الموسوعة
الفقهية الكويتية إِنْمَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْمَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَنْمَى، وَهُوَ مِنْ نَمَى يَنْمِي
نَمْيًا، وَنَمَاءً، وَفِي لُغَةٍ: نَمَا يَنْمُو نُمُوًّا، أَيْ زَادَ
وَكَثُرَ، وَنَمَّيْتُ الشَّيْءَ تَنْمِيَةً جَعَلْتُهُ يَنْمُو.
فَالإِْنْمَاءُ وَالتَّنْمِيَةُ: فِعْل مَا بِهِ يَزِيدُ الشَّيْءُ
وَيَكْثُرُ.
وَنَمَى الصَّيْدُ: غَابَ، وَالإِْنْمَاءُ أَنْ يَرْمِيَ الصَّيْدَ
فَيَغِيبَ عَنْ عَيْنِهِ ثُمَّ يُدْرِكَهُ مَيِّتًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَرْفُوعًا: كُل مَا أَصْمَيْتَ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَمَّا وَرَدَ فِي
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
ثُمَّ النَّمَاءُ هُوَ الزِّيَادَةُ، أَيْ مَا يَكُونُ نَتِيجَةَ
الإِْنْمَاءِ غَالِبًا، كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ، وَقَدْ يَكُونُ
النَّمَاءُ ذَاتِيًّا.
وَالنَّمَاءُ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ
الزِّيَادَةُ بِالتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُل وَالتِّجَارَاتِ.
وَالتَّقْدِيرِيُّ: التَّمَكُّنُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِكَوْنِ الْمَال فِي
يَدِهِ أَوْ يَدِ نَائِبِهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 400،
929 ط وزارة الأوقاف. وحديث ابن عباس: كل ما أصميت ودع ما أنميت. أخرجه
الطبراني في الكبير (12 / 27 / 2370) ط العراقية. قال الهيثمي في المجمع (4
/ 31) وفيه عثمان بن عبد الرحمن وأظنه القرشي وهو متروك.
(2) النظم المستعذب بهامش المهذب 1 / 148 ط دار المعرفة بيروت، والمغني 2 /
572، 8 / 554 ط الرياض الحديثة، والاختيار 1 / 98، 5 / 4 ط دار المعرفة
بيروت، وجواهر الإكليل 1 / 118 ط دار المعرفة بيروت، ومنتهى الإرادات 2 /
505 ط دار الفكر، ومنح الجليل 3 / 664 ط النجاح ليبيا.
(3) الاختيار 1 / 101، والمهذب 1 / 391، وابن عابدين 2 / 7 ط بولاق ثالثة.
(7/63)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّثْمِيرُ وَالاِسْتِثْمَارُ:
2 - التَّثْمِيرُ وَالاِسْتِثْمَارُ كَالإِْنْمَاءِ أَيْضًا، يُقَال:
ثَمَّرَ مَالَهُ إِذَا نَمَّاهُ (1) .
ب - التِّجَارَةُ:
3 - التِّجَارَةُ تَقْلِيبُ الْمَال بِالْمُعَاوَضَةِ لِغَرَضِ الرِّبْحِ.
فَهِيَ بِذَلِكَ مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي يَطْلُبُ بِهَا زِيَادَةَ
الْمَال وَتُعْتَبَرُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِل تَنْمِيَتِهِ (2) .
ج - الاِكْتِسَابُ:
4 - الاِكْتِسَابُ هُوَ طَلَبُ الرِّزْقِ. وَأَصْل الْكَسْبِ السَّعْيُ فِي
طَلَبِ الرِّزْقِ وَالْمَعِيشَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَطْيَبُ مَا أَكَل
الرَّجُل مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ (3) .
فَالاِكْتِسَابُ هُوَ طَلَبُ الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَ بِتَنْمِيَةِ مَالٍ
مَوْجُودٍ، أَمْ بِالْعَمَل بِغَيْرِ مَالٍ، كَمَنْ يَعْمَل بِأُجْرَةٍ.
أَمَّا الإِْنْمَاءُ فَهُوَ الْعَمَل عَلَى زِيَادَةِ الْمَال، وَبِذَلِكَ
يَكُونُ الاِكْتِسَابُ أَعَمَّ مِنَ الإِْنْمَاءِ (4) .
د - الزِّيَادَةُ:
5 - الإِْنْمَاءُ هُوَ فِعْل مَا يَزِيدُ بِهِ الشَّيْءُ، كَمَا سَبَقَ،
أَمَّا
__________
(1) لسان العرب والمغني 2 / 275، وفتح القدير 7 / 89.
(2) لسان العرب وقليوبي 2 / 28 ط عيسى الحلبي، ومنتهى الإرادات 1 / 370.
(3) حديث: " أطيب ما أكل الرجل. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 768 - 769)
وصححه أبو حاتم وأبو زرعة كما في فيض القدير للمناوي (2 / 245 - ط المكتبة
التجارية) .
(4) تاج العروس والمصباح المنير والاختيار 4 / 172.
(7/63)
الزِّيَادَةُ فَهِيَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ
أَوِ الْمَزِيدُ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِي الْفُرُوقِ فِي اللُّغَةِ: الْفِعْل
نَمَا يُفِيدُ زِيَادَةً مِنْ نَفْسِهِ، وَزَادَ لاَ يُفِيدُ ذَلِكَ.
يُقَال: زَادَ مَال فُلاَنٍ بِمَا وَرِثَهُ عَنْ وَالِدِهِ وَلاَ يُقَال
ذَلِكَ فِي نَمَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الإِْنْمَاءَ هُوَ الْعَمَل
عَلَى أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَابِعَةً مِنْ نَفْسِ الشَّيْءِ
وَلَيْسَتْ مِنْ خَارِجٍ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَقَدْ تَكُونُ مِنْ خَارِجٍ
فَهِيَ أَعَمُّ.
وَيُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الزِّيَادَةَ إِلَى مُتَّصِلَةٍ وَمُنْفَصِلَةٍ،
وَيُقَسِّمُونَ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى مُتَوَلِّدَةٍ وَغَيْرِ
مُتَوَلِّدَةٍ، فَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ
كَالسِّمَنِ وَالْجَمَال، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ
وَالْخِيَاطَةِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ
كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ، وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالأُْجْرَةِ (1) .
هـ - الْكَنْزُ:
6 - الْكَنْزُ مَصْدَرُ كَنَزَ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِلْمَال إِذَا
أُحْرِزَ فِي وِعَاءٍ. وَقِيل: الْكَنْزُ الْمَال الْمَدْفُونُ، وَتُسَمِّي
الْعَرَبُ كُل كَثِيرٍ مَجْمُوعٍ يُتَنَافَسُ فِيهِ كَنْزًا، وَيُطْلَقُ
عَلَى الْمَال الْمَخْزُونِ وَالْمَصُونِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) وَفِي الْحَدِيثِ:
كُل مَالٍ لاَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ (3) . فَالْكَنْزُ ضِدُّ
الإِْنْمَاءِ.
__________
(1) لسان العرب، والفروق في اللغة ص 173 ط دار الآفاق الحديثة، وابن عابدين
4 / 84، 137، ومنتهى الإرادات 2 / 405، 406، والمهذب 1 / 377، ومنح الجليل
3 / 526.
(2) سورة التوبة / 34.
(3) لسان العرب والمصباح المنير والنظم المستعذب بهامش المهذب 1 / 164،
وحديث: " كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز " أخرجه البيهقي في الزكاة من سننه
(4 / 82) موقوفا. وقال هذا هو الصحيح. ثم ذكر أنه روي مرفوعا وقال: ليس
بالقوي، وكذا ضعف السيوطي فيض القدير (5 / 29) .
(7/64)
و - تَعْطِيلٌ:
7 - التَّعْطِيل التَّفْرِيغُ، وَالْمُعَطَّل الْمَوَاتُ مِنَ الأَْرْضِ،
وَإِبِلٌ مُعَطَّلَةٌ لاَ رَاعِيَ لَهَا، وَعَطَّل الدَّارَ أَخْلاَهَا،
وَتَعَطَّل الرَّجُل إِذَا بَقِيَ لاَ عَمَل لَهُ، وَيَقُول الْفُقَهَاءُ:
مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا وَتَرَكَ عِمَارَتَهَا، قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ
تُعَمِّرَ وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَكَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ تَعْطِيلُهَا
فَمَنْ عَمَّرَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا (1) ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَعَطَّلَهَا ثَلاَثَ سِنِينَ
فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا (2) .
فَالتَّعْطِيل أَيْضًا ضِدُّ الإِْنْمَاءِ.
ز - الْقِنْيَةُ:
8 - الْقِنْيَةُ (بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا) الْكَسَبَةُ،
وَاقْتَنَيْتُهُ: كَسَبْتُهُ، وَيُقَال: اقْتَنَيْتُهُ أَيِ اتَّخَذْتُهُ
لِنَفْسِي قِنْيَةً لاَ لِلتِّجَارَةِ، وَالْقِنْيَةُ الإِْمْسَاكُ، وَفِي
الزَّاهِرِ: الْقِنْيَةُ: الْمَال الَّذِي يُؤَثِّلُهُ الرَّجُل
وَيَلْزَمُهُ، وَلاَ يَبِيعُهُ لِيَسْتَغِلَّهُ. وَالْفُقَهَاءُ
يُفَرِّقُونَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ لِلْقِنْيَةِ
أَيْ لِلْمِلْكِ وَمَا يُتَّخَذُ لِلتِّجَارَةِ (3) . فَالْقِنْيَةُ
أَيْضًا تَعْطِيلٌ لِلْمَال عَنِ الإِْنْمَاءِ.
ح - ادِّخَارٌ:
9 - الاِدِّخَارُ: إِعْدَادُ الشَّيْءِ وَإِمْسَاكُهُ لاِسْتِعْمَالِهِ
__________
(1) لسان العرب والمغني 5 / 570.
(2) الأثر عن عمر رضي الله عنه. ورد في الخراج لأبي يوسف (ص 61 ط السلفية)
بلفظ: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم
أحق بها، وقال ابن حجر: رجاله ثقات (الدراية ص 245) .
(3) لسان العرب والزاهر ص 158، 303، والمهذب 1 / 166، والمغني 3 / 31،
وجواهر الإكليل 1 / 131.
(7/64)
لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ:
كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَْضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلاَثٍ،
فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ (1) . فَالْمَال فِي حَال الاِدِّخَارِ
مُعَطَّلٌ عَنِ الإِْنْمَاءِ.
(أَوَّلاً)
الإِْنْمَاءُ (بِمَعْنَى زِيَادَةِ الْمَال)
حُكْمُ إِنْمَاءِ الْمَال:
تَمْهِيدٌ:
10 - الإِْنْسَانُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَال: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا
لِلرَّقَبَةِ (الْعَيْنِ) وَلِلتَّصَرُّفِ فِيهَا، كَالشَّيْءِ الَّذِي
يَتَمَلَّكُهُ الإِْنْسَانُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إِرْثٍ وَيَكُونَ
تَحْتَ يَدِهِ وَأَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ فَقَطْ دُونَ التَّصَرُّفِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فَقَطْ دُونَ الرَّقَبَةِ
كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيل وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْقَاضِي
وَالسُّلْطَانِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَال، وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ لاَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَلاَ التَّصَرُّفَ كَالْغَاصِبِ
وَالْفُضُولِيِّ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُودَعِ وَالْمُلْتَقِطِ فِي مُدَّةِ
التَّعْرِيفِ.
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَالتَّصَرُّفِ:
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
11 - إِنْمَاءُ الْمَال الَّذِي يَمْلِكُهُ الإِْنْسَانُ وَيَمْلِكُ
التَّصَرُّفَ فِيهِ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ، وَالدَّلِيل عَلَى
مَشْرُوعِيَّتِهِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَل الْبَيْعَ وَالتِّجَارَةَ
حَتَّى
__________
(1) المصباح المنير والمهذب 1 / 247، ومنتهى الإرادات 1 / 88، وحديث: " كنت
نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ". أخرجه مسلم
في الأضاحي (3 / 1563 / 1977) ط الحلبي.
(7/65)
فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ الْعَمَل
وَسِيلَةٌ لِلإِْنْمَاءِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ (1) .
يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
(2) ، وَيَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وَيَقُول: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ} (4) أَيْ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ،
وَيَقُول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ
رَبِّكُمْ} (5) يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ (6) .
كَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ
إِلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ. دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً
فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ
بِالْبَرَكَةِ (7) وَكَذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ
الأَْمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ (8) .
وَيَقُول: الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ
__________
(1) البدائع 6 / 58 ط الجمالية.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) سورة النساء / 29.
(4) سورة المزمل / 20.
(5) سورة البقرة / 198.
(6) القرطبي 2 / 413 ط دار الكتب، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 210، وما بعدها
ط المطبعة البهية، والمهذب 1 / 264 ط دار المعرفة بيروت، والمغني 3 / 560 ط
مكتبة الرياض، والاختيار 3 / 19 ط بيروت، والمغني 3 / 560، والاختيار 4 /
160، 172، ومنتهى الإرادات 3 / 410، 411 ط دار الفكر، والمهذب 1 / 362.
(7) حديث: عروة البارقي أخرجه البخاري في المناقب (6 / 622 / 3642) ط
السلفية، وأخرجه أبو داود في البيوع (2 / 677 / 3384 ط الدعاس) واللفظ له.
(8) حديث: " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ". أخرجه
الترمذي في البيوع (3 / 515 / 1209 ط الحلبي) وحسنه، والحاكم (2 / 6 ط دار
الكتاب العربي من طريق الحسن البصري عن أبي سعيد، والحسن لم يسمع من أبي
سعيد. كما ذكر ذلك العلائي في جامع التحصيل (ص 197) فالحديث منقطع. قال
المناوي: وله شواهد عند الدارقطني. (فيض القدير 3 / 278) .
(7/65)
مَحْرُومٌ أَوْ مَلْعُونٌ (1) ، وَيَقُول:
لاَ يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلاَ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُل مِنْهُ
إِنْسَانٌ وَلاَ دَابَّةٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ (2) .
وَيَقُول: نِعْمَ الْمَال الصَّالِحُ لِلرَّجُل الصَّالِحِ (3) .
وَلِتَحْصِيل هَذَا الْغَرَضِ (وَهُوَ الإِْنْمَاءُ) أَبَاحَتِ
الشَّرِيعَةُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُقُودِ كَالشَّرِكَاتِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَال
الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، كَذَلِكَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِالشَّرِكَةِ
وَالْمُضَارَبَةِ فَأَقَرَّهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ (4) .
حِكْمَةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:
12 - شُرِعَ لِلإِْنْسَانِ تَنْمِيَةُ مَالِهِ حِفَاظًا عَلَى الْمَال
__________
(1) حديث: " الجالب مرزوق والمحتكر محروم، (أو ملعون) ". أخرجه ابن ماجه في
التجارات من سننه (2 / 728 / 2153) وقال في الزوائد: في إسناده علي بن زيد
بن جدعان وهو ضعيف. وضعفه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (3 / 13 ط
المكتبة الأثرية) .
(2) حديث: " لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا
دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة " أخرجه مسلم في المساقاة (3 / 1188 / 1552)
ط الحلبي وأخرجه البغوي في شرح السنة (10 / 91 / 2495) ط المكتب الإسلامي.
(3) المغني 3 / 560، والاختيار 4 / 160، 172، والمهذب 1 / 362 وحديث: " نعم
المال الصالح للرجل الصالح. . . . " أخرجه أحمد في المسند (4 / 197، 202)
عن عمرو بن العاص. ط المكتب الإسلامي.
(4) البدائع 6 / 58، 79، والمغني 5 / 26، والمهذب 1 / 391، ومنح الجليل 3 /
280 ط النجاح ليبيا، والاختيار 3 / 11، 19، ومنتهى الإرادات 2 / 319.
(7/66)
لِمَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ الْجَمَاعَةِ،
وَالْحِفَاظُ عَلَى الْمَال مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ،
وَلِذَلِكَ مَنَعَ مِنْهُ السُّفَهَاءَ حَتَّى لاَ يُضَيِّعُوهُ. وَمِنْ
وَسَائِل حِفْظِهِ تَنْمِيَتُهُ بِتِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ
مَشْرُوعِيَّةِ الشَّرِكَةِ: الشَّرِكَةُ وُضِعَتْ لاِسْتِنْمَاءِ الْمَال
بِالتِّجَارَةِ لأَِنَّ غَالِبَ نَمَاءِ الْمَال بِالتِّجَارَةِ،
وَالنَّاسُ فِي الاِهْتِدَاءِ إِلَى التِّجَارَةِ مُخْتَلِفُونَ بَعْضُهُمْ
أَهْدَى مِنْ بَعْضٍ، فَشُرِعَتِ الشَّرِكَةُ لِتَحْصِيل غَرَضِ
الاِسْتِنْمَاءِ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى اسْتِنْمَاءِ الْمَال
مُتَحَقِّقَةٌ، فَشُرِعَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
وَفِي الْقِرَاضِ يَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو
إِلَيْهِ لاِحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ
وَتَنْمِيَتِهَا بِالتَّجْرِ فِيهَا، فَهُوَ مِنَ الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ كُل أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ،
فَيَضْطَرُّ إِلَى الاِسْتِنَابَةِ عَلَيْهِ (1) .
إِنْمَاءُ الْمَال بِحَسَبِ نِيَّةِ الشَّخْصِ:
13 - الإِْنْمَاءُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاِكْتِسَابِ، وَيَخْتَلِفُ
حُكْمُهُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ مِنْهُ.
فَيُفْرَضُ إِنْ كَانَ لِتَحْصِيل الْمَال بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ
لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ،
وَيُسْتَحَبُّ الزَّائِدُ عَلَى الْحَاجَةِ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ
مُوَاسَاةَ الْفَقِيرِ وَنَفْعَ الْقَرِيبِ وَهُوَ حِينَئِذٍ أَفْضَل مِنَ
التَّفَرُّغِ لِنَفْل الْعِبَادَةِ.
__________
(1) منح الجليل 3 / 664، والبدائع 6 / 58، 79، والهداية 3 / 202 ط المكتبة
الإسلامية، والمغني 5 / 26، 27.
(7/66)
وَيُبَاحُ الزَّائِدُ إِذَا كَانَ بِغَرَضِ
التَّجَمُّل وَالتَّنَعُّمِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. نِعْمَ الْمَال الصَّالِحُ لِلرَّجُل الصَّالِحِ (1) .
وَيُكْرَهُ (أَيْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ) الزَّائِدُ إِذَا كَانَ
لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَالْبَطَرِ وَالأَْشَرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ
حِلٍّ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
طَلَبَهَا حَلاَلاً مُكَاثِرًا لَهَا مُفَاخِرًا. لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ (2) .
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ دُونَ
الرَّقَبَةِ
14 - مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَال دُونَ الرَّقَبَةِ
كَالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَالْوَكِيل وَالْقَاضِي
وَالسُّلْطَانِ. هَؤُلاَءِ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا يَلُونَهُ مِنْ أَمْوَال
الْيَتَامَى وَالْقُصَّرِ وَأَمْوَال الْوَقْفِ وَالْمُوَكِّل وَبَيْتِ
الْمَال بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ، وَهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى هَذِهِ الأَْمْوَال،
وَنَظَرُهُمْ فِيهَا يَكُونُ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لأَِرْبَابِهَا،
وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لَهُمْ إِنْمَاءُ هَذِهِ الأَْمْوَال لأَِنَّهُ
أَوْفَرُ حَظًّا.
يَقُول الْفُقَهَاءُ: الْوَكِيل وَالْوَصِيُّ وَالْوَلِيُّ وَالْقَاضِي
وَالسُّلْطَانُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَال يَتَصَرَّفُونَ
بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ.
وَلِلْوَصِيِّ دَفْعُ الْمَال إِلَى مَنْ يَعْمَل فِيهِ مُضَارَبَةً
نِيَابَةً عَنِ الْيَتِيمِ، وَلِلْقَاضِي - حَيْثُ لاَ وَصِيَّ -
__________
(1) حديث: " نعم المال الصالح. . . " سبق تخريجه (ف / 11) .
(2) الاختيار 4 / 172. وحديث: " من طلبها حلالا مكاثرا لها مفاخرا لقي الله
تعالى وهو عليه غضبان ". أخرجه أبو نعيم في الحلية (8 / 215) وهو من طريق
مكحول عن أبي هريرة. وقال العلائي في جامع التحصيل (ص 352) عن مكحول قال
الدارقطني: لم يلق أبا هريرة. فهو منقطع.
(7/67)
إِعْطَاءُ مَال الْوَقْفِ وَالْغَائِبِ
وَاللُّقَطَةِ وَالْيَتِيمِ مُضَارَبَةً.
وَلِنَاظِرِ الْوَقْفِ تَنْمِيَتُهُ بِإِيجَارٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ.
وَلِلإِْمَامِ النَّظَرُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِ الْمَال
بِالتَّثْمِيرِ وَالإِْصْلاَحِ، وَقَدِ اسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى
جَوَازِ تَصَرُّفِ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ بِالإِْنْمَاءِ فِيمَا
يَلُونَهُ مِنْ أَمْوَالٍ بِالآْتِي:
أ - مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ وَلِيَ
يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ بِمَالِهِ وَلاَ يَتْرُكُهُ حَتَّى
تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ (1) .
ب - مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَال
الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، مِنْهُمْ: عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
ج - مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
دَفَعَ إِلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً،
فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا
لَهُ بِالْبَرَكَةِ (2) .
د - اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ لَهُ النَّظَرُ فِي أَمْوَال
بَيْتِ الْمَال بِالتَّثْمِيرِ وَالإِْصْلاَحِ، بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخَذَا مِنْ
أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ - وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ - مَالاً مِنْ
بَيْتِ الْمَال لِيَبْتَاعَا وَيَرْبَحَا، ثُمَّ يُؤَدِّيَا رَأْسَ الْمَال
إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَبَى عُمَرُ،
وَجَعَل الْمَال
__________
(1) حديث: " من ولي يتيما له مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله
الصدقة ". أخرجه الترمذي في الزكاة من سننه (3 / 32 / 641) ط الحلبي، وقال
الترمذي: وإنما روي هذا الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال. لأن المثنى
بن الصباح يضعف في الحديث.
(2) حديث عروة البارقي سبق تخريجه. (ف / 11) .
(7/67)
قِرَاضًا، وَأَخَذَ نِصْفَ الرِّبْحِ
لِبَيْتِ الْمَال وَتَرَكَ لَهُمَا النِّصْفَ (1) .
هـ - كَمَا وَرَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
كَانَ يُرْسِل إِبِل الصَّدَقَةِ إِذَا كَانَتْ عِجَافًا إِلَى الرَّبَذَةِ
وَمَا وَالاَهَا تَرْعَى هُنَاكَ (2) .
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ دُونَ
التَّصَرُّفِ
مَنْ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَلاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ كَالسَّفِيهِ
عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ يُمْنَعُ
مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُوَ
لِلْحِفَاظِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ
قِيَامًا} (3) ، فَأَضَافَ الأَْمْوَال إِلَى الأَْوْلِيَاءِ؛ لأَِنَّهُمْ
مُدَبِّرُوهَا، كَذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاخْتِبَارِ الْيَتَامَى
وَعَدَمِ دَفْعِ الأَْمْوَال إِلَيْهِمْ إِلاَّ عِنْدَ إِينَاسِ الرُّشْدِ
مِنْهُمْ. يَقُول تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا
بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (4) ، يَقُول ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَيْ صَلاَحًا
فِي
__________
(1) الأثر عن عمر بن الخطاب. أخرجه مالك في الموطأ (5 / 149 بشرح المنتقى)
ط دار الكتاب العربي.
(2) ابن عابدين 4 / 141، 354، 355، 505، ط بولاق ثالثة، ومنح الجليل 3 /
666، والحطاب 2 / 294، 5 / 357 ط دار الفكر، والهداية 4 / 136، والحطاب 6 /
38، والمهذب 1 / 335، 362، ومنتهى الإرادات 2 / 503، 505، 2 / 292،
والبدائع 6 / 79، وكنز العمال 5 / 617، ومغني المحتاج 2 / 304 ط مصطفى
الحلبي.
(3) سورة النساء / 5.
(4) سورة النساء / 6.
(7/68)
أَمْوَالِهِمْ. فَالْمَنْعُ مِنَ
التَّصَرُّفِ نَظَرٌ لَهُمْ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَبْذِيرُ الْمَال بِمَا
يَعْقِدُونَهُ مِنْ بِيَاعَاتٍ. لَكِنْ إِذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ
لِلصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ جَازَ تَصَرُّفُهُ بِالإِْذْنِ، أَمَّا
الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونُ فَلاَ يَصِحُّ
تَصَرُّفُهُمَا وَلَوْ بِالإِْذْنِ (1) .
حُكْمُ الإِْنْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ:
15 - مَنْ لاَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَلاَ التَّصَرُّفَ، وَلَهُ يَدٌ عَلَى
الْمَال، سَوَاءٌ أَكَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ كَالْمُودَعِ، أَوْ كَانَتْ
يَدًا مُعْتَدِيَةً كَيَدِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ
الإِْنْمَاءُ، إِذِ الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ أَحَدٍ فِي
غَيْرِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ. وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل
(غَصْبٌ. وَدِيعَةٌ) .
وَسَائِل الإِْنْمَاءِ - مَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا لاَ يَجُوزُ:
16 - تَقَدَّمَ أَنَّ الأَْصْل فِي إِنْمَاءِ الْمَال أَنَّهُ مَشْرُوعٌ،
إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْوَسَائِل
الْمَشْرُوعَةِ، كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ، مَعَ
مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ وَالشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي
أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ لِلتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَكُونُ سَبِيلاً إِلَى
الإِْنْمَاءِ، كَالْبَيْعِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ
وَالْوَكَالَةِ، وَذَلِكَ لِضَمَانِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ،
وَلِيَخْلُصَ الرِّبْحُ مِنْ شُبْهَةِ الْحَرَامِ (ر: بَيْعٌ - شَرِكَةٌ -
مُضَارَبَةٌ. . . إِلَخْ) .
__________
(1) الحطاب 4 / 246، 247 ط النجاح - ليبيا، والمهذب 1 / 335، 338، 396،
والاختيار 2 / 94، 100، ومنتهى الإرادات 2 / 289 - 296، ومغني المحتاج 2 /
99، 165، 171، وابن عابدين 2 / 304، 5 / 113، والدسوقي 3 / 294 ط دار
الفكر.
(7/68)
وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ تَنْمِيَةُ الْمَال
عَنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالتِّجَارَةِ
بِالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ: لَعَنَ اللَّهُ شَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا
وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا. . . (3) الْحَدِيثَ. وَقَوْلِهِ: إِنَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ
وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (4) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّمَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
17 - الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ أَوْ يَدِ الْمُتَصَرِّفِ
فِيهِ. أَمْ كَانَ أَمَانَةً أَوْ غَصْبًا، إِذَا نَمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ
نَمَاؤُهُ طَبِيعِيًّا أَوْ نَاتِجًا بِعَمَلٍ، فَلِنَمَائِهِ أَحْكَامٌ،
تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهَا. وَلِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيل ذَلِكَ
يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (زِيَادَةٌ) (5) .
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 2 / 332 ط مصطفى الحلبي، والمهذب 1 / 374، وجامع
الأصول 10، 565 ط الفلاح.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) حديث: " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها، وعاصرها
ومعتصرها وحاملها والمحمولة له ". أخرجه أبو داود في الأشربة من سننه (4 /
82 / 3674 ط الدعاس) . وابن ماجه في الأشربة (2 / 1121) قال الحافظ قي
تلخيص الحبير (4 / 73) : رواه الترمذي وابن ماجه ورواته ثقات.
(4) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ".
أخرجه البخاري في البيوع (4 / 424 / 2236 ط السلفية) . ومسلم في المساقاة
(3 / 1207 / 1581 ط الحلبي) .
(5) بدائع الصنائع 2 / 11 ط شركة المطبوعات العلمية ط أولى، والبحر الرائق
2 / 239، والهداية 4 / 155، والاختيار 3 / 64، والمغني 2 / 577، 625، 626،
5 / 260، ومنتهى الإرادات 2 / 478، ومغني المحتاج 1 / 380، 398، 2 / 139،
وجواهر الإكليل 1 / 118، 128.
(7/69)
(ثَانِيًا)
الإِْنْمَاءُ (بِمَعْنَى تَغَيُّبِ الصَّيْدِ بَعْدَ رَمْيِهِ)
18 - التَّعْبِيرُ بِالإِْنْمَاءِ بِمَعْنَى رَمْيِ الصَّيْدِ حَتَّى غَابَ
عَنِ الْعَيْنِ بَعْدَ رَمْيِهِ، وَرَدَ مَنْسُوبًا لاِبْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لاَ
يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الْمَسْأَلَةَ
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ، جَاءَ فِي
بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: إِذَا رَمَى الصَّيْدَ وَتَوَارَى عَنْ عَيْنِهِ
وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ لَمْ يُؤْكَل، فَأَمَّا إِذَا لَمْ
يَتَوَارَ أَوْ تَوَارَى لَكِنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ عَنِ الطَّلَبِ حَتَّى
وَجَدَهُ يُؤْكَل اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يُؤْكَل،
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِل عَنْ ذَلِكَ فَقَال: كُل مَا
أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ (1) .
قَال أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الإِْصْمَاءُ مَا عَايَنَهُ،
وَالإِْنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْهُ. وَقَال هِشَامٌ: الإِْنْمَاءُ مَا
تَوَارَى عَنْ بَصَرِك، إِلاَّ أَنَّهُ أُقِيمَ الطَّلَبُ مَقَامَ
الْبَصَرِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ (2) .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: إِذَا رَمَى الصَّيْدَ فَغَابَ عَنْ
عَيْنِهِ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا وَسَهْمُهُ فِيهِ وَلاَ أَثَرَ بِهِ غَيْرَهُ
حَل أَكْلُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ لَوْ
أَرْسَل كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ
مَيِّتًا وَمَعَهُ كَلْبُهُ حَل، وَعَنْ أَحْمَدَ إِنْ غَابَ نَهَارًا
فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ غَابَ لَيْلاً لَمْ يَأْكُلْهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا
يَدُل عَلَى أَنَّهُ إِنْ غَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُبَحْ، وَإِنْ
كَانَتْ يَسِيرَةً أُبِيحَ؛ لأَِنَّهُ قِيل لَهُ: إِنْ غَابَ يَوْمًا؟
قَال: يَوْمٌ كَثِيرٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا رَمَيْتَ فَأَقْعَصْتَ فَكُل،
__________
(1) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه. سبق تخريجه (ف / 1) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 59.
(7/69)
وَإِنْ رَمَيْتَ فَوَجَدْتَ فِيهِ سَهْمَكَ
مِنْ يَوْمِكَ أَوْ لَيْلَتِكَ فَكُل، وَإِنْ بَاتَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلاَ
تَأْكُل، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا حَدَثَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ (1)
. وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلاَنِ لأَِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَال: كُل مَا
أَصْمَيْتَ، وَمَا أَنْمَيْتَ فَلاَ تَأْكُل.
