الموسوعة الفقهية الكويتية

اسْتِنْزَاه
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِنْزَاهُ: اسْتِفْعَالٌ مِنَ التَّنَزُّهِ وَأَصْلُهُ التَّبَاعُدُ. وَالاِسْمُ النُّزْهَةُ، فَفُلاَنٌ يَتَنَزَّهُ مِنَ الأَْقْذَارِ وَيُنَزِّهُ نَفْسَهُ عَنْهَا: أَيْ يُبَاعِدُ نَفْسَهُ عَنْهَا.
وَفِي حَدِيثِ الْمُعَذَّبِ فِي قَبْرِهِ كَانَ لاَ يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْل أَيْ لاَ يَسْتَبْرِئُ وَلاَ يَتَطَهَّرُ، وَلاَ يَبْتَعِدُ مِنْهُ. (3)
وَالْفُقَهَاءُ يُعَبِّرُونَ بِالاِسْتِنْزَاهِ وَالتَّنَزُّهِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ الاِحْتِرَازِ عَنِ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطِ. (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِبْرَاءُ:
2 - الاِسْتِبْرَاءُ هُوَ طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ
__________
(1) البحر الرائق 1 / 253، ورد المحتار 1 / 231، ونهاية المحتاج 1 / 137، وكشاف القناع 1 / 57.
(2) كشاف القناع 1 / 57.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، ومعجم متن اللغة مادة (نزه) والكليات في (تنزه) .
(4) نهاية المحتاج 1 / 127 ط المكتبة الإسلامية، والاختيار 1 / 32 ط دار المعرفة.

(4/125)


السَّبِيلَيْنِ حَتَّى يُسْتَيْقَنَ زَوَال الأَْثَرِ، (1) فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الاِسْتِنْزَاهِ.

ب - الاِسْتِنْجَاءُ:
3 - الاِسْتِنْجَاءُ - وَمِثْلُهُ الاِسْتِطَابَةُ - هُوَ إزَالَةُ النَّجَسِ عَنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ بِمَاءٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، (2) وَهُوَ أَيْضًا أَخَصُّ مِنْ الاِسْتِنْزَاهِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الاِسْتِنْزَاهُ مِنَ الْبَوْل أَوِ الْغَائِطِ وَاجِبٌ، فَمَنْ لَمْ يَتَحَرَّزْ مِنَ الْبَوْل فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ فَقَدِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً كَمَا يَرَاهُ ابْنُ حَجَرٍ. (3)
وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِبْرَاء) (وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ) (وَنَجَاسَة) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - تُبْحَثُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ الاِسْتِنْجَاءِ، أَوْ الاِسْتِبْرَاءِ عَنِ الْبَوْل وَالْغَائِطِ.
__________
(1) دستور العلماء 1 / 86.
(2) ابن عابدين 1 / 223، والدسوقي 1 / 113.
(3) الزواجر لابن حجر ص 125 ط دار المعرفة، والكبائر للذهبي ص 136 ط الاستقامة.

(4/125)


اسْتِنْشَاق

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِنْشَاقُ: اسْتِنْشَاقُ الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ: إِدْخَالُهُ فِي الأَْنْفِ. (1) وَيَخُصُّهُ الْفُقَهَاءُ بِإِدْخَال الْمَاءِ فِي الأَْنْفِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الاِسْتِنْشَاقُ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَرْضٌ.
وَأَمَّا فِي الْغُسْل لِلتَّطَهُّرِ مِنَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَرْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (3) وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالُوا بِفَرْضِيَّةِ الاِسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْل وَسُنِّيَّتِهِ فِي الْوُضُوءِ، لأَِنَّ الْجَنَابَةَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَمِنَ الْبَدَنِ الْفَمُ وَالأَْنْفُ، بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ فَالْفَرْضُ فِيهِ غَسْل الْوَجْهِ وَهُوَ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَلاَ تَقَعُ الْمُوَاجَهَةُ بِالأَْنْفِ وَالْفَمِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّتِهِ اُنْظُرْ (وُضُوء) (وَغُسْل) .
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس مادة (نشق) .
(2) المغني 1 / 120 ط الرياض والمجموع 1 / 355 ط المنيرية.
(3) المغني 1 / 118، ونهاية المحتاج 1 / 280 ط المكتبة الإسلامية، والدسوقي 1 / 97، 136 ط دار الفكر، والهداية 1 / 13، 16 ط مصطفى الحلبي، وابن عابدين 1 / 102، والزيلعي 1 / 13.

(4/126)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - تُنْظَرُ أَحْكَامُ الاِسْتِنْشَاقِ فِي (الْوُضُوءِ) (وَالْغُسْل) (وَغُسْل الْمَيِّتِ) .

اسْتِنْفَار
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِنْفَارُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: اسْتَنْفَرَ، مِنْ نَفَرَ الْقَوْمُ " نَفِيرًا " أَيْ أَسْرَعُوا إِلَى الشَّيْءِ، وَأَصْل النَّفِيرِ مُفَارَقَةُ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ لأَِمْرٍ حَرَّكَ ذَلِكَ، وَيُقَال لِلْقَوْمِ النَّافِرِينَ لِحَرْبٍ أَوْ لِغَيْرِهَا: نَفِيرٌ، تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ. (1)
2 - وَفِي الاِصْطِلاَحِيِّ الشَّرْعِيِّ: الْخُرُوجُ إلَى قِتَال الْعَدُوِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ بِدَعْوَةٍ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. (2) وَلَكِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي قِتَال الْعَدُوِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِهِ:
الاِسْتِنْجَادُ:
3 - الاِسْتِنْجَادُ: وَهُوَ طَلَبُ الْعَوْنِ مِنَ الْغَيْرِ.
يُقَال: اسْتَنْجَدَهُ فَأَنْجَدَهُ، أَيِ اسْتَعَانَ بِهِ فَأَعَانَهُ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، والنهاية لابن الأثير (نفر) وفتح الباري 6 / 37 ط السلفية.
(2) فتح الباري 6 / 37.
(3) مختار الصحاح، ومعجم متن اللغة (نفر) .

(4/126)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْجِهَادِ فَرْضٌ، مُنْذُ شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَوْعِ الْفَرْضِيَّةِ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ النَّفِيرَ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَبِالإِْجْمَاعِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ} ، إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . (1)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ الْحَقَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاضَل بَيْنَ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ، ثُمَّ وَعَدَ كِلَيْهِمَا الْحُسْنَى.
وَالْعَاصِي لاَ يُوعَدُ بِهَا، وَلاَ يُفَاضَل بَيْنَ مَأْجُورٍ وَمَأْزُورٍ، فَكَانُوا غَيْرَ عَاصِينَ بِقُعُودِهِمْ.
وَقِيل: كَانَ النَّفِيرُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضَ عَيْنٍ، فَلَمْ يَكُنْ لأَِحَدٍ مِنْ غَيْرِ الْمَعْذُورِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . إِلَى قَوْله تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} . (2)
وَقَالُوا: إِنَّ الْقَاعِدِينَ الْمُشَارَ إلَيْهِمْ بِآيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ كَانُوا حُرَّاسًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْجِهَادِ. (3)
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى: يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (جِهَادٌ) .
أَمَّا بَعْدَ عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِلْعَدُوِّ حَالَتَانِ:
5 - أَنْ يَكُونَ فِي بِلاَدِهِ مُسْتَقِرًّا، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَى شَيْءٍ
__________
(1) سورة النساء / 95.
(2) سورة التوبة / 39 - 41.
(3) مغني المحتاج 4 / 208 - 209، وفتح الباري 6 / 36 - 37.

(4/127)


مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ النَّفِيرَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ مَرَّةً فِي السَّنَةِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (2) وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلأَِنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا فُرِضَ لإِِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنِ الْعِبَادِ، فَإِذَا حَصَل الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، بَل إِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْصُل بِإِقَامَةِ الدَّلِيل وَالدَّعْوَةِ بِغَيْرِ جِهَادٍ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْجِهَادِ، (3) فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ الْجَمِيعُ بِتَرْكِهِ. (4)
6 - أَمَّا إِذَا دَهَمَ الْعَدُوُّ بَلَدًا مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّفِيرُ عَلَى جَمِيعِ أَهْل هَذَا الْبَلَدِ، وَمَنْ بِقُرْبِهِمْ وُجُوبًا عَيْنِيًّا، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، حَتَّى الْفَقِيرِ، وَالْوَلَدِ، وَالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ بِلاَ إِذْنٍ مِنَ: الأَْبَوَيْنِ، وَالسَّيِّدِ، وَالدَّائِنِ، وَالزَّوْجِ. فَإِنْ عَجَزَ أَهْل الْبَلَدِ وَمَنْ بِقُرْبِهِمْ عَنِ الدِّفَاعِ فَعَلَى مَنْ يَلِيهِمْ، إِلَى أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضَ
__________
(1) سورة التوبة / 5.
(2) حديث " الجهاد ماض إلى يوم القيامة ". أخرجه أبو داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار ". قال المنذري: والراوي عن أنس يزيد بن أبي نشبه، وهو في معنى المجهول، وقال عبد الحق: يزيد بن أبي نشبه هو رجل من بني سليم،لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان (عون المعبود 2 / 324، 325 ط الهند، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 3 / 380 نشر دار المعرفة، ونصب الراية 3 / 377 ط دار المأمون) .
(3) مغني المحتاج 4 / 210، وفتح القدير 6 / 190، ومواهب الجليل 3 / 346، والإنصاف 4 / 116.
(4) المراجع السابقة.

(4/127)


عَيْنٍ كَالصَّلاَةِ تَمَامًا عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ. (1)
7 - وَكَذَلِكَ يَكُونُ النَّفِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُل مَنْ يُسْتَنْفَرُ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ الاِسْتِنْفَارِ كَالإِْمَامِ أَوْ نُوَّابِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ إِذَا دَعَاهُ دَاعِي النَّفِيرِ، إِلاَّ مَنْ مَنَعَهُ الإِْمَامُ مِنَ الْخُرُوجِ، أَوْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَخَلُّفِهِ لِحِفْظِ الأَْهْل أَوِ الْمَال، (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيل لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيل اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} . (3)

النَّفِيرُ مِنْ مِنًى:
8 - يَجُوزُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَنْفِرَ قَبْل الْغُرُوبِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الرَّمْيِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، (4) وَمِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ حَتَّى يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ نَفَرَ وَقَدْ أَسَاءَ، وَقِيل: إِنَّهُ عَلَيْهِ دَمٌ. وَأَمَّا لَوْ نَفَرَ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ الرَّابِعِ لَزِمَهُ دَمُ (5) هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (6) . كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لَوْ نَفَرَ بَعْدَ الْمَبِيتِ، وَقَبْل الرَّمْيِ، وَلَوْ نَفَرَ قَبْل الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِنًى مَارًّا أَوْ زَائِرًا وَلَوْ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلاَ رَمْيُ يَوْمِهَا. (7) وَالتَّفْصِيل فِي (الْحَجِّ) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 192، ومغني المحتاج 4 / 219 - 220.
(2) الإنصاف 4 / 117 - 118.
(3) سورة التوبة / 38.
(4) الإنصاف 4 / 49، ومغني المحتاج 1 / 506.
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 185.
(6) مغني المحتاج 1 / 506، والإنصاف 4 / 49، ومواهب الجليل 3 / 131.
(7) مغني المحتاج 1 / 506.

(4/128)


مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ. الْجِهَادِ، وَفِي الْحَجِّ: الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ.

اسْتِنْقَاء

اُنْظُرْ: اسْتِنْجَاءٌ

اسْتِنْكَاح

التَّعْرِيفُ:
1 - فِي الْمِصْبَاحِ: اسْتَنْكَحَ بِمَعْنَى نَكَحَ، وَفِي تَاجِ الْعَرُوسِ وَأَسَاسِ الْبَلاَغَةِ: وَمِنَ الْمَجَازِ اسْتَنْكَحَ النَّوْمُ عَيْنَهُ غَلَبَهَا (1) . وَفُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَى الْغَلَبَةِ مُسَايِرِينَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ فَيَقُولُونَ: اسْتَنْكَحَهُ الشَّكُّ أَيِ اعْتَرَاهُ كَثِيرًا.
وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِغَلَبَةِ الشَّكِّ أَوْ كَثْرَتِهِ بِحَيْثُ يُصْبِحُ عَادَةً لَهُ. (2)
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، وأساس البلاغة مادة (نكح) .
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 122 وما بعدها ط عيسى الحلبي، وحاشية ابن عابدين 1 / 101 ط بولاق أولى، وتحفة المحتاج بهامش حاشية الشرواني 1 / 156 ط دار صادر، وكشاف القناع 1 / 363 ط أنصار السنة.

(4/128)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - فَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ الشَّكَّ الْمُسْتَنْكِحَ بِأَنَّهُ الَّذِي يَعْتَرِي صَاحِبَهُ كَثِيرًا، بِأَنْ يَأْتِيَ كُل يَوْمٍ وَلَوْ مَرَّةً، فَمَنْ اسْتَنْكَحَهُ الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ بِأَنْ شَكَّ هَل أَحْدَثَ أَمْ لاَ بَعْدَ وُضُوئِهِ؟ فَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ، وَأَمَّا لَوْ أُتِيَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ فَيُنْقَضُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِغَالِبٍ، وَلاَ حَرَجَ فِي التَّوَضُّؤِ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمُذَهَّبِ. (1) وَانْظُرْ (شَكّ) .
وَمَنْ اسْتَنْكَحَهُ خُرُوجُ الْمَذْيِ أَوِ الْوَدْيِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَفِي الْحُكْمِ تَيْسِيرٌ يُنْظَرُ فِي (سَلَس) .

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - الشَّكُّ الْغَالِبُ يَرِدُ ذِكْرُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِل الْفِقْهِ كَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْل، وَالتَّيَمُّمِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالصَّلاَةِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا وَفِي مُصْطَلَحِ (شَكّ) .

اسْتِهْزَاء

اُنْظُرْ: اسْتِخْفَاف
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 122.

(4/129)


اسْتِهْلاَك

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِهْلاَكُ لُغَةً: هَلاَكُ الشَّيْءِ وَإِفْنَاؤُهُ، وَاسْتَهْلَكَ الْمَال: أَنْفَقَهُ وَأَنْفَدَهُ. (1)
وَاصْطِلاَحًا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ هَالِكًا أَوْ كَالْهَالِكِ كَالثَّوْبِ الْبَالِي، أَوِ اخْتِلاَطِهِ بِغَيْرِهِ بِصُورَةٍ لاَ يُمْكِنُ إِفْرَادُهُ بِالتَّصَرُّفِ كَاسْتِهْلاَكِ السَّمْنِ فِي الْخُبْزِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْتْلاَفُ:
2 - الإِْتْلاَفُ هُوَ: إِفْنَاءُ عَيْنِ الشَّيْءِ وَإِذْهَابٌ لَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الاِسْتِهْلاَكِ، لأَِنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ قَدْ تَفْنَى وَقَدْ تَبْقَى مَعَ خُرُوجِهِ عَنْ الاِنْتِفَاعِ الْمَوْضُوعِ لَهُ عَادَةً (3) . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِتْلاَف) .

مَا يَكُونُ بِهِ الاِسْتِهْلاَكُ:

3 - مِمَّا يَكُونُ بِهِ الاِسْتِهْلاَكُ:
أ - تَفْوِيتُ الْمَنَافِعِ الْمَوْضُوعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْعَيْنِ بِحَيْثُ يَصِيرُ كَالْهَالِكِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، كَتَخْرِيقِ
__________
(1) القاموس المحيط، واللسان مادة (هلك) .
(2) بدائع الصنائع 9 / 4416 طبع مطبعة الإمام، والزيلعي على الكنز 9 / 78، والمغني لابن قدامة 5 / 288 ط 3 للمنار.
(3) القاموس المحيط (تلف) .

(4/129)


الثَّوْبِ، (1) وَتَنْجِيسِ الزَّيْتِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ. (2)
ب - تَعَذُّرُ وُصُول الْمَالِكِ إِلَى حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ لاِخْتِلاَطِهِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا خُلِطَ اللَّبَنُ بِالْمَاءِ، أَوِ الزَّيْتُ بِالشَّيْرَجِ. (3)

أَثَرُ الاِسْتِهْلاَكِ:
4 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِسْتِهْلاَكِ الْوَاقِعِ مِنَ الْغَيْرِ زَوَال مِلْكِ الْمَالِكِ عَنِ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ، فَهُوَ يَمْنَعُ الاِسْتِرْدَادَ وَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِالْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ.
وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (4)

اسْتِهْلاَل

التَّعْرِيفُ.
1 - الاِسْتِهْلاَل لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَهَل، وَاسْتَهَل الْهِلاَل ظَهَرَ، وَاسْتِهْلاَل الصَّبِيِّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ عِنْدَ وِلاَدَتِهِ، وَالإِْهْلاَل رَفْعُ الصَّوْتِ بِقَوْل:
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 83 طبعة بولاق الثانية، وشرح الحطاب 5 / 269، وحاشية الدسوقي 5 / 420، والمغني 5 / 347.
(2) أسنى المطالب 2 / 251.
(3) تبيين الحقائق 5 / 78، والبدائع 7 / 156، وحاشية الدسوقي 3 / 421، وأسنى المطالب 2 / 358، 359، والشرواني على التحفة 7 / 123، والمغني 6 / 265.
(4) بدائع الصنائع 9 / 4416، 4417، ونهاية المحتاج 5 / 184.

(4/130)


لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَهَل الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ. (1)
وَالْبَحْثُ هُنَا قَاصِرٌ عَلَى اسْتِهْلاَل الْمَوْلُودِ.
وَيَخْتَلِفُ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالاِسْتِهْلاَل، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الصِّيَاحِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَرَادَ بِهِ كُل مَا يَدُل عَلَى حَيَاةِ الْمَوْلُودِ، مِنْ رَفْعِ صَوْتٍ، أَوْ حَرَكَةِ عُضْوٍ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ. (3) وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ كُل صَوْتٍ يَدُل عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ صِيَاحٍ، أَوْ عُطَاسٍ، أَوْ بُكَاءٍ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ (4) .
وَاَلَّذِينَ قَصَرُوا الاِسْتِهْلاَل عَلَى الصِّيَاحِ لاَ يَمْنَعُونَ حُصُول حَيَاةِ الْمَوْلُودِ الَّذِي مَاتَ دُونَ صِيَاحٍ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ عَلَى حَيَاتِهِ بِبَعْضِ الأَْمَارَاتِ الَّتِي تَدُل عَلَى الْحَيَاةِ بِمُفْرَدِهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهَا.
وَسَيَشْمَل هَذَا الْبَحْثُ أَحْكَامَ الاِسْتِهْلاَل بِمَعْنَاهُ الأَْعَمِّ، وَهُوَ اصْطِلاَحُ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَعَدُّدِ أَمَارَاتِ الْحَيَاةِ.

أَمَارَاتُ الْحَيَاةِ:
أ - الصِّيَاحُ:
2 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصِّيَاحَ أَمَارَةٌ يَقِينِيَّةٌ عَلَى الْحَيَاةِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْحَال الَّتِي يُعْتَبَرُ الصِّيَاحُ
__________
(1) تاج العروس مادة (هلل) .
(2) الشرح الكبير للدردير 1 / 427، والمجموع 5 / 255، وشرح الروض 3 / 19، والمغني 7 / 199.
(3) المبسوط 16 / 144، وابن عابدين 5 / 377، والبحر الرائق 2 / 202.
(4) المغني 7 / 199.

(4/130)


فِيهَا مُؤَثِّرًا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ مِنْ مَوْطِنٍ لآِخَرَ فِي الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ.

ب - الْعُطَاسُ وَالاِرْتِضَاعُ:
3 - الْعُطَاسُ وَالاِرْتِضَاعُ مِنْ أَمَارَاتِ الاِسْتِهْلاَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُمَا فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَازِرِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَحْمَدَ كَذَلِكَ، فَيَثْبُتُ بِهِمَا حُكْمُ الاِسْتِهْلاَل عِنْدَهُمْ.
أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلاَ عِبْرَةَ بِالْعُطَاسِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الرِّيحِ، وَكَذَلِكَ الرَّضَاعُ إِلاَّ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الرَّضَاعِ مُعْتَبَرٌ، وَالْكَثِيرُ مَا تَقُول أَهْل الْمَعْرِفَةِ: إِنَّهُ لاَ يَقَعُ مِثْلُهُ إِلاَّ مِمَّنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ. (1)

ج - التَّنَفُّسُ:
4 - يَأْخُذُ التَّنَفُّسُ حُكْمَ الْعُطَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (2)

د - الْحَرَكَةُ:
5 - حَرَكَةُ الْمَوْلُودِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ طَوِيلَةً أَوْ يَسِيرَةً، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الاِخْتِلاَجِ، إِذْ الاِخْتِلاَجُ تَحَرُّكُ عُضْوٍ، وَالْحَرَكَةُ أَعَمُّ مِنْ تَحَرُّكِ عُضْوٍ أَوْ تَحَرُّكِ الْجُمْلَةِ. وَلِلْعُلَمَاءِ ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ فِي الْحَرَكَةِ:
الأَْوَّل: الأَْخْذُ بِهَا مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الاِعْتِدَادِ بِهَا مُطْلَقًا.
__________
(1) المبسوط 16 / 144، والجمل 2 / 191، وشرح الروض 3 / 19، والشرواني على التحفة 3 / 162، والروضة 9 / 367، والشرح الكبير للدردير 1 / 427، والخرشي 2 / 46، والإنصاف 7 / 331.
(2) المراجع السابقة.

(4/131)


وَالثَّالِثُ: الأَْخْذُ بِالْحَرَكَةِ الطَّوِيلَةِ دُونَ الْيَسِيرَةِ.

هـ - الْحَرَكَةُ الطَّوِيلَةُ:
6 - الْحَرَكَةُ الطَّوِيلَةُ مِنْ الاِسْتِهْلاَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، عَدَا ابْنِ عَابِدِينَ، وَفِي مَعْنَى الاِسْتِهْلاَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ رَأْيَيِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الاِسْتِهْلاَل كَذَلِكَ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الآْخَرِ، وَابْنُ عَابِدِينَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُعْطُونَهَا حُكْمَ الاِسْتِهْلاَل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ يَسِيرَةً، لأَِنَّ حَرَكَتَهُ كَحَرَكَتِهِ فِي الْبَطْنِ، وَقَدْ يَتَحَرَّكُ الْمَقْتُول، وَقِيل بِهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1)

و الْحَرَكَةُ الْيَسِيرَةُ:
7 - تَأْخُذُ الْحَرَكَةُ الْيَسِيرَةُ حُكْمَ الاِسْتِهْلاَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، (2) أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَ، إِذْ لَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْحَرَكَةِ الطَّوِيلَةِ وَالْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ، (3) وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ قُوَّةَ الْحَرَكَةِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لأَِنَّهَا لاَ تَدُل عَلَى الْحَيَاةِ: (4)
__________
(1) البدائع 1 / 302، وابن عابدين 5 / 377، والشرح الكبير للدردير 1 / 427، والخرشي 2 / 46، والجمل 2 / 191، والشرواني على التحفة 3 / 162، والروضة 9 / 367، والإنصاف 7 / 331.
(2) المراجع السابقة.
(3) الجمل 2 / 191، والشرواني على التحفة 3 / 162.
(4) الروضة 9 / 367، والمهذب 2 / 32.

(4/131)


ز - الاِخْتِلاَجُ:
8 - يَأْخُذُ الاِخْتِلاَجُ حُكْمَ الْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَهَرُوا عَدَمَ إِعْطَائِهِ حُكْمَ الاِسْتِهْلاَل (1) .

إِثْبَاتُ الاِسْتِهْلاَل:
9 - مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الاِسْتِهْلاَل الشَّهَادَةُ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَقْوَال رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَدَدِ الْمُجْزِي وَالْمَوَاطِنِ الْمَقْبُولَةِ.
10 - وَالاِسْتِهْلاَل مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النِّسَاءُ غَالِبًا، لِذَلِكَ يَقْبَل الْفُقَهَاءُ - عَدَا الرَّبِيعِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - شَهَادَتَهُنَّ عَلَيْهِ مُنْفَرِدَاتٍ عَنِ الرِّجَال.
إلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي نِصَابِهَا وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تُقْبَل شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا.
وَتَفْصِيل اتِّجَاهَاتِهِمْ فِي نِصَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ كَمَا يَلِي:
11 - يَرَى الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل قَوْل النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ إِلاَّ فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَخَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. أَمَّا غَيْرُ الصَّلاَةِ كَالْمِيرَاثِ فَلاَ يَثْبُتُ الاِسْتِهْلاَل بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَلاَ بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الاِسْتِهْلاَل إِنْ كَانَتْ حُرَّةً
__________
(1) الروضة 9 / 367، وشرح الروض وحاشية الرملي عليه 3 / 19.
(2) البدائع 1 / 302، والمبسوط 16 / 143، 144، ومجمع الأنهر 2 / 187.

(4/132)


مُسْلِمَةً عَدْلاً. (1) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الاِسْتِهْلاَل (2) .
وَالْعِلَّةُ فِيهِ - كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ - أَنَّ اسْتِهْلاَل الصَّبِيِّ يَكُونُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، وَتِلْكَ حَالَةٌ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَال، وَفِي صَوْتِهِ مِنَ الضَّعْفِ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لاَ يَسْمَعُهُ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجُل كَشَهَادَةِ الرِّجَال فِيمَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَكَذَلِكَ يَرِثُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلاَدَةِ (3) وَقَال: شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال (4) وَالنِّسَاءُ جِنْسٌ فَيَدْخُل فِيهِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الاِسْمُ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 10 / 137، والإنصاف 12 / 86، والمبسوط 16 / 143.
(2) الأثر عن علي رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. قال الزيلعي: هذا سند ضعيف، فإن الجحفي وابن يحيى فيهما مقال (نصب الراية 4 / 80 ط مطبعة دار المأمون الطبعة الأولى 1367 هـ) .
(3) حديث حذيفة أخرجه الدارقطني مرفوعا بلفظ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة " وتعقب إسناد هذا الحديث بقوله: محمد بن عبد الملك لم يسمع من الأعمش بينهما رجل مجهول، وهو أبو عبد الرحمن المدائني. ثم أخرجه عن محمد بن عبد الملك عن أبي عبد الرحمن
(4) حديث " شهادة النساء جائزة. . . " أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة أثرا عن الزهري بلفظ " مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادات النساء وعيوبهن " وأخرج عبد الرزاق أثرا عن ابن عمر بهذا المعنى وعن ابن المسيب وعروة بن الزبير كذلك (نصب وتلخيص الحبير 4 / 207 - 208 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة 1384 هـ) .

(4/132)


وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ، لأَِنَّ الْمِيرَاثَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلاَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ. (1)
12 - وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ رَأَوْا أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِي الاِسْتِهْلاَل أَقَل مِنِ امْرَأَتَيْنِ، قَالُوا: لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ شَيْئَانِ: الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الذُّكُورَةُ هُنَا، وَلَمْ يَتَعَذَّرِ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ. (2)

شَهَادَةُ الثَّلاَثِ:
13 - يَرَى عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِي الاِسْتِهْلاَل أَقَل مِنْ ثَلاَثِ نِسَاءٍ، وَالْوَجْهُ عِنْدَهُ أَنَّ كُل مَوْضِعٍ قُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَانَ الْعَدَدُ ثَلاَثَةً، وَهُوَ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ. (3)
14 - وَلاَ يَقْبَل الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الاِسْتِهْلاَل أَقَل مِنْ أَرْبَعٍ مِنَ النِّسْوَةِ، لأَِنَّ كُل امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، (4) فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ. (5)

15 - أَمَّا شَهَادَةُ الرِّجَال فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى الاِسْتِهْلاَل وَنَحْوِهِ،
__________
(1) المبسوط 16 / 143، 144، والبدائع 1 / 302، ومجمع الأنهر 2 / 187.
(2) الرهوني 7 / 422.
(3) المغني 10 / 137 ط مكتبة القاهرة.
(4) شرح الروض 4 / 362، والمغني 9 / 156.
(5) حديث: " شهادة امرأتين. . . . " أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ " فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل " كما أخرجه من حديث أبي هريرة بمثل حديث ابن عمر (صحيح مسلم 1 / 86 - 87 ط عيسى الحلبي 1354 هـ) .

(4/133)


وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الرَّجُل الْوَاحِدِ.
فَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّجُل أَكْمَل مِنَ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا اُكْتُفِيَ بِهَا وَحْدَهَا فَلأََنْ يُكْتَفَى بِهِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ مَا قُبِل فِيهِ قَوْل الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ يُقْبَل فِيهِ قَوْل الرَّجُل الْوَاحِدِ كَالرِّوَايَةِ (1) .
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَيَمْنَعُونَهَا، لِمَا تَقَدَّمَ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ.

تَسْمِيَةُ الْمُسْتَهِل:
16 - يُسَمَّى الْمَوْلُودُ إِنْ اسْتَهَل وَلَوْ مَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لاَزِمَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " سَمُّوا أَسْقَاطَكُمْ فَإِنَّهُمْ أَسْلاَفُكُمْ (2) رَوَاهُ ابْنُ السَّمَّاكِ بِإِسْنَادِهِ، قِيل: إِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ لِيُدْعَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ
__________
(1) المبسوط 16 / 144، والمغني 10 / 138، وشرح منتهى الإرادات 3 / 558.
(2) حديث: " سموا أسقاطكم. . . " أخرجه ابن عساكر في التاريخ من حديث أبي هريرة بلفظ: " سموا أسقاطكم فإنهم من أفراطكم " وحكم الألباني بوضعه. قال ابن النحوي في التخريج الصغير لأحاديث الشرح الكبير: وحديث سموا السقط غريب كذلك روى السلفي من حديث أبي هريرة بإسنا والفتوحات الربانية 6 / 103 نشر المكتبة الإسلامية) .

(4/133)


لِلسَّقْطِ ذُكُورَةٌ وَلاَ أُنُوثَةٌ سُمِّيَ بِاسْمٍ يَصْلُحُ لَهُمَا، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ فِي تَسْمِيَةِ الْمُسْتَهَل إِكْرَامًا لَهُ لأَِنَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يَحْتَاجُ أَبُوهُ إلَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ عِنْدَ الدَّعْوَى بِهِ. (1)
أَمَّا الْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَدُهُ قَبْل السَّابِعِ فَلاَ تَسْمِيَةَ عَلَيْهِ. (2)

غُسْل الْمُسْتَهِل إِذَا مَاتَ، وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ:
17 - مَوْتُ الْمُسْتَهِل إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل الاِنْفِصَال أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ مَا يَلْزَمُ فِي الْكَبِيرِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الطِّفْل إِذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ وَاسْتَهَل يُصَلَّى عَلَيْهِ.
أَمَّا بَعْدَ الاِنْفِصَال فَإِنْ كَانَ خَرَجَ مُعْظَمُهُ، فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ فِي شَرْحِ الدُّرِّ بِمَا إِذَا انْفَصَل تَامَّ الأَْعْضَاءِ.
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِنْ صَاحَ بَعْدَ الظُّهُورِ، وَكَذَلِكَ إِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْحَيَاةِ الأُْخْرَى غَيْرُ الصِّيَاحِ فِي الأَْظْهَرِ، وَلاَ أَثَرَ لِلاِسْتِهْلاَل وَعَدَمِهِ فِي غُسْل الْمَيِّتِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ يُوجِبُونَ غُسْل السَّقْطِ وَالصَّلاَةَ عَلَيْهِ إِذَا نَزَل لأَِرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ اسْتَهَل أَمْ لاَ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ غُسْل الطِّفْل وَالصَّلاَةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَسْتَهِل صَارِخًا بَعْدَ نُزُولِهِ. (3)
__________
(1) البحر الرائق 2 / 202، والرهوني 3 / 70، ونهاية المحتاج 7 / 139، والمغني 2 / 397، 398.
(2) الرهوني 3 / 70.
(3) الدر المختار 1 / 108، والبحر الرائق 2 / 203، والخرشي 2 / 42، وحاشية الدسوقي على الدردير 1 / 427، ومغني المحتاج 1 / 349، والمغني مع الشرح 2 / 337، 397.

(4/134)


وَأَمَّا الدَّفْنُ فَإِنَّ الْجَنِينَ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَجِبُ دَفْنُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهَا يُسَنُّ سَتْرُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ.

اسْتِهْلاَل الْمَوْلُودِ وَأَثَرُهُ فِي إِرْثِهِ:
18 - الْجَنِينُ إِذَا اسْتَهَل بَعْدَ تَمَّامِ انْفِصَالِهِ - عَلَى الاِخْتِلاَفِ السَّابِقِ فِي الْمُرَادِ بِالاِسْتِهْلاَل - فَإِنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ بِالإِْجْمَاعِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ وَرِثَ. (1) وَقَوْلِهِ: الطِّفْل لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ يَرِثُ، وَلاَ يُورَثُ حَتَّى يَسْتَهِل (2) وَكَذَا لَوْ خَرَجَ مَيِّتًا وَلَمْ يَسْتَهِل فَالاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُورَثُ وَلاَ يَرِثُ.
وَأَمَّا لَوْ اسْتَهَل بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْل تَمَامِ انْفِصَالِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَرِثُ وَلاَ يُورَثُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَرِثُ وَيُورَثُ إِنْ اسْتَهَل بَعْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ، لأَِنَّ الأَْكْثَرَ لَهُ حُكْمُ الْكُل، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ كُلُّهُ حَيًّا.
__________
(1) حديث: إذا استهل المولود. . . " أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعا، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف. وقد روي عن ابن حبان تصحيح الحديث (نيل الأوطار 6 / 67 ط المطبعة العثمانية المصرية 1357 هـ) .
(2) حديث: " الطفل لا يصلى عليه ولا يرث. . . . " أخرجه الترمذي، واللفظ له، وابن ماجه من حديث جابر. واختلف هل من المرفوع أو الموقوف، وبه جزم النسائي والدارقطني. قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر هذا الحديث: وفي إسناده إسماعيل المكي وهو ضعيف. ورواه ابن ماجه من طريق الربيع عن أبي الزبير مرفوعا، والربيع ضعيف (تحفة الأحوذي 4 / 120 نشر المكتبة السلفية 1385 هـ، وتلخيص الحبير 2 / 113 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة 1384 هـ) .

(4/134)


وَقَال الْقَفَّال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا وَرِثَ. (1)
الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ اسْتِهْلاَلِهِ:
19 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُسْتَهِل إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْل الاِنْفِصَال أَوْ بَعْدَهُ، وَاَلَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْل ظُهُورِهِ أَوْ بَعْدَهُ.

حُكْمُهَا قَبْل الظُّهُورِ:
20 - إِنْ تَعَمَّدَ الْجَانِي ضَرْبَ الأُْمِّ فَخَرَجَ الْجَنِينُ مُسْتَهِلًّا، ثُمَّ مَاتَ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأُْمِّ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأُْمُّ حَيَّةً أَمْ مَيِّتَةً. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا قَسَامَةَ أَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَأْخُذُوا الدِّيَةَ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْجَنِينِ يَسْقُطُ حَيًّا مِنَ الضَّرْبِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَلِكَ الْحَال إِنْ تَعَمَّدَ قَتْل الْجَنِينِ بِضَرْبِ أُمِّهِ عَلَى ظَهْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ رَأْسِهَا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَأَشْهَبُ قَال: لاَ قَوَدَ فِيهِ، بَل تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَال الْجَانِي بِقَسَامَةٍ، قَال ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَسَامَةٍ، قَال فِي التَّوْضِيحِ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ. (2)
__________
(1) العذب الفائض 2 / 91، 92، والشرح الكبير للدردير 4 / 269، والتاج والإكليل 6 / 258، والروضة 6 / 37، وشرح الروض 3 / 19، والإنصاف 7 / 331، والفتاوى الهندية 6 / 456، والبحر الرائق 2 / 203.
(2) الهندية 6 / 35، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 269، ونهاية المحتاج 7 / 361، 362، والإنصاف 10 / 74.

(4/135)


حُكْمُهَا بَعْدَ الظُّهُورِ:
21 - إِنْ ظَهَرَ الْجَنِينُ ثُمَّ صَاحَ، ثُمَّ جَنَى جَانٍ عَلَيْهِ عَمْدًا فَالأَْصَحُّ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ ظَهَرَ أَغْلَبُهُ. وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنْ كَانَ ذَبَحَهُ رَجُلٌ حَالِمًا يُخْرِجُ رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ لأَِنَّهُ جَنِينٌ، وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ وَخَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ. (2)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الاِعْتِبَارُ بِالاِنْفِصَال التَّامِّ (3)

الْجِنَايَةُ بَعْدَ الاِنْفِصَال:
22 - قَتْل الْمُسْتَهِل بَعْدَ الاِنْفِصَال كَقَتْل الْكَبِيرِ، فِيهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ. وَكَذَلِكَ إِنْ انْفَصَل بِجِنَايَةٍ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَقَتَلَهُ جَانٍ آخَرُ.
أَمَّا إِنْ نَزَل فِي حَالَةٍ لاَ يُحْتَمَل أَنْ يَعِيشَ مَعَهَا، وَقَتَلَهُ شَخْصٌ آخَرُ فَإِنَّ الضَّامِنَ هُوَ الأَْوَّل، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي. (4)

الاِخْتِلاَفُ فِي اسْتِهْلاَل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:
23 - عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي خُرُوجِهِ حَيًّا يُرَاعَى قَوْل الضَّارِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ، لأَِنَّ الأَْصْل نُزُول الْوَلَدِ غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ، فَمُدَّعَى عَدَمَ الاِسْتِهْلاَل لاَ يَحْتَاجُ إِلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 361، 362، والإنصاف 10 / 74.
(2) الهندية 6 / 35، وشرح السراجية 321، 322، والبحر الرائق 2 / 203.
(3) الروضة 9 / 367، والجمل 5 / 99، والإنصاف 10 / 74.
(4) البحر الرائق 8 / 390، والبدائع 7 / 239، والشرح الكبير مع المغني 9 / 546، وشرح الروض 4 / 89.

(4/135)


إِثْبَاتِهِ، وَمُدَّعِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَوْل الْوَلِيِّ. (1)

اسْتِوَاء

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْمُمَاثَلَةُ وَالاِعْتِدَال. (2)
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: إِذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الدَّرَجَةِ وَالإِْدْلاَءِ اسْتَوَيَا فِي الْمِيرَاثِ. (3)
وَبِمَعْنَى الاِعْتِدَال كَقَوْلِهِمْ فِي الصَّلاَةِ: إِذَا رَفَعَ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ اسْتَوَى قَائِمًا. (4)
وَاسْتَعْمَلُوهُ مُقَيَّدًا بِالْوَقْتِ فَقَالُوا: وَقْتُ الاِسْتِوَاءِ أَيِ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ قَاصِدِينَ وَقْتَ قِيَامِ الشَّمْسِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ، لأَِنَّهَا قَبْل ذَلِكَ مَائِلَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ (5) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - تُكْرَهُ صَلاَةُ النَّافِلَةِ وَقْتَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ
__________
(1) البحر الرائق 8 / 391، وشرح الروض 4 / 94، والإنصاف 10 / 74.
(2) اللسان والمصباح المنير مادة (سوى) .
(3) المهذب 2 / 30 ط دار المعرفة.
(4) المغني 1 / 507، 508 ط الرياض الحديثة، والمقنع 1 / 188 ط السلفية.
(5) المهذب 1 / 99.

(4/136)


قَال: ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيل الشَّمْسُ، وَحِينَ تُضِيفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ (1) وَلاَ يُكْرَهُ مَا لَهُ سَبَبٌ كَسُجُودِ التِّلاَوَةِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ الْكَرَاهَةُ مُطْلَقًا. وَيَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الْفَرْضِ، وَعَنْ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ، وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَرِدْ ذِكْرٌ لِمَنْعِ الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ (2) فِي الْمَشْهُورِ كَمَا قَال ابْنُ جُزَيٍّ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.

اسْتِيَاك

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِيَاكُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَاكَ. وَاسْتَاكَ: نَظَّفَ فَمَه وَأَسْنَانَهُ بِالسِّوَاكِ، وَمِثْلُهُ تَسَوَّكَ.
وَيُقَال: سَاكَ فَمَه بِالْعُودِ يَسُوكُهُ سَوْكًا إِذَا دَلَكَهُ بِهِ.
__________
(1) حديث عقبة بن عامر أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (جامع الأصول في أحاديث الرسول 5 / 254 نشر مكتبة الحلواني 1390 هـ) .
(2) المهذب 1 / 99، والمغني 2 / 107، والهداية 1 / 40 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 1 / 34 ط دار المعرفة، وحاشية ابن عابدين 1 / 248، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 100، والقوانين الفقهية ص 36.

(4/136)


وَلَفْظُ السِّوَاكِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفِعْل، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْعُودُ الَّذِي يُسْتَاكُ بِهِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الْمِسْوَاكُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ. (2)

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

تَخْلِيل الأَْسْنَانِ:
2 - هُوَ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ فَضَلاَتٍ بِالْخِلاَل، وَهُوَ عُودٌ أَوْ نَحْوُهُ (3) وَفِي الْحَدِيثِ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُتَخَلِّلِينَ مِنْ أُمَّتِي فِي الْوُضُوءِ وَالطَّعَامِ (4) فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِيَاكِ: أَنَّ التَّخْلِيل خَاصٌّ بِإِخْرَاجِ مَا بَيْنَ الأَْسْنَانِ، أَمَّا السِّوَاكُ فَهُوَ لِتَنْظِيفِ الْفَمِ وَالأَْسْنَانِ بِنَوْعٍ مِنَ الدَّلْكِ.

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ السِّوَاكِ:
3 - السِّوَاكُ سَبَبٌ لِتَطْهِيرِ الْفَمِ، مُوجِبٌ لِمَرْضَاةِ الرَّبِّ. لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. (5)
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والقاموس مادة (سوك) ، والشرح الصغير وحاشيته 1 / 126.
(2) الحطاب 1 / 263، 264، والجمل 1 / 116 - 117، والشرح الصغير 1 / 124، والمجموع 1 / 269، ونهاية المحتاج 1 / 162.
(3) ابن ماجه 1 / 121، ولسان العرب مادة (خلل) .
(4) النهاية لابن الأثير، ولسان العرب مادة (خلل) .
(5) نيل الأوطار للشوكاني 1 / 124 ط البابي الحلبي. وحديث " السواك مطهرة. . . " علقه البخاري ووصله أحمد وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن عتيق، ورواه الشافعي وابن خزيمة والنسائي والبيهقي في سننهما وآخرون، والحديث صحيح. (المجموع 1 / 267 وتلخيص الحبير 1 / 60 ومجمع الزوائد 1 / 220 - 221) .

(4/137)


حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَعْتَرِي الاِسْتِيَاكَ أَحْكَامٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: النَّدْبُ، وَهُوَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، حَتَّى حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِرَأْيِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَامَّةً عَلَى ذَلِكَ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ (1) قَال الشَّافِعِيُّ: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لأََمَرَهُمْ بِهِ، شَقَّ أَوْ لَمْ يَشُقَّ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ (2) وَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى فِي النَّزْعِ، (3) وَتَسْمِيَتِهِ إيَّاهُ مِنْ خِصَال الْفِطْرَةِ. (4)
الثَّانِي: الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، فَقَدْ رَأَى أَنَّ الأَْصْل فِي الاِسْتِيَاكِ الْوُجُوبُ لاَ النَّدْبُ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِظَاهِرِ الأَْمْرِ فِي الْحَدِيثِ أَمَرَ
__________
(1) إعانة الطالبين 1 / 44، ونيل الأوطار للشوكاني 1 / 124 ط البابي الحلبي، والمجموع 1 / 271 ط الطباعة المنيرية، والدر المختار على حاشية ابن عابدين 1 / 78 ط الثالثة، والحطاب 1 / 224. والحديث رواه الأئمة الستة من حديث أبي هريرة، وعند مسلم بلفظ " عند كل صلاة ". قال ابن منده: وإسناده مجمع على صحته. (تلخيص الحبير 1 / 62)
(2) المجموع 1 / 271 الطباعة المنيرية، والمغني 1 / 78 ط المنار، والحطاب 1 / 271 ط النجاح. والحديث سبق تخريجه ف 3.
(3) المغني 1 / 78 ط المنار، والحطاب 1 / 264. والحديث رواه البخاري في آخر كتاب المغازي عن عائشة. (نصب الراية 1 / 8) .
(4) الجمل 1 / 119، والمغني 1 / 80، وإعانة الطالبين 1 / 44 البابي الحلبي. والحديث أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا " عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء. . . " (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 223 ط عيسى الحلبي 1374 هـ، وجامع الأصول في أحاديث الرسول 4 / 774 نشر مكتبة الحلواني 1390 هـ) .

(4/137)


النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُضُوءِ لِكُل صَلاَةٍ، طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِالسِّوَاكِ لِكُل صَلاَةٍ. (1)
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ، إِذَا اسْتَاكَ فِي الصِّيَامِ بَعْدَ الزَّوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَعَطَاءٍ، لِحَدِيثِ الْخُلُوفِ الآْتِي. (2)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ حُكْمَهُ فِي حَال الصَّوْمِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ، أَخْذًا بِعُمُومِ أَدِلَّةِ السِّوَاكِ (3)
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ - بَعْدَ نَظَرٍ فِي الأَْدِلَّةِ - أَنَّ السِّوَاكَ لاَ يُكْرَهُ بَعْدَ الزَّوَال، لأَِنَّ عُمْدَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْكَرَاهَةِ حَدِيثُ الْخُلُوفِ وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ، لأَِنَّ الْخُلُوفَ مِنْ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ، وَالسِّوَاكُ لاَ يُزِيلُهُ، وَإِنَّمَا يُزِيل وَسَخَ الأَْسْنَانِ. قَالَهُ الأَْذْرُعِيُّ (4) .
__________
(1) المجموع 1 / 271 والمغني 1 / 78. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن حنظلة، قال الشوكاني: وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن، وفي الاحتجاج به خلاف، وأخرجه الحاكم ببعض الزيادات وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي (مختصر سنن أبي داود للمنذري 1 / 40 نشر دار المعرفة 1400 هـ، ونيل الأوطار 1 / 265 ط دار الجيل، والمستدرك 1 / 156 نشر دار الكتاب العربي) .
(2) الجمل 1 / 119، والمغني 1 / 80، وإعانة الطالبين 1 / 44 ط البابي الحلبي.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 372، ومواهب الجليل 2 / 442.
(4) هامش المجموع 1 / 279. والحديث أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، ولفظ مسلم " فوالذي نفس محمد بيده لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " (جامع الأصول 9 / 450 ط مكتبة الحلواني 1392 هـ، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 806 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .

