُ.
وَكَذَا لَوِ انْتَقَلَتِ النَّجَاسَةُ عَنِ الْمَحَل الَّذِي أَصَابَتْهُ
عِنْدَ الْخُرُوجِ، فَلاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ غَسْل الْمَحَل فِي كُل
تِلْكَ الصُّوَرِ. (1)
ب - مَا انْتَشَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَاوَزَ الْمَخْرَجَ:
26 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ إِنْ
جَاوَزَ الْمَخْرَجَ وَانْتَشَرَ كَثِيرًا لاَ يُجْزِئُ فِيهِ
الاِسْتِجْمَارُ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ
الاِسْتِجْمَارَ رُخْصَةٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، فَتَخْتَصُّ بِمَا تَعُمُّ
بِهِ الْبَلْوَى، وَيَبْقَى الزَّائِدُ عَلَى الأَْصْل فِي إِزَالَةِ
النَّجَاسَةِ بِالْغَسْل.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ، فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْكَثِيرَ مِنَ الْغَائِطِ هُوَ مَا جَاوَزَ الْمَخْرَجَ، وَانْتَهَى
إِلَى الأَْلْيَةِ، وَالْكَثِيرُ مِنَ الْبَوْل مَا عَمَّ الْحَشَفَةَ.
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَال الْكَثْرَةِ بِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْل
الْكُل لاَ الزَّائِدِ وَحْدَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ مَا زَادَ عَنْ قَدْرِ
الدِّرْهَمِ، مَعَ اقْتِصَارِ الْوُجُوبِ عَلَى الزَّائِدِ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ، حَيْثُ وَافَقَ
الْمَالِكِيَّةَ فِي وُجُوبِ غَسْل الْكُل. (2)
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 133، 134، ورد المحتار 1 / 224، وكشاف القناع 1 /
56، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 164.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 111، 112، والمجموع 1 / 125، ونهاية المحتاج 1 /
134، وكشاف القناع 1 / 56، والفروع 1 / 51، والبحر الرائق 1 / 254، وغنية
المتملي ص 29 والفتاوى الهندية 1 / 50.
(4/121)
ج - اسْتِجْمَارُ الْمَرْأَةِ:
27 - يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ الاِسْتِجْمَارُ مِنَ الْغَائِطِ
بِالاِتِّفَاقِ، وَهَذَا وَاضِحٌ.
أَمَّا مِنَ الْبَوْل فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يُجْزِئُ
الاِسْتِجْمَارُ فِي بَوْل الْمَرْأَةِ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا.
قَالُوا: لأَِنَّهُ يُجَاوِزُ الْمَخْرَجَ غَالِبًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي فِي بَوْل الْمَرْأَةِ - إِنْ كَانَتْ
بِكْرًا - مَا يُزِيل عَيْنَ النَّجَاسَةِ خِرَقًا أَوْ غَيْرَهَا، أَمَّا
الثَّيِّبُ فَإِنْ تَحَقَّقَتْ نُزُول الْبَوْل إِلَى ظَاهِرِ الْمَهْبِل،
كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، لَمْ يَكْفِ الاِسْتِجْمَارُ، وَإِلاَّ كَفَى.
وَيُسْتَحَبُّ الْغَسْل حِينَئِذٍ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَفِي الثَّيِّبِ قَوْلاَنِ
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَكْفِيهَا الاِسْتِجْمَارُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ. وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ لاَ
يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَسْل الدَّاخِل مِنْ نَجَاسَةٍ وَجَنَابَةٍ
وَحَيْضٍ، بَل تَغْسِل مَا ظَهَرَ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الصَّائِمَةِ
غَسْلُهُ. (1)
وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ
يُجَاوِزِ الْخَارِجَ الْمَخْرَجَ كَانَ الاِسْتِنْجَاءُ سُنَّةً. وَإِنْ
جَاوَزَ الْمَخْرَجَ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِجْمَارُ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ
الْمَائِعِ أَوِ الْمَاءِ لإِِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا
لِكَيْفِيَّةِ اسْتِجْمَارِ الْمَرْأَةِ. (2)
مَا لاَ يُسْتَجْمَرُ بِهِ:
28 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ
خَمْسَةُ شُرُوطٍ:
(1) أَنْ يَكُونَ يَابِسًا، وَعَبَّرَ غَيْرُهُمْ بَدَل الْيَابِسِ
__________
(1) المجموع 1 / 111، وحاشية الدسوقي 1 / 111، والخرشي 1 / 148، ونهاية
المحتاج وحاشية الشبراملسي 1 / 129، وكشاف القناع 1 / 56، 57، والمغني 1 /
118، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 26.