قَال الْحَكَمُ: الإِْصْمَاءُ الإِْقْعَاصُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَمُوتُ فِي
الْحَال، وَالإِْنْمَاءُ أَنْ يَغِيبَ عَنْكَ يَعْنِي أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ
فِي الْحَال (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي (صَيْدٌ) .
أُنْمُوذَجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلأُْنْمُوذَجِ مَعَانٍ مِنْهَا: أَنَّهُ مَا يَدُل عَلَى صِفَةِ
الشَّيْءِ، كَأَنْ يُرِيَ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا صَاعًا مِنْ صُبْرَةِ
قَمْحٍ مَثَلاً، وَيَبِيعَهُ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ
ذَلِكَ الصَّاعِ. وَيُقَال لَهُ أَيْضًا نَمُوذَجٌ. قَال الصَّغَائِيُّ:
النَّمُوذَجُ: مِثَال الشَّيْءِ الَّذِي يُعْمَل عَلَيْهِ، وَهُوَ
مُعَرَّبٌ (3) .
__________
(1) الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه سبق تخريجه (ف / 1) .
(2) المغني 8 / 553، 554.
(3) المصباح المنير 2 / 297، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 163 - ط
مطبعة النصر الحديثة، وحاشية ابن عابدين 4 / 66، ومنهاج الطالبين 2 / 165.
(7/70)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَرْنَامَجُ:
2 - الْبَرْنَامَجُ: هُوَ الْوَرَقَةُ الْجَامِعَةُ لِلْحِسَابِ وَهُوَ
مُعَرَّبُ " برنامه " (1) .
وَفِي الْمُغْرِبِ: هِيَ النُّسْخَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا عَدَدُ
الثِّيَابِ وَالأَْمْتِعَةِ وَأَنْوَاعِهَا الْمَبْعُوثِ بِهَا مِنْ
إِنْسَانٍ لآِخَرَ. فَالْبَرْنَامَجُ هِيَ تِلْكَ النُّسْخَةُ الَّتِي
فِيهَا مِقْدَارُ الْمَبْعُوثِ، وَمِنْهُ قَوْل السِّمْسَارِ: إِنَّ وَزْنَ
الْحُمُولَةِ فِي الْبَرْنَامَجِ كَذَا (2) .
وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَرْنَامَجَ: هُوَ
الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ صِفَةُ مَا فِي الْوِعَاءِ مِنَ الثِّيَابِ
الْمَبِيعَةِ (3) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَرْنَامَجٌ) .
ب - الرَّقْمُ:
3 - الرَّقْمُ: مِنْ رَقَّمْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَعْلَمْتُهُ بِعَلاَمَةٍ
تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا (4) . وَفَسَّرَهُ
الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ بِأَنَّهُ عَلاَمَةٌ
يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيْعُ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَى الثَّوْبِ
(6) ، وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ) .
__________
(1) تاج العروس مادة " برنامج "، وفيه أنها بفتح الباء والميم، وقيل بكسر
الميم، وقيل بكسرهما.
(2) المغرب مادة " برنامج ".
(3) الشرح الصغير 3 / 41، وهو وإن كان قد أورد في التعريف بحسب نصه: أنه
الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل من الثياب المبينة إلا أن المراد
بالعدل (الوعاء) .
(4) المصباح المنير مادة " رقم ".
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 29.
(6) المغني لابن قدامة 4 / 207 - ط الرياض، مطالب أولي النهى 3 / 40.
(7/70)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْبَيْعَ
يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول. وَأَنَّهُ لاَ بُدَّ
لِلْعَاقِدَيْنِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ مَعْرِفَةً نَافِيَةً
لِلْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْمُنَازَعَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ
حَاضِرًا اكْتُفِيَ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا مُوجِبَةٌ
لِلتَّعْرِيفِ قَاطِعَةٌ لِلْمُنَازَعَةِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَإِنْ
كَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالأُْنْمُوذَجِ كَالْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ
وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَرُؤْيَةُ الأُْنْمُوذَجِ كَرُؤْيَةِ
الْجَمِيعِ إِلاَّ أَنْ يَخْتَلِفَ فَيَكُونَ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ، أَوْ
خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ
يُعْرَفُ بِالأُْنْمُوذَجِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَيَذْكُرُ لَهُ
جَمِيعَ الأَْوْصَافِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَيَكُونُ لَهُ خِيَارُ
الرُّؤْيَةِ.
كَمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ كَذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ
وَصِفَتِهِ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ
أَطْلَقَ الثَّمَنَ فَهُوَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ
يَتَعَامَلُوا بِهَا انْصَرَفَ إِلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَهُمْ. وَيَكْفِي
أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ مَا يَدُل عَلَى الْعِلْمِ؛
لأَِنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ الْمَبِيعِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ لِتَعَذُّرِهَا
كَوَجْهِ صُبْرَةٍ لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا (1) . فَمَتَى كَانَ
الأُْنْمُوذَجُ قَدْ دَل عَلَى مَا فِي الصُّبْرَةِ مِنْ مَبِيعٍ دَلاَلَةً
نَافِيَةً لِلْجَهَالَةِ، وَكَانَ مِمَّا لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ،
وَكَانَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا، كَانَ الْبَيْعُ بِهِ صَحِيحًا وَبِغَيْرِهِ
لاَ.
هَذَا مَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، فَقَدْ شَرَطُوا فِيمَا يَنْعَقِدُ بِهِ
الْبَيْعُ: مَعْرِفَةُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَعْرِفَةً
نَافِيَةً لِلْجَهَالَةِ، وَأَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إِنْ
دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي فِيمَا لاَ يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ اخْتِلاَفًا
بَيِّنًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأُْنْمُوذَجِ الْمُتَمَاثِل الْمُتَسَاوِي
__________
(1) الاختيار شرح المختار 2 / 4، 5 ط دار المعرفة، وابن عابدين 4 / 5، 21،
65، 66.
(7/71)
الأَْجْزَاءَ كَالْحُبُوبِ: إِنَّ
رُؤْيَتَهُ تَكْفِي عَنْ رُؤْيَةِ بَاقِي الْمَبِيعِ، وَالْبَيْعُ بِهِ
جَائِزٌ. وَإِذَا أَحْضَرَ الْبَائِعُ الأُْنْمُوذَجَ وَقَال: بِعْتُكَ
مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ
مَالاً لِيَكُونَ بَيْعًا، وَلَمْ يُرَاعِ شَرْطَ السَّلَمِ، وَلاَ يَقُومُ
ذَلِكَ مَقَامَ الْوَصْفِ فِي السَّلَمِ؛ لأَِنَّ الْوَصْفَ بِاللَّفْظِ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ النِّزَاعِ، فَإِنْ عَيَّنَ الثَّمَنَ
وَبَيَّنَهُ جَازَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْبَيْعَ بِالأُْنْمُوذَجِ لاَ يَصِحُّ
إِذَا لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ وَقْتَ الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا رُئِيَ فِي
وَقْتِهِ وَكَانَ عَلَى مِثَالِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ (1) .
إِنْهَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْنْهَاءُ فِي اللُّغَةِ: يَكُونُ بِمَعْنَى الإِْعْلاَمِ،
وَالإِْبْلاَغِ، يُقَال أَنْهَيْتُ الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ أَيْ
أَعْلَمْتُهُ بِهِ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى الإِْتْمَامِ وَالإِْنْجَازِ.
يُقَال: أَنْهَى الْعَمَل إِذَا أَنْجَزَهُ (2) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِمَعْنَى
إِبْلاَغِ الْقَاضِي قَاضِيًا آخَرَ بِحُكْمِهِ لِيُنَفِّذَهُ، أَوْ بِمَا
حَصَل عِنْدَهُ مِمَّا هُوَ دُونَ الْحُكْمِ، كَسَمَاعِ الدَّعْوَى لِقَاضٍ
آخَرَ لِيُتَمِّمَهُ. وَيَكُونَ إِمَّا مُشَافَهَةً أَوْ بِكِتَابٍ أَوْ
__________
(1) الشرح الكبير 3 / 24، وجواهر الإكليل 2 / 2، 6 - 7، وعميرة على شرح
المحلى على منهاج الطالبين 2 / 152 - 153، 161 - 163، 165، وكشاف القناع 3
/ 163 طبعة بيروت.
(2) الصحاح والمصباح المنير، وتهذيب الأسماء واللغات، والمرجع لعبد الله
العلايلي، مادة (نهى) .
(7/71)
بِشَاهِدَيْنِ (1) . وَيَرْجِعُ فِي
تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى (دَعْوَى. قَضَاءٍ) .
وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ
كَذَلِكَ، وَيُرْجَعُ إِلَى بَحْثِ (إِتْمَامٍ) .
أُنُوثَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأُْنُوثَةُ خِلاَفُ الذُّكُورَةِ، وَالأُْنْثَى - كَمَا جَاءَ فِي
الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ - خِلاَفُ الذَّكَرِ، قَال
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى} (2) ، وَتُجْمَعُ عَلَى إِنَاثٍ وَأَنَاثَى، وَامْرَأَةٌ
أُنْثَى. أَيْ كَامِلَةٌ فِي أُنُوثَتِهَا.
وَالأُْنْثَيَانِ: الْخُصْيَتَانِ (3) . (ر: خِصَاءٌ) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
هَذَا، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ لِلأُْنُوثَةِ عَلاَمَاتٍ وَأَمَارَاتٍ
تُمَيِّزُهَا عَنِ الذُّكُورَةِ فَضْلاً عَنْ أَعْضَاءِ الأُْنُوثَةِ،
وَتِلْكَ الأَْمَارَاتُ إِمَّا حِسِّيَّةٌ كَالْحَيْضِ، وَإِمَّا
مَعْنَوِيَّةٌ كَالطِّبَاعِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُنْثَى) .
__________
(1) شرح الزرقاني 7 / 150، 151 ط دار الفكر، وتبصرة الحكام بهامش فتاوى
عليش 2 / 19، 20، ونهاية المحتاج 8 / 259 ط مصطفى الحلبي، وقليوبي وعميرة 4
/ 309.
(2) سورة الحجرات / 13.
(3) الصحاح 1 / 272، 273 باب الثاء فصل الألف، ط دار الكتاب العربي،
والقاموس المحيط، والمصباح المنير، مادة " أنث ".
(7/72)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخُنُوثَةُ:
2 - الْخُنُوثَةُ حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ. وَتَذْكُرُ
كُتُبُ اللُّغَةِ أَنَّ الْخُنْثَى مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ
جَمِيعًا (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: الْخُنْثَى
ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَذَكَرُ الرِّجَال، وَضَرْبٌ
لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خُنْثَى) .
أَحْكَامُ الأُْنُوثَةِ
أُنْثَى الآْدَمِيِّ:
أَوَّلاً: تَكْرِيمُ الإِْسْلاَمِ لِلأُْنْثَى:
يَتَمَثَّل تَكْرِيمُ الإِْسْلاَمِ لِلأُْنْثَى فِيمَا يَأْتِي:
حُسْنُ اسْتِقْبَالِهَا عِنْدَ وِلاَدَتِهَا:
3 - كَانَ اسْتِقْبَال الأُْنْثَى فِي الْعَرَبِ قَبْل الإِْسْلاَمِ
اسْتِقْبَالاً سَيِّئًا، يَتَبَرَّمُونَ بِهَا، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ،
وَيَتَوَارَوْنَ عَنِ الأَْعْيُنِ، إِذْ هِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَجْلَبَةٌ
لِلْفَقْرِ أَوْ لِلْعَارِ، فَكَانُوا يَئِدُونَهَا حَيَّةً،
وَيَسْتَكْثِرُ الرَّجُل عَلَيْهَا النَّفَقَةَ الَّتِي لاَ
يَسْتَكْثِرُهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ (3) ، فَنَهَى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَذَمَّ هَذَا
الْفِعْل الشَّنِيعَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ
بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ
سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4) .
__________
(1) المصباح مادة: " خنث "، والصحاح والقاموس.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 241 ط الحلبي، والمغني 6 / 253، والحموي
على ابن نجيم 2 / 166 - 170 ط العامرة.
(3) تفسير الطبري 4 / 123 و 15 / 78 ط مصطفى الحلبي.
(4) سورة الأنعام / 140.
(7/72)
وَنَبَّهَ الإِْسْلاَمُ إِلَى أَنَّ حَقَّ
الْوُجُودِ وَحَقَّ الْحَيَاةِ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
لِكُل إِنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَهَبُ
لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (1) .
قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ (2) : قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ
الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُونَهُنَّ، أَيْ هَذَا النَّوْعَ
الْمُؤَخَّرَ الْحَقِيرَ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّسَخُّطَ بِالإِْنَاثِ مِنْ أَخْلاَقِ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي
قَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُْنْثَى ظَل وَجْهُهُ
مُسَوَّدًا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا
بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ
أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3) .
وَقَال قَتَادَةَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِخُبْثِ صَنِيعِهِمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى
بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَقَضَاءُ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ
الْمَرْءِ نَفْسِهِ، وَلَعَمْرِي مَا يَدْرِي أَنَّهُ خَيْرٌ؛ لَرُبَّ
جَارِيَةٍ خَيْرٌ لأَِهْلِهَا مِنْ غُلاَمٍ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمُ
اللَّهُ بِصَنِيعِهِمْ لِتَجْتَنِبُوهُ وَتَنْتَهُوا عَنْهُ، وَكَانَ
أَحَدُهُمْ يَغْذُو كَلْبَهُ وَيَئِدُ ابْنَتَهُ (4) .
وَالإِْسْلاَمُ لاَ يَكْتَفِي مِنَ الْمُسْلِمِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ وَأْدَ
الْبَنَاتِ، بَل يَرْتَقِي بِالْمُسْلِمِ إِلَى دَرَجَةِ الإِْنْسَانِيَّةِ
الْمُثْلَى، فَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَبَرَّمَ بِذُرِّيَّةِ الْبَنَاتِ،
وَيَتَلَقَّى وِلاَدَتَهُنَّ بِالْعَبُوسِ وَالاِنْقِبَاضِ، بَل
يَتَقَبَّلُهَا بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ، قَال صَالِحُ بْنُ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ: كَانَ أَحْمَدُ إِذَا
__________
(1) سورة الشورى / 49.
(2) تحفة المودود بأحكام المولود ص 11.
(3) سورة النحل / 59.
(4) تفسير الطبري 4 / 123 ط مصطفى الحلبي.
(7/73)
وُلِدَ لَهُ ابْنَةٌ يَقُول:
الأَْنْبِيَاءُ كَانُوا آبَاءَ بَنَاتٍ، وَيَقُول: قَدْ جَاءَ فِي
الْبَنَاتِ مَا عَلِمْتَ (1) .
الْعَقُّ عَنْهَا:
4 - الْعَقِيقَةُ عَنِ الْمَوْلُودِ سُنَّةٌ، وَيَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ
الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، فَكَمَا يَعُقُّ الْوَلِيُّ عَنِ الذَّكَرِ يَوْمَ
السَّابِعِ يَعُقُّ عَنِ الأُْنْثَى أَيْضًا (2) ، وَلَكِنْ يَعُقُّ عَنِ
الأُْنْثَى شَاةٌ، وَعَنِ الذَّكَرِ شَاتَانِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ
فِي (عَقِيقَةٍ) .
تَسْمِيَتُهَا بِاسْمٍ حَسَنٍ:
5 - مِنَ السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ بِاسْمٍ حَسَنٍ، وَيَسْتَوِي
فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُغَيِّرُ
أَسْمَاءَ الذُّكُورِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ
كَانَ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الإِْنَاثِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ (3)
، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ
يُقَال لَهَا عَاصِيَةٌ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَمِيلَةٌ (4) .
وَالْكُنْيَةُ مِنَ الأُْمُورِ الْمَحْمُودَةِ، يَقُول النَّوَوِيُّ: مِنَ
الأَْدَبِ أَنْ يُخَاطَبَ أَهْل الْفَضْل وَمَنْ قَارَبَهُمْ
بِالْكُنْيَةِ، وَقَدْ كُنِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَبِي الْقَاسِمِ، بِابْنِهِ الْقَاسِمِ. وَالْكُنْيَةُ كَمَا
تَكُونُ لِلذَّكَرِ تَكُونُ لِلأُْنْثَى. قَال
__________
(1) تحفة المودود ص 13.
(2) جواهر الإكليل 1 / 224، والمغني 8 / 643.
(3) ابن عابدين 5 / 268، وتحفة المودود ص 76، وجامع الأصول لابن الأثير 1 /
376.
(4) حديث: " أن ابنة لعمر رضي الله عنه يقال لها عاصية. . . . " أخرجه مسلم
(3 / 1687 - ط الحلبي) والبخاري في الأدب المفرد (ص 286 - ط السلفية) .
(7/73)
النَّوَوِيُّ: رَوَيْنَا بِالأَْسَانِيدِ
الصَّحِيحَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ كُل
صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى، قَال: فَاكْتَنِّي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ
قَال الرَّاوِي. يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ
أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُكَنَّى
أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ (1) .
لَهَا نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ:
6 - جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلأُْنْثَى نَصِيبًا فِي
الْمِيرَاثِ كَمَا لِلذَّكَرِ نَصِيبٌ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
لاَ يُوَرِّثُونَ الإِْنَاثَ. قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ:
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَال لِلرِّجَال الْكِبَارِ وَلاَ
يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلاَ الأَْطْفَال شَيْئًا، فَأَنْزَل اللَّهُ
تَعَالَى: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَْقْرَبُونَ مِمَّا قَل مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (2)
أَيِ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوُونَ
فِي أَصْل الْوِرَاثَةِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ اللَّهُ
لِكُلٍّ مِنْهُمْ (3) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: سَبَبُ نُزُول هَذِهِ الآْيَةِ
أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ
الإِْنَاثِ، فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَال: نَزَل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 268، والأذكار للنووي ص 249 - 253 ط دار الملاح للطباعة
والنشر. وحديث: " اكتني بابنك عبد الله " أخرجه أبو داود (5 / 253 - ط عزت
عبيد دعاس) وصححه النووي في الأذكار (ص 261 - ط المنيرية) .
(2) سورة النساء / 7.
(3) تفسير الطبري 3 / 262 ط مصطفى الحلبي، ومختصر تفسير ابن كثير 1 / 360.
(7/74)
قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَال
نَصِيبٌ} . الآْيَةَ فِي أُمِّ كَجَّةَ وَبَنَاتِهَا وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسِ
بْنِ سُوَيْدٌ (1) وَهُمْ مِنَ الأَْنْصَارِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا
زَوْجَهَا وَالآْخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ
تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ وَلَمْ نُوَرَّثْ، فَقَال عَمُّ
وَلَدِهَا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلَدُهَا لاَ يَرْكَبُ فَرَسًا وَلاَ
يَحْمِل كَلًّا، وَلاَ يَنْكَأُ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلاَ
تَكْسِبُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ (2) .
وَوَرَدَ كَذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُول قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (3) مَا رُوِيَ
عَنْ جَابِرٍ قَال: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُول
اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ
الرَّبِيعِ، قُتِل أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ
عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً، وَلاَ
يُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ فَقَال: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ،
فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَال: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ
الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ (4) .
__________
(1) يقول المحقق: الصحيح أن اسمه أوس بن ثابت الأنصاري.
(2) تفسير الماوردي 1 / 366، 383 ط مطابع مقهوي الكويت، والدر المنثور 2 /
439. وحديث سبب نزول آية (للرجال نصيب. . . .) أخرجه ابن جرير (4 / 262 ط
الحلبي) من حديث عكرمة مرسلا وإسناده ضعيف لإرساله، وذكر له ابن كثير في
تفسيره (2 / 207 - ط الأندلس) طريقا آخر يتقوى به.
(3) سورة النساء / 11.
(4) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 362. وحديث: " يقضي الله في ذلك. . . فنزلت
آية الميراث ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 6 / 267 - المكتبة السلفية)
والحاكم (4 / 334 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.
(7/74)
رِعَايَةُ طُفُولَتِهَا، وَعَدَمُ تَفْضِيل
الذَّكَرِ عَلَيْهَا:
7 - يَعْتَنِي الإِْسْلاَمُ بِالأُْنْثَى فِي كُل أَطْوَارِ حَيَاتِهَا
فَيَرْعَاهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ، وَيَجْعَل رِعَايَتَهَا سِتْرًا مِنَ
النَّارِ وَسَبِيلاً إِلَى الْجَنَّةِ. فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ عَال جَارَتَيْنِ
حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ، وَضَمَّ
أَصَابِعَهُ (1) .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّل الذَّكَرَ عَلَيْهَا فِي التَّرْبِيَةِ
وَالْعِنَايَةِ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا
وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ (يَعْنِي الذُّكُورَ) عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ (2) . وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً كَانَ جَالِسًا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ
فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِنْتُهُ
فَأَخَذَهَا فَأَجْلَسَهَا إِلَى جَنْبِهِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا عَدَلْتَ بَيْنَهُمَا (3) . وَفِي
الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ تَفْضِيل الذَّكَرِ عَلَى
الأُْنْثَى فِي الْعَطِيَّةِ (4) ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَبْطُل
الْوَقْفُ إِذَا وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ الذُّكُورِ دُونَ بَنَاتِهِ؛
لأَِنَّهُ مِنْ عَمَل الْجَاهِلِيَّةِ (5) .
وَتَشْمَل الْعِنَايَةُ بِهَا فِي طُفُولَتِهَا تَأْهِيلَهَا لِحَيَاتِهَا
__________
(1) حديث: " من عال جاريتين حتى تبلغا. . . . " رواه مسلم (4 / 2028 - ط
الحلبي) .
(2) حديث: " من كانت له أنثى فلم يئدها. . . . " أخرجه أبو داود (5 / 354 -
ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة.
(3) جامع الأصول 1 / 412، 413، وتحفة المودود ص 12، 136 وحديث: " فما عدلت
بينهما ". أخرجه البيهقي من طريق ابن عدي كما في تحفة المودود لابن القيم
(ص 179 - ط المكتبة القيمة) وحسنه ابن عدي في الكامل (4 / 1554 ط دار
الفكر) .
(4) الفتاوى الهندية 4 / 391.
(5) جواهر الإكليل 2 / 206.
(7/75)
الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيُسْتَثْنَى مِمَّا
يَحْرُمُ مِنَ الصُّوَرِ صُوَرُ لَعِبِ الْبَنَاتِ فَإِنَّهَا لاَ
تَحْرُمُ، وَيَجُوزُ اسْتِصْنَاعُهَا وَصُنْعُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا
لَهُنَّ؛ لأَِنَّهُنَّ يَتَدَرَّبْنَ بِذَلِكَ عَلَى رِعَايَةِ
الأَْطْفَال، وَقَدْ كَانَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
جَوَارٍ يُلاَعِبْنَهَا بِصُوَرِ الْبَنَاتِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَحْوِ
خَشَبٍ، فَإِذَا رَأَيْنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَحِينَ مِنْهُ وَيَتَقَمَّعْنَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرِيهَا لَهَا (1) . (ر: تَصْوِيرٌ) .
إِكْرَامُ الأُْنْثَى حِينَ تَكُونُ زَوْجَةً:
8 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْسَانِ مُعَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ فَقَال:
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ طَيِّبُوا
أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ
بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَل أَنْتَ
بِهَا مِثْلَهُ، قَال تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} (3) . وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَِهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَِهْلِي
(4) ، وَكَانَ مِنْ أَخْلاَقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
جَمِيل الْعِشْرَةِ دَائِمُ الْبِشْرِ، يُدَاعِبُ أَهْلَهُ وَيَتَلَطَّفُ
بِهِمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ،
حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ،
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 412، والمغني 7 / 10، والأحكام السلطانية للماوردي
/ 251. وحديث: " كان لعائشة جوار يلاعبنها ". أخرجه البخاري (الفتح 10 /
526 - ط السلفية) .
(2) سورة النساء / 19.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) حديث: " خيركم خيركم لأهله. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 636 - ط
الحلبي) وصححه ابن حبان (ص 318 - ط السلفية) .
(7/75)
قَالَتْ: سَابَقَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ وَذَلِكَ قَبْل أَنْ أَحْمِل
اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَمَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَسَبَقَنِي
فَقَال: " هَذِهِ بِتِلْكَ " (1) ، وَ " كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ
يَدْخُل مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلاً قَبْل أَنْ يَنَامَ "
(2) .
وَيَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى لَوْ كَرِهَهَا، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَيَجْعَل اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3) قَال ابْنُ
كَثِيرٍ، أَيْ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ فِي إِمْسَاكِهِنَّ مَعَ
الْكَرَاهَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ،
كَمَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ
مِنْهَا وَلَدًا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ
مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ (4) .
هَذَا، وَحُقُوقُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ
النِّكَاحِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَثَلاً وَاحِدًا
مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، يَتَّصِل بِإِكْرَامِ أُمُومَةِ الأُْنْثَى،
فَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْوِصَايَةِ بِالأُْمِّ وَقَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ عَلَى الأَْبِ،
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ
صَحَابَتِي؟ قَال: أُمُّكَ، قَال: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أُمُّكَ، قَال: ثُمَّ
__________
(1) حديث: " هذه بتلك ". أخرجه أبو داود (3 / 66 - ط عزت عبيد دعاس) وأحمد
(6 / 39 - الميمنية) وإسناده صحيح.
(2) حديث: " كان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله ". أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 212 - ط السلفية) و (8 / 235) وفيها التصريح بالسمر.
(3) سورة النساء / 19.
(4) حديث: " لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها. . . . " أخرجه مسلم (2 /
1091 - ط الحلبي) .
(7/76)
مَنْ؟ قَال: أُمُّكَ، قَال: ثُمَّ مَنْ؟
قَال: أَبُوكَ (1) . وَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رِضَاهَا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَدْ قَال رَجُلٌ: يَا رَسُول
اللَّهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَال: فَهَل لَكَ
مِنْ أُمٍّ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ
رِجْلَيْهَا (2) .
ثَانِيًا: الْحُقُوقُ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا مَعَ الرَّجُل:
تَتَسَاوَى الْمَرْأَةُ وَالرَّجُل فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ
الْعَامَّةِ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِمَا يَتَلاَءَمُ
مَعَ طَبِيعَتِهَا.
وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُقُوقِ:
أ - حَقُّ التَّعْلِيمِ:
9 - لِلْمَرْأَةِ حَقُّ التَّعْلِيمِ مِثْل الرَّجُل: فَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ
عَلَى كُل مُسْلِمٍ (3) . وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا،
فَقَدْ قَال الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ: قَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ
الْمُصَنِّفِينَ بِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ (وَمُسْلِمَةٍ) وَلَيْسَ لَهَا
ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا. (4)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ
بِنْتٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَن أَدَبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ
تَعْلِيمَهَا، وَأَسْبَغَ
__________
(1) حديث: " من أحق بحسن صحبتي. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 401 - ط
السلفية) ومسلم (4 / 1974 - ط الحلبي) .
(2) مختصر تفسير ابن كثير 2 / 373، وجامع الأصول لابن الأثير 1 / 397، 403.
وحديث: " الزمها فإن الجنة عند رجليها. . . . ". أخرجه النسائي (7 / 11 - ط
المكتبة التجارية) والحاكم (4 / 151 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
ووافقه الذهبي.
(3) حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم. . . . ". أخرجه ابن عبد البر في
الجامع (1 / 7 - ط المنيرية) وحسنه المزي كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص
276 - ط الخانجي) .
(4) المقاصد الحسنة / 277
(7/76)
عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي
أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنَ النَّارِ. (1)
وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْعَيْنَ إِلَى الْعِلْمِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَال فَاجْعَل لَنَا يَوْمًا
مِنْ نَفْسِكَ، فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ
وَأَمَرَهُنَّ (2) . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قَالَتْ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ
الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ (3) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا
أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ،
وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا
بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ. (4)
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَل بِمَنْطُوقِهِ الصَّبِيَّ
وَالصَّبِيَّةَ، وَأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِلاَ خِلاَفٍ، ثُمَّ
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى: عَلَى الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلاَدِهِمُ
الصِّغَارِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا،
وَتَعْلِيمُهُمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ
__________
(1) تفسير القرطبي 10 / 118. وحديث: " من كانت له بنت فأدبها. . . " أخرجه
أبو نعيم في الحلية (5 / 57 - ط الخانجي) .
(2) فتح الباري 1 / 158. وحديث: " قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم. .
. " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 195 - السلفية) .
(3) حديث عائشة: " نعم النساء نساء الأنصار. . . ". أخرجه مسلم (1 / 261 -
ط الحلبي)
(4)) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع. . . " أخرجه أبو داود (1
/ 334 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في الرياض (ص 148 - ط المكتب
الإسلامي) .
(7/77)
الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ
وَشِبْهِهَا، وَأَنَّهُمْ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُونَ فِي التَّكْلِيفِ،
وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأُجْرَةُ التَّعْلِيمِ
تَكُونُ فِي مَال الصَّبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ
تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَقَدْ جَعَل الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ
لِلأُْمِّ مَدْخَلاً فِي وُجُوبِ التَّعْلِيمِ؛ لِكَوْنِهِ مِنَ
التَّرْبِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَالنَّفَقَةِ (1) .
وَمِنَ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ ضَرُورَةً
بِالنِّسْبَةِ لِلأُْنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ حَتَّى لاَ يَطَّلِعَ
الرِّجَال عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ. جَاءَ فِي الْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّةِ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَحِل
لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، لاَ يَحِل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا،
لَكِنْ يُعَلِّمُ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً
تُدَاوِيهَا وَلاَ امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ ذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتْ، وَخِيفَ
عَلَيْهَا الْبَلاَءُ أَوِ الْوَجَعُ أَوِ الْهَلاَكُ فَإِنَّهُ يَسْتُرُ
مِنْهَا كُل شَيْءٍ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ، ثُمَّ يُدَاوِيهَا
الرَّجُل، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إِلاَّ عَنْ ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ. (2)
10 - وَإِذَنْ، فَلاَ خِلاَفَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ الأُْنْثَى.
لَكِنْ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لاَ مُخَالَفَةَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ
مِنَ النَّوَاحِي الآْتِيَةِ:
أ - أَنْ تَحْذَرَ الاِخْتِلاَطَ بِالشَّبَابِ فِي قَاعَاتِ الدَّرْسِ،
فَلاَ تَجْلِسِ الْمَرْأَةُ بِجَانِبِ الرَّجُل، فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ
الرِّجَال يَعِظُهُنَّ فِيهِ. بَل حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ لاَ يُخَالِطْنَ
الرِّجَال، بَل
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 50 و 3 / 11 توزيع المكتبة العالمية بالفجالة تحقيق
محمد نجيب المطيعي، والفواكه الدواني 2 / 164.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 330، والاختيار 4 / 154، وابن عابدين 5 / 237.