(4/138)


الاِسْتِيَاكُ فِي الطَّهَارَةِ:

الْوُضُوءُ:
5 - اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَاخْتَلَفُوا هَل هُوَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَمْ لاَ؟ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: (1) الاِسْتِيَاكُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُل وُضُوءٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَفَرَضْتُ عَلَيْهِمُ السِّوَاكَ مَعَ كُل وُضُوءٍ (2) .
الثَّانِي: قَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الرَّأْيُ الأَْوْجَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: السِّوَاكُ سُنَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْوُضُوءِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ.
وَمَدَارُ الْحُكْمِ عِنْدَهُمْ عَلَى مَحَلِّهِ، فَمَنْ قَال إِنَّهُ قَبْل التَّسْمِيَةِ قَال، إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْوُضُوءِ، وَمَنْ قَال بَعْدَ التَّسْمِيَةِ، قَال بِسُنِّيَّتِهِ لِلْوُضُوءِ. (3)
التَّيَمُّمُ وَالْغُسْل:
6 - يُسْتَحَبُّ الاِسْتِيَاكُ عِنْدَ التَّيَمُّمِ وَالْغُسْل،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105، والشرح الصغير 1 / 124، ونهاية المحتاج 1 / 162، والمجموع 1 / 272.
(2) رواه البخاري والحاكم وابن خزيمة في صحيحيهما وأسانيده جيدة (المجموع 1 / 273) .
(3) نهاية المحتاج 1 / 162، 163، وكشاف القناع 1 / 62، والإنصاف 1 / 117.

(4/138)


وَيَكُونُ مَحَلُّهُ فِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الضَّرْبِ، وَفِي الْغُسْل عِنْدَ الْبَدْءِ فِيهِ. (1)

الاِسْتِيَاكُ لِلصَّلاَةِ:
7 - فِي الاِسْتِيَاكِ لِلصَّلاَةِ ثَلاَثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَتَأَكَّدُ الاِسْتِيَاكُ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، وَإِنْ سَلَّمَ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ وَقَرُبَ الْفَصْل، وَلَوْ نَسِيَهُ سُنَّ لَهُ قِيَاسًا تَدَارُكُهُ بِفِعْلٍ قَلِيلٍ، (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ، أَوْ مَعَ كُل صَلاَةٍ. (3)
الثَّانِي: لاَ يُسَنُّ الاِسْتِيَاكُ لِلصَّلاَةِ، بَل لِلْوُضُوءِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ أَتَى بِهِ عِنْدَ الْوُضُوءِ لاَ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عِنْدَ الصَّلاَةِ، (4) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُل وُضُوءٍ (5)
الثَّالِثُ: يُنْدَبُ الاِسْتِيَاكُ لِصَلاَةِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ بَعُدَتْ مِنْ الاِسْتِيَاكِ لِلْعُرْفِ، فَلاَ يُنْدَبُ أَنْ يَسْتَاكَ لِكُل صَلاَةٍ مَا لَمْ يَبْعُدْ مَا بَيْنَهُمَا عَنْ الاِسْتِيَاكِ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (6)
__________
(1) الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 / 163، والحطاب 1 / 264، والإنصاف 1 / 119، ونيل الأوطار 1 / 124.
(2) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 1 / 226.
(3) المجموع 1 / 274، والحديث سبق تخريجه ف (4) .
(4) ابن عابدين 1 / 105، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 69.
(5) رواه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما وصححاه وأسانيده جيدة، وذكره البخاري في صحيحه في كتاب الصيام تعليقا بصيغة الجزم. ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة " عند كل صلاة. . . " ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه بسند حسن عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضئون " (تلخيص الحبي والمجموع 1 / 273، ومجمع الزوائد 1 / 221) .
(6) الشرح الصغير 1 / 126، وابن عابدين 1 / 106.

(4/139)


الاِسْتِيَاكُ لِلصَّائِمِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالاِسْتِيَاكِ لِلصَّائِمِ أَوَّل النَّهَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الاِسْتِيَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَال عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (1)

السِّوَاكُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ:
9 - يَنْبَغِي لِقَارِئِ الْقُرْآنِ إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ أَنْ يُنَظِّفَ فَمَهُ بِالسِّوَاكِ. (2)
وَيُسْتَحَبُّ كَذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ حَدِيثٍ أَوْ عِلْمٍ.

كَمَا يُسْتَحَبُّ الاِسْتِيَاكُ عِنْدَ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ، وَمَحَلُّهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْقِرَاءَةِ لآِيَةِ السَّجْدَةِ وَقَبْل الْهُوِيِّ لِلسُّجُودِ. (3) وَهَذَا إِذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلاَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ، لاِنْسِحَابِ سِوَاكِ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ.

وَيُسْتَحَبُّ إِزَالَةُ الأَْوْسَاخِ وَقَلَحِ الْفَمِ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَحْضُرُ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، وَتَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ اسْتِيَاكَ الْمُحْتَضَرِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُسَهِّل خُرُوجَ الرُّوحِ، لِنَفْسِ الْعِلَّةِ.

وَيُسْتَحَبُّ كَذَلِكَ الاِسْتِيَاكُ عِنْدَ قِيَامِ اللَّيْل، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. (4)
__________
(1) نيل الأوطار 1 / 128، والمغني 1 / 80، وابن عابدين 2 / 175، والشرح الصغير 1 / 716، والمجموع 1 / 277.
(2) الفتوحات الربانية والأذكار 3 / 256، والجمل 1 / 121، والدر المختار بهامش ابن عابدين 1 / 105، والشرح الكبير مع المغني 1 / 102، والتحفة مع الشرواني 1 / 229.
(3) حاشية الجمل 1 / 121.
(4) الحديث متفق عليه من حديث حذيفة، وفي لفظ لمسلم " إذا قام ليتهجد " (نصب الراية 1 / 8) .

(4/139)


وَلِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ مِنَ الأَْحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ. (1)

مَوَاضِعُ أُخْرَى لاِسْتِحْبَابِ الاِسْتِيَاكِ:
10 - يُسْتَحَبُّ الاِسْتِيَاكُ لإِِذْهَابِ رَائِحَةِ الْفَمِ وَتَرْطِيبِهِ، وَإِزَالَةِ صُفْرَةِ الأَْسْنَانِ قَبْل الاِجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ لِمَنْعِ التَّأَذِّي، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ هَيْئَةِ الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى، مِثْل دُخُول الْمَسْجِدِ، لأَِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الزِّينَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ حُضُورِ الْمَلاَئِكَةِ وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ دُخُول الْمَنْزِل لِلاِلْتِقَاءِ بِالأَْهْل وَالاِجْتِمَاعِ بِهِمْ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَمَا سُئِلَتْ بِأَيِّ شَيْءٍ يَبْدَأُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَل بَيْتَهُ قَالَتْ: كَانَ إِذَا دَخَل بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ. (2) وَيُسْتَحَبُّ كَذَلِكَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَالْجِمَاعِ، وَأَكْل مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَتَغَيُّرِ الْفَمِ بِعَطَشٍ أَوْ جُوعٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ قِيَامٍ مِنْ نَوْمٍ، أَوِ اصْفِرَارِ سِنٍّ، وَكَذَلِكَ لإِِرَادَةِ أَكْلٍ أَوْ فَرَاغٍ مِنْهُ.
عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ مُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، لأَِنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. (3)
__________
(1) المغني 1 / 772، والمجموع للنووي 4 / 45.
(2) أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 220 ط عيسى الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 106، والمجموع 1 / 267، 272، وحاشية الجمل 1 / 119، 221، والحطاب 1 / 264، ونيل الأوطار 1 / 126، والفتوحات الربانية 3 / 256، والتحفة مع الشرواني 1 / 229، والمغني 1 / 95 ط الرياض. والحديث سبق تخريجه في فقرة (3) .

(4/140)


مَا يُسْتَاكُ بِهِ:
11 - يُسْتَاكُ بِكُل عُودٍ لاَ يَضُرُّ، وَقَدْ قَسَّمَهُ الْفُقَهَاءُ بِحَسَبِ أَفْضَلِيَّتِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُ جَمِيعًا: الأَْرَاكُ، لِمَا فِيهِ مِنْ طِيبٍ وَرِيحٍ وَتَشْعِيرٍ يُخْرِجُ وَيُنَقِّي مَا بَيْنَ الأَْسْنَانِ. وَلِحَدِيثِ أَبِي خَيْرَةَ الصَّبَاحِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنْتُ فِي الْوَفْدِ، يَعْنِي وَفْدَ عَبْدِ الْقِيسِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَنَا بِأَرَاكٍ فَقَال: اسْتَاكُوا بِهَذَا وَلأَِنَّهُ آخِرُ سِوَاكٍ اسْتَاكَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلاِتِّبَاعِ سَوَاءٌ كَانَ الْعُودُ طَيِّبًا أَمْ لاَ. كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الشَّيْخَيْنِ النَّوَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ (1) .
الثَّانِي: قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، يَأْتِي بَعْدَ الأَْرَاكِ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ: جَرِيدُ النَّخْل، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ آخِرُ سِوَاكٍ اسْتَاكَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيل وَقَعَ الاِسْتِيَاكُ آخِرًا بِالنَّوْعَيْنِ، فَكُلٌّ مِنَ الصَّحَابِيَّيْنِ رَوَى مَا رَأَى. وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّخْل. (2)
الثَّالِثُ: الزَّيْتُونُ. وَقَدِ اسْتَحَبَّهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، لِحَدِيثِ نِعْمَ السِّوَاكُ الزَّيْتُونُ مِنْ شَجَرَةٍ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 282، والشرح الصغير 1 / 124، وابن عابدين 1 / 107، والمغني 1 / 79. والحديث أخرجه أبو نعيم والطبراني في الأوسط من حديث معاذ رضي الله عنه مرفوعا وفي إسناده أحمد بن محمد بن محيض، تفرد به عن إبراهيم بن أبي عبلة. (تلخيص الحبير 1 / 72 ط شركة الطباعة الفنية 1384 هـ) . وروى ابن علان عند الاستدلال على أولوية
(2) الفتوحات 3 / 257، والشرح الصغير 1 / 124، والمغني 1 / 79.

(4/140)


مُبَارَكَةٍ، تُطَيِّبُ الْفَمَ وَتُذْهِبُ الْحَفْرَ (1) وَهُوَ سِوَاكِي وَسِوَاكُ الأَْنْبِيَاءِ قَبْلِي. (2)
الرَّابِعُ: ثُمَّ بِمَا لَهُ رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ وَلاَ يَضُرُّ. (3) قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُسْتَاكُ بِقُضْبَانِ الأَْشْجَارِ النَّاعِمَةِ الَّتِي لاَ تَضُرُّ، وَلَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ تُزِيل الْقَلَحَ كَالْقَتَادَةِ وَالسَّعْدِ. (4)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ بِكُل ذِي رَائِحَةٍ ذَكِيَّةٍ، وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالضَّرَرِ. وَمَثَّلُوا لَهُ بِالرَّيْحَانِ وَالرُّمَّانِ. (5)

مَا يُحْظَرُ الاِسْتِيَاكُ بِهِ أَوْ يُكْرَهُ:
12 - يُكْرَهُ الاِسْتِيَاكُ بِكُل عُودٍ يُدْمِي مِثْل الطَّرْفَاءِ وَالآْسِ، أَوْ يُحْدِثُ ضَرَرًا أَوْ مَرَضًا مِثْل الرَّيْحَانِ وَالرُّمَّانِ، لِمَا رَوَى الْحَارِثُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ضُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ قَال نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السِّوَاكِ بِعُودِ الرَّيْحَانِ وَقَال: إِنَّهُ يُحَرِّكُ عِرْقَ الْجُذَامِ (6)
__________
(1) الحفر: مرض تفسد منه أصول الأسنان أو صفرة تعلوها. وقال شمر: الحفر صفرة تحفر أصول الأسنان بين اللثة وأصل السن من ظاهر وباطن يلح على العظم حتى ينقشر (لسان العرب) .
(2) الفتوحات 3 / 257، والجمل 1 / 118، وابن عابدين 1 / 107، والشرح الصغير 1 / 124.
(3) واللجنة ترى أن مما يؤدي الغرض من السواك التسوك بالفرشة إذا كانت من نوع جيد ينظف ولا يؤذي.
(4) الجمل 1 / 118، وشرح الإحياء 2 / 350، والشرح الصغير 1 / 124، وابن عابدين 1 / 107.
(5) وهما يكرهان عند غيرهما كذلك، ولكن للنص والضرر، ولم يسحبوا حكمهما على كل ذي رائحة طيبة كما فعل الحنابلة. الإنصاف 1 / 119، والمغني 1 / 79.
(6) الإنصاف 1 / 119، وابن عابدين 1 / 106، والجمل 1 / 118، وشرح الإحياء 2 / 350، والفروع 1 / 57، 58. وروى الحارث في مسنده عن ضمير بن حبيب قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السواك بعود الريحان وقال: إنه يحرك عرق الجذام ". الحديث مرسل وضعيف أيضا. (تلخيص الحبير 1 / 72) .

(4/141)


وَيَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْل الطِّبِّ، نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: يُكْرَهُ كُل مَا يَقُول الأَْطِبَّاءُ إِنَّ فِيهِ فَسَادًا. (1)
وَيَحْرُمُ الاِسْتِيَاكُ بِالأَْعْوَادِ السَّامَّةِ لإِِهْلاَكِهَا أَوْ شِدَّةِ ضَرَرِهَا. وَهَذَا لاَ يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَفِي حُصُول السُّنَّةِ بِالاِسْتِيَاكِ بِالْمَحْظُورِ قَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيَّةِ:
الأَْوَّل: إِنَّهُ مُحَصِّلٌ لِلسُّنَّةِ، لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ وَالْحُرْمَةَ لأَِمْرٍ خَارِجٍ، وَحَمَلُوا الطَّهَارَةَ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ (أَيِ النَّظَافَةِ) .
الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ: لاَ تَحْصُل بِهِ السُّنَّةُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ. وَهَذَا مُنَجِّسٌ بِجَرْحِهِ اللِّثَةَ وَخُرُوجِ الدَّمِ، لِخُشُونَتِهِ. (2)

صِفَاتُ السِّوَاكِ:
13 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الاِسْتِيَاكُ بِعُودٍ مُتَوَسِّطٍ فِي غِلَظِ الْخِنْصَرِ، خَالٍ مِنَ الْعُقَدِ، لاَ رَطْبًا يَلْتَوِي، لأَِنَّهُ لاَ يُزِيل الْقَلَحَ (وَسَخَ الأَْسْنَانِ) وَلاَ يَابِسًا يَجْرَحُ اللِّثَةَ، وَلاَ يَتَفَتَّتُ فِي الْفَمِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ لَيِّنًا، لاَ غَايَةَ فِي النُّعُومَةِ، وَلاَ فِي الْخُشُونَةِ. (3)

السِّوَاكُ بِغَيْرِ عُودٍ:
14 - أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الاِسْتِيَاكَ بِغَيْرِ عُودٍ، مِثْل
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 265.
(2) الفتوحات الربانية 3 / 257، والجمل 1 / 117. والحديث سبق تخريجه في فقرة (3) .
(3) ابن عابدين 1 / 106، 107، ومواهب الجليل 1 / 265 س 32، وشرح الإحياء 1 / 350، والإنصاف 1 / 119، والمجموع 1 / 281، والمغني 1 / 96 ط. الرياض.

(4/141)


الْغَاسُول وَالأُْصْبُعِ، وَاعْتَبَرُوهُ مُحَصِّلاً لِلسُّنَّةِ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ.
وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْغَاسُول (الأُْشْنَانِ) عَلَى رَأْيَيْنِ: فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: أَجَازُوا اسْتِعْمَال الْغَاسُول فِي الاِسْتِيَاكِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ وَمُزِيلٌ لِلْقَلَحِ، وَيَتَأَدَّى بِهِ أَصْل السُّنَّةِ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْعِلْكَ لِلْمَرْأَةِ بَدَل السِّوَاكِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لَوِ اسْتَعْمَل الْغَاسُول عِوَضًا عَنِ الْعِيدَانِ لَمْ يَأْتِ بِالسُّنَّةِ. (1)

أَمَّا الاِسْتِيَاكُ بِالأُْصْبُعِ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: تُجْزِئُ الأُْصْبُعُ فِي الاِسْتِيَاكِ مُطْلَقًا، فِي رَأْيٍ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَدْخَل بَعْضَ أَصَابِعِهِ فِي فِيهِ. . . وَقَال: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
الثَّانِي: تُجْزِئُ الأُْصْبُعُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) شرح المنهج على هامش الجمل لزكريا الأنصاري 1 / 118، وابن عابدين 1 / 107 ط الثالثة، ونهاية المحتاج 1 / 164، والحطاب 1 / 266، ومنتهى الإرادات 1 / 15.
(2) حديث علي رضي الله عنه أخرجه أحمد مطولا. قال البنا الساعاتي: الحديث لم أقف عليه في غير المسند. وإسناده جيد، وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي حديث علي رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ولا توجد فيه عبارة " فأدخل بعض أصابعه في فيه " بمختلف رواياته. (الفتح الرباني 2 / 10، 11 ط مطبعة الإخوان المسلمين الطبعة الأولى، نيل الأوطار 1 / 130 ط 1 مطبعة، الجيل، وجامع الأصول 7 / 149 نشر مكتبة الحلواني، والتحفة 1 / 163 - 166 نشر المكتبة السلفية، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 1 / 91 وما بعدها نشر دار المعرفة، وسنن النسائي بشرح السيوطي 1 / 69، 70 نشر المكتبة التجارية الكبرى) .

(4/142)


وَالشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّكَ رَغَّبْتَنَا فِي السِّوَاكِ، فَهَل دُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ قَال: أُصْبُعَيْكَ سِوَاكٌ عِنْدَ وُضُوئِكَ، أَمِرَّهُمَا عَلَى أَسْنَانِكَ. (1)
الثَّالِثُ: لاَ تُجْزِئُ الأُْصْبُعُ فِي الاِسْتِيَاكِ. وَهُوَ رَأْيٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلاَ يَحْصُل الإِْنْقَاءُ بِهِ حُصُولَهُ بِالْعُودِ. (2)

كَيْفِيَّةُ الاِسْتِيَاكِ:
15 - يُنْدَبُ إِمْسَاكُ السِّوَاكِ بِالْيُمْنَى، لأَِنَّهُ الْمَنْقُول عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَامُنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ وَفِي رِوَايَةٍ وَسِوَاكِهِ، ثُمَّ يُجْعَل الْخِنْصَرُ أَسْفَل السِّوَاكِ وَالأَْصَابِعُ فَوْقَهُ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 107، والشرح الصغير 1 / 124 ط دار المعرفة، والأذكار مع الفتوحات 1 / 258، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 79 ط الثالثة. وروى ابن عدي والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الله بن المثنى عن النضر بن أنس مرفوعا " بلفظ يجزئ من السواك الأصابع ". قال الحافظ: وفي إسناده نظر. وقال الضياء المقدسي: لا أرى بسنده بأسا، وقال البيهقي: المحفوظ عن بعض أهل بيته عن أنس نحوه، ورواه أبو نعيم والطبراني وابن عدي من حديث عائشة وفيه المثنى بن الصباح، ورواه أبو نعيم أيضا من حديث كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف عن أبيه عن جده، وكثير ضعفوه (نيل الأوطار 1 / 130 ط دار الجيل 1973 م، وتلخيص الحبير 1 / 70 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) ابن عابدين 1 / 107، والمجموع 1 / 282، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 102.

(4/142)


رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُبْدَأُ مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ وَيَمُرُّ بِهِ عَرْضًا أَيْ عَرْضَ الأَْسْنَانِ، لأَِنَّ اسْتِعْمَالَهُ طُولاً قَدْ يَجْرَحُ اللِّثَةَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: اسْتَاكُوا عَرْضًا وَادَّهِنُوا غِبًّا أَيْ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ وَاكْتَحِلُوا وِتْرًا. (1)
ثُمَّ يَمُرُّ بِهِ عَلَى أَطْرَافِ الأَْسْنَانِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى ظَهْرًا وَبَطْنًا، ثُمَّ عَلَى كَرَاسِيِّ الأَْضْرَاسِ، ثُمَّ عَلَى اللِّثَةِ وَاللِّسَانِ وَسَقْفِ الْحَلْقِ بِلُطْفٍ.
وَمَنْ لاَ أَسْنَانَ لَهُ يَسْتَاكُ عَلَى اللِّثَةِ وَاللِّسَانِ وَسَقْفِ الْحَلْقِ، لأَِنَّ السِّوَاكَ وَإِنْ كَانَ مَعْقُول الْمَعْنَى إِلاَّ أَنَّهُ مَا عَرَى عَنْ مَعْنَى التَّعَبُّدِ، وَلِيَحْصُل لَهُ ثَوَابُ السُّنَّةِ.
وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ لاَ يُعْلَمُ فِيهَا خِلاَفٌ. (2)

آدَابُ السِّوَاكِ:
16 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ آدَابًا لِلْمُسْتَاكِ يُسْتَحَبُّ اتِّبَاعُهَا، مِنْهَا:
أ - يُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَسْتَاكَ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَةِ، لأَِنَّهُ يُنَافِي الْمُرُوءَةَ، وَيَتَجَنَّبُ الاِسْتِيَاكَ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي الْمَجَالِسِ الْحَافِلَةِ خِلاَفًا لاِبْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ (3) .
__________
(1) الحطاب 1 / 265 - 266، وغاية المنتهى 1 / 19، والمقنع مع الحاشية 1 / 33، والنووي 1 / 281، وابن عابدين 1 / 106، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 265، والخرشي 1 / 139، والجمل 1 / 118. والحديث ضعيف وهو من مراسيل أبي داود. ضعفه ابن حجر في تلخيص الحبير 1 / 65، والنووي في المجموع 1 / 280.
(2) إعانة الطالبين 1 / 44 - 45، وحاشية الشرواني على التحفة 1 / 224، والمغني 1 / 96 ط الرياض، والإنصاف 1 / 19، والجوهرة النيرة شرح القدوري 1 / 6 ط الآستانة.
(3) شرح الحطاب على خليل 1 / 266، والمجموع 1 / 283.

(4/143)


ب - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْسِل سِوَاكَهُ بَعْدَ الاِسْتِيَاكِ لِتَخْلِيصِهِ مِمَّا عَلِقَ بِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ، فَيُعْطِيَنِي السِّوَاكَ لأَِغْسِلَهُ، فَأَبْدَأُ بِهِ فَأَسْتَاكُ، ثُمَّ أَغْسِلُهُ وَأَدْفَعُهُ إِلَيْهِ (1) كَمَا يُسَنُّ غَسْلُهُ لِلاِسْتِيَاكِ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى.
ج - وَيُسْتَحَبُّ حِفْظُ السِّوَاكِ بَعِيدًا عَمَّا يُسْتَقْذَرُ (2) .

تَكْرَارُ الاِسْتِيَاكِ، وَبَيَانُ أَكْثَرِهِ وَأَقَلِّهِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْرَارِ الاِسْتِيَاكِ حَتَّى يَزُول الْقَلَحُ، وَيَطْمَئِنَّ عَلَى زَوَال الرَّائِحَةِ (3) إِذَا لَمْ يَزُل إِلاَّ بِالتَّكْرَارِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنِّي لأََسْتَاكُ حَتَّى لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أُحْفِيَ مَقَادِمَ فَمِي. (4) وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
(1) أَنْ يُمِرَّ السِّوَاكَ عَلَى أَسْنَانِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالأَْكْمَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِلسُّنَّةِ فِي التَّثْلِيثِ، وَلِيَطْمَئِنَّ الْقَلْبُ بِزَوَال الرَّائِحَةِ وَاصْفِرَارِ السِّنِّ.
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني. . . " أخرجه أبو داود 1 / 45 ط السعادة من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد جيد، وسكت عنه المنذري، وقال النووي: حديث حسن رواه أبو داود بإسناد جيد. وقال محقق جامع الأصول: وإسناده حسن (مختصر سنن أبي داود للمنذري 1 / 41 نشر دار المعرفة 1400 هـ، وجامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط 7 / 79، 180 نشر مكتبة الحلواني 1391 هـ، والمجموع 1 / 283 المطبعة العربية بمصر) .
(2) ابن عابدين 1 / 107، والجمل 1 / 118.
(3) ابن عابدين 1 / 106، والجمل 1 / 117، والحطاب 1 / 266، والمغني 1 / 79، وحاشية كانون على الرهوني 1 / 148.
(4) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب السواك رقم (289) قال في الزوائد: إسناده ضعيف. (كنز العمال 3 / 313) .

(4/143)


(2) يَكْفِي مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا حَصَل بِهَا الإِْنْقَاءُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَتَحْصُل السُّنَّةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّيَّةِ.
(3) لاَ حَدَّ لأَِقَلِّهِ، وَالْمُرَادُ هُوَ زَوَال الرَّائِحَةِ، فَمَا زَالَتْ بِهِ الرَّائِحَةُ حَصَلَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. (1)

إِدْمَاءُ السِّوَاكِ لِلْفَمِ:
18 - إِذَا عُرِفَ أَنَّ مِنْ عَادَتِهِ إِدْمَاءُ السِّوَاكِ لِفَمِهِ اسْتَاكَ بِلُطْفٍ، فَإِنْ أَدْمَى بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ عَلَى حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ الصَّلاَةِ حَرُمَ الاِسْتِيَاكُ خَشْيَةَ تَنْجِيسِ فَمِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَاتَّسَعَ الْوَقْتُ قَبْل الصَّلاَةِ لَمْ يُنْدَبْ، بَل يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ. (2)

اسْتِيَامٌ

اُنْظُرْ: سَوْم

اسْتِيدَاع

اُنْظُرْ: وَدِيعَة
__________
(1) حاشية المدني على الرهوني 1 / 148، وابن عابدين 1 / 106، والمغني 1 / 79، والجمل 1 / 117.
(2) حاشية الشرواني على التحفة 1 / 228.

(4/144)


اسْتِيطَان
اُنْظُرْ: وَطَنٌ
اسْتِيعَاب

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِيعَابُ فِي اللُّغَةِ: الشُّمُول وَالاِسْتِقْصَاءُ وَالاِسْتِئْصَال فِي كُل شَيْءٍ. يُقَال فِي الأَْنْفِ أَوْعَبَ جَدْعَهُ: إِذَا قَطَعَهُ كُلَّهُ وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا. (1) وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الاِسْتِيعَابَ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَيَقُولُونَ: اسْتِيعَابُ الْعُضْوِ بِالْمَسْحِ أَوِ الْغَسْل، وَيَعْنُونَ بِهِ شُمُول الْمَسْحِ أَوِ الْغَسْل كُل، جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعُضْوِ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْسْبَاغُ:
2 - الإِْسْبَاغُ هُوَ: الإِْتْمَامُ وَالإِْكْمَال. (2) يُقَال: أَسْبَغَ الْوُضُوءَ إِذَا عَمَّ بِالْمَاءِ جَمِيعَ الأَْعْضَاءِ بِحَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهَا، (3) فَالإِْسْبَاغُ وَالاِسْتِيعَابُ مُتَقَارِبَانِ.
__________
(1) تاج العروس مادة (وعب) .
(2) المصباح المنير مادة (سبغ) .
(3) المغني 1 / 224 ط المنار الثالثة.

(4/144)


ب - الاِسْتِغْرَاقُ:
3 - الاِسْتِغْرَاقُ هُوَ: الشُّمُول لِجَمِيعِ الأَْفْرَادِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، (1) فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِيعَابِ أَنَّ الاِسْتِغْرَاقَ لاَ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِيمَا لَهُ أَفْرَادٌ بِخِلاَفِ الاِسْتِيعَابِ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلاِسْتِيعَابِ حَسَبَ مَوَاطِنِهِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا.

أ - الاِسْتِيعَابُ الْوَاجِبُ:
4 - حَيْثُمَا كَانَ غَسْل الْيَدَيْنِ أَوِ الأَْعْضَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَاجِبًا كَانَ الاِسْتِيعَابُ وَاجِبًا فِيهِ أَيْضًا، (2) بِخِلاَفِ مَا وَجَبَ مَسْحُهُ كَالرَّأْسِ فَلاَ يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ.
وَمِنَ الْوَاجِبِ اسْتِيعَابُ الأَْوْقَاتِ الَّتِي لاَ تَسَعُ مِنَ الأَْعْمَال غَيْرَ مَا عُيِّنَ لَهَا كَالصَّوْمِ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الشَّهْرِ وَجَمِيعَ النَّهَارِ، وَكَمَنْ نَذَرَ الاِشْتِغَال بِالْقُرْآنِ وَعَيَّنَ كُل مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِيعَابُ ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَاسْتِيعَابُ النِّيَّةِ لِلْعِبَادَةِ، فَلاَ يَصِحُّ إِخْلاَءُ جُزْءٍ مِنْهَا مِنَ النِّيَّةِ، لِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَقْتَرِنَ أَوَّل الْعِبَادَةِ بِالنِّيَّةِ، ثُمَّ لاَ تَنْقَطِعُ إِلَى آخِرِ الْعَمَل، فَإِنِ انْقَطَعَتْ فَسَدَتِ الْعِبَادَةُ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّةٌ) .
__________
(1) تعريفات الجرجاني ص 18 ط مصطفى الحلبي.
(2) مراقي الفلاح ص 24 ط العثمانية، والمغني 1 / 224 ط المنار، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 30 ط المكتب الإسلامي، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 99 ط دار الفكر، وإرشاد الفحول ص 113.

(4/145)


وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ حَيْثُ لاَ يُفْسِدُهُمَا انْقِطَاعُ النِّيَّةِ. (1)
وَاسْتِيعَابُ النِّصَابِ كُل الْحَوْل مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَبَعْضُهُمْ يَرَى اشْتِرَاطَهُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَعْضُهُمْ يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ بِتَمَامِهِ فِي طَرَفَيِ الْحَوْل. (2) اُنْظُرْ (زَكَاةٌ) .

ب - الاِسْتِيعَابُ الْمَنْدُوبُ:
5 - مِنْهُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وُضُوء) .
وَمِنْهُ اسْتِيعَابُ الْمُزَكِّي الأَْصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهِ قَالُوهُ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ.
6 - وَمِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ إِذَا اسْتَوْعَبَ الإِْغْمَاءُ أَوِ الْجُنُونُ يَوْمًا كَامِلاً تَسْقُطُ الصَّلاَةُ عَلَى خِلاَفٍ (4) مَوْطِنُ بَيَانِهِ فِي مُصْطَلَحَاتِ (صَلاَة) ، (إِغْمَاء) ، (جُنُونٌ) .

ج - الاِسْتِيعَابُ الْمَكْرُوهُ:
7 - يُكْرَهُ لِلإِْنْسَانِ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ مَالِهِ بِالتَّبَرُّعِ أَوِ الصَّدَقَاتِ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ. (5)
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 181، 182 ط الاستقامة و (ر: إحرام ف 128) .
(2) البدائع 2 / 51، والخرشي 2 / 156، ونهاية المحتاج 3 / 63.
(3) مراقي الفلاح ص 65، والمغني 1 / 255، وقليوبي 1 / 49، وجواهر الإكليل 1 / 14.
(4) ابن عابدين 1 / 566، وقليوبي 2 / 60، والمغني 1 / 400 ط السعودية.
(5) المهذب 1 / 183.

(4/145)


اسْتِيفَاء
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِيفَاءُ: مَصْدَرُ اسْتَوْفَى، وَهُوَ أَخْذُ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ كَامِلاً، دُونَ أَنْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَبْضُ:
2 - قَبَضَ الدَّيْنَ أَخَذَهُ، وَهُوَ كَمَا يَكُونُ فِي الدُّيُونِ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الأَْعْيَانِ، فَالْقَبْضُ أَعَمُّ مِنْ الاِسْتِيفَاءِ.

عَلاَقَةُ الاِسْتِيفَاءِ بِالإِْبْرَاءِ وَالْحَوَالَةِ:
3 - مِنْ تَقْسِيمَاتِ الإِْبْرَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ: إِمَّا إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ، أَوْ إِبْرَاءُ اسْتِيفَاءٍ، فَفِي الْكَفَالَةِ لَوْ قَال الدَّائِنُ لِلْكَفِيل: بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَال، كَانَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ لِكُلٍّ مِنَ الْكَفِيل وَالدَّائِنِ، أَمَّا لَوْ قَال: أَبْرَأْتُكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِبْرَاءَ إِسْقَاطٍ، يُبَرَّأُ بِهِ الْكَفِيل فَقَطْ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِبْرَاءٌ) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْجِيحِ حَقِيقَةِ الْحَوَالَةِ، هَل هِيَ بَيْعٌ أَوِ اسْتِيفَاءٌ؟ قَال النَّوَوِيُّ: وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ بِحَسَبِ الْمَسَائِل، لِقُوَّةِ الدَّلِيل وَضَعْفِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: لَوْ خَرَجَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، وَقَدْ شَرَطَ يَسَارَهُ، فَالأَْصَحُّ لاَ رُجُوعَ
__________
(1) القاموس، ولسان العرب مادة (وفى) .

(4/146)


لِلْمُحَال، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا اسْتِيفَاءٌ، وَمُقَابِلُهُ: لَهُ الرُّجُوعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ. (1)
مَنْ لَهُ حَقُّ الاِسْتِيفَاءِ:
4 - يَخْتَلِفُ مَنْ لَهُ حَقُّ الاِسْتِيفَاءِ بِاخْتِلاَفِ الْحَقِّ الْمُرَادِ اسْتِيفَاؤُهُ، إِذْ هُوَ إِمَّا حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ حَقٌّ خَالِصٌ لِلْعَبْدِ، كَالدُّيُونِ، أَوْ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ.
وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُقَسِّمُ هَذَا الْحَقَّ الْمُشْتَرَكَ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ، وَمَا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ.
وَالْمُرَادُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ: مَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمَرَهُ بِإِيصَال ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَيُوجَدُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقٍّ لِلْعَبْدِ، وَلاَ يُوجَدُ حَقٌّ لِعَبْدٍ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. (2)
اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
أَوَّلاً: اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ:
5 - يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ إِنْفَاذُ الْحُدُودِ، وَلاَ يَمْلِكُ وَلِيُّ الأَْمْرِ وَلاَ غَيْرُهُ إِسْقَاطَهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا لَدَيْهِ، وَاَلَّذِي يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهَا هُوَ وَلِيُّ الأَْمْرِ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهَا غَيْرُهُ دُونَ إِذْنِهِ يُعَزَّرُ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَيْهِ. (3)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 151 - 152 ط التجارية.
(2) الفروق 1 / 141 ط دار إحياء الكتب العربية سنة 1344 هـ.
(3) ابن عابدين 3 / 145، 187، والمغني 8 / 326، والفروق للقرافي 4 / 179، وتبصرة الحكام 2 / 260 ط الحلبي، والبجيرمي على ابن قاسم 2 / 37 ط الحلبي 1343 هـ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 242 ط الحلبي 1938 م، ومغني المحتاج 4 / 61 ط الحلبي 1958 م.

(4/146)


أ - كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حَدِّ الزِّنَا:
6 - حَدُّ الزِّنَا إِمَّا الرَّجْمُ، وَإِمَّا الْجَلْدُ:
وَعَلَى كُلٍّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الزِّنَا قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالإِْقْرَارِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَحْضُرَ الشُّهُودُ، وَأَنْ يَبْدَءُوا بِالرَّجْمِ، فَإِنْ امْتَنَعُوا سَقَطَ الْحَدُّ.
وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَشْتَرِطُونَ حُضُورَ الشُّهُودِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ حُضُورَهُمْ مُسْتَحَبًّا، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَرَوْنَ حُضُورَهُمْ وَاجِبًا وَلاَ مُسْتَحَبًّا.
وَالْكُل مُجْمِعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَاوَل الْهَرَبَ لاَ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، بَل قَال بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِنْ خِيفَ هَرَبُهُ يُقَيَّدُ أَوْ يُحْفَرُ لَهُ.
وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً يُحْفَرُ لَهَا، أَوْ تُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا حَتَّى لاَ تَتَكَشَّفَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالإِْقْرَارِ، فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَاوَل الْهَرَبَ لَمْ يُتَّبَعْ، وَيُوقَفُ التَّنْفِيذُ، جَلْدًا كَانَ أَوْ رَجْمًا، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ رُجُوعًا عَنْ إِقْرَارِهِ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ وَخِلاَفٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الأَْحْكَامِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (حَدِّ الزِّنَا) .
وَإِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَالْكُل مُجْمِعٌ عَلَى نَزْعِ مَا يَلْبَسُهُ مِنْ حَشْوٍ أَوْ فَرْوٍ.
فَإِنْ كَانَ رَجُلاً يُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ إِلاَّ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَحْدُودُ بِالْجَلْدِ مَرِيضًا مَرَضًا يُرْجَى شِفَاؤُهُ أُرْجِئَ التَّنْفِيذُ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً حَامِلاً أُرْجِئَ الْحَدُّ مُطْلَقًا - رَجْمًا أَوْ جَلْدًا -

(4/147)


إِلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَيَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْ الرَّضَاعِ مِنْهَا. (1)

ب - كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ:
7 - سَبَقَ مَا يَتَّصِل بِالْجَلْدِ وَحَدِّ الزِّنَا، عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْجَلْدِ فِي حَدِّ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ مِنْهُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ أَشَدَّ مِنْهُ فِي حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ.
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى (حَدِّ الْقَذْفِ) (وَحَدِّ الْخَمْرِ) . (2)
هَذَا، وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ فِي آلَةِ الاِسْتِيفَاءِ فِي الْجَلْدِ وَمُلاَبَسَاتِهِ، تَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ عَدَمِ تَعْرِيضِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ إِلَى التَّلَفِ جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا، وَتَفْصِيلاَتُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ. وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ (جَلْد) وَمُصْطَلَحَ (رَجْم) .
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَبْنَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْعَلاَنِيَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) وَلِكَيْ يَحْصُل الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، فَيَأْمُرُ الإِْمَامُ قَوْمًا غَيْرَ مَنْ يُقِيمُونَ الْحَدَّ بِالْحُضُورِ. (4)

ج - كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حَدِّ السَّرِقَةِ:
8 - حَدُّ السَّرِقَةِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ،
__________
(1) رد المحتار 3 / 147، والبدائع 7 / 39، والزرقاني 8 / 84، ونهاية المحتاج 7 / 414، والمغني 9 / 45.
(2) رد المحتار 3 / 162، والمراجع السابقة.
(3) سورة النور / 3.
(4) ابن عابدين 3 / 145.

(4/147)


وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الَّذِي يُقِيمُ حَدَّ الْقَذْفِ وَحَدَّ السَّرِقَةِ هُوَ الإِْمَامُ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ ثُبُوتِ الْحُدُودِ، وَحَالاَتِ سُقُوطِهَا يُذْكَرُ فِي أَبْوَابِ الْحُدُودِ. أَمَّا كَيْفِيَّةُ الاِسْتِيفَاءِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، فَالْفُقَهَاءُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ فِي بَابِهِ، فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى مِنْ مِفْصَل الْكَفِّ، بِطَرِيقَةٍ تُؤْمَنُ مَعَهَا السِّرَايَةُ، كَالْحَسْمِ بِالزَّيْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْوَسَائِل. لِحَدِيثِ: اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ (2) .

د - مَكَانُ اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ:
9 - لاَ يُسْتَوْفَى حَدٌّ وَلاَ قِصَاصٌ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ فِيهِ، لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَلْوِيثِهِ، أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ فِي الْحَرَمِ دُونَ الْمَسْجِدِ فَالإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيهِ.
أَمَّا إِذَا وَقَعَتْ فِي الْحِل وَلَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ،
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 433 ط المعاهد.
(2) المغني 9 / 120 - 123 وما بعدها ط مكتبة القاهرة، والشرح الكبير 4 / 308 توزيع دار الفكر، ونهاية المحتاج 7 / 445، والبدائع 7 / 85 ط الجمالية. وحديث " اقطعوه ثم احسموه " أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة بلفظ " أن رسول الله أتي بسارق سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن هذا سرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به، فقطع فأتي به. . . ". وأخرجه موصولا أيضا الحاكم والبيهقي، وصححه ابن القطان، وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان بدون ذكر أبي هريرة، ورجح المرسل ابن خزيمة وابن المديني وغير واحد. (سنن الدارقطني 3 / 102 ط دار المحاسن للطباعة 1386 هـ، ونيل الأوطار 7 / 142 ط مصطفى الحلبي 1380 هـ) .

(4/148)


فَقَدِ اُخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُخْرَجُ، بَل يُضْطَرُّ لِلْخُرُوجِ بِمَنْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَنْهُ. وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُبَاحُ إِخْرَاجُهُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُؤَخَّرُ بَل يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. قَال فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ إِنَّ الْحَرَمَ لاَ يُعِيذُ فَارًّا بِدَمٍ (2) .

ثَانِيًا: اسْتِيفَاءُ التَّعْزِيرَاتِ:
10 - التَّعْزِيرَاتُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، فَقَال مَالِكٌ: وَجَبَ التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللَّهِ كَالْحُدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الإِْمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مَصْلَحَةٌ مِنَ الْمَلاَمَةِ وَالْكَلاَمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْصُوصًا مِنَ الشَّارِعِ عَلَى التَّعْزِيرِ وَجَبَ، وَإِلاَّ فَلِلإِْمَامِ إِقَامَتُهُ أَوِ الْعَفْوُ عَنْهُ، حَسَبَ الْمَصْلَحَةِ وَحُصُول الاِنْزِجَارِ بِهِ أَوْ بِدُونِهِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الإِْمَامِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ
__________
(1) سورة آل عمران / 97.
(2) ابن عابدين 5 / 363 ط الأميرية الثالثة، والدسوقي 4 / 231 - 232، والجمل 5 / 50، ونهاية المحتاج 7 / 288، والمغني 8 / 236. وحديث " إن الحرم لا يعيذ عاصيا. . . " أخرجه البخاري ومسلم من مقولة عمرو بن سعيد. (فتح الباري 4 / 41 ط السلفية، وصحيح مسلم بشرح النووي 9 / 127، 128 ط المطبعة المصرية بالأزهر 1347 هـ) .

(4/148)


تَرَكَهُ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذَا وَأَدِلَّتُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير) . (1)
ثَالِثًا: اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَالِيَّةِ:
أ - اسْتِيفَاءُ الزَّكَوَاتِ:
11 - مَال الزَّكَاةِ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعُ وَالْمَال الَّذِي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، وَبَاطِنٌ: وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمْوَال التِّجَارَةِ فِي مَوَاضِعِهَا.
وَوِلاَيَةُ أَخْذِ الزَّكَاةِ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ لِلإِْمَامِ فِي مَذَاهِبِ: الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْل التَّأْوِيل أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (3) فَقَدْ جَعَل اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا حَقًّا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلإِْمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَرْبَابَ الأَْمْوَال بِصَدَقَاتِ الأَْنْعَامِ وَالزُّرُوعِ فِي أَمَاكِنِهَا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا إِلَى أَرْبَابِ الأَْمْوَال، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ.
وَكَانَ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالأَْئِمَّةُ بَعْدَهُ يَبْعَثُونَ الْمُصَدِّقِينَ إِلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالآْفَاقِ، لأَِخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنَ الأَْنْعَامِ وَالْمَوَاشِي فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 145، 187، والمغني 8 / 326، والفروق للقرافي 4 / 179، وتبصرة الحكام 2 / 260 ط الحلبي، والبيجوري على ابن قاسم 2 / 237 ط الحلبي 1343 هـ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 242 ط الحلبي 1938 م، ومغني المحتاج 4 / 61 ط الحلبي 1958 م.
(2) سورة التوبة / 103.
(3) سورة التوبة / 60.

(4/149)


أَمَاكِنِهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَلْحَقُ بِالأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ الْمَال الْبَاطِنُ إِذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ فِي الْجُمْلَةِ، لأَِنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ، وَهَذَا لأَِنَّ الإِْمَامَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ، لأَِنَّ الْمَوَاشِيَ فِي الْبَرَارِيِّ لاَ تَصِيرُ مَحْفُوظَةً إِلاَّ بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ فَكَانَ كَالسَّوَائِمِ. وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (1)
وَهَذَا الْحُكْمُ (دَفْعُ زَكَاةِ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ إِلَى الأَْئِمَّةِ) إِذَا كَانَ الأَْئِمَّةُ عُدُولاً فِي أَخْذِهَا وَصَرْفِهَا.
وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ طَلَبَهَا الإِْمَامُ الْعَدْل فَادَّعَى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَهَا لَمْ يُصَدَّقْ، (2) وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ السَّلاَطِينَ الَّذِينَ لاَ يَضَعُونَ الزَّكَاةَ مَوَاضِعَهَا إِذَا أَخَذُوا الزَّكَاةَ أَجْزَأَتْ عَنِ الْمُزَكِّينَ، لأَِنَّ وِلاَيَةَ الأَْخْذِ لَهُمْ، فَلاَ تُعَادُ. وَقَال بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ الْخَرَاجُ وَلاَ تَسْقُطُ الزَّكَوَاتُ. وَمُؤَدَّى هَذَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ غَيْرَ عَادِلٍ فَلِلْمُزَكِّي إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ. (3)
وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ. أَنَّهُ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ عَدْلاً فَفِيهَا قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الإِْيجَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ التَّفَرُّدُ بِإِخْرَاجِهَا، وَلاَ تُجْزِئُهُمْ إِنْ أَخْرَجُوهَا. (4)
__________
(1) البدائع 2 / 37 وما بعدها ط شركة المطبوعات، والشرح الكبير 1 / 462 ط دار الفكر، والأحكام السلطانية ص 113.
(2) الشرح الكبير 1 / 462.
(3) البدائع 2 / 36.
(4) الأحكام السلطانية ص 113 ط الحلبي.