(2) ابن عابدين 1 / 226.
(4/122)
بِالْجَامِدِ.
(2) طَاهِرًا.
(3) مُنَقِّيًا.
(4) غَيْرَ مُؤْذٍ.
(5) وَلاَ مُحْتَرَمٍ.
وَعَلَى هَذَا فَمَا لاَ يُسْتَنْجَى بِهِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ:
(1) مَا لَيْسَ يَابِسًا. (1)
(2) الأَْنْجَاسُ. (2)
(3) غَيْرُ الْمُنَقِّي، كَالأَْمْلَسِ مِنَ الْقَصَبِ وَنَحْوِهِ. (3)
(4) الْمُؤْذِي، وَمِنْهُ الْمُحَدَّدُ كَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِ. (4)
(5) الْمُحْتَرَمُ (5) وَهُوَ عِنْدَهُمْ ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ:
أ - الْمُحْتَرَمُ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا.
ب - الْمُحْتَرَمُ لِحَقِّ الْغَيْرِ.
ج - الْمُحْتَرَمُ لِشَرَفِهِ.
وَهَذِهِ الأُْمُورُ تُذْكَرُ فِي غَيْرِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا،
إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ فِي الشُّرُوطِ عَدَمَ الإِْيذَاءِ،
وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ
الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ. (6)
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 113، وفتح القدير 1 / 148.
(2) رد المحتار 1 / 226، وحاشية الدسوقي 1 / 113، وفتح القدير 1 / 148،
والعدوي على الخرشي 1 / 151، ونهاية المحتاج 1 / 131.
(3) رد المحتار 1 / 226، وفتح القدير 1 / 148، وحاشية الدسوقي 1 / 113،
114، ونهاية المحتاج مع حاشية الرشيدي 1 / 131، وكشاف القناع 1 / 56.
(4) رد المحتار 1 / 226، وحاشية الدسوقي 1 / 113.
(5) غنية المتملي ص 39، وفتح القدير 1 / 150، وحاشية الدسوقي 1 / 113،
ونهاية المحتاج 1 / 132، 133، وكشاف القناع 1 / 58.
(&# x666 ;) حاشية الدسوقي
1 / 113، ونهاية المحتاج 1 / 131، والمغني 1 / 117، ورد المحتار 1 / 229.
(4/122)
وَهُمْ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ
الاِشْتِرَاطَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَخْتَلِفُونَ
فِي التَّفَاصِيل، وَقَدْ يَتَّفِقُونَ. وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ
إِلَى كُتُبِ الْفِقْهِ.
هَل يُجْزِئُ الاِسْتِنْجَاءُ بِمَا حَرُمَ الاِسْتِنْجَاءُ بِهِ:
29 - إِذَا ارْتَكَبَ النَّهْيَ وَاسْتَنْجَى بِالْمُحَرَّمِ وَأَنْقَى،
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ، كَمَا فِي الْفُرُوعِ: يَصِحُّ الاِسْتِنْجَاءُ مَعَ
التَّحْرِيمِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّهُ يُجَفِّفُ مَا عَلَى
الْبَدَنِ مِنَ الرُّطُوبَةِ.
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَلاَ فِي
غَيْرِهِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يُجْزِئُ الاِسْتِنْجَاءُ بِمَا
حَرُمَ لِكَرَامَتِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ كُتُبِ عِلْمٍ، وَكَذَلِكَ
النَّجِسُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ يُجْزِئُ الاِسْتِجْمَارُ بِمَا حَرُمَ
مُطْلَقًا، لأَِنَّ الاِسْتِجْمَارَ رُخْصَةٌ فَلاَ تُبَاحُ بِمُحَرَّمٍ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِجْمَارِ بِالْيَمِينِ - فَإِنَّهُ
يُجْزِئُ الاِسْتِجْمَارُ بِهَا مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ - بِأَنَّ
النَّهْيَ فِي الْعَظْمِ وَنَحْوِهِ لِمَعْنًى فِي شَرْطِ الْفِعْل،
فَمَنْعُ صِحَّتِهِ، كَالْوُضُوءِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ. أَمَّا
بِالْيَمِينِ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي آلَةِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يُمْنَعْ،
كَالْوُضُوءِ مِنْ إنَاءٍ مُحَرَّمٍ. وَسَوَّوْا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الاِسْتِجْمَارِ بِهِ كَالْعَظْمِ، وَبَيْنَ مَا
كَانَ اسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مُحَرَّمًا كَالْمَغْصُوبِ.