(7/77)
يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ
يَسْتَمِعْنَ إِلَى الْوَعْظِ وَيُؤَدِّينَ الصَّلاَةَ، وَلاَ يَجِبُ
اسْتِحْدَاثُ مَكَانٍ خَاصٍّ لِصَلاَتِهِنَّ، أَوْ إِقَامَةِ حَاجِزٍ
بَيْنَ صُفُوفِهِنَّ وَصُفُوفِ الرِّجَال.
ب - أَنْ تَكُونَ مُحْتَشِمَةً غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَتِهَا لِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا} (1) وَفِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَمِنْ
إِشَاعَةِ الْفَسَادِ (2) .
ب - أَهْلِيَّتُهَا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ:
11 - الْمَرْأَةُ أَهْلٌ لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْل الرَّجُل،
وَوَلِيُّ أَمْرِهَا مُطَالَبٌ بِأَمْرِهَا بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ،
وَتَعْلِيمِهَا لَهَا مُنْذُ الصِّغَرِ؛ لِمَا جَاءَ فِي قَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ
وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ
أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (3)
وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَل الأُْنْثَى بِلاَ خِلاَفٍ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ
(4) .
وَهِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُكَلَّفَةٌ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ صَلاَةٍ
وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ - زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ -
مَنْعُهَا مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. فَجُمْلَةُ الْعَقَائِدِ
وَالْعِبَادَاتِ وَالأَْخْلاَقِ وَالأَْحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ
لِلإِْنْسَانِ يَسْتَوِي فِي التَّكْلِيفِ بِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا
الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى. (5)
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) المغني 2 / 375، 376، والفواكه الدواني 2 / 367.
(3) الحديث سبق تخريجه ف / 9.
(4) المجموع للنووي 1 / 250، 3 / 11.
(5) إعلام الموقعين 2 / 73.
(7/78)
يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِل
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} (1) . وَيُؤَكِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ
وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ
وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ
اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (2) وَيُرْوَى فِي سَبَبِ
نُزُول هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: قَال النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ، فَنَزَلَتْ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ:
أَيُذْكَرُ الرِّجَال فِي كُل شَيْءٍ وَلاَ نُذْكَرُ؟ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الآْيَةُ. (3)
وَفِي اسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِسُؤَال الْمُؤْمِنِينَ قَال:
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَل عَامِلٍ مِنْكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . (4)
وَلَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُول
الآْيَةِ السَّابِقَةِ، وَيَقُول ابْنُ كَثِيرٍ: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}
أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ. وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَاتِ هُوَ فِي الإِْثْمِ
كَمَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النحل / 97.
(2) تفسير الطبري 27 / 10، ومختصر تفسير ابن كثير 3 / 95 عند الكلام على
الآية / 35 من سورة الأحزاب.
(3) حديث أم سلمة: " يذكر الرجال في كل شيء. . . " أخرجه أحمد (6 / 301 - ط
الميمنية) وإسناده صحيح.
(4) سورة آل عمران / 95.
(7/78)
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا
وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) .
وَهِيَ مُطَالَبَةٌ بِالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ كَالرَّجُل، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتَوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . (2)
وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا هَاجَمَ
الْعَدُوُّ الْبِلاَدَ. يَقُول الْفُقَهَاءُ: إِذَا غَشِيَ الْعَدُوُّ
مَحَلَّةَ قَوْمٍ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ
ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ؛
لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لاَ يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْعَيْنِ.
(3)
وَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ فِي فَتَرَاتِ تَعَبِهَا
مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْل وَالنِّفَاسِ وَالرَّضَاعِ. وَتُنْظَرُ
الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَلِكَ فِي (حَيْضٌ، حَمْلٌ، نِفَاسٌ، رَضَاعٌ)
.
ج - احْتِرَامُ إِرَادَتِهَا:
12 - لِلأُْنْثَى حُرِّيَّةُ الإِْرَادَةِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي
نَفْسِهَا، وَقَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا
الْحَقَّ الَّذِي سَلَبَتْهُ مِنْهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَحَرَمَتْهَا
مِنْهُ، فَقَدْ كَانَتْ حِينَ يَمُوتُ زَوْجُهَا لاَ تَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ
نَفْسِهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُ مَال زَوْجِهَا. رَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِل لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} (4)
قَال: كَانُوا إِذَا
__________
(1) سورة الأحزاب / 58.
(2) سورة التوبة / 71.
(3) الفواكه الدواني 1 / 463، 2 / 361، والاختيار 4 / 118.
(4) سورة النساء / 19.
(7/79)
مَاتَ الرَّجُل كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ
أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا
زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ
أَهْلِهَا. (1) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ، وَقَال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ
كَانَ أَهْل يَثْرِب إِذَا مَاتَ الرَّجُل مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى
يَرِثَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ، وَكَانَ أَهْل تِهَامَةَ
يُسِيءُ الرَّجُل صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، وَيَشْتَرِطُ
عَلَيْهَا أَلاَّ تَنْكِحَ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ
بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَال ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي كَبِيشَةِ بِنْتِ
مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الأَْوْسِ، تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنُ
الأَْسْلَتِ، فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ لاَ أَنَا
وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلاَ أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ، فَأَنْزَل اللَّهُ
هَذِهِ الآْيَةَ. قَال ابْنُ كَثِيرٍ: فَالآْيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ
يَفْعَلُهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُل مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ
ذَلِكَ. (2)
وَإِرَادَتُهَا كَذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نِكَاحِهَا، فَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ
الْبُخَارِيُّ: لاَ تُنْكَحِ الأَْيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ
تُنْكَحِ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ (3) .
وَالاِسْتِئْمَارُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ وَاجِبٌ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا
فَنِكَاحُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي
بَابِ النِّكَاحِ. وَهُوَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ
مُسْتَحَبٌّ
__________
(1) أثر ابن عباس: " كانوا إذا مات الرجل. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 8
/ 245 - ط السلفية) .
(2) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 368، وتفسير الماوردي 1 / 373.
(3) حديث: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 9 / 191 - ط السلفية) .
(7/79)
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. رُوِيَ
عَنْ عَطَاءٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ إِذَا أَنْكَحَهُنَّ (1) . وَاسْتِئْذَانُهَا
وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. بَل إِنَّهَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ
نَفْسِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. جَاءَ فِي الاِخْتِيَارِ: عِبَارَةُ
النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ زَوَّجَتِ الْحُرَّةُ
الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ
غَيْرَهَا بِالْوِلاَيَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَا إِذَا وَكَّلَتْ
غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا، أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ،
وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَظَاهِرُ
الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِي
الْبُخَارِيِّ أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ حِزَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ
كَارِهَةٌ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ
الأَْوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ فَأَجَازَ النِّكَاحَ. هَذَا دَلِيل الاِنْعِقَادِ بِعِبَارَةِ
النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لأَِنَّهُمْ
كَانُوا غَائِبِينَ؛ لأَِنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَلاَ
ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَيَنْفُذُ، كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا. (3)
هَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِي هَذَا
يَنْظُرُ فِي (نِكَاحٌ) .
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مُشَارَكَةُ زَوْجِهَا الرَّأْيَ بَل
وَمُعَارَضَتُهُ، قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأمر. . . " أخرجه ابن أبي
شيبة في مصنفه (4 / 136) وورد عند البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
متصلا ورجح البيهقي كونه مرسلا من حديث المهاجر بن عكرمة المخزومي (7 / 123
ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث: " خنساء بنت حزام. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 194 - ط
السلفية) .
(3) المغني لابن قدامة 6 / 488 - 491، والاختيار 3 / 90، 91، والهداية 1 /
196، وجواهر الإكليل 1 / 278، والمهذب 2 / 38.
(7/80)
الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ
أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَل اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَل، وَقَسَمَ لَهُنَّ
مَا قَسَمَ، قَال: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتِ
امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا، قَال: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكِ
وَلِمَا هَا هُنَا، فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ
لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ
أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَك لَتُرَاجِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَل يَوْمَهُ غَضْبَانَ. فَقَامَ عُمَرُ
فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَل عَلَى حَفْصَةَ، فَقَال لَهَا:
يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَل يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ:
وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ. فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ
عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا
حُسْنُهَا حُبُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَال: خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى
أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ: عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، دَخَلْتَ فِي كُل شَيْءٍ،
حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُل بَيْنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ. فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا
كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدَهَا،
وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الأَْنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ،
وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ، وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ
مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ
إِلَيْنَا، فَقَدِ امْتَلأََتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَإِذَا صَاحِبِي
الأَْنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَقَال: افْتَحِ افْتَحْ، فَقُلْتُ:
جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَال: بَل أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ رَغِمَ
أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ. فَأَخَذْتُ ثَوْبِي، فَأَخْرُجُ حَتَّى
جِئْتُ، فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ، وَغُلاَمٌ لِرَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ،
فَقُلْتُ لَهُ: قُل هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
(7/80)
فَأَذِنَ لِي. قَال عُمَرُ: فَقَصَصْتُ
عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ،
فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا
لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ
أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ
فَبَكَيْتُ، فَقَال: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ
كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُول اللَّهِ، فَقَال:
أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآْخِرَةُ؟ (1)
وَاسْتِشَارَةُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يَتَّصِل بِشُئُونِ النِّسَاءِ أَوْ
فِيمَا لَدَيْهَا خِبْرَةٌ بِهِ مَطْلُوبَةٌ، بِأَصْل نَدْبِ الْمَشُورَةِ
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) وَلِحَدِيثِ
أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ قَال لأَِصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا
ثُمَّ احْلِقُوا، فَمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ
يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَل عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا
لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ
ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى
تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا
مِنْهُمْ حَتَّى فَعَل ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ
فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَل
بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا (3) .
__________
(1) مختصر تفسير ابن كثير 3 / 521. وحديث: عمر بن الخطاب رواه عنه ابن
عباس. . . أخرجه البخاري (الفتح 8 / 657 - 658 - ط السلفية) ومسلم (3 /
1111 - 1112 - ط الحلبي) .
(2) سورة الشورى / 38.
(3) حديث أم سلمة ". . . . قوموا فانحروا ثم احلقوا. . . . " أخرجه البخاري
(5 / 332 - الفتح - ط السلفية) .
(7/81)
وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْقِدَ الأَْمَانَ
مَعَ الْكُفَّارِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَفِي
الْمُغْنِي: إِذَا أَعْطَتِ الْمَرْأَةُ الأَْمَانَ لِلْكُفَّارِ جَازَ
عَقْدُهَا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِنْ
كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ، وَعَنْ
أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَجَرْتُ
أَحْمَائِي وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ
قَتْلَهُمْ، فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ (1) ،
وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ قَبْل أَنْ يُسْلِمَ
فَأَمْضَاهُ رَسُول اللَّهِ. (2)
د - ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ:
13 - لِلأُْنْثَى ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالرَّجُل، وَحَقُّهَا
فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَا
دَامَتْ رَشِيدَةً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (3) . وَلَهَا أَنْ
تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا كُلِّهِ عَنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ بِدُونِ
إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا
تَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا عَنْ طَرِيقِ التَّبَرُّعِ بِهِ، فَعِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي كُل مَالِهَا
بِالتَّبَرُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ
الْمُنْذِرِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ قَال: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ
حُلِيِّكُنَّ
__________
(1) حديث: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1
/ 469) ومسلم (1 / 498 - ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 397. وحديث: " أجارت زينب زوجها أبا العاص. . . . " أخرجه
البيهقي (9 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) والطبراني في الكبير كما في
مجمع الزوائد (9 / 213 - ط القدسي) بإسنادين يقوي أحدهما الآخر.
(3) سورة النساء / 6.
(7/81)
وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِل
صَدَقَتَهُنَّ، وَلَمْ يَسْأَل وَلَمْ يَسْتَفْصِل. (1) وَلِهَذَا جَازَ
لَهَا التَّصَرُّفُ بِدُونِ إِذْنٍ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ
يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ:
أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَلاَ يَجُوزُ
لَهَا التَّبَرُّعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ
زَوْجِهَا. (2)
وَلأَِنَّ لِلْمَرْأَةِ ذِمَّةً مَالِيَّةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ أَجَازَ
الْفُقَهَاءُ لَهَا أَنْ تَضْمَنَ غَيْرَهَا، جَاءَ فِي الْمُغْنِي:
يَصِحُّ ضَمَانُ كُل جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ
رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً؛ لأَِنَّهُ عَمْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَال، فَصَحَّ
مِنَ الْمَرْأَةِ كَالْبَيْعِ.
وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِكُل مَالِهَا، أَمَّا
مَنْ لاَ يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِلاَّ
بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهَا الضَّمَانَ فِي حُدُودِ
ثُلُثِ مَالِهَا أَوْ بِزَائِدٍ يَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الضَّمَانَ
مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ
يَصِحُّ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجِ. (3)
هـ - حَقُّ الْعَمَل:
14 - الأَْصْل أَنَّ وَظِيفَةَ الْمَرْأَةِ الأُْولَى هِيَ إِدَارَةُ
بَيْتِهَا وَرِعَايَةُ أُسْرَتِهَا وَتَرْبِيَةُ أَبْنَائِهَا وَحُسْنُ
تَبَعُّلِهَا، يَقُول
__________
(1) حديث: " يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن " أخرجه البخاري (الفتح 1 /
405 - ط السلفية) ومسلم (1 / 86 - ط الحلبي) .
(2) الاختيار 3 / 91، 92، وجواهر الإكليل 2 / 102، والمجموع 12 / 378،
والمغني 4 / 513، 514.
(3) منح الجليل 3 / 245، والمغني 4 / 598.
(7/82)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ
رَعِيَّتِهَا (1) . وَهِيَ غَيْرُ مُطَالَبَةٍ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى
نَفْسِهَا، فَنَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا؛
لِذَلِكَ كَانَ مَجَال عَمَلِهَا هُوَ الْبَيْتُ، وَعَمَلُهَا فِي
الْبَيْتِ يُسَاوِي عَمَل الْمُجَاهِدِينَ. (2)
وَمَعَ ذَلِكَ فَالإِْسْلاَمُ لاَ يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْعَمَل
فَلَهَا أَنْ تَبِيعَ وَتَشْتَرِيَ، وَأَنْ تُوَكِّل غَيْرَهَا،
وَيُوَكِّلَهَا غَيْرُهَا، وَأَنْ تُتَاجِرَ بِمَالِهَا، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ
مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَتْ مُرَاعِيَةً أَحْكَامَ الشَّرْعِ
وَآدَابَهُ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، قَال
الْفُقَهَاءُ: لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى إِبْرَازِ الْوَجْهِ
لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِلَى إِبْرَازِ الْكَفِّ لِلأَْخْذِ
وَالإِْعْطَاءِ.
وَفِي الاِخْتِيَارِ: لاَ يَنْظُرُ الرَّجُل إِلَى الْحُرَّةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ إِلاَّ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. .؛ لأَِنَّ فِي
ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلأَْخْذِ وَالإِْعْطَاءِ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهَا عِنْدَ
الْمُعَامَلَةِ مَعَ الأَْجَانِبِ؛ لإِِقَامَةِ مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا
لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِأَسْبَابِ مَعَاشِهَا. (3)
وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ عَمَل الْمَرْأَةِ كَثِيرَةٌ،
وَالَّذِي يُمْكِنُ اسْتِخْلاَصُهُ مِنْهَا، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ
فِي الْعَمَل بِشَرْطِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِلْخُرُوجِ، إِنِ اسْتَدْعَى
عَمَلُهَا الْخُرُوجَ وَكَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي
الإِْذْنِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا.
__________
(1) حديث: " المرأة راعية في بيت زوجها. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 /
380 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1459 - ط الحلبي) .
(2) مختصر تفسير ابن كثير 3 / 93، والقرطبي 5 / 32، وابن عابدين 2 / 672،
688.
(3) المهذب 1 / 71، والمغني 1 / 601، والاختيار 4 / 156.
(7/82)
جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: إِذَا
أَعْسَر الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحَقَّقَ الإِْعْسَارُ فَالأَْظْهَرُ
إِمْهَالُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ،
وَلِلزَّوْجَةِ - وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً - الْخُرُوجُ زَمَنَ
الْمُهْلَةِ نَهَارًا لِتَحْصِيل النَّفَقَةِ بِنَحْوِ كَسْبٍ، وَلَيْسَ
لَهُ مَنْعُهَا لأَِنَّ الْمَنْعَ فِي مُقَابِل النَّفَقَةِ. (1)
وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ
خُيِّرَتِ الزَّوْجَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ مَعَ
مَنْعِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَمَكَّنَتْهُ
مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلاَ يَمْنَعُهَا تَكَسُّبًا، وَلاَ
يَحْبِسُهَا مَعَ عُسْرَتِهِ إِذَا لَمْ تَفْسَخْ لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ
بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا
يَمْلِكُ حَبْسَهَا إِذَا كَفَاهَا الْمَئُونَةَ وَأَغْنَاهَا عَمَّا لاَ
بُدَّ لَهَا مِنْهُ. (2)
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَمَل مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. جَاءَ فِي
فَتْحِ الْقَدِيرِ: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ قَابِلَةً، أَوْ كَانَ لَهَا
حَقٌّ عَلَى آخَرَ، أَوْ لآِخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالإِْذْنِ
وَبِغَيْرِ الإِْذْنِ، وَمِثْل ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي عَنْ
مَجْمُوعِ النَّوَازِل. (3) إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ
نَقَل مَا فِي الْفَتْحِ قَال: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ
تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِالإِْذْنِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فَرْضِ
الْكِفَايَةِ. (4)
هَذَا، وَإِذَا كَانَ لَهَا مَالٌ فَلَهَا أَنْ تُتَاجِرَ بِهِ مَعَ
غَيْرِهَا، كَأَنْ تُشَارِكَهُ أَوْ تَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً دُونَ إِذْنٍ
مِنْ أَحَدٍ. جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: قِرَاضُ الزَّوْجَةِ أَيْ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 147.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 252.
(3) فتح القدير 4 / 208، وحاشية سعدي جلبي بهامش فتح القدير 4 / 207.
(4) ابن عابدين 2 / 665.
(7/83)
دَفْعُهَا مَالاً لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ
بِبَعْضِ رِبْحِهِ، فَلاَ يَحْجُرُ عَلَيْهَا فِيهِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ
مِنَ التِّجَارَةِ. (1)
15 - ثُمَّ إِنَّهَا لَوْ عَمِلَتْ مَعَ الزَّوْجِ كَانَ كَسْبُهَا لَهَا.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ: أَفْتَى الْقَاضِي الإِْمَامُ فِي
زَوْجَيْنِ سَعَيَا وَحَصَّلاَ أَمْوَالاً أَنَّهَا لَهُ؛ لأَِنَّهَا
مُعِينَةٌ لَهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لَهَا كَسْبٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَهَا
ذَلِكَ. وَفِي الْفَتَاوَى: امْرَأَةٌ مُعَلَّمَةٌ، يُعِينُهَا الزَّوْجُ
أَحْيَانًا فَالْحَاصِل لَهَا، وَفِي الْتِقَاطِ السُّنْبُلَةِ إِذَا
الْتَقَطَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا. (2)
كَمَا أَنَّ لِلأَْبِ أَنْ يُوَجِّهَ ابْنَتَهُ لِلْعَمَل: جَاءَ فِي
حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: لِلأَْبِ أَنْ يَدْفَعَ ابْنَتَهُ لاِمْرَأَةٍ
تُعَلِّمُهَا حِرْفَةً كَتَطْرِيزٍ وَخِيَاطَةٍ (3) .
وَإِذَا عَمِلَتِ الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُدُودٍ لاَ
تَتَنَافَى مَعَ مَا يَجِبُ مِنْ صِيَانَةِ الْعِرْضِ وَالْعَفَافِ
وَالشَّرَفِ. وَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي:
(1) أَلاَّ يَكُونَ الْعَمَل مَعْصِيَةً كَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ،
وَأَلاَّ يَكُونَ مَعِيبًا مُزْرِيًا تُعَيَّرُ بِهِ أُسْرَتُهَا. جَاءَ
فِي الْبَدَائِعِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا آجَرَتِ الْمَرْأَةُ
نَفْسَهَا بِمَا يُعَابُ بِهِ كَانَ لأَِهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا مِنْ
تِلْكَ الإِْجَارَةِ، وَفِي الْمَثَل السَّائِرِ: تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلاَ
تَأْكُل بِثَدْيَيْهَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
امْرَأَةٍ نَائِحَةٍ أَوْ صَاحِبِ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ اكْتَسَبَ مَالاً
فَهُوَ مَعْصِيَةٌ. (4)
(2) أَلاَّ يَكُونَ عَمَلُهَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَلْوَةٌ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 102، ومنح الجليل 3 / 281، وحاشية العدوي على الخرشي
6 / 39.
(2) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 5 / 378.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 671.
(4) البدائع 4 / 199، والفتاوى الهندية 4 / 461 و 5 / 349، وابن عابدين 5 /
272.
(7/83)
بِأَجْنَبِيٍّ. جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ:
كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِخْدَامَ الْمَرْأَةِ وَالاِخْتِلاَءَ بِهَا؛
لِمَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ، أَمَّا الْخَلْوَةُ؛ فَلأَِنَّ الْخَلْوَةَ
بِالأَْجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا الاِسْتِخْدَامُ؛ فَلأَِنَّهُ لاَ
يُؤْمَنُ مَعَهُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ.
(1)
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا
(2) وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ.
(3)
(3) أَلاَّ تَخْرُجَ لِعَمَلِهَا مُتَبَرِّجَةً مُتَزَيِّنَةً بِمَا
يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا
الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ
الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَال
وَالاِسْتِمَالَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} (4) وَقَال تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (5) ، وَفِي الْحَدِيثِ:
الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَثَل ظُلْمَةِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لاَ نُورَ لَهَا (6) .
ثَالِثًا: الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالأُْنْثَى:
لِلأُْنْثَى أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 189.
(2) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما "، أخرجه الترمذي
(4 / 466 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(3) الفواكه الدواني 2 / 438، والمغني 6 / 553.
(4) سورة الأحزاب / 33.
(5) سورة النور / 31.
(6) حديث: " الرافلة في الزينة في غير أهلها. . . . " أخرجه الترمذي (3 /
461 - ط الحلبي) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى
بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه، وهو صدوق. وانظر حاشية ابن عابدين 2
/ 665، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 602 و 3 / 94.
(7/84)
بِالْعَوْرَةِ وَمَا يَتَّصِل بِهَا،
وَمِنْهَا الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِزَوْجٍ،
وَمِنْهَا الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالْعِبَادَاتِ أَوِ الْوِلاَيَاتِ
أَوِ الْجِنَايَاتِ. . وَهَكَذَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
بَوْل الأُْنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُل الطَّعَامَ:
16 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي إِزَالَةِ نَجَاسَةِ بَوْل الأُْنْثَى
الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُل الطَّعَامَ عَنْ بَوْل الذَّكَرِ
الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ، وَذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ فِي التَّطْهِيرِ
مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ نَضْحُهُ بِالْمَاءِ (أَيْ أَنْ يَرُشَّهُ
بِالْمَاءِ) وَلاَ يَكْفِي ذَلِكَ فِي إِزَالَةِ بَوْل الأُْنْثَى، بَل لاَ
بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ
أُمِّ قَيْسِ بْنِ مُحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ
يَأْكُل الطَّعَامَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، فَبَال عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ
فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا يُغْسَل مِنْ
بَوْل الأُْنْثَى، وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْل الذَّكَرِ. (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا
فَيُغْسَل مَا أَصَابَهُ بَوْل كُلٍّ مِنَ الصَّبِيِّ أَوِ الصَّيِّبَةِ
لِنَجَاسَتِهِ؛ لإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل. (3)
__________
(1) حديث أم قيس " فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. . . . " أخرجه البخاري
(الفتح 1 / 326 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر " رواه أبو داود
(1 / 262 - ط عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (1 / 174 - ط الحلبي) وحسنه البخاري
كما في التلخيص لابن حجر (1 / 38 - شركة الطباعة الفنية) .
(3)) ابن عابدين 1 / 212، والاختيار 1 / 32، والتاج والإكليل بهامش الحطاب
1 / 108، والمهذب 1 / 56، وشرح منتهى الإرادات 1 / 98، 99. وحديث: "
استنزهوا من البول ". أخرجه الدارقطني (1 / 128 - ط شركة الطباعة الفنية)
من حديث أبي هريرة وقال: الصواب مرسل.
(7/84)
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَّصِل بِمَا
تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْضٍ وَحَمْلٍ:
17 - مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الإِْنْسَانَ عَلَيْهَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ يَمِيل
إِلَى الآْخَرِ، وَجَعَل الاِتِّصَال الشَّرْعِيَّ بَيْنَهُمَا وَسِيلَةً
لاِمْتِدَادِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بِالتَّنَاسُل وَالتَّوَالُدِ.
وَاخْتَصَّ الأُْنْثَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحِيضُ
وَتَحْمِل وَتَلِدُ وَتُرْضِعُ.
وَهَذِهِ الأُْمُورُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَعْضُ الأَْحْكَامِ
الْفِقْهِيَّةِ نُوجِزُهَا فِيمَا يَلِي:
(1) يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ وَالْحَمْل مِنْ عَلاَمَاتِ بُلُوغِ الأُْنْثَى.
(2) التَّخْفِيفُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال،
فَتَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلاَةُ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ دُونَ قَضَاءٍ،
وَيَجِبُ عَلَيْهَا الإِْفْطَارُ مَعَ الْقَضَاءِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ،
وَجَوَازُ الإِْفْطَارِ أَثْنَاءَ الْحَمْل أَوِ الرَّضَاعَةِ، إِنْ كَانَ
الصِّيَامُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا.
(3) وَالاِعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ وَبِالْحَمْل فِي احْتِسَابِ الْعِدَّةِ.
(4) وَالاِمْتِنَاعُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ دُخُول
الْمَسْجِدِ، وَعَنْ تَمْكِينِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَثْنَاءَ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ.
(5) وَوُجُوبُ الْغُسْل عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَيْضٍ،
حَمْلٍ، نِفَاسٍ، رَضَاعٍ) .
__________
(1) المغني 1 / 306، 307.
(7/85)
لَبَنُ الأُْنْثَى:
18 - لاَ يَخْتَلِفُ لَبَنُ الأُْنْثَى بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَتِهِ عَنْ
لَبَنِ الذَّكَرِ - لَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ - فَلَبَنُ الأُْنْثَى طَاهِرٌ
بِاتِّفَاقٍ. وَلَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أَنَّ لَبَنَ الأُْنْثَى
يَتَعَلَّقُ بِهِ مَحْرَمِيَّةُ الرَّضَاعِ. (1)
أَمَّا الرَّجُل فَلَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ
التَّحْرِيمُ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (الرَّضَاعُ، وَالنِّكَاحُ) .
خِصَال الْفِطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْنْثَى:
19 - تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ مِنْ خِصَال الْفِطْرَةِ بِأَنَّهُ يُسَنُّ
لَهَا إِزَالَةُ لِحْيَتِهَا لَوْ نَبَتَتْ. وَالسُّنَّةُ فِي عَانَتِهَا
النَّتْفُ. وَلاَ يَجِبُ خِتَانُهَا فِي وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ
مَكْرُمَةٌ. وَتُمْنَعُ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهَا (2) .
عَوْرَةُ الأُْنْثَى:
20 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ
بَدَنَ الأُْنْثَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ كُلَّهُ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ
لِلصَّلاَةِ عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ
الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَجْهِ، وَفِي
رِوَايَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى
هُمَا عَوْرَةٌ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ، فَفِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ هُمَا عَوْرَةٌ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: الأَْصَحُّ
أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَاعْتَمَدَهُ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ.
وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَهُمَا عَوْرَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ غَيْرَ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ،
وَهُوَ رَأْيُ الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 502.
(2) الأشباه للسيوطي ص 237 ط الحلبي.
(7/85)
مِنَ الْحَنَابِلَةِ. (1) وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ) .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ (2) وَقَوْلُهُ:
لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (3) وَالْمُرَادُ
بِالْحَائِضِ الْبَالِغَةُ.
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الأُْنْثَى:
21 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الرَّجُل
لِلأُْنْثَى الْمُشْتَهَاةِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ
الْوُضُوءَ لاَ يُنْتَقَضُ بِاللَّمْسِ؛ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (4)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ
وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِاللَّمْسِ إِنْ قَصَدَ
اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا حِينَ اللَّمْسِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ
مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ
لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِنْ كَانَ
اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. وَهُوَ قَوْل عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ
__________
(1) الزيلعي 1 / 96، وابن عابدين 1 / 271، 272، والاختيار 1 / 46، والدسوقي
1 / 213، 214، ومغني المحتاج 1 / 185 ونهاية المحتاج 2 / 6، والمهذب 1 /
71، والمغني 1 / 601 - 603، والإنصاف 1 / 449، 452 - 453، ومنتهى الإرادات
1 / 142.
(2) حديث: " المرأة عورة ". أخرجه الترمذي (3 / 467 ط الحلبي) وإسناده
صحيح.
(3) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " أخرجه ابن ماجه (1 / 215 -
ط الحلبي) والترمذي (2 / 215 ط الحلبي) وحسنه.
(4) حديث عائشة: " قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ " أخرجه الترمذي (1 /
133 - ط الحلبي) وصححه ابن عبد البر كما في نصب الراية للزيلعي (1 / 72 - ط
المجلس العلمي) .
(7/86)
وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ.
وَالْقُبْلَةُ بِالْفَمِ تَنْقُضُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَيْ
دُونَ تَقْيِيدٍ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجْدَانِهَا، إِلاَّ إِذَا
كَانَتْ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ فَلاَ تَنْقُضُ. وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ:
أَنَّ اللَّمْسَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِكُل حَالٍ؛ لِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} . (1)
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الأُْنْثَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ
تُشْتَهَى، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ فِيهِ الأَْقْوَال السَّابِقَةُ. وَلاَ يُنْتَقَضُ
الْوُضُوءُ كَذَلِكَ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى
الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (2) يُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي (وُضُوءٍ) .
حُكْمُ دُخُول الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ.
22 - يَنْبَنِي حُكْمُ دُخُول النِّسَاءِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ عَلَى
كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَسِتْرِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،
فَإِنْ كَانَتِ الْعَوْرَةُ مَسْتُورَةً، وَلاَ تَرَى وَاحِدَةٌ عَوْرَةَ
الأُْخْرَى فَالدُّخُول جَائِزٌ، وَإِلاَّ كَانَ الدُّخُول مَكْرُوهًا
تَحْرِيمًا، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا يَقُول
الْمَالِكِيَّةُ. وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ مُطْلَقًا،
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيل: يُكْرَهُ. وَقِيل: يَحْرُمُ وَلَمْ
يُجَوِّزْهُ الْحَنَابِلَةُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) ابن عابدين 1 / 99، والاختيار 1 / 10، وجواهر الإكليل 1 / 20، ونهاية
المحتاج 1 / 103، وقليوبي 1 / 32، والمغني 1 / 192 - 194.