(4/149)


وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ الْجُمْهُورِ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ، أَمَّا فِي الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ فَقَدْ صَرَّحَ أَبُو يَعْلَى بِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ نَظَرٌ فِي زَكَاتِهَا، وَأَرْبَابُهَا أَحَقُّ مِنْهُ بِإِخْرَاجِهَا إِلاَّ أَنْ يَبْذُل رَبُّ الْمَال زَكَاتَهَا طَوْعًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ لِلإِْمَامِ طَلَبَ زَكَاةِ الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ أَيْضًا. (1)
وَإِذَا تَأَكَّدَ الإِْمَامُ أَنَّ أَرْبَابَ الأَْمْوَال لاَ يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا أَجْبَرَهُمْ عَلَى إِيتَائِهَا وَلَوْ بِالْقِتَال، كَمَا فَعَل أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا يَفِي الزَّكَاةَ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الإِْمَامُ يَضَعُهَا مَوْضِعَهَا، وَإِلاَّ فَلاَ يُقَاتِلُهُمْ. (2)
ب - اسْتِيفَاءُ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ:
12 - لَيْسَ لِلإِْمَامِ وِلاَيَةُ اسْتِيفَاءِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ. (3) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ طَلَبُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْكَفَّارَةِ. (4)
اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
أَوَّلاً: اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ:
13 - اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِدُونِ إِذْنِهِ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، وَعُزِّرَ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 99، والإنصاف 3 / 192.
(2) كشاف القناع 2 / 257 ط الرياض.
(3) تنبيه: القواعد العامة للشريعة توجب على الإمام جبر الممتنع من أداء الواجب ديانة، وعلى هذا لو امتنع من وجبت عليه كفارة، أو الناذر عن أداء ما وجب عليه، فعلى الإمام إجباره على الأداء.
(4) الإنصاف 3 / 192، والقليوبي 3 / 189.

(4/150)


ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هُوَ الإِْمَامُ، وَلَيْسَ لِلأَْوْلِيَاءِ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُمْ التَّجَاوُزُ أَوِ التَّعْذِيبُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلاَّهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (1) .
وَلِلْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ الْقَاتِل إِلَى أَخِ الْمَقْتُول وَقَال لَهُ: دُونَكَ صَاحِبُكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (2) وَلَهُ أَنْ يُوَكِّل فِيهِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَكَّلُوا أَحَدَهُمْ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل تَوَلِّي الإِْمَامِ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ ذَلِكَ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِنَفْسِهِ، وَرَآهُ الإِْمَامُ أَهْلاً أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمْ يُجِبْهُ.
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص) .
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ حُضُورِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، لِيُؤْمَنَ التَّجَاوُزُ أَوِ التَّعْذِيبُ، وَحُضُورُ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ بِالْقِصَاصِ مَسْنُونٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِ حُضُورِ صَاحِبِ الْحَقِّ رَجَاءَ أَنْ يَعْفُوَ. (3)
أ - كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
14 - قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ
__________
(1) سورة الإسراء / 33.
(2) صحيح مسلم 2 / 1308 ط استانبول (الكتب الستة) .
(3) البدائع 7 / 242 - 246، والبحر الرائق 8 / 339، والدسوقي 4 / 259، والحطاب 6 / 250، والمواق 6 / 253، والروضة 9 / 221، ونهاية المحتاج 7 / 286، 287.

(4/150)


الْقِصَاصَ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِالسَّيْفِ، لِقَوْل النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ. (1)
وَالْقَوَدُ هُوَ الْقِصَاصُ، فَكَانَ هَذَا نَفْيُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ السَّيْفِ. (2)
وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُل بِغَيْرِ السَّيْفِ لاَ يُمَكَّنُ لِلْحَدِيثِ، وَلَوْ فَعَل يُعَزَّرُ، لَكِنْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْقَتْل حَقُّهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، إِلاَّ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالاِسْتِيفَاءِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الشَّرْعِ. (3)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الْقَاتِل يُقْتَل بِمِثْل مَا قَتَل بِهِ، وَدَلِيلُهُ: حَدِيثُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ مُسْلِمَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ كَذَلِكَ. (4) وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ الْقَتْل بِبَيِّنَةٍ أَوِ اعْتِرَافٍ.
__________
(1) حديث " لا قود إلا بالسيف " أخرجه ابن ماجه من حديث أبي بكر، والنعمان بن بشير مرفوعا. وأما حديث أبي بكرة قال أبو حاتم: حديث منكر، وأعله البيهقي بمبارك بن فضالة. وأما حديث النعمان بن بشير فسنده ضعيف أيضا، قال عبد الحق وابن عدي وابن الجوزي: طرقه كلها ضعيفة، قال ابن حجر في التلخيص: رواه ابن ماجه والبزار والطحاوي والطبراني والدارقطني والبيهقي، وألفاظهم مختلفة. وإسناده ضعيف، قال البيهقي: أحاديث هذا الباب كلها ضعيفة (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 89 ط عيسى الحلبي 1373 هـ، وفيض القدير 6 / 436 نشر المكتبة التجارية 1357 هـ، وتلخيص الحبير 4 / 19 ط شركة الطباعة الفنية 1384 هـ، والدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 / 265 ط مطبعة الفجالة 1384 هـ) .
(2) المغني 9 / 393 وما بعدها ط المنار 1348 هـ، والبدائع 7 / 245.
(3) البدائع 7 / 245، 246، والمغني 9 / 390 ط المنار.
(4) حديث اليهودي الذي رضَّ رأس مسلمة. أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ " أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين. قيل: من فعل هذا بك، أفلان؟ أفلان؟ حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين ". (فتح الباري 5 / 71 ط السلفية) .

(4/151)


فَإِنْ ثَبَتَ بِقَسَامَةٍ قُتِل بِالسَّيْفِ، إِلاَّ أَنْ يَقَعَ الْقَتْل بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ. (1)

ب - تَأْخِيرُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
15 - إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، وَكَانُوا جَمِيعًا عُقَلاَءَ بَالِغِينَ حَاضِرِينَ، وَطَلَبُوا الاِسْتِيفَاءَ أُجِيبُوا.
أَمَّا إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ وَاحِدًا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ الْبُلُوغُ أَوِ الإِْفَاقَةُ، لاِحْتِمَال الْعَفْوِ آنَئِذٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْتَظَرُ، بَل الاِسْتِيفَاءُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَالْقَيِّمِ عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فِي هَذِهِ الْحَال هُوَ الْقَاضِي.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بِأَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَنِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ.
أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَكَانَ فِيهِمْ كِبَارٌ وَصِغَارٌ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ الْكِبَارُ. (2)
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 435 ط المكتبة التجارية، ونهاية المحتاج 7 / 291، والمغني 9 / 390 ط المنار.
(2) البدائع 7 / 243 - 244، ومغني المحتاج 4 / 39، والمغني 7 / 739، وبداية المجتهد 2 / 394، والشرح الصغير على أقرب المسالك 4 / 359 ط دار المعارف.

(4/151)


أَمَّا إِنْ كَانَ بَعْضُ الأَْوْلِيَاءِ غَائِبِينَ فَإِنَّ انْتِظَارَهُمْ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُنْتَظَرُ الْغَائِبُ إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً دُونَ الْغَائِبِ غَيْبَةً بَعِيدَةً، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا غَيْرَ مُطْبِقٍ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ.

ج - وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَبْل بُرْءِ الْمَجْرُوحِ، لِحَدِيثِ: لاَ يُسْتَقَادُ مِنَ الْجِرَاحَةِ حَتَّى يَبْرَأَ. (1)
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَانِي عَلَى الْفَوْرِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ) .
__________
(1) حديث " لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ " أخرجه الطحاوي عن طريق عنبسة من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا. قال في التنقيح: إسناده صحيح، وعنبسة وثقه أحمد وغيره. قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن هذا الحديث، فقال: هو مرسل مقلوب. وأخرجه أحمد والدارقطني بهذا المعنى من حديث عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده. قال الحافظ في سبل السلام شرح بلوغ المرام: وأعل بالإرسال، والخلاف في سماع عمرو بن شعيب واتصال إسناده مشهور. وقال: وقد دفع بأنه ثبت لقاء شعيب لجده وفي معناه أحاديث تزيده قوة. (مسند ابن حنبل 2 / 217 نشر المكتب الإسلامي 1398 هـ، وسنن الدارقطني 3 / 88 ط دار المحاسن، ونصب الراية 4 / 378 نشر المكتب الإسلامي 1393 هـ، وسبل السلام 3 / 237، 238 ط مصطفى الحلبي 1379 هـ) .
(2) البدائع 7 / 310، 311، ومغني المحتاج 4 / 45، والبداية 2 / 146، والشرح الكبير 4 / 230، والمغني 7 / 729 ط الرياض.

(4/152)


ثَانِيًا: اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَالِيَّةِ:
أ - اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ مَال الْغَيْرِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ:
17 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: (1) إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ بَاذِلٌ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ مَا يُدْلِيهِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ حَقِّهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلإِْنْسَانِ غَرَضٌ فِي الْعَيْنِ، فَإِنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَتْ فَصَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ الثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تَقَاصَّا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مَانِعًا لأَِدَاءِ الدَّيْنِ لأَِمْرٍ يُبِيحُ الْمَنْعَ كَالتَّأْجِيل وَالإِْعْسَارِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ عَوَّضَهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَلاَ يَحْصُل التَّقَاصُّ هَاهُنَا، لأَِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ فِي الْحَال بِخِلاَفِ مَا ذُكِرَ قَبْل.
وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلاَصِهِ بِالْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الأَْخْذُ أَيْضًا بِغَيْرِ السُّلْطَانِ أَوِ الْحَاكِمِ، لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ وَكِيلِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ جَاحِدًا لَهُ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لاَ يُجِيبُهُ إِلَى الْمُحَاكَمَةِ وَلاَ يُمْكِنُهُ إِجْبَارُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 10 / 288 ط القاهرة.

(4/152)


قَال ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ جَعَل أَصْحَابُنَا الْمُحَدِّثُونَ لِجَوَازِ الأَْخْذِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ حِينَ قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ. (1)
قَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ لَنَا جَوَازُ الأَْخْذِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَخَذَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَحَرَّى وَاجْتَهَدَ فِي تَقْوِيمِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ، وَمِنْ قَوْل أَحْمَدَ فِي الْمُرْتَهِنِ " يَرْكَبُ وَيَحْلُبُ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ ". وَالْمَرْأَةُ تَأْخُذُ مَئُونَتَهَا وَبَائِعُ السِّلْعَةِ يَأْخُذُهَا مِنْ مَال الْمُفْلِسِ بِغَيْرِ رِضًا.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الأَْخْذَ بِحَدِيثِ هِنْدٍ السَّابِقِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلاَصِ حَقِّهِ بِعَيْنِهِ فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، إِنْ لَمْ يَخَفِ الْفِتْنَةَ.
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلاَصِ حَقِّهِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ لَهُ أَخْذَ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا غَيْرُ جِنْسِهِ لِلضَّرُورَةِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: الْمَنْعُ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمَلُّكِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي.
18 - هَذَا، وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَيْضًا بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَخْذَ حَقِّهِ اسْتِقْلاَلاً، وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ، أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، لأَِنَّ فِي الرَّفْعِ إِلَى الْقَضَاءِ مَئُونَةً وَمَشَقَّةً وَتَضْيِيعَ زَمَانٍ. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ الرَّفْعُ إِلَى
__________
(1) حديث هند أخرجه البخاري واللفظ له، ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. (فتح الباري 9 / 507 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1338 ط عيسى الحلبي 1375 هـ) .

(4/153)


الْقَاضِي، لإِِمْكَانِ حُصُولِهِ عَلَى حَقِّهِ مَعَ وُجُودِ الإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ. (1)
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِي مَالِهِ إِذَا أَفْلَسَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ إِنْ كَانَ نَقْدًا أَوْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَال عَرْضًا لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ حَقِّهِ اعْتِيَاضٌ، وَلاَ تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي، لَكِنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ الأَْخْذِ مِنْ خِلاَفِ الْجِنْسِ. (2)
وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ، (3) وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَقَدْ خَانَهُ، فَيَدْخُل فِي عُمُومِ الْخَبَرِ. وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ
__________
(1) المغني لابن قدامة 10 / 288، والقليوبي 4 / 335. واللجنة ترى أن القول بجواز أخذ صاحب الحق مثل حقه من غير رضى ولا حكم حاكم إنما يكون عند أمن الفتنة وإلا لم يجز، لأن درء الفتنة من مقاصد الشريعة المقررة.
(2) المغني 10 / 287 ط القاهرة، ورد المحتار 3 / 200، 4 / 43 ط بولاق 1272، والقليوبي 4 / 335، والفروق 1 / 208.
(3) حديث " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ". أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن غريب. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وأخرجه أبو داود من طريق آخر وسكت عنه، وقال المنذري: فيه رواية مجهول (تحفة الأحوذي 4 / 479 - 481 نشر المكتبة السلفية، وعون المعبود 3 / 313 - 314 ط الهند، وجامع الأصول 1 / 323 نشر مكتبة الحلواني) .

(4/153)


مِنْهُ. (1) وَلأَِنَّهُ إِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ، كَانَ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ تَرَاضٍ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَلَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ الْحَقِّ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَإِنَّ التَّعْيِينَ إِلَيْهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُول: اقْضِ حَقِّي مِنْ هَذَا الْكِيسِ دُونَ هَذَا، وَلأَِنَّ كُل مَا لاَ يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَيْنٌ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ إِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاذِلاً لَهُ.
لَكِنَّ الْمَانِعِينَ اسْتَثْنَوُا النَّفَقَةَ، لأَِنَّهَا تُرَادُ لإِِحْيَاءِ النَّفْسِ وَإِبْقَاءِ الْمُهْجَةِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ يُصْبَرُ عَنْهُ، وَلاَ سَبِيل إِلَى تَرْكِهِ، فَجَازَ أَخْذُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ، بِخِلاَفِ الدَّيْنِ، وَلِذَلِكَ لَوْ صَارَتِ النَّفَقَةُ مَاضِيَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخْذُهَا، وَلَوْ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ غَيْرُ النَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخْذُهُ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة) .

ب - اسْتِيفَاءُ الْمُرْتَهِنِ قِيمَةَ الرَّهْنِ مِنَ الْمَرْهُونِ:
19 - حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل
__________
(1) حديث " لا يحل. . . ". أخرجه أحمد والدارقطني من حديث عم أبي حرة الرقاشي مرفوعا، وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو متكلم فيه. وله طريق أخرى عند الدارقطني أيضا عن أنس، وفي إسنادها داود بن الزبرقان وهو متروك. وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي حميد الساعدي مرفوعا بلفظ " لا يحل لمسلم أن يأخذ مال وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس " وفي رواية " لا يحل لمسلم أن يأخذ عصاه ". قال الهيثمي: ورجال الجميع - أحمد والبزار - رجال الصحيح. قال البيهقي: حديث أبي حميد أصح ما في الباب (مسند أحمد بن حنبل 5 / 72 ط الميمنية، وسنن الدارقطني 3 / 26 ط دار المحاسن للطباعة، ومجمع الزوائد 4 / 171 نشر مكتبة القدسي، ونيل الأوطار 6 / 62 ط دار الجيل 1973) .
(2) نفس المراجع.

(4/154)


كَانَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْقَاضِي فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ، وَيُنْصِفَهُ مِنْهُ، إِنْ لَمْ يُجِبْهُ الرَّاهِنُ إِلَى الْبَيْعِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ غَائِبًا، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
وَإِنْ وَكَّل الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل جَازَ، وَكَرِهَهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ، إِلاَّ أَنْ يَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي.
وَالرَّهْنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ. عَلَى مَعْنَى أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَدَّى بَعْضَ الدَّيْنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَإِنَّ الرَّهْنَ جَمِيعَهُ يَبْقَى بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ كُل حَقِّهِ.
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بَل يَبْقَى مِنَ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنَ الْحَقِّ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُل جُزْءٍ مِنْهُ، أَصْلُهُ حَبْسُ التَّرِكَةِ عَنِ الْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ.
وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ، أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ. (1)
وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِثَمَنِ الرَّهْنِ مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، حَيًّا كَانَ الرَّاهِنُ أَوْ مَيِّتًا، فَإِذَا ضَاقَ مَال الرَّاهِنِ عَنْ دُيُونِهِ وَطَالَبَ الْغُرَمَاءُ بِدُيُونِهِمْ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسِهِ، وَأُرِيدَ قِسْمَةُ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَهُ رَهْنٌ يَخْتَصُّ بِثَمَنِهِ عَنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، لأَِنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الرَّهْنِ وَذِمَّةِ الرَّاهِنِ مَعًا، وَبَاقِي الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ دُونَ عَيْنِ الرَّهْنِ، فَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَقْوَى، وَهَذَا مِنْ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 298 ط مكتبة الكليات، وشرح الخطيب على أبي شجاع 3 / 65 ط الحلبي، والدر المختار 5 / 322، والمغني 4 / 452.

(4/154)


أَكْثَرِ فَوَائِدِ الرَّهْنِ، وَهُوَ تَقْدِيمُهُ بِحَقِّهِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْغُرَمَاءِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَيُبَاعُ الرَّهْنُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ قَدْرَ الدَّيْنِ أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَنْ دَيْنِهِ رَدَّ الْبَاقِيَ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ فَضَل مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ أَخَذَ ثَمَنَهُ وَشَارَكَ الْغُرَمَاءَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ. (1) وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى بَابِ الرَّهْنِ.

ج - حَبْسُ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ:
20 - الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهُ ابْنُ قُدَامَةَ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقْضِيَ الثَّمَنَ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ قَبْل الاِسْتِيفَاءِ كَالْمُرْتَهِنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَجَبَ دَفْعُهُ أَوَّلاً لِيَتَعَيَّنَ. وَفِي رَأْيٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ قَال الْبَائِعُ: لاَ أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ حَتَّى أَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَقَال الْمُشْتَرِي: لاَ أُسَلِّمُهُ حَتَّى أَقْبِضَ الْمَبِيعَ، وَكَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ عَرْضًا، جُعِل بَيْنَهُمَا عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْهُمَا، وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِمَا. مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الثَّمَنِ، كَمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِعَيْنِ الْمَبِيعِ فَاسْتَوَيَا، وَقَدْ وَجَبَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآْخَرِ حَقٌّ قَدِ اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ، فَأُجْبِرَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إِيفَاءِ صَاحِبِهِ حَقَّهُ، وَهَذَا قَوْل الثَّوْرِيِّ.
وَفِي قَوْلٍ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَوَّلاً، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ الْبَائِعُ، لأَِنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا
__________
(1) المغني 4 / 452 ط المنار الثانية، وحاشية ابن عابدين 5 / 239 ط الأميرية.

(4/155)


أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، لأَِنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ، وَحَقَّ الْبَائِعِ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، وَتَقْدِيمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ. (1)
د - الاِسْتِيفَاءُ فِي الإِْجَارَةِ:
(1) اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ:
21 - الْمَنْفَعَةُ تَخْتَلِفُ فِي كُل عَقْدٍ بِحَسَبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَاؤُهَا يَكُونُ بِتَمْكِينِ الْمُؤَجِّرِ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ مَحَل الْعَقْدِ. وَيَكُونُ الاِسْتِيفَاءُ فِي الأَْجِيرِ الْخَاصِّ (وَيُسَمَّى أَجِيرُ الْوَحْدِ) بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ مَعَ اسْتِعْدَادِهِ لِلْعَمَل. وَاسْتِيفَاءُ الإِْجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي عَيْنٍ - كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ مَثَلاً - يَكُونُ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ مَصْنُوعَةً حَسَبَ الاِتِّفَاقِ.

(2) اسْتِيفَاءُ الأُْجْرَةِ:
22 - اسْتِيفَاءُ الأُْجْرَةِ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ: إِمَّا بِتَعْجِيل الأُْجْرَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِمَّا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِعْلاً، أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْهَا، وَإِمَّا بِاشْتِرَاطِ تَعْجِيلِهَا، أَوِ التَّعَارُفِ عَلَى التَّعْجِيل كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ. (2)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ) .
__________
(1) الإنصاف 4 / 458، والشرح الكبير على المقنع 4 / 113 ط المنار الثانية، وحاشية ابن عابدين 3 / 43، ومغني المحتاج 2 / 74، والدسوقي 3 / 147.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 6 - 7، والبدائع 4 / 175 ط الجمالية، والبجيرمي على الخطيب 3 / 176، والشرح الصغير للدردير 4 / 13 ط دار المعارف، والمغني 5 / 330 ط مكتبة القاهرة.

(4/155)


هـ - اسْتِيفَاءُ الْمُسْتَعِيرِ مَنْفَعَةَ مَا اسْتَعَارَهُ:
23 - أَوْرَدَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَحْكَامَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الإِْعَارَةِ فَقَال: وَإِنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا فَلَهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ، لأَِنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَيَدُهُ كَيَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْمَنَافِعَ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهَا، وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لاَ يَمْلِكُ الْعَيْنَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ اسْتِعْمَال الْمُعَارِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، أَمَّا إِعَارَتُهُ لِغَيْرِهِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِعَارَةٌ) .

و النِّيَابَةُ فِي الاِسْتِيفَاءِ:
(1) اسْتِخْلاَفُ الإِْمَامِ غَيْرَهُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ:
24 - أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ فِي أَقْطَارِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا، وَفِي الإِْحْضَارِ إِلَى مَكَانِ الإِْمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الاِسْتِخْلاَفُ لَتَعَطَّلَتِ الْحُدُودُ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجْعَل إِلَى أُمَرَائِهِ تَنْفِيذَ الأَْحْكَامِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ.
وَالاِسْتِخْلاَفُ نَوْعَانِ: تَنْصِيصٌ، وَتَوْلِيَةٌ.
أَمَّا التَّنْصِيصُ: فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ، فَيَجُوزُ لِلنَّائِبِ إِقَامَتُهَا بِلاَ شَكٍّ.
وَالتَّوْلِيَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: خَاصَّةٌ، وَعَامَّةٌ.
فَالْعَامَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ رَجُلاً وِلاَيَةً عَامَّةً، مِثْل إِمَارَةِ إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ عَظِيمٍ، فَيَمْلِكُ الْمُوَلَّى إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، لأَِنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إِمَارَةَ ذَلِكَ

(4/156)


الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِمْ، فَيَمْلِكُهَا. (1)
وَالْخَاصَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلاً وِلاَيَةً خَاصَّةً، مِثْل جِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلاَ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، لأَِنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَل إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَلَوِ اسْتَعْمَل أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، فَإِنْ كَانَ أَمِيرَ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فِي مُعَسْكَرِهِ، لأَِنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الإِْقَامَةَ فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا خَرَجَ بِأَهْلِهِ أَوْ بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَمْلِكُ فِيهِمْ قَبْل الْخُرُوجِ، وَأَمَّا مَنْ أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فَمَنْ كَانَ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ قَبْل خُرُوجِهِ وَبَعْدَهُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ الإِْقَامَةَ، فَلاَ يَمْلِكُ الإِْقَامَةَ. (2)

(2) الْوَكَالَةُ بِالاِسْتِيفَاءِ:
25 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ كُل مَا يَمْلِكُ الإِْنْسَانُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّل فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَوَدُ وَالْحُدُودُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: كُل مَا يَمْلِكُ الإِْنْسَانُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنَ الْحُقُوقِ بِنَفْسِهِ، يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّل فِيهِ إِلاَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا الْوَكِيل فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّل عَنْ مَجْلِسِ الاِسْتِيفَاءِ، لأَِنَّهَا تَنْدَرِئُ
__________
(1) ومثل هذا لا يختلف فيه، وعند إطلاق التولية ينصرف ما يملكه النائب إلى ما يدل عليه العرف.
(2) البدائع 7 / 58 ط الجمالية الأولى، والمغني 9 / 37 ط مكتبة القاهرة، والأحكام السلطانية للآمدي ص 221 ط الحلبي، وتبصرة الحكام 1 / 149 ط الحلبي 1958.

(4/156)


بِالشُّبُهَاتِ. (1)
وَاسْتَدَل الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيل فِي الْقَوَدِ وَالْحُدُودِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. فَاعْتَرَفَتْ فَرُجِمَتْ (2) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، لأَِنَّ الإِْمَامَ لاَ يُمْكِنُهُ تَوَلِّي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ التَّوْكِيل فِي إِثْبَاتِهَا. وَوَافَقَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنْ عَدَم جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّل (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 418.
(2) حديث " اغد يا أنس ". أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني مرفوعا ضمن قصة (فتح الباري 12 / 185، 186، ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1324، 1325 ط عيسى الحلبي 1375 هـ) .
(3) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 297، والبجيرمي على الخطيب 3 / 112، والمغني 5 / 66 وما بعدها.

(4/157)


اسْتِيلاَء

التَّعْرِيفُ
1 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِيلاَءِ لُغَةً: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْغَلَبَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ. (1)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَحَل (2) ، أَوْ الاِقْتِدَارُ عَلَى الْمَحَل حَالاً وَمَآلاً (3) ، أَوِ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَلَوْ حُكْمًا. (4)
وَأَمَّا الْفِعْل الْمَادِّيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِسْتِيلاَءُ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِلأَْشْيَاءِ وَالأَْشْخَاصِ، أَيْ أَنَّ مَدَارَ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْعُرْفِ (5) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِيَازَةُ:
2 - الْحِيَازَةُ وَالْحَوْزُ لُغَةً: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ. (6)
وَشَرْعًا: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ، كَمَا قَال الدَّرْدِيرُ (7) .
__________
(1) المصباح والقاموس مادة (ولي) .
(2) البدائع 7 / 121 ط الثانية سنة 1394 هـ.
(3) البحر الرائق 5 / 103.
(4) حاشية القليوبي 3 / 26 ط عيسى الحلبي، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 469 ط دار إحياء التراث.
(5) حاشية الجمل 3 / 469.
(6) المصباح مادة (حوز) وطلبة الطلبة ص 106، والتحرير على التنبيه للنووي ص 141.
(7) الشرح الصغير 4 / 319، والفواكه الدواني 2 / 168.

(4/157)


ب - الْغَصْبُ:
3 - الْغَصْبُ لُغَةً: أَخْذُ الشَّيْءِ قَهْرًا وَظُلْمًا. (1)
وَشَرْعًا: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِلاَ حَقٍّ. (2)
فَالْغَصْبُ أَخَصُّ مِنْ الاِسْتِيلاَءِ، لأَِنَّ الاِسْتِيلاَءَ يَكُونُ بِحَقٍّ وَبِغَيْرِ حَقٍّ.

ج - وَضْعُ الْيَدِ:
4 - يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ هُوَ: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْحِيَازَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ وَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الْمِلْكِ، وَلِذَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يُخْرِجَ شَيْئًا مِنْ يَدِ أَحَدٍ إِلاَّ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ (3) ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ.

د - الْغَنِيمَةُ:
5 - الاِغْتِنَامُ: أَخْذُ الْغَنِيمَةِ، وَهِيَ كَمَا قَال أَبُو عُبَيْدٍ: مَا أُخِذَ مِنْ أَهْل الْعَدُوِّ عَنْوَةً فَالاِغْتِنَامُ أَخَصُّ مِنْ الاِسْتِيلاَءِ. (4)

هـ - الإِْحْرَازُ:
6 - الإِْحْرَازُ لُغَةً: جَعْل الشَّيْءِ فِي الْحِرْزِ، وَهُوَ
__________
(1) المصباح المنير مادة (غصب) .
(2) شرح المنهج مع حاشية الجمل 4 / 469، وكشاف القناع 4 / 76، وحاشية الدسوقي 3 / 442، والدر المختار 5 / 113 ط بولاق سنة 1472 هـ، والفواكه الدواني 2 / 216.
(3) المصباح والقاموس، وحاشية ابن عابدين 3 / 257، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 370.
(4) المصباح، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 248 ط دار المعارف بيروت، وفتح القدير 4 / 203.

(4/158)


الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ. وَفِي الشَّرْعِ: حِفْظُ الْمَال فِيمَا يُحْفَظُ فِيهِ عَادَةً، كَالدَّارِ وَالْخَيْمَةِ، أَوْ بِالشَّخْصِ نَفْسِهِ (1) .
وَبَيْنَ الإِْحْرَازِ وَالاِسْتِيلاَءِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. وَلِذَا كَانَ الإِْحْرَازُ شَرْطًا لِتَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَى الاِسْتِيلاَءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَيَنْفَرِدُ الاِسْتِيلاَءُ فِي مِثْل اسْتِيلاَءِ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِحْرَازًا.

صِفَةُ الاِسْتِيلاَءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
7 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِسْتِيلاَءِ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَتَبَعًا لِكَيْفِيَّةِ الاِسْتِيلاَءِ، فَالأَْصْل بِالنِّسْبَةِ لِلْمَال الْمَعْصُومِ الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ أَنَّ الاِسْتِيلاَءَ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ.
أَمَّا الْمَال غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، وَكَذَا الْمَال الْمُبَاحُ فَإِنَّهُ يُمْلَكُ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

أَثَرُ الاِسْتِيلاَءِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّمَلُّكِ:
8 - الاِسْتِيلاَءُ يُفِيدُ الْمِلْكَ إِذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ، أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، بِأَنْ كَانَ مَالاً لَلْحَرْبِيِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولاً، أَوْ عَقَارًا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ الْخَاصُّ.
9 - فَإِنْ كَانَ الْمَال الَّذِي تَمَّ الاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ مِنَ
__________
(1) القاموس والمصباح مادة (حرز) ، وطلبة الطلبة ص 77، والنظم المستعذب 1 / 366 ط م الحلبي، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 220 ط دار المعارف، وحاشية ابن عابدين 5 / 282 ط أولى بولاق.

(4/158)


الْحَرْبِيِّينَ مَنْقُولاً أُخِذَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا. (1) وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الاِسْتِيلاَءِ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِتَال، لِزَوَال مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالاِسْتِيلاَءِ، وَوُجُودِ مُقْتَضَى التَّمْلِيكِ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْقِتَال، وَفِي قَوْلٍ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ سُلِّمَتِ الْغَنِيمَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى الشُّيُوعِ. (2)
وَبِالْقِسْمَةِ - وَلَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ - ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَيَسْتَقِرُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو ثَوْرٍ، لِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَال: قُلْتُ لِلأَْوْزَاعِيِّ: هَل قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ قَال: لاَ أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَقْفُل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ، أَصَابَ فِيهَا غَنِيمَةً إِلاَّ خَمَّسَهُ وَقَسَّمَهُ مِنْ قَبْل أَنْ يَقْفُل، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالاِسْتِيلاَءِ، فَصَحَّتْ قِسْمَتُهَا كَمَا لَوْ أُحْرِزَتْ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الاِسْتِيلاَءُ التَّامُّ وَقَدْ وُجِدَ، فَإِنَّنَا أَثْبَتْنَا أَيْدِيَنَا عَلَيْهَا حَقِيقَةً، وَقَهَرْنَاهُمْ وَنَفَيْنَاهُمْ عَنْهَا، وَالاِسْتِيلاَءُ يَدُل عَلَى حَاجَةِ الْمُسْتَوْلِي فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ كَالْمُبَاحَاتِ. (3)
__________
(1) البدائع 7 / 121، والمغني 8 / 446 - 447.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 139 ط 1960، ونهاية المحتاج 8 / 73.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 194، ومنح الجليل 1 / 745، 750. ونهاية المحتاج 8 / 73، والمغني 8 / 421 - 422.

(4/159)


10 - لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمِلْكَ لاَ يَثْبُتُ لِلْغُزَاةِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِالاِسْتِيلاَءِ، وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا، عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الإِْحْرَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يَعْتَبِرُوا قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قِسْمَةَ تَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ قِسْمَةُ حَمْلٍ، لأَِنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَائِمٌ، إِذْ الْمِلْكُ لاَ يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالاِسْتِيلاَءِ التَّامِّ، وَلاَ يَحْصُل إِلاَّ بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَمَا دَامَ الْغُزَاةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتِرْدَادُ الْكُفَّارِ لَيْسَ بِنَادِرٍ بَل هُوَ مُحْتَمَلٌ (1) .

11 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَال الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ أَرْضًا، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةَ اتِّجَاهَاتٍ: فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ - عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ - صَرَّحُوا بِأَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمَهَا أَوْ يَتْرُكَهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: إِنَّهَا لاَ تُقْسَمُ، وَيُرْصَدُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الإِْمَامُ فِي وَقْتٍ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ، وَالْقَوْل بِأَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِالاِسْتِيلاَءِ، وَيُرْصَدُ خَرَاجُهَا لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا تُمَلَّكُ لِلْفَاتِحِينَ كَالْمَنْقُول.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال ابْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَابِل الْمَشْهُورَ، وَقَالُوا: إِنَّ الاِسْتِيلاَءَ الْحُكْمِيَّ كَالْحَقِيقِيِّ فِي تَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَى الاِسْتِيلاَءِ. (3)
__________
(1) البدائع 7 / 116، 118 - 121، والمغني 8 / 421.
(2) المغني 2 / 118، والمقنع وحواشيه 1 / 510.
(3) البدائع 7 / 118، وحاشية الدسوقي 2 / 189، ونهاية المحتاج 8 / 73، 119، والأحكام السلطانية للماوردي 137 - 138، والمغني 2 / 717، وكشاف القناع 4 / 128، 133، ومنح الجليل 1 / 585 - 586.

(4/159)


12 - أَمَّا الأَْرْضُ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ جَلاَءِ الْكُفَّارِ عَنْهَا خَوْفًا، فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا وَقْفًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الأَْرْضُ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي أَيْدِي أَصْحَابِهَا، إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تَبْقَى فِي مِلْكِيَّتِهِمْ، وَيُوضَعُ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. (1)

13 - وَأَمَّا إِذَا كَانَ الاِسْتِيلاَءُ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّمَلُّكِ، فَإِنَّ الاِسْتِيلاَءَ وَحْدَهُ لاَ يُكْسِبُ مِلْكِيَّةً، (2) وَإِنَّمَا حُدُوثُ التَّمَلُّكِ يَكُونُ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَحَقُّ الاِسْتِيلاَءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَثَرًا وَنَتِيجَةً لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَ سَبَبًا لَهُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الاِسْتِيلاَءُ عُدْوَانًا، فَإِنَّهُ لاَ يُفِيدُ مِلْكًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (غَصْب) (وَسَرِقَة) .

14 - وَاسْتِيلاَءُ الْحَاكِمِ عَلَى مَا يَحْتَكِرُهُ التُّجَّارُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِزَالَةِ مِلْكِيَّتِهِمْ، إِذْ لِلْحَاكِمِ رَفْعُ يَدِ الْمُحْتَكِرِينَ عَمَّا احْتَكَرُوهُ وَبَيْعُهُ لِلنَّاسِ جَبْرًا، وَالثَّمَنُ لِمَالِكِيهِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ مُبَيَّنٍ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنِ اسْتِيلاَءِ الْحَاكِمِ عَلَى الْفَائِضِ مِنَ الأَْقْوَاتِ بِالْقِيمَةِ لإِِمْدَادِ جِهَةٍ انْقَطَعَ عَنْهَا الْقُوتُ أَوْ إِمْدَادِ جُنُودِهِ، لأَِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُخْرِجَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 137 - 138، والمغني 2 / 719.
(2) البدائع 7 / 121، 127، والمغني 8 / 430، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 187، ونهاية المحتاج 8 / 73، والمهذب 2 / 243.

(4/160)


حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ (1) ، وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَى عَمَل الصَّانِعِ إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلاَحَةِ وَالنِّسَاجَةِ، (2) وَمَدَارُ الاِسْتِيلاَءِ فِي الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْعُرْفِ.

اسْتِيلاَءُ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ:
(1) إِنَّ مَا اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي الْحَرْبِيِّينَ فَهُوَ لأَِرْبَابِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لاَ يَمْلِكُونَ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا أَصْلاً، وَمِمَّنْ قَال بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، (3) وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّهُ أُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَْنْصَارِ، وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ، فَانْفَلَتَتْ مَعَ نَعَمِهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَأَتَتِ الإِْبِل، فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ، فَلَمْ تَرْغُ. قَال: وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ. فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ، وَنَذَرُوا بِهَا، فَطَلَبُوهَا فَأَعْجَزَتْهُمْ. قَال: وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا. فَأَتَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 257.
(2) البدائع 5 / 129، والشرح الصغير 4 / 39، وحاشية الجمل 4 / 469.
(3) المغني 8 / 433 - 434، والمهذب 2 / 242، وبجيرمي على المنهج 4 / 259.

(4/160)


لَهُ فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَجَرٍ لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (1) .
(2) إِنَّ مَا غَنِمَهُ الْكُفَّارُ يَمْلِكُونَهُ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ أَوْ لَمْ يُحْرِزُوهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَال الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَال الْمُسْلِمِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ كَانَ غَنِيمَةً سَوَاءٌ بَعْدَ الإِْحْرَازِ أَوْ قَبْلَهُ. (2)
(3) إِنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا شَرْطَ إحْرَازِهَا بِدَارِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَدَلِيلُهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: وَهَل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبَاعٍ (3) وَلأَِنَّ الْعِصْمَةَ تَزُول بِالإِْحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، إِذِ الْمَالِكُ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بَعْدَ الدُّخُول لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةٍ، إِذْ الدَّارُ دَارُهُمْ، فَإِذَا زَال مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ يَزُول الْمِلْكُ ضَرُورَةً، فَبِاسْتِرْدَادِ الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ يَكُونُ غَنِيمَةً. (4)
__________
(1) حديث عمران بن حصين. أخرجه مسلم وأبو داود مرفوعا واللفظ لمسلم (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1262، 1263 ط عيسى الحلبي 1375 هـ، وسنن أبي داود 3 / 609 - 612 ط استانبول) .
(2) المغني 8 / 433 - 434.
(3) حديث " وهل ترك لنا. . .، متفق عليه في حديث أسامة بن زيد (اللؤلؤ والمرجان ص 313 نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت 1397 هـ) .
(4) تبيين الحقائق 3 / 260 - 261، والبدائع 7 / 123، 127، 128، وحاشية الدسوقي 2 / 188، والمهذب 2 / 242، والمغني 8 / 430 وما بعدها، وبداية المجتهد 1 / 416، والدر المختار 3 / 244، وحاشية الصاوي 2 / 291.

(4/161)


اسْتِيلاَءُ
الْكُفَّارِ عَلَى بَلَدٍ إِسْلاَمِيٍّ:
16 - إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بَلَدٍ إِسْلاَمِيٍّ فَهَل تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ أَمْ تَبْقَى كَمَا هِيَ دَارَ إِسْلاَمٍ؟
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ دَارَ الإِْسْلاَمِ تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إِظْهَارُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَارُ الإِْسْلاَمِ وَدَارُ الْحَرْبِ) .

إِسْلاَمُ الْحَرْبِيِّ بَعْدَ اسْتِيلاَئِهِ عَلَى مَال الْمُسْلِمِ:
17 - إِذَا اسْتَوْلَى الْحَرْبِيُّ عَلَى مَال مُسْلِمٍ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَحُكِمَ بِمِلْكِيَّتِهِ لَهُ شَرْعًا، ثُمَّ دَخَل إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ مُسْلِمًا وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ (2) وَلأَِنَّ إِسْلاَمَهُ يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (3) . وَاسْتَثْنَى الْجُمْهُورُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِيلاَءَهُ عَلَى الْحُرِّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 232، وحاشية ابن عابدين 3 / 253.
(2) حديث: " من أسلم على شيء فهو له " أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، وقال المناوي: في إسناده ياسين بن الزيات متروك. قال البيهقي: وهذا الحديث إنما يروى عن ابن أبي مليكه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن عروة عن النبي صل وللحديث طرق أخرى، ولم نجد من حكم على الحديث بمجموع طرقه. (السنن الكبرى للبيهقي 9 / 113 ط الهند، وكتاب السنن لسعيد بن منصور، القسم الأول من المجلد الثالث / 54، 55 ط مطبعة علمي بريس (ماليكاؤن) ، وفيض القدير 6 / 62 ط المكتبة التجارية، وإرواء الغليل 6 / 156 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 3 / 262 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 51، 52 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .

(4/161)


الْمُسْلِمِ فَلاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ. قَال أَبُو يُوسُفَ: كُل مِلْكٍ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ فَإِنَّ أَهْل الْحَرْبِ لاَ يَمْلِكُونَهُ إِذَا أَصَابُوهُ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْلَهُ: الْوَقْفُ الْمُحَقَّقُ، وَالْمَسْرُوقُ فِي فَتْرَةِ عَهْدِهِ، وَاللُّقَطَةُ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ، الْوَدِيعَةُ، وَمَا اسْتَأْجَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَال كُفْرِهِ فَلاَ يُقَرُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى ذَلِكَ. (1)
18 - وَإِذَا اسْتَوْلَى الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ عَلَى مَال مُسْلِمٍ بِطَرِيقِ السَّرِقَةِ، أَوْ الاِغْتِصَابِ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَدَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حَال كُفْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَهْرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَاحِبَهُ أَحَقُّ بِهِ بِالْقِيمَةِ (2) .

الاِسْتِيلاَءُ عَلَى الْمَال الْمُبَاحِ:
19 - الْمَال الْمُبَاحُ كُل مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ، وَلَيْسَ فِي حِيَازَةِ أَحَدٍ مَعَ إِمْكَانِ حِيَازَتِهِ، وَيَكُونُ حَيَوَانًا: بَرِّيًّا أَوْ بَحْرِيًّا، وَيَكُونُ نَبَاتًا: حَشَائِشَ وَأَعْشَابًا وَحَطَبًا، وَيَكُونُ جَمَادًا: أَرْضًا مَوَاتًا وَرِكَازًا، كَمَا يَكُونُ مَاءً وَهَوَاءً، وَمِنْ حَقِّ أَيِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ، وَيَتَحَقَّقُ الاِسْتِيلاَءُ وَتَسْتَقِرُّ الْمِلْكِيَّةُ إِذَا كَانَ الاِسْتِيلاَءُ بِفِعْلٍ يُؤَدِّي إِلَى التَّمَكُّنِ مِنْ وَضْعِ الْيَدِ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمِّ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الدسوقي 2 / 188.
(2) المغني 8 / 434، والخراج لأبي يوسف ص 200 ط ثانية 1353 هـ، والسير الكبير 2 / 688، والشرح الصغير 2 / 291 ط دار المعارف، والمنهج مع حاشية البجيرمي 4 / 257 ط 1369 هـ.

(4/162)


قَال: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ (1) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ (3) وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَقَارِ الْمُبَاحِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُول مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَوْلَى، لِظُهُورِ الاِسْتِئْثَارِ بِهِ ظُهُورًا لاَ يَكُونُ فِي الْعَقَارِ.
وَلاَ يَحُدُّ مِنْ سُلْطَانِ النَّاسِ فِي الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْمَال الْمُبَاحِ إِلاَّ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِتَنْظِيمِ الاِنْتِفَاعِ وَمَنْعِ الضَّرَرِ.
20 - وَلِكُل نَوْعٍ مِنَ الأَْمْوَال الْمُبَاحَةِ طَرِيقٌ لِلاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ، فَالاِسْتِيلاَءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُبَاحِ وَالرِّكَازِ يَكُونُ بِالْحَوْزِ وَالْكَشْفِ، وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَى الْكَلأَِ
__________
(1) حديث: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له ". أخرجه أبو داود من حديث أسمر بن مضرس رضي الله عنه مرفوعا. ونقل صاحب عون المعبود عن ابن حجر تجهيل بعض رواته. قال المنذري: غريب. وقال أبو القاسم البغوي: لا أعلم بهذا الإسناد حديثا (عون المعبود 3 / 142 وجامع الأصول 10 / 584 نشر مكتبة الحلواني) .
(2) حديث: " من أحاط حائطا على أرض فهي له " أخرجه أبو داود وأحمد والضياء المقدسي من حديث الحسن عن سمرة بن جندب، رضي الله عنه مرفوعا، قال ابن حجر: في صحة سماع الحسن عن سمرة خلاف، وأشار المنذري أيضا إلى هذا الخلاف. وقال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: وفيه ضعف، وأخرجه أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بهذا اللفظ، قال البنا الساعاتي في تخريجه: أخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي، وقال الترمذي: حديث صحيح (مختصر سنن أبي داود للمنذري 4 / 226 نشر دار المعرفة، ومسند أحمد بن حنبل 5 / 12 ط الميمنية، والفتح الرباني 15 / 130، 131 الطبعة الأولى 1370 هـ، وفيض القدير 6 / 29) .
(3) حديث: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ". علقه البخاري من حديث جابر رضي الله عنه، وذكر ابن حجر في شرحه شواهد هذا الحديث، وقال: وفي أسانيدها مقال، ولكن يتقوى بعضها ببعض (فتح الباري 5 / 18 ط السلفية) .

(4/162)


وَالْعُشْبِ يَكُونُ بِالْحَشِّ، وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَيَوَانِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يَكُونُ بِالاِصْطِيَادِ، وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَى الأَْرْضِ الْمَوَاتِ يَكُونُ بِالإِْحْيَاءِ، وَبِإِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ. (1)

تَنَوُّعُ الاِسْتِيلاَءِ:
21 - الاِسْتِيلاَءُ يَكُونُ حَقِيقِيًّا بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُبَاحِ فِعْلاً، وَهَذَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، قَال الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِضَبْطِهِ بِالْيَدِ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ، فَمُلِكَ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، سَوَاءٌ أَقَصَدَ بِذَلِكَ مِلْكَهُ أَمْ لاَ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ مَلَكَهُ. وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلاَمِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالاِسْتِيلاَءِ الْحَقِيقِيِّ الْمِلْكِيَّةُ مُسْتَقِرَّةً، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الاِسْتِيلاَءُ حَقِيقِيًّا إِذَا كَانَ بِآلَةٍ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ، وَكَانَ وَاضِعُهَا قَرِيبًا مِنْهَا، بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا لأََمْسَكَ الصَّيْدَ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ. وَمِنْ هَذَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا طَائِرٌ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الطَّيَرَانُ، أَوْ أَغْرَى كَلْبًا مُعَلَّمًا فَاصْطَادَ حَيَوَانًا، فَإِنَّ مَنْ نَصَبَ الشَّبَكَةَ وَمَنْ أَغْرَى الْكَلْبَ يَتَمَلَّكُ الصَّيْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ مَالِكُ الشَّبَكَةِ وَالْكَلْبِ أَمْ كَانَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ.
22 - وَيَكُونُ الاِسْتِيلاَءُ حُكْمِيًّا، وَهُوَ مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ الآْلَةِ وَحْدَهَا الَّتِي تُهَيِّئُ الْمُبَاحَ لِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ وَاضِعُهَا قَرِيبًا مِنْهَا. كَحُفْرَةٍ فِي جَوَرَةِ
__________
(1) البدائع 6 / 193 - 194، والفتاوى الهندية 5 / 390 - 393، 417، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 298، والمبسوط 11 / 251، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 1 / 167، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 110، ومنح الجليل 1 / 585 - 586، ونهاية المحتاج 8 / 117 - 119، والمغني 8 / 562 - 564، وكشاف القناع 4 / 122، 187.