قَالُوا: وَلَوْ اسْتَجْمَرَ بَعْدَ الْمُحَرَّمِ بِمُبَاحٍ لَمْ
يُجْزِئْهُ وَوَجَبَ الْمَاءُ، وَكَذَا لَوِ اسْتَنْجَى بِمَائِعٍ غَيْرِ
الْمَاءِ. وَإِنِ اسْتَجْمَرَ بِغَيْرِ مُنَقٍّ كَالْقَصَبِ أَجْزَأَ
الاِسْتِجْمَارُ بَعْدَهُ بِمُنَقٍّ. وَفِي الْمُغْنِي: يُحْتَمَل أَنْ
يُجْزِئَهُ الاِسْتِجْمَارُ
(4/123)
بِالطَّاهِرِ بَعْدَ الاِسْتِجْمَارِ
بِالنَّجِسِ، لأَِنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ تَابِعَةٌ لِنَجَاسَةِ الْمَحَل
فَزَالَتْ بِزَوَالِهَا. (1)
كَيْفِيَّةُ الاِسْتِنْجَاءِ وَآدَابُهُ:
أَوَّلاً: الاِسْتِنْجَاءُ بِالشِّمَال:
30 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ
أَبِي قَتَادَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا بَال أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ،
وَإِذَا أَتَى الْخَلاَءَ فَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ. (2)
فَقَدْ نَهَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الاِسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ، وَحَمَل الْفُقَهَاءُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى
الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا
اسْتَظْهَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ.
وَكُل هَذَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ،
لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. (3)
فَلَوْ يُسْرَاهُ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلاَّءَ، أَوْ بِهَا جِرَاحَةٌ جَازَ
الاِسْتِنْجَاءُ بِالْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. هَذَا، وَيَجُوزُ
الاِسْتِعَانَةُ بِالْيَمِينِ فِي صَبِّ الْمَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا
اسْتِنْجَاءً بِالْيَمِينِ، بَل الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدُ إِعَانَةِ
الْيَسَارِ، وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالاِسْتِعْمَال. (4)
__________
(1) البحر الرائق 1 / 255، وحاشية الدسوقي 1 / 114، والنهاية 1 / 133،
والمغني 1 / 116، وكشاف القناع 1 / 58.
(2) حديث: " إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه. . . " أخرجه البخاري ومسلم
وأبو داود - واللفظ له (فتح الباري 1 / 254 ط السلفية، وصحيح مسلم 1 / 25
بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وسنن أبي داود 1 / 37 ط مطبعة دار السعادة
بمصر 1369 هـ) .
(3) مجمع الأنهر 1 / 66، والبحر الرائق 1 / 255، وحاشية الدسوقي 1 / 105،
والمجموع 1 / 108، ونهاية المحتاج 1 / 137، وكشاف القناع 1 / 51.
(4) البحر الرائق وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 255، ونهاية المحتاج 1 / 137،
وكشاف القناع 1 / 51.
(4/123)
ثَانِيًا: الاِسْتِتَارُ عِنْدَ
الاِسْتِنْجَاءِ:
31 - الاِسْتِنْجَاءُ يَقْتَضِي كَشْفَ الْعَوْرَةِ، وَكَشْفُهَا أَمَامَ
النَّاسِ مُحَرَّمٌ فِي الاِسْتِنْجَاءِ وَغَيْرِهِ، فَلاَ يَرْتَكِبُ
لإِِقَامَةِ سُنَّةِ الاِسْتِنْجَاءِ، وَيَحْتَال لإِِزَالَةِ النَّجَاسَةِ
مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ لِلْعَوْرَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ. (1)
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مِنَ
الآْدَابِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ الاِسْتِنْجَاءِ
وَالتَّجْفِيفِ، لأَِنَّ الْكَشْفَ كَانَ لِضَرُورَةٍ وَقَدْ زَالَتْ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي التَّكَشُّفِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ رِوَايَتَانِ:
الْكَرَاهَةُ، وَالْحُرْمَةُ. (3)
وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ
مِنْ الاِسْتِنْجَاءِ مُسْتَحَبًّا عَلَى الأَْقَل.