(7/86)
قَال: سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ
الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا حَمَّامَاتٍ، فَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ
إِلاَّ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ (1) . وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ
لَهَا دُخُول الْحَمَّامِ لِعُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ.
(2)
الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَظَاهِرِ الأُْنُوثَةِ:
23 - يَعْتَنِي الإِْسْلاَمُ بِجَعْل الأُْنْثَى تُحَافِظُ عَلَى مَظَاهِرِ
أُنُوثَتِهَا، فَحَرَّمَ عَلَيْهَا التَّشَبُّهَ بِالرِّجَال فِي أَيِّ
مَظْهَرٍ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَيِّ تَصَرُّفٍ. وَقَدْ لَعَنَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ
النِّسَاءِ بِالرِّجَال. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ امْرَأَةً مَرَّتْ
عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَلِّدَةً
قَوْسًا، فَقَال: لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
بِالرِّجَال، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ. (3)
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ: تَرَجُّل
الْمَرْأَةِ وَتَخَنُّثَ الرَّجُل (4) .
وَقَدْ أَبَاحَ لَهَا الإِْسْلاَمُ أَنْ تَتَّخِذَ مِنْ وَسَائِل
الزِّينَةِ مَا يَكْفُل لَهَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى أُنُوثَتِهَا، فَيَحِل
ثَقْبُ
__________
(1) حديث: " ستفتح عليكم أرض العجم. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 102 ط عزت
عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 1233 ط الحلبي) وأعله المنذري بضعف أحد رواته
(مختصر سنن أبي داود 6 / 15 نشر دار المعرفة بيروت) .
(2) فتح القدير 8 / 97 - 108 ط الأميرية، وحاشية الحموي 2 / 171 ط العامرة،
وحاشية ابن عابدين 5 / 32، 33، وحاشية العدوي على الخرشي 7 / 43، وحاشية
البناني على الزرقاني 7 / 45، والأشباه للسيوطي ص 237 ط الحلبي، والمغني 1
/ 231 ط الرياض.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 271. وحديث: " لعن الله المتشبهات من النساء
بالرجال. . . . " أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس كما في مجمع
الزوائد (8 / 103) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه علي بن
الرازي وهو لين، وبقية رجاله ثقات.
(4) إعلام الموقعين 4 / 402.
(7/87)
أُذُنِهَا لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ فِيهِ.
يَقُول الْفُقَهَاءُ: لاَ بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ النِّسْوَانِ، وَلاَ
بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ الأَْطْفَال مِنَ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: الأُْنْثَى
مُحْتَاجَةٌ لِلْحِلْيَةِ فَثَقْبُ الأُْذُنِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهَا. (1)
وَيُبَاحُ لَهَا التَّزَيُّنُ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ دُونَ
الرِّجَال؛ لأَِنَّهُ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَرَامٌ
لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلّ
لإِِنَاثِهِمْ (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أُبِيحَ التَّحَلِّي فِي حَقِّ
الْمَرْأَةِ لِحَاجَتِهَا إِلَى التَّزَيُّنِ لِلزَّوْجِ وَالتَّجَمُّل
عِنْدَهُ. (3) كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْضِبَ يَدَيْهَا، وَأَنْ
تُعَلِّقَ الْخَرَزَ فِي شَعْرِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ
الزِّينَةِ. (4)
وُجُوبُ التَّسَتُّرِ وَعَدَمُ الاِخْتِلاَطِ بِالرِّجَال الأَْجَانِبِ:
24 - إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ لِحَاجَتِهَا لاَ تَخْرُجُ إِلاَّ
مُتَسَتِّرَةً. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا
الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ، وَعَدَمِ
تَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إِلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 271، والفتاوى الهندية 5 / 357، وتحفة المودود ص
125.
(2) حديث: " حرام لباس الحرير والذهب على ذكور. . . . " أخرجه أحمد (4 /
392 - ط الميمنية) والنسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي
موسى الأشعري، وهو صحيح لطرقه.
(3) ابن عابدين 5 / 224، ومنح الجليل 1 / 33، والمغني 1 / 77، 588، 591.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 359، والفواكه الدواني 2 / 403.
(7/87)
وَالاِسْتِمَالَةِ، (1) قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} (2) .
قَال مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ
الرِّجَال، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَال قَتَادَةَ: كَانَتْ
لَهُنَّ مِشْيَةُ تَكَسُّرٍ وَتَغَنُّجٍ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ (3) .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا أَمَامَ
النَّاسِ مِمَّا يَظْهَرُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهَا الْوَاجِبِ
سِتْرُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ؛ لأَِنَّهُ
إِذَا اسْتَبَانَ جَسَدُهَا كَانَتْ كَاسِيَةً عَارِيَّةً حَقِيقَةً. (4)
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ: سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ
عَارِيَّاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ، الْعَنُوهُنَّ
فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ. (5)
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: لاَ يَلْبَسُ النِّسَاءُ مِنَ الرَّقِيقِ
مَا يَصِفُهُنَّ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَالْخُرُوجُ لَيْسَ
بِقَيْدٍ، وَحَاصِل الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ
مَا يُرَى مِنْهُ جَسَدُهَا بِحَضْرَةِ مَنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ. (6)
وَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْتِيَ مِنَ الأَْعْمَال مَا يُلْفِتُ
النَّظَرَ إِلَيْهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الاِفْتِتَانُ بِهَا، قَال
تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ
مِنْ زِينَتِهِنَّ} (7) قَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 665، والفواكه الدواني 2 / 409.
(2) سورة الأحزاب / 33.
(3) مختصر تفسير ابن كثير 2 / 92، 3 / 599، 600.
(4) بدائع الصنائع 5 / 123.
(5) حديث: " سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات. . . " أخرجه أحمد (2 /
223 - ط الميمنية) وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الثلاثة، ورجال
أحمد رجال الصحيح. (مجمع الزوائد 5 / 1371 - ط القدسي) .
(6) الفواكه الدواني 2 / 406.
(7) سورة النور / 31.
(7/88)
ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، وَفِي رِجْلِهَا
خَلْخَالٌ صَامِتٌ لاَ يُعْلَمُ صَوْتُهُ، ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الأَْرْضَ
فَيَسْمَعُ الرِّجَال طَنِينَهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مِثْل ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ
زِينَتِهَا مَسْتُورًا، فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ مَا هُوَ
خَفِيٌّ دَخَل فِي هَذَا النَّهْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ} .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْهَى عَنِ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ
خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا فَيَشُمُّ الرِّجَال طِيبَهَا، فَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل عَيْنٍ زَانِيَةٌ،
وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا
وَكَذَا (1) يَعْنِي زَانِيَةً.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنْهَيْنَ عَنِ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ
الطَّرِيقِ؛ لِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ الأَْنْصَارِيُّ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ النِّسَاءُ مَعَ
الرِّجَال فِي الطَّرِيقِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ
تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ. (2)
وَلاَ تَجُوزُ خَلْوَةُ الْمَرْأَةِ بِالأَْجْنَبِيِّ وَلَوْ فِي عَمَلٍ،
وَالْمُرَادُ بِالْخَلْوَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ
مَعَ الرَّجُل فِي مَكَان يَأْمَنَانِ فِيهِ مِنْ دُخُول ثَالِثٍ. (ر:
خَلْوَةٌ) .
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُل امْرَأَةً
حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ
بِالْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ. (3) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حديث: " كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت. . . . " أخرجه أحمد (4 /
418 - ط الميمنية) والترمذي (5 / 106 - ط الحلبي) وقال: حسن صحيح.
(2) مختصر تفسير ابن كثير 2 / 602. وحديث: " استأخرن فإنه ليس لكن. . . . "
أخرجه أبو داود (5 / 422 ط عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة (ميزان
الاعتدال للذهبي 2 / 265 ط الحلبي) .
(3) بدائع الصنائع 4 / 189، والفواكه الدواني 2 / 438، ومنتهى الإرادات 3 /
7، والمغني 6 / 53، والأحكام السلطانية للماوردي 248، 257، والتبصرة بهامش
فتح العلي 1 / 296.
(7/88)
لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ
كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا (1) . وَيُمْنَعُ الاِخْتِلاَطُ
الْمُرِيبُ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ
فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَطٌ (2)) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَخُصُّ النِّسَاءَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَةِ:
25 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي
أَهْلِيَّةِ الْعِبَادَةِ.
إِلاَّ أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً بِالتَّسَتُّرِ وَعَدَمِ
الاِخْتِلاَطِ الْمُرِيبِ بِالرِّجَال الأَْجَانِبِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ
بِبَعْضِ الأَْحْكَامِ فِي عِبَادَاتِهَا. (3) وَمِنْ ذَلِكَ:
(1) الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ: فَالأَْصْل أَنَّهَا لاَ تُؤَذِّنُ وَلاَ
تُقِيمُ (ر: أَذَانٌ. إِقَامَةٌ) .
(2) وَلاَ تَؤُمُّ الرِّجَال، بَل يُكْرَهُ لَهَا عِنْدَ بَعْضِ
الْمَذَاهِبِ أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ. (4) (ر: إِمَامَةٌ) .
(3) وَمِنْهَا صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامَةِ إِحْدَاهُنَّ، فَالأَْصْل
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ
مَشْرُوعَةٍ لَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَال، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِنَدْبِهَا لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ
يَؤُمَّهُنَّ رِجَالٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة. . . . ". سبق تخريجه ف / 15.
(2) الموسوعة الفقهية في الكويت 2 / 290.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 262 - 264، والعناية شرح الهداية 1 / 221 ط دار
إحياء التراث، وحاشية الدسوقي 1 / 195، 200، ونهاية المحتاج 1 / 388، 389،
والمغني 1 / 413، 422، وكشاف القناع 1 / 232، 236.
(4) الاختيار 1 / 58، وجواهر الإكليل 1 / 78، والأحكام السلطانية للماوردي
ص 102، ولأبي يعلى ص 81، والمغني لابن قدامة 2 / 199 ط الرياض، ومنتهى
الإرادات 1 / 260، 263، والمجموع شرح المهذب 4 / 135، 136 ط المكتبة
العالمية بالفجالة تحقيق محمد نجيب المطيعي.
(7/89)
يُنْظَرُ فِي (صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ) .
(4) وَمِنْهَا حُضُورُ الْمَرْأَةِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلاَةَ
الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال: فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
حُضُورُ الْمَرْأَةِ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال فِي الْمَسْجِدِ،
وَكَذَا حُضُورُهَا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ. (1) وَانْظُرْ
لِلتَّفْصِيل (صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ. صَلاَةَ الْجُمُعَةِ. صَلاَةَ
الْعِيدَيْنِ) .
هـ - هَيْئَتُهَا فِي الصَّلاَةِ:
26 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ فِي عَمَل
الْعِبَادَاتِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْهَيْئَاتِ
فِي الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
يُسْتَحَبُّ أَنْ تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ،
فَتَضُمَّ مِرْفَقَيْهَا إِلَى الْجَنْبَيْنِ وَلاَ تُجَافِيهِمَا،
وَتَنْحَنِيَ قَلِيلاً فِي رُكُوعِهَا، وَلاَ تَعْتَمِدَ، وَلاَ تُفَرِّجَ
بَيْنَ أَصَابِعِهَا، بَل تَضُمُّهَا، وَتَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى
رُكْبَتَيْهَا، وَتَحْنِي رُكْبَتَهَا، وَتُلْصِقُ مِرْفَقَيْهَا
بِرُكْبَتَيْهَا.
وَفِي سُجُودِهَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهَا، وَتَنْضَمُّ وَتَلْزَقُ
بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَسْتُرُ لَهَا، فَلاَ يُسَنُّ
لَهَا التَّجَافِي كَالرِّجَال؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى امْرَأَتَيْنِ
تُصَلِّيَانِ، فَقَال: إِذَا سَجَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إِلَى
بَعْضٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُل (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 447، والفواكه الدواني 1 / 246، والمجموع 4 / 82، 83،
ومغني المحتاج 1 / 229، 230، ومنتهى الإرادات 1 / 245، والمغني 2 / 200،
202، 203.
(2) حديث: " إذا سجدتما فضما بعض اللحم. . . . " أخرجه أبو داود في مراسيله
كما في تحفة الأشراف للمزي (13 / 419 - ط الدار القيمة) من حديث يزيد بن
أبي حبيب مرسلا وإسناده ضعيف لإرساله.
(7/89)
وَلأَِنَّهَا عَوْرَةٌ فَالأَْلْيَقُ بِهَا
الاِنْضِمَامُ. كَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُكَثِّفَ جِلْبَابَهَا
وَتُجَافِيَهُ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً، لِئَلاَّ تَصِفَهَا ثِيَابُهَا،
وَأَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا، وَتَجْلِسَ مُتَرَبِّعَةً؛ لأَِنَّ ابْنَ
عُمَرَ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ
تَسْدُل رِجْلَيْهَا عَنْ يَمِينِهَا، وَهُوَ أَفْضَل مِنَ التَّرَبُّعِ؛
لأَِنَّهُ غَالِبُ فِعْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
وَأَشْبَهُ بِجِلْسَةِ الرَّجُل، وَهُوَ مَا قَالَهُ الإِْمَامُ
الشَّافِعِيُّ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ.
كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ عَقِبَ الصَّلاَةِ
قَبْل الرِّجَال، حَتَّى لاَ يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَال.
فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي
تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَبْل أَنْ يَقُومَ.
قَالَتْ: نَرَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ
يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْل أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَال (1) .
و الْحَجُّ:
27 - مَا يَتَّصِل بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: بِالنِّسْبَةِ لِلْوُجُوبِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي:
مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ - بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ
وَغَيْرِهِمَا - مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ مُطْلَقًا، وَيُزَادُ
عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ
أَوْ مَحْرَمٌ؛ لِلأَْحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا
بِاتِّفَاقٍ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 339، والبدائع 1 / 210، وحاشية الدسوقي 1 / 243، 249،
250، والمهذب 1 / 82، 83، والمجموع 3 / 455، 456، ومنتهى الإرادات 1 / 193،
وكشاف القناع 1 / 364، 394، والمغني 1 / 560، 562. والحديث: " كان إذا سلم
النبي صلى الله عليه وسلم قام النساء. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 /
334 ط السلفية) .
(7/90)
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي
وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ. فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
عَلَيْهَا الْحَجُّ؛ لأَِنَّهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ وَلاَ
مَحْرَمٌ لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، إِذِ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ،
إِلاَّ مَا ذُبَّ عَنْهُ. (1) وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ
فِي (حَجٌّ) .
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ، أَمَّا النَّفَل فَلاَ
يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ لَهُ دُونَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ. (2)
الثَّانِي: بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الأَْعْمَال فَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل
فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إِلاَّ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ
فِي بَعْضِ الأَْعْمَال وَمِنْ ذَلِكَ:
- أَنَّهَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ كَالْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيل
وَالْخُفَّيْنِ وَمَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا؛ لأَِنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ،
وَلاَ تَنْتَقِبُ وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ (3) . وَفِي ذَلِكَ
خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (ر: إِحْرَامٌ) .
- وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ رَمَلٌ فِي طَوَافِهَا، وَلاَ إِسْرَاعٌ
بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ فِي السَّعْيِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا
اضْطِبَاعٌ أَيْضًا (4) .
وَالْمَشْرُوعُ لِلْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ (5) . (ر:
حَجٌّ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 146، والبدائع 2 / 123، والمغني 3 / 236، 237، وكشاف
القناع 2 / 394، 395.
(2) منح الجليل 1 / 440، والدسوقي 2 / 9، ومغني المحتاج 1 / 467، والمجموع
شرح المهذب 7 / 60، 61 نشر مكتبة الإرشاد، والمغني 3 / 237.
(3) البدائع 2 / 185، 186، وابن عابدين 2 / 190، ومنح الجليل 1 / 503،
ومغني المحتاج 1 / 519، والمجموع 7 / 329، والمغني 3 / 328، 329.
(4) ابن عابدين 2 / 190، وحاشية الدسوقي 2 / 41، 54، 55، والمجموع 7 / 330،
والمغني 3 / 394، 372.
(5) البدائع 2 / 141، والدسوقي 2 / 46، والمهذب 1 / 235، والمغني 3 / 439،
ومنح الجليل 1 / 481، ونهاية المحتاج 3 / 264، والمغني 3 / 330.
(7/90)
- وَلاَ تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا
بِالتَّلْبِيَةِ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا. (ر: حَجٌّ.
تَلْبِيَةٌ) .
ز - الْخُرُوجُ مِنَ الْمَنْزِل:
28 - إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً فَإِنَّهَا تَرْتَبِطُ فِي
خُرُوجِهَا مِنَ الْمَنْزِل بِإِذْنِ زَوْجِهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ
قَال: رَأَيْتُ امْرَأَةً أَتَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى
زَوْجَتِهِ؟ قَال: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَنْ لاَ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا
إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَهَا اللَّهُ وَمَلاَئِكَةُ
الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْغَضَبِ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَرْجِعَ (1) ؛
وَلأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَيْسَ
بِوَاجِبٍ.
وَخُرُوجُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا يَجْعَلُهَا نَاشِزًا،
وَيُسْقِطُ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ لاَ
يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا
وَعِيَادَتِهِمَا؛ لأَِنَّ عَدَمَ الزِّيَارَةِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوقِ
وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
كَذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ
وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَدُرُوسِ الْوَعْظِ؛ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ
اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا اسْتَأْذَنَتْ
أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا (2) .
__________
(1) حديث: " حق الزوج على زوجته أن لا تخرج. . . " أخرجه البزار وفي إسناده
حسين بن قيس وهو ضعيف، كما في مجمع الزوائد (4 / 307 - ط القدسي) .
(2) حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ". . أخرجه أبو داود (1 / 382
ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 209 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه
ووافقه الذهبي.
(7/91)
لَكِنْ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا أَمِنَ
عَلَيْهَا، وَكَانَ لاَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ خُرُوجِهَا، فَإِنْ كَانَ
يَخْشَى الْفِتْنَةَ فَلَهُ مَنْعُهَا. وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو
الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا وَلَوْ عَجُوزًا لِفَسَادِ الزَّمَانِ؛ لِمَا
رُوِيَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ
نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل (1) .
ح - التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ:
29 - الزَّوْجَةُ مُرْتَبِطَةٌ كَذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فِي
التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا إِذَا كَانَ زَوْجُهَا
حَاضِرًا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ
اعْتِكَافٍ بِدُونِ إِذْنِهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا عَنْ
حَقِّهِ؛ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ
بِنَفْلٍ؛ وَلأَِنَّ لَهُ حَقَّ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلاَ يُمْكِنُهُ
ذَلِكَ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ أَوِ الْحَجِّ أَوِ الاِعْتِكَافِ، وَقَدْ
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ
تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ أَيْ حَاضِرٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (2) . رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِصَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوِ اعْتِكَافٍ دُونَ إِذْنِهِ
فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَهَا فِي الصَّوْمِ، وَيُحَلِّلَهَا مِنَ الْحَجِّ،
وَيُخْرِجَهَا مِنَ الاِعْتِكَافِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 380، والبدائع 2 / 331، والهداية 2 / 40، والدسوقي 2 /
343، ومنح الجليل 1 / 224، والمهذب 2 / 67، والمجموع 4 / 83، والمغني 7 /
20، ومنتهى الإرادات 1 / 253. وحديث عائشة: " لو أن رسول الله رأى ما أحدث
النساء. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 349 ط السلفية) .
(2) حديث: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 9 / 295 ط السلفية) .
(7/91)
غَيْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَانَ
لِرَبِّ الْحَقِّ الْمَنْعُ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الصَّوْمَ الرَّاتِبَ
كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، فَلاَ يَمْنَعْهَا مِنْهُ لِتَأَكُّدِهِ،
وَكَذَلِكَ صَلاَةُ النَّفْل الْمُطْلَقِ لِقِصَرِ زَمَنِهِ.
وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ أَوِ اعْتِكَافٍ
أَوْ حَجٍّ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَهُ أَنْ
يَمْنَعَهَا مِنَ الصَّوْمِ أَوِ الاِعْتِكَافِ وَلَوْ كَانَتْ شُرِعَتْ
فِيهِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ
لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُنَّ فِي
الاِعْتِكَافِ، ثُمَّ مَنَعَهُنَّ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلْنَ فِيهِ،
فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ
مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ
حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ
ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا.
قَالَتْ: وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ، فَأَبْصَرَ الأَْبْنِيَةَ فَقَال: مَا
هَذَا؟ قَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ. فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟
مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ. (1)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا
أَذِنَ لَهَا فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَهِيَ
مِنْ أَهْل الْمِلْكِ فَلاَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ. وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا لَمْ تَشْرَعْ فِي
الْعِبَادَةِ، فَإِنْ شَرَعَتْ فَلاَ يَمْنَعْهَا.
وَمَا أَوْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا بِنَذْرٍ، فَإِنْ كَانَ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ
لَهُ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر.
. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 285 ط السلفية) ومسلم (2 / 831 ط
الحلبي) .
(7/92)
مَنْعُهَا مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُبْهَمٍ، فَلَهُ الْمَنْعُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا دَخَلَتْ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالأُْنْثَى مِنْ أَحْكَامِ الْوِلاَيَاتِ:
30 - الْوِلاَيَاتُ - كَالإِْمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوِصَايَةِ
وَالْحَضَانَةِ وَغَيْرِهَا - مَنَاصِبُ تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْدَادَاتٍ
خَاصَّةٍ، بَدَنِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ، كَالْقُوَّةِ وَالْكِفَايَةِ
وَالْخِبْرَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْحَنَانِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ.
وَتَخْتَلِفُ الْوِلاَيَاتُ عَنْ بَعْضِهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ
صِفَاتٍ.
وَإِذَا كَانَ الرِّجَال مُقَدَّمِينَ فِي بَعْضِ الْمَنَاصِبِ عَلَى
النِّسَاءِ، فَذَلِكَ لِفَارِقِ التَّكْوِينِ الطَّبِيعِيِّ لِكُلٍّ
مِنْهُمَا، وَلِمَا مَنَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُل جِنْسٍ مِنْ
صِفَاتٍ خَاصَّةٍ.
وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ النِّسَاءُ فِي بَعْضِ الْوِلاَيَاتِ؛ لِتَنَاسُبِهَا
مَعَ تَكْوِينِهِنَّ وَاسْتِعْدَادِهِنَّ الْفِطْرِيِّ.
قَال الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُل
وِلاَيَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ،
فَيُقَدَّمُ فِي وِلاَيَةِ الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَائِدِ
الْحُرُوبِ وَسِيَاسَةِ الْجُيُوشِ، وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ
أَعْرَفُ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ
الْخُصُومِ وَخَدْعِهِمْ. وَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْيَتِيمِ مَنْ هُوَ
__________
(1) البدائع 2 / 107، 108، 109، 124، وابن عابدين 2 / 122، 129، والدسوقي 1
/ 545، ومنح الجليل 1 / 417، 421، 422، ومغني المحتاج 1 / 449، 455 و 3 /
439، والمهذب 1 / 195، 197، 242، والمجموع 6 / 363، 409، والمغني 3 / 207،
208، 240، ومنتهى الإرادات 1 / 464، 476.
(7/92)
أَعْلَمُ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَال
الْيَتَامَى وَتَقْدِيرِ أَمْوَال النَّفَقَاتِ.
وَالنِّسَاءُ مُقَدَّمَاتٌ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ عَلَى الرِّجَال
لأَِنَّهُنَّ أَصْبَرُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً.
فَقُدِّمْنَ لِذَلِكَ وَأُخِّرَ الرِّجَال عَنْهُنَّ، وَأُخِّرْنَ فِي
الإِْمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَنَاصِبِ؛ لأَِنَّ
الرِّجَال أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلاَيَاتِ مِنْهُنَّ. (1)
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ الَّتِي يُقَدَّمُ فِيهَا الرِّجَال
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقْضِيَ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ،
إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَوْلِيَتُهَا الْقَضَاءَ، وَيَأْثَمُ مَنْ
يُوَلِّيهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُحَادَثَةِ الرِّجَال، وَمَبْنَى
أَمْرِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ قَضَتْ فِي
حَدٍّ وَقَوَدٍ فَرُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى جَوَازَهُ، فَأَمْضَاهُ
لَيْسَ لِغَيْرِهِ إِبْطَالُهُ. (2)
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ
الذُّكُورِيَّةُ فِي الْقَاضِي؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
مُفْتِيَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً.
وَمِنَ الْوِلاَيَاتِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ تُسْنَدَ إِلَى الأُْنْثَى:
الشَّهَادَةُ وَالْوِصَايَةُ وَنِظَارَةُ الْوَقْفِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: تَصْلُحُ الْمَرْأَةُ نَاظِرَةً لِوَقْفٍ وَوَصِيَّةً
لِيَتِيمٍ وَشَاهِدَةً، فَصَحَّ تَقْرِيرُهَا فِي النَّظَرِ وَالشَّهَادَةِ
فِي الأَْوْقَافِ. (3)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي قَوْل
أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَبِهِ قَال
مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 158 الفرق 96، وص 113، والأحكام السلطانية للماوردي
ص 65.
(2) المغني 9 / 39، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 24، والاختيار 2 / 84،
وابن عابدين 4 / 356.
(3) ابن عابدين 4 / 356.
(7/93)
وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛
لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى إِلَى حَفْصَةَ،
وَلأَِنَّهَا مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَتِ الرَّجُل. (1)
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: أُمُّ الأَْطْفَال أَوْلَى مِنْ
غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ؛ لِوُفُورِ
شَفَقَتِهَا وَخُرُوجِهَا مِنْ خِلاَفِ الإِْصْطَخْرِيِّ، فَإِنَّهُ يَرَى
أَنَّهَا تَلِي بَعْدَ الأَْبِ وَالْجَدِّ، وَكَذَا هِيَ أَوْلَى مِنَ
الرِّجَال أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ، إِذَا كَانَ فِيهَا مَا فِيهِمْ مِنَ
الْكِفَايَةِ وَالاِسْتِرْبَاحِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِلاَّ فَلاَ، قَال
الأَْذْرَعِيُّ: وَكَمْ مِنْ مُحِبٍّ مُشْفِقٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيل
الأَْرْبَاحِ وَالْمَصَالِحِ التَّامَّةِ لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ. (2)
هَذَا، وَشَهَادَتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَكُونُ فِي الأَْمْوَال
وَتَوَابِعِهَا فَقَطْ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَكُونُ فِيمَا عَدَا
الْقَوَدَ وَالْحُدُودَ، وَشَهَادَتُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ
الرَّجُل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ} (3) وَتُقْبَل شَهَادَتُهَا دُونَ الرِّجَال فِيمَا لاَ
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال. (4) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
(شَهَادَةٍ) .
وَالْوِلاَيَةُ عَلَى مَال الصَّغِيرِ تَكُونُ لِلذُّكُورِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ،
فَلَمْ تَثْبُتْ لِلأُْنْثَى، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهَا،
فَتَصِيرَ وَصِيَّةً بِالإِْيصَاءِ. وَفِي رَأْيِ الإِْصْطَخْرِيِّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ خِلاَفُ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَقَوْل الْقَاضِي
أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ
__________
(1) المغني 6 / 137.
(2) مغني المحتاج 3 / 75.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) ابن عابدين 4 / 372، والمغني 9 / 151 - 156، والفواكه الداوني 2 / 304.
(7/93)
الأُْمَّ تَكُونُ لَهَا الْوِلاَيَةُ
بَعْدَ الأَْبِ وَالْجَدِّ؛ لأَِنَّهَا أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ، وَأَكْثَرُ
شَفَقَةً عَلَى الاِبْنِ.
وَلاَ وِلاَيَةَ لِلأُْنْثَى كَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلاَ
غَيْرِهَا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلاَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا (1) .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ
ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ
تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَأَنْ تُزَوِّجَ غَيْرَهَا بِالْوِلاَيَاتِ أَوِ
الْوَكَالَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} (2) فَأَضَافَ النِّكَاحَ
وَالْفِعْل إِلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى صِحَّةِ عِبَارَتِهِنَّ
وَنَفَاذِهَا؛ لأَِنَّهُ أَضَافَهُ إِلَيْهِنَّ عَلَى سَبِيل
الاِسْتِقْلاَل، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا غَيْرَهَا، وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا، فَجَاءَ الأَْوْلِيَاءُ
وَخَاصَمُوهَا إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَجَازَ
النِّكَاحَ. وَهَذَا دَلِيل الاِنْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ،
وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا
غَائِبِينَ؛ لأَِنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَلاَ ضَرَرَ
فِيهِ لِغَيْرِهَا، فَيَنْفُذُ، كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا،
وَالْوِلاَيَةُ فِي النِّكَاحِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْهَا فِي الْمَال؛
وَلأَِنَّ النِّكَاحَ خَالِصُ حَقِّهَا، حَتَّى يُجْبَرَ الْوَلِيُّ
عَلَيْهِ عِنْدَ طَلَبِهَا، وَهِيَ أَهْلٌ لاِسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٍ) .
__________
(1) حديث: " لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها ". أخرجه الدارقطني (3
/ 277 - ط دار المحاسن) وإسناده حسن.
(2) سورة البقرة / 240.
(3) ابن عابدين 1 / 311، 312، والاختيار 3 / 90، 91، ومنح الجليل 2 / 24،
ومغني المحتاج 2 / 173، ونهاية المحتاج 4 / 363، والمهذب 1 / 335، و 2 /
36، والمقنع 2 / 141، ونيل المآرب 1 / 400، 401، والمغني 6 / 465.
(7/94)
مَا يَتَّصِل بِالْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامِ
الْجِنَايَاتِ:
31 - يَرَى عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ فِي أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي الْجُمْلَةِ، فَالأُْنْثَى
تُقْتَل بِالذَّكَرِ، وَالذَّكَرُ يُقْتَل بِالأُْنْثَى. (1) وَأَمَّا
الدِّيَاتُ، فَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ
نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل. (2)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (دِيَةٌ) .
أُنْثَى الْحَيَوَانِ
32 - تَخْتَصُّ أُنْثَى الْحَيَوَانِ بِأَحْكَامٍ مُجْمَلُهَا فِيمَا
يَلِي:
أ - زَكَاةُ الإِْبِل:
الأَْصْل فِيمَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل الإِْنَاثُ، وَيَجُوزُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَخْذُ ابْنِ
اللَّبُونِ بَدَلاً مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ عِنْدَ فَقْدِهَا، أَوْ عِنْدَ
وُجُودِهَا إِنْ كَانَتْ مَعِيبَةً، وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
فَإِنَّ الذُّكُورَ لاَ تُجْزِئُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل إِلاَّ بِقِيمَةِ
الإِْنَاثِ. هَذَا بِخِلاَفِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ
يُخَيَّرُ. (3) هَذَا، وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (زَكَاةٍ) .