(4/163)


الْمُنْتَفِعِ بِالأَْرْضِ أَوْ مَالِكِهَا تَجَمَّعَ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ، فَلاَ بُدَّ لِتَمَلُّكِ مَا تَجَمَّعَ فِيهَا مِنْ مَاءٍ مِنْ وُجُودِ الْقَصْدِ، أَمَّا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَإِنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَثْبُتُ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ، وَلاَ تَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِصَيْرُورَةِ الاِسْتِيلاَءِ حَقِيقِيًّا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ. (1)
23 - وَقَدْ سُئِل الْحَلْوَانِيُّ الْحَنَفِيُّ عَمَّنْ عَلَّقَ كُوزَهُ، أَوْ وَضَعَهُ فِي سَطْحِهِ، فَأَمْطَرَ السَّحَابُ وَامْتَلأََ الْكُوزُ مِنَ الْمَطَرِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ وَأَخَذَ ذَلِكَ الْكُوزَ مَعَ الْمَاءِ، هَل لِصَاحِبِ الْكُوزِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَعَ الْمَاءِ؟ فَقَال: لاَ إِشْكَال فِي اسْتِرْدَادِ الْكُوزِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أُعِدَّ الْكُوزُ لِذَلِكَ حُقَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ.
وَلَوْ الْتَجَأَ صَيْدٌ إِلَى أَرْضِ رَجُلٍ أَوْ إِلَى دَارِهِ، فَلاَ يُعَدُّ ذَلِكَ اسْتِيلاَءً مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ أَوِ الدَّارِ، لأَِنَّهُمَا لَمْ يُعَدَّا لِلاِصْطِيَادِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنْهُ فِعْل الاِسْتِيلاَءِ، أَمَّا إِذَا رَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَابَ بِنِيَّةِ أَخْذِهِ مَلَكَهُ، لِتَحَقُّقِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ مَعَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ.
وَمَنْ نَصَبَ فُسْطَاطًا فَالْتَجَأَ إِلَيْهِ صَيْدٌ لَمْ يَمْلِكْ، لأَِنَّ الْفُسْطَاطَ لَمْ يَكُنْ آلَةَ صَيْدٍ، وَمَا كَانَ نَصَبَهُ بِقَصْدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الصَّيْدِ، وَكَذَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلتَّجْفِيفِ فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ عَلَّقَ الشَّبَكَةَ حَاضِرًا بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ، إِذْ الْقَصْدُ مَرْعِيٌّ فِي التَّمَلُّكِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ إِنْ حَضَرَ وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِالشَّبَكَةِ.
وَتَفْصِيل كُل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اصْطِيَادٌ) . (2)
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.

(4/163)


اسْتِيلاَد

التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِيلاَدُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَوْلَدَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ إِذَا أَحْبَلَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حُرَّةً أَمْ أَمَةً. (1) وَاصْطِلاَحًا كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ: تَصْيِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ. (2) وَعَرَّفَ غَيْرُهُمْ أُمَّ الْوَلَدِ بِتَعَارِيفَ مِنْهَا: قَوْل ابْنِ قُدَامَةَ: إِنَّهَا الأَْمَةُ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فِي مِلْكِهِ. (3) فَأُمُّ الْوَلَدِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّقِيقِ الَّذِي لَهُ فِي الْفِقْهِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ مِنْ حَيْثُ نُشُوءُهُ وَمَا يَتْلُوهُ، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (اسْتِرْقَاق وَرِقّ) ، وَالْكَلاَمُ هُنَا مُنْحَصِرٌ فِيمَا تَنْفَرِدُ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ عَنْ سَائِرِ الرَّقِيقِ مِنْ أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ وَلَدِهَا.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِتْقُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْعِتْقِ فِي اللُّغَةِ: السَّرَاحُ وَالاِسْتِقْلاَل.
وَشَرْعًا: رَفْعُ مِلْكِ الآْدَمِيِّينَ عَنْ آدَمِيٍّ مُطْلَقًا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الاِسْتِيلاَدِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلْحُرِّيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِتْقَ قَدْ يَكُونُ
__________
(1) المصباح مادة (ولد) ، وانفرد الحنفية بهذا العنوان (استيلاد) أما غيرهم من فقهاء المذاهب فقد عنونوا لذلك بـ (أمهات الأولاد) .
(2) البدائع 4 / 123.
(3) المغني 9 / 527 ط الرياض.

(4/164)


مُنْجَزًا، أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَتَصِيرُ حُرَّةً بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا غَالِبًا، إِذْ يَجُوزُ عِتْقُهَا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ حَال حَيَاةِ السَّيِّدِ.

التَّدْبِيرُ:
3 - التَّدْبِيرُ: تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ، كَأَنْ يَقُول السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ دُبُرَ مَوْتِي أَيْ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ مَا شَابَهُ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الاِسْتِيلاَدِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَكِنَّ التَّدْبِيرَ بِالْقَوْل، وَالاِسْتِيلاَدَ بِالْفِعْل.

الْكِتَابَةُ:
4 - الْكِتَابَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ: بَيْعُ السَّيِّدِ نَفْسَ رَقِيقِهِ مِنْهُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَيُعْتَقُ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ بَعْدَ أَدَاءِ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ، فَكُلٌّ مِنْ الاِسْتِيلاَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ سَبَبٌ لِلْحُرِّيَّةِ إِلاَّ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ بِعِوَضٍ.

التَّسَرِّي:
5 - التَّسَرِّي إِعْدَادُ الرَّجُل أَمَتَهُ لأََنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِيلاَدِ حُصُول الْوِلاَدَةِ (1) .

صِفَةُ الاِسْتِيلاَدِ، وَحُكْمُهُ التَّشْرِيعِيُّ، وَحِكْمَةُ التَّشْرِيعِ:
6 - قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: لاَ خِلاَفَ فِي إِبَاحَةِ التَّسَرِّي وَوَطْءِ الإِْمَاءِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) وَقَدْ كَانَتْ
__________
(1) حاشية البجيرمي على المنهج 4 / 412، 423، 427، وابن عابدين 3 / 113.
(2) سورة المؤمنون / 5، 6.

(4/164)


مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ أُمَّ وَلَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ وَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ هَاجَرُ أُمَّ إِسْمَاعِيل سُرِّيَّةَ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أُمَّهَاتُ أَوْلاَدٍ، وَكَذَلِكَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلِكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَانَ عَلِيٌّ زَيْنُ الْعَابِدِينَ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، مِنْ أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ،
وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَرْغَبُونَ فِي أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ حَتَّى وُلِدَ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ، فَرَغِبَ النَّاسُ فِيهِنَّ. (1)
وَيُقْصَدُ بِالاِسْتِيلاَدِ الْوَلَدُ، فَقَدْ يَرْغَبُ الشَّخْصُ فِي الأَْوْلاَدِ وَلاَ يَتَيَسَّرُ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَائِرِ، وَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى مَنْ تَلِدُ لَهُ.
وَمَنْ تَحْمِل مِنْ سَيِّدِهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مِنْ كُل مَالِهِ تَبَعًا لِوَلَدِهَا. (2)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ (3) .
__________
(1) المغني 9 / 527، 528.
(2) شرح المنهج 4 / 442، 443.
(3) حديث " أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه " أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ " أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته " قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: وفيه حسين وهو متروك. وأخرجه ابن ماجه بلفظ مقارب. وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: في إسناده الحسين بن عبد الله بن عباس، تركه ابن المديني وغيره، وضعفه أبو حاتم وغيره، وقال البخاري: إنه كان يتهم بالزندقة (المستدرك 2 / 19 نشر دار الكتاب العربي، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 841 ط عيسى الحلبي 1373 هـ) .

(4/165)


وَالاِسْتِيلاَدُ وَسِيلَةٌ لِلْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ. (1)

حُكْمُ وَلَدِ الْمُسْتَوْلَدَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا:
7 - إِذَا صَارَتِ الأَْمَةُ أُمَّ وَلَدٍ بِوِلاَدَتِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ فِي الْعِتْقِ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا أَوْلاَدُهَا الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ قَبْل ثُبُوتِ حُكْمِ الاِسْتِيلاَدِ لَهَا فَلاَ يَتَّبِعُونَهَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ حُكْمُ أُمِّهِمْ. (2)

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الاِسْتِيلاَدُ وَشَرَائِطُهُ:
8 - يَتَحَقَّقُ الاِسْتِيلاَدُ (بِمَعْنَى أَنْ تَصِيرَ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ) بِوِلاَدَةِ الْوَلَدِ الْحَيِّ أَوِ الْمَيِّتِ، لأَِنَّ الْمَيِّتَ وَلَدٌ، بِهِ تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُ الْوِلاَدَةِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ الْمَرْأَةُ نُفَسَاءَ، وَكَذَا إِذَا أَسْقَطَتْ سَقْطًا مُسْتَبِينًا خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ وَأَقَرَّ السَّيِّدُ بِوَطْئِهَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ الْكَامِل الْخِلْقَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا ثُبُوتُ النَّسَبِ إِذَا أَقَرَّ السَّيِّدُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ اشْتَرَطُوا إِقْرَارَهُ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ.
وَإِذَا تَزَوَّجَ الشَّخْصُ أَمَةَ غَيْرِهِ فَأَوْلَدَهَا أَوْ أَحْبَلَهَا ثُمَّ مَلَكَهَا بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ مَلَكَهَا حَامِلاً فَوَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ مَلَكَهَا بَعْدَ وِلاَدَتِهَا، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لأَِنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِمَمْلُوكٍ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الاِسْتِيلاَدِ.
وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالَيْنِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ وَهُوَ
__________
(1) الدسوقي 4 / 359.
(2) البدائع 4 / 131، والمغني 9 / 542.

(4/165)


مَالِكٌ لَهَا، فَثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الاِسْتِيلاَدِ، كَمَا لَوْ حَمَلَتْ فِي مِلْكِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ اشْتَرَاهَا حَامِلاً فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِهَذَا الْحَمْل (1) .

مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ:
9 - إِذَا حَبِلَتِ الأَْمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا وَوَلَدَتْ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الإِْمَاءِ فِي حِل وَطْءِ سَيِّدِهَا لَهَا، وَاسْتِخْدَامِهَا، وَمِلْكِ كَسْبِهَا، وَتَزْوِيجِهَا، وَإِجَارَتِهَا، وَعِتْقِهَا، وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِسَيِّدِهَا تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، قَالُوا: لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَقَالُوا: إِنَّ إِجَارَتَهَا كَذَلِكَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهَا وَإِلاَّ فُسِخَتْ، وَلِلسَّيِّدِ قَلِيل خِدْمَتِهَا. (2)

مَا لاَ يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ:
10 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ - (3) عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ لاَ يَجُوزُ لَهُ فِي أُمِّ وَلَدِهِ التَّصَرُّفُ بِمَا يَنْقُل الْمِلْكَ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَلاَ وَقْفُهَا، وَلاَ رَهْنُهَا، وَلاَ تُورَثُ، بَل تَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ مِنْ كُل الْمَال وَيَزُول الْمِلْكُ عَنْهَا. رُوِيَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَال: خَطَبَ عَلِيٌّ النَّاسَ، فَقَال: " شَاوَرَنِي عُمَرُ فِي أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ فَرَأَيْتُ أَنَا وَعُمَرُ أَنْ أَعْتِقَهُنَّ، فَقَضَى بِهِ عُمَرُ حَيَاتَهُ، وَعُثْمَانُ حَيَاتَهُ، فَلَمَّا وُلِّيتُ رَأَيْتُ أَنْ أَرِقَّهُنَّ. قَال
__________
(1) المغني 9 / 528، 534، ورد المحتار 3 / 36 ط بولاق، والقليوبي 4 / 62، والكافي لابن عبد البر 9 / 981.
(2) الدسوقي 4 / 410، 411، والمغني 9 / 527، 528، والبدائع 4 / 130.
(3) المراجع السابقة.

(4/166)


عُبَيْدَةُ: فَرَأْيُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَأْيِ عَلِيٍّ وَحْدَهُ. (1) وَرُوِيَ الْقَوْل بِهَذَا أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ، وَرُوِيَ الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قَالُوا بِإِبَاحَةِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ.
وَالأَْصْل فِي الْبَابِ حَدِيثُ أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ (2) وَخَبَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ، لاَ يُوهَبْنَ وَلاَ يُورَثْنَ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا سَيِّدُهَا مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ (3) .

أَثَرُ اخْتِلاَفِ الدِّينِ فِي الاِسْتِيلاَدِ:
11 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَصِحُّ اسْتِيلاَدُ الْكَافِرِ، ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُرْتَدًّا، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعِتْقُ.
وَإِذَا اسْتَوْلَدَ الذِّمِّيُّ أَمَتَهُ الذِّمِّيَّةَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ لَمْ تَعْتِقْ فِي الْحَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعْتِقُ إِذْ لاَ سَبِيل إِلَى
__________
(1) والأثر عن علي رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق والبيهقي، ولفظ عبد الرزاق: " اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن، قال: ثم رأيت بعد أن يبعن، قال عبيدة: فقلت له فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة - أو قال في الفتنة - قال: فضحك علي " قال الشوكاني: وهذا الإسناد معدود في أصح ال وسنن البيهقي 10 / 348 ط الهند، ونيل الأوطار 6 / 223 - 224 ط دار الجيل) .
(2) سبق تخريج الحديث (ف / 6)
(3) أثر " أمهات الأولاد لا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع بها سيدها ما دام حيا، فإذا مات فهي حرة ". أخرجه الدارقطني مرفوعا وموقوفا. قال ابن القطان: وعندي أن الذي أسنده خير ممن وقفه (سنن الدارقطني 3 / 134 - 135 ط دار المحاسن للطباعة 1386 هـ، ونصب الراية 3 / 288 ط دار المحاسن) .

(4/166)


بَيْعِهَا، وَلاَ إِلَى إِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ مِلْكِ الْكَافِرِ عَلَى مُسْلِمَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ كَالأَْمَةِ.
وَعَنْ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تُسْتَسْعَى، فَإِنْ أَرَادَتْ عَتَقَتْ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا لَمْ يُسْلِمْ مَالِكُهَا، لأَِنَّ فِي الاِسْتِسْعَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ: حَقِّهَا فِي أَلاَّ تَبْقَى مِلْكًا لِلْكَافِرِ، وَحَقِّهِ فِي حُصُول عِوَضٍ عَنْ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمَّ وَلَدٍ، وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدٍ لِكَافِرٍ مُنِعَ مِنْ وَطْئِهَا أَوِ التَّلَذُّذِ بِهَا، وَيُحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَيُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهَا فَإِذَا أَسْلَمَ حَلَّتْ لَهُ. (1)
مَا تَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْتَوْلَدَةُ:
الأَْصْل فِي أَحْكَامِ أُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ أَنَّهَا كَأَحْكَامِ الإِْمَاءِ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ، إِلاَّ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَخْتَصُّ بِمَا يَلِي:

أ - الْعِدَّةِ:
12 - إِذَا مَاتَ السَّيِّدُ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ، وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَعِدَّتُهَا بِالْحَيْضِ فَلاَ يُكْتَفَى بِحَيْضَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِدَّتُهَا بِالْحَيْضِ فِي الْمَوْتِ وَغَيْرِهِ كَتَفْرِيقِ الْقَاضِي لأَِنَّ عِدَّتَهَا لِتَعْرِفَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ يَائِسَةٍ وَغَيْرَ حَامِلٍ، فَإِنَّ عِدَّةَ الْيَائِسَةِ شَهْرَانِ، وَعِدَّةَ الْحَامِل وَضْعُ الْحَمْل، وَلاَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 398، والشرح الكبير 4 / 412، والمغني 9 / 544.

(4/167)


نَفَقَةَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ عِنْدَ كُل الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهَا عِدَّةُ وَطْءٍ لاَ عِدَّةُ عَقْدٍ. (1)

ب - الْعَوْرَةُ:
13 - عَوْرَةُ أُمِّ الْوَلَدِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَالظَّهْرُ وَالْبَطْنُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا لاَ تُصَلِّي إِلاَّ بِقِنَاعٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَوْرَتَهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. (2)

جِنَايَةُ أُمِّ الْوَلَدِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إِذَا جَنَتْ جِنَايَةً أَوْجَبَتِ الْمَال، أَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَعَلَى السَّيِّدِ فِدَاؤُهَا بِأَقَل الأَْمْرَيْنِ: مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْحُكْمِ عَلَى أَنَّهَا أَمَةٌ بِدُونِ مَالِهَا، أَوِ الأَْرْشِ، حَتَّى وَإِنْ كَثُرَتِ الْجِنَايَاتُ.
وَحُكِيَ قَوْلٌ آخَرُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ فِدَاءَهَا بِأَرْشِ جِنَايَتِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، كَالْقِنِّ (3) .

إِقْرَارُ أُمِّ الْوَلَدِ بِجِنَايَةٍ:
15 - إِذَا أَقَرَّتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَال لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى السَّيِّدِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 608، والشرح الكبير 4 / 465، والمغني 9 / 546.
(2) الهداية 1 / 229، والدسوقي 1 / 213، والمجموع 3 / 167، وكشاف القناع 1 / 266.
(3) البدائع 4 / 131، 132، والدسوقي 4 / 411، والبجيرمي على المنهج 4 / 160، والمغني 9 / 545.

(4/167)


الإِْقْرَارِ بِالْقَتْل عَمْدًا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِقْرَارُهَا عَلَى نَفْسِهَا فَتُقْتَل بِهِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. (1)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَبْدَ - وَأُمُّ الْوَلَدِ مِثْلُهُ - يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ.
وَأَمَّا إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، لأَِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ سَيِّدِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَلأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي أَنَّهُ يُقِرُّ لِرَجُلٍ لِيَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ، فَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ سَيِّدِهِ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِهِ، لأَِنَّهُ أَحَدُ فَرْعَيِ الْقِصَاصِ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِمَا دُونَ النَّفْسِ. (2)

الْجِنَايَةُ عَلَى جَنِينِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ سَيِّدِهَا:
16 - تَقَدَّمَ أَنَّ حَمْل أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ سَيِّدِهَا حُرٌّ، فَلَوْ ضَرَبَهَا أَحَدٌ فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا فَفِيهِ دِيَةُ جَنِينِ الْحُرَّةِ، اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (إجْهَاض) .

الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا:
17 - إِذَا قَتَل الْمُسْتَوْلَدَةَ حُرٌّ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: دِيَةُ الْعَبْدِ قِيمَتُهُ. فَإِنْ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 398، والدسوقي 3 / 398.
(2) المغني 5 / 151، 152 ط الرياض.

(4/168)


بَلَغَتْ دِيَةُ الْحُرِّ، أَوْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الأَْمَةِ قِيمَةَ دِيَةِ الْحُرَّةِ يُنْقَصُ كُلٌّ مِنْ دِيَةِ الْعَبْدِ أَوِ الأَْمَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، إِظْهَارًا لاِنْحِطَاطِ مَرْتَبَةِ الرَّقِيقِ عَنِ الْحُرِّ. وَتَعْيِينُ الْعَشَرَةِ بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ (1) . أَمَّا إِذَا قَتَلَهَا رَقِيقٌ فَيُقْتَل بِهَا لأَِنَّهَا أَكْمَل مِنْهُ. (2)

أَثَرُ مَوْتِ الْمُسْتَوْلَدَةِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهَا عَلَيْهَا، وَعَلَى وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ:
18 - إِذَا مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ قَبْل سَيِّدِهَا لاَ يَبْطُل حُكْمُ الاِسْتِيلاَدِ فِي الْوَلَدِ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِ الاِسْتِيلاَدِ لَهَا، بَل يَعْتِقُونَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ. (3)

الْوَصِيَّةُ لِلْمُسْتَوْلَدَةِ وَإِلَيْهَا:
19 - تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لأُِمِّ الْوَلَدِ، قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ الْقَائِلِينَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الاِسْتِيلاَدِ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ " أَوْصَى لأُِمَّهَاتِ أَوْلاَدِهِ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، أَرْبَعَةِ آلاَفٍ لِكُل امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ (4) وَلأَِنَّ أُمَّ الْوَلَدِ حُرَّةٌ فِي حَال
__________
(1) أثر ابن مسعود في " نقص عشرة دراهم من دية العبد والأمة " أورده صاحب الدر المختار، ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار، وإنما أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال لي عبد الكريم عن علي وابن مسعود وشريح: " دية المملوك ثمنه، وإن خلّف دية الحر " (مصنف عبد الرزاق 10 / 10 نشر المجلس العلمي) .
(2) بداية المجتهد 2 / 451، والدر 5 / 396.
(3) المغني والشرح الكبير 11 / 506، 507.
(4) الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أخرجه الدارمي واللفظ له، وسعيد بن منصور (سنن الدارمي 2 / 423 ط المطبعة الحديثة بدمشق 1349 هـ، وكتاب السنن لسعيد بن منصور - القسم الأول من المجلد الثالث ص 110 رقم 438 ط مطبعة علمي بريس (ماليكاؤن) 1387 هـ) .

(4/168)


نَفَاذِ الْوَصِيَّةِ لأَِنَّ عِتْقَهَا يَتَنَجَّزُ بِمَوْتِهِ، فَلاَ تَقَعُ الْوَصِيَّةُ لَهَا إِلاَّ فِي حَال حُرِّيَّتِهَا، وَذَلِكَ إِذَا احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، فَمَا زَادَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ جَازَ إِلاَّ رُدَّ إِلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَى الْمُسْتَوْلَدَةِ بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدِهَا إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِذَلِكَ، لأَِنَّهَا بَعْدَ عِتْقِهَا بِمَوْتِ سَيِّدِهَا كَسَائِرِ الْحَرَائِرِ، فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهَا. (1)

أَسْر

اُنْظُرْ: أَسْرَى

إِسْرَارٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الإِْخْفَاءُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} (2) . وَأَسْرَرْتُ الشَّيْءَ: أَخْفَيْتُهُ. (3)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَيَأْتِي (الإِْسْرَارُ) بِالْمَعَانِي التَّالِيَةِ:
أ - أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَدْنَاهُ مَا كَانَ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَقْوَال الصَّلاَةِ وَالأَْذْكَارِ.
__________
(1) المغني والشرح الكبير 11 / 510، 513.
(2) سورة التحريم / 3.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (سرر) ، والمغرب ص 223.

(4/169)


ب - أَنْ يُسْمِعَ غَيْرَهُ عَلَى سَبِيل الْمُنَاجَاةِ، مَعَ الْكِتْمَانِ عَنِ الآْخَرِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَرِدُ فِي السِّرِّ وَإِفْشَائِهِ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِفْشَاءِ السِّرِّ) .
ج - أَنْ يُخْفِيَ فِعْلَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَرِدُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُخَافَتَةُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْمُخَافَتَةِ فِي اللُّغَةِ: خَفْضُ الصَّوْتِ.
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ وُجُودِ الْقِرَاءَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ: فَشَرَطَ الْهِنْدُوَانِيُّ وَالْفَضْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِوُجُودِهَا خُرُوجَ صَوْتٍ يَصِل إِلَى أُذُنِهِ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيُّ.
وَشَرَطَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ خُرُوجَ الصَّوْتِ مِنَ الْفَمِ وَإِنْ لَمْ يَصِل إِلَى أُذُنِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مَسْمُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى لَوْ أَدْنَى أَحَدٌ صِمَاخَهُ إِلَى فِيهِ يَسْمَعُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ السَّمَاعَ، وَاكْتَفَيَا بِتَصْحِيحِ الْحُرُوفِ.
وَاخْتَارَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ قَاضِي خَانَ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ وَالْحَلْوَانِيُّ قَوْل الْهِنْدُوَانِيِّ، كَمَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.
فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ أَدْنَى الْمُخَافَتَةِ إِسْمَاعُ نَفْسِهِ، أَوْ مَنْ بِقُرْبِهِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ مَثَلاً، وَأَعْلاَهَا مُجَرَّدُ تَصْحِيحِ الْحُرُوفِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ، وَأَدْنَى الْجَهْرِ إِسْمَاعُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِقُرْبِهِ، كَأَهْل الصَّفِّ الأَْوَّل، وَأَعْلاَهُ لاَ حَدَّ لَهُ. (2)
__________
(1) مراقي الفلاح ص 138 ط دار الإيمان، وشرح روض الطالب 1 / 156، المكتبة الإسلامية، والشرح الكبير 1 / 243، والفواكه الدواني 1 / 231، وكشاف القناع 1 / 332.
(2) ابن عابدين 1 / 359 ط (1) بولاق.

(4/169)


ب - الْجَهْرُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْجَهْرِ فِي اللُّغَةِ: رَفْعُ الصَّوْتِ.
يُقَال: جَهَرَ بِالْقَوْل رَفَعَ بِهِ صَوْتَهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يُسْمِعَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَلِيهِ، وَأَعْلاَهُ لاَ حَدَّ لَهُ، (2) فَالْجَهْرُ مُبَايِنٌ لِلإِْسْرَارِ.

ح - الْكِتْمَانُ:
4 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: أَنَّهُ خِلاَفُ الإِْعْلاَنِ. (3)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: السُّكُوتُ عَنِ الْبَيَانِ. قَال تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4) .

د - الإِْخْفَاءُ:
5 - الإِْخْفَاءُ بِمَعْنَى الإِْسْرَارِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا، إِلاَّ أَنَّ اسْتِعْمَال الإِْخْفَاءِ يَغْلِبُ فِي الأَْفْعَال، أَمَّا الإِْسْرَارُ فَيَغْلِبُ فِي الأَْقْوَال. وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِفَاء) .

صِفَةُ الإِْسْرَارِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) .

أَوَّلاً - الإِْسْرَارُ بِمَعْنَى إِسْمَاعِ نَفْسِهِ فَقَطْ:
الإِْسْرَارُ فِي الْعِبَادَاتِ:
6 - الصَّلَوَاتُ السِّرِّيَّةُ: الْمُرَادُ بِهَا الَّتِي لاَ جَهْرَ فِيهَا،
__________
(1) مختار الصحاح، ولسان العرب مادة (جهر) .
(2) فتح القدير 1 / 284، 288، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 156 ط المكتبة الإسلامية، والفواكه الدواني 1 / 232 - 233، وكشاف القناع 1 / 332 ط النصر الحديثة.
(3) لسان العرب، والصحاح مادة (كتم) ، والتعريفات للجرجاني ص 281.
(4) سورة البقرة / 159.

(4/170)


وَهِيَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فِي الْفَرَائِصِ وَالنَّوَافِل، وَصَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي النَّهَارِ. وَالإِْسْرَارُ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ لَهُمْ، وَفِي آخَرَ مَنْدُوبٌ، وَوَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَإِنَّمَا كَانَتْ سِرِّيَّةً، لأَِنَّهَا صَلاَةُ نَهَارٍ، وَصَلاَةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ (1) كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، أَيْ لَيْسَتْ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِكُل مُصَلٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ إِمَامًا أَمْ مُنْفَرِدًا أَمْ مَأْمُومًا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ عِنْدَهُمْ لاَ قِرَاءَةَ عَلَيْهِ (2) .

الإِْسْرَارُ فِي أَقْوَال الصَّلاَةِ:

أ - تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ:
7 - يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ الْمَأْمُومِينَ لِيُكَبِّرُوا، فَإِنَّهُمْ لاَ يَجُوزُ لَهُمُ التَّكْبِيرُ إِلاَّ بَعْدَ تَكْبِيرِهِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِسْمَاعُهُمْ جَهَرَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ لِيُسْمِعَهُمْ، أَوْ لِيُسْمِعَ مَنْ لاَ يَسْمَعُ الإِْمَامَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَال صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ
__________
(1) حديث " صلاة النهار عجماء " أخرجه عبد الرزاق من قول مجاهد وأبي عبيدة واستغربه الزيلعي، وقال النووي في المجموع: هذا حديث باطل لا أصل له. ونقل السخاوي عن الدارقطني قوله: لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول الفقهاء (نصب الراية 2 / 1، 2 ط مطبعة دار المأمون، والمجموع للنووي 2 / 389 ط المنيرية، والمقاصد الحسنة ص 265 نشر مكتبة الخانجي بمصر) .
(2) فتح القدير 1 / 284 - 285، 440 ط دار إحياء التراث العربي، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 357 - 358 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار لتعليل المختار 1 / 50 ط دار المعرفة، والمهذب 1 / 81، والشرح الكبير 1 / 313، والفواكه الدواني 1 / 33، والمغني لابن قدامة 1 / 569 ط مكتبة الرياض الحديثة، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 344 ط النصر الحديثة.

(4/170)


لِيُسْمِعَنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (1)

ب - دُعَاءُ الاِسْتِفْتَاحِ:
8 - وَهُوَ مَا تُسْتَفْتَحُ بِهِ الصَّلاَةُ مِنَ الأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ لِذَلِكَ، نَحْوُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . (2) أَوْ وَجَّهْتُ وَجْهِي. . . (3) وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهِ (4) .
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِمَشْرُوعِيَّتِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ سِرًّا، وَيُكْرَهُ الْجَهْرُ بِهِ وَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ. اُنْظُرْ (اسْتِفْتَاح) .

ج - التَّعَوُّذُ:
9 - وَالْقَوْل فِي الإِْسْرَارِ بِهِ كَالْقَوْل فِي الاِسْتِفْتَاحِ سَوَاءٌ. (5)
__________
(1) المغني 1 / 462. وحديث " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه " أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: " فتأخر أبو بكر رضي عنه وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وأبو بكر يسمع الناس التكبير " وأخرجه مسلم بهذا المعنى من حديث ابن (فتح الباري 2 / 203 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 314 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(2) دعاء الاستفتاح " سبحانك اللهم وبحمدك. . . " سبق تخريجه (استفتاح ف / 6) .
(3) دعاء الاسفتاح " وجهت وجهي. . . . ". سبق تخريجه (استفتاح ف / 6) .
(4) رد المحتار على الدر المختار 1 / 320، 328، ومراقي الفلاح ص 153 ط دار الإيمان، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 78، 79، والمغني لابن قدامة 1 / 473 - 475 ط الرياض الحديثة، والفواكه الدواني 1 / 205.
(5) رد المحتار على الدر المختار 1 / 320، 328، ومراقي الفلاح ص 153 ط دار الإيمان، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 79، 89، والمغني لابن قدامة 1 / 475 ط الرياض الحديثة، والفواكه الدواني 1 / 205، 238.

(4/171)


د - الْبَسْمَلَةُ لِغَيْرِ الْمُؤْتَمِّ فِي أَوَّل كُل رَكْعَةٍ:
10 - وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَاجِبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّلاَةِ، وَلاَ يَقُول بِهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي الْفَرْضِ لِكَرَاهِيَتِهَا فِي الْمَشْهُورِ، وَأَجَازُوهَا فِي النَّافِلَةِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، (1) فَيُسَنُّ الإِْسْرَارُ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِكَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَةِ مِنْ جَهْرٍ أَوْ إِسْرَارٍ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (بَسْمَلَة) .

هـ - قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ:
11 - وَتُقْرَأُ سِرًّا فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ، لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ مِنَ الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، أَمَّا قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ لَهَا عِنْدَ مَنْ قَال بِذَلِكَ فَهِيَ كُلُّهَا سِرِّيَّةٌ.
أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْجَهْرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيُسِرُّ فِي النَّوَافِل النَّهَارِيَّةِ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتِحْبَابًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُسِرُّ فِي قَضَاءِ الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ إِذَا قَضَاهَا لَيْلاً، وَصَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا. وَإِذَا قَضَى الصَّلاَةَ الْجَهْرِيَّةَ نَهَارًا وَكَانَ إِمَامًا جَهَرَ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَسَرَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِلْحَنَابِلَةِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 320، 329، ومراقي الفلاح 1 / 154 ط دار الإيمان، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 309 - 310 ط أنصار السنة المحمدية، والمغني لابن قدامة 1 / 477 - 478 ط الرياض الحديثة، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 79، 89، والفواكه الدواني 1 / 205، 238.

(4/171)


قَوْلاَنِ. وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالاِسْتِسْقَاءِ. (1)

و تَأْمِينُ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ:
12 - يَقُولُونَهُ سِرًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَجَهْرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالإِْسْرَارِ بِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَالأَْصْل فِي الأَْدْعِيَةِ الإِْسْرَارُ، كَالتَّشَهُّدِ.
وَاسْتَدَل مَنْ قَال بِالْجَهْرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: آمِينَ وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ (2) ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّأْمِينِ عِنْدَ تَأْمِينِ الإِْمَامِ، فَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا لَمْ يُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَحَالَةِ الإِْخْفَاءِ. (3)

ز - تَسْبِيحُ الرُّكُوعِ:
13 - الإِْسْرَارُ بِالتَّسْبِيحِ سُنَّةٌ اتِّفَاقًا. (4)

ح - التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ حَال رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ لِلْقِيَامِ:
14 - يُسَمِّعُ الإِْمَامُ جَهْرًا، وَيَحْمَدُ الْجَمِيعُ سِرًّا.
__________
(1) المغني 1 / 570 ط الرياض، ومراقي الفلاح ص 154 ط دار الإيمان، والمهذب 1 / 79، 89، والدسوقي 1 / 263، 313.
(2) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال: آمين، ورفع بها صوته " أخرجه أبو داود من حديث وائل بن حجر بلفظ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: ولا الضالين. قال: آمين، ورفع بها صوته " وأخرجه الترمذي، وفيه: " مد بها صوته " مكان " رفع بها صوته " وقال: حديث وائل بن حجر حديث حسن. (عون المعبود 1 / 351 ط الهند، وتحفة الأحوذي 1 / 65 - 68 نشر السلفية) .
(3) المغني 1 / 490 ط الرياض.
(4) فتح القدير والكفاية 1 / 259، ومراقي الفلاح 144 - 145، 154 ط دار الإيمان، ورد المحتار على الدر المختار 1 / 331 - 332 ط دار إحياء التراث العربي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 82، والفواكه الدواني 1 / 208، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 317 ط أنصار السنة المحمدية.

(4/172)


ط - التَّسْبِيحُ فِي السَّجْدَتَيْنِ:
15 - يَقُولُهُ الْمُصَلِّي سِرًّا، إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا. وَكَذَلِكَ الأَْذْكَارُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالتَّشَهُّدُ الأَْوَّل وَالأَْخِيرُ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالأَْدْعِيَةُ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ.
أَمَّا التَّسْلِيمُ فَيَجْهَرُ بِهِ الإِْمَامُ دُونَ الْمَأْمُومِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ.

الإِْسْرَارُ بِالاِسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
16 - لِلْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ فِي الْجَهْرِ بِالاِسْتِعَاذَةِ أَوِ الإِْسْرَارِ بِهَا آرَاءٌ:
أ - اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ بِهَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ.
ب - لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ حَمْزَةُ وَمَنْ وَافَقَهُ.
ج - التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
د - الإِْخْفَاءُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ حَمْزَةَ.
هـ - الْجَهْرُ بِالتَّعَوُّذِ فِي أَوَّل الْفَاتِحَةِ فَقَطْ، وَالإِْخْفَاءُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ حَمْزَةَ.
وَحُكْمُ الْبَسْمَلَةِ فِي ذَلِكَ تَابِعٌ لِحُكْمِ الاِسْتِعَاذَةِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي الاِسْتِعَاذَةَ وَيَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ عِنْدَ افْتِتَاحِ السُّوَرِ وَرُءُوسِ الآْيَاتِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَهْرُهَا إِسْمَاعُ نَفْسِهَا فَقَطْ، وَالْجَهْرُ فِي حَقِّهَا كَالإِْسْرَارِ، فَيَكُونُ أَعْلَى جَهْرِهَا وَأَدْنَاهُ وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهَا السِّرُّ وَالْجَهْرُ، لأَِنَّ صَوْتَهَا كَالْعَوْرَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ سَمَاعُهُ فِتْنَةً، بَل جَهْرُهَا مَرْتَبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ أَنْ تُسْمِعَ

(4/172)


نَفْسَهَا فَقَطْ، وَلَيْسَ هَذَا إِسْرَارًا مِنْهَا، بَل إسْرَارُهَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ تُحَرِّكَ لِسَانَهَا دُونَ إِسْمَاعِ نَفْسِهَا، فَلَيْسَ لإِِسْرَارِهَا أَعْلَى وَأَدْنَى، كَمَا أَنَّ جَهْرَهَا كَذَلِكَ. (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَيِ (اسْتِعَاذَة) (وَبَسْمَلَة) .

(ثَانِيًا) الإِْسْرَارُ فِي الأَْفْعَال
الزَّكَاةُ:
17 - قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ إِظْهَارَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ أَفْضَل، كَصَلاَةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ فَرَائِضِ الشَّرِيعَةِ، لأَِنَّ الْمَرْءَ يُحْرِزُ بِهَا إِسْلاَمَهُ وَيَعْصِمُ مَالَهُ. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْفَقِيرِ أَنَّ مَا أُعْطِيَ لَهُ زَكَاةٌ عَلَى الأَْصَحِّ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ قَلْبِهِ، وَلِذَا فَإِنَّ الإِْسْرَارَ فِي إِعْطَائِهَا إِلَيْهِ أَفْضَل مِنْ إِعْلاَنِهِ بِهَا. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الأَْفْضَل فِيهَا إِظْهَارُ إِخْرَاجِهَا لِيَرَاهُ غَيْرُهُ فَيَعْمَل عَمَلَهُ، وَلِئَلاَّ يُسَاءَ الظَّنُّ بِهِ. (4)
__________
(1) المجموع 3 / 324، 325، والفروع 1 / 304 ط المنار، والنشر 1 / 252، 253، وابن عابدين 1 / 329، وإتحاف فضلاء البشر ص 20، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 243، وفتح القدير 4 / 284، 288، وكشاف القناع 1 / 332 ط النصر الحديثة.
(2) أحكام القرآن 1 / 36، وشرح المنتهى 1 / 418.
(3) مراقي الفلاح 389 - 390 ط دار الإيمان، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 500، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 81، 89، والفواكه الدواني 1 / 206، 238، والمغني لابن قدامة 1 / 569 ط الرياض الحديثة.
(4) روضة الطالبين للنووي 2 / 340.

(4/173)


وَاسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ إِظْهَارَ إِخْرَاجِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْخْرَاجُ بِمَوْضِعٍ يُخْرِجُ أَهْلُهُ الزَّكَاةَ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَنُفِيَ عَنْهُ ظَنُّ السَّوْءِ بِإِظْهَارِ إِخْرَاجِهَا أَمْ لاَ، لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ الرِّيبَةِ عَنْهُ، وَلَعَلَّهُ يُقْتَدَى بِهِ، وَمَنْ عُلِمَ أَهْلِيَّتُهُ أَخَذَ الزَّكَاةَ - وَلَوْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ - كُرِهَ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ، وَمَعَ عَدَمِ عَادَةِ الآْخِذِ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ لاَ يُجْزِئُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل زَكَاةً ظَاهِرًا. (1)

صَدَقَاتُ التَّطَوُّعِ:
18 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الإِْسْرَارَ بِهَا أَفْضَل مِنَ الْجَهْرِ، وَلِذَا يُسَنُّ لِمُعْطِيهَا أَنْ يُسِرَّ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ (3) .
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 420.
(2) سورة البقرة / 271.
(3) حديث " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ". أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 2 / 143 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 715 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .

(4/173)


غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ (1) وَلأَِنَّ إِعْطَاءَهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ يُرَادُ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَحْدَهُ، وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " جَعَل اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُل عَلاَنِيَتَهَا بِسَبْعِينَ ضِعْفًا (2) .

قِيَامُ اللَّيْل:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَفِّل لَيْلاً يُخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالإِْسْرَارِ بِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا فَالْجَهْرُ أَفْضَل، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ، أَوْ مَنْ يَتَضَرَّرُ بِرَفْعِ صَوْتِهِ فَالإِْسْرَارُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَ هَذَا وَلاَ هَذَا فَلْيَفْعَل
__________
(1) حديث " صنائع المعروف تقي مصارع السوء ". أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة مرفوعا، وقال الهيثمي: إسناده حسن، وأورده الألباني بلفظ مقارب وصححه، بعد أن عزاه إلى العسكري والطبراني والقضاعي والمقدسي (مجمع الزوائد 1 / 115 نشر مكتبة القدسي، وصحيح الجامع الصغير بتحقيق الألباني 3 / 240 نشر المكتب الإسلامي) .
(2) أثر ابن عباس أخرجه الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) قال الحافظ ابن حجر: علي بن أبي طلحة أرسل عن ابن عباس ولم يره (تفسير الطبري 5 / 583 ط دار المعارف بمصر، وتفسير ابن كثير 1 / 574 ط دار الأندلس، وتقريب التهذيب 2 / 39) . وانظر مراقي الفلاح 1 / 389 - 390، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 183 ط دار المعرفة، وقليوبي وعميرة 3 / 204 - 205، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 332، وكشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 266 ط أنصار السنة المحمدية 1947 م.

(4/174)


مَا شَاءَ (1) . قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُول اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: كُل ذَلِكَ كَانَ يَفْعَل. رُبَّمَا أَسَرَّ، وَرُبَّمَا جَهَرَ (2) .
وَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْل يَرْفَعُ طَوْرًا، وَيَخْفِضُ طَوْرًا (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي نَوَافِل اللَّيْل الإِْجْهَارُ، وَهُوَ أَفْضَل مِنَ الإِْسْرَارِ، لأَِنَّ صَلاَةَ اللَّيْل تَقَعُ فِي الأَْوْقَاتِ الْمُظْلِمَةِ فَيُنَبِّهُ الْقَارِئُ بِجَهْرِهِ الْمَارَّةَ، وَلِلأَْمْنِ مِنْ لَغْوِ الْكَافِرِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، لاِشْتِغَالِهِ غَالِبًا فِي اللَّيْل بِالنَّوْمِ أَوْ غَيْرِهِ، بِخِلاَفِ النَّهَارِ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ يُسَنُّ فِي نَوَافِل اللَّيْل الْمُطْلَقَةِ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ إِنْ لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ نَحْوِهِ، إِلاَّ التَّرَاوِيحَ فَيَجْهَرُ بِهَا. وَالْمُرَادُ بِالتَّوَسُّطِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَدْنَى مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْلُغَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ سَمَاعَ مَنْ يَلِيهِ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي
__________
(1) المغني 2 / 139 ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 344 ط النصر، وابن عابدين 1 / 358.
(2) حديث " عبد الله بن أبي قيس " أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح غريب، قال صاحب المنتقى: رراه الخمسة: أحمد بن حنبل، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. قال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح (تحفة الأحوذي 2 / 528 نشر المكتبة السلفية، ونيل الأوطار 3 / 71 نشر دار الجيل 1973 م) .
(3) حديث " كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا " أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث سكت عليه المنذري، وقال عبد القادر الأرناؤوط: وإسناده حسن (عون المعبود 1 / 509 ط الهند، وجامع الأصول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط 5 / 357 نشر مكتبة الحلواني) .
(4) الفواكه الدواني 1 / 233 ط دار المعرفة.

(4/174)


فِيهِ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَجْهَرُ تَارَةً، وَيُسِرُّ أُخْرَى. (1)

الأَْدْعِيَةُ وَالأَْذْكَارُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ:
20 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الإِْسْرَارَ بِالأَْدْعِيَةِ وَالأَْذْكَارِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَفْضَل مِنَ الْجَهْرِ بِهَا، فَالإِْسْرَارُ بِهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (2) أَيْ سِرًّا فِي النَّفْسِ، لِيَبْعُدَ عَنِ الرِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ قَال مُخْبِرًا عَنْهُ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (3) ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الإِْخْلاَصِ، وَقَدْ وَرَدَ خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ. (4)
أَمَّا فِي عَرَفَةَ فَرَفْعُ الصَّوْتِ بِذَلِكَ وَبِالتَّلْبِيَةِ أَفْضَل مِنَ الإِْسْرَارِ بِهِ، إِذْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، بِحَيْثُ لاَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ، وَلاَ يُفْرِطُ فِي الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ بِهَا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 496 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) سورة الأعراف / 55.
(3) سورة مريم / 3.
(4) حديث " خير الذكر الخفي. . . " أخرجه أحمد وأبو يعلى من حديث سعد بن مالك مرفوعا، وأخرجه ابن حبان من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا، وفي كلا الإسنادين محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، قال الهيثمي: وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10 / 81 نشر مكتبة القدسي، وموارد الظمآن ص 577 ط دار الكتب العلمية، وفيض القدير 3 / 472 نشر المكتبة التجارية الكبرى، وتهذيب التهذيب 9 / 301 ط دار صادر) .

(4/175)


أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ (1) وَقَال: أَفْضَل الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ (2) فَالْعَجُّ: رَفْعُهُ الصَّوْتَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ: إِسَالَةُ دِمَاءِ الْهَدْيِ (3) .
هَذَا، وَإِنَّ لِبَعْضِ الأَْذْكَارِ صِفَةً خَاصَّةً مِنَ الْجَهْرِ أَوِ الإِْسْرَارِ، كَالتَّلْبِيَةِ، وَالإِْقَامَةِ، وَأَذْكَارِ مَا بَعْدَ
__________
(1) حديث " جاءني جبريل عليه السلام " أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له، والحاكم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه مرفوعا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، (سنن الترمذي 3 / 191 - 192 ط استانبول، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 975 ط عيسى الحلبي 1373 هـ، وجامع الأصول 3 / 93 نشر مكتبة الحلواني، ونيل الأوطار 4 / 322 ط العثمانية بمصر 1357 هـ) .
(2) حديث " أفضل الحج العج والثج " أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي بكر الصديق مرفوعا، ولفظ الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال: " العج والثج " والحديث استغفربه الترمذي، وحكى الدارقطني الاختلاف فيه، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، وأشار الترمذي إلى نحوه من حديث ابن عمر وجابر، قال المنذري: حديث ابن عمر رواه ابن ماجه بإسناد حسن. (تحفة الأحوذي 3 / 563 - 565 ط السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 967، 975 ط عيسى الحلبي، والمستدرك 1 / 450، 451 نشر دار الكتاب العربي، ونيل الأوطار 5 / 54 ط دار الجيل، والترغيب والترهيب 3 / 23 ط مطبعة السعادة 1380 هـ، وشرح السنة للبغوي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 7 / 14 نشر المكتب الإسلامي 1394 هـ) .
(3) رد المحتار على الدر المختار والتعليق بحاشية ابن عابدين 1 / 444، 2 / 175 ط دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير 1 / 393، 2 / 351 ط دار إحياء التراث العربي، ومراقي الفلاح ص 174 ط دار الإيمان، وقليوبي وعميرة 2 / 99، 107 (تحت تنبيه) ، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 412، 417، 439، 458، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 213 ط دار المعرفة، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 337، 339 - 340 ط أنصار السنة المحمدية 1947.