ثَالِثًا: الاِنْتِقَال عَنْ مَوْضِعِ التَّخَلِّي:
32 - إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ فَلاَ يَسْتَنْجِي حَيْثُ قَضَى حَاجَتَهُ.
كَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - قَال الشَّافِعِيَّةُ:
إِذَا كَانَ اسْتِنْجَاؤُهُ بِالْمَاءِ - بَل يَنْتَقِل عَنْهُ، لِئَلاَّ
يَعُودَ الرَّشَاشُ إلَيْهِ فَيُنَجِّسَهُ. وَاسْتَثْنَوُا الأَْخْلِيَةَ
الْمُعَدَّةَ لِذَلِكَ، فَلاَ يُنْتَقَل فِيهَا. وَإِذَا كَانَ
اسْتِنْجَاؤُهُ بِالْحَجَرِ فَقَطْ فَلاَ يَنْتَقِل مِنْ مَكَانِهِ،
لِئَلاَّ يَنْتَقِل الْغَائِطُ مِنْ مَكَانِهِ فَيَمْتَنِعَ عَلَيْهِ
الاِسْتِجْمَارُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَوَّل مِنْ مَكَانِهِ
الَّذِي قَضَى فِيهِ حَاجَتَهُ لِلاِسْتِجْمَارِ بِالْحِجَارَةِ أَيْضًا،
كَمَا يَتَحَوَّل لِلاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَهَذَا إِنْ خَشِيَ
التَّلَوُّثَ. (4)
__________
(1) الدرر على الغرر 1 / 33، ومراقي الفلاح مع حاشية الطحطاوي ص 27، ورد
المحتار 1 / 225.
(2) غنية المتملي 1 / 31.
(3) الإنصاف 1 / 97.
(4) نهاية المحتاج 1 / 127، وشرح التحفة 1 / 122، وكشاف القناع 1 / 55.
(4/124)
رَابِعًا: عَدَمُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ
حَال الاِسْتِنْجَاءِ:
33 - مِنْ آدَابِ الاِسْتِنْجَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَجْلِسَ
لَهُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ، أَوْ يَسَارِهَا كَيْ لاَ يَسْتَقْبِل
الْقِبْلَةَ أَوْ يَسْتَدْبِرَهَا حَال كَشْفِ الْعَوْرَةِ. فَاسْتِقْبَال
الْقِبْلَةِ أَوِ اسْتِدْبَارُهَا حَالَةَ الاِسْتِنْجَاءِ تَرْكُ أَدَبٍ،
وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، كَمَا فِي مَدِّ الرِّجْل
إِلَيْهَا. وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ،
وَاخْتَارَ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ، وَهَذَا بِخِلاَفِ
التَّبَوُّل أَوِ التَّغَوُّطِ إِلَيْهَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُحَرَّمٌ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ مَعَ الاِتِّجَاهِ
إِلَى الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لأَِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي
اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ، وَهَذَا لَمْ
يَفْعَلْهُ. (2)
خَامِسًا: الاِسْتِبْرَاءُ:
34 - وَهُوَ طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنْ خَارِجٍ، وَيَخْتَلِفُ بِطِبَاعِ
النَّاسِ، إلَى أَنْ يَسْتَيْقِنَ بِزَوَال الأَْثَرِ. (3) وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِبْرَاء) .
سَادِسًا: الاِنْتِضَاحُ وَقَطْعُ الْوَسْوَسَةِ:
35 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ
إِذَا فَرَغَ مِنْ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ
يَنْضَحَ فَرْجَهُ أَوْ سَرَاوِيلَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ، قَطْعًا
لِلْوَسْوَاسِ، حَتَّى إِذَا شَكَّ حَمَل الْبَلَل عَلَى ذَلِكَ النَّضْحِ،
مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلاَفَهُ.
__________
(1) شرح منية المصلي ص 28، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 29، والبحر الرائق
1 / 256.
(2) المجموع 1 / 80.
(3) ابن عابدين 1 / 230.
(4/124)
وَهَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَفْعَل ذَلِكَ إِنْ كَانَ
الشَّيْطَانُ يُرِيبُهُ كَثِيرًا. (1)
وَمَنْ ظَنَّ خُرُوجَ شَيْءٍ بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ فَقَدْ قَال أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ تَلْتَفِتْ حَتَّى تَتَيَقَّنَ، وَالْهُ عَنْهُ
فَإِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (2) |