ب - فِي الأُْضْحِيَّةِ:
ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ
لِلسُّيُوطِيِّ
__________
(1) البدائع 7 / 237، 310، والاختيار 5 / 27، ومنح الجليل 4 / 350، والمهذب
2 / 174، والمغني 7 / 679 ط الرياض.
(2) البدائع 7 / 254، والكافي لابن عبد البر 2 / 1109، 1110، والمهذب 2 /
198، والمغني 7 / 797، 798.
(3) ابن عابدين 2 / 16 - 18 ط المصرية، وجواهر الإكليل 1 / 119 ط دار
المعرفة، ونهاية المحتاج 3 / 48 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 2 /
185.
(7/94)
أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالذَّكَرِ أَوْلَى
مِنَ التَّضْحِيَةِ بِالأُْنْثَى فِي الْمَشْهُورِ (1) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (أُضْحِيَّةٍ) .
ج - الدِّيَةُ:
الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ الإِْبِل فَكُلُّهَا مِنَ
الإِْنَاثِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَا الدِّيَةُ الْمُخَفَّفَةُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ دُخُول الذُّكُورِ فِي الدِّيَةِ
الْمُخَفَّفَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ (دِيَةٌ) .
إِهَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْهَابُ فِي اللُّغَةِ: الْجِلْدُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
وَالْوَحْشِ مَا لَمْ يُدْبَغْ. (3)
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جِلْدَ الإِْنْسَانِ لاَ يُسَمَّى إِهَابًا.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الإِْهَابَ عَلَى مَا يُطْلِقُهُ عَلَيْهِ أَهْل
اللُّغَةِ. قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: الإِْهَابُ: اسْمٌ لِغَيْرِ
الْمَدْبُوغِ مِنَ الْجِلْدِ. (4)
وَالْجِلْدُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَدْبُوغًا أَوْ غَيْرَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 238 ط الحلبي.
(2) ابن عابدين 5 / 368 ط المصرية، وجواهر الإكليل 2 / 265 ط دار المعرفة،
والروضة 9 / 255 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 6 / 19.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) فتح القدير 1 / 65، طبع بولاق، والنهاية في غريب الحديث، وعمدة القارئ
21 / 133، الطبعة المنيرية.
(7/95)
مَدْبُوغٍ. وَاسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
الْجِلْدَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، فَيَشْمَل جِلْدَ
الإِْنْسَانِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالإِْهَابِ:
أ - جِلْدُ الْمُذَكَّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً:
2 - الْحَيَوَانَاتُ عَلَى نَوْعَيْنِ: حَيَوَانَاتٌ مَأْكُولَةُ
اللَّحْمِ، وَحَيَوَانَاتٌ غَيْرُ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ.
فَالْحَيَوَانَاتُ مَأْكُولَةُ اللَّحْمِ إِذَا ذُبِحَتِ الذَّبْحَ
الشَّرْعِيَّ كَانَ جِلْدُهَا طَاهِرًا بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ
يُدْبَغْ.
أَمَّا الْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ فَهِيَ عَلَى
نَوْعَيْنِ أَيْضًا: نَجِسَةٌ فِي حَال الْحَيَاةِ، وَطَاهِرَةٌ.
أَمَّا نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَهِيَ الْخِنْزِيرُ بِالاِتِّفَاقِ،
وَالْكَلْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ
لاَ تُطَهِّرُ جِلْدَهَا.
وَأَمَّا غَيْرُ نَجِسَةِ الْعَيْنِ مِمَّا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْهِيرِ إِهَابِهَا بِالذَّكَاةِ، فَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالذَّبْحِ،
وَحُجَّةُ هَؤُلاَءِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ (2) وَرُكُوبِ
النُّمُورِ (3) . وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُذَكَّى وَغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ
ذَبْحٌ لاَ يُطَهِّرُ اللَّحْمَ فَلَمْ يُطَهِّرِ الْجِلْدَ،
__________
(1) المصباح المنير، وانظر لسان العرب، ومفردات الراغب الأصفهاني مادة:
(جلد) .
(2) حديث: " نهى عن جلود السباع. . . . " أخرجه أحمد (5 / 74، 75 ط المكتب
الإسلامي) ، وأبو داود في اللباس (4 / 374 / 4132 ط الدعاس) ، والحاكم في
الطهارة (1 / 144 ط الكتاب العربي) وصحح إسناده ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " نهى عن ركوب النمار. . . . " أخرجه أبو داود في الخاتم (4 /
437 / 4239) ط عزت الدعاس، وابن ماجه في اللباس (2 / 1205 / 3656) وصححه
الشوكاني في النيل (2 / 88) .
(7/95)
كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ أَوْ أَيِّ ذَبْحٍ
غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَأَشْبَهَ الأَْصْل، ثُمَّ إِنَّ الدَّبْغَ إِنَّمَا
يُؤَثِّرُ فِي مَأْكُول اللَّحْمِ فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الإِْهَابِ
بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِقَوْل رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دِبَاغُ الأَْدِيمِ ذَكَاتُهُ (1) ؛
وَلأَِنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَل عَمَل الدِّبَاغِ فِي إِزَالَةِ
الرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، أَمَّا النَّهْيُ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ
السِّبَاعِ وَرُكُوبِ النُّمُورِ فَلأَِنَّ ذَلِكَ مَرَاكِبُ أَهْل
الْخُيَلاَءِ، أَوْ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ
أَنْ تُدْبَغَ. (2)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ إِهَابَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لاَ
يَحْتَمِل الدِّبَاغَةَ، كَإِهَابِ الْفَأْرَةِ، وَإِهَابِ الْحَيَّةِ
الصَّغِيرَةِ - لاَ ثَوْبَهَا - فَإِنَّهُ لاَ تُطَهِّرُهُ الذَّكَاةُ. (3)
ب - إِهَابُ الْمَيْتَةِ:
3 - إِهَابُ الْمَيْتَةِ نَجَسٌ بِلاَ خِلاَفٍ، (4) وَلاَ يَجُوزُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ قَبْل الدِّبَاغِ بِالاِتِّفَاقِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ مِنْ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ
بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْل الدِّبَاغِ، (5) فَإِذَا دُبِغَ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
__________
(1) حديث: " دباغ الأديم ذكاته " أخرجه أحمد (3 / 476) ط المكتب الإسلامي،
والحاكم في الأشربة 1 / 141) ط دار الكتاب العربي. وقال: وهذا حديث صحيح
الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1 / 49) :
إسناده صحيح.
(2) نيل الأوطار 1 / 75 طبع مصطفى البابي الحلبي.
(3) فتح القدير 1 / 66، وحاشية ابن عابدين 1 / 136 وما بعدها، طبعة بولاق
الأولى، والمغني 1 / 71، وما بعدها، ومواهب الجليل 1 / 88، نشر دار الفكر
في بيروت، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 15، وأسنى المطالب 1 / 17.
(4) المغني 1 / 66.
(5) عمدة القارئ 21 / 133.
(7/96)
فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ عَلَى
اتِّجَاهَاتٍ.
4 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنَ الْجُلُودِ
بِالدِّبَاغَةِ، وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، قَال
النَّوَوِيُّ: وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -
وَلَيْسَ بِمُحَرَّرٍ عَنْهُ كَمَا حَقَّقْنَاهُ - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ
بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال قَبْل مَوْتِهِ بِشَهْرٍ: لاَ
تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ. (1)
5 - الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ جُلُودَ الْمَيْتَةِ كُلِّهَا -
وَمِنْهَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ - تَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ ظَاهِرًا
وَبَاطِنًا، وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَرْوِيٌّ عَنِ الإِْمَامِ أَبِي يُوسُفَ
صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَصَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْل
الأَْوْطَارِ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ، إِذْ أَنَّ
الأَْحَادِيثَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ خِنْزِيرٍ وَغَيْرِهِ.
6 - الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جُلُودُ جَمِيعِ
الْحَيَوَانَاتِ الْمَيِّتَةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، وَيَطْهُرُ
بِالدِّبَاغِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ وَبَاطِنُهُ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي
الأَْشْيَاءِ الْيَابِسَةِ وَالْمَائِعَةِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
مَأْكُول اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (2) ، وَأَمَّا
اسْتِثْنَاءُ الْخِنْزِيرِ فَقَدْ كَانَ بِقَوْلِهِ
__________
(1) حديث: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. . . . " أخرجه أبو
داود في الفروع (7 / 175) ط الحلبي، وضعفه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير
(1 / 48) .
(2) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر. . . " أخرجه مسلم في الحيض (1 / 277 /
366) ط البابي الحلبي.
(7/96)
تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) حَيْثُ جَعَلُوا الضَّمِيرَ فِي (إِنَّهُ) عَائِدًا
إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ (خِنْزِيرٍ) .
7 - الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: كَالثَّالِثِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا:
إِنَّ الدِّبَاغَةَ لاَ تُطَهِّرُ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ، حَيْثُ
قَاسُوا الْكَلْبَ عَلَى الْخِنْزِيرِ لِلنَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
8 - الاِتِّجَاهُ الْخَامِسُ: كَالثَّالِثِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا:
إِنَّ الدِّبَاغَةَ لاَ تُطَهِّرُ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ
وَالْفِيل، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ
أَبِي حَنِيفَةَ.
9 - الاِتِّجَاهُ السَّادِسُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جِلْدُ مَأْكُول
اللَّحْمِ وَلاَ يَطْهُرُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَْوْزَاعِيِّ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهْوَيْهِ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأُْهُبِ دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا (2) أَيْ
كَذَكَاتِهَا (وَالذَّكَاةُ) الْمُشَبَّهُ بِهَا فِي الْحَدِيثِ لاَ يَحِل
بِهَا غَيْرُ الْمَأْكُول، فَكَذَلِكَ (الدِّبَاغُ) الْمُشَبَّهُ لاَ
يُطَهِّرُ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُول.
10 - الاِتِّجَاهُ السَّابِعُ: يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ظَاهِرُ جِلْدِ
الْمَيْتَةِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يَحِل الاِنْتِفَاعُ
بِهِ فِي الأَْشْيَاءِ الْيَابِسَةِ دُونَ الْمَائِعَةِ، وَهُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الإِْمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَشَبِيهٌ بِهَذَا الاِتِّجَاهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ جَوَازُ الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ
الْمَدْبُوغِ فِي الْيَابِسَاتِ. (3)
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) حديث: " دباغها ذكاتها. . . . " أخرجه أحمد (3 / 476) ط المكتب
الإسلامي، قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (1 / 49) : إسناده صحيح.
(3) عمدة القارئ 21 / 133، وشرح النووي لصحيح مسلم 4 / 54 طبع المطبعة
المصرية، ونيل الأوطار 1 / 77 طبع مصطفى البابي الحلبي، والإفصاح 1 / 51،
ومشكل الآثار 1 / 71، ومصنف عبد الرزاق 1 / 77 طبع المكتب الإسلامي في
بيروت، وحاشية ابن عابدين 1 / 136، وفتح القدير 1 / 63، وبدائع الصنائع 1 /
270، طبع مطبعة الإمام وما بعدها، وآثار أبي يوسف 231، والتاج والإكليل
بهامش مواهب الجليل 1 / 101، والشرح الصغير 1 / 52، وأسنى المطالب 1 / 18،
وحاشية قليوبي 1 / 18، والمغني 1 / 66، وما بعدها، والمجموع شرح المهذب 1 /
214 وما بعدها نشر المكتبة السلفية في المدينة المنورة.
(7/97)
ذَبْحُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول
مِنْ أَجْل إِهَابِهِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حِل ذَبْحِ أَوْ صَيْدِ غَيْرِ مَأْكُول
اللَّحْمِ مِنْ أَجْل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ
رِيشِهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَبْحِ مَا لاَ يُؤْكَل،
كَبَغْلٍ وَحِمَارٍ لِلاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ (1) ؛ لِلنَّهْيِ عَنْ
ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى حِل اصْطِيَادِ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ؛
لِمَنْفَعَةِ جِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ؛ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ
غَايَةٌ مَشْرُوعَةٌ. (3) وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ مُسَوِّغًا لِذَكَاةِ مَا
لاَ يُؤْكَل. (4) وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي
ذَلِكَ.
بَيْعُ الْحَيَوَانِ مِنْ أَجْل إِهَابِهِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 18.
(2) النهي عن ذبح الحيوان. . . . . أصله حديث: " ما من إنسان يقتل عصفورا
فما فوقها بغير حقها، إلا سأله الله عز وجل عنها. قيل: يا رسول الله وما
حقها؟ قال: يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي بها ". أخرجه النسائي في
الصيد (7 / 207) وضعفه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (4 / 154) لأن في
سنده صهيب مولى ابن عامر ونقل عن ابن القطان تضعيفه.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 305.
(4) الدسوقي 2 / 108.
(7/97)
لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ حَيًّا مِنْ أَجْل
إِهَابِهِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَفِي ذَلِكَ
يَقُول الْقَاضِي زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: بَيْعُ غَيْرِ الْجَوَارِحِ
الْمُعَلَّمَةِ كَالأَْسَدِ وَالذِّئْبِ بَاطِلٌ، وَلاَ نَظَرَ
لِمَنْفَعَةِ الْجِلْدِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلاَ لِمَنْفَعَةِ الرِّيشِ.
(1)
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لاَ يُبِيحُونَ
ذَبْحَ الْحَيَوَانِ مِنْ أَجْل جِلْدِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ
الَّذِي لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ حَيًّا، كَالسَّبُعِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ
وَالْهِرِّ وَنَحْوِهِ لِلْجِلْدِ (2) ؛ لأَِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا
الاِنْتِفَاعَ بِالْجِلْدِ مَنْفَعَةً مَشْرُوعَةً مَقْصُودَةً، فَصَارَ
الْحَيَوَانُ مُنْتَفَعًا بِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ.
سَلْخُ إِهَابِ الذَّبِيحَةِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ سَلْخِ إِهَابِ الذَّبِيحَةِ
قَبْل زَهُوقِ رُوحِهَا؛ لِنَهْيِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بُدَيْل بْنُ وَرْقَاءَ
الْخُزَاعِيُّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى: لاَ
تُعَجِّلُوا الأَْنْفُسَ أَنْ تُزْهَقَ (3) . وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ
زِيَادَةِ أَلَمِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إِحْسَانِ الذِّبْحَةِ
الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ (4) . فَإِنْ
سَلَخَ إِهَابَهَا
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 10.
(2) الشرح الصغير 3 / 24، وطبع كشاف القناع 3 / 156، وابن عابدين 4 / 7 ط
بولاق.
(3) حديث: " ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق. . . . " أخرجه الدارقطني في
الصيد (4 / 283 / 45) ط دار المحاسن. وقد نوه بضعفه البيهقي في الضحايا (9
/ 278) .
(4) حديث: " وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. . . . ". أخرجه مسلم في الصيد (3 /
1548 / 1955) ط الحلبي، والترمذي في الديات (4 / 23 / 1409) ط أحمد شاكر.
(7/98)
قَبْل أَنْ تُزْهَقَ رُوحُهَا فَقَدْ
أَسَاءَ، وَجَازَ أَكْلُهَا؛ لأَِنَّ زِيَادَةَ أَلَمِهَا لاَ تَقْتَضِي
تَحْرِيمَ أَكْلِهَا (1) .
بَيْعُ إِهَابِ الأُْضْحِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ
الإِْهَابَ وَلاَ شَيْءَ مِنَ الأُْضْحِيَّةِ إِلَى الْجَزَّارِ أُجْرَةً
لَهُ عَلَى ذَبْحِهَا.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ بَيْعِ جِلْدِ الأُْضْحِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ،
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مُقَايَضَةً
بِآلَةِ الْبَيْتِ كَالْغِرْبَال وَالْمُنْخُل وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا
تَبْقَى عَيْنُهُ دُونَ مَا يُسْتَهْلَكُ؛ لأَِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ
وَغَيْرُهُ، فَجَرَى مَجْرَى تَفْرِيقِ اللَّحْمِ، فَإِنْ بَاعَهُ
بِدَرَاهِمَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَ، إِلاَّ أَنْ يَتَصَدَّقَ
بِالثَّمَنِ فَلاَ يُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
وَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ إِهَابِ الأُْضْحِيَّةِ مُطْلَقًا لاَ
بِآلَةِ الْبَيْتِ وَلاَ بِغَيْرِهَا. (2)
أَمَّا الْكَلاَمُ عَنْ دِبَاغِ الإِْهَابِ فَيُنْظَرُ فِي (دِبَاغَةٌ) .
__________
(1) شرح الزرقاني على خليل 3 / 17، وأسنى المطالب 1 / 554، وتبيين الحقائق
شرح كنز الدقائق 5 / 292 نشر دار المعرفة في بيروت، كشاف القناع 6 / 211.
(2) الإفصاح 1 / 203، وما بعدها، والمغني 8 / 634 وما بعدها، وابن عابدين 5
/ 208، وأسنى المطالب 1 / 546.
(7/98)
إِهَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْهَانَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَهَانَ، وَأَصْل الْفِعْل هَانَ
بِمَعْنَى ذَل وَحَقُرَ، وَفِيهِ مَهَانَةٌ أَيْ: ذُلٌّ وَضَعْفٌ،
وَالإِْهَانَةُ مِنْ صُوَرِ الاِسْتِهْزَاءِ وَالاِسْتِخْفَافِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنِ الاِسْتِخْفَافِ فِي مُصْطَلَحِهِ (ج 3 248)
.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الإِْهَانَةُ تُعْتَبَرُ مَدْلُولاً لِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ
الْقَوْلِيَّةِ كَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، أَوِ الْفِعْلِيَّةِ كَالضَّرْبِ
وَمَا شَابَهَهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، وَهِيَ تَرِدُ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ:
الأَْوَّل: بِاعْتِبَارِ أَنَّ الإِْهَانَةَ مَدْلُولٌ لِتَصَرُّفَاتٍ
تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ.
3 - وَبِذَلِكَ تَكُونُ الإِْهَانَةُ أَمْرًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيَكُونُ
الْحُكْمُ بِحَسَبِ قَدْرِ الْمُهَانِ، وَبِحَسَبِ عِظَمِ الإِْهَانَةِ
وَصِغَرِهَا.
فَالإِْهَانَةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ
كَالسُّجُودِ لِصَنَمٍ، أَوْ إِلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَاذُورَةٍ، أَوْ
كِتَابَتِهِ بِنَجَسٍ، أَوْ سَبِّ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ، أَوْ
تَحْقِيرِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(7/99)
شَيْءٍ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ
بِالضَّرُورَةِ تُعْتَبَرُ كُفْرًا. (1) (ر: رِدَّةٌ - اسْتِخْفَافٌ) .
وَالإِْهَانَةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالنَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ سَبٍّ
وَشَتْمٍ وَضَرْبٍ، تُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً. (2) (ر: قَذْفٌ، تَعْزِيرٌ،
اسْتِخْفَافٌ) .
عَلَى أَنَّ مِنَ الأَْفْعَال مَا يَكُونُ فِي ظَاهِرِهِ إِهَانَةً، لَكِنِ
الْقَصْدُ أَوِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْقَرَائِنُ تُبْعِدُهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَالْبُصَاقُ عَلَى اللَّوْحِ لاَ يُعْتَبَرُ إِهَانَةً، إِذَا قَصَدَ بِهِ
الإِْعَانَةَ عَلَى مَحْوِ الْكِتَابَةِ. (3)
وَلَوْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الْغَرَقِ، وَاحْتِيجَ إِلَى إِلْقَاءِ
حِمْلٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ مَثَلاً جَازَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ حِفْظَ الرُّوحِ
مُقَدَّمٌ، وَالضَّرُورَةُ تَمْنَعُ كَوْنَهُ امْتِهَانًا. (4)
الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ:
4 - فَتَكُونُ الإِْهَانَةُ عُقُوبَةً مُقَرَّرَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
بِالْقَوْل أَمْ بِالْفِعْل.
فَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكُفَّارِ تَكُونُ مَعَ الإِْهَانَةِ لَهُمْ.
(5) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ} (6) .
وَكَإِهَانَةِ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ بِشَتْمٍ مَثَلاً، جَاءَ
__________
(1) الحطاب وبهامشه المواق 6 / 285 - 289 ط النجاح ليبيا، ونهاية المحتاج 7
/ 396 ط المكتبة الإسلامية، وابن عابدين 3 / 292، 299 وما بعدها، والآداب
الشرعية 2 / 297 ط الرياض، ومنتهى الإرادات 1 / 73.
(2) ابن عابدين 3 / 183، 187، 190، 191، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2
/ 307 ط دار المعرفة.
(3) قليوبي 1 / 67 ط الحلبي.
(4) ابن عابدين 1 / 125.
(5) منح الجليل 1 / 759، وقليوبي 4 / 232.
(6) سورة التوبة / 29.
(7/99)
فِي مِنَحِ الْجَلِيل: مَنْ شَتَمَ رَجُلاً
بِقَوْلِهِ لَهُ: يَا كَلْبُ فَإِنْ قِيل ذَلِكَ لِذِي الْفَضْل
وَالْهَيْئَةِ وَالشَّرَفِ عُوقِبَ عُقُوبَةً خَفِيفَةً يُهَانُ بِهَا،
وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ السَّجْنَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي
الْهَيْئَةِ عُوقِبَ بِالتَّوْبِيخِ، وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ الإِْهَانَةَ
وَلاَ السَّجْنَ.
وَكَإِهَانَةِ الاِبْنِ وَالتِّلْمِيذِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ. (1)
وَتَخْتَلِفُ الإِْهَانَةُ كَعُقُوبَةٍ بِاخْتِلاَفِ مِقْدَارِ
الإِْهَانَةِ كَعُدْوَانٍ، وَبِاخْتِلاَفِ قَدْرِ الْمُهَانِ. (2)
وَلِلإِْهَانَةِ كَعُقُوبَةٍ مُسَمَّيَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ تُسَمَّى حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا أَوْ تَأْدِيبًا.
(ر: حَدٌّ، تَعْزِيرٌ، تَأْدِيبٌ) .
(مَوَاطِنُ الْبَحْثِ) :
5 - الإِْهَانَةُ هِيَ عُدْوَانٌ مِنْ جَانِبٍ، وَتَأْتِي فِي أَبْوَابِ
الرِّدَّةِ وَالْقَذْفِ غَالِبًا، وَهِيَ عُقُوبَةٌ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ،
وَتَأْتِي فِي التَّعْزِيرِ، وَالرِّدَّةِ، وَالْقَذْفِ.
وَيُنْظَرُ مَعَ ذَلِكَ بَحْثُ (اسْتِخْفَافٍ، وَامْتِهَانٍ) .
إِهْدَاءٌ
انْظُرْ: هَدِيَّةً
أَهْلٌ
انْظُرْ: آل
__________
(1) منح الجليل 4 / 55، وابن عابدين 3 / 183، 184.
(2) ابن عابدين 3 / 183، 184، والتبصرة 2 / 307، ومنح الجليل 4 / 554.
(7/100)
أَهْل الأَْهْوَاءِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْهْوَاءُ مُفْرَدُهَا: هَوًى: وَهُوَ مَحَبَّةُ الإِْنْسَانِ
الشَّيْءَ وَغَلَبَتُهُ عَلَى قَلْبِهِ. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَيْل النَّفْسِ إِلَى خِلاَفِ مَا يَقْتَضِيهِ
الشَّرْعُ. (2)
وَأَهْل الأَْهْوَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ: مَنْ زَاغَ عَنِ
الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى مِنْ أَهْل الْقِبْلَةِ كَالْجَبْرِيَّةِ، وَهُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ كَسْبَ لَهُ وَلاَ
اخْتِيَارَ، وَكَالْقَدَرِيَّةِ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ،
وَيَقُولُونَ: إِنَّ الأَْمْرَ أُنُفٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ،
وَقَدْ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ (قَدَرِيَّةً) لأَِنَّهُمْ غَلَوْا فِي
إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَكَالْمُعَطِّلَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَنْفُونَ
صِفَاتِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَل، وَكَالْمُشَبِّهَةِ وَهُمُ الَّذِينَ
يَجْعَلُونَ صِفَاتِهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ،
وَنَحْوِهِمْ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة " هوى "، وانظر دستور العلماء 1 / 212 طبع دائرة
المعارف النظامية - حيدر آباد.
(2) دستور العلماء. والمغرب للمطرزي مادة " هوى ".
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 446 طبع بولاق الأولى، وتعريفات الجرجاني، وتهذيب
الأسماء واللغات. والكليات 1 / 357 طبع وزارة الثقافة السورية 1974،
ولمعرفة تفصيل ذلك يرجع إلى كتاب الفرق بين الفرق لأبي منصور عبد القاهر بن
طاهر البغدادي ص 22 وما بعدها طبع 1367، وشرح العقيدة الطحاوية ص 305، 592.
(7/100)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُبْتَدِعَةُ:
2 - الْمُبْتَدِعَةُ مَنْ لَهُمْ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ
تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ
بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ (1) .
ب - الْمَلاَحِدَةُ:
3 - الْمَلاَحِدَةُ وَالزَّنَادِقَةُ وَالدَّهْرِيُّونَ - هُمُ الَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلاَ بِمُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2) وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْل الأَْهْوَاءِ كَبِيرٌ، إِذْ أَنَّ أَهْل
الأَْهْوَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
تَعَالَى وَبِمُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مُنَاظَرَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَكَشْفُ شُبَهِهِمْ:
4 - يَنْبَغِي لِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا أَهْل
الأَْهْوَاءِ بِالْحُجَّةِ، وَيَكْشِفُوا شُبَهَهُمْ، وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ
فَسَادَ مَذْهَبِهِمْ، وَصِحَّةَ مَذْهَبِ أَهْل السُّنَّةِ؛ لِيَدِينُوا
بِالْحَقِّ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، أَوْ
لِيَجْتَنِبَهُمُ الْعَامَّةُ، وَلَيْسَ لِلْعَامَّةِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي
كُتُبِهِمْ، بَل عَلَيْهِمْ هَجْرُهُمْ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ
عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْل الْبِدَعِ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ
وَالاِسْتِمَاعِ لِكَلاَمِهِمْ (3) .
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 235 طبع مكتبة الرياض الحديثة، والاعتصام
للشاطبي 1 / 19 ط مصطفى محمد، وانظر ابن عابدين 1 / 377، ودستور العلماء 1
/ 232، والكليات 1 / 422.
(2) ابن عابدين 3 / 296، ودستور العلماء 2 / 296.
(3) فواتح الرحموت 1 / 161، والفتاوى الهندية 5 / 277 طبعة بولاق الثانية
سنة 1310، والآداب الشرعية 1 / 237، 263، 268 ط مكتبة الرياض الحديثة.
(7/101)
هَجْرُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
5 - الأَْصْل أَنَّهُ يَحْرُمُ هِجْرَانُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثٍ
إِلاَّ لِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ؛ لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ
ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا،
وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ (1) .
وَقَدِ اعْتَبَرَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الأَْئِمَّةِ الاِبْتِدَاعَ فِي
الْعَقَائِدِ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ لِلْهَجْرِ، وَأَوْجَبُوا
هَجْرَ أَهْل الأَْهْوَاءِ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، الَّذِينَ يُجَاهِرُونَ
بِبِدَعِهِمْ أَوْ يَدْعُونَ إِلَيْهَا. (2)
تَوْبَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
أَهْل الأَْهْوَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
6 - بَاطِنِيَّةٌ وَغَيْرُ بَاطِنِيَّةٍ: أَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ: فَهُمُ
الَّذِينَ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا يُبْطِنُونَ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ
الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ، وَيُبْطِنُونَ الْقَوْل بِالتَّنَاسُخِ وَحِل
الْخَمْرِ وَالزِّنَى، وَالْقَوْل فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَا لاَ يَلِيقُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُول
تَوْبَةِ هَؤُلاَءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُمْ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ؛ لأَِنَّ نِحَلَهُمْ
تُبِيحُ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرُوا غَيْرَ مَا يُبْطِنُونَ، وَاللَّهُ
تَعَالَى يَقُول: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (3)
وَهَؤُلاَءِ الْبَاطِنِيَّةُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُمْ عَلاَمَةٌ تُبَيِّنُ
رُجُوعَهُمْ وَتَوْبَتَهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا مُظْهِرِينَ
لِلإِْسْلاَمِ مُسِرِّينَ لِلْكُفْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ
__________
(1) حديث: " لا يحل لمسلم. . . . " أخرجه البخاري (10 / 492 ط السلفية)
ومسلم (4 / 1984 ط الحلبي) .
(2) الشرح الصغير 4 / 745، 746، والآداب الشرعية 1 / 237، 258، 296، وحاشية
قليوبي 3 / 296، وفتاوى ابن تيمية 24 / 174، 175 طبع مطابع الرياض 1382.
(3) سورة البقرة / 160.
(7/101)
وَابْنُ عُمَرَ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ
عِنْدَهُمْ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ
وَغَيْرُهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ كَسَائِرِ أَهْل الأَْهْوَاءِ -
كَمَا سَيَأْتِي - وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُقْبَل إِنْ كَانَتْ بَعْدَ
أَخْذِهِمْ، كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. (1)
7 - وَأَمَّا غَيْرُ الْبَاطِنِيَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَكُونُ سِرُّهُمْ
كَعَلاَنِيَتِهِمْ وَنَحْوِهِمْ، وَهَؤُلاَءِ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي قَبُول تَوْبَتِهِمْ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُول تَوْبَتِهِمْ،
وَإِنِ اشْتَرَطَ الْبَعْضُ كَالْمَرُّوذِيِّ تَأْجِيلَهُمْ سَنَةً حَتَّى
يُعْلَمَ إِخْلاَصُهُمْ فِي تَوْبَتِهِمْ، أَخْذًا مِنْ تَصَرُّفِ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ صَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيِّ حِينَ انْتَظَرَ
بِهِ سَنَةً، فَلَمَّا عَلِمَ صِدْقَ تَوْبَتِهِ عَفَا عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْبَعْضُ وَمِنْهُمُ ابْنُ شَاقِلاَ الْحَنْبَلِيُّ إِلَى
أَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ
وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ (2) . وَمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَنَّ اللَّهَ احْتَجَزَ التَّوْبَةَ
عَلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ (3) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 387 طبعة بولاق الأولى سنة 1316، وحاشية ابن عابدين 3 /
297، والفتاوى الهندية 5 / 381، وحاشية قليوبي 4 / 177، وجواهر الإكليل 1 /
256، والمغني 8 / 126، والآداب الشرعية 1 / 125.
(2) حديث: " من سن سنة سيئة. . . " أخرجه مسلم (2 / 704، 705 ط الحلبي) .
(3) الآداب الشرعية 1 / 125. وحديث: " إن الله احتجر التوبة عن صاحب بدعة.
. . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء في
المختارة من حديث أنس رضي الله عنه، وسكت عنه المناوي (فيض القدير 2 / 200
ط المكتبة التجارية) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى
الفروي وهو ثقة (مجمع الزوائد 10 / 189) وقال المنذري: إسناده حسن (الترغيب
والترهيب 1 / 65 ط مطبعة السعادة) .