(4/175)


الصَّلاَةِ، وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَالأَْذْكَارِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَتُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا الْخَاصَّةِ.

الإِْسْرَارُ بِالْيَمِينِ:
21 - الإِْسْرَارُ بِالْيَمِينِ - إِذَا أَسْمَعَ نَفْسَهُ - كَالْجَهْرِ بِهَا.
وَالإِْسْرَارُ بِالاِسْتِثْنَاءِ كَالإِْسْرَارِ بِالْيَمِينِ مَتَى تَوَافَرَتْ عَنَاصِرُهُ، وَكَانَ الاِسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِلاَّ لِعَارِضٍ كَسُعَالٍ أَوْ عُطَاسٍ أَوِ انْقِطَاعِ نَفَسٍ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (اسْتِثْنَاء) (وَأَيْمَان) .

الإِْسْرَارُ بِالطَّلاَقِ:
22 - الإِْسْرَارُ فِي الطَّلاَقِ بِإِسْمَاعِ نَفْسِهِ كَالْجَهْرِ بِهِ، فَمَتَى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِسْرَارًا بِلَفْظِ الطَّلاَقِ، صَرِيحًا كَانَ أَوْ كِنَايَةً مُسْتَوْفِيَةً شَرَائِطَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ طَلاَقَهُ يَقَعُ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَمَتَى لَمْ تَتَوَافَرْ شَرَائِطُهُ فَإِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ، كَمَا لَوْ أَجْرَاهُ عَلَى قَلْبِهِ دُونَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ إِسْمَاعًا لِنَفْسِهِ أَوْ بِحَرَكَةِ لِسَانِهِ.
هَذَا، وَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ فِي لُزُومِهِ بِكَلاَمِهِ النَّفْسِيِّ، كَأَنْ يَقُول بِقَلْبِهِ أَنْتِ طَالِقٌ: أَنَّ فِيهِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 376 ط دار إحياء التراث العربي، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 132، والشرح الكبير 2 / 129 - 130، وكشاف القناع عن متن الإقناع 6 / 237 - 238 ط النصر الحديثة.

(4/176)


خِلاَفًا، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ اللُّزُومِ. (1) وَالْكَلاَمُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلاَقِ كَالْكَلاَمِ فِي الطَّلاَقِ.

إِسْرَافٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الإِْسْرَافِ فِي اللُّغَةِ: مُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ، يُقَال: أَسْرَفَ فِي مَالِهِ أَيْ أَنْفَقَ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَالٍ، وَوَضَعَ الْمَال فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَأَسْرَفَ فِي الْكَلاَمِ، وَفِي الْقَتْل: أَفْرَطَ. وَأَمَّا السَّرَفُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَهُوَ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا. (2)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَلْيُوبِيُّ لِلإِْسْرَافِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ نَفْسَهُ، وَهُوَ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.
وَخَصَّ بَعْضُهُمُ اسْتِعْمَال الإِْسْرَافِ بِالنَّفَقَةِ وَالأَْكْل. يَقُول الْجُرْجَانِيِّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: الإِْسْرَافُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ.
وَقِيل: أَنْ يَأْكُل الرَّجُل مَا لاَ يَحِل لَهُ، أَوْ يَأْكُل مَا يَحِل لَهُ فَوْقَ الاِعْتِدَال وَمِقْدَارِ الْحَاجَةِ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 288 - 289، ومراقي الفلاح ص 119، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 1 / 156 ط المكتبة الإسلامية، والفواكه الدواني 1 / 231 ط دار المعرفة، والشرح الكبير 2 / 385، وتهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية بهامش الفروق للقرافي 1 / 49 - 50 المسألة الخامسة ط دار المعرفة، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 199، وكشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 332 ط النصر الحديثة.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (سرف) .

(4/176)


وَقِيل: الإِْسْرَافُ تَجَاوُزُ الْكَمِّيَّةَ، فَهُوَ جَهْلٌ بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ. (1)
وَالسَّرَفُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِفِعْل الْكَبَائِرِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّقْتِيرُ:
2 - وَهُوَ يُقَابِل الإِْسْرَافَ، وَمَعْنَاهُ: التَّقْصِيرُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (3)
ب - التَّبْذِيرُ:
3 - التَّبْذِيرُ: هُوَ تَفْرِيقُ الْمَال فِي غَيْرِ قَصْدٍ، وَمِنْهُ الْبَذْرُ فِي الزِّرَاعَةِ.
وَقِيل: هُوَ إِفْسَادُ الْمَال وَإِنْفَاقُهُ فِي السَّرَفِ. قَال تَعَالَى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (4) وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِإِنْفَاقِ الْمَال فِي الْمَعَاصِي، وَتَفْرِيقُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ.
وَيُعَرِّفُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ: عَدَمُ إِحْسَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، وَصَرْفُهُ فِيمَا لاَ يَنْبَغِي، فَصَرْفُ الْمَال إِلَى وُجُوهِ الْبِرِّ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، وَصَرْفُهُ فِي الأَْطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لاَ تَلِيقُ بِحَالِهِ تَبْذِيرٌ (5) .
وَعَلَى هَذَا فَالتَّبْذِيرُ أَخَصُّ مِنَ الإِْسْرَافِ، لأَِنَّ
__________
(1) القليوبي 3 / 248، وابن عابدين 5 / 484، والتعريفات للجرجاني.
(2) سورة آل عمران / 147.
(3) سورة الفرقان / 67.
(4) سورة الإسراء / 26.
(5) الوجيز للغزالي 1 / 176، والشرح الصغير 3 / 381، وابن عابدين 5 / 484، والنظم المستعذب على المهذب 1 / 8، وتفسير الكشاف 3 / 6، وتفسير فخر الرازي 20 / 193.

(4/177)


التَّبْذِيرَ يُسْتَعْمَل فِي إِنْفَاقِ الْمَال فِي السَّرَفِ أَوِ الْمَعَاصِي أَوْ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَالإِْسْرَافُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ مُجَاوِزٌ الْحَدَّ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الأَْمْوَال أَمْ فِي غَيْرِهَا، كَمَا يُسْتَعْمَل الإِْسْرَافُ فِي الإِْفْرَاطِ فِي الْكَلاَمِ أَوِ الْقَتْل وَغَيْرِهِمَا.
وَقَدْ فَرَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ بَيْنَ الإِْسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقَال: التَّبْذِيرُ يُسْتَعْمَل فِي الْمَشْهُورِ بِمَعْنَى الإِْسْرَافِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ الإِْسْرَافَ: صَرْفُ الشَّيْءِ فِيمَا يَنْبَغِي زَائِدًا عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَالتَّبْذِيرُ: صَرْفُ الشَّيْءِ فِيمَا لاَ يَنْبَغِي. (1) وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ نَقْلاً عَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، التَّبْذِيرُ: الْجَهْل بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ، وَالسَّرَفُ: الْجَهْل بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ. (2)

ج - السَّفَهُ:
4 - السَّفَهُ فِي اللُّغَةِ: خِفَّةُ الْعَقْل وَالطَّيْشُ وَالْحَرَكَةُ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ: تَضْيِيعُ الْمَال وَإِتْلاَفُهُ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالْعَقْل.
وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِالتَّبْذِيرِ وَالإِْسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي بُلْغَةِ السَّالِكِ: أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَوَرَدَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ: الْمُبَذِّرُ، (3) وَالأَْصْل أَنَّ السَّفَهَ سَبَبُ التَّبْذِيرِ وَالإِْسْرَافِ، وَهُمَا أَثَرَانِ لِلسَّفَهِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ مِمَّا قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ فِي
__________
(1) ابن عابدين 5 / 484، والتعريفات للجرجاني.
(2) نهاية المحتاج 4 / 350 - 351.
(3) المصباح المنير، وابن عابدين 5 / 92، ودستور العلماء 2 / 11، والنظم المستعذب على المهذب 1 / 338، والشرح الصغير 3 / 393، والفتاوى الهندية 5 / 366 - 337، وأسنى المطالب 2 / 205، والقليوبي 2 / 300.

(4/177)


التَّعْرِيفَاتُ: السَّفَهُ خِفَّةٌ تَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ مِنَ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَل بِخِلاَفِ طَوْرِ الْعَقْل وَمُقْتَضَى الشَّرْعِ.
وَجَاءَ فِي دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، حَيْثُ قَال: وَمِنْ عَادَةِ السَّفِيهِ التَّبْذِيرُ وَالإِْسْرَافُ فِي النَّفَقَةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لِلسَّفَهِ مِنْ أَنَّهُ: خِفَّةُ الْعَقْل.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ السَّفَهِ وَالإِْسْرَافِ عَلاَقَةُ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ (1) .

حُكْمُ الإِْسْرَافِ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْسْرَافِ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقِهِ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي تَعْرِيفِ الإِْسْرَافِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ صَرْفَ الْمَال الْكَثِيرِ فِي أُمُورِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالإِْحْسَانِ لاَ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، فَلاَ يَكُونُ مَمْنُوعًا. أَمَّا صَرْفُهُ فِي الْمَعَاصِي وَالتَّرَفِ وَفِيمَا لاَ يَنْبَغِي فَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَال قَلِيلاً.
وَقَدْ نُقِل عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَال: لَوْ كَانَ جَبَل أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا لِرَجُلٍ، فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا، وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا أَوْ مُدًّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا، (2) وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الإِْسْرَافَ كَمَا يَكُونُ فِي الشَّرِّ، يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، كَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا} (3) أَيْ لاَ تُعْطُوا
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تفسير القرطبي 7 / 110، وفيه أن القول المشهور " لا سرف في الخير، جوابا عمن قال: لا خير في السرف " وهو من قول حاتم الطائي، وهو قد تردد في كلام الفقهاء كما في شرح الروض 2 / 207، وتفسير الرازي 20 / 193.
(3) سورة الأنعام / 141.

(4/178)


أَمْوَالَكُمْ كُلَّهَا فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ، وَرُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَنْفَقَ جُذَاذَ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ لأَِهْلِهِ شَيْئًا، فَنَزَلَتِ الآْيَةُ السَّابِقَةُ. (1)
وَقِيل: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِفِعْلِهِ مِثْل ذَلِكَ.
كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ الإِْسْرَافِ إِذَا كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ عَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْمَحْظُورَاتِ أَوِ الْمُبَاحَاتِ، أَوْ فِي اسْتِعْمَال الْحَقِّ وَالْعُقُوبَاتِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل هَذِهِ الأَْنْوَاعِ.

الإِْسْرَافُ فِي الطَّاعَاتِ
أَوَّلاً - الإِْسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:
أ - الإِْسْرَافُ فِي الْوُضُوءِ:
وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي حَالَتَيْنِ:

الْحَالَةُ الأُْولَى: تَكْرَارُ غَسْل الأَْعْضَاءِ:
6 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ تَكْرَارَ غَسْل الأَْعْضَاءِ إِلَى ثَلاَثٍ مَسْنُونٌ. (2) جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الْوُضُوءَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يُجْزِئُ، وَالثَّلاَثُ أَفْضَل. (3) وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْغَسْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فَضِيلَتَانِ. (4) وَعَلَى ذَلِكَ فَغَسْل الأَْعْضَاءِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لاَ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، بَل هُوَ سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ. أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ الْمُوعِبَةِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 110، والمغني والشرح الكبير 2 / 706.
(2) شرح فتح القدير 1 / 20، والزيلعي 1 / 5، ونهاية المحتاج 1 / 173، وكشاف القناع 1 / 106.
(3) المغني 1 / 139.
(4) الدسوقي 1 / 101.

(4/178)


الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهَا مِنَ السَّرَفِ فِي الْمَاءِ، وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تُمْنَعُ.
وَالْكَرَاهَةُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا أَوْ مُبَاحًا، أَمَّا الْمَاءُ الْمَوْقُوفُ عَلَى مَنْ يَتَطَهَّرُ بِهِ - وَمِنْهُ مَاءُ الْمَدَارِسِ - فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ عَلَى الثَّلاَثِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَأْذُونٍ بِهَا، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُوقَفُ وَيُسَاقُ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِبَاحَتَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلاَثِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَل كَفَّيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَل وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَل ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَل أُصْبُعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْ نِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَل رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَال: هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 173، وابن عابدين 1 / 90، والدسوقي 1 / 101 وما بعدها، والمغني 1 / 139 وما بعدها.
(2) حديث: " أن رجلا أتاه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ . . . ". أخرجه أبو داود واللفظ له والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه مختصرا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الحافظ ابن حجر: له طرق صحيحة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مطولا ومختصرا. قال المنذري: وعمرو بن شعيب ترك الاحتجاج بحديثه جماعة من الأئمة، ووثقه بعضهم. قال عبد القادر الأرناؤوط: وإ (عون المعبود 1 / 51، 52 ط الهند، وسنن النسائي 1 / 88 ط المطبعة المصرية بالأزهر 1348 هـ، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 146 ط عيسى الحلبي، 1372 هـ، وجامع الأصول 7 / 161 نشر مكتبة الحلواني، والتلخيص الحبير 1 / 83) .

(4/179)


وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْحَدِيثِ لِمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الثَّلاَثِ سُنَّةٌ، أَمَّا إِذَا زَادَ - مَعَ اعْتِقَادِ سُنِّيَّةِ الثَّلاَثِ - لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ، أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَدَائِعِ: إِذَا زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الثَّلاَثَ سُنَّةٌ، لاَ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنَّمَا هُوَ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، فَتَبْقَى الْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ. (1)
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، أَفْضَلِيَّةَ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِأَلاَّ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَانَ قَدْ صَلَّى بِالضَّوْءِ الأَْوَّل صَلاَةً، وَإِلاَّ يُكْرَهُ التَّكْرَارُ وَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: الْوَجْهُ الْحُرْمَةُ. أَمَّا لَوْ كَرَّرَهُ ثَالِثًا أَوْ رَابِعًا بِغَيْرِ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ صَلاَةٌ فَيُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَحْضًا عِنْدَ الْجَمِيعِ. (2)

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ - اسْتِعْمَال الْمَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيهِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، (3) وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَال: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ (4) لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لاَزِمٍ، بَل هُوَ بَيَانُ أَدْنَى
__________
(1) فتح القدير والعناية عليه 1 / 27، ونهاية المحتاج 1 / 174، والمغني 1 / 141، وابن عابدين 1 / 90 - 107.
(2) ابن عابدين 1 / 107، والقليوبي 1 / 53.
(3) المد: رطل وثلث عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: هو رطلان. انظر المغني 1 / 223، وابن عابدين 1 / 107.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع ". أخرجه مسلم والترمذي واللفظ له من حديث سفينة، كما أخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد " (صحيح مسلم بتح وتحفة الأحوذي 1 / 183 ط السلفية) .

(4/179)


الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَسْبَغَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ طِبَاعَ النَّاسِ وَأَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الإِْسْرَافَ فِي اسْتِعْمَال الْمَاءِ مَكْرُوهٌ، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ الْمُدُّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ الإِْسْرَافُ. (1) وَمَعَ ذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ لاَ يَنْقُصَ مَاءُ الْوُضُوءِ فِيمَنِ اعْتَدَل جِسْمُهُ عَنْ مُدٍّ تَقْرِيبًا، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَضِّئُهُ الْمُدُّ (2) وَلاَ حَدَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ، لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ الإِْسْبَاغُ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ تَقْلِيل الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِي ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ قَوْل مَنْ قَال: حَتَّى يَقْطُرَ الْمَاءُ أَوْ يَسِيل، يَعْنِي أَنْكَرَ السَّيَلاَنَ عَنِ الْعُضْوِ لاَ السَّيَلاَنَ عَلَى الْعُضْوِ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَعَ عَدَمِ السَّيَلاَنِ مَسْحٌ بِلاَ شَكٍّ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْقَدْرُ الْكَافِي فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ، فَمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَإِسْرَافٌ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِ فَقَدْ أَدَّى السُّنَّةَ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الإِْسْبَاغِ بِقَلِيلٍ أَنْ يُقَلِّل الْمَاءَ، وَلاَ يَسْتَعْمِل
__________
(1) المغني 1 / 222 - 225، وابن عابدين 1 / 107.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضئه المد ". أخرجه مسلم من حديث سفينة مرفوعا بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع من الماء من الجنابة، ويوضئه المد " (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 258 ط عيسى الحلبي 1347 هـ) .
(3) نهاية المحتاج 1 / 212.

(4/180)


زِيَادَةً عَلَى الإِْسْبَاغِ، (1) أَيْ فِي كُل مَرَّةٍ.
وَمِعْيَارُ الإِْسْرَافِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنْ يَسْتَعْمِل الْمَاءَ فَوْقَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَكَرَ أَكْثَرُ الأَْحْنَافِ أَنَّ تَرْكَ التَّقْتِيرِ - بِأَنْ يَقْتَرِبَ إِلَى حَدِّ الدَّهْنِ، وَيَكُونُ التَّقَاطُرُ غَيْرَ ظَاهِرٍ - وَتَرْكُ الإِْسْرَافِ - بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ - سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الإِْسْرَافُ فِي اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الدُّرِّ، لَكِنْ رَجَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ كَوْنَهُ مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا. (2)
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الإِْسْرَافِ فِي الْمَاءِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَال: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَال: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ فَقَال: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ. (3)
وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُوَسْوَسِ، أَمَّا الْمُوَسْوَسُ فَيُغْتَفَرُ فِي حَقِّهِ لِمَا ابْتُلِيَ بِهِ. (4)

ب - الإِْسْرَافُ فِي الْغُسْل:
8 - مِنْ سُنَنِ الْغُسْل التَّثْلِيثُ، بِأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى كُل بَدَنِهِ ثَلاَثًا مُسْتَوْعِبًا، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا مَكْرُوهًا، وَلاَ يُقَدَّرُ الْمَاءُ الَّذِي يُجْزِئُ الْغُسْل
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 256 - 258.
(2) ابن عابدين 1 / 89 - 90.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ. . . " أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر. . وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف، لضعف حيي بن عبد الله وابن لهيعة (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 147 ط عيسى الحلبي
(4) المغني 1 / 222 - 225، والمبسوط 1 / 45، ونهاية المحتاج 1 / 212، ومواهب الجليل 1 / 258.

(4/180)


بِهِ، لأَِنَّ الْحَاجَةَ الشَّرْعِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال، فَمَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْوَاجِبِ فَهُوَ سَرَفٌ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِل بِالصَّاعِ (1) فَهُوَ بَيَانٌ لأَِقَل مَا يُمْكِنُ بِهِ أَدَاءُ السُّنَّةِ عَادَةً، وَلَيْسَ تَقْدِيرًا لاَزِمًا. (2)

ج - الإِْسْرَافُ فِي الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ:
9 - الإِْنْسَانُ مَأْمُورٌ بِالاِقْتِصَادِ وَمُرَاعَاةِ الاِعْتِدَال فِي كُل أَمْرٍ، حَتَّى فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) . فَالْعِبَادَاتُ إِنَّمَا أُمِرَ بِفِعْلِهَا مَشْرُوطَةً بِنَفْيِ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ هُنَا أُبِيحَ الإِْفْطَارُ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَالْحَامِل وَالْمَرِيضِ وَالْمُرْضِعِ وَكُل مَنْ خَشِيَ ضَرَرَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ، لأَِنَّ فِي تَرْكِ الإِْفْطَارِ عُسْرًا، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ إِرَادَةَ الْعُسْرِ. (4) فَلاَ يَجُوزُ فِيهَا الإِْسْرَافُ وَالْمُبَالَغَةُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ (5) أَيِ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ". أخرجه مسلم من حديث أبي بكر رضي الله عنه بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع، ويتطهر بالمد " (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 258 ط عيسى الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 106، 107، ومواهب الجليل 1 / 256، ونهاية المحتاج 1 / 212، والمغني 1 / 222 - 225.
(3) سورة البقرة / 185.
(4) تفسير الأحكام للجصاص 1 / 161.
(5) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 105. وحديث: " هلك المتنطعون ". أخرجه مسلم وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، وزاد الراوي " قالها ثلاثا " (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4 / 2055 ط عيسى الحلبي 1375 هـ، وسنن أبي داود 5 / 15 ط استنبول) .

(4/181)


الْمُبَالِغُونَ فِي الأَْمْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَال أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْل أَبَدًا، وَقَال آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَال آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِل النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاَللَّهِ إِنِّي لأََخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (1)
قَال فِي نَيْل الأَْوْطَارِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الاِقْتِصَادُ فِي الطَّاعَاتِ، لأَِنَّ إِتْعَابَ النَّفْسِ فِيهَا وَالتَّشْدِيدَ عَلَيْهَا يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجَمِيعِ، وَالدِّينُ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ أَحَدٌ الدِّينَ إِلاَّ غَلَبَهُ، وَالشَّرِيعَةُ النَّبَوِيَّةُ بُنِيَتْ عَلَى التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ. (2)
وَلِهَذَا صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِكَرَاهَةِ صَوْمِ الْوِصَال وَصَوْمِ الدَّهْرِ، كَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ صَامَ الدَّهْرَ فَلاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ (3) وَقَالُوا بِكَرَاهَةِ قِيَامِ
__________
(1) حديث: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا. . . " أخرجه البخاري واللفظ له، ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه (فتح الباري 9 / 104 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1020 ط عيسى الحلبي) .
(2) نيل الأوطار للشوكاني 6 / 230.
(3) حديث: " من صام الدهر فلا صام ولا أفطر ". أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاري بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبب وابن ماجه بهذا المعنى من حديث أبي قتادة (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 819 ط عيسى الحلبي، وتحفة الأحوذي 3 / 475 نشر المكتبة السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 544 ط عيسى الحلبي) .

(4/181)


اللَّيْل كُلِّهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لاَ أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَلاَ صَامَ شَهْرًا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ (1) . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلاَقِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِحْيَاءِ اللَّيْل الاِسْتِيعَابُ، لَكِنَّهُ نُقِل عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنِصْفِهِ، لأَِنَّ مَنْ أَحْيَا نِصْفَ اللَّيْل فَقَدْ أَحْيَا اللَّيْل، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَيَتَرَجَّحُ إِرَادَةُ الأَْكْثَرِ أَوِ النِّصْفِ، وَالأَْكْثَرُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ. (2)
وَأَوْضَحُ مَا جَاءَ فِي مَنْعِ الإِْسْرَافِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَال: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجْرَتِي، فَقَال: أَلَمْ أُخْبِرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْل وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ ، قُلْتُ: بَلَى، قَال: فَلاَ تَفْعَلَنَّ، نَمْ وَقُمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجَتِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِصَدِيقِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنْ عَسَى أَنْ يَطُول بِكَ عُمُرٌ، وَأَنَّهُ حَسْبُكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُل شَهْرٍ ثَلاَثًا،
__________
(1) حديث: " لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح، ولا صام شهرا قط كاملا غير رمضان ". أخرجه مسلم ضمن حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرا كاملا غير
(2) ابن عابدين 1 / 460، 461 بتصرف، والمجموع 4 / 47 وكشاف القناع 1 / 437.

(4/182)


فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ كُل اللَّيْل دَائِمًا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ قِيل: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الدَّهْرِ - غَيْرِ أَيَّامِ النَّهْيِ - فَإِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ عِنْدَنَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ صَلاَةَ اللَّيْل كُلِّهِ دَائِمًا يُضِرُّ الْعَيْنَ وَسَائِرَ الْبَدَنِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، بِخِلاَفِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي فِي اللَّيْل مَا فَاتَهُ مِنْ أَكْل النَّهَارِ، وَلاَ يُمْكِنُهُ نَوْمُ النَّهَارِ إِذَا صَلَّى اللَّيْل، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. هَذَا حُكْمُ قِيَامِ اللَّيْل دَائِمًا، فَأَمَّا بَعْضُ اللَّيْل فَلاَ يُكْرَهُ إِحْيَاؤُهُ، (2) فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَل الْعَشْرُ الأَْوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَحْيَا اللَّيْل (3) وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى إِحْيَاءِ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) حديث: " ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. . . " أخرجه البخاري ومسلم بعدة طرق من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. ولفظ البخاري في إحدى الروايات: " يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإذن ذلك صيام الدهر كله. . . " الحديث (فتح الباري 3 / 217 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 812 - 818 ط عيسى الحلبي) .
(2) المجموع 4 / 44، 45 ط المنيرية.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل ". أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظ البخاري " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله " (فتح الباري 4 / 269 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 832 ط عيسى الحلبي) .

(4/182)


ثَانِيًا - الإِْسْرَافُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ:
أ - الإِْسْرَافُ فِي الصَّدَقَةِ:
10 - الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ الْمُحَدَّدَةُ الْمِقْدَارِ، كَالزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا الإِْسْرَافُ، لأَِنَّ أَدَاءَهَا بِالْقَدْرِ الْمُحَدَّدِ وَاجِبٌ شَرْعًا. وَتَفْصِيل شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَمِقْدَارِ مَا وَجَبَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَاتِ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهَا.
أَمَّا الصَّدَقَاتُ الْمَنْدُوبَةُ - وَهِيَ الَّتِي تُعْطَى لِلْمُحْتَاجِينَ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ - (1) فَرَغْمَ حَثِّ الإِْسْلاَمِ عَلَى الإِْنْفَاقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَصْدِ وَالاِعْتِدَال وَعَدَمِ التَّجَاوُزِ إِلَى حَدٍّ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا، بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى فَقْرِ الْمُنْفِقِ نَفْسِهِ حَتَّى يَتَكَفَّفَ النَّاسَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (2) .
وَكَذَلِكَ قَال سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُل الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (3) قَال الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: وَلاَ تُخْرِجْ جَمِيعَ مَا فِي يَدِك مَعَ حَاجَتِكَ وَحَاجَةِ عِيَالِكَ إِلَيْهِ، فَتَقْعُدَ مُنْقَطِعًا عَنِ النَّفَقَةِ وَالتَّصَرُّفِ، كَمَا يَكُونُ الْبَعِيرُ الْحَسِيرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَتْ قُوَّتُهُ فَلاَ انْبِعَاثَ بِهِ، وَقِيل: لِئَلاَّ تَبْقَى مَلُومًا ذَا حَسْرَةٍ عَلَى مَا فِي يَدِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَحَسَّرُ عَلَى إِنْفَاقِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ فِي
__________
(1) القليوبي 3 / 21، والشرح الصغير 4 / 140، والمغني 6 / 246.
(2) سورة الفرقان / 67.
(3) سورة الإسراء / 29.

(4/183)


سَبِيل اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنِ الإِْفْرَاطِ فِي الإِْنْفَاقِ وَإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ يَدُهُ مِنَ الْمَال مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ عَلَى مَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، فَيَقُول: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ،، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (1) فَأَمَّا مَنْ وَثِقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ وَجَزِيل ثَوَابِهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالآْيَةِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ فُضَلاَءِ الصَّحَابَةِ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يُعَنِّفْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصِحَّةِ يَقِينِهِمْ وَشِدَّةِ بَصَائِرِهِمْ. (2)
وَفِي ضَوْءِ هَذِهِ الآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الأَْوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِل عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يُمَوِّنُهُ عَلَى الدَّوَامِ، وَمَنْ أَسْرَفَ بِأَنْ تَصَدَّقَ بِمَا يُنْقِصُهُ عَنْ كِفَايَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ - وَلاَ كَسْبَ لَهُ - فَقَدْ أَثِمَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ
__________
(1) حديث: " يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس. . . . " أخرجه أبو داود واللفظ له وابن خزيمة والدارمي والحاكم من طريق محمد بن إسحاق من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. قال المنذري: في إسناده محمد بن إسحاق، وقال محقق صحيح ابن خزيمة: إسناده ضعيف. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وتعقبه الألباني بقوله: وليس كذلك، فإن ابن إسحاق إنما أخرج له مسلم مقرونا بآخر، ثم هو يدلس، وقد عنعنه، فلا يحتج به (عون المعبود 2 / 53 ط الهند، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 2 / 253، 254 نشر دار المعرفة، وسنن الدارمي 1 / 391 نشر دار إحياء السنة النبوية، وصحيح ابن خزيمة 4 / 98 نشر المكتب الإسلامي 1399 هـ، والمستدرك 1 / 413 نشر دار الكتاب العربي، وإرواء الغليل 3 / 416 نشر المكتب الإسلامي) .
(2) الأحكام للجصاص 3 / 246، والأحكام لابن العربي 3 / 1192، 1193، وتفسير الرازي 20 / 93.

(4/183)


يُمَوِّنُهُ (1) وَلأَِنَّ نَفَقَةَ مَنْ يُمَوِّنُهُ وَاجِبَةٌ، وَالتَّطَوُّعُ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْل عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلأَِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ لاَ يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ، فَيُذْهِبُ مَالَهُ، وَيُبْطِل أَجْرَهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ.
أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّل، وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ، وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ كَانَ ذَا مَكْسَبٍ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُل مَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا فِي حَقِّهِ إِسْرَافًا. (2) لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُل مَا عِنْدَهُ، فَقَال لَهُ: مَا أَبْقَيْتَ لأَِهْلِكَ؟ قَال: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (3) فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، لِقُوَّةِ يَقِينِهِ وَكَمَال إِيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ.

ب - الإِْسْرَافُ فِي الْوَصِيَّةِ:
11 - الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، أَوْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِالْمَال بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَال لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا فِي حَقِّ
__________
(1) حديث: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمونه ". أخرجه مسلم وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا. ولفظ مسلم " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته " (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 692 ط عيسى الحلبي، وعون المعبود 2 / 59، 60 ط الهند) .
(2) تفسير القرطبي 10 / 251، وابن عابدين 2 / 71، والمغني 3 / 82، 83، والقليوبي 3 / 205، والأحكام لابن العربي 3 / 1193.
(3) حديث: " ما أبقيت لأهلك. . . . ". أخرجه الترمذي وأبو داود ضمن قصة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (تحفة الأحوذي 10 / 161 نشر المكتبة السلفية، وعون المعبود 2 / 54 ط الهند) .

(4/184)


مَنْ لاَ يَرِثُ، وَقَدْ حَدَّدَ الشَّرْعُ حُدُودَهَا بِأَنْ لاَ تَزِيدَ عَنِ الثُّلُثِ، وَرَغَّبَ فِي التَّقْلِيل مِنَ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِتَجَنُّبِ الإِْسْرَافِ، وَإِيقَاعِ الضَّرَرِ بِالْوَرَثَةِ. (1)
فَإِذَا وُجِدَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، نُفِّذَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ، وَبَطَلَتْ فِي الزَّائِدِ مِنْهُ اتِّفَاقًا إِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، لِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَال: لاَ، فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ، فَقَال: لاَ، ثُمَّ قَال: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ (2) .
فَالثُّلُثُ هُوَ الْحَدُّ الأَْعْلَى فِي الْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْحَدِّ الأَْدْنَى، مَعَ اسْتِحْبَابِهِمُ الأَْقَل مِنَ الثُّلُثِ، وَأَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لِلأَْقَارِبِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ، لِتَكُونَ صَدَقَةً وَصِلَةً مَعًا. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ الأَْفْضَل لِلْغَنِيِّ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (3) أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، أَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ وَأَجَازَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (وَصِيَّة) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 417، والشرح الصغير 4 / 579، والمغني 6 / 2.
(2) حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم (فتح الباري 3 / 164 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1250، 1251 ط عيسى الحلبي) .
(3) ابن عابدين 5 / 417، والمغني 6 / 107، 108، والقليوبي والشرح الصغير 4 / 586.

(4/184)


ثَالِثًا: الإِْسْرَافُ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَال:
12 - الإِْسْرَافُ بِمَعْنَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُل حَالَةٍ، حَتَّى فِي الْمُقَابَلَةِ مَعَ الأَْعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالْقِتَال، فَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِمُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالاِعْتِدَال فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) وَيَقُول سُبْحَانَهُ: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَدُوُّ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ، حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَيُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ، وَتُكْرَهُ الْمُثْلَةُ بِقَتْلاَهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ (3) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْل الإِْيمَانِ (4) .
وَلاَ يَجُوزُ قَتْل الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلاَ تُقْتَل امْرَأَةٌ وَلاَ شَيْخٌ فَانٍ، وَلاَ يُقْتَل زَمِنٌ وَلاَ أَعْمَى وَلاَ رَاهِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، أَوْ كَانُوا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَمَكَايِدَ فِي الْحَرْبِ،
__________
(1) سورة البقرة / 190.
(2) سورة المائدة / 2.
(3) المهذب 2 / 232، وابن عابدين 3 / 223، والحطاب 3 / 350، 354، والمغني 8 / 494.
(4) حديث: " إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان ". أخرجه أحمد (1 / 293 ط الميمنية) وأبو داود (3 / 120 ط عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 894 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي) . # قال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: ورجال أحمد ثقات إلا أن المغيرة بن مقسم الضبي مدلس، ولا سيما عن إبراهيم بن يزيد، وقد روى في هذا الحديث ولم يصرح بالسماع (جامع الأصول 2 / 619 نشر مكتبة الحلواني) .

(4/185)


أَوْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَلاَ يَجُوزُ الْغَدْرُ وَالْغُلُول، وَلاَ يَجُوزُ الإِْحْرَاقُ بِالنَّارِ إِنْ أَمْكَنَ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِمْ بِدُونِهَا، وَلاَ يَجُوزُ التَّمْثِيل بِالْقَتْل، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ (1) وَيَجُوزُ مَعَهُمْ عَقْدُ الأَْمَانِ وَالصُّلْحِ بِمَالٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) .
وَلَوْ حَاصَرْنَاهُمْ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فِيهَا، وَإِلاَّ فَرَضْنَا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلاَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنْ قَبِلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مِنَّا الْمُعَامَلَةُ بِالْعَدْل وَالْقِسْطِ عَلَى حَسَبِ شُرُوطِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى نَغْلِبَهُمْ عَنْوَةً (3) . وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ ر: (جِهَاد) (وَجِزْيَة) .

الإِْسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ
أ - الإِْسْرَافُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ:
13 - الأَْكْل وَالشُّرْبُ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ فَرْضٌ، وَهُوَ بِقَدْرِ الشِّبَعِ مُبَاحٌ، فَإِذَا نَوَى بِالشِّبَعِ ازْدِيَادَ قُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مَحْظُورٌ،
__________
(1) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . . . " أخرجه مسلم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعا. (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1548 ط عيسى الحلبي، وشرح السنة للبغوي 11 / 219 نشر المكتب الإسلامي 1397 هـ) .
(2) سورة الأنفال / 61.
(3) ابن عابدين 3 / 223، 423، والقليوبي 4 / 218، 219، ومواهب الجليل 3 / 350، والبدائع 7 / 100.

(4/185)


عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحِي الضَّيْفُ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا} (1) . فَالإِْنْسَانُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْكُل وَيَشْرَبَ بِحَيْثُ يَتَقَوَّى عَلَى أَدَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى الْحَرَامِ، وَلاَ يُكْثِرُ الإِْنْفَاقَ الْمُسْتَقْبَحَ، وَلاَ يَتَنَاوَل مِقْدَارًا كَثِيرًا يَضُرُّهُ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا يَمْنَعُهُ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، وَلأَِنَّهُ إِضَاعَةُ الْمَال وَإِمْرَاضُ النَّفْسِ. (2)
وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ (3) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُل كُل مَا اشْتَهَيْتَ (4) .
__________
(1) سورة الأعراف / 31.
(2) تفسير الفخر الرازي 14 / 62، وتفسير القرطبي 7 / 191، 192، والآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 365.
(3) حديث: " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه. . . " أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي واللفظ له وابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (تحفة الأحوذي 7 / 51، 52 نشر المكتبة السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1111 ط عيسى الحلبي 1373 هـ، والفتح الرباني 17 / 88، 89 الطبعة الأولى 1372 هـ) .
(4) حديث: " إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت، أخرجه ابن ماجه بهذا اللفظ من حديث أنس بن مالك مرفوعا، وقال الحافظ البوصيري: هذا إسناده ضعيف، لأن نوح بن ذكوان متفق على تضعيفه، وقال الدميري: هذا الحديث مما أنكر عليه، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورده المنذري بلفظ " من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت " وقال: رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع والبيهقي، وقد صحح الحاكم إسناده لمتن غير هذا، وحسنه غيره. (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1112 ط عيسى الحلبي، وكتاب الموضوعات لابن الجوزي 3 / 30 نشر المكتبة السلفية، والترغيب والترهيب 4 / 202 ط مطبعة السعادة 1380 هـ، وفيض القدير 2 / 526 نشر المكتبة التجارية) .

(4/186)


وَقَدْ نَقَل الْقُرْطُبِيُّ (1) فِي الْحَضِّ عَلَى تَقْلِيل الطَّعَامِ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لأَِبِي جُحَيْفَةَ حِينَمَا أَتَاهُ يَتَجَشَّأُ: اُكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) . وَهَذَا الْقَدْرُ مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُطْلَبُ تَخْفِيفُ الْمَعِدَةِ بِتَقْلِيل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى قَدْرٍ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلاَ كَسَلٌ عَنْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَكُونُ لِلشِّبَعِ سَبَبًا فِي عِبَادَةٍ فَيَجِبُ، وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فَيَحْرُمُ، أَوْ تَرْكُ مُسْتَحَبٍّ فَيُكْرَهُ. (3)
__________
(1) القرطبي 7 / 194.
(2) حديث: " أكفف عليك من جشائك أبا جحيفة. . . " أخرجه الحاكم من حديث أبي جحيفة أنه قال: أكلت ثريدة من خبز بر ولحم سمين، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أتجشأ، فقال: ما هذا كف من جشائك، فإن أكثر الناس شبعا أكثرهم في الآخرة جوعا " قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الحاكم بقوله: فهد قال المديني كذاب، وعمر هالك. قال المنذري: بل واه جدا، فيه فهد بن عوف، وعمر بن موسى، لكن رواه البزار بإسنادين رواة أحدهما ثقات. ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي والطبراني في الكبير والأوسط ببعض الزيادات. قال الهيثمي: في أحد أسانيد معجم الطبراني الكبير محمد بن خالد الكوفي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات (المس والترغيب والترهيب 4 / 199 ط مطبعة السعادة 1380 هـ، ومجمع الزوائد 5 / 31 نشر مكتبة القدسي) .
(3) بلغة السالك 4 / 752.

(4/186)


وَقَال الْغَزَالِيُّ: صَرْفُ الْمَال إِلَى الأَْطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لاَ يَلِيقُ بِحَالِهِ تَبْذِيرٌ. (1) فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْحَجْرِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّ هَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ تَبْذِيرًا مَا لَمْ يُصْرَفْ فِي مُحَرَّمٍ، فَيُعْتَبَرُ عِنْدَئِذٍ إِسْرَافًا وَتَبْذِيرًا إِجْمَاعًا (2) . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَكْل الْمَتْخُومِ، أَوِ الأَْكْل الْمُفْضِي إِلَى تُخَمَةٍ سَبَبٌ لِمَرَضِهِ وَإِفْسَادِ بَدَنِهِ، وَهُوَ تَضْيِيعُ الْمَال فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَقَالُوا: لاَ بَأْسَ بِالشِّبَعِ، لَكِنْ يُكْرَهُ الإِْسْرَافُ، وَالإِْسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ. (3)

ب - الإِْسْرَافُ فِي الْمَلْبَسِ وَالزِّينَةِ:
14 - الإِْسْرَافُ فِي الْمَلْبَسِ وَالزِّينَةِ مَمْنُوعٌ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَسُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. (4)
__________
(1) الوجيز للغزالي 1 / 176.
(2) القليوبي 2 / 301.
(3) الآداب الشرعية 3 / 200 - 203، وشرح منتهى الإرادات 3 / 1.
(4) حديث: " البسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة ". علقه البخاري بلفظ " كلوا واشربوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة " وأخرجه ابن ماجه باللفظ الوارد في صلب الموسوعة، والنسائي وأبو داود والطيالسي والحارث بن أبي أسامة وابن أبي الدنيا من طريق همام عن قتادة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدة مرفوعا. والحديث حسنه بدر البدر محقق كتاب الشكر لابن أبي الدنيا (فتح الباري 10 / 252، 253 ط السلفية، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 1192 ط عيسى الحلبي. وسنن النسائي 5 / 79 ط استانبول، ومنحة المعبود 1 / 351 ط المطبعة المنيرية 1372، وكتاب الشكر لأبي بكر بن أبي الدنيا بتحقيق بدر البدر ص 22 المكتب الإسلامي 1400 هـ) .

(4/187)


قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَلْبَسُ بَيْنَ الْخَسِيسِ وَالنَّفِيسِ، إِذْ خَيْرُ الأُْمُورِ أَوْسَطُهَا، وَلِلنَّهْيِ عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ النَّفَاسَةِ أَوِ الْخَسَاسَةِ. وَيُنْدَبُ لُبْسُ الثَّوْبِ الْجَمِيل لِلتَّزَيُّنِ فِي الأَْعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ (1) ، لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ كِبْرٍ، قَال رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُل يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، قَال: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ. (2)

الإِْسْرَافُ فِي الْمَهْرِ:
15 - الْمَهْرُ يَجِبُ إِمَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْعَقْدِ. فَإِذَا سُمِّيَ فِي الْعَقْدِ، وُعِّينَ مِقْدَارُهُ، وَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِلاَّ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْل، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (3)
وَلَمْ يُحَدِّدِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ أَقَل الْمَهْرِ، وَحَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ أَقَل الْمَهْرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: أَقَلُّهُ رُبُعُ دِينَارٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةً خَالِصَةً. (4)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 217، 224، وبلغة السالك 1 / 59، والقليوبي 1 / 301، 3 / 297، والمغني 1 / 275، 2 / 370، والاختيار للموصلي 4 / 177، والآداب الشرعية 3 / 55، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 289.
(2)) حديث: " لا يدخل الجنة. . . . " أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 93 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(3) ابن عابدين 2 / 329، والدسوقي 2 / 297، ونهاية المحتاج 6 / 328.
(4) الأم للشافعي 5 / 58، والمغني 6 / 682، والدسوقي 2 / 302، وابن عابدين 2 / 230، 329، والبدائع 2 / 275، وفتح القدير 3 / 205، 206، والحطاب 3 / 506.

(4/187)


وَلاَ حَدَّ لأَِكْثَرِ الْمَهْرِ إجْمَاعًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1)
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (2) . لأَِنَّ الْقِنْطَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَال الْكَثِيرِ.
وَلَكِنْ حَذَّرَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الإِْسْرَافِ وَالْمُغَالاَةِ فِي الْمَهْرِ، وَقَالُوا: تُكْرَهُ الْمُغَالاَةُ فِي الصَّدَاقِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً (3) وَفَسَّرُوا الْمُغَالاَةَ فِي الْمَهْرِ بِمَا خَرَجَ عَنْ عَادَةِ أَمْثَال الزَّوْجَةِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَمْثَالِهَا، إِذِ الْمِائَةُ قَدْ تَكُونُ كَثِيرَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لاِمْرَأَةٍ، وَقَلِيلَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لأُِخْرَى.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِكَرَاهَةِ الإِْسْرَافِ فِي الْمَهْرِ بِأَنَّ الرَّجُل يُغْلِي بِصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ (أَيْ فَوْقَ طَاقَتِهِ) ، حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي قَلْبِهِ، وَلأَِنَّهُ إِذَا كَثُرَ بِمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَيَتَعَرَّضُ لِلضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. (4) وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (مَهْر) .

الإِْسْرَافُ فِي التَّكْفِينِ وَالتَّجْهِيزِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَنِ هُوَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 330، والدسوقي 2 / 309، والأم 5 / 58، 59، والمغني 6 / 681.
(2) سورة النساء / 20.
(3) حديث: " أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة " أخرجه أحمد بن حنبل والحاكم والبيهقي والبزار من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي بالرغم من أن مدار الحديث على ابن سنجرة، يقال اسمه عيسى بن ميمون، وهو متروك كما قال الهيثمي. (المستدرك 2 / 178 نشر دار الكتاب العربي، والسنن الكبرى للبيهقي 7 / 235 ط الهند، ومجمع الزوائد 4 / 255 نشر مكتبة القدس، وفيض القدير 2 / 5، 6 نشر المكتبة التجارية 1356 هـ) .
(4)) نهاية المحتاج 6 / 329، والمغني 6 / 682، والدسوقي 2 / 309.

(4/188)


الثَّوْبُ الْوَاحِدُ. وَالإِْيتَارُ فِيهِ إِلَى ثَلاَثٍ لِلرَّجُل، وَإِلَى خَمْسٍ لِلْمَرْأَةِ سُنَّةٌ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَّةٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ. . . (1)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَعْطَى اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ (2) وَلأَِنَّ عَدَدَ الثَّلاَثِ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُل فِي حَيَاتِهِ، فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْمَرْأَةُ تَزِيدُ فِي حَال حَيَاتِهَا عَلَى الرَّجُل فِي السَّتْرِ، لِزِيَادَةِ عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. (3)
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض سهولية " أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (فتح الباري 3 / 135 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 649، 650 ط عيسى الحلبي 1374 هـ) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى اللواتي غسلن ابنته خمسة أثواب " أورده صاحب نصب الراية بهذا اللفظ، وتعقبه بقوله: غريب من حديث أم عطية، وأخرجه أحمد وأبو داود من حديث ليلى بنت ثائف الثقفية بلفظ " كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم المحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر. قالت: ورسول الله صلى ال (مسند أحمد بن حنبل 6 / 380 ط الميمنية، وعون المعبود 3 / 171 ط الهند، والفتح الرباني 7 / 175، 176 الطبعة الأولى 1372 هـ، ونصب الراية 2 / 263 ط مطبعة دار المأمون، وتلخيص الحبير 2 / 109، 110 نشر السيد عبد الله هاشم اليماني بالمدينة المنورة 1384 هـ، وجامع الأصول 11 / 113 نشر مكتبة الحلواني 1393 هـ) .
(3) فتح القدير 1 / 78، 79، والخرشي 2 / 126، والقليوبي 1 / 328، والمغني 2 / 466، 470.