(7/102)
وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ هَذِهِ
التَّوْبَةَ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الآْثَارِ إِلاَّ الآْثَارَ
الدُّنْيَوِيَّةَ فَحَسْبُ، مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُهُ التَّعْزِيرَ
وَعَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى فَإِنَّ أَمْرَهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي
تَوْبَتِهِ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ، رُدَّتْ وَخَابَ وَخَسِرَ.
عُقُوبَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
8 - إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ الَّتِي يَنْتَحِلُهَا أَهْل الأَْهْوَاءِ
مُكَفِّرَةً فَإِنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ،
وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِمْ حَدُّ الرِّدَّةِ.
أَمَّا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُكَفِّرَةً فَإِنَّ عُقُوبَتَهُمُ التَّعْزِيرُ
بِالاِتِّفَاقِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الدُّعَاةِ مِنْهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِ
الدُّعَاةِ، فَغَيْرُ الدُّعَاةِ يُعَزَّرُونَ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ،
أَوْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ نَافِعٌ بِهِمْ، وَكَرِهَ
الإِْمَامُ أَحْمَدُ حَبْسَهُمْ، وَقَال: إِنَّ لَهُمْ وَالِدَاتٍ
وَأَخَوَاتٍ.
أَمَّا الدُّعَاةُ مِنْهُمْ وَالرُّؤَسَاءُ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِمُ
التَّعْزِيرُ إِلَى الْقَتْل سِيَاسَةً، قَطْعًا لِدَابِرِ الإِْفْسَادِ
فِي الأَْرْضِ، وَعَلَى هَذَا الْحَنَفِيَّةُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الإِْمَامِ
مَالِكٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. (1)
شَهَادَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ
الَّذِينَ لاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 147، 297، والآداب الشرعية 1 / 291، والسياسة
الشرعية لابن تيمية ص 99 طبع بيروت دار الكتب العربية.
(7/102)
وَشَرِيكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ
بْنُ سَلاَّمٍ - وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى رَدِّ شَهَادَتِهِمْ لأَِنَّهُمْ
فَسَقَةٌ، وَلاَ يُعْذَرُونَ بِالتَّأْوِيل. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ،
إِلاَّ الْخَطَّابِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ. (2)
وَقَدْ فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَبُول شَهَادَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ
بَيْنَ الدُّعَاةِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَبِلُوا شَهَادَةَ الْعَامَّةِ
مِنْهُمْ، وَرَدُّوا شَهَادَةَ الدُّعَاةِ لأَِنَّهُمْ مُفْسِدُونَ فِي
الأَْرْضِ، وَقَدِ احْتَجَّ هَؤُلاَءِ فِي قَبُول شَهَادَةِ أَهْل
الأَْهْوَاءِ بِأَنَّ الْهَوَى نَاشِئٌ عَنِ التَّعَمُّقِ فِي الدِّينِ،
وَذَلِكَ يَصُدُّهُ عَنِ الْكَذِبِ.
وَإِنَّمَا رَدُّوا شَهَادَةَ الْخَطَّابِيَّةِ مِنْهُمْ لأَِنَّهُمْ
يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَصْحَابَهُمْ لاَ يَكْذِبُونَ - أَيْ يَعْتَقِدُونَ
أَنَّ كُل مَنْ كَانَ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ لاَ يَكْذِبُ - فَإِذَا رَأَوْهُ
فِي قَضِيَّةٍ شَهِدُوا لَهُ بِمُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ، وَإِنْ لَمْ
يَعْلَمُوا حَقِيقَةَ الْحَال. (3)
رِوَايَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ لِلْحَدِيثِ:
10 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُول رِوَايَةِ أَهْل الأَْهْوَاءِ
لِلْحَدِيثِ.
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 240، والمغني 9 / 165.
(2) في كتاب الفرق بين الفرق ص 255: أن الخطابية كلهم حلوليون، يدعون حلول
روح الإله في جعفر الصادق، وبعده في أبي الخطاب الأسدي، قال: فهذه الطائفة
كافرة من هذه الجهة. وفي الزيلعي على الكنز (4 / 223) : أنهم كانوا
يستجيزون أن يشهدوا للمدعي إذا حلف عندهم أنه محق، ويقولون: المسلم لا
يكذب، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن من ادعى منهم شيئا على غيره يجب أن يشهد
له بقية شيعته.
(3) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 377، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 /
140، وحاشية قليوبي 4 / 322، وحاشية الجمل 5 / 386 طبع دار إحياء التراث.
(7/103)
فَقَدْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمُ ابْنُ
سِيرِينَ وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْحُمَيْدِيُّ وَيُونُسُ بْنُ
أَبِي إِسْحَاقَ وَعَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ وَغَيْرُهُمْ. وَحُجَّةُ هَؤُلاَءِ:
أَنَّ أَهْل الأَْهْوَاءِ: إِمَّا كُفَّارٌ أَوْ فُسَّاقٌ، وَلاَ تَحِل
الرِّوَايَةُ عَنْ هَؤُلاَءِ؛ وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ
إِهَانَةً لَهُمْ وَهَجْرًا، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ رَدْعًا
لَهُمْ عَنِ الْهَوَى؛ وَلأَِنَّ الْهَوَى لاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْكَذِبُ،
لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَةُ مِمَّا يُعَضِّدُ هَوَى
الرَّاوِي.
وَرَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَهْل
الأَْهْوَاءِ، إِذَا عُرِفُوا بِالصِّدْقِ وَلَمْ يُتَّهَمُوا بِالْكَذِبِ
كَالْخَوَارِجِ، دُونَ مَنْ يُتَّهَمُ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ
بِالْكَذِبِ.
وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ
وَغَيْرِهِ، فَمَنَعُوا الرِّوَايَةَ عَنِ الدَّاعِيَةِ مِنْهُمْ دُونَ
غَيْرِهِ، وَمِنْ هَؤُلاَءِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَتَّى قَال
فِي فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: وَعَلَى هَذَا أَئِمَّةُ الْفِقْهِ
وَالْحَدِيثِ كُلُّهُمْ؛ وَلأَِنَّ الْمُحَاجَّةَ وَالدَّعْوَةَ إِلَى
الْهَوَى سَبَبٌ دَاعٍ إِلَى التَّقَوُّل، فَلاَ يُؤْمَنُ عَلَى حَدِيثِهِ.
(1)
وَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ بَيْنَ مَنْ يَغْلُو فِي هَوَاهُ وَمَنْ لاَ يَغْلُو،
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ،
كَالتَّجَهُّمِ وَالْقَدَرِ، وَالْبِدَعِ الْمُخَفَّفَةِ ذَاتُ الشُّبْهَةِ
كَالإِْرْجَاءِ. قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ
أَبِي دَاوُد: احْتَمِلُوا مِنَ الْمُرْجِئَةِ الْحَدِيثَ، وَيُكْتَبُ عَنِ
الْقَدَرِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً. (2)
__________
(1) فواتح الرحموت 2 / 140.
(2) انظر: شرح علل الحديث لابن رجب ص 83 وما بعدها طبع وزارة الأوقاف
العراقية، ومقدمة ابن الصلاح ص 103 طبع مطبعة الأصيل بحلب، وفواتح الرحموت
2 / 140.
(7/103)
إِمَامَةُ أَهْل الأَْهْوَاءِ فِي
الصَّلاَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الاِقْتِدَاءِ بِأَهْل الأَْهْوَاءِ فِي
الصَّلاَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِأَهْل الأَْهْوَاءِ
مُطْلَقًا، فَإِنِ اقْتَدَى بِهِمْ فَصَلاَتُهُ بَاطِلَةٌ.
وَفَرَّقُوا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بَيْنَ الاِقْتِدَاءِ بِالْمُجَاهِرِ
بِهَوَاهُ وَبِدْعَتِهِ الدَّاعِي إِلَيْهَا، وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ
كَذَلِكَ، فَأَجَازُوا الاِقْتِدَاءَ بِالْمُسْتَسَرِّ بِهَا،
وَأَبْطَلُوهُ بِالْمُجَاهِرِ وَالدَّاعِي. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنِ اقْتَدَى بِأَحَدٍ مِنْ
أَهْل الأَْهْوَاءِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ فِي الْوَقْتِ؛
لأَِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي كُفْرِهِمْ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِقْتِدَاءِ
بِأَهْل الأَْهْوَاءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ. (3)
أَهْل الْبَيْتِ
انْظُرْ: آل
__________
(1) كشاف القناع 1 / 474، والمغني 2 / 186.
(2) شرح الزرقاني على خليل 2 / 12.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 376، وأسنى المطالب 1 / 219.
(7/104)
أَهْل الْحَرْبِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَهْل الْحَرْبِ أَوِ الْحَرْبِيُّونَ: هُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَلاَ يَتَمَتَّعُونَ
بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ عَهْدِهِمْ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - أَهْل الذِّمَّةِ:
2 - أَهْل الذِّمَّةِ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ أُقِرُّوا فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْتِزَامِ الْجِزْيَةِ وَنُفُوذِ
أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ فِيهِمْ (2) .
ب - أَهْل الْبَغْيِ:
3 - أَهْل الْبَغْيِ أَوِ الْبُغَاةُ: هُمْ فِرْقَةٌ خَرَجَتْ عَلَى
إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْعِ حَقٍّ، أَوْ لِخَلْعِهِ، وَهُمْ أَهْل
مَنَعَةٍ. (3)
__________
(1) فتح القدير 4 / 278، 284، والفتاوى الهندية 2 / 174، ومواهب الجليل 3 /
346 - 350، والشرح الصغير 2 / 267، وما بعدها، ونهاية المحتاج 7 / 191،
ومغني المحتاج 4 / 209، ومطالب أولي النهى 2 / 508، وكشاف القناع 3 / 28،
والمغني 8 / 352، 361 وما بعدها.
(2) جواهر الإكليل 1 / 105، وكشاف القناع 1 / 704.
(3) مواهب الجليل 6 / 276، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 300، والشرح
الصغير 4 / 426، والقوانين الفقهية ص 393، والأم 4 / 214 وما بعدها ط
الأزهرية، ومغني المحتاج 4 / 123 وما بعدها، والمغني 8 / 104 وما بعدها.
(7/104)
وَالْبَغْيُ: هُوَ الاِمْتِنَاعُ مِنْ
طَاعَةِ مَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ بِمُغَالَبَةٍ،
وَلَوْ تَأَوُّلاً (1) .
ج - أَهْل الْعَهْدِ:
4 - هُمُ الَّذِينَ صَالَحَهُمْ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِنْهَاءِ
الْحَرْبِ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَالْمُعَاهَدُ:
مِنَ الْعَهْدِ: وَهُوَ الصُّلْحُ الْمُؤَقَّتُ، وَيُسَمَّى الْهُدْنَةَ
وَالْمُهَادَنَةَ وَالْمُعَاهَدَةَ وَالْمُسَالَمَةَ وَالْمُوَادَعَةَ (2)
.
د - الْمُسْتَأْمَنُونَ:
5 - الْمُسْتَأْمَنُ فِي الأَْصْل: الطَّالِبُ لِلأَْمَانِ، وَهُوَ
الْكَافِرُ يَدْخُل دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ، أَوِ الْمُسْلِمُ إِذَا
دَخَل دَارَ الْكُفَّارِ بِأَمَانٍ (3) .
انْقِلاَبُ الذِّمِّيِّ أَوِ الْمُعَاهَدِ أَوِ الْمُسْتَأْمَنِ
حَرْبِيًّا:
6 - يُصْبِحُ الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي حُكْمِ
الْحَرْبِيِّ بِاللَّحَاقِ بِاخْتِيَارِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُقِيمًا
فِيهَا، أَوْ إِذَا نَقَضَ عَهْدَ ذِمَّتِهِ فَيَحِل دَمُهُ وَمَالُهُ (4)
، وَيُحَارِبُهُ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 278.
(2) فتح القدير 4 / 293 وما بعدها، والفتاوى الهندية 1 / 181، والخرشي 3 /
175 ط الأولى، وفتح العلي المالك للشيخ عليش 1 / 333، والشرح الكبير
للدردير 2 / 190، والقوانين الفقهية ص 154، ومغني المحتاج 4 / 260 وما
بعدها، والأم 4 / 110 وما بعدها ط الأميرية، ونهاية المحتاج 7 / 235، وكشاف
القناع 3 / 103، وما بعدها، والمغني 8 / 459 - 461، وزاد المعاد لابن القيم
2 / 76، والمحرر في الفقه الحنبلي 2 / 182، والاختيارات العلمية لابن تيمية
ص 188.
(3) درر الحكام 1 / 262، وحاشية أبي السعود (فتح الله المعين) على منلا
مسكين 3 / 440، والدر المختار 3 / 247 ط بولاق.
(4) الدر المختار ورد المحتار 3 / 275، 303، والشرح الصغير 2 / 316، ومغني
المحتاج 4 / 258 - 262، والمغني 8 / 458 وما بعدها و 524 وما بعدها.
(7/105)
الإِْمَامُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَأْمَنَهُ
(1) وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَجَوَازًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي مُحَارَبَتِهِ إِذَا حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
أَعَانَ أَهْل الْحَرْبِ، وَلِلإِْمَامِ أَنْ يُبْدِئَهُ بِالْحَرْبِ، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ
وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ
أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (2) ، وَحِينَمَا نَقَضَتْ
قُرَيْشٌ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ، سَارَ إِلَيْهِمُ الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ، حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ. وَعِنْدَمَا نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ
الْعَهْدَ سَنَةَ خَمْسٍ، قَتَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رِجَالَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيِّهِمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ،
وَكَذَلِكَ بَنُو النَّضِيرِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ، حَاصَرَهُمُ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ أَرْبَعٍ،
وَأَجَلاَهُمْ. (3)
وَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ فِي أَسْبَابِ نَقْضِ الذِّمَّةِ (4) :
الأَْوَّل، مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُ
الذِّمِّيِّينَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ يُحَارِبُونَ بِهَا
الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَلْحَقُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَغْلِبُونَ
عَلَى مَوْضِعٍ، فَيُحَارِبُونَنَا.
__________
(1) إبلاغ المأمن: هو الإبعاد من دار الإسلام. والمأمن: كل مكان يأمن فيه
الشخص على نفسه وماله. وإبلاغ المأمن نوع من الوفاء بالعهد.
(2) التوبة / 12.
(3) انظر هذه الحوادث في سيرة ابن هشام 2 / 190 - 192، 233 - 240، 387 -
406.
(4) فتح القدير 4 / 381 وما بعدها، ومجمع الأنهر 1 / 519، والمدونة 3 / 21،
والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 188 وما بعدها، والخرشي 3 / 149، والفروق 3 /
13، والأم 4 / 109، ط الأميرية، ومغني المحتاج 4 / 258، والمهذب 2 / 257،
والمغني 8 / 525، ومطالب أولي النهى 2 / 621 - 623، والأحكام السلطانية
لأبي يعلى ص 145، المحرر في الفقه الحنبلي 2 / 187.
(7/105)
الثَّانِي، مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ:
تُنْتَقَضُ الذِّمَّةُ بِمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَهْدِ عَلَى مَا
يَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ) .
انْقِلاَبُ الْحَرْبِيِّ ذِمِّيًّا:
7 - يُصْبِحُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا إِمَّا بِالتَّرَاضِي، أَوْ
بِالإِْقَامَةِ لِمُدَّةِ سَنَةٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ
بِالزَّوَاجِ، أَوْ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ
يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ) .
انْقِلاَبُ الْمُسْتَأْمَنِ إِلَى حَرْبِيٍّ:
8 - الْمُسْتَأْمَنُ: هُوَ الْحَرْبِيُّ الْمُقِيمُ إِقَامَةً مُؤَقَّتَةً
فِي دِيَارِ الإِْسْلاَمِ (1) ، فَيَعُودُ حَرْبِيًّا لأَِصْلِهِ
بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ إِقَامَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُ فِي بِلاَدِنَا،
لَكِنْ يَبْلُغُ مَأْمَنَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ} (2) ، أَوْ بِنَبْذِ الْعَهْدِ، أَيْ نَقْضِهِ مِنْ جَانِبِ
الْمُسْلِمِينَ؛ لِوُجُودِ دَلاَلَةٍ عَلَى الْخِيَانَةِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (3) ،
وَهِيَ فِي أَهْل الْهُدْنَةِ أَوِ الأَْمَانِ، لاَ فِي أَهْل جِزْيَةٍ،
فَلاَ يُنْبَذُ عَقْدُ الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُ مُؤَبَّدٌ، وَعَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ فَهُوَ آكَدُ مِنْ عَقْدِ الْهُدْنَةِ.
وَقَدْ يُصْبِحُ الْمُسْتَأْمَنُ حَرْبِيًّا بِنَقْضِ الأَْمَانِ مِنْ
جَانِبِهِ هُوَ، أَوْ بِعَوْدَتِهِ لِدَارِ الْحَرْبِ بِنِيَّةِ
الإِْقَامَةِ، لاَ التِّجَارَةِ أَوِ التَّنَزُّهِ أَوْ لِحَاجَةٍ
يَقْضِيهَا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى دَارِ
__________
(1) شرح السير الكبير 1 / 207، والبدائع 5 / 281، و 7 / 326.
(2) سورة التوبة / 4.
(3) سورة الأنفال / 58.
(7/106)
الإِْسْلاَمِ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيْهِمْ
وَلَوْ لِغَيْرِ دَارِهِ، انْتَهَى أَمَانُهُ. (1)
هَذَا، وَكُل مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمِّيِّ، يُنْتَقَضُ بِهِ
أَمَانُ الْمُسْتَأْمَنِ، عَلَى حَسَبِ الاِتِّجَاهَيْنِ السَّابِقَيْنِ؛
لأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ أَمَانٌ مُؤَبَّدٌ، وَآكَدُ مِنَ الأَْمَانِ
الْمُؤَقَّتِ، وَلأَِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ كَالذِّمِّيِّ يَلْتَزِمُ
بِتَطْبِيقِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ.
وَمَنْ نَقَضَ أَمَانَهُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ يُنْبَذُ إِلَيْهِ وَيَبْلُغُ
الْمَأْمَنَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ فِي شَأْنِهِ
كَالأَْسِيرِ الْحَرْبِيِّ، مِنْ قَتْلٍ وَمَنٍّ وَفِدَاءٍ وَغَيْرِهِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. (2)
انْقِلاَبُ الْحَرْبِيِّ إِلَى مُسْتَأْمَنٍ:
9 - يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا بِالْحُصُول عَلَى أَمَانٍ مِنْ
كُل مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ حَتَّى مِنْ
مُمَيِّزٍ عِنْدَ آخَرِينَ. (3)
دُخُول الْحَرْبِيِّ بِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ:
10 - لَيْسَ لأَِهْل الْحَرْبِ دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ
أَمَانٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَدْخُل جَاسُوسًا، أَوْ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 275، والمغني 8 / 400.
(2) المدونة 3 / 42، والفروق 3 / 74، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 172،
وتحفة المحتاج 8 / 98، ومغني المحتاج 4 / 238، و 262، وفتح القدير 4 / 300،
وتصحيح الفروع 3 / 66، وكشاف القناع 3 / 100.
(3) الاتجاه الأول للجمهور: أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وأحمد في رواية
عنه. والاتجاه الثاني للإمام مالك وأحمد ومحمد بن الحسن. واللجنة ترى أن
المرجع الأخير لولي الأمر مراعيا في ذلك مصلحة الدولة.
(7/106)
مُتَلَصِّصًا، أَوْ لِشِرَاءِ سِلاَحٍ،
فَيَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ. (1)
فَإِنْ قَال: دَخَلْتُ لِسَمَاعِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ دَخَلْتُ
رَسُولاً، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، أَوْ دَخَلْتُ
بِأَمَانِ مُسْلِمٍ، صُدِّقَ وَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ؛ لاِحْتِمَال مَا
يَدَّعِيهِ، وَقَصْدُ ذَلِكَ يُؤَمِّنُهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى
تَأْمِينٍ؛ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ} (3) ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الأَْمَانَ لاَ يُصَدَّقُ فِيهِ، بَل
يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ؛ لإِِمْكَانِهَا غَالِبًا، وَلأَِنَّ الثَّابِتَ
بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْل الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَنْ دَخَل مِنَ
الْحَرْبِيِّينَ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ
رَسُولٌ، أَوْ تَاجِرٌ وَمَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ، قُبِل مِنْهُ،
وَيُحْقَنُ دَمُهُ، إِنْ صَدَّقَتْهُ عَادَةً، كَدُخُول تُجَّارِهِمْ
إِلَيْنَا وَنَحْوِهِ؛ لأَِنَّ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنٌ، فَيَكُونُ شُبْهَةً
فِي دَرْءِ الْقَتْل؛ وَلأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ
عَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُ، وَلِجَرَيَانِ الْعَادَةِ مَجْرَى
الشَّرْطِ.
فَيَصْدُقُ إِنْ كَانَ مَعَهُ تِجَارَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا؛ لأَِنَّ
التِّجَارَةَ لاَ تَحْصُل بِغَيْرِ مَالٍ، وَيُصَدَّقُ مُدَّعِي
الرِّسَالَةِ إِنْ كَانَ مَعَهُ رِسَالَةٌ يُؤَدِّيهَا. وَإِنْ قَال:
أَمَّنَنِي مُسْلِمٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
__________
(1) المغني 8 / 523، والمهذب 2 / 259.
(2) مغني المحتاج 4 / 243. واللجنة ترى أن هذا الأمر من الخطورة بمكان، ولا
بد من التثبت من صدق ادعائه.
(3) سورة التوبة / 6
(7/107)
أَحَدُهُمَا: يُقْبَل تَغْلِيبًا لِحَقْنِ
دَمِهِ، كَمَا يُقْبَل مِنَ الرَّسُول وَالتَّاجِرِ.
وَالثَّانِي: لاَ يُقْبَل؛ لأَِنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ
مُمْكِنَةٌ. فَإِنْ قَال مُسْلِمٌ: أَنَا أَمَّنْتُهُ، قُبِل قَوْلُهُ،
لأَِنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ، فَقُبِل قَوْلُهُ فِيهِ،
كَالْحَاكِمِ إِذَا قَال: حَكَمْتُ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ بِحَقٍّ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ (2) : إِنْ أُخِذَ الْحَرْبِيُّ بِأَرْضِ
الْحَرْبِيِّينَ حَال كَوْنِهِ مُقْبِلاً إِلَيْنَا، أَوْ قَال: جِئْتُ
أَطْلُبُ الأَْمَانَ مِنْكُمْ، أَوْ أُخِذَ بِأَرْضِنَا وَمَعَهُ
تِجَارَةٌ، وَقَال لَنَا: إِنَّمَا دَخَلْتُ أَرْضَكُمْ بِلاَ أَمَانٍ،
لأَِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكُمْ لاَ تَتَعَرَّضُونَ لِتَاجِرٍ، أَوْ أُخِذَ
عَلَى الْحُدُودِ بَيْنَ أَرْضِنَا وَأَرْضِهِمْ، وَقَال مَا ذُكِرَ،
فَيُرَدُّ لِمَأْمَنِهِ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ.
فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةُ كَذِبٍ، لَمْ يُرَدَّ لِمَأْمَنِهِ.
أَمَّا إِنْ دَخَل الْحَرْبِيُّ بِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ،
وَلَمْ تَتَحَقَّقْ حَالَةٌ مِنَ الْحَالاَتِ السَّابِقَةِ، فَعِنْدَ
الْجُمْهُورِ يُعْتَبَرُ كَالأَْسِيرِ أَوِ الْجَاسُوسِ، فَيُخَيَّرُ فِيهِ
الإِْمَامُ بَيْنَ الْقَتْل وَالاِسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ
بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ. وَفِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ فَيْئًا
لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. (3)
__________
(1) المبسوط 10 / 93، ورد المحتار 3 / 248، وشرح السير الكبير 1 / 198،
ومغني المحتاج 4 / 243، وكشاف القناع 3 / 100، والمغني 8 / 437، 523.
والحنفية ومعهم الحنابلة اشترطوا لتصديق الرسول أن يكون معه كتاب يشبه أن
يكون كتاب مليكه، وإن احتمل أن مفتعل، لأن الرسول آمن، كما جرى به عرف
الجاهلية والإسلام، وأما الشافعية فلم يشترطوا وجود كتاب معه، كما ذكر
أعلاه.
(2) الشرح الكبير 2 / 186، والشرح الصغير 2 / 289.
(3) المبسوط 10 / 93، وشرح السير الكبير 1 / 198، والفتاوى الهندية 2 /
186، ورد المحتار 3 / 249، والشرح الكبير 2 / 186، والشرح الصغير 2 / 289،
والمهذب 2 / 259، وكشاف القناع 3 / 100، والمغني 8 / 523. وهذه مسائل
زمنية، واللجنة ترى أنه يراعي الآن ما هو الأصلح.
(7/107)
دِمَاءُ أَهْل الْحَرْبِ وَأَمْوَالُهُمْ:
11 - الْحَرْبُ - كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ - حَالَةُ عَدَاءٍ وَكِفَاحٍ
مُسَلَّحٍ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ، تَقْتَضِي إِبَاحَةَ الدِّمَاءِ
وَالأَْمْوَال، وَهَذَا يَقْتَضِي بَحْثَ حَالَةِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ
حَالَةِ الْعَهْدِ، وَفِي حَالَةِ الْعَهْدِ:
أ - فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ: الْحَرْبِيُّ غَيْرُ الْمُعَاهَدِ
مُهْدَرُ الدَّمِ وَالْمَال، فَيَجُوزُ قَتْل الْمُقَاتِلِينَ؛ لأَِنَّ كُل
مَنْ يُقَاتِل فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَتُصْبِحُ الأَْمْوَال مِنْ
عَقَارَاتٍ وَمَنْقُولاَتٍ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَصِيرُ بِلاَدُ
الْعَدُوِّ بِالْغَلَبَةِ أَوِ الْفَتْحِ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ،
وَيَكُونُ وَلِيُّ الأَْمْرِ مُخَيَّرًا فِي الأَْسْرَى بَيْنَ أُمُورٍ:
هِيَ الْقَتْل، وَالاِسْتِرْقَاقُ، وَالْمَنُّ (إِطْلاَقُ سَرَاحِ
الأَْسِيرِ بِلاَ مُقَابِلٍ) ، وَالْفِدَاءُ (تَبَادُل الأَْسْرَى أَوْ
أَخْذُ الْمَال فِدْيَةً عَنْهُمْ) ، وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَى الرِّجَال
الْقَادِرِينَ. (1)
فَإِنْ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ وَعَقَدَ الإِْمَامُ لَهُمُ الذِّمَّةَ،
أَصْبَحُوا أَهْل ذِمَّةٍ، وَيَكُونُ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ
الإِْنْصَافِ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الاِنْتِصَافِ، قَال
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 278، وما وبعدها، 284 وما بعدها، و 303، 306، 338،
وتبيين الحقائق 3 / 248، والدر المختار 3 / 239، 246، والقوانين الفقهية ص
148، والشرح الصغير 2 / 275، والأحكام السلطانية للماوردي ص 46 وما بعدها،
ومغني المحتاج 4 / 222 وما بعدها، و 230 وما بعدها، والمغني 8 / 478، وما
بعدها، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 31، ومسائل الإمام أحمد ص 236 وما
بعدها.
(7/108)
دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ
كَأَمْوَالِنَا (1) . (ر: أَهْل الذِّمَّةِ) .
وَلاَ تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ إِلاَّ بِمَشْرُوعِيَّةِ
الْجِهَادِ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ (2) ، فَفِيهَا:
يُشْتَرَطُ لإِِبَاحَةِ الْجِهَادِ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: امْتِنَاعُ الْعَدُوِّ عَنْ قَبُول مَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنَ
الدِّينِ الْحَقِّ، وَعَدَمِ الأَْمَانِ وَالْعَهْدِ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجُوَ الإِْمَامُ الشَّوْكَةَ وَالْقُوَّةَ لأَِهْل
الإِْسْلاَمِ، بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُعْتَدُّ
بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ. وَإِنْ كَانَ لاَ يَرْجُو الْقُوَّةَ
وَالشَّوْكَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَال، فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ
الْقِتَال؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ.
ب - فِي حَالَةِ الْعَهْدِ: الْعَهْدُ مِنْ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ أَوْ
أَمَانٍ يَعْصِمُ الدَّمَ وَالْمَال بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ، فَإِنْ
وُجِدَ عَهْدٌ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ عَلَى
الأَْصْل مُهْدَرُ الدَّمِ وَالْمَال. وَتُبْحَثُ هُنَا أُمُورٌ:
أَوَّلاً: قَتْل الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ حَرْبِيًّا:
12 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ
__________
(1) الأثر عن علي رضي الله عنه " إنما بذلوا الجزية لتكون. . . . " أورده
الزيلعي في نصب الراية (3 / 381) واستغربه، وذكر أثرا آخر عن علي رضي الله
عنه، وعزاه إلى الشافعي والدارقطني ولفظه " من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا
وديته كديتنا " وفي إسناده أبو الجنوب وهو
(2) الفتاوى الهندية 2 / 174.
(3) البدائع 7 / 235 وما بعدها، و 252 وما بعدها، والدر المختار 5 / 378
وما بعدها، وتكملة فتح القدير 8 / 254 وما بعدها، والشرح الكبير 4 / 237، و
242 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 345، وبداية المجتهد 2 / 391، ومواهب
الجليل 6 / 232 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 15 وما بعدها، والمهذب 2 /
173، والروضة للنووي 9 / 148، و 150، 156 والمغني 7 / 648، و 652، 657،
وكشاف القناع 5 / 585، و 587، 607، ومطالب أولي النهى 6 / 280.
(7/108)
الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِقَتْل
الْحَرْبِيِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، كَمَا لاَ دِيَةَ عَلَيْهِمَا
بِقَتْل الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ بِسَبَبِ وُجُودِ
الشُّبْهَةِ فِي إِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ، وَلِكَوْنِهِ مُبَاحَ
الدَّمِ فِي الأَْصْل. وَشَرْطُ الْقِصَاصِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ: كَوْنُ
الْمَقْتُول مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ، أَيْ يَحْرُمُ
الاِعْتِدَاءُ عَلَى حَيَاتِهِ، بَل لاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ
الْقَائِلِينَ بِلُزُومِهَا فِي حَالَةِ قَتْل مُبَاحِ الدَّمِ -
كَالْحَرْبِيِّ - قَتْلاً عَمْدًا. (1)
ثَانِيًا: حُصُول الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَال
الْحَرْبِيِّ بِمُعَامَلَةٍ يُحَرِّمُهَا الإِْسْلاَمُ:
13 - إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ
فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا عَقْدًا مِثْل الرِّبَا، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ
الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ أَخَذَ مَالَهُ
بِالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ الإِْسْلاَمُ، لَمْ يَحِل لَهُ
ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ
وَالْحَرْبِيِّ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ
الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ بِأَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ حَيْثُمَا يَكُونُ،
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ
__________
(1) وهم الشافعية (مغني المحتاج 4 / 107، المهذب 2 / 217) .
(2) المبسوط 10 / 95، وشرح السير الكبير 4 فقرة 2903، والرد على سير
الأوزاعي لأبي يوسف ص 96، والبدائع 5 / 192، و 7 / 130 - 134، ورد المحتار
3 / 350، والفروق للقرافي 3 / 207، ط الحلبي، والأم 4 / 165، و 7 / 222 -
323 ط الأميرية، وغاية المنتهى 2 / 64، ومطالب أولي النهى 2 / 582، المغني
8 / 458.
(7/109)
لِلْحَرْبِيِّ؛ فَلأَِنَّهُ مُخَاطَبٌ
بِالْمُحَرَّمَاتِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ
نُهُوا عَنْهُ} (1) ، وَآيَاتُ تَحْرِيمِ الرِّبَا، مِثْل قَوْله تَعَالَى:
{وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) ، وَسَائِرُ الآْيَاتِ وَالأَْخْبَارِ
الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَهِيَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَل
الرِّبَا فِي كُل مَكَانٍ وَزَمَانٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ
إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَحِل لَهُ
أَخْذُ مَال الْحَرْبِيِّ مِنْ غَيْرِ خِيَانَةٍ وَلاَ غَدْرٍ؛ لأَِنَّ
الْعِصْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ مَالِهِ، فَإِتْلاَفُهُ مُبَاحٌ، وَفِي
عَقْدِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ رَاضِيَانِ، فَلاَ غَدْرَ
فِيهِ، وَالرِّبَا وَنَحْوُهُ كَإِتْلاَفِ الْمَال، وَهُوَ جَائِزٌ. قَال
مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: وَإِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ
الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ
بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ
الْمُبَاحَ عَلَى وَجْهٍ عَرَا عَنِ الْغَدْرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ طَيِّبًا
مِنْهُ.
وَأَمَّا خِيَانَةُ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ عِنْدَهُمْ فَمُحَرَّمَةٌ؛
لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا أَعْطَوُا الأَْمَانَ لِلْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ
مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ
مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ بِأَمَانٍ فَخَانَنَا، كَانَ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ تَحِل لِلْمُسْلِمِ خِيَانَةُ الْحَرْبِيِّينَ
إِذَا دَخَل دَارَهُمْ بِأَمَانٍ؛ لأَِنَّهُ غَدْرٌ، وَلاَ يَصْلُحُ فِي
دِينِنَا الْغَدْرُ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (3) فَإِنْ
__________
(1) سورة النساء / 161.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) حديث: " المسلمون عند شروطهم. . . . " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 /
585 ط السلفية) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي تصحيح الترمذي هذا الحديث
نظر، فإن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف جدا. وله
شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2 / 366) والحاكم (2 / 49) قال الشوكاني
بعد أن ذكر طرق الحديث المختلفة: لا يخفى أن الأحاديث المذكورة والطرق يشهد
بعضها لبعض، فأقل أحوالها أن يكون المتن الذي اجتمعت عليه حسنا (نيل
الأوطار 5 / 378، ط دار الجيل) .
(7/109)
خَانَهُمْ، أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ، أَوِ
اقْتَرَضَ شَيْئًا، وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إِلَى أَرْبَابِهِ،
فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ، أَوْ
إِيمَانٍ، رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ؛ لأَِنَّهُ
أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، فَلَزِمَهُ رَدُّ مَا
أَخَذَ، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَال مُسْلِمٍ. قَال الإِْمَامُ
الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ (1) : وَمِمَّا يُوَافِقُ التَّنْزِيل
وَالسُّنَّةَ وَيَعْقِلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ،
أَنَّ الْحَلاَل فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حَلاَلٌ فِي بِلاَدِ الْكُفْرِ،
وَالْحَرَامَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حَرَامٌ فِي بِلاَدِ الْكُفْرِ،
فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا، فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْهُ،
وَلاَ تَضَعُ عَنْهُ بِلاَدُ الْكُفْرِ شَيْئًا.
ثَالِثًا: إِتْلاَفُ مُمْتَلَكَاتِ أَهْل الْحَرْبِ:
أ - فِي حَالَةِ الأَْمَانِ أَوِ الْعَهْدِ:
14 - الْعَهْدُ يَعْصِمُ الدِّمَاءَ وَالأَْمْوَال، وَيُوجِبُ الْكَفَّ
عَنْ أَعْمَال الْقِتَال، قَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (2) :
إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا (بِأَمَانٍ) ، فَلاَ
يَحِل لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلاَ مِنْ
دِمَائِهِمْ؛ لأَِنَّهُ ضَمِنَ أَلاَّ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ
بِالاِسْتِئْمَانِ، فَالتَّعَرُّضُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ غَدْرًا
وَالْغَدْرُ حَرَامٌ، إِلاَّ إِذَا غَدَرَ بِهِ مَلِكُهُمْ، فَأَخَذَ
أَمْوَالَهُ أَوْ حَبَسَهُ، أَوْ فَعَل ذَلِكَ غَيْرُ الْمَلِكِ بِعِلْمِ
الْمَلِكِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ؛ لأَِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا
الْعَهْدَ، بِخِلاَفِ
__________
(1) الأم 4 / 165، 7 / 222، 323.
(2) الهداية وفتح القدير 4 / 347 وما بعدها.
(7/110)
الأَْسِيرِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ
مُسْتَأْمَنٍ، فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِلْمَال وَالدَّمِ، وَإِنْ
أَطْلَقُوهُ طَوْعًا.
ب - فِي حَالَةِ عَدَمِ الْعَهْدِ وَالأَْمَانِ:
15 - فِي حَال الْحَرْبِ يَجُوزُ بِالاِتِّفَاقِ إِتْلاَفُ أَشْجَارِ
الْعَدُوِّ، وَذَبْحُ مَوَاشِيهِمْ، وَإِتْلاَفُ سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ
إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، كَإِتْلاَفِ مَا
يَتَقَوَّوْنَ بِهِ مِنَ الآْلِيَّاتِ وَالْحُصُونِ وَالسِّلاَحِ
وَالْخَيْل، وَإِتْلاَفِ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْتَتِرُونَ بِهِ، أَوْ
يَعُوقُ الْعَمَلِيَّاتِ الْحَرْبِيَّةَ، أَوْ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ
لِقَطْعِهِ لِتَوْسِيعِ طَرِيقٍ، أَوْ تَمَكُّنٍ مِنْ سَدِّ ثُغْرَةٍ، أَوِ
احْتَاجُوا إِلَيْهِ لِلأَْكْل، أَوْ يَكُونُ الْكُفَّارُ يَفْعَلُونَ
بِنَا ذَلِكَ، فَنَفْعَل بِهِمْ مِثْلَهُ لِيَنْتَهُوا، فَهَذَا يَجُوزُ
بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
وَأَمَّا إِتْلاَفُ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ إِلاَّ لِمُغَايَظَةِ
الْكُفَّارِ وَالإِْضْرَارِ بِهِمْ وَالإِْفْسَادِ عَلَيْهِمْ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ فِي الأَْشْجَارِ
وَالزُّرُوعِ: إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَا
قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (1) . وقَوْله تَعَالَى
{وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ
صَالِحٌ} (2) ، لَكِنْ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا إِذَا لَمْ يَغْلِبْ
عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ
الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ، وَأَنَّ الْفَتْحَ بَادٍ (أَيْ ظَاهِرٌ
قَرِيبٌ) كُرِهَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِفْسَادٌ فِي غَيْرِ مَحَل الْحَاجَةِ،
وَمَا أُبِيحَ إِلاَّ لَهَا.
__________
(1) سورة الحشر / 5.
(2) سورة التوبة / 120.
(7/110)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ مَحْضٌ. (1)
عَمَل مَا يَنْفَعُ أَهْل الْحَرْبِ وَيُقَوِّيهِمْ
أ - الْوَصِيَّةُ لأَِهْل الْحَرْبِ:
16 - هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ فِي الْوَصِيَّةِ لأَِهْل الْحَرْبِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل (2) : لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ
إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ قُوَّةً لَهُمْ،
فَالتَّبَرُّعُ بِتَمْلِيكِهِ الْمَال، يَكُونُ إِعَانَةً لَهُ عَلَى
الْحَرْبِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) .
فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَاتَلَنَا لاَ يَحِل بِرُّهُ، وَهَذَا
اتِّجَاهُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَالاِتِّجَاهُ الثَّانِي (4) : لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ
وَالْحَنَابِلَةِ - يُجِيزُ الْوَصِيَّةَ لِحَرْبِيٍّ مُعَيَّنٍ، لاَ
لِعَامَّةِ الْحَرْبِيِّينَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ
بِدَارِنَا؛ لأَِنَّهُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لَهُ، فَصَحَّتْ
لَهُ الْوَصِيَّةُ
__________
(1) المغني 8 / 451 - 455 ط الرياض، وفتح القدير 4 / 286 ط بولاق، والشرح
الكبير مع الدسوقي 2 / 177، والتاج والإكليل 3 / 355، والشرح الصغير 2 /
281، وبداية المجتهد 1 / 307، والأم 4 / 287، ط الأزهرية، والمهذب 2 / 251،
ومغني المحتاج 4 / 223، و 226 - 227، والأحكام السلطانية للماوردي ص 49،
وجامع الترمذي بشرح ابن العربي 7 / 40، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 33
وما بعدها.
(2) البدائع 7 / 341، التاج والإكليل مع مواهب الجليل 6 / 24.
(3) سورة الممتحنة / 9.
(4) مغني المحتاج 3 / 43، والمغني 6 / 104 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 4
/ 467.
(7/111)
كَالذِّمِّيِّ، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عُمَرَ حُلَّةً،
فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَكَسَوْتَنِيهَا: وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ
عُطَارِدَ مَا قُلْتَ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، فَكَسَاهَا عُمَرُ
أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ (1) .
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ:
أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ،
فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصِلُهَا؟
قَال: نَعَمْ. زَادَ الْبُخَارِيُّ. قَال ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَل
اللَّهُ فِيهَا: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ. . .} الآْيَةَ، وَمَعْنَى رَاغِبَةٍ: أَيْ
طَامِعَةٌ تَسْأَلُنِي شَيْئًا. (2)
فَهَذَانِ فِيهِمَا صِلَةُ أَهْل الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ، ثُمَّ قَدْ حَصَل
الإِْجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةُ فِي مَعْنَاهَا.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى
أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (3) .
ب - الْوَقْفُ عَلَى أَهْل الْحَرْبِ:
17 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ، وَالْوَقْفُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ
أَمْوَالَهُمْ
__________
(1) حديث: " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر حلة. . . . " أخرجه
البخاري ومالك واللفظ له (فتح الباري 10 / 296 ط السلفية) والموطأ 2 / 917،
918 ط الحلبي.
(2) حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: " أتتني أمي راغبة. . . "
أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 413 ط السلفية) .
(3) سورة لقمان / 15.
(7/111)
مُبَاحَةٌ فِي الأَْصْل، وَيَجُوزُ
أَخْذُهَا مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ
أَوْلَى، وَالْوَقْفُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحَ الأَْخْذِ؛
لأَِنَّهُ تَحْبِيسُ الأَْصْل؛ وَلأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ أَنْ
يَكُونَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ، وَعِنْدَ التَّصَرُّفِ، وَالْوَقْفُ عَلَى
الْحَرْبِيِّ مَعْصِيَةٌ وَلَيْسَ قُرْبَةً (1) .
ج - الصَّدَقَةُ عَلَى أَهْل الْحَرْبِ:
18 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ (2) عَلَى صِحَّةِ الصَّدَقَةِ
أَوِ الْهِبَةِ لِلْحَرْبِيِّ؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى إِلَى أَبِي
سُفْيَانَ تَمْرَ عَجْوَةٍ، حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ مُحَارِبًا،
وَاسْتَهْدَاهُ أَدَمًا. وَبَعَثَ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَهْل
مَكَّةَ حِينَ قَحَطُوا لِتُوَزَّعَ بَيْنَ فُقَرَائِهِمْ وَمَسَاكِينِهِمْ
(3) .
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ
لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} (4) (5) . قَال الْحَسَنُ
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى
بِالأَْسِيرِ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقُول: "
أَحْسِنْ إِلَيْهِ " فَيَكُونُ عِنْدَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ،
فَيُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ. وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ
الإِْحْسَانُ إِلَى الْكُفَّارِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَعَنْ قَتَادَةَ:
كَانَ أَسِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكَ (6) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 297، والدر المختار 3 / 395، والتاج والإكليل 6 /
24، ومغني المحتاج 2 / 380، والمغني 5 / 589.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 387 وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 141، ومغني
المحتاج 2 / 397، و 400، والمغني 6 / 104.
(3) المبسوط 10 / 92، وشرح السير الكبير 1 / 70.
(4) سورة الدهر / 8 - 10.
(5) سورة الدهر / 8 - 10.
(6) تفسير الكشاف للزمخشري 3 / 296، ط الحلبي.
(7/112)
د - تَوَارُثُ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ:
19 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارَيْنِ لاَ
يَمْنَعُ مِنَ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، وَيَرَى بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ أَنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ تَقَدَّمَ فِي (إِرْثٍ ج 3) .
هـ - إِرْثُ الْمُسْلِمِ الْحَرْبِيَّ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْلِمَ:
20 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ كَافِرًا،
وَالْكُفَّارُ مُسْلِمًا (2) ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ
إِلَيْهِ فِي: (إِرْثٍ) .
و الاِتِّجَارُ مَعَ أَهْل الْحَرْبِ:
21 - تَدُل عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ الاِتِّجَارِ مَعَ
الْحَرْبِيِّينَ (3) ، فَلِلْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ دُخُول دَارِ
الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ، وَلِلْحَرْبِيِّ دُخُول دَارِنَا
تَاجِرًا بِأَمَانٍ، وَتُؤْخَذُ الْعُشُورُ عَلَى التِّجَارَةِ
الْعَابِرَةِ عِنْدَ اجْتِيَازِ حُدُودِ دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَلَكِنْ لاَ
يَجُوزُ إِمْدَادُ الْمُحَارِبِينَ بِمَا يُقَوِّيهِمْ مِنَ السِّلاَحِ
وَالآْلاَتِ وَالْمَوَادِّ الَّتِي يُصْنَعُ مِنْهَا السِّلاَحُ، كَمَا لاَ
يَجُوزُ السَّمَاحُ بِالاِتِّجَارِ بِالْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
كَالْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ وَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ؛ لأَِنَّهَا
مَفَاسِدُ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا، وَيَجِبُ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 240، والدر المختار 3 / 247، والشرح الصغير 2 / 290،
والقوانين الفقهية / 394 وما بعدها، والبجيرمي على المنهج 3 / 235، وحاشية
الشرقاوي 2 / 188، والأم 4 / 4، ومطالب أولي النهى 4 / 544.
(2) شرح السراجية ص 21، والقوانين الفقهية / 394، ومغني المحتاج 3 / 24 وما
بعدها، والمغني 6 / 294.
(3) انظر مثلا المبسوط 10 / 91، شرح السير الكبير 3 / 273 - 276، والشرح
الصغير 2 / 289، ومغني المحتاج 4 / 237، والمغني 8 / 489، 522.
(7/112)
مُقَاوَمَتُهَا. وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ
الْمُسْتَأْمَنِ شِرَاءُ الأَْسْلِحَةِ مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَفِيمَا عَدَا هَذِهِ الْقُيُودِ يَجُوزُ أَنْ تَظَل حُرِّيَّةُ
التِّجَارَةِ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ انْفَرَدُوا
بِالْقَوْل بِمَنْعِ التَّصْدِيرِ مِنْ بِلاَدِنَا، وَمُتَاجَرَةِ
الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِذَا كَانَتْ أَحْكَامُهُمْ تَجْرِي
عَلَى التُّجَّارِ؛ لأَِنَّ فِي تَصْدِيرِ أَيِّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ
تَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ وَلأَِنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ
مِنَ الإِْقَامَةِ فِي دَارِ الشِّرْكِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ
بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ (2) .
كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَصْدِيرُ الأَْطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا إِلاَّ
إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ هُدْنَةٌ مَعَ الْعَدُوِّ، أَمَّا فِي غَيْرِ
الْهُدْنَةِ فَلاَ يَجُوزُ (3) .
وَالأَْدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ التَّصْدِيرِ مِنْ بِلاَدِنَا مِنْهَا:
حَدِيثُ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ الْحَنَفِيِّ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ،
فَإِنَّهُ قَال لأَِهْل مَكَّةَ حِينَ قَالُوا لَهُ: صَبَوْتَ؟ فَقَال: "
إِنِّي وَاللَّهِ مَا صَبَوْتُ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ أَسْلَمْتُ،
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 199، شرح السير الكبير 3 / 177، وحاشية الطحطاوي 2
/ 445، وفتح القدير 4 / 347 وما بعدها، والفتاوى الهندية 2 / 215، ومغني
المحتاج 4 / 247، والشرح الكبير مع المغني 10 / 408.
(2) حديث: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. . . " أخرجه أبو
داود (3 / 104 ط عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 155 ط الحلبي، وقال عبد
القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: رجال إسناده ثقات ولكن صحح البخاري
وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم،
وللحديث شاهد بمعناه (جامع الأصول 4 / 446 نشر مكتبة الحلواني) .
(3) المدونة 10 / 102، والمقدمات الممهدات 2 / 285، وفتح العلي المالك 1 /
331، ومواهب الجليل 3 / 364، و 379.
(7/113)
وَصَدَّقْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتُ بِهِ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ
ثُمَامَةَ بِيَدِهِ، لاَ تَأْتِيكُمْ حَبَّةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ -
وَكَانَتْ رِيفَ مَكَّةَ - حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ إِلَى بَلَدِهِ، وَمَنَعَ الْحَمْل
إِلَى مَكَّةَ، حَتَّى جَهِدَتْ قُرَيْشٌ، فَكَتَبُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَنْ
يَكْتُبَ إِلَى ثُمَامَةَ، يَحْمِل إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ، فَفَعَل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1) . فَهَذَا يَدُل عَلَى
جَوَازِ تَصْدِيرِ الأَْطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا إِلَى الأَْعْدَاءِ، حَتَّى
وَلَوْ كَانَتْ حَالَةُ الْحَرْبِ قَائِمَةً مَعَهُمْ.
وَمِنَ الأَْدِلَّةِ أَيْضًا الأَْحَادِيثُ السَّابِقَةُ الْمَذْكُورَةُ
فِي بَحْثِ الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْل الْحَرْبِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُمْ
(قِصَّةُ إِهْدَاءِ التَّمْرِ لأَِبِي سُفْيَانَ، وَصِلَةُ أَسْمَاءَ
أُمَّهَا الْمُشْرِكَةَ، وَإِطْعَامُ الْمُسْلِمِينَ الأَْسْرَى) .
أَمَّا الدَّلِيل عَلَى حَظْرِ تَصْدِيرِ الأَْسْلِحَةِ وَنَحْوِهَا،
فَمِنْهُ:
حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلاَحِ
فِي الْفِتْنَةِ (2) ، وَالْفِتْنَةُ: الْحُرُوبُ الدَّاخِلِيَّةُ،
وَفِتْنَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ أَوْلَى
أَلاَّ يُبَاعَ لَهُمْ.
وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْمِل إِلَى
عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ سِلاَحًا يُقَوِّيهِمْ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَلاَ كُرَاعًا، وَلاَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ
(3) .
__________
(1) حديث ثمامة بن آثال الحنفي، أخرج القصة بهذا المعنى البخاري (فتح
الباري 8 / 87 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1386، 1387 ط الحلبي) والبيهقي (6 /
319) .
(2) حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. قال البيهقي عنه: الصواب أنه موقوف
(نصب الراية 3 / 391) .
(3) الخراج لأبي يوسف ص 190.
(7/113)
هَذَا وَإِنَّ فِي بَيْعِ السِّلاَحِ
لِلأَْعْدَاءِ تَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى قِتَال الْمُسْلِمِينَ، وَبَاعِثًا
لَهُمْ عَلَى شَنِّ الْحُرُوبِ، وَمُوَاصَلَةِ الْقِتَال
لاِسْتِعَانَتِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ.
نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْحَرْبِيَّةَ الْكِتَابِيَّةَ:
22 - صَرِيحُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يَحِل لِلْمُسْلِمِ التَّزَوُّجُ
بِالْمَرْأَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الذِّمِّيَّاتُ
مِنْهُنَّ، كَمَا تَدْخُل الْحَرْبِيَّاتُ الْكِتَابِيَّاتُ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (1) عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا
وَتَفْصِيلاً يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَحْثِ (نِكَاحٍ) (2) .
النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَْقَارِبِ الْحَرْبِيِّينَ:
أَوَّلاً: نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الْحَرْبِيَّةِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (3) عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ
مُطْلَقًا، فَالْكِتَابِيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ
النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوَاجِ، سَوَاءٌ كَانَتِ
الزَّوْجَةُ فِي
__________
(1) سورة المائدة / 5.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 297، والشرح الكبير للدردير 2 / 267، ومغني
المحتاج 3 / 187، والمغني 6 / 589 وما بعدها.
(3) البدائع 4 / 16، وفتح القدير 3 / 321، ومواهب الجليل 4 / 181، وما
بعدها، والشرح الصغير 2 / 729 - 730، وبداية المجتهد 2 / 53، والقوانين
الفقهية ص 223، والأم 5 / 87 ط الأزهرية 5 / 197 ط الأميرية، ومغني المحتاج
3 / 188، المغني 7 / 563 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 6 / 617، وكشاف
القناع 5 / 532 وما بعدها.
(7/114)
أَثْنَاءِ الزَّوَاجِ فِعْلاً، أَمْ فِي
الْعِدَّةِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا (أَيِ الْمُسْلِمَةِ وَغَيْرِهَا) فِي
رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَفِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ،
فَهِيَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ يَمْنَعُهَا مِنَ التَّصَرُّفِ
وَالاِكْتِسَابِ، فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى
أَثْبَتَ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا؛ لِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} (1) ، وَلَمْ تُفَرِّقِ النُّصُوصُ بَيْنَ
الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ. (ر: نَفَقَةٌ) .
ثَانِيًا: نَفَقَةُ الأَْقَارِبِ الْحَرْبِيِّينَ:
24 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ (2)
أَنَّهُ تَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ
الْمُعْسِرِينَ، وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا، أَيْ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ
اخْتِلاَفٌ فِي الدِّينِ، لَكِنْ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الاِتِّجَاهِ
يَقْصُرُونَ إِيجَابَ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ
فَقَطْ، فَتَجِبُ عِنْدَهُمُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ
الْمُعْسِرَيْنِ فَقَطْ، كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ الْمُعْسِرِ
عَلَى أَبِيهِ الْمُوسِرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلَدُ كَافِرًا
وَالأَْبَوَانِ مُسْلِمَيْنِ، أَمْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا
وَالأَْبَوَانِ كَافِرَيْنِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يُوجِبُونَ نَفَقَةَ الْوَالِدِ وَإِنْ عَلاَ،
وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَل، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا.
وَدَلِيل الْفَرِيقَيْنِ: وُجُودُ الْمُوجِبِ لِلنَّفَقَةِ، وَهُوَ
الْجُزْئِيَّةُ وَالْبَعْضِيَّةُ بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ،
كَالْحُكْمِ بِرَدِّ
__________
(1) سورة الطلاق / 7
(2) مواهب الجليل 4 / 209، والشرح الصغير 2 / 750، وما بعدها، والأم 5 /
100 ط الأزهرية، ومغني المحتاج 3 / 446 وما بعدها.
(7/114)
الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْوِلاَدَةِ. (ر:
نَفَقَةٌ) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) : أَنَّهُ لاَ تَجِبُ
النَّفَقَةُ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الدِّينِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ
نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الْحَرْبِيَّيْنِ، وَلاَ يُجْبَرُ الْحَرْبِيُّ عَلَى
الإِْنْفَاقِ عَلَى أَبِيهِ الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ
اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْبِرِّ وَالْمُوَاسَاةِ،
وَلاَ تُسْتَحَقُّ الصِّلَةُ لِلْحَرْبِيِّ؛ لِلنَّهْيِ عَنْ بِرِّهِمْ،
فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) ؛ وَلأَِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارَثَيْنِ، فَلَمْ
يَجِبْ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ.
وَتَخْتَلِفُ عَنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ؛ لأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ
عِوَضٌ تَجِبُ مَعَ الإِْعْسَارِ، فَلَمْ يُنَافِهَا اخْتِلاَفُ الدِّينِ
كَالصَّدَاقِ وَالأُْجْرَةِ؛ وَلأَِنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَيْنِ صِلَةٌ
وَمُوَاسَاةٌ كَمَا ذُكِرَ، فَلاَ تَجِبُ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ،
كَأَدَاءِ زَكَاتِهِ إِلَيْهِ، وَإِرْثِهِ مِنْهُ.
لَكِنْ يَقُول الْحَنَابِلَةُ، وَالْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
تَجِبُ النَّفَقَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، أَوْ بَيْنَ
الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي قَرَابَةِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ؛ لأَِنَّ
اخْتِلاَفَ الدِّينِ لاَ يَمْنَعُ مِنَ الإِْلْزَامِ بِالنَّفَقَةِ فِي
حَقِّ الْوِلاَدَةِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 499 - 500، وتبيين الحقائق 3 / 63، والبدائع 4 /
36 - 37، والمغني 7 / 584 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 559، وغاية المنتهى
3 / 242، ومسائل الإمام أحمد ص 217.
(2) سورة الممتحنة / 9.
(7/115)
أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ
التَّعْرِيفُ:
1 - يُطْلَقُ لَفْظُ " أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ " عَلَى أَهْل الشَّوْكَةِ
مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ الَّذِينَ يَحْصُل
بِهِمْ مَقْصُودُ الْوِلاَيَةِ (1) ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالتَّمَكُّنُ،
وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَل الأُْمُورِ وَعَقْدِهَا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - أَهْل الاِخْتِيَارِ:
2 - أَهْل الاِخْتِيَارِ هُمُ الَّذِينَ وُكِّل إِلَيْهِمُ اخْتِيَارُ
الإِْمَامِ. وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَقَدْ
يَكُونُونَ جَمِيعَ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَقَدْ يَكُونُونَ بَعْضًا
مِنْهُمْ (3) .
ب - أَهْل الشُّورَى:
3 - الْمُسْتَقْرِئُ لِحَوَادِثَ التَّارِيخِ يَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا
__________
(1) كلام الفقهاء في هذا الحديث مبني على قواعد المصلحة المرسلة، لتحقيق
أفضل الوجوه للسياسة الشرعية، ولا يمنع ذلك من استنباط طرق أخرى إذا كانت
تحقق المصلحة ولا تعارض أصول الشريعة (اللجنة) .
(2) مادة " أهل " في لسان العرب، والمغرب، والصحاح، وتاج العروس، والمنتقى
من منهاج الاعتدال ص 58 طبع المطبعة السلفية، وتفسير الرازي 9 / 145، في
تفسير قوله تعالى / 30 وأولي الأمر منكم / 30، وأسنى المطالب 4 / 109، طبع
المكتبة الإسلامية، وحاشية القليوبي 4 / 173، طبع البابي الحلبي.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 8، ولأبي يعلى ص 10.
(7/115)
بَيْنَ أَهْل الشُّورَى وَأَهْل الْحَل
وَالْعَقْدِ، إِذِ الصِّفَةُ الْبَارِزَةُ فِي أَهْل الشُّورَى " هِيَ
الْعِلْمُ " لَكِنِ الصِّفَةُ الْبَارِزَةُ فِي أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ
هِيَ " الشَّوْكَةُ ".
فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا
حَزَبَهُ أَمْرٌ اسْتَدْعَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ
وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَكُل هَؤُلاَءِ كَانَ
يُفْتِي فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَشَارَهُمْ (1) فِي حِينِ كَانَ
مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَهْل الْحَل
وَالْعَقْدِ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَشِيرٌ مِنْ أَهْل
الْفَتْوَى مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَسْمُوعَ الْكَلِمَةِ
فِي قَوْمِهِ - الْخَزْرَجِ - وَيُقَال إِنَّهُ أَوَّل مَنْ بَايَعَ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ مِنَ الأَْنْصَارِ (2) .
صِفَاتُ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ:
4 - لَمَّا نِيطَ بِأَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ عَمَلٌ مُعَيَّنٌ - وَهُوَ
تَعْيِينُ الْخُلَفَاءِ - كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيهِمُ
الصِّفَاتُ التَّالِيَةُ:
أ - الْعَدَالَةُ الْجَامِعَةُ لِشُرُوطِهَا الْوَاجِبَةِ فِي
الشَّهَادَاتِ مِنَ الإِْسْلاَمِ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغِ وَعَدَمِ
الْفِسْقِ وَاكْتِمَال الْمُرُوءَةِ.
ب - الْعِلْمُ الَّذِي يُوصَل بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ
الإِْمَامَةَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا.
ج - الرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ الْمُؤَدِّيَانِ إِلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ
لِلإِْمَامَةِ أَصْلَحُ (3) .
__________
(1) كنز العمال 5 / 627، والمهذب للشيرازي 2 / 297.
(2) أسد الغابة، ترجمة بشير بن سعد.
(3) حاشية قليوبي 4 / 173، وأسنى المطالب 4 / 109، والأحكام السلطانية
للماوردي ص 6، ولأبي يعلى ص 2 - 3.
(7/116)
د - أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الشَّوْكَةِ
الَّذِينَ يَتَّبِعُهُمُ النَّاسُ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِمْ؛
لِيَحْصُل بِهِمْ مَقْصُودُ الْوِلاَيَةِ (1) .
هـ - الإِْخْلاَصُ وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ (2) .
تَعْيِينُ (أَهْل الاِخْتِيَارِ) مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ:
5 - الأَْصْل أَنَّ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ هُمْ كُل مَنْ تَتَوَافَرُ
فِيهِ الصِّفَاتُ السَّابِقَةُ، إِلاَّ أَنَّ مَنْ يُبَاشِرُ الاِخْتِيَارَ
مِنْهُمْ هُمْ فِئَةٌ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَهْل
الاِخْتِيَارِ. وَيَتِمُّ تَعْيِينُ أَهْل الاِخْتِيَارِ (وَهُمْ
مَجْمُوعَةٌ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ) بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
أ - تَعَيُّنُ الْخَلِيفَةِ لَهُمْ: كَمَا فَعَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
بِتَعْيِينِ سِتَّةٍ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ لِيَخْتَارُوا وَاحِدًا
مِنْهُمْ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ دُونَ نِزَاعٍ.
ب - التَّعْيِينُ بِالْحُضُورِ: إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْخَلِيفَةُ
جَمَاعَةً مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ فَإِنَّ مَنْ يَتَيَسَّرُ
حُضُورُهُ مِنْهُمْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعَةُ، وَيَقُومُ الْحُضُورُ
مَقَامَ التَّعْيِينِ (3) .