(4/188)


وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الأَْثْوَابِ الثَّلاَثَةِ لِلرَّجُل، وَالْخَمْسَةِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) : الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الإِْسْرَافِ وَإِضَاعَةِ الْمَال الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا (2)
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْسِينِ الْكَفَنِ: إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ (3) . مَعْنَاهُ: بَيَاضَهُ وَنَظَافَتَهُ، لاَ كَوْنَهُ ثَمِينًا حِلْيَةً.
وَلاَ بَأْسَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالزِّيَادَةِ إِلَى خَمْسَةٍ فِي الرَّجُل، وَإِلَى سَبْعَةٍ فِي الْمَرْأَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْخَمْسَةِ فِي الرَّجُل، وَالسَّبْعَةِ فِي الْمَرْأَةِ إِسْرَافٌ، وَثَلاَثَةٌ أَوْلَى مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَخَمْسَةٌ أَوْلَى مِنْ سِتَّةٍ. (4)
فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الإِْسْرَافَ مَحْظُورٌ فِي الْكَفَنِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ. وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَنَ يَكُونُ وَفْقًا لِمَا يَلْبَسُهُ الْمَيِّتُ حَال حَيَاتِهِ عَادَةً.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَنٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 578، ونهاية المحتاج 2 / 450، والمغني 2 / 466، وكشاف القناع 2 / 105.
(2) حديث: " لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا. . . " أخرجه أبو داود من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا. قال المنذري: في إسناده أبو مالك عمرو بن هاشم الجنبي وفيه مقال (عون المعبود 3 / 170 ط الهند، وجامع الأصول 11 / 116 نشر مكتبة الحلواني 1393 هـ) .
(3) حديث: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ". أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعا (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 651 ط عيسى الحلبي) .
(4) جواهر الإكليل 1 / 109، والخرشي 2 / 126.

(4/189)


الإِْسْرَافُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ

17 - الْمَحْظُورُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَا مُنِعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ شَرْعًا، وَيَشْمَل بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ الْحَرَامَ وَالْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، فَالْمَحْظُورَاتُ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ الْمَمْنُوعَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تُوجِبُ الْعِقَابَ (1) .
وَارْتِكَابُ الْمُحَرَّمَاتِ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ إِسْرَافًا، لأَِنَّهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ. يَقُول الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (2) : الإِْسْرَافُ فِي كُل شَيْءٍ الإِْفْرَاطُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الذُّنُوبُ الْعَظِيمَةُ الْكَبِيرَةُ. قَال أَبُو حَيَّانَ الأَْنْدَلُسِيُّ: (ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا) مُتَقَارِبَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَجَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّأْكِيدِ. (3) وَقِيل: الذُّنُوبُ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ. ثُمَّ إِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي ارْتِكَابِ الْمَمْنُوعِ تُوجِبُ تَشْدِيدَ الْعِقَابِ، فَالْعُقُوبَةُ بِقَدْرِ الْجَرِيمَةِ، كَمَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ، وَالإِْصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَإِدَامَتُهَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْكَبِيرَةِ فِي إِسْقَاطِ الْعَدَالَةِ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ مَنْ كَثُرَتْ صَغَائِرُهُ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا (4) .

18 - لَكِنْ هُنَاكَ حَالاَتٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ الإِْتْيَانُ بِالْمُحَرَّمِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُسْرِفَ أَيْ لاَ يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ وَذَلِكَ مِثْل:
أ - حَالَةِ الإِْكْرَاهِ: كَمَا إِذَا أَجْبَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَكْل أَوْ شُرْبِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهَا.
ب - حَالَةِ الاِضْطِرَارِ: كَمَا إِذَا وُجِدَ الشَّخْصُ فِي
__________
(1) ابن عابدين 5 / 214.
(2) سورة آل عمران / 147.
(3) البحر المحيط 3 / 75.
(4) قليوبي 4 / 319، وابن عابدين 4 / 377، والشرح الصغير 4 / 242، وجواهر الإكليل 2 / 233.

(4/189)


حَالَةٍ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَل الْمُحَرَّمَ هَلَكَ، وَلاَ تَكُونُ لِلْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَسِيلَةٌ أُخْرَى، كَحَالَةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدَيْنِ. (1)
فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَجُوزُ اتِّفَاقًا - بَل يَجِبُ عِنْدَ الأَْكْثَرِ - أَكْل مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالأَْمْوَال الْمُحَرَّمَةِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُسْرِفَ الآْكِل وَالشَّارِبُ، وَلاَ يَتَجَاوَزُ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُقَرَّرَةَ الَّتِي سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
وَتَتَّفِقُ حَالَةُ الإِْكْرَاهِ مَعَ حَالَةِ الاِضْطِرَارِ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُمَا تَخْتَلِفَانِ فِي سَبَبِ الْفِعْل، فَفِي الإِْكْرَاهِ يَدْفَعُ الْمُكْرَهَ إِلَى إِتْيَانِ الْفِعْل الْمُحَرَّمِ شَخْصٌ آخَرُ وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْعَمَل، أَمَّا فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ فَيُوجَدُ الْفَاعِل فِي ظُرُوفٍ تَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهَا، أَنْ يَرْتَكِبَ الْفِعْل الْمُحَرَّمَ لِيُنْجِيَ نَفْسَهُ. وَبِهَذَا نَكْتَفِي بِذِكْرِ حُكْمِ الإِْسْرَافِ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ فَقَطْ. 19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ، وَلَوْ كَانَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ مَال الْغَيْرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) لَكِنَّ الأَْكْل وَالشُّرْبَ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَال الاِضْطِرَارِ مَحْدُودٌ بِحُدُودٍ لاَ يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنْهَا وَالإِْسْرَافُ فِيهَا، وَإِلاَّ يُعْتَبَرُ مُسِيئًا وَآثِمًا.
وَالْجُمْهُورُ: الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مِقْدَارَ مَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ (3)
__________
(1) الحموي على الأشباه ص 108، والشرح الكبير للدردير 2 / 115، والقليوبي 4 / 262، والمغني 8 / 595، 596.
(2) سورة البقرة / 173.
(3) حالة الاضطرار: أن يبلغ الإنسان حدا إن لم يتناول الممنوع يهلك، ويشترط فيه أن يكون خوف الموت قائما في الحال، وألا يكون لدفعه وسيلة أخرى. اللجنة.

(4/190)


أَكْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ هُوَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، فَمَنْ زَادَ عَنْ هَذَا الْمِقْدَارِ يُعْتَبَرُ مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ. (1) فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الأَْكْل إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ وَالتَّزَوُّدِ بِالْمُحَرَّمِ، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَيَّدَ جَوَازَ الاِنْتِفَاعِ بِالْمُحَرَّمِ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ بِقَوْلِهِ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} ، وَالْمُرَادُ أَلاَّ يَكُونَ الْمُضْطَرُّ بَاغِيًا فِي أَكْل الْمُحَرَّمِ تَلَذُّذًا، وَلاَ مُتَعَدِّيًا بِالْحَدِّ الْمَشْرُوعِ، فَيَكُونُ مُسْرِفًا فِي الأَْكْل إِذَا تَنَاوَل مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمِقْدَارِ الَّذِي يُمْسِكُ الرَّمَقَ، فَمَتَى أَكَل بِمِقْدَارِ مَا يَزُول عَنْهُ الْخَوْفُ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْحَال فَقَدْ زَالَتِ الضَّرُورَةُ، وَلاَ اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ لِسَدِّ الْجَوْعَةِ، لأَِنَّ الْجُوعَ فِي الاِبْتِلاَءِ لاَ يُبِيحُ أَكْل الْمَيْتَةِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا يَتْرُكُهُ (2)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا، لأَِنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ بِهِ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ، بَل الْمَالِكِيَّةُ جَوَّزُوا التَّزَوُّدَ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَأْكُل مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ، وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا، لأَِنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ مِمَّنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ، فَإِذَا كَانَتْ حَلاَلاً لَهُ الأَْكْل مِنْهَا مَا شَاءَ، حَتَّى يَجِدَ غَيْرَهَا فَتَحْرُمَ عَلَيْهِ، (3) وَجَوَازُ التَّزَوُّدِ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (4) وَعَلَى ذَلِكَ فَالأَْكْل إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ لاَ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا عِنْدَ هَؤُلاَءِ، كَمَا أَنَّ التَّزَوُّدَ مِنَ الْمَيْتَةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 215، وأسنى المطالب 1 / 570، والشرح الكبير للدردير 2 / 115، والمغني 8 / 596.
(2) تفسير الأحكام للجصاص 1 / 149 - 151، وابن عابدين 5 / 215، ونهاية المحتاج 8 / 152، والمغني 8 / 595.
(3) التاج والإكليل 3 / 233، والقليوبي 4 / 263، والمغني 5 / 595.
(4) المغني 8 / 597.

(4/190)


لاَ يُعَدُّ إِسْرَافًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (1)
وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ ر: (اضْطِرَار) .

الإِْسْرَافُ فِي الْعُقُوبَةِ:
20 - الأَْصْل فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ بِقَدْرِ الْجَرِيمَةِ، قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) وَقَال سُبْحَانَهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) فَلاَ تَجُوزُ فِيهَا الزِّيَادَةُ وَالإِْسْرَافُ قَطْعًا، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ تُعْتَبَرُ تَعَدِّيًا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4)
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الإِْسْرَافُ فِي الْقِصَاصِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الإِْسْرَافُ وَالزِّيَادَةُ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (5) قَال الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: لاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْل أَيْ لاَ يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ فِيهِ، فَلاَ يُقْتَل غَيْرُ قَاتِلِهِ، وَلاَ يُمَثَّل بِالْقَاتِل كَعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، لأَِنَّهُمْ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 36، والهندية 5 / 338، ومواهب الجليل 3 / 234، وأسنى المطالب 1 / 573، والمغني 11 / 78.
(2) سورة النحل / 126.
(3) سورة البقرة / 194.
(4) سورة البقرة / 190.
(5) سورة الإسراء / 33.

(4/191)


كَانُوا إِذَا قُتِل مِنْهُمْ وَاحِدٌ قَتَلُوا بِهِ جَمَاعَةً، وَإِذَا قَتَل مَنْ لَيْسَ شَرِيفًا لَمْ يَقْتُلُوهُ، وَقَتَلُوا بِهِ شَرِيفًا مِنْ قَوْمِهِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. (1)
22 - وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى حَامِلٍ لَمْ تُقْتَل حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ تُقْتَل حَتَّى تَسْقِيَ وَلَدَهَا اللِّبَأَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَنْ يُرْضِعُهُ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا حَتَّى يَجِيءَ أَوَانُ فِطَامِهِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ عَمْدًا لَمْ تُقْتَل حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلاً، وَحَتَّى تُكْفِل وَلَدَهَا (2) . وَلأَِنَّ فِي قَتْل الْحَامِل قَتْلاً لِوَلَدِهَا، فَيَكُونُ إِسْرَافًا فِي الْقَتْل، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَال: {فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْل} ، وَلأَِنَّ فِي الْقِصَاصِ مِنَ الْحَامِل قَتْلاً لِغَيْرِ الْجَانِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ (3) ، إِذْ {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4) .
23 - وَنَشْتَرِطُ الْمُمَاثَلَةَ فِي قِصَاصِ الأَْعْضَاءِ فِي الْمَحَل وَالْمِقْدَارِ وَالصِّفَةِ، بِأَلاَّ يَكُونَ الْعُضْوُ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ أَحْسَنَ حَالاً مِنَ الْعُضْوِ التَّالِفِ، وَإِلاَّ يُعْتَبَرُ إِسْرَافًا
__________
(1) القرطبي 10 / 255، وتفسير الرازي 20 / 203، والألوسي 15 / 69، وتفسير الكشاف 20 / 448، وابن كثير 3 / 39.
(2) حديث: " إذا قتلت المرأة. . . . " أخرجه ابن ماجه من حديث معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس مرفوعا بلفظ: " المرأة إذا قتلت عمدا لا تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها. وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها " قال الحافظ البوصيري في الزوائد: في إسناده ابن أنعم، اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ضعيف، وكذلك الراوي عنه عبد الله بن لهيعة (سنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 895 ط
(3) البدائع 7 / 59، ونهاية المحتاج 7 / 288، ومواهب الجليل 6 / 253، والمغني 7 / 731 - 732.
(4) سورة الأنعام / 164.

(4/191)


مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَلاَ تُؤْخَذُ يَدٌ صَحِيحَةٌ بِيَدٍ شَلاَّءَ، وَلاَ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِرِجْلٍ شَلاَّءَ، وَلاَ تُؤْخَذُ يَدٌ كَامِلَةٌ بِيَدٍ نَاقِصَةٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فَوْقَ حَقِّهِ، وَلَوْ وَجَبَ لَهُ قِصَاصٌ فِي أُنْمُلَةٍ فَقَطَعَ أُنْمُلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَامِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الزِّيَادَةِ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (1)
24 - وَلِكَيْ يُؤْمَنُ الإِْسْرَافُ وَالتَّعَدِّي، صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِلاَّ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، لأَِنَّهُ يُفْتَقَرُ إِلَى اجْتِهَادِهِ، وَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْحَيْفُ مَعَ قَصْدِ التَّشَفِّي، وَيَلْزَمُ وَلِيَّ الأَْمْرِ تَفَقُّدُ آلَةِ الاِسْتِيفَاءِ، وَالأَْمْرُ بِضَبْطِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ فِي غَيْرِ النَّفْسِ، حَذَرًا مِنَ الزِّيَادَةِ وَاضْطِرَابِهِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْحَاكِمُ الْقَاتِل لِوَلِيِّ الدَّمِ لِيَقْتُلَهُ نَهَى الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ عَنِ التَّمْثِيل بِالْقَاتِل وَالتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ. (2)
وَفِي قِصَاصِ الأَْطْرَافِ يُشْتَرَطُ إِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلاَ زِيَادَةٍ، بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، حَذَرًا مِنَ الإِْسْرَافِ. (3)
وَلأَِنَّ الْجَرْحَ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلاَ زِيَادَةٍ هُوَ كُل جُرْحٍ يَنْتَهِي إِلَى عَظْمٍ كَالْمُوضِحَةِ، اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ
__________
(1) المهذب 2 / 182، 188، ومواهب الجليل 6 / 246، والشرح الصغير 4 / 348، والمغني 7 / 707، 724، وابن عابدين 5 / 53، والبدائع 7 / 298، والبحر الرائق 8 / 306، 308.
(2) كشاف القناع 5 / 535 - 537، والمغني 7 / 707، وشرح منح الجليل 4 / 383، ونهاية المحتاج 7 / 286، والاختيار 5 / 42.
(3) المراجع السابقة.

(4/192)


فِيهَا الْقِصَاصَ، وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ لأَِنَّهُ يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ، أَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْجُرُوحِ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، لاِحْتِمَال الزِّيَادَةِ وَالْحَيْفِ خَوْفًا مِنَ الإِْسْرَافِ، وَلَوْ زَادَ الْمُقْتَصُّ عَمْدًا فِي مُوضِحَةٍ عَلَى حَقِّهِ لَزِمَهُ قِصَاصُ الزِّيَادَةِ لِتَعَمُّدِهِ (1) ، كَمَا نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص) .

ب - الإِْسْرَافُ فِي الْحُدُودِ:
25 - الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَاجِبَةٌ حَقًّا لِلَّهِ. وَالْمُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ: أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ وَمُحَدَّدَةٌ لاَ تَقْبَل الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَحَدُّ مَنْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ (2) أَوْ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَاحِدٌ. وَمَعْنَى أَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: أَنَّهَا لاَ تَقْبَل الْعَفْوَ وَالإِْسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، وَلاَ يُمْكِنُ اسْتِبْدَال عُقُوبَةٍ أُخْرَى بِهَا، لأَِنَّهَا ثَبَتَتْ بِالأَْدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ فِيهَا التَّعَدِّي وَالإِْسْرَافِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. (3)
وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْحَامِل، لأَِنَّ فِيهِ هَلاَكُ الْجَنِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا إِسْرَافٌ بِلاَ شَكٍّ. (4) وَيُشْتَرَطُ فِي الْحُدُودِ الَّتِي عُقُوبَتُهَا الْجَلْدُ، كَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَى فِي حَالَةِ عَدَمِ الإِْحْصَانِ أَلاَّ يَكُونَ فِي الْجَلْدِ خَوْفُ الْهَلاَكِ،
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 286، والاختيار 5 / 42، والمغني 7 / 703، 704، ومواهب الجليل 6 / 246.
(2) عند الحنفية أقل ما يقطع به عشرة دراهم.
(3) بدائع الصنائع 7 / 33، ومواهب الجليل 6 / 318، والإقناع 4 / 244، والمغني 8 / 311، 312، والأحكام السلطانية للماوردي ص 194.
(4) البدائع 7 / 59، ومواهب الجليل 6 / 319، والمغني 8 / 317، والدسوقي 4 / 322.

(4/192)


لأَِنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لاَ مُهْلِكًا، وَيَكُونُ الضَّرْبُ وَسَطًا، لاَ مُبَرِّحًا وَلاَ خَفِيفًا، وَلاَ يُجْمَعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِل، وَهِيَ الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ وَالْفَرْجُ، لِمَا فِيهَا مِنْ خَوْفِ الْهَلاَكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلاَّدُ عَاقِلاً بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِلتَّحَرُّزِ عَنِ التَّعَدِّي وَالإِْسْرَافِ. (1)
فَإِنْ أَتَى بِالْحَدِّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَإِسْرَافٍ لاَ يَضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ بِالسَّلاَمَةِ، أَمَّا إِذَا أَسْرَفَ وَزَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ الْمَحْدُودُ وَجَبَ الضَّمَانُ بِالاِتِّفَاقِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مَوَاضِعِهَا.

ج - الإِْسْرَافُ فِي التَّعْزِيرِ:
26 - التَّعْزِيرُ هُوَ: التَّأْدِيبُ عَلَى ذُنُوبٍ لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةٌ. وَهُوَ عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْجِنَايَةِ وَأَحْوَال النَّاسِ، فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ، وَمِقْدَارِ مَا يَنْزَجِرُ بِهِ الْجَانِي، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالْيَسِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِالْكَثِيرِ (3) ، وَلِهَذَا قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ فِي الضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ أَلاَّ يَكُونَ مُبَرِّحًا، وَلاَ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ، وَلاَ عَلَى الْمَوَاضِعِ الْمَخُوفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ تَأْدِيبًا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلاَحُ لاَ غَيْرُ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى
__________
(1) البدائع 7 / 59، والمغني 8 / 311 - 315، والحطاب 6 / 319، وقليوبي 4 / 183، 204، 205.
(2) المغني 8 / 311، 312، ومواهب الجليل 6 / 297، والقليوبي 4 / 209، والبدائع 7 / 304، 305.
(3) الزيلعي 3 / 204، ومواهب الجليل 6 / 319، والقليوبي 4 / 205، وابن عابدين 3 / 177، والبدائع 7 / 63، والمغني 8 / 324، والإقناع 4 / 268.

(4/193)


ظَنِّهِ أَنَّ الضَّرْبَ لاَ يُفِيدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا لَمْ يَجُزِ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ، وَإِلاَّ كَانَ ضَامِنًا بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ الضَّرْبَ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، وَاَلَّذِي لاَ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ أَدَبًا، تَعَدٍّ وَإِسْرَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ. (1)
27 - أَمَّا إِذَا ضَرَبَ لِلتَّأْدِيبِ عَلَى النَّحْوِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ - كَمَا فَسَّرَهُ الرَّمْلِيُّ - بِأَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا - كَمَا عَبَّرَ الطَّحْطَاوِيُّ - فَتَلِفَ، كَضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ لِنُشُوزِهَا، فَتَلِفَتْ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ، لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَضْمَنُ عَنِ التَّلَفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ كَانَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا، لأَِنَّ التَّأْدِيبَ حَقٌّ، وَاسْتِعْمَال الْحَقِّ يُقَيَّدُ بِالسَّلاَمَةِ عِنْدَهُمَا، وَلاَ يُقَيَّدُ بِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهَا. (2)
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ (مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الأَْصَحِّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ) عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ لاَ تَتَجَاوَزُ تِسْعَةً وَثَلاَثِينَ سَوْطًا، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ. (3) لأَِنَّ الأَْرْبَعِينَ حَدٌّ كَامِلٌ لِلرَّقِيقِ، فَإِذَا نَقَصَتْ سَوْطًا أَصْبَحَ الْحَدُّ الأَْعْلَى لِلتَّعْزِيرِ تِسْعَةً
__________
(1) المغني 8 / 327، وأسنى المطالب 3 / 239، ومواهب الجليل 4 / 15، 16، والطحطاوي 4 / 375، والأم 6 / 176.
(2) المراجع السابقة، ونهاية المحتاج 8 / 28، ومنح الجليل 4 / 556، والأشباه لابن نجيم ص 289.
(3) حديث: " من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين " أخرجه البيهقي من حديث النعمان بن بشير، وقال: والمحفوظ هذا الحديث مرسل (السنن الكبرى للبيهقي 8 / 327 ط الهند، وفيض القدير 6 / 95 نشر المكتبة التجارية 1357 هـ) .

(4/193)


وَثَلاَثِينَ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا فِيمَا يَكُونُ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ. (1)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يُزَادُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ نَقْلاً عَنِ الْقَاضِي: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. (2) وَيُفَوَّضُ مِقْدَارُهُ مُطْلَقًا - وَإِنْ زَائِدًا عَلَى الْحَدِّ - لِلْحَاكِمِ بِشَرْطِ أَلاَّ يَتَجَاوَزَ عَمَّا يَكْفِي لِزَجْرِ الْجَانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (3)
وَلَيْسَ لأَِقَل التَّعْزِيرِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ رَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ، فَلاَ يَجُوزُ الإِْسْرَافُ وَالزِّيَادَةُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَنْزَجِرُ بِهِ الْمُجْرِمُ فِي الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا. (4)

الْحَجْرُ عَلَى الْمُسْرِفِ:
28 - الْمُسْرِفُ فِي الأَْمْوَال يُعْتَبَرُ سَفِيهًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ يُبَذِّرُ الأَْمْوَال وَيُضَيِّعُهَا عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالْعَقْل، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى السَّفَهِ عِنْدَهُمْ.
وَلِهَذَا جَرَى عَلَى لِسَانِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالسَّفِيهُ هُوَ الْمُبَذِّرُ. (5)
وَعَلَى ذَلِكَ فَالإِْسْرَافُ النَّاشِئُ عَنِ السَّفَهِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 177، ونهاية المحتاج 8 / 20، والمغني 8 / 324، والقليوبي 4 / 206.
(2) المغني 8 / 325، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 235.
(3) الحطاب 6 / 319.
(4) ابن عابدين 3 / 178، 179، والحطاب 6 / 319، والقليوبي 4 / 205، 206، ونهاية المحتاج 8 / 20، 28، والمغني 8 / 325.
(5) بلغة السالك 3 / 393، وأسنى المطالب 2 / 205، وانظر ابن عابدين 5 / 92.

(4/194)


سَبَبٌ لِلْحَجْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الصَّاحِبَيْنِ: أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، فَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِسَبَبِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَجْر) . (1)

أَسْرَى

التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْسْرَى جَمْعُ أَسِيرٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُسَارَى وَأَسَارَى. وَالأَْسِيرُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الإِْسَارِ، وَهُوَ الْقَيْدُ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَيْدِ. فَسُمِّيَ كُل أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ بِهِ. وَكُل مَحْبُوسٍ فِي قَيْدٍ أَوْ سِجْنٍ أَسِيرٌ. قَال مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (2) الأَْسِيرُ: الْمَسْجُونُ. (3)
2 - وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَ الْمَاوَرْدِيُّ الأَْسْرَى بِأَنَّهُمُ: الرِّجَال الْمُقَاتِلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً. (4) وَهُوَ تَعْرِيفٌ أَغْلَبِيٌّ، لاِخْتِصَاصِهِ بِأَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ عِنْدَ الْقِتَال، لأَِنَّهُ بِتَتَبُّعِ
__________
(1) بلغة السالك 3 / 381، والقليوبي 2 / 301، وشرح روض الطالب 2 / 206، والمغني 4 / 505، وابن عابدين 5 / 10.
(2) سورة الإنسان / 8.
(3) لسان العرب، والصحاح، والقاموس باب الراء فصل الألف.
(4) الأحكام السلطانية ص 131 ط أولى سنة 1380 هـ.

(4/194)


اسْتِعْمَالاَتِ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى كُل مَنْ يُظْفَرُ بِهِمْ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَيُؤْخَذُونَ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ أَوْ فِي نِهَايَتِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ فِعْلِيَّةٍ، مَا دَامَ الْعَدَاءُ قَائِمًا وَالْحَرْبُ مُحْتَمَلَةٌ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ تَيْمِيَّةَ: أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ قِتَال الْكُفَّارِ، وَلَمْ تُوجِبْ قَتْل الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، بَل إِذَا أُسِرَ الرَّجُل مِنْهُمْ فِي الْقِتَال أَوْ غَيْرِ الْقِتَال، مِثْل أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ إِلَيْنَا، أَوْ يَضِل الطَّرِيقَ، أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةٍ فَإِنَّهُ يَفْعَل بِهِ الإِْمَامُ الأَْصْلَحَ. وَفِي الْمُغْنِي: هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَقِيل: يَكُونُ فَيْئًا. (1)
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الأَْسِيرِ أَيْضًا عَلَى: مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ (2) ، وَعَلَى مَنْ يَظْفَرُونَ بِهِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَ مُقَاتَلَتِهِمْ لَنَا. يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. (3)
كَمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الأَْسِيرِ عَلَى: الْمُسْلِمِ الَّذِي ظَفِرَ بِهِ الْعَدُوُّ. يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: وَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَفُكَّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَال. . . وَيَقُول: وَإِذَا كَانَ الْحِصْنُ فِيهِ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطْفَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (4) . . . إِلَخْ.
__________
(1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 193 ط الثانية 1951، والمغني 10 / 441 ط أولى مطبعة المنار.
(2) البدائع 7 / 109.
(3) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 92 ط الثانية، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 458 ط الثالثة مصطفى الحلبي.
(4) التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق مطبوع بهامش مواهب الجليل 3 / 387 ط دار الكتاب اللبناني بيروت، والمهذب 2 / 260 ط عيسى الحلبي، وبداية المجتهد 1 / 385، 388.

(4/195)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّهِينَةُ:
3 - الرَّهِينَةُ: وَاحِدَةُ الرَّهَائِنِ وَهِيَ كُل مَا اُحْتُبِسَ بِشَيْءٍ، وَالأَْسِيرُ وَالرَّهِينَةُ كِلاَهُمَا مُحْتَبَسٌ، إِلاَّ أَنَّ الأَْسِيرَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا (1) ، وَاحْتِبَاسُهُ لاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِل حَقٍّ.

ب - الْحَبْسُ:
4 - الْحَبْسُ: ضِدُّ التَّخْلِيَةِ، وَالْمَحْبُوسُ: الْمُمْسَكُ عَنِ التَّوَجُّهِ حَيْثُ يَشَاءُ، فَالْحَبْسُ أَعَمُّ مِنَ الأَْسْرِ (2) .

ج - السَّبْيُ:
5 - السَّبْيُ وَالسَّبَاءُ: الأَْسْرُ، فَالسَّبْيُ أَخْذُ النَّاسِ عَبِيدًا وَإِمَاءً (3) ، وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّبْيِ عَلَى مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ حَيًّا مِنْ نِسَاءِ أَهْل الْحَرْبِ وَأَطْفَالِهِمْ. وَيُخَصِّصُونَ لَفْظَ الأَْسْرَى - عِنْدَ مُقَابَلَتِهِ بِلَفْظِ السَّبَايَا - بِالرِّجَال الْمُقَاتِلِينَ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً. (4)
صِفَةُ الأَْسْرِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ) :
6 - الأَْسْرُ مَشْرُوعٌ، وَيَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
__________
(1) كتب اللغة باب النون فصل الراء.
(2) لسان العرب، والصحاح، والقاموس باب السين فصل الحاء.
(3) اللسان، والصحاح، والقاموس مادة (سبى) .
(4) البدائع 7 / 117، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 127، والسيرة الحلبية 2 / 70.

(4/195)


أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (1) وَلاَ يَتَنَافَى ذَلِكَ مَعَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَْرْضِ} (2) لأَِنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي مَنْعِ الأَْسْرِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى الْقِتَال، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَسْرَى قَبْل الإِْثْخَانِ فِي الأَْرْضِ، أَيِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَتْل الْكُفَّارِ. (3)

الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الأَْسْرِ:
7 - هِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَدَفْعُ شَرِّهِ، وَإِبْعَادُهُ عَنْ سَاحَةِ الْقِتَال، لِمَنْعِ فَاعِلِيَّتِهِ وَأَذَاهُ، وَلِيُمْكِنَ افْتِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِهِ. (4)

مَنْ يَجُوزُ أَسْرُهُمْ وَمَنْ لاَ يَجُوزُ:
8 - يَجُوزُ أَسْرُ كُل مَنْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ، صَبِيًّا كَانَ أَوْ شَابًّا أَوْ شَيْخًا أَوِ امْرَأَةً، الأَْصِحَّاءِ مِنْهُمْ وَالْمَرْضَى، إِلاَّ مَنْ لاَ يُخْشَى مِنْ تَرْكِهِ ضَرَرٌ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَسْرُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُؤْسَرُ مَنْ لاَ ضَرَرَ مِنْهُمْ، وَلاَ فَائِدَةَ فِي أَسْرِهِمْ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالأَْعْمَى
__________
(1) سورة محمد / 4.
(2) سورة الأنفال / 67.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8 / 47 و 72 و 16 / 226 ط دار الكتب المصرية.
(4) المبسوط للسرخسي 10 / 64 مطبعة السعادة بالقاهرة، والمهذب 2 / 33 ط عيسى الحلبي، والمغني 10 / 403 الطبعة الأولى مطبعة المنار، والإنصاف 4 / 129 طبعة أولى.

(4/196)


وَالرَّاهِبِ إِذَا كَانُوا مِمَّنْ لاَ رَأْيَ لَهُمْ. (1)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُل مَنْ لاَ يَقْتُل يَجُوزُ أَسْرُهُ، إِلاَّ الرَّاهِبَ وَالرَّاهِبَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا رَأْيٌ فَإِنَّهُمَا لاَ يُؤْسَرَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعْتُوهِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالأَْعْمَى فَإِنَّهُمْ وَإِنْ حَرُمَ قَتْلُهُمْ يَجُزْ أَسْرُهُمْ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُمْ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَمِنْ غَيْرِ أَسْرٍ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَسْرُ الْجَمِيعِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ. (3)
9 - وَلاَ يَجُوزُ أَسْرُ أَحَدٍ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا عَهْدُ مُوَادَعَةٍ، لأَِنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الأَْمَانَ، وَبِالأَْمَانِ لاَ تَصِيرُ الدَّارُ مُسْتَبَاحَةً، وَحَتَّى لَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُوَادِعِينَ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلاَءِ آمِنُونَ، لاَ سَبِيل لأَِحَدٍ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) المغني والشرح الكبير 10 / 404، 409 ط أولى مطبعة المنار 1348 هـ، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد 4 / 133 ط أولى 1375 هـ، وبدائع الصنائع 7 / 102، 119 ط أولى 1328 هـ، والمبسوط 10 / 24، 64، 137 ط مطبعة السعادة بمصر، والهداية والفتح 4 / 290، 292، 305 ط أولى بولاق بمصر 1316 هـ، وتبيين الحقائق 3 / 244، 245 ط أولى بولاق 1313 هـ، وحاشية ابن عابدين 3 / 224، والسير الكبير لمحمد بن الحسن 2 / 261، 3 / 284.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 177 ط دار الفكر، والتاج والإكليل للمواق 3 / 351 ط دار الكتاب اللبناني، وبداية المجتهد لابن رشد 1 / 382، 384 ط مصطفى الحلبي 1379 هـ.
(3) نهاية المحتاج 8 / 61 ط مصطفى الحلبي 1357 هـ، والمهذب 2 / 233 ط عيسى الحلبي، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 194 ط دار إحياء التراث العربي، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي وحاشية الشرواني 8 / 33 ط أولى، والوجيز 2 / 189 ط 1317 هـ بمصر.

(4/196)


لأَِنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الأَْمَانَ لَهُمْ، فَلاَ يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ. وَكَذَا لَوْ دَخَل فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَارِهِمْ بِأَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهُوَ آمِنٌ لاَ يَجُوزُ أَسْرُهُ، لأَِنَّهُ لَمَّا دَخَل دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وُجِدَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَسْرُهُ، وَمَا لَوْ أَخَذَ الْحَرْبِيُّ الأَْمَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فِي حِصْنِ الْحَرْبِيِّينَ (1) .

الأَْسِيرُ فِي يَدِ آسِرِهِ وَمَدَى سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ:
10 - الأَْسِيرُ فِي ذِمَّةِ آسِرِهِ لاَ يَدَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ حَقَّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، إِذْ الْحَقُّ لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ مَوْكُولٌ لِلإِْمَامِ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الأَْسْرِ أَنْ يَقُودَهُ إِلَى الأَْمِيرِ لِيَقْضِيَ فِيهِ بِمَا يَرَى، وَلِلآْسِرِ أَنْ يَشُدَّ وَثَاقَهُ (2) إِنْ خَافَ انْفِلاَتَهُ، أَوْ لَمْ يَأْمَنْ شَرَّهُ، كَمَا يَجُوزُ عَصْبُ عَيْنَيْهِ أَثْنَاءَ نَقْلِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْهَرَبِ.
فَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ الأَْسِيرَ مِنَ الْهَرَبِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ فُرْصَةً لِمَنْعِهِ إِلاَّ قَتْلَهُ فَلاَ بَأْسَ، وَقَدْ فَعَل هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. (3)
11 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (4) عَلَى أَنَّ الأَْسِيرَ إِذَا صَارَ فِي
__________
(1) البدائع 7 / 109، وشرح السير الكبير 1 / 366، 369 ط مطبعة مصر سنة 1957 م.
(2) الأم للشافعي 8 / 449 ط شركة الطباعة الفنية بمصر، والمبسوط 10 / 25.
(3) السير الكبير 3 / 1328، والمغني 10 / 407.
(4) شرح السير الكبير 2 / 651، 690 وما بعدهما، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 187، والمهذب 2 / 238، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 5 / 14 مطبعة صبيح سنة 1384 هـ، والمغني 10 / 423 ط أولى المنار.

(4/197)


يَدِ الإِْمَامِ فَلاَ اسْتِحْقَاقَ لِلآْسِرِ فِيهِ إِلاَّ بِتَنْفِيل الإِْمَامِ، لاَ بِنَفْسِ الأَْسْرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنَادِيَ فِي الْعَسْكَرِ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ قَال ذَلِكَ فَأَعْتَقَ الرَّجُل أَسِيرَهُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ. وَلَوْ أَصَابَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ، لأَِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الاِسْتِحْقَاقُ لَهُمْ بِالإِْصَابَةِ صَارَ الأَْسِيرُ مَمْلُوكًا لآِسِرِهِ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً. بَل قَالُوا: لَوْ قَال الأَْمِيرُ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ. فَأَسَرَ الْعَسْكَرُ بَعْضَ الأَْسْرَى، ثُمَّ قَتَل أَحَدُ الأُْسَرَاءِ رَجُلاً مِنَ الْعَدُوِّ، كَانَ السَّلَبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، إِنْ لَمْ يُقَسِّمِ الأَْمِيرُ الأُْسَرَاءَ، وَإِنْ كَانَ قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَالسَّلَبُ لِمَوْلَى الأَْسِيرِ الْقَاتِل.
وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا أَثْنَاءَ الْقِتَال مُسْتَنِدًا إِلَى قُوَّةِ الْجَيْشِ، وَبَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الآْسِرُ مِنَ الْجَيْشِ، أَوْ مُسْتَنِدًا لَهُ خُمُسٌ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، وَإِلاَّ اخْتَصَّ بِهِ الآْسِرُ.

حُكْمُ قَتْل الآْسِرِ أَسِيرَهُ:
12 - لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُل أَسِيرَهُ بِنَفْسِهِ، إِذِ الأَْمْرُ فِيهِ بَعْدَ الأَْسْرِ مُفَوَّضٌ لِلإِْمَامِ، فَلاَ يَحِل الْقَتْل إِلاَّ بِرَأْيِ الإِْمَامِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا خِيفَ ضَرَرُهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْل أَنْ يُؤْتَى بِهِ إِلَى الإِْمَامِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ قَتْلُهُ (1) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلَهُ (2) .
__________
(1) المبسوط 10 / 64، وبداية المجتهد 1 / 393 ط 1386 هـ، والمغني 10 / 407.
(2) حديث " لا يتعاطى أحدكم أسير صاحبه فيقتله ". أورده السرخسي في المبسوط من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا، ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار برواية جابر، وإنما أخرجه أحمد بن حنبل والطبراني من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه مرفوعا بلفظ " لا يتعاطى أحدكم من أسير أخيه فيقتله " قال الهيثمي: وفيه إسحاق بن ثعلبة وهو ضعيف (مسند أحمد بن حنبل 5 / 18 ط الميمنية، ومجمع الزوائد 5 / 333 نشر مكتبة القدسي، والمبسوط للسرخسي 9 / 64 ط مطبعة السعادة، والفتح الرباني 14 / 104، 105 الطبعة الأولى 1370 هـ) .

(4/197)


فَلَوْ قَتَل رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَبْل الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْل الْقِسْمَةِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قِيمَةٍ، لأَِنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ، إِذْ لِلإِْمَامِ فِيهِ خِيَرَةُ الْقَتْل، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْل، لأَِنَّ دَمَهُ صَارَ مَعْصُومًا، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْل، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ. (1) وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الآْسِرُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يُفِيدُهُ الإِْطْلاَقُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّجِهُونَ وُجْهَةَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الضَّمَانِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّفْرِقَةَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْل فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْل أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا، وَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَل مَنْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْل أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا يُلْزِمُونَ الْقَاتِل بِالضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ اخْتِيَارِ رِقِّهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَكَانَ فِي الْغَنِيمَةِ. وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَنِّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ قَتَلَهُ
__________
(1) البدائع 7 / 121 ط الجمالية، والمبسوط 10 / 64، 137، وفتح القدير 4 / 305، والسير الكبير 3 / 1207.
(2) شرح منح الجليل على مختصر خليل 1 / 712، والتاج والإكليل 3 / 358، وحاشية الدسوقي 2 / 184.

(4/198)


بَعْدَ الْفِدَاءِ فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ غَنِيمَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الإِْمَامُ الْفِدَاءَ، وَإِلاَّ فَدِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ. وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الإِْمَامِ قَتْلَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ عُزِّرَ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَتَل أَسِيرَهُ أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْل الذَّهَابِ لِلإِْمَامِ أَسَاءَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ. (2)

مُعَامَلَةُ الأَْسِيرِ قَبْل نَقْلِهِ لِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
13 - مَبَادِئُ الإِْسْلاَمِ تَدْعُو إِلَى الرِّفْقِ بِالأَْسْرَى، وَتَوْفِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسَاءِ لَهُمْ، وَاحْتِرَامِ آدَمِيَّتِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكَيْنَا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (3) ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لأَِصْحَابِهِ فِي أَسْرَى بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَمَا احْتَرَقَ النَّهَارُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ: (4) أَحْسِنُوا أُسَارَاهُمْ. وَقَيِّلُوهُمْ (5) ، وَاسْقُوهُمْ (6) وَقَال: لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلاَحِ. . . (7) وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنْ رَأَى
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 197 ط الميمنية بمصر 1305 هـ، وأسنى المطالب 4 / 193 ط الميمنية 1313 هـ، والمهذب 2 / 236، وفتح الوهاب 2 / 173، وشرح البهجة 5 / 121، والإقناع 5 / 7.
(2) المغني 10 / 400، 401، والإنصاف 4 / 128، ومطالب أولي النهى 2 / 522.
(3) سورة الإنسان / 8.
(4) يوم صائف: أي يوم من أيام الصيف اشتدت فيه الحرارة.
(5) قيلوهم: أي أريحوهم بالقيلولة، وهي راحة نصف النهار عند حر الشمس.
(6) إمتاع الأسماع 1 / 248 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر 1941 م.
(7) شرح السير الكبير 3 / 1029 مطبعة مصر 1960 م. وحديث " لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم. . . " أورده الإمام محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير بلفظ: قال عليه السلام في بني قريظة بعد ما احترق النهار في يوم صائف: " لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح،

(4/198)


الإِْمَامُ قَتْل الأُْسَارَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ قَتْلاً كَرِيمًا. (1)
وَيَجُوزُ حَبْسُ الأَْسْرَى فِي أَيِّ مَكَانٍ، لِيُؤْمَنَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الرَّسُول حَبَسَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (2)

التَّصَرُّفُ فِي الأَْسْرَى قَبْل نَقْلِهِمْ لِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
14 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ - وَمِنْهَا الأَْسْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَقَبْل نَقْلِهِمْ لِدَارِ الإِْسْلاَمِ. قَال مَالِكٌ: الشَّأْنُ أَنْ تُقْسَمَ الْغَنَائِمُ وَتُبَاعَ بِبَلَدِ الْحَرْبِ، وَرَوَى الأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ وَالْخُلَفَاءَ لَمْ يَقْسِمُوا غَنِيمَةً قَطُّ إِلاَّ فِي دَارِ الشِّرْكِ، قَال أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا وَأَحْبَبْنَا الْعَزْل، فَأَرَدْنَا الْعَزْل وَقُلْنَا: نَعْزِل وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْل أَنْ نَسْأَلَهُ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِيَ كَائِنَةٌ (3) فَإِنَّ سُؤَالَهُمُ
__________
(1) المرجع السابق. وانظر التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 353.
(2) فتح الباري 1 / 555 ط السلفية، وصحيح مسلم بشرح النووي 12 / 87.
(3) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المصطلق. . . " أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم (فتح الباري 7 / 428، 429 ط السلفية، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 9، 10 ط المطبعة المصرية بالأزهر) .

(4/199)


النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَزْل فِي وَطْءِ السَّبَايَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ قَدْ تَمَّتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيل مَسَرَّةِ الْغَانِمِينَ وَغَيْظِ الْكَافِرِينَ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ لِبَلَدِ الإِْسْلاَمِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَانِمُونَ جَيْشًا وَأَمِنُوا مِنْ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. (1)
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْغَانِمَيْنِ التَّمَلُّكَ قَبْل الْقِسْمَةِ لَفْظًا، بِأَنْ يَقُول كُلٌّ بَعْدَ الْحِيَازَةِ، وَقَبْل الْقِسْمَةِ: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي، فَتَمَلَّكَ بِذَلِكَ.
وَقِيل: يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ، لِزَوَال مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالاِسْتِيلاَءِ. وَقِيل: الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ. وَالْمُرَادُ عِنْدَ مَنْ قَال يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ: الاِخْتِصَاصُ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ. (2)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ لِفِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَِنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالاِسْتِيلاَءِ. (3)
15 - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ إِلاَّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْمِلْكَ لاَ يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالاِسْتِيلاَءِ التَّامِّ، وَلاَ يَحْصُل إِلاَّ بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْقَهْرُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، لأَِنَّهُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، فَلاَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ - وَمِنْهَا الأَْسْرَى - أَوْ يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، خَشْيَةَ تَقْلِيل الرَّغْبَةِ فِي لُحُوقِ الْمَدَدِ بِالْجَيْشِ، وَتَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِوُقُوعِ
__________
(1) التاج والإكليل 3 / 375، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 194 ط دار الفكر.
(2) نهاية المحتاج 8 / 73 ط مصطفى الحلبي 1357 هـ.
(3) المغني 10 / 466.

(4/199)


الدَّبَرَةِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَسْتَقِل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَمْل نَصِيبِهِ. وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا: وَإِنْ قَسَمَ الإِْمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ، لأَِنَّهُ أَمْضَى فَصْلاً مُخْتَلَفًا فِيهِ بِالاِجْتِهَادِ. (1) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ قِسْمَةَ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ (2) .

تَأْمِينُ الأَْسِيرِ:
16 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ لِلإِْمَامِ إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لِلأَْسِيرِ بَعْدَ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ عُمَرَ لَمَّا قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْهُرْمُزَانِ أَسِيرًا قَال. لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ، ثُمَّ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَال لَهُ أَنَسٌ: قَدْ أَمَّنْتُهُ فَلاَ سَبِيل لَكَ عَلَيْهِ، وَشَهِدَ الزُّبَيْرُ بِذَلِكَ فَعَدُّوهُ أَمَانًا (3) ، وَلأَِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَالأَْمَانُ دُونَ الْمَنِّ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى حُكْمِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي دُونَ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا عَقَدَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مِنَ الأَْمَانِ
__________
(1) شرح السير الكبير 3 / 1005، 1011، والمغني 10 / 466، واللجنة ترى أن هذا مفوض إلى رأي القائد يجري فيه على حسب ما يرى فيه المصلحة.
(2) حديث تأخير قسمة الغنائم يفهم مما أخرجه البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة - بين مكة والمدينة - ومعه بلال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبش (فتح الباري 8 / 46 ط السلفية، وكتاب الخراج لأبي يوسف ص 196) .
(3) الأثر عن عمر رضي الله عنه أخرجه البيهقي مطولا، وأورده ابن حجر في التلخيص وسكت عنه (السنن الكبرى للبيهقي 9 / 96 ط دائرة المعارف العثمانية بالهند، والتلخيص الحبير 4 / 120) .

(4/200)


جَازَ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَمَّا آحَادُ الرَّعِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لأَِنَّ أَمْرَ الأَْسِيرِ مُفَوَّضٌ إِلَى الإِْمَامِ، فَلَمْ يَجُزْ الاِفْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَقَتْلِهِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ، لأَِنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَارَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بَعْدَ أَسْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانَهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَمَان) .

حُكْمُ الإِْمَامِ فِي الأَْسْرَى (2) :
17 - يَرْجِعُ الأَْمْرُ فِي أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إِلَى الإِْمَامِ، أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ عَنْهُ.
وَجَعَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَصَائِرَ الأَْسْرَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَبْل إِجْرَاءِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فِي أَحَدِ أُمُورٍ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ الإِْمَامِ فِي
__________
(1) حديث " أن زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها ". أخرجه ابن إسحاق مطولا بلا إسناد، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية، ولم يعزه إلى مصدر آخر، وأخرجه ابن جرير الطبري من طريق ابن إسحاق من حديث يزيد بن رومان مرسلا (البداية والنهاية 3 / 332 ط مطبعة السعادة، والسير النبوية لابن هشام 2 / 312، 313 ط مصطفى الحلبي 1355 هـ وتاريخ الطبري بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 2 / 471 نشر دار سويدان بيروت) . انظر المغني 10 / 434، والسير الكبير 1 / 253، 263، والبحر الرائق 5 / 88، والتاج والإكليل 3 / 360، والمهذب 2 / 236.
(2) جعلت الشريعة للإمام حق استرقاق الأسرى، وتصرفه في ذلك منوط بالمصحلة، وحيث إن هناك اتفاقا دوليا بمنع الاسترتاق، فإن هذا لا يناقض الشريعة، ولا ينافي أن هذا من حق الإمام، لأن الشريعة في كثير من نصوصها تحث على فك الرقاب، فلا ينبغي للإمام الآن أن يلجأ إلى

(4/200)


الرِّجَال الْبَالِغِينَ مِنْ أَسْرَى الْكُفَّارِ، بَيْنَ قَتْلِهِمْ، أَوِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا التَّخْيِيرَ عَلَى ثَلاَثَةِ أُمُورٍ فَقَطِ: الْقَتْل، وَالاِسْتِرْقَاقِ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِهِمْ أَهْل ذِمَّةٍ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُجِيزُوا الْمَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَ قَيْدٍ، وَلاَ الْفِدَاءَ بِالْمَال إِلاَّ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِحَاجَةٍ لِلْمَال. وَأَمَّا مُفَادَاتُهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَمَوْضِعُ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ. (2)
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ يُخَيَّرُ فِي الأَْسْرَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فَإِمَّا أَنْ يَقْتُل، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّ، وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْفِدَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَالإِْمَامُ مُقَيَّدٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ. (3)
18 - وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْصْل فِي السَّبَايَا مِنَ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ. فَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ: وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ فَلَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ
__________
(1) الإقناع 5 / 8 ط صبيح 1384 هـ، ونهاية المحتاج 8 / 65، وشرح البهجة 5 / 621، والمهذب 2 / 235، والمغني 10 / 400، والإنصاف 4 / 130، والفروع 3 / 596، ومطالب أولي النهى 2 / 520.
(2) البدائع 7 / 121، والزيلعي 4 / 249، وفتح القدير 4 / 305، والمبسوط 10 / 24، 138، وحاشية ابن عابدين 3 / 229، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 89.
(3) التاج والإكليل 3 / 358، وبداية المجتهد 1 / 292، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 184.

(4/201)


الاِسْتِرْقَاقُ أَوِ الْفِدَاءُ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي (سَبْي) .
كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الأَْسِيرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي أَعْلَنَ إِسْلاَمَهُ قَبْل الْقِسْمَةِ، لاَ يَحِقُّ لِلإِْمَامِ قَتْلُهُ، لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ عَاصِمٌ لِدَمِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
19 - وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَفِيَ عَلَى الإِْمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ الأَْحَظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ، لأَِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الاِجْتِهَادِ، وَيُصَرِّحُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ تَأْمِينٌ لَهُمْ. (2)

20 - وَقَال قَوْمٌ: لاَ يَجُوزُ قَتْل الأَْسِيرِ، وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَالسَّبَبُ فِي الاِخْتِلاَفِ تَعَارُضُ الآْيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَتَعَارُضُ الأَْفْعَال، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لأَِنَّ ظَاهِرَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِْمَامِ بَعْدَ الأَْسْرِ إِلاَّ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ. وقَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَْرْضِ} (3) وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ يَدُل عَلَى أَنَّ الْقَتْل أَفْضَل مِنْ الاِسْتِبْقَاءِ. وَأَمَّا فِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَدْ قَتَل الأَْسَارَى فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الآْيَةَ الْخَاصَّةَ بِالأَْسَارَى نَاسِخَةٌ لِفِعْلِهِ قَال:
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 184.
(2) شرح السير الكبير 2 / 590، وحاشية ابن عابدين 3 / 229، وفتح القدير 4 / 305، والزيلعي 3 / 249، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 358، وحاشية الدسوقي 2 / 184، وبداية المجتهد 1 / 392، وتحفة المحتاج 8 / 39، وشرح روض الطالب 4 / 693، وحاشية الجمل على المنهج 5 / 697، والإنصاف 4 / 130، والمغني 10 / 400، ومطالب أولي النهى 2 / 519.
(3) سورة الأنفال / 67.

(4/201)


لاَ يُقْتَل الأَْسِيرُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الآْيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْل الأَْسِيرِ وَلاَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَل بِالأَْسَارَى قَال بِجَوَازِ قَتْل الأَْسِيرِ. (1)

21 - وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْسْرَى مِنْ نِسَاءِ الْحَرْبِيِّينَ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَالْخُنْثَى وَالْمَجْنُونِ، وَكَذَا الْعَبِيدُ الْمَمْلُوكُونَ لَهُمْ يُسْتَرَقُّونَ بِنَفْسِ الأَْسْرِ، وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ قَبْل الاِسْتِيلاَءِ وَالأَْسْرِ لاَ يُسْتَرَقُّ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ الاِسْتِتَابَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَإِلاَّ فَالسَّيْفُ. (2)
22 - أَمَّا الرِّجَال الأَْحْرَارُ الْمُقَاتِلُونَ مِنْهُمْ.، فَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الأَْعَاجِمِ، وَثَنِيِّينَ كَانُوا أَوْ أَهْل كِتَابٍ. وَاتَّجَهَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ. وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يُجِيزُونَ اسْتِرْقَاقَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.

الْفِدَاءُ بِالْمَال:
23 - الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: جَوَازُ فِدَاءِ أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلإِْمَامِ فِيهِمْ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 392، 394.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 229، وحاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 3 / 249، والعناية بهامش الفتح 4 / 306، وشرح السير الكبير 3 / 1024، 1036، والبدائع 7 / 117، وبداية المجتهد 1 / 392، وحاشية الدسوقي 2 / 184، والتاج والإكليل ومواهب الجليل 3 / 359، والمهذب 2 / 235، وفتح الوهاب 2 / 173، وحاشية الجمل 5 / 197، وتحفة المحتاج 8 / 40، والمغني 10 / 400، والإنصاف 4 / 131، ومطالب أولي النهى 2 / 522.

(4/202)


بِالْمَال. (1) غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ بِمَالٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الأَْسِيرِ (2) ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - كَمَا نَقَل السَّرَخْسِيُّ عَنِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ - تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَال، وَقَيَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الأَْسِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ. (3) وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالْمَال دُونَ قَيْدٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ لِلْمَال، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَفْدِيَ الأَْسْرَى بِالْمَال يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ، أَكَانَ مِنْ مَالِهِمْ أَمْ مِنْ مَالِنَا الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ نَفْدِيَهُمْ بِأَسْلِحَتِنَا الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ. أَمَّا أَسْلِحَتُهُمْ الَّتِي بِأَيْدِينَا فَفِي جَوَازِ مُفَادَاةِ أَسْرَانَا بِهَا وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا عِنْدَهُمُ الْجَوَازُ. (4)
وَاسْتَدَل الْمُجِيزُونَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (5) ، وَبِفِعْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ فَادَى أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَال وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلاً، كُل رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ (6) ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ الْجَوَازُ وَالإِْبَاحَةُ.
24 - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، فِي غَيْرِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ
__________
(1) المبسوط 10 / 138، والبدائع 7 / 119، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 358، وحاشية الدسوقي 2 / 184، والإقناع 5 / 8، والمهذب 2 / 237، والإنصاف 4 / 130، والمغني والشرح الكبير 10 / 401، ومطالب أولي النهى 2 / 521.
(2) التاج والإكليل 3 / 358.
(3) المبسوط 10 / 138، والبدائع 7 / 619، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 3 / 229.
(4) شرح روض الطالب 4 / 193، وتحفة المحتاج 8 / 40، والمهذب 2 / 237، ونهاية المحتاج 8 / 65، والإقناع 5 / 8، وفتح الوهاب 2 / 174.
(5) سورة محمد / 4.
(6) حديث: " مفاداة أسارى بدر ". أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة ". قال الشوكاني: أخرجه أيضا النسائي والحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص، ورجاله ثقا وأما عدد أسارى بدر فقد أخرجه مسلم من حديث ابن عباس بلفظ " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين " (عون المعبود 3 / 14 ط الهند، ونيل الأوطار 7 / 323 ط مصطفى الحلبي 1380 هـ، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1383 - 1385 ط عيسى الحلبي 1375 هـ) .

(4/202)


رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلاَّمٍ عَدَمُ جَوَازِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ. (1)
وَيَدُل عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ قَتْل الأَْسَارَى مَأْمُورٌ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَْعْنَاقِ} (2) وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا بَعْدَ الأَْخْذِ وَالاِسْتِرْقَاقِ، وقَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (3) وَالأَْمْرُ بِالْقَتْل لِلتَّوَسُّل إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلاَّ لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْل، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يَحْصُل مَعْنَى التَّوَسُّل بِالْمُفَادَاةِ بِالْمَال، كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً لأَِهْل الْحَرْبِ، لأَِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْمَنَعَةِ، فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَقَتْل الْمُشْرِكِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ إِقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَال فِي الأَْسِيرِ: لاَ تُفَادُوهُ وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ " (4) وَلأَِنَّهُ صَارَ بِالأَْسْرِ مِنْ أَهْل دَارِنَا، فَلاَ يَجُوزُ
__________
(1) المبسوط 10 / 138، وتبيين الحقائق 3 / 249، والبحر الرائق 5 / 90، ومواهب الجليل 3 / 359، والأموال ص 117 فقرة 313، والإنصاف 4 / 130، وابن عابدين 3 / 229.
(2) سورة الأنفال / 12.
(3) سورة التوبة / 5.
(4)) الأثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج بلفظ " إن أخذتم أحدا من المشركين فأعطيتم به مدين دنانير فلا تفادوه " (كتاب الخراج ص 196 نشر المكتبة السلفية 1352 هـ) والمدي +: مكيال لأهل الشام.

(4/203)


إِعَادَتُهُ لِدَارِ الْحَرْبِ، لِيَكُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَفِي هَذَا مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ لِمَنْفَعَةِ الْمَال لاَ يَجُوزُ، وَلَوْ أَعْطَوْنَا مَالاً لِتَرْكِ الصَّلاَةِ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَل ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ، فَكَذَا لاَ يَجُوزُ تَرْكُ قَتْل الْمُشْرِكِ بِالْمُفَادَاةِ (1) .
وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ لِلإِْمَامِ حَقَّ الْمُفَادَاةِ بِالْمَال، فَإِنَّ هَذَا الْمَال يَكُونُ لِلْغَانِمِينَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُسْقِطَ شَيْئًا مِنَ الْمَال الَّذِي يَفْرِضُهُ عَلَيْهِمْ مُقَابِل الْفِدَاءِ إِلاَّ بِرِضَى الْغَانِمِينَ. (2)

فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى الأَْعْدَاءِ:
25 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (3) مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ تَبَادُل الأَْسْرَى، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْل النَّبِيِّ أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ (4) وَقَوْلِهِ إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ (5) وَفَادَى النَّبِيُّ رَجُلَيْنِ مِنِ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) البدائع 7 / 119، 120، والمبسوط 10 / 138، 139. ولا يخفى أن ظاهر الآية إن تعين القتل أولا قبل الإثخان، فإذا أثخنوا أجرى عليهم ما في الآية من المن أو الفداء.
(2) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 184، والمهذب 2 / 237، والمغني 10 / 403.
(3) تبيين الحقائق 3 / 249، وحاشية ابن عابدين 3 / 229، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 184، وبداية المجتهد 1 / 392، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 868، والإقناع 5 / 8، ونهاية المحتاج 8 / 65، والمهذب 2 / 237، والمغني والشرح الكبير 10 / 401، والإنصاف 4 / 130، ومطالب أولي النهى 2 / 521.
(4) حديث: " أطعموا الجائع. . . . ". أخرجه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري (فتح الباري 10 / 112 ط السلفية) .
(5) حديث: " إن على المسلمين في فيئهم. . . . " أخرجه سعيد بن منصور من حديث حبان بن أبي جبلة. والحديث مرسل (سنن سعيد بن منصور، القسم الثاني من المجلد الثالث ص 317 ط الهند) .

(4/203)


بِالرَّجُل الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ (1) . وَفَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي، اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ (2) نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ أُسِرُوا بِمَكَّةَ وَلأَِنَّ فِي الْمُفَادَاةِ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَإِنْقَاذُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ إِهْلاَكِ الْكَافِرِ.
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ قَبْل الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ قَصَرَ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ عَلَى مَا قَبْل الْقِسْمَةِ، لأَِنَّهُ قَبْل الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُ أَسِيرِهِمْ مِنْ أَهْل دَارِنَا حَتَّى جَازَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْل دَارِنَا حَتَّى لَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ. أَيْ فَلاَ يُعَادُ بِالْمُفَادَاةِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ. وَلأَِنَّ فِي الْمُفَادَاةِ بَعْدَهَا إِبْطَال مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مِثْل قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَجَازَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ جُوِّزَ ذَلِكَ قَبْل الْقِسْمَةِ، الْحَاجَةُ إِلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَحَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الاِسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْل
__________
(1) حديث: " فداه النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل ". أخرجه مسلم مطولا من حديث عمران بن حصين (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1262، 1263 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " فداء النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع ناسا من المسلمين ". أخرجه مسلم مطولا من حديث سلمة رضي الله عنه (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1375، 1376 ط عيسى الحلبي) .

(4/204)


الْقِسْمَةِ، وَقَدْ صَارَ الأَْسِيرُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْل دَارِنَا، ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ.
وَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ لَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ الاِسْتِرْقَاقُ، أَوِ الْمُفَادَاةُ بِالنُّفُوسِ دُونَ الْمَال.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ مَنْعُ مُفَادَاةِ الأَْسِيرِ بِالأَْسِيرِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ قَتْل الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْمُفَادَاةِ. (1)
26 - وَلَوْ أَسْلَمَ الأَْسِيرُ لاَ يُفَادَى بِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، أَيْ لأَِنَّهُ فِدَاءُ مُسْلِمٍ بِمُسْلِمٍ، إِلاَّ إِذَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إِسْلاَمِهِ: (2)
27 - وَيَجُوزُ مُفَادَاةُ الأَْكْثَرِ بِالأَْقَل وَالْعَكْسُ كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنْ فِي كُتُبِهِمْ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، لاِسْتِدْلاَلِهِمْ بِالأَْحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَسَرَانَا، وَيُؤْخَذُ بَدَلَهُ أَسِيرَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. (3)

جَعْل الأَْسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ فِي رِقَابِ الأَْسْرَى مِنْ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ
__________
(1) المبسوط 10 / 139، 140، والبدائع 2 / 120، وتبيين الحقائق 3 / 249، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 184، ومواهب الجليل 3 / 359، والمغني 8 / 449 ط ثالثة.
(2) تبيين الحقائق 3 / 249، والبحر الرائق 5 / 90، والمغني 10 / 403.
(3) الإقناع 2 / 253، والمغني 10 / 401، ومطالب أولي النهى 2 / 251، والبدائع 7 / 121. وترى اللجنة أن ذلك ينبغي أن يكون الرأي فيه للإمام حسب المصلحة.

(4/204)


عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِذَا سَأَلُوهُ، كَمَا يَجِبُ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ فِي غَيْرِ أَسْرٍ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِفِعْل عُمَرَ فِي أَهْل السَّوَادِ (2) وَقَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ جَوَازِيٌّ، لأَِنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَكَيْلاَ يَسْقُطَ بِذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنِ اخْتِيَارٍ. (3) وَهَذَا إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَال: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَال قَوْمٌ: تُؤْخَذُ مِنْ كُل مُشْرِكٍ، وَبِهِ قَال مَالِكٌ (4) .
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِلإِْمَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْسَارَى مِنْ غَيْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، وَوَضَعُوا قَاعِدَةً عَامَّةً هِيَ: كُل مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنَ الرِّجَال، يَجُوزُ أَخْذُ
__________
(1) المهذب 2 / 236.
(2) الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أخرجه يحيى بن آدم في كتاب الخراج: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أتاه رؤساء السواد وفيهم ابن الرفيل. فقالوا: يا أمير المؤمنين: إنا من قوم من أهل السواد، وكان أهل فارس قد ظهروا عليا وأضروا بنا، ففعلوا وفعلوا - ومصنف عبد الرزاق 6 / 69 نشر المكتب الإسلامي) .
(3) مطالب أولي النهى 2 / 522، والمهذب 2 / 236.
(4) بداية المجتهد 1 / 399، 400.

(4/205)


الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، كَأَهْل الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَمَنْ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ. (1)

رُجُوعُ الإِْمَامِ فِي اخْتِيَارِهِ:
29 - لَمْ نَقِفْ فِيمَا رَجَعْنَا إِلَيْهِ مِنْ كُتُبٍ عَلَى مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِيمَا عَلِمْتُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ لَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً لَهُ الرُّجُوعِ عَنْهَا أَوْ لاَ، وَلاَ إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ هَل يَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ أَوْ لاَ. وَقَال: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَلَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً وَظَهَرَ لَهُ بِالاِجْتِهَادِ أَنَّهَا الأَْحَظُّ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الأَْحَظَّ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ رِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْغَانِمِينَ وَأَهْل الْخُمُسِ مَلَكُوا بِمُجَرَّدِ ضَرْبِ الرِّقِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَتْلاً جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ فِدَاءً أَوْ مَنًّا لَمْ يُعْمَل بِالثَّانِي، لاِسْتِلْزَامِهِ نَقْضَ الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ اخْتِيَارُهُ أَحَدَهُمَا لِسَبَبٍ ثُمَّ زَال السَّبَبُ، وَتَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الثَّانِي عَمِل بِقَضِيَّتِهِ. وَلَيْسَ هَذَا نَقْضُ اجْتِهَادٍ بِاجْتِهَادٍ، بَل بِمَا يُشْبِهُ النَّصَّ، لِزَوَال مُوجِبِهِ الأَْوَّل بِالْكُلِّيَّةِ.

مَا يَكُونُ بِهِ الاِخْتِيَارُ:
30 - وَأَمَّا تَوَقُّفُ الاِخْتِيَارِ عَلَى لَفْظٍ، فَإِنَّ الاِسْتِرْقَاقَ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ، وَلاَ يَكْفِي
__________
(1) شرح السير الكبير 3 / 1036، والبدائع 7 / 119، وفتح القدير 4 / 306.

(4/205)


فِيهِ مُجَرَّدُ الْفِعْل، وَكَذَا الْفِدَاءُ، نَعَمْ يَكْفِي فِيهِ لَفْظٌ مُلْتَزِمٌ الْبَدَل مَعَ قَبْضِ الإِْمَامِ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، بِخِلاَفِ الْخَصْلَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ لِحُصُولِهِمَا بِمُجَرَّدِ الْفِعْل. (1)

إِسْلاَمُ الأَْسِيرِ:
31 - إِذَا أَسْلَمَ الأَْسِيرُ بَعْدَ أَسْرِهِ وَقَبْل قَضَاءِ الإِْمَامِ فِيهِ الْقَتْل أَوِ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَل إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ بِالإِْسْلاَمِ قَدْ عُصِمَ دَمُهُ.
أَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ فَفِيهِ رَأْيَانِ: فَالْجُمْهُورُ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاحْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الإِْمَامَ فِيهِ مُخَيَّرٌ فِيمَا عَدَا الْقَتْل، لأَِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ الْقَتْل بِإِسْلاَمِهِ بَقِيَتْ بَاقِي الْخِصَال.
وَالْقَوْل الظَّاهِرُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ، لأَِنَّ سَبَبَ الاِسْتِرْقَاقِ قَدِ انْعَقَدَ بِالأَْسْرِ قَبْل إِسْلاَمِهِ، فَصَارَ كَالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَيَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ فَقَطْ، فَلاَ مَنَّ وَلاَ فِدَاءَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَادِيَ بِهِ لِتَخْلِيصِهِ مِنَ الرِّقِّ. (2)

أَمْوَال الأَْسِيرِ:
32 - الْحُكْمُ فِي مَال الأَْسِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، فَلاَ عِصْمَةَ لَهُ عَلَى مَالِهِ وَمَا مَعَهُ، فَهُوَ فَيْءٌ لِكُل الْمُسْلِمِينَ مَا دَامَ أُسِرَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، أَوْ كَانَ
__________
(1) تحفة المحتاج 8 / 40 ط أولى.
(2) شرح السير الكبير 3 / 1025، والبحر الرائق 5 / 90، وتبيين الحقائق 3 / 249، وفتح القدير 4 / 306، والبدائع 7 / 122، والمهذب 2 / 239، ونهاية المحتاج 8 / 66، وفتح الوهاب 2 / 174، والوجيز 2 / 190، والمغني 10 / 402، ومطالب أولي النهى 2 / 527، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 125 ط أولى 1356 هـ، والطرق الحكمية ص 172 ط 1317 هـ.

(4/206)


الأَْسْرُ مُسْتَنِدًا لِقُوَّةِ الْجَيْشِ، وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَسْرِهِ وَاسْتُرِقَّ تَبِعَهُ مَالُهُ، أَمَّا لَوْ كَانَ إِسْلاَمُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْل أَخْذِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ، عَصَمَ نَفْسَهُ وَصِغَارَهُ وَكُل مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ، لِحَدِيثِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ (1) وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُول، وَكَذَا الْعَقَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: وَخَرَجَ عَقَارُهُ لأَِنَّهُ فِي يَدِ أَهْل الدَّارِ وَسُلْطَانِهَا فَيَكُونُ غَنِيمَةً. (2) وَقِيل: إنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَهُ كَسَائِرِ مَالِهِ. (3)
وَإِذَا قَال الأَْمِيرُ: مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْل الْعَسْكَرِ فَأَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الرُّبُعُ، وَسَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَسِيرٌ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، فَخَرَجَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ الأَْسِيرَ فَيْءٌ لَهُمْ وَكَسْبَ
__________
(1) حديث: " من أسلم على مال فهو له ". أخرجه ابن عدي والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: " من أسلم على شيء فهو له ". وفي إسناده ياسين بن معاذ الزيات. قال البيهقي: ياسين بن معاذ الزيات كوفي ضعيف جرحه يحيى بن معين والبخاري وغيرهما من الحفاظ. وأخرجه سعيد بن منصور من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما، قال محمد بن عبد الهادي في تنقيح التحقيق: هذا الحديث مرسل لكنه صحيح الإسناد، وروي الحديث كذلك عن ابن أبي مليكة مرسلا. قال الألباني: والحديث عندي حسن بمجموع طرقه (السنن الكبرى للبيهقي 9 / 113 ط دائرة المعارف العثمانية بالهند، وكتاب السنن لسعيد بن منصور القسم الأول من المجلد الثالث ص 54، 55 ط علمي بريس ماليكاون، وفيض القدير 6 / 62 نشر المكتبة التجارية، وإرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 6 / 156، 157 نشر المكتب الإسلامي) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 233 ط 1272 هـ، وحاشية الدسوقي 2 / 187.
(3) البحر الرائق 5 / 94، والمغني 10 / 475.

(4/206)


الْعَبْدِ لِمَوْلاَهُ. (1)

33 - وَإِذَا وَقَعَ السَّبْيُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْرَجَ مَالاً كَانَ مَعَهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَيَنْبَغِي لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ، لأَِنَّ الأَْمِيرَ إِنَّمَا مَلَّكَهُ بِالْقِسْمَةِ رَقَبَةَ الأَْسِيرِ لاَ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَال، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْل فِي الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْعَدْل إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ لاَ تَتَنَاوَل إِلاَّ مَا كَانَ مَعْلُومًا. وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا قَدْ خَلَصَتْ لَهُ أَخْرَجَتْ حُلِيًّا كَانَ مَعَهَا، فَقَال الرَّجُل: مَا أَدْرِي هَذَا؟ وَأَتَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَال: اجْعَلْهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ. لأَِنَّ الْمَال الَّذِي مَعَ الأَْسِيرِ كَانَ غَنِيمَةً، وَفِعْل الأَْمِيرِ تَنَاوَل الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَال، فَبَقِيَ الْمَال غَنِيمَةً (2) . وَهَذَا الْحُكْمُ يَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ الَّتِي لَهُ لَدَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ. فَإِنْ كَانَتْ لَدَى حَرْبِيٍّ فَهِيَ فَيْءٌ لِلْغَانِمِينَ.

34 - وَإِذَا كَانَ عَلَى الأَْسِيرِ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قُضِيَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي لَمْ يُغْنَمْ قَبْل اسْتِرْقَاقِهِ، فَإِنَّ حَقَّ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْغَنِيمَةِ، إِلاَّ إِذَا سَبَقَ الاِغْتِنَامُ رِقَّهُ. وَلَوْ وَقَعَا مَعًا فَالظَّاهِرُ - عَلَى مَا قَال الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - تَقْدِيمُ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ. (3)

بِمَ يُعْرَفُ إِسْلاَمُهُ:
35 - رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ
__________
(1) شرح السير الكبير 3 / 835، والمهذب 2 / 239، والمدونة مع المقدمات 1 / 379.
(2) شرح السير الكبير 3 / 1037، 1038.
(3) الوجيز 2 / 191.

(4/207)


وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِالإِْسْلاَمِ دُونَ اعْتِرَافٍ جَازِمٍ، بَيَّنَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَْسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْل فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} (1) .
وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ كَشَفَ نِيَّاتِ بَعْضِ الأَْسْرَى لِرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ، وَلَقَدْ حَدَّثَ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَْسْوَدِ أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَال: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُول اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقْتُلْهُ. قَال فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهُ قَطَعَ يَدِيّ، ثُمَّ قَال ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْل أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْل أَنْ يَقُول كَلِمَتَهُ الَّتِي قَال (2) .
وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُِسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ (3) . وَلِذَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا أُسَرَاءَ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ فَأَرَادُوا قَتْلَهُمْ، فَقَال
__________
(1) سورة الأنفال 70 - 71. وانظر أحكام القرآن لابن العربي قسم ثان ص 784.
(2) حديث المقداد بن الأسود " يا رسول الله: أرأيت إن لقيت رجلا. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1 / 95 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ". أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد مرفوعا ضمن قصة (صحيح مسلم 1 / 96 ط عيسى الحلبي) .

(4/207)


رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا مُسْلِمٌ، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ وَصَفَهُ لَهُمْ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَصِفَهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصِفُوهُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُوا لَهُ: هَل أَنْتَ عَلَى هَذَا؟ فَإِنْ قَال: نَعَمْ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَلَوْ قَال: لَسْتُ بِمُسْلِمٍ وَلَكِنِ اُدْعُونِي إِلَى الإِْسْلاَمِ حَتَّى أُسْلِمَ لَمْ يَحِل قَتْلُهُ. (1)

أَسْرَى الْبُغَاةِ:
36 - الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ بَغَى، وَهُوَ بِمَعْنَى عَلاَ وَظَلَمَ وَعَدَل عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَطَال. (2) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} . (3)
وَالْبُغَاةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الإِْمَامِ الْحَقِّ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ. وَيَجِبُ قِتَالُهُمْ لِرَدْعِهِمْ لاَ لِقَتْلِهِمْ (4) وَسَنَتَصَدَّى لِلْكَلاَمِ عَنْ حُكْمِ أَسْرَاهُمْ.
37 - أَسْرَى الْبُغَاةِ تُعَامِلُهُمُ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً، لأَِنَّ قِتَالَهُمْ لِمُجَرَّدِ دَفْعِهِمْ عَنِ الْمُحَارَبَةِ، وَرَدِّهِمْ إِلَى الْحَقِّ، لاَ لِكُفْرِهِمْ. (5) رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا ابْنَ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2 / 296، وشرح السير الكبير 2 / 513.
(2) القاموس مادة: (بغى) .
(3) سورة الحجرات / 9.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 308، وحاشية الدسوقي 4 / 298، وحاشية الجمل 5 / 194، والفروع 3 / 541 ط المنار.
(5) الشرح الكبير مطبوع مع المغني 10 / 59.

(4/208)


أُمِّ عَبْدٍ مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى عَلَى أُمَّتِي؟ قَال: فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: لاَ يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلاَ يُقْتَل أَسِيرُهُمْ، وَلاَ يُقْسَمُ فَيْؤُهُمْ. (1)

38 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ سَبْيِ نِسَاءِ الْبُغَاةِ وَذَرَارِيِّهِمْ. بَل ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَصْرِ الأَْسْرِ عَلَى الرِّجَال الْمُقَاتِلِينَ وَتَخْلِيَةِ سَبِيل الشُّيُوخِ وَالصِّبْيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَقَعَ الْقِتَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، قَرَّرَ عَلِيٌّ عَدَمَ السَّبْيِ وَعَدَمَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانُوا فِي صُفُوفِهِ، فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ: أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ؟ أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ أُمَّكُمْ كَفَرْتُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (2) وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهَا أُمُّكُمْ وَاسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَهَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (3) . فَلاَ يُسْتَبَاحُ مِنْهُمْ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْقِتَال (4) وَيَبْقَى حُكْمُ الْمَال وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَصْل الْعِصْمَةِ. وَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ أَسْرَى الْبُغَاةِ.
__________
(1) حديث " لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيؤهم " أخرجه الحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: يا بن مسعود أتدري ما حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال ابن مسعود:
(2) سورة الأحزاب / 6.
(3) سورة الأحزاب / 53.
(4) الشرح الكبير مع المغني 10 / 65، وفتح القدير 4 / 413.

(4/208)


وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ اسْتِرْقَاقِ أَسْرَى الْبُغَاةِ، لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَمْنَعُ الاِسْتِرْقَاقَ ابْتِدَاءً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال يَوْمَ الْجَمَل: لاَ يُقْتَل أَسِيرُهُمْ، وَلاَ يُكْشَفُ سِتْرٌ، وَلاَ يُؤْخَذُ مَالٌ " أَيْ لاَ يُسْتَرَقُّونَ وَلِذَا فَإِنَّهُ لاَ تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلاَ ذَرَارِيُّهُمْ. (1) وَالأَْصْل أَنَّ أَسِيرَهُمْ لاَ يُقْتَل لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَتَّى قَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ قَتَل أَهْل الْبَغْيِ أُسَارَى أَهْل الْعَدْل لَمْ يَجُزْ لأَِهْل الْعَدْل قَتْل أُسَارَاهُمْ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَيَتَّجِهُ الْمَالِكِيَّةُ وُجْهَةَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي عَدَمِ قَتْل الأَْسْرَى. (2) غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا أُسِرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِل. وَقِيل: يُؤَدَّبُ وَلاَ يُقْتَل (3) وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَلِلإِْمَامِ قَتْلُهُ. وَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً، إِذَا خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ. (4)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لأَِسْرَى الْبُغَاةِ فِئَةٌ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ لِلْبُغَاةِ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَاتُّبِعَ هَارِبُهُمْ لِقَتْلِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 311، 312، والبحر الرائق 5 / 152 - 153، وفتح القدير 4 / 411، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي 3 / 595، وغنية ذوي الأحكام بهامش درر الحكام 1 / 305، والتاج والإكليل 6 / 278، والشرح الصغير 2 / 415، وحاشية الدسوقي 4 / 299، وبداية المجتهد 2 / 498، والخرشي 5 / 302، وحاشية الجمل 5 / 117، 118، وشرح روض الطالب 4 / 114 - 115، وفتح الوهاب 2 / 154، والمغني 10 / 63 - 65، والفروع 3 / 54، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 39.
(2) المراجع السابقة.
(3) بداية المجتهد 2 / 498.
(4) التاج والإكليل 6 / 278.

(4/209)


أَوْ أَسْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ فَلاَ، وَالإِْمَامُ بِالْخِيَارِ فِي أَسِرْهُمْ إِنْ كَانَ لَهُ فِئَةٌ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ لِئَلاَّ يَنْفَلِتَ وَيَلْحَقَ بِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ حَتَّى يَتُوبَ أَهْل الْبَغْيِ، قَال الشَّرْنَبَلاَلِيُّ: وَهُوَ الْحَسَنُ، لأَِنَّ شَرَّهُ يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَدَمِ قَتْل الأَْسِيرِ مُؤَوَّلٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَالُوا: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا أَخَذَ أَسِيرًا اسْتَحْلَفَهُ أَلاَّ يُعِينَ عَلَيْهِ وَخَلاَّهُ (1) ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلاَ يُقْتَل أَسِيرُهُمْ. (2) وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ إِذَا أُسِرَتْ وَكَانَتْ تُقَاتِل حُبِسَتْ وَلاَ تُقْتَل، إِلاَّ فِي حَال مُقَاتَلَتِهَا. وَكَذَا الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ. (3)
40 - وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِدَاؤُهُمْ نَظِيرَ مَالٍ، وَإِنَّمَا إِذَا تَرَكَهُمْ مَعَ الأَْمْنِ كَانَ مَجَّانًا، لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَال (4) ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ مُوَادَعَتُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ وَادَعَهُمْ عَلَى مَالٍ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ وَنَظَرَ فِي الْمَال، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَيْئِهِمْ أَوْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَصَرَفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِهَا، وَالْفَيْءَ فِي مُسْتَحَقِّيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ. (5)
41 - وَيَجُوزُ مُفَادَاتُهُمْ بِأُسَارَى أَهْل الْعَدْل، وَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ مُفَادَاةَ الأَْسْرَى الَّذِينَ مَعَهُمْ وَحَبَسُوهُمْ،
__________
(1) الأثر عن علي رضي الله عنه أخرجه أبو يوسف بإسناده عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر بلفظ: " كان علي رضي الله عنه إذا أتي بالأسير يوم صفين أخذ دابته وسلاحه، وأخذ عليه ألا يعود، وخلى سبيله " (الخراج لأبي يوسف ص 233 ط السلفية) .
(2) غنية ذوي الأحكام 1 / 305، والبحر الرائق 5 / 153، وتبيين الحقائق 3 / 295، وفتح القدير 4 / 411، 412.
(3) المغني 10 / 64، وغنية ذوي الأحكام 1 / 305، والبحر الرائق 5 / 152، وحاشية الدسوقي 4 / 299.
(4) الشرح الصغير 2 / 415.
(5) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 40.

(4/209)


قَال ابْنُ قُدَامَةَ: اُحْتُمِل أَنْ يَجُوزَ لأَِهْل الْعَدْل حَبْسُ مَنْ مَعَهُمْ، لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى تَخْلِيصِ أُسَارَاهُمْ، وَيُحْتَمَل أَلاَّ يَجُوزَ حَبْسُهُمْ وَيُطْلَقُونَ، لأَِنَّ الْمُتَرَتِّبَ فِي أُسَارَى أَهْل الْعَدْل لِغَيْرِهِمْ. (1)
42 - وَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قَتْلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ وَلاَ يُخَلَّى سَبِيلُهُمْ، إِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنَعَةٌ، وَلَوْ كَانَ الأَْسِيرُ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا إِنْ كَانُوا مُقَاتِلِينَ، وَإِلاَّ أُطْلِقُوا بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَيَنْبَغِي عَرْضُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ وَمُبَايَعَةُ الإِْمَامِ. (2) وَلَوْ كَانُوا مُرَاهِقِينَ وَعَبِيدًا وَنِسَاءً غَيْرَ مُقَاتِلِينَ أَوْ أَطْفَالاً أُطْلِقُوا بَعْدَ الْحَرْبِ دُونَ أَنْ نَعْرِضَ عَلَيْهِمْ مُبَايَعَةَ الإِْمَامِ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْبَسُونَ، لأَِنَّ فِيهِ كَسْرًا لِقُلُوبِ الْبُغَاةِ. (3) وَقَالُوا: إِنْ بَطَلَتْ شَوْكَتُهُمْ وَيُخَافُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْحَال، فَالصَّوَابُ عَدَمُ إِرْسَال أَسِيرِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. (4)

أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إِذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ:
43 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ وَأَمَّنُوهُمْ، أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوهُمْ، فَظَهَرَ أَهْل الْعَدْل عَلَيْهِمْ، فَوَقَعُوا فِي الأَْسْرِ عِنْدَ أَهْل الْعَدْل، أَخَذُوا حُكْمَ أَسْرَى أَهْل الْحَرْبِ (5) ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا إِذَا قَال الأَْسِيرُ: ظَنَنْتُ جَوَازَ إِعَانَتِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَلِيَ إِعَانَةُ الْمُحِقِّ، وَأَمْكَنَ تَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُ يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ، ثُمَّ يُقَاتَل كَالْبُغَاةِ. (6)
__________
(1) المغني 10 / 64.
(2) حاشية الجمل 5 / 117، وشرح روض الطالب 4 / 114.
(3) المغني 10 / 64.
(4) الفروع 3 / 544، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 39.
(5) فتح القدير 4 / 415، 416 والمغني 10 / 71.
(6) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 118.

(4/210)


الأَْسْرَى مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ إِذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ:
44 - إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْل الذِّمَّةِ، فَوَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الأَْسْرِ، أَخَذَ حُكْمَ الْبَاغِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يُقْتَل إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ، وَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَعَانَ الْبَاغِي الْمُتَأَوِّل بِذِمِّيٍّ فَلاَ يَغْرَمُ الذِّمِّيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلاَ يُعَدُّ خُرُوجُهُ مَعَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَاغِي مُعَانِدًا - أَيْ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ - فَإِنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي مَعَهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَيَكُونُ هُوَ وَمَالُهُ فَيْئًا. وَهَذَا إِنْ كَانَ مُخْتَارًا، أَمَّا إِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، وَإِنْ قَتَل نَفْسًا يُؤْخَذُ بِهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ مُكْرَهًا. (2)
وَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ. قَالُوا: لَوْ أَعَانَ الذِّمِّيُّونَ الْبُغَاةَ فِي الْقِتَال، وَهُمْ عَالِمُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارُونَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِالْقِتَال.
أَمَّا إِنْ قَال الذِّمِّيُّونَ: كُنَّا مُكْرَهِينَ، أَوْ ظَنَنَّا جَوَازَ الْقِتَال إِعَانَةً، أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَأَنَّ لَنَا إِعَانَةَ الْمُحِقِّ وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ، فَلاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، لِمُوَافَقَتِهِمْ طَائِفَةً مُسْلِمَةً مَعَ عُذْرِهِمْ، وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ.
وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. (3)
وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ فِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ، أَحَدُهُمَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، لأَِنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْل الْحَقِّ فَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِقَتْلِهِمْ. وَيَصِيرُونَ كَأَهْل
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 295، وفتح القدير 4 / 415.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 300.
(3) الجمل على شرح المنهاج 5 / 118.

(4/210)


الْحَرْبِ فِي قَتْل مُقْبِلِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.
وَالثَّانِي: لاَ يُنْتَقَضُ، لأَِنَّ أَهْل الذِّمَّةِ لاَ يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِل، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ. وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْل الْبَغْيِ فِي قَتْل مُقْبِلِهِمْ، وَالْكَفِّ عَنْ أَسِيرِهِمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.
وَإِنْ أَكْرَهَهُمُ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ، أَوِ ادَّعَوْا ذَلِكَ قُبِل مِنْهُمْ، لأَِنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ إِنْ قَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّ مَنِ اسْتَعَانَ بِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ، لأَِنَّ مَا ادَّعُوهُ مُحْتَمَلٌ، فَلاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ مَعَ الشُّبْهَةِ. (1)
وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ نُقِضَ عَهْدُهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا، لأَِنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ، وَلاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، وَيَلْزَمُ الإِْمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.
وَإِذَا أُسِرَ مَنْ يُرَادُ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لَهُ، وَكَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلاَصِ مِنْ الأَْسْرِ، مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ لَهُ.

أَسْرَى الْحِرَابَةِ:
45 - الْمُحَارِبُونَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْفَسَادِ، اجْتَمَعَتْ عَلَى شَهْرِ السِّلاَحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ (2) ، وَيَجُوزُ حَبْسُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ لاِسْتِبْرَاءِ حَالِهِ (3) ، وَمَنْ ظَفِرَ بِالْمُحَارِبِ فَلاَ يَلِي قَتْلَهُ، وَيَرْفَعُهُ إِلَى الإِْمَامِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَخَافَ أَلاَّ يُقِيمَ الإِْمَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ.
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 10 / 69.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 51، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 42.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 51، 52، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 41، 44.

(4/211)


وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ تَأْمِينُهُ (1) ، وَإِنِ اسْتَحَقُّوا الْهَزِيمَةَ فَجَرِيحُهُمْ أَسِيرٌ، وَالْحُكْمُ فِيهِمْ لِلإِْمَامِ، مُسْلِمِينَ كَانُوا أَوْ ذِمِّيِّينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالأَْوْزَاعِيِّ. وَمَوْضِعُ بَيَانِ ذَلِكَ مُصْطَلَحُ (حِرَابَة) .

أَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أَحْكَامٍ
46 - الرِّدَّةُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، فَيُقَال: ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ إِذَا كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمٍ.
وَتَخْتَصُّ الرِّدَّةُ - فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ - بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ. وَكُل مُسْلِمٍ ارْتَدَّ فَإِنَّهُ يُقْتَل إِنْ لَمْ يَتُبْ، إِلاَّ الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهَا تُحْبَسُ، وَلاَ يُتْرَكُ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَلاَ بِأَمَانٍ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ حَتَّى لَوْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ بَعْدَ اللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (رِدَّةٌ) .

47 - وَإِذَا ارْتَدَّ جَمْعٌ، وَتَجَمَّعُوا وَانْحَازُوا فِي دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى صَارُوا فِيهَا ذَوِي مَنَعَةٍ وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الإِْسْلاَمِ، وَيُسْتَتَابُونَ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتِحْبَابًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُقَاتَلُونَ قِتَال أَهْل الْحَرْبِ، وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ قُتِل صَبْرًا إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَيُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّنَا نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَال إِذَا امْتَنَعُوا بِنَحْوِ حِصْنٍ. (2)
__________
(1) التبصرة مطبوعة بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك 2 / 274، 275.
(2) الأحكام السلطانية ص 36، وأسنى المطالب 4 / 123.

(4/211)


وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ رِجَالُهُمْ، وَلَكِنْ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمُ الَّذِينَ حَدَثُوا بَعْدَ الرِّدَّةِ، لأَِنَّهَا دَارٌ تَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ أَهْل الْحَرْبِ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ، وَلاَ يُصَالَحُوا عَلَى مَالٍ يَقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ، بِخِلاَفِ أَهْل الْحَرْبِ. (1) وَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَرَارِيَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَسَبَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنِي نَاجِيَةَ.
وَإِنْ أَسْلَمُوا حُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ، وَمَضَى فِيهِمْ حُكْمُ السَّبَاءِ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، فَأَمَّا الرِّجَال فَأَحْرَارٌ لاَ يُسْتَرَقُّونَ، وَلَيْسَ عَلَى الرِّجَال مِنْ أَهْل الرِّدَّةِ سَبْيٌ وَلاَ جِزْيَةٌ، إِنَّمَا هُوَ الْقَتْل أَوِ الإِْسْلاَمُ. وَإِنْ تَرَكَ الإِْمَامُ السَّبَاءَ وَأَطْلَقَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ وَتَرَكَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ.

48 - وَيُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ إِنْ حَارَبُوا بِأَرْضِ الْكُفْرِ أَوْ بِأَرْضِ الإِْسْلاَمِ، يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: إِذَا حَارَبَ الْمُرْتَدُّ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِالْحِرَابَةِ، وَلاَ يُسْتَتَابُ، كَانَتْ حِرَابَتُهُ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ أَوْ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ أَنْ يُسْلِمَ، فَإِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ، لاَ تِبَاعَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا فَعَل فِي حَال ارْتِدَادِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ إِسْلاَمُهُ عَنْهُ حُكْمَ الْحِرَابَةِ خَاصَّةً. (2) وَعَنِ ابْنِ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 36، 37، والخراج ص 67 ط 1182 هـ، وفتح القدير 4 / 211، والمبسوط 10 / 113، 114، والمهذب 2 / 224، والأحكام السلطانية للماوردي ص 49.
(2) بداية المجتهد 2 / 498، والتاج والإكليل 6 / 281.

(4/212)


الْقَاسِمِ قَال: إِذَا ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ فِي حِصْنٍ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ، وَأَمْوَالُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ. وَقَال أَصْبَغُ: تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَتُقْسَمُ أَمْوَالُهُمْ.
وَهَذَا الَّذِي خَالَفَتْ فِيهِ سِيرَةُ عُمَرَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ، وَأَجْرَى الْمُقَاسَمَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ نَقَضَ ذَلِكَ. (1)

49 - وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الأَْسِيرَ الْمُرْتَدَّ يُقْتَل إِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَعُدْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ، لِعُمُومِ حَدِيثِ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (2) .
50 - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُقْتَل، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ.
أَمَّا لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُقَاتِل، أَوْ كَانَتْ ذَاتَ رَأْيٍ فَإِنَّهَا تُقْتَل اتِّفَاقًا. لَكِنَّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُقْتَل لاَ لِرِدَّتِهَا، بَل لأَِنَّهَا تَسْعَى بِالْفَسَادِ.
وَيَسْتَدِل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ قَتْل الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ إِذَا أُخِذَتْ سَبْيًا بِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَقْ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلاَ يَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلاَ عَسِيفًا (3) ،
__________
(1) التاج والإكليل 3 / 386.
(2) حديث " من بدل دينه فاقتلوه ". أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا (فتح الباري 12 / 267 ط السلفية) .
(3) المبسوط 10 / 98، والمهذب 2 / 223، وأسنى المطالب 4 / 121، وبداية المجتهد 2 / 498، وحاشية الدسوقي 4 / 304، والمغني 10 / 74، والفروع 3 / 557، والفتح 4 / 389. وحديث " الحقْ بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا " أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم واللفظ له، من حديث رباح بن الربيع، وقال الحاكم: وهكذا رواه المغيرة بن عبد الرحمن وابن جريح عن أبي الزناد، فصار الحديث صحيحا على شرط الشيخين ولم (مسند أحمد بن حنبل 3 / 488 ط الميمنية، والفتح الرباني 14 / 64 الطبعة الأولى 1370 هـ، وعون المعبود 3 / 6 - 7 الهند، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 2 / 948 ط عيسى الحلبي، وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص 398 ط دار الكتب العلمية، والمستدرك 2 / 122 نشر دار الكتاب العربي) .