أَعْمَال أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ:
6 - مِنْ ذَلِكَ:
أ - تَوْلِيَةُ الْخَلِيفَةِ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ لاَ خِلاَفَ فِيهِ
__________
(1) المنتقى من منهاج الاعتدال ص 51.
(2) حجة الله البالغة للدهلوي ص 738، طبع دار الكتب الحديثة بالقاهرة
ومكتبة المثنى ببغداد.
(3) أصول الدين لعبد القاهر البغداي ص 208، طبع اسطنبول سنة 1346 هـ،
وحاشية قليوبي 4 / 173.
(7/116)
لأَِحَدٍ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ (1) .
ب - تَجْدِيدُ الْبَيْعَةِ لِمَنْ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالإِْمَامَةِ عِنْدَ
وَفَاةِ الإِْمَامِ، إِذَا كَانَ حِينَ عَهِدَ إِلَيْهِ غَيْرَ
مُسْتَجْمِعٍ لِشُرُوطِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ:
تُعْتَبَرُ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ فِي الْمُوَلَّى مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ
إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا وَقْتَ الْعَهْدِ، ثُمَّ
أَصْبَحَ بَالِغًا عَدْلاً عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي لَمْ تَصِحَّ
خِلاَفَتُهُ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَهْل الاِخْتِيَارِ بَيْعَتَهُ (2) .
ج - اسْتِقْدَامُ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ الْغَائِبِ عِنْدَ مَوْتِ
الإِْمَامِ (3) .
د - تَعْيِينُ نَائِبٍ لِلإِْمَامِ الَّذِي وُلِّيَ غَائِبًا إِلَى أَنْ
يَقْدُمَ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عَهِدَ الإِْمَامُ إِلَى غَائِبٍ،
وَمَاتَ الإِْمَامُ وَالْمَعْهُودُ إِلَيْهِ عَلَى غَيْبَتِهِ،
اسْتَقْدَمَهُ أَهْل الاِخْتِيَارِ، فَإِنْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ
وَاسْتَضَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَأْخِيرِ النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمُ
اسْتَنَابَ أَهْل الاِخْتِيَارِ نَائِبًا عَنْهُ، يُبَايِعُونَهُ
بِالنِّيَابَةِ دُونَ الْخِلاَفَةِ (4) .
هـ - عَزْل الإِْمَامِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ وَيُنْظَرُ فِي
إِمَامَتِهِ (5) .
عَدَدُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الإِْمَامَةُ مِنْ أَهْل الْحَل
وَالْعَقْدِ:
7 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ
الإِْمَامَةُ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى
فَقَالَتْ
__________
(1) انظر المراجع السابقة، والمواقف للأيجي وشرحه للجرجاني 8 / 351، طبع
مطبعة السعادة بمصر 1325، وقال الشيعة الإمامية: يعرف الإمام بالنص.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 11.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي 11.
(4) أسنى المطالب 4 / 110، والأحكام السلطانية للماوردي ص 11.
(5) الأحكام السلطانية للماوردي ص 11، ولأبي يعلى ص 10.
(7/117)
طَائِفَةٌ: لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ
بِأَكْثَرِيَّةِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ مِنْ كُل بَلَدٍ؛ لِيَكُونَ
الرِّضَى بِهِ عَامًّا، وَالتَّسْلِيمُ لإِِمَامَتِهِ إِجْمَاعًا، وَهُوَ
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: الإِْمَامُ
الَّذِي يُجْتَمَعُ عَلَيْهِ، كُلُّهُمْ يَقُول: هَذَا إِمَامٌ (1) .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: أَقَل مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ مِنْهُمْ
خَمْسَةٌ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا، أَوْ يَعْقِدُهَا أَحَدُهُمْ
بِرِضَى الأَْرْبَعَةِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الإِْمَامَةَ تَنْعَقِدُ بِتَوْلِيَةِ جَمَاعَةٍ
مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ دُونَ تَحْدِيدِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ (2) .
وَتَفْصِيل مَا أُجْمِل هُنَا مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (الإِْمَامَةِ
الْكُبْرَى) .
أَهْل الْخِبْرَةِ
انْظُرْ: خِبْرَةً.
أَهْل الْخُطَّةِ
انْظُرْ: أَهْل الْمَحَلَّةِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 10.
(2) الماوردي ص 6 - 7، وأبو يعلى ص 8، وحاشية ابن عابدين 1 / 369، وحاشية
قليوبي 4 / 173، والشرواني على التحفة 9 / 76، وأصول الدين للبغدادي ص 208.
(7/117)
أَهْل الدِّيوَانِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيوَانُ: لَفْظٌ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ مَعْنَاهُ: مُجْتَمَعُ
الصُّحُفِ وَالْكِتَابِ، يُكْتَبُ فِيهِ أَهْل الْجَيْشِ وَأَهْل
الْعَطِيَّةِ.
وَالدِّيوَانُ: جَرِيدَةُ الْحِسَابِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِسَابِ.
ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ (1) . وَيُسَمَّى مَجْمُوعُ
شِعْرِ الشَّاعِرِ دِيوَانًا، قَال صَاحِبُ التَّاجِ: فَمَعَانِيهِ
خَمْسَةٌ: الْكَتَبَةُ، وَمَحَلُّهُمْ، وَالدَّفْتَرُ، وَكُل كِتَابٍ،
وَمَجْمُوعُ الشِّعْرِ.
وَالدِّيوَانُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ الدَّفْتَرُ الَّذِي يَثْبُتُ
فِيهِ أَسْمَاءُ الْعَامِلِينَ فِي الدَّوْلَةِ وَلَهُمْ رِزْقٌ أَوْ
عَطَاءٌ فِي بَيْتِ الْمَال، وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَكَانُ الَّذِي
فِيهِ الدَّفْتَرُ الْمَذْكُورُ وَكِتَابُهُ.
وَأَهْل الدِّيوَانِ: هُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ رِزْقًا مِنْهُ
(2) . وَوَظِيفَةُ الدِّيوَانِ: حِفْظُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ
الدَّوْلَةِ
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس والمصباح المنير مادة " دون ". وكلمة " ديوان
" فارسية وهي في الفارسية اسم للشياطين، سمي بها الكتاب لحذقهم بالأمور
ومعرفتهم بالجلي والخفي، ثم سمي مكان جلوسهم باسمهم (الأحكام السلطانية
للماوردي ص 175) .
(2) ابن عابدين 4 / 308 ط بولاق، والمحلى على المنهاج بحاشيتي قليوبي
وعميرة 3 / 189 ط الحلبي، وجواهر الإكليل 1 / 256، والأحكام السلطانية
للماوردي ص 199 ط الحلبي.
(7/118)
مِنَ الأَْعْمَال وَالأَْمْوَال وَمَنْ
يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّال (1) .
أَوَّل مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ، وَسَبَبُ وَضْعِهِ:
2 - أَوَّل مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَالٍ مِنَ
الْبَحْرَيْنِ، فَقَال لَهُ عُمَرُ: مَاذَا جِئْتَ بِهِ؟ فَقَال:
خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَاسْتَكْثَرَهُ عُمَرُ، فَقَال: أَتَدْرِي
مَا تَقُول؟ قَال: نَعَمْ، مِائَةُ أَلْفٍ خَمْسُ مَرَّاتٍ، فَقَال عُمَرُ:
أَطَيِّبٌ هُوَ؟ فَقَال: لاَ أَدْرِي، فَصَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ،
فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَنَا مَالٌ كَثِيرٌ، فَإِنْ شِئْتُمْ كِلْنَا لَكُمْ
كَيْلاً، وَإِنْ شِئْتُمْ عَدَدْنَا لَكُمْ عَدًّا، فَقَامَ إِلَيْهِ
رَجُلٌ فَقَال: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَأَيْتُ الأَْعَاجِمَ
يُدَوِّنُونَ دِيوَانًا لَهُمْ، فَدَوِّنْ أَنْتَ لَهُمْ دِيوَانًا.
وَقَال آخَرُونَ: بَل سَبَبُ وَضْعِهِ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ بَعْثًا،
وَكَانَ عِنْدَهُ الْهُرْمُزَانُ، فَقَال لِعُمَرَ: هَذَا بَعْثٌ قَدْ
أَعْطَيْتُ أَهْلَهُ الأَْمْوَال فَإِنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَآجَل
بِمَكَانِهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ صَاحِبُكَ بِهِ؟ فَأَثْبِتْ لَهُمْ
دِيوَانًا، فَسَأَلَهُ عَنِ الدِّيوَانِ حَتَّى فَسَّرَهُ لَهُ (2) .
أَصْنَافُ أَهْل الدِّيوَانِ:
3 - سَبَقَ أَنَّ أَهْل الدِّيوَانِ هُمْ مَنْ يُرْزَقُونَ مِنْهُ، وَهُمْ.
عِدَّةُ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ:
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 220، والأحكام السلطانية للماوردي ص
175.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 175، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
179.
(7/118)
أ - أَفْرَادُ الْجَيْشِ:
لاَ بُدَّ لإِِثْبَاتِهِمْ فِي الدِّيوَانِ مِنْ شُرُوطٍ أَوْرَدَهَا
الْمَاوَرْدِيُّ وَهِيَ:
(1) الْبُلُوغُ: فَإِنَّ الصَّبِيَّ مِنْ جُمْلَةِ الذَّرَارِيِّ
وَالأَْتْبَاعِ، فَكَانَ عَطَاؤُهُ جَارِيًا فِي عَطَاءِ الذَّرَارِيِّ.
(2) الْحُرِّيَّةُ: لأَِنَّ الْمَمْلُوكَ تَابِعٌ لِسَيِّدِهِ، فَكَانَ
دَاخِلاً فِي عَطَائِهِ، وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَبُو حَنِيفَةَ،
وَهُوَ رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(3) الإِْسْلاَمُ: لِيَدْفَعَ عَنِ الْمِلَّةِ بِاعْتِقَادِهِ وَيُوثَقَ
بِنُصْحِهِ وَاجْتِهَادِهِ.
(4) السَّلاَمَةُ مِنَ الآْفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِتَال.
(5) أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِقْدَامٌ عَلَى الْحَرْبِ وَمَعْرِفَةٌ
بِالْقِتَال.
(6) أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنْ كُل عَمَلٍ (1) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَنْظِيمِيَّةٌ قَابِلَةٌ
لِلنَّظَرِ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ
بِمَا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ.
ب - ذَوُو الْوِلاَيَاتِ، كَالْوُلاَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْعُلَمَاءِ
وَالسُّعَاةِ عَلَى الْمَال جَمْعًا وَحِفْظًا وَقِسْمَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ،
وَأَئِمَّةِ الصَّلاَةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ (2) .
ج - ذَوُو الْحَاجَاتِ؛ لأَِثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَيْسَ
أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَال مِنْ أَحَدٍ، إِنَّمَا هُوَ الرَّجُل
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 179.
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 44.
(7/119)
وَسَابِقَتُهُ، وَالرَّجُل وَغِنَاؤُهُ،
وَالرَّجُل وَبَلاَؤُهُ، وَالرَّجُل وَحَاجَتُهُ (1) .
الْقَوْل الضَّابِطُ فِي الْمَصَارِفِ:
4 - قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مَنْ يَرْعَاهُ الإِْمَامُ بِمَا فِي
يَدِهِ مِنَ الْمَال ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ:
(1) صِنْفٌ مِنْهُمْ مُحْتَاجُونَ، وَالإِْمَامُ يَبْغِي سَدَّ
حَاجَاتِهِمْ، وَهَؤُلاَءِ مُعْظَمُ مُسْتَحِقِّي الزَّكَوَاتِ، الَّذِينَ
وَرَدَ ذِكْرُهُمْ فِي الآْيَةِ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ. . .} (2) .
(2) أَقْوَامٌ يَبْغِي الإِْمَامُ كِفَايَتَهُمْ وَيَدْرَأُ عَنْهُمْ
بِالْمَال الْمُوَظَّفِ لَهُمْ حَاجَتَهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ مَكْفِيِّينَ
لِيَكُونُوا مُتَجَرِّدِينَ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ مُهِمِّ
الإِْسْلاَمِ، وَهَؤُلاَءِ صِنْفَانِ:
أ - الْمُرْتَزِقَةُ: وَهُمْ نَجْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُدَّتُهُمْ
وَوَزَرُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهِمْ مَا
يَرُمُّ خَلَّتَهُمْ وَيَسُدَّ حَاجَتَهُمْ.
ب - الَّذِينَ انْتَصَبُوا لإِِقَامَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَانْقَطَعُوا
بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِمْ وَاسْتِقْلاَلِهِمْ بِهَا عَنِ التَّوَصُّل إِلَى
مَا يُقِيمُ أَوَدَهُمْ وَيَسُدُّ خَلَّتَهُمْ، وَلَوْلاَ قِيَامُهُمْ
بِمَا لاَبَسُوهُ لَتَعَطَّلَتْ أَرْكَانُ الإِْيمَانِ، فَعَلَى الإِْمَامِ
أَنْ يَكْفِيَهُمْ مُؤْنَتَهُمْ، حَتَّى يَسْتَرْسِلُوا فِيمَا تَصَدَّوْا
لَهُ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ وَالْقُسَّامُ
وَالْمُفْتُونَ وَالْمُتَفَقِّهُونَ، وَكُل مَنْ يَقُومُ بِقَاعِدَةٍ مِنْ
قَوَاعِدِ الدِّينِ يُلْهِيهِ قِيَامُهُ عَمَّا فِيهِ سَدَادُهُ
وَقِوَامُهُ.
(3) قَوْمٌ يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ مَال بَيْتِ الْمَال عَلَى
غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهَارِهِمْ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ
__________
(1) انظر السياسة الشرعية ص 45.
(2) سورة التوبة / 60.
(7/119)
عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ
وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، الْمُسَمَّوْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {ذَوِي
الْقُرْبَى} (1) .
التَّفَاضُل فِي الْعَطَاءِ بَيْنَ أَهْل الدِّيوَانِ:
5 - اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي عَطَاءِ أَهْل
الدِّيوَانِ:
فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَرَيَانِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْل الدِّيوَانِ فِي الْعَطَاءِ، وَلاَ
يَرَيَانِ التَّفْضِيل بِالسَّابِقَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
وَمَالِكٌ.
أَمَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
فَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ التَّفْضِيل بِالسَّابِقَةِ فِي الإِْسْلاَمِ،
وَزَادَ عُمَرُ التَّفْضِيل بِالْقَرَابَةِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ السَّابِقَةِ فِي الإِْسْلاَمِ.
وَأَخَذَ بِقَوْلِهِمَا مِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ
وَفُقَهَاءُ الْعِرَاقِ (2) .
وَقَدْ نَاظَرَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ حِينَ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فَقَال:
" أَتُسَوِّي بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَصَلَّى إِلَى
الْقِبْلَتَيْنِ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ خَوْفَ السَّيْفِ؟
فَقَال لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَأُجُورُهُمْ عَلَى
اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ بَلاَغٍ، فَقَال عُمَرُ: لاَ أَجْعَل
مَنْ قَاتَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنْ
قَاتَل مَعَهُ. "
__________
(1) غياث الأمم ص 181 وما بعدها ط دار الدعوة.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 176، 177، والأحكام السلطانية لأبي يعلى
ص 222، والخراج لأبي يوسف ص 44 وما بعدها.
(7/120)
عَلاَقَةُ أَهْل الدِّيوَانِ
بِالْعَاقِلَةِ:
6 - الأَْصْل فِي الْعَاقِلَةِ هُمْ: مَنْ يَنْتَصِرُ بِهِمُ الْقَاتِل
مِنْ قَرَابَةٍ وَعَشِيرَةٍ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الأَْمْرُ فِي صَدْرِ
الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ مَعَ كَثْرَةِ الْمَوَالِي وَضَعْفِ الاِهْتِمَامِ
بِالاِنْتِسَابِ لِلْقَبَائِل، اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْعَاقِلَةِ: (الدِّيوَانُ) وَأَهْل الْحِرْفَةِ، وَأَهْل السُّوقِ،
وَغَيْرُهُمَا مِمَّا يُتَنَاصَرُ بِهِ.
وَلاَ خِلاَفَ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ - مِمَّنْ لَهُ حَظٌّ فِي
الدِّيوَانِ - وَكَذَا الْمَجْنُونُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدِّيَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل عَلَى أَهْل الدِّيوَانِ دِيَةٌ أَمْ لاَ؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى
أَهْل الدِّيوَانِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ لاَ مَدْخَل لأَِهْل الدِّيوَانِ فِي الْمُعَاقَلَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل وَالْخِلاَفُ فِي مُصْطَلَحِ (عَاقِلَةٍ) .
أَهْل الذِّمَّةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ: الأَْمَانُ وَالْعَهْدُ، فَأَهْل الذِّمَّةِ
أَهْل الْعَهْدِ، وَالذِّمِّيُّ: هُوَ الْمُعَاهَدُ (2) . وَالْمُرَادُ
بِأَهْل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 410 - 411، والفتاوى الخانية هامش الهندية 3 / 448 ط
بولاق، وجواهر الإكليل 2 / 271، ومواهب الجليل 6 / 266، وحاشية البناني على
شرح الزرقاني 8 / 45، والمغني 7 / 783 - 786، ومغني المحتاج 4 / 95 وما
بعدها، وبجيرمي على الخطيب 4 / 104 - 105 ط مصطفى الحلبي.
(2) المصباح المنير ولسان العرب والقاموس مادة: " ذمم ".
(7/120)
الذِّمَّةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ
الذِّمِّيُّونَ، وَالذِّمِّيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الذِّمَّةِ، أَيِ الْعَهْدِ
مِنَ الإِْمَامِ - أَوْ مِمَّنْ يَنُوبُ عَنْهُ - بِالأَْمْنِ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَالِهِ نَظِيرَ الْتِزَامِهِ الْجِزْيَةَ وَنُفُوذَ أَحْكَامِ
الإِْسْلاَمِ (1) .
وَتَحْصُل الذِّمَّةُ لأَِهْل الْكِتَابِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ
بِالْعَقْدِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَوِ التَّبَعِيَّةِ، فَيَقَرُّونَ عَلَى
كُفْرِهِمْ فِي مُقَابِل الْجِزْيَةِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - أَهْل الْكِتَابِ:
2 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَهْل الْكِتَابِ هُمُ:
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، فَيَدْخُل فِي
الْيَهُودِ السَّامِرَةُ؛ لأَِنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالتَّوْرَاةِ
وَيَعْمَلُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَدْخُل فِي
النَّصَارَى كُل مَنْ دَانَ بِالإِْنْجِيل وَانْتَسَبَ إِلَى عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالاِدِّعَاءِ وَالْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ. وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: أَهْل الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى (2) .
وَأَهْل الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، وَقَدْ
يَكُونُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْمَجُوسِ، فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ أَهْل
الذِّمَّةِ وَأَهْل الْكِتَابِ: أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنَ
الآْخَرِ مِنْ وَجْهٍ، وَأَخَصُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ،
فَيَجْتَمِعَانِ فِي الْكِتَابِيِّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ.
ب - أَهْل الأَْمَانِ (الْمُسْتَأْمَنُونَ) :
3 - الْمُرَادُ بِالْمُسْتَأْمَنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ دَخَل دَارَ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 105، وكشاف القناع 3 / 116، وأحكام أهل الذمة لابن
القيم 2 / 475.
(2) ابن عابدين 3 / 268، والقرطبي 2 / 140، والقليوبي 3 / 250، والمهذب 2 /
205، والمغني 8 / 496، 501.
(7/121)
الإِْسْلاَمِ عَلَى أَمَانٍ مُؤَقَّتٍ مِنْ
قِبَل الإِْمَامِ أَوْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ
فِي مُصْطَلَحِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْل
الذِّمَّةِ: أَنَّ الأَْمَانَ لأَِهْل الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ،
وَلِلْمُسْتَأْمَنِينَ مُؤَقَّتٌ (1) .
ج - أَهْل الْحَرْبِ:
4 - الْمُرَادُ بِأَهْل الْحَرْبِ: الْكُفَّارُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ قَبُول دَعْوَةِ
الإِْسْلاَمِ، وَلَمْ يُعْقَدْ لَهُمْ عَقْدُ ذِمَّةٍ وَلاَ أَمَانٍ،
وَيَقْطُنُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لاَ تُطَبَّقُ فِيهَا أَحْكَامُ
الإِْسْلاَمِ. فَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْلَنُ
عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ كُل عَامٍ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
مَا يَكُونُ بِهِ غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا:
5 - يَصِيرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا بِالْعَقْدِ، أَوْ بِقَرَائِنَ
مُعَيَّنَةٍ تَدُل عَلَى رِضَاهُ بِالذِّمَّةِ، أَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ
لِغَيْرِهِ، أَوْ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ.
وَفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيل هَذِهِ الْحَالاَتِ:
أَوَّلاً - عَقْدُ الذِّمَّةِ:
6 - عَقْدُ الذِّمَّةِ: إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ
بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ
الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ: أَنْ يَتْرُكَ الذِّمِّيُّ
الْقِتَال،
__________
(1) البدائع 7 / 106، وابن عابدين 3 / 248، وجواهر الإكليل 1 / 258، والشرح
الصغير للدردير 2 / 283، والقليوبي 4 / 225، والمغني 10 / 432، 433.
(2) فتح القدير 5 / 195، والبدائع 7 / 100، والشرح الصغير للدردير 2 / 267،
272، والمهذب 2 / 188، والمغني 8 / 352.
(7/121)
مَعَ احْتِمَال دُخُولِهِ الإِْسْلاَمَ
عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ
الدِّينِ. فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ، لاَ
لِلرَّغْبَةِ أَوِ الطَّمَعِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنَ الْجِزْيَةِ
(1) .
وَيَنْعَقِدُ هَذَا الْعَقْدُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِاللَّفْظِ، أَوْ مَا
يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلاَ تُشْتَرَطُ كِتَابَتُهُ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي
سَائِرِ الْعُقُودِ، وَمَعَ هَذَا فَكِتَابَةُ الْعَقْدِ أَمْرٌ
مُسْتَحْسَنٌ لأَِجْل الإِْثْبَاتِ، وَدَفْعًا لِمَضَرَّةِ الإِْنْكَارِ
وَالْجُحُودِ (2) .
مَنْ يَتَوَلَّى إِبْرَامَ الْعَقْدِ:
7 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ
يَتَوَلَّى إِبْرَامَهُ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، فَلاَ يَصِحُّ مِنْ
غَيْرِهِمَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الإِْمَامِ وَمَا
يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ؛ وَلأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدٌ
مُؤَبَّدٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتَاتَ بِهِ عَلَى الإِْمَامِ (3) .
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ لِكُل مُسْلِمٍ؛ لأَِنَّ عَقْدَ
الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنِ الإِْسْلاَمِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ
إِلَيْهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُقَابِل الْجِزْيَةِ، فَتَتَحَقَّقُ فِيهِ
الْمَصْلَحَةُ؛ وَلأَِنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ طَلَبِهِمْ لَهُ، وَفِي
انْعِقَادِهِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنِ الإِْمَامِ وَعَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ لِكُل مُسْلِمٍ (4) .
__________
(1) البدائع 7 / 111، وابن عابدين 3 / 275، وكشاف القناع 3 / 116، والخرشي
3 / 143، والحطاب 3 / 281، ومغني المحتاج 4 / 242.
(2) مغني المحتاج 4 / 243، والمغني 8 / 534، وتاريخ الطبري 5 / 228،
والأموال لأبي عبيد 87، والمهذب 2 / 254، والأحكام السلطانية للماوردي 145،
والبدائع 7 / 110.
(3) الخرشي 3 / 143، والقليوبي 4 / 228، ومغني المحتاج 4 / 243، والمغني
لابن قدامة 8 / 505، وكشاف القناع 3 / 116.
(4) فتح القدير والعناية على الهداية 5 / 213، 214.
(7/122)
مَنْ يَصِحُّ لَهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لأَِهْل
الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ
لِلْمُرْتَدِّ. أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: لاَ
يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِغَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ،
بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ أَهْل الْكِتَابِ
بِآيَةِ الْجِزْيَةِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَخُصَّ مِنْهُمُ الْمَجُوسُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ
أَهْل الْكِتَابِ. . . (2) فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَبْقَى
عَلَى بَقِيَّةِ الْعُمُومِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِجَمِيعِ
الْكُفَّارِ، إِلاَّ عَبَدَةَ الأَْوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ عَقْدَ
الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الإِْسْلاَمِ عَنْ طَرِيقِ الْمُخَالَطَةِ
بِالْمُسْلِمِينَ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ، وَهَذَا لاَ
يَحْصُل بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ
نَزَل بِلُغَتِهِمْ، وَحَمَلُوا الرِّسَالَةَ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَدْنَى
شُبْهَةٍ فِي رَفْضِهِمُ الإِْيمَانَ بِاللَّهِ
__________
(1) سورة التوبة / 5.
(2) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب. . . . " الحديث بهذا اللفظ طرقه
جميعها ضعيفة. انظر نصب الراية للزيلعي 3 / 448، نشر دار المأمون. بيروت
سنة 1357 هـ. ولكن لقصة الحديث شاهد في البخاري (فتح الباري 6 / 257 / ح
3156) " أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من
المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ".
(3) القليوبي 4 / 229، والمغني 8 / 496، 501، والأم 4 / 240، وأحكام القرآن
لابن العربي 2 / 889.
(7/122)
وَرَسُولِهِ، فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ
دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَل رَسُول
اللَّهِ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ (1) .
وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ
لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ كِتَابِيٍّ
وَغَيْرِهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ وَثَنِيٍّ عَرَبِيٍّ، وَوَثَنِيٍّ غَيْرِ
عَرَبِيٍّ (2) .
شُرُوطُ عَقْدِ الذِّمَّةِ:
9 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ
الذِّمَّةِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا؛ لأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي
إِفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الإِْسْلاَمِ، وَعَقْدُ
الإِْسْلاَمِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مُؤَبَّدًا، فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَصِحُّ مُؤَقَّتًا.
وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْعَقْدِ قَبُول وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ
الإِْسْلاَمِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ فِي
الْمُعَامَلاَتِ وَغَرَامَةِ الْمُتْلِفَاتِ، وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ
تَحْرِيمَهُ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ
الرِّجَال مِنْهُمْ قَبُول بَذْل الْجِزْيَةِ كُل عَامٍ (3) .
10 - وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا أُخْرَى لَمْ يَذْكُرْهَا
الآْخَرُونَ. قَال الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ
عَلَيْهِمْ سِتَّةُ أَشْيَاءَ:
(1) أَلاَّ يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ وَلاَ تَحْرِيفٍ
لَهُ.
__________
(1) البدائع 7 / 111، وجواهر الإكليل 1 / 266، والحطاب 3 / 380، والمغني 8
/ 500.
(2) الحطاب 3 / 380، 381، وجواهر الإكليل 1 / 266، 267. وترى اللجنة قوة
هذا الرأي ووجاهته تاريخيا، لأن قواد العرب دائما كانوا قبل أن يقاتلوا أي
قوم يعرضون عليهم الإسلام أو الجزية.
(3) البدائع 7 / 111، ومغني المحتاج 4 / 242، 243، والمغني لابن قدامة 8 /
505، وكشاف القناع 3 / 117، 121.
(7/123)
(2) وَأَلاَّ يَذْكُرُوا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلاَ ازْدِرَاءٍ.
(3) وَأَلاَّ يَذْكُرُوا دِينَ الإِْسْلاَمِ بِذَمٍّ لَهُ وَلاَ قَدْحٍ
فِيهِ.
(4) وَأَلاَّ يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًى وَلاَ بِاسْمِ نِكَاحٍ.
(5) وَأَلاَّ يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلاَ يَتَعَرَّضُوا
لِمَالِهِ.
(6) وَأَلاَّ يُعِينُوا أَهْل الْحَرْبِ وَلاَ يُؤْوُوا لِلْحَرْبِيِّينَ
عَيْنًا (جَاسُوسًا) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذِهِ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ، فَتَلْزَمُهُمْ
بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إِشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا
لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ
الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا الآْخَرُونَ لِدُخُولِهَا فِي شَرْطِ
الْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ (3) .
11 - هَذَا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ شُرُوطًا أُخْرَى كَاسْتِضَافَةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَعَدَمِ إِظْهَارِ مُنْكَرٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
وَغَيْرِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَوِ اسْتِحْبَابِ اشْتِرَاطِ
هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي
لِلإِْمَامِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا نَحْوَ
مَا شَرَطَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ
الْخَلاَّل
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 145، وانظر مغني المحتاج 4 / 243.
(2)) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 142.
(3) واللجنة ترى أن المذاهب الفقهية الأخرى وإن لم تصرح باشتراط هذه الشروط
إلا أنهم يقولون بوجوب التزام أهل الذمة بهذه الشروط، وأن عهدهم يكون
منقوضا إذا فعلوا شيئا مما ذكر.
(7/123)
بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ
عَيَّاشٍ قَال: حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، قَالُوا:
كَتَبَ أَهْل الْجَزِيرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ: أَنَّا
حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلاَدِنَا طَلَبْنَا إِلَيْكَ الأَْمَانَ
لأَِنْفُسِنَا وَأَهْل مِلَّتِنَا، عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى
أَنْفُسِنَا أَلاَّ نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً وَلاَ فِيمَا
حَوْلَهَا دَيْرًا وَلاَ قَلاَيَةً (1) وَلاَ صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلاَ
نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا، وَلاَ مَا كَانَ مِنْهَا فِي
خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَأَنْ نُوَسِّعَ
أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيل، وَلاَ نُؤْوِي فِيهَا وَلاَ
فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا، وَأَلاَّ نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَلاَّ نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إِلاَّ ضَرْبًا خَفِيًّا
فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا وَلاَ نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا، وَلاَ
نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا
فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلاَ نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلاَ
كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلاَّ نُخْرِجَ بَاعُوثًا وَلاَ
شَعَانِينَ (2) وَلاَ نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا، وَلاَ
نُظْهِرُ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلاَّ
نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ وَلاَ بِبَيْعِ الْخُمُورِ، وَلاَ نُظْهِرَ
شِرْكًا، وَلاَ نُرَغِّبَ فِي دِينِنَا وَلاَ نَدْعُوَ إِلَيْهِ أَحَدًا،
وَلاَ نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ
سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلاَّ نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا
إِذَا أَرَادَ الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ، وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا
حَيْثُمَا كُنَّا، وَأَلاَّ نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ
قَلَنْسُوَةٍ وَلاَ عِمَامَةٍ وَلاَ نَعْلَيْنِ وَلاَ فَرْقَ شَعْرٍ وَلاَ
فِي مَرَاكِبِهِمْ، وَلاَ نَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِهِمْ، وَأَلاَّ نَتَكَنَّى
بِكُنَاهُمْ، وَأَنْ
__________
(1) القلاية: ما يبنى لراهب وحده، وتكون مرتفعة كالمنارة، وليست للاجتماع
بل للانفراد