(4/212)


وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ الأَْصْلِيِّ وَالْكُفْرِ الطَّارِئِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّةَ إِذَا سُبِيَتْ لاَ تُقْتَل. (1)

51 - وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْفِدَاءِ مِنَ الأَْسْرَى الْمُرْتَدِّينَ، وَلاَ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِأَمَانٍ مُؤَقَّتٍ أَوْ أَمَانٍ مُؤَبَّدٍ، وَلاَ يُتْرَكُ عَلَى رِدَّتِهِ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ مِنَ الرِّجَال لاَ يَجْرِي فِيهِ إِلاَّ: الْعَوْدَةُ إِلَى الإِْسْلاَمِ أَوِ الْقَتْل، لأَِنَّ قَتْل الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ حَدٌّ، وَلاَ يُتْرَكُ إِقَامَةُ الْحَدِّ لِمَنْفَعَةِ الأَْفْرَادِ. (2)
52 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ لاَ يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدَّةِ أَيْضًا، وَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِمْرَارُ أَحَدٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بِالاِسْتِرْقَاقِ، بَيْنَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلاَ تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ
__________
(1) المبسوط 10 / 108، 109، وتبيين الحقائق 3 / 285، والخراج لأبي يوسف ص 179، وحاشية ابن عابدين 3 / 298، والبحر الرائق 5 / 138، وغنية ذوي الأحكام بهامش درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 / 301.
(2) المغني 10 / 75، والمقنع 3 / 516، وشرح روض الطالب من أسنى المطالب 4 / 122، والمهذب 2 / 222، وحاشية الدسوقي 4 / 304، والمبسوط 10 / 108.

(4/213)


الإِْسْلاَمِ، كَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ: أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَيْضًا.
وَقَالُوا فِي تَعْلِيل ذَلِكَ: إِنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَتْلُهَا، وَلاَ يَجُوزُ إِبْقَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ مَعَ الْجِزْيَةِ أَوْ مَعَ الرِّقِّ، وَلاَ جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ، فَكَانَ إِبْقَاؤُهَا عَلَى الرِّقِّ أَنْفَعُ. وَقَدِ اسْتَرَقَّ الصَّحَابَةُ نِسَاءَ مَنِ ارْتَدَّ. (1)

53 - وَبِالنِّسْبَةِ لأَِصْحَابِ الأَْعْذَارِ مِنَ الأَْسْرَى الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ أَيْضًا. وَنَقَل السَّرَخْسِيُّ قَوْلاً بِأَنَّ حُلُول الآْفَةِ بِمَنْزِلَةِ الأُْنُوثَةِ، لأَِنَّهُ تَخْرُجُ بِهِ بِنْيَتُهُ (هَيْئَتُهُ وَجِسْمُهُ) مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِتَال، فَعَلَى هَذَا لاَ يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، كَمَا لاَ يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الأَْصْلِيِّ. (2)
وَعَلَى قَوْل مَنْ يَرَى وُجُوبَ قَتْل الْمُرْتَدَّةِ - إِذَا كَانَتِ الأَْسِيرَةُ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ زَوْجٍ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ - فَإِنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ قَبْل قَتْلِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً، فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ تَحِيضُ اُسْتُبْرِئَتْ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ حَمْلُهَا، وَإِلاَّ قُتِلَتْ بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ. (3)
__________
(1) البحر الرائق 5 / 138، والمبسوط 10 / 111، 114، وفتح القدير 4 / 388، 389، وحاشية ابن عابدين 3 / 300، والبدائع 7 / 136، والمغني 10 / 74، وأسنى المطالب 4 / 122، والدسوقي 4 / 304.
(2) المبسوط 10 / 111.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 304.

(4/213)


أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي يَدِ الأَْعْدَاءِ
:
اسْتِئْسَارُ الْمُسْلِمِ وَمَا يَنْبَغِي لاِسْتِنْقَاذِهِ عِنْدَ تَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِهِ:
أ - الاِسْتِئْسَارُ:
54 - الاِسْتِئْسَارُ هُوَ تَسْلِيمُ الْجُنْدِيِّ نَفْسَهُ لِلأَْسْرِ، فَقَدْ يَجِدُ الْجُنْدِيُّ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ الاِسْتِئْسَارُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَنَدِهِ قَال: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً رَهْطًا عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ - مَوْضِعٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ - ذُكِرُوا لِبَنِي لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتِي رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ - مَوْضِعٍ غَلِيظٍ مُرْتَفِعٍ - وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَلاَّ نَقْتُل مِنْكُمْ أَحَدًا، قَال عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَوَاَللَّهِ لاَ أَنْزِل الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ خَبِّرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْل فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَل إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَْنْصَارِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثْنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَال الرَّجُل الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّل الْغَدْرِ، وَاَللَّهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلاَءِ لأَُسْوَةً - يُرِيدُ الْقَتْلَى - فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ - أَيْ مَارَسُوهُ وَخَادَعُوهُ لِيَتْبَعَهُمْ - فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثْنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ. . . (1) فَعَلِمَ
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 7 / 268، 269 ط مصطفى الحلبي سنة 1380 هـ، والحديث: أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (6 / 165 - 166 ط السلفية) .

(4/214)


رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا حَدَثَ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ يَدُل عَلَى أَنَّ الاِسْتِئْسَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقَال الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُسْتَأْسَرُ الرَّجُل إِذَا خَافَ أَنْ يُغْلَبَ. (1) وَإِلَى هَذَا اتَّجَهَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

55 - وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى شُرُوطٍ يَلْزَمُ تَوَافُرُهَا لِجَوَازِ الاِسْتِئْسَارِ هِيَ: أَنْ يَخَافَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الاِسْتِسْلاَمِ قَتْلُهُ فِي الْحَال، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَسْلِمُ إِمَامًا، أَوْ عِنْدَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الصُّمُودِ، وَأَنْ تَأْمَنَ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا الْفَاحِشَةَ.
وَالأَْوْلَى - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ - إِذَا مَا خَشِيَ الْمُسْلِمُ الْوُقُوعَ فِي الأَْسْرِ أَنْ يُقَاتِل حَتَّى يُقْتَل، وَلاَ يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلأَْسْرِ، لأَِنَّهُ يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالاِسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ، وَإِنْ اسْتَأْسَرَ جَازَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. (2)

ب - اسْتِنْقَاذُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَمُفَادَاتُهُمْ:
56 - إِذَا وَقَعَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فَهُوَ حُرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَكَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يَلْزَمُهُمُ الْعَمَل عَلَى خَلاَصِهِ، وَلَوْ بِتَيْسِيرِ سُبُل الْفِرَارِ لَهُ، وَالتَّفَاوُضِ مِنْ أَجْل إِطْلاَقِ سَرَاحِهِ، فَإِذَا لَمْ يُطْلِقُوا سَرَاحَهُ تَرَبَّصُوا لِذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ الرَّسُول صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَتَحَيَّنُ الْفُرْصَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِتَخْلِيصِ الأَْسْرَى. رَوَتْ كُتُبُ السِّيرَةِ أَنَّ قُرَيْشًا أَسَرَتْ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
__________
(1) العيني على صحيح البخاري 14 / 294.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 357، وفتح الوهاب 2 / 171، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 553، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 30، والدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 3 / 222.

(4/214)


فَلَمَّا لَمْ يَجِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيلَةً لإِِنْقَاذِهِمْ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ لإِِنْقَاذِهِمْ دُبُرَ كُل صَلاَةٍ، وَلَمَّا أَفْلَتَ أَحَدُهُمْ مِنَ الأَْسْرِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، سَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَفِيقَيْهِ فَقَال: أَنَا لَكَ بِهِمَا يَا رَسُول اللَّهِ، فَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا مُسْتَخْفِيًا، فَلَقِيَ امْرَأَةً عَلِمَ أَنَّهَا تَحْمِل الطَّعَامَ لَهُمَا فِي الأَْسْرِ فَتَبِعَهَا، حَتَّى اسْتَطَاعَ تَخْلِيصَهُمَا، وَقَدِمَ بِهِمَا عَلَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ (1) .
وَقَدِ اسْتَنْقَذَ رَسُول اللَّهِ كُلًّا مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ أَسَرَهُمَا الْمُشْرِكُونَ، بِأَنْ فَاوَضَ عَلَيْهِمَا، وَحَبَسَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ حَتَّى يُطْلِقُوا سَرَاحَهُمَا، وَكَذَلِكَ فَعَل فِي اسْتِنْقَاذِ عُثْمَانَ وَعَشَرَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ (2) .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسْرَاهُمْ. وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَال: لأََنْ أَسْتَنْقِذَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
__________
(1) السير النبوية لابن هشام 1 / 474، 476 ط الثانية 1375 هـ، والخراج لأبي يوسف ص 311 ط المطبعة السلفية.
(2) حديث: " استنقذ رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه الطبري مرسلا من حديث السدى مطولا (تفسير الطبري بتحقيق محمود محمد شاكر 2 / 305، 306 نشر دار المعارف بمصر) . والسيرة النبوية لابن هشام ص 604، والبداية والنهاية 3 / 250 ط أولى 1351 هـ، وإمتاع الأسماع 1 / 57، 291.

(4/215)


57 - وَيَجِبُ اسْتِنْقَاذُ الأَْسْرَى بِالْمُقَاتَلَةِ مَا دَامَ ذَلِكَ مَيْسُورًا، فَإِذَا دَخَل الْمُشْرِكُونَ دَارَ الإِْسْلاَمِ فَأَخَذُوا الأَْمْوَال وَالذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ دَخَلُوا بِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ إِذَا غَلَبَ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْقِتَال لِتَخْلِيصِهِمْ فَتَرَكُوهُ كَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِي يَدِ الْكُفَّارِ بَعْضَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَّا الْخُرُوجُ لِقِتَالِهِمْ لاِسْتِنْقَاذِ الأَْسْرَى. (1)
58 - وَالاِسْتِنْقَاذُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ عَنْ طَرِيقِ الْقِتَال فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَنْ طَرِيقِ الْفِدَاءِ بِتَبَادُل الأَْسْرَى، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُ الْقَوْل فِيهِ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَال أَيْضًا، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ لأَِنَّ مَا يُخَافُ مِنْ تَعْذِيبِ الأَْسِيرِ أَعْظَمُ فِي الضَّرُورَةِ مِنْ بَذْل الْمَال، فَجَازَ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا. (2)
وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْتَدُوهُ. وَنَقَل أَبُو يُوسُفَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " كُل أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ فِي بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ " (3) . وَهُوَ
__________
(1) شرح السير الكبير 1 / 207. والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 387، وفتح الوهاب شرح منهج الطلاب 2 / 171. وحاشية الجمل 5 / 152. والمغني 10 / 498.
(2) المغني 10 / 498، والتاج والإكليل 3 / 388، والمذهب 2 / 260.
(3) أثر: " كل أسير كان في أيدي المشركين. . . ". أخرجه أبو يوسف من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفا عليه. (كتاب الخراج لأبي يوسف ص 196 نشر المكتبة السلفية 1352 هـ) .

(4/215)


مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، كَمَا نَقَلَهُ الْمَوَّاقُ عَنِ ابْنِ بَشِيرٍ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَالأَْسِيرُ كَأَحَدِهِمْ، فَإِنْ ضَيَّعَ الإِْمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الأَْسِيرِ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ رُشْدٍ أَيْضًا.
وَفِي الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (1)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ بَذْل الْمَال لِفَكِّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ - إِنْ خِيفَ تَعْذِيبُهُمْ - جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِمْ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْعَجْزِ افْتِدَاءُ الْغَيْرِ لَهُ، فَمَنْ قَال لِكَافِرٍ: أَطْلِقْ هَذَا الأَْسِيرَ، وَعَلَيَّ كَذَا، فَأَطْلَقَهُ لَزِمَهُ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الأَْسِيرِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي فِدَائِهِ (2) .

61 - وَأَسْرُ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ لاَ يُزِيل حُرِّيَّتَهُ، فَمَنِ اشْتَرَاهُ مِنَ الْعَدُوِّ لاَ يَمْلِكُهُ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِيمَا أَدَّى مِنْ فِدَائِهِ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَالْقِيَاسُ لاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ نَصًّا. (3)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا يَرْوِي الْمَوَّاقُ - أَنَّ لِلْمُشْتَرِيَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، شَاءَ أَوْ أَبَى، لأَِنَّهُ فِدَاءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ اُتُّبِعَ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاَلَّذِي فَدَاهُ وَاشْتَرَاهُ مِنَ الْعَدُوِّ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غُرَمَائِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ يَقْصِدُ الصَّدَقَةَ، أَوْ كَانَ الْفِدَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الأَْسِيرُ
__________
(1) الخراج ص 196، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 207، والتاج والإكليل 3 / 387، والمهذب 2 / 260.
(2) المهذب 2 / 260.
(3) شرح السير الكبير 3 / 1033، وحاشية الجمل 5 / 192.

(4/216)


يَرْجُو الْخَلاَصَ بِالْهُرُوبِ أَوِ التَّرْكِ. (1)

62 - وَلَوْ خَلَّى الْكُفَّارُ الأَْسِيرَ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ، أَوْ يَعُودَ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ هَذَا نَتِيجَةَ إِكْرَاهٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ، وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ لَزِمَهُ، وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ، لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلأَِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ الأُْسَارَى، وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ. وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يَلْزَمُهُ، لأَِنَّهُ حُرٌّ لاَ يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ.
وَأَمَّا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (2) ، وَلأَِنَّ فِي رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا.
وَإِنْ كَانَ رَجُلاً، فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَرْجِعُ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْل عُثْمَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا أَمْضَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي الرِّجَال، وَنَسَخَهُ فِي النِّسَاءِ. (3)

ج - التَّتَرُّسُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ:
63 - التُّرْسُ بِضَمِّ التَّاءِ: مَا يُتَوَقَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ،
__________
(1) التاج والإكليل 3 / 388، وحاشية الدسوقي 2 / 207.
(2) سورة الممتحنة / 10.
(3) المغني 10 / 548، 549.

(4/216)


يُقَال: تَتَرَّسَ بِالتُّرْسِ إِذَا تَوَقَّى بِهِ (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ تَتَرُّسُ الْمُشْرِكِينَ بِالأَْسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَال، لأَِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُمْ كَالتِّرَاسِ، فَيَتَّقُونَ بِهِمْ هُجُومَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّ رَمْيَ الْمُشْرِكِينَ - مَعَ تَتَرُّسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ - يُؤَدِّي إِلَى قَتْل الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ نَحْرِصُ عَلَى حَيَاتِهِمْ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الأَْسْرِ. وَقَدْ عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَنَاوَلُوهَا مِنْ نَاحِيَةِ جَوَازِ الرَّمْيِ مَعَ التَّتَرُّسِ بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ الذِّمِّيِّينَ، كَمَا تَنَاوَلُوهَا مِنْ نَاحِيَةِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ، وَإِلَيْكَ اتِّجَاهَاتُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا:

أ - رَمْيُ التُّرْسِ:
64 - مِنْ نَاحِيَةِ رَمْيِ التُّرْسِ: يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ الرَّمْيِ خَطَرٌ مُحَقَّقٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الرَّمْيُ بِرَغْمِ التَّتَرُّسِ، لأَِنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الإِْسْلاَمِ، وَقَتْل الأَْسِيرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ. وَيُقْصَدُ عِنْدَ الرَّمْيِ الْكُفَّارُ لاَ التُّرْسُ، لأَِنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلاً فَقَدْ أَمْكَنَ قَصْدًا، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْقَوْل لِلرَّامِي بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ قَصَدَ الْكُفَّارَ، وَلَيْسَ قَوْل وَلِيِّ الْمَقْتُول الَّذِي يَدَّعِي الْعَمْدَ. (2)
__________
(1) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 3 / 243.
(2) فتح القدير والعناية 4 / 287، والبدائع 7 / 100، 101، وحاشية ابن عابدين 3 / 623، وحاشية الدسوقي 2 / 178، والشرح الصغير وبلغة السالك عليه 1 / 357، ومنهج الطلاب وشرحه فتح الوهاب 1 / 172، وحاشية الجمل 5 / 124، والأحكام السلطانية للماوردي ص 42 الطبعة الأولى لمصطفى الحلبي، والأم 4 / 163، والمغني 10 / 505، والإنصاف 4 / 129.

(4/217)


أَمَّا فِي حَالَةِ خَوْفِ وُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَمْيُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ أَيْضًا، وَتَسْقُطُ حُرْمَةُ التُّرْسِ.
وَيَقُول الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَتَرَّسُ بِهِمْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجُوزُ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْخَوْفِ لاَ يُبِيحُ الدَّمَ الْمَعْصُومَ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى بَعْضِ الْغَازِينَ فَقَطْ. (1)
65 - وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْحِصَارِ الَّذِي لاَ خَطَرَ فِيهِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ لاَ يُقْدَرُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ إِلاَّ بِرَمْيِ التُّرْسِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْمَنْعِ، لأَِنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى قَتْل الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكُ قَتْل الْكَافِرِ جَائِزٌ. أَلاَ يُرَى أَنَّ لِلإِْمَامِ أَلاَّ يَقْتُل الأُْسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلأَِنَّ مَفْسَدَةَ قَتْل الْمُسْلِمِ فَوْقَ مَصْلَحَةِ قَتْل الْكَافِرِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ رَمْيِهِمْ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ، وَاعْتَبَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيل الضَّرُورَةِ. (2)

ب - الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ:
66 - وَمِنْ نَاحِيَةِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ إِصَابَةِ أَحَدِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ نَتِيجَةَ رَمْيِ التُّرْسِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لاَ يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ وَلاَ
__________
(1) الوجيز 2 / 190 ط 1317 هـ، والشرح الصغير وبلغة السالك 1 / 357 ط مصطفى الحلبي.
(2) المراجع السابقة.

(4/217)


كَفَّارَةٌ، لأَِنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ، وَالْغَرَامَاتُ لاَ تُقْرَنُ بِالْفُرُوضِ، لأَِنَّ الْفَرْضَ مَأْمُورٌ بِهِ لاَ مَحَالَةَ، وَسَبَبُ الْغَرَامَاتِ عُدْوَانٌ مَحْضٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، فَوُجُوبُ الضَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْفَرْضِ، لأَِنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الضَّمَانِ، وَهَذَا لاَ يَتَعَارَضُ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الإِْسْلاَمِ دَمٌ مُفْرَجٌ (1) - أَيْ مُهْدَرٌ - لأَِنَّ النَّهْيَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَتُخَصُّ صُورَةُ النِّزَاعِ، كَمَا أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ خَاصٌّ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ. (2)
67 - وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ قَوْلاً وَاحِدًا، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَجِبُ، لأَِنَّهُ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً، فَيَدْخُل فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} (3) .
الثَّانِيَةُ: لاَ دِيَةَ، لأَِنَّهُ قَتَل فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرَمْيٍ مُبَاحٍ، فَيَدْخُل فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (4) وَلَمْ
__________
(1) حديث: " ليس في الإسلام دم مفرج " أورده ابن الأثير في النهاية نقلا عن الهروي بلفظ " العقل على المسلمين عامة، فلا يترك في الإسلام دم مفرج " ولم يصرح بأنه حديث نبوي. وأخرج عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه أنه قال: " أيما قتيل بفلاة من الأرض فديته من بيت ال (النهاية لابن الأثير 3 / 423 ط عيسى الحلبي، وكنز العمال 15 / 143 نشر مكتبة التراث الإسلامي) .
(2) الفتح والعناية 4 / 287.
(3) سورة النساء / 94.
(4) سورة النساء / 92.

(4/218)


يَذْكُرْ دِيَةً. (1) وَعَدَمُ وُجُوبِ الدِّيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (2)
68 - وَيَقُول الْجَمَل الشَّافِعِيُّ: وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ إِنْ عُلِمَ الْقَاتِل، لأَِنَّهُ قَتَل مَعْصُومًا، وَكَذَا الدِّيَةُ، لاَ الْقِصَاصُ، لأَِنَّهُ مَعَ تَجْوِيزِ الرَّمْيِ لاَ يَجْتَمِعَانِ. (3) وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْلَمَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الإِْمْكَانِ تَوَقِّيهِ. (4)
وَيَنْقُل الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَال: إِنْ قَصَدَهُ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ، عَلِمَهُ مُسْلِمًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِعَيْنِهِ بَل رَمَى إِلَى الصَّفِّ فَأُصِيبَ فَلاَ دِيَةَ عَلَيْهِ.
وَالتَّعْلِيل الأَْوَّل أَنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى قَتْل الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكَ قَتْل الْكَافِرِ جَائِزٌ، لأَِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْتُل الأُْسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ تَرْكُهُ لِعَدَمِ قَتْل الْمُسْلِمِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ مَفْسَدَةَ قَتْل الْمُسْلِمِ فَوْقَ مَصْلَحَةِ قَتْل الْكَافِرِ. (5)
69 - وَلَمْ نَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذَا إِلاَّ مَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ عِنْدَ تَعْلِيقِهِ عَلَى قَوْل خَلِيلٍ: وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمٍ، فَقَال: وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِأَمْوَال الْمُسْلِمِينَ فَيُقَاتَلُونَ وَلاَ يُتْرَكُونَ. وَيَنْبَغِي ضَمَانُ قِيمَتِهِ عَلَى مَنْ رَمَاهُمْ، قِيَاسًا عَلَى مَا يُرْمَى مِنَ السَّفِينَةِ لِلنَّجَاةِ مِنَ الْغَرَقِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا إِتْلاَفُ مَالٍ لِلنَّجَاةِ. (6)
__________
(1) المغني 10 / 505.
(2) الإنصاف 4 / 129.
(3) حاشية الجمل 4 / 191.
(4) نهاية المحتاج 8 / 62.
(5) العناية على الفتح 4 / 287.
(6) حاشية الدسوقي 2 / 178.

(4/218)


مَدَى تَطْبِيقِ بَعْضِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ
حَقُّ الأَْسِيرِ فِي الْغَنِيمَةِ:
70 - يَسْتَحِقُّ مَنْ أُسِرَ قَبْل إِحْرَازِ الْغَنِيمَةَ فِيمَا غُنِمَ قَبْل الأَْسْرِ، إِذَا عُلِمَ حَيَاتُهُ أَوِ انْفَلَتَ مِنَ الأَْسْرِ. لأَِنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِيهَا، وَبِالأَْسْرِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً، لِتَقَرُّرِ حَقِّهِ بِالإِْحْرَازِ. وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِيمَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ أَسْرِهِ، لأَِنَّ الْمَأْسُورَ فِي يَدِ أَهْل الْحَرْبِ لاَ يَكُونُ مَعَ الْجَيْشِ حَقِيقَةً وَلاَ حُكْمًا، فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِي إِصَابَةِ هَذَا، وَلاَ فِي إِحْرَازِهِ بِالدَّارِ. وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَصِيرُ هَذَا الأَْسِيرِ فِي يَدِ الْحَرْبِيِّينَ قُسِمَتِ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ يُوقَفْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَإِنْ قُسِمَتِ الْغَنَائِمُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ حَقَّ الَّذِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ قَدْ تَأَكَّدَ بِالْقِسْمَةِ وَثَبَتَ مِلْكُهُمْ فِيهَا، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ إِبْطَال الْحَقِّ الضَّعِيفِ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا هَرَبَ فَأَدْرَكَ الْحَرْبَ قَبْل تَقَضِّيهَا أُسْهِمَ لَهُ، وَفِي قَوْلٍ لاَ شَيْءَ لَهُ. وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ. (1)
71 - وَمَنْ أُسِرَ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْغَنَائِمِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَيْعِهَا، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِحَاجَةِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ، أَوْ يَظْهَرَ مَوْتُهُ فَيَكُونَ لِوَرَثَتِهِ، لأَِنَّ حَقَّهُ قَدْ تَأَكَّدَ فِي الْمَال الْمُصَابِ بِالإِْحْرَازِ. (2)
وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَنَّ الْغَنِيمَةَ إِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلْمُجَاهِدَيْنِ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ
__________
(1) السير الكبير وشرحه 3 / 913، 914، والإنصاف 4 / 165.
(2) شرح السير الكبير 3 / 913، 914.

(4/219)


مِمَّنْ حَضَرَ الْقِتَال، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رِدْءًا لِمَنْ حَضَرَ الْقِتَال. (1) وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي هَذَا مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (غَنِيمَة) .

حَقُّ الأَْسِيرِ فِي الإِْرْثِ وَتَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ:
72 - أَسِيرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي مَعَ الْعَدُوِّ يَرِثُ إِذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ فِي قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الْكُفَّارَ لاَ يَمْلِكْنَ الأَْحْرَارَ بِالْقَهْرِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُرِّيَّتِهِ، فَيَرِثُ كَغَيْرِهِ. (2) وَكَذَلِكَ لاَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ، لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ نَافِذٌ، وَلاَ أَثَرَ لاِخْتِلاَفِ الدَّارِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ. (3) فَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ يُوَرِّثُ الأَْسِيرَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ. . . (4) فَهَذَا الْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ يُؤَيِّدُ قَوْل الْجُمْهُورِ أَنَّ الأَْسِيرَ إِذَا وَجَبَ لَهُ مِيرَاثٌ يُوقَفُ لَهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثِ الأَْسِيرَ فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُ (5) .
73 - وَالْمُسْلِمُ الَّذِي أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، وَلاَ يُدْرَى أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، مَعَ أَنَّ مَكَانَهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ دَارُ الْحَرْبِ، لَهُ حُكْمٌ فِي الْحَال، فَيُعْتَبَرُ حَيًّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، حَتَّى
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 405.
(2) المغني 7 / 131.
(3) الشرح الكبير مطبوع مع المغني 2 / 446.
(4) حديث " من ترك مالا فلورثته " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (فتح الباري 9 / 515، 516 ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3 / 1237 ط عيسى الحلبي) .
(5) إرشاد الساري شرح صحيح البخاري 9 / 443، 444 الطبعة السابقة سنة 1326 هـ، وفتح الباري 12 / 49 ط السلفية.

(4/219)


لاَ يُورَثَ عَنْهُ مَالُهُ، وَلاَ تُزَوَّجَ نِسَاؤُهُ، وَمَيِّتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لاَ يَرِثَ مِنْ أَحَدٍ. وَلَهُ حُكْمٌ فِي الْمَآل، وَهُوَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ (1) ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَفْقُودِ. اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (مَفْقُود) .

74 - وَيَسْرِي عَلَى الأَْسِيرِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْمَالِيَّةِ مَا يَسْرِي عَلَى غَيْرِهِ فِي حَال الصِّحَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ، فَبَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَصَدَقَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ، مَا دَامَ صَحِيحًا غَيْرَ مُكْرَهٍ. قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أُجِيزَ وَصِيَّةُ الأَْسِيرِ وَعَتَاقُهُ وَمَا صَنَعَ فِي مَالِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ. (2)
أَمَّا إِنْ كَانَ الأَْسِيرُ فِي يَدِ مُشْرِكِينَ عُرِفُوا بِقَتْل أَسْرَاهُمْ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، لأَِنَّ الأَْغْلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا، وَلَيْسَ يَخْلُو الْمَرَّةَ فِي حَالٍ أَبَدًا مِنْ رَجَاءِ الْحَيَاةِ وَخَوْفِ الْمَوْتِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ الأَْغْلَبُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ الْخَوْفَ عَلَيْهِ، فَعَطِيَّتُهُ عَطِيَّةَ مَرِيضٍ، وَإِذَا كَانَ الأَْغْلَبُ الأَْمَانَ كَانَتْ عَطِيَّتُهُ عَطِيَّةَ الصَّحِيحِ. (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضُ الْمَوْتِ) .

جِنَايَةُ الأَْسِيرِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا:
75 - يَتَّجِهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَدَرَ مِنَ الأَْسِيرِ حَال الأَْسْرِ مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّهُ لاَ تَخْتَلِفُ الدَّارَانِ فِي
__________
(1) البحر الرائق 5 / 136 ط أولى، والشرح الكبير مطبوع مع المغني 7 / 146.
(2) إرشاد الساري 9 / 447.
(3) الأم 4 / 36 الطبعة الأولى، والبدائع 7 / 133.

(4/220)


تَحْرِيمِ الْفِعْل، فَلَمْ تَخْتَلِفْ فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْعُقُوبَةِ. فَلَوْ قَتَل بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ قَذَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ شَرِبَ أَحَدُهُمْ خَمْرًا، فَإِنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَيْهِمْ إِذَا صَارُوا إِلَى بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَمْنَعُ الدَّارُ حُكْمَ اللَّهِ.
وَيَقُول الْحَطَّابُ: إِذَا أَقَرَّ الأَْسِيرُ أَنَّهُ زَنَى، وَدَامَ عَلَى إِقْرَارِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ، أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ: عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَإِذَا قَتَل الأَْسِيرُ أَحَدًا مِنْهُمْ خَطَأً، وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ، وَالأَْسِيرُ لاَ يَعْلَمُ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَقِيل الْكَفَّارَةُ فَقَطْ. وَإِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ عَمْدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِإِسْلاَمِهِ قُتِل بِهِ. وَإِذَا جَنَى الأَْسِيرُ عَلَى أَسِيرٍ مِثْلِهِ فَكَغَيْرِهِمَا (1) .
76 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ - فِي جَرِيمَةِ الزِّنَى - بِعَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لاَ تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ (2) لاِنْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
__________
(1) المهذب 2 / 241. والأم 4 / 162، 199، والمغني 10 / 537، ومواهب الجليل 3 / 354.
(2) حديث: " لا تقام الحدود في دار الحرب " لم نجده بهذا اللفظ وإنما يدل عليه ما أخرجه الترمذي من حديث بسر بن أرطاة مرفوعا بلفظ: " لا تقطع الأيدي في الغزو " وما أخرجه النسائي وأبو داود مرفوعا بلفظ " لا تقطع الأيدي في السفر " قال الترمذي: هذا حديث غريب، وسكت عنه أبو داود، وقال الشوكاني: إسناده عند أبي داود ثقات إلى بسر، وفي إسناد الترمذي ابن لهيعة، وفي إسناد النسائي بقية بن الوليد، واختلف في صحبة بسر المذكور. وقال عبد القادر الأرناؤوط: وإسناده صحيح (تحفة الأحوذي 5 / 11، 12 نشر السلفية، وسنن النسائي 8 / 91 نشر المكتبة التجارية الكبرى، وعون المعبود 4 / 246 ط الهند، ونيل الأوطار 7 / 313 ط دار الجيل، وجامع الأصول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط 3 / 579 نشر مكتبة الحلواني) .

(4/220)


حِينَ بَاشَرَ السَّبَبَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى وَكَانَ أَسِيرًا فِي مُعَسْكَرِ أَهْل الْبَغْيِ، لأَِنَّ يَدَ إِمَامِ أَهْل الْعَدْل لاَ تَصِل إِلَيْهِمْ. (1) وَقَالُوا: لَوْ قَتَل أَحَدُ الأَْسِيرَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ الآْخَرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ بِالأَْسْرِ صَارَ تَبَعًا لَهُمْ، لِصَيْرُورَتِهِ مَقْهُورًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِمْ وَمُسَافِرًا بِسَفَرِهِمْ. وَخُصَّ الْخَطَأُ بِالْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ عِقَابُ الآْخِرَةِ. وَقَال الصَّاحِبَانِ بِلُزُومِ الدِّيَةِ أَيْضًا فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، لأَِنَّ الْعِصْمَةَ لاَ تَبْطُل بِعَارِضِ الأَْسْرِ وَامْتِنَاعِ الْقِصَاصِ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ الَّذِي فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. (2)

أَنْكِحَةُ الأَْسْرَى:
77 - ظَاهِرُ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ الأَْسِيرَ لاَ يَحِل لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، وَهَذَا قَوْل الزُّهْرِيِّ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ، لأَِنَّ الأَْسِيرَ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ رَقِيقًا لَهُمْ، وَلاَ يَأْمَنُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ، وَسُئِل أَحْمَدُ عَنْ أَسِيرٍ اُشْتُرِيَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَيَطَؤُهَا؟ فَقَال: كَيْفَ يَطَؤُهَا؟ فَلَعَل غَيْرَهُ مِنْهُمْ يَطَؤُهَا، قَال الأَْثْرَمُ: قُلْتُ لَهُ: وَلَعَلَّهَا تَعْلَقُ بِوَلَدٍ فَيَكُونُ مَعَهُمْ، قَال: وَهَذَا أَيْضًا. (3)
__________
(1) المبسوط 10 / 99، 100، ومواهب الجليل 3 / 354.
(2) البحر الرائق 5 / 108، والفتح 4 / 350، 351، والبدائع 7 / 131، 133.
(3) المغني 10 / 511.

(4/221)


وَيَقُول الْمَوَّاقُ: الأَْسِيرُ يُعْلَمُ تَنَصُّرُهُ فَلاَ يُدْرَى أَطَوْعًا أَمْ كَرْهًا فَلْتَعْتَدَّ زَوْجَتُهُ، وَيُوقَفْ مَالُهُ، وَيُحْكَمُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ، وَإِنْ ثَبَتَ إِكْرَاهُهُ بِبَيِّنَةٍ كَانَ بِحَال الْمُسْلِمِ فِي نِسَائِهِ وَمَالِهِ. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ (إِكْرَاه) (وَرِدَّة) .

إِكْرَاهُ الأَْسِيرِ وَالاِسْتِعَانَةُ بِهِ:
78 - الأَْسِيرُ إِنْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، لاَ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلاَ يَحْرُمُ مِيرَاثُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يُحْرَمُونَ مِيرَاثَهُمْ مِنْهُ، وَإِذَا مَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْل لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ دُخُول الْكَنِيسَةِ فَفَعَل وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الضَّرُورَاتِ. (2) وَلَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَقْتُل مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا لاَ يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَنْ يَدُل عَلَى ثُغْرَةٍ يَنْفُذُ مِنْهَا الْعَدُوُّ إِلَى مُقَاتَلَتِنَا، وَلاَ الاِشْتِرَاكِ مَعَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَال عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الأَْوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (إِكْرَاهٌ) .

الأَْمَانُ مِنَ الأَْسِيرِ وَتَأْمِينُهُ:
79 - لاَ يَصِحُّ الأَْمَانُ مِنَ الأَْسِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الأَْمَانَ لاَ يَقَعُ مِنْهُ بِصِفَةِ النَّظَرِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، بَل لِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ، وَلأَِنَّ الأَْسِيرَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِنْ أَمِنُوهُ وَأَمِنَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ لَهُمْ كَمَا يَفُونَ لَهُ، وَلاَ يَسْرِقَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ
__________
(1) التاج والإكليل مطبوع بهامش مواهب الجيل 6 / 285.
(2) الأم 4 / 698.
(3) التاج والإكليل مطبوع بهامش مواهب الجليل 3 / 389.

(4/221)


نَفْسِهِ، وَقَدْ شُرِطَ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِهِمْ. وَهُوَ مَا قَالَهُ اللَّيْثُ (1) . وَوَافَقَهُمْ كُلٌّ مِنَ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذَا مَا كَانَ الأَْسِيرُ مَحْبُوسًا أَوْ مُقَيَّدًا، لأَِنَّهُ مُكْرَهٌ، وَأَعْطَى الشَّافِعِيَّةُ مَنْ أَمَّنَ آسِرَهُ حُكْمَ الْمُكْرَهِ، وَقَالُوا: إِنَّ أَمَانَهُ فَاسِدٌ. (2) أَمَّا إِذَا كَانَ مُطْلَقًا وَغَيْرَ مُكْرَهٍ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ أَسِيرَ الدَّارِ - وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِبِلاَدِ الْكُفَّارِ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا - يَصِحُّ أَمَانُهُ. قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا يَكُونُ مُؤَمَّنُهُ آمِنًا بِدَارِهِمْ لاَ غَيْرُ، إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالأَْمَانِ فِي غَيْرِهَا. (3) وَسُئِل أَشْهَبُ عَنْ رَجُلٍ شَذَّ عَنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسَرَهُ الْعَدُوُّ، فَطَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَال الْعَدُوُّ لِلأَْسِيرِ الْمُسْلِمِ: أَعْطِنَا الأَْمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ الأَْمَانَ، فَقَال: إِذَا كَانَ أَمَّنَهُمْ، وَهُوَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ أَمَّنَهُمْ، وَهُوَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِزٍ، وَقَوْل الأَْسِيرِ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ. (4)
وَيُعَلِّل ابْنُ قُدَامَةَ لِصِحَّةِ أَمَانِ الأَْسِيرِ إِذَا عَقَدَهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ، بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ مِنْ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ. . . كَمَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ (5) .
__________
(1) شرح السير الكبير 1 / 286، وتبيين الحقائق 3 / 247، والفتح 4 / 300، والبحر الرائق 5 / 88، ومواهب الجليل 3 / 361، وفتح الوهاب 2 / 176، والمغني 10 / 433.
(2) الوجيز 2 / 195.
(3) فتح الوهاب 2 / 176، وحاشية الجمل 5 / 205، وشرح البهجة 5 / 132.
(4) التاج والإكليل 3 / 361.
(5) المغني 10 / 433 وحديث: " ذمة المسلمين. . . " أخرجه مسلم من حديث الأعمش مرفوعا (صحيح مسلم بتحقيق محمد عبد الباقي 2 / 999 ط عيسى الحلبي) .

(4/222)


صَلاَةُ الأَْسِيرِ فِي السَّفَرِ، وَالاِنْفِلاَتِ، وَمَا يَنْتَهِي بِهِ الأَْسْرُ
80 - الأَْسِيرُ الْمُسْلِمُ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ إِنْ عَزَمَ عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الأَْسْرِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْكُفَّارُ أَقَامُوا بِهِ فِي مَوْضِعٍ يُرِيدُونَ الْمُقَامَ فِيهِ الْمُدَّةَ الَّتِي تُعْتَبَرُ إِقَامَةً، وَلاَ تَقْصُرُ بَعْدَهَا الصَّلاَةُ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلاَةَ، لأَِنَّهُ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ، فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ نِيَّتَهُمْ فِي السَّفَرِ وَالإِْقَامَةِ، لاَ نِيَّتَهُ. وَإِنْ كَانَ الأَْسِيرُ انْفَلَتَ مِنْهُمْ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، فَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى إِقَامَةِ شَهْرٍ فِي غَارٍ أَوْ غَيْرِهِ قَصَرَ الصَّلاَةَ، لأَِنَّهُ مُحَارِبٌ لَهُمْ، فَلاَ تَكُونُ دَارُ الْحَرْبِ مَوْضِعَ الإِْقَامَةِ فِي حَقِّهِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ. (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .

81 - وَالأَْسْرُ يَنْتَهِي بِمَا يُقَرِّرُ الإِْمَامُ، مِنْ قَتْلٍ أَوِ اسْتِرْقَاقٍ أَوْ مَنٍّ أَوْ فِدَاءٍ بِمَالٍ، أَوْ عَنْ طَرِيقِ تَبَادُل الأَْسْرَى عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، كَمَا يَنْتَهِي الأَْسْرُ بِمَوْتِ الأَْسِيرِ قَبْل قَرَارِ الإِْمَامِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتَهِي بِفِرَارِ الأَْسِيرِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: لَوِ انْفَلَتَ أَسِيرٌ قَبْل الإِْحْرَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ وَالْتَحَقَ بِمَنْعَتِهِمْ يَعُودُ حُرًّا، وَيَنْتَهِي أَسْرُهُ، وَلَمْ يَعُدْ فَيْئًا، لأَِنَّ حَقَّ أَهْل دَارِ الإِْسْلاَمِ لاَ يَتَأَكَّدُ إِلاَّ بِالأَْخْذِ حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ. (2)
82 - وَيُصَرِّحُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الْفِرَارُ إِنْ أَطَاقُوهُ، وَلَمْ يُرْجَ ظُهُورُ الإِْسْلاَمِ
__________
(1) شرح السير الكبير 1 / 248.
(2) البدائع 7 / 117، ومواهب الجليل 3 / 366، والتاج والإكليل 3 / 688.

(4/222)


بِبَقَائِهِمْ، لِلْخُلُوصِ مِنْ قَهْرِ الأَْسْرِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْوُجُوبَ بِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِظْهَارِ الدِّينِ (1) ، لَكِنْ جَاءَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: وَإِنْ أُسِرَ مُسْلِمٌ، فَأُطْلِقَ بِشَرْطِ أَنْ يُقِيمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَرَضِيَ بِالشَّرْطِ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْرُبَ لِحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (2) وَإِنْ أُطْلِقَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ، إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ، إِلاَّ الْمَرْأَةَ فَلاَ يَحِل لَهَا الرُّجُوعُ. (3)
وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ - إِذَا ائْتَمَنَ الْعَدُوُّ الأَْسِيرَ طَائِعًا عَلَى أَلاَّ يَهْرُبَ، وَلاَ يَخُونَهُمْ - أَنَّهُ يَهْرُبُ وَلاَ يَخُونُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ.
وَأَمَّا إِنِ ائْتَمَنُوهُ مُكْرَهًا، أَوْ لَمْ يَأْتَمِنُوهُ، فَلَهُ أَنْ
__________
(1) فتح الوهاب 2 / 177، وحاشية الجمل 5 / 209.
(2) حديث: " المؤمنون عند شروطهم. . . ". أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عطاء مرسلا بهذا اللفظ، وعلقه البخاري بلفظ: " المسلمون عند شروطهم ". قال ابن حجر: هذا أحد الأحاديث التي لم يوصلها المصنف في مكان آخر، وقد جاء من حديث عمرو بن عوف المزني، فأخرجه إسحاق في مسنده من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده مرفوعا، وكذلك أخرجه الت (فتح الباري 4 / 451 - 452 ط السلفية، وتحفة الأحوذي 4 / 584، 585 نشر المكتبة السلفية، وسنن أبي داود 4 / 19، 20 ط استانبول، والمستدرك 2 / 49 نشر دار الكتاب العربي، ونيل الأوطار 5 / 254، 255 ط المطبعة العثمانية) .
(3) مطالب أولي النهى 2 / 583، والإنصاف 4 / 209.

(4/223)


يَأْخُذَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُ أَنْ يَهْرُبَ بِنَفْسِهِ. وَقَال اللَّخْمِيُّ: إِنْ عَاهَدُوهُ عَلَى أَلاَّ يَهْرُبَ فَلْيُوَفِّ بِالْعَهْدِ (1) ، فَإِنْ تَبِعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ فَلْيَدْفَعْهُمْ حَتْمًا إِنْ حَارَبُوهُ وَكَانُوا مِثْلَيْهِ فَأَقَل، وَإِلاَّ فَنَدْبًا. (2)

أُسْرَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - أُسْرَةُ الإِْنْسَانِ: عَشِيرَتُهُ وَرَهْطُهُ الأَْدْنَوْنَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الأَْسْرِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يَتَقَوَّى بِهِمْ، وَالأُْسْرَةُ: عَشِيرَةُ الرَّجُل وَأَهْل بَيْتِهِ، وَقَال أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: الأُْسْرَةُ أَقَارِبُ الرَّجُل مِنْ قِبَل أَبِيهِ. (3)

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - لَفْظُ الأُْسْرَةِ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ فِي عِبَارَاتِهِمْ فِيمَا نَعْلَمُ. وَالْمُتَعَارَفُ عَلَيْهِ الآْنَ إِطْلاَقُ لَفْظِ (الأُْسْرَةِ) عَلَى الرَّجُل وَمَنْ يَعُولُهُمْ مِنْ زَوْجِهِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ قَدِيمًا بِأَلْفَاظٍ مِنْهَا: الآْل، وَالأَْهْل، وَالْعِيَال. كَقَوْل النَّفْرَاوِيِّ الْمَالِكِيِّ: مَنْ
__________
(1) التاج والإكليل 3 / 383، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 179، والفروع 3 / 628.
(2) نهاية المحتاج 8 / 78، والأم 8 / 275، ومطالب أولي النهى 2 / 585.
(3) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير. مادة: (أسر) .

(4/223)


قَال: الشَّيْءُ الْفُلاَنِيُّ وَقْفٌ عَلَى عِيَالِي، تَدْخُل زَوْجَتُهُ فِي الْعِيَال. (1)
وَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: أَهْلُهُ زَوْجَتُهُ، وَقَالاَ، يَعْنِي صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ: كُل مَنْ فِي عِيَالِهِ وَنَفَقَتِهِ غَيْرِ مَمَالِيكِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - مَا يُعْرَفُ بِأَحْكَامِ الأُْسْرَةِ أَوِ الأَْحْوَال الشَّخْصِيَّةِ فَهُوَ اصْطِلاَحٌ حَادِثٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَجْمُوعَةُ الأَْحْكَامِ الَّتِي تُنَظِّمُ الْعَلاَقَاتِ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُْسْرَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَقَدْ فَصَّلَهَا الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابِ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَاتِ وَالْقَسْمِ وَالطَّلاَقِ وَالْخُلْعِ وَالْعِدَدِ وَالظِّهَارِ وَالإِْيلاَءِ وَالنَّسَبِ وَالْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَنَحْوِهَا. وَتُنْظَرُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ تَحْتَ هَذِهِ الْعَنَاوِينِ أَيْضًا، وَتَحْتَ عُنْوَانِ (أَبٌ، ابْنٌ، بِنْتٌ) إِلَخْ.

أُسْطُوَانَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْسْطُوَانَةُ: السَّارِيَةُ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ الْبَيْتِ أَوْ نَحْوِهِمَا. (3)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 76 ط مصطفى محمد.
(2) ابن عابدين 5 / 452 ط بولاق الثالثة، والآية من سورة الشعراء / 26.
(3) لسان العرب، والمغني 2 / 220، وحاشية الدسوقي 1 / 331.

(4/224)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ، وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - فِي وُقُوفِ الإِْمَامِ بَيْنَ السَّوَارِي، وَفِي صَلاَتِهِ إِلَى الأُْسْطُوَانَةِ خِلاَفٌ. فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِالْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، فِي مَبْحَثِ (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) . (1)
أَمَّا الْمَأْمُومُونَ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَقْطَعِ الأُْسْطُوَانَةُ الصَّفَّ فَلاَ كَرَاهَةَ لِعَدَمِ الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا قَطَعَتْ فَفِيهِ خِلاَفٌ. فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، لِعَدَمِ الدَّلِيل عَلَى الْمَنْعِ. وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ الْكَرَاهَةَ، لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّفِّ بَيْنَ السَّوَارِي (2) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ قَدْرَ مَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، أَوْ أَقَل فَلاَ يُكْرَهُ. (3)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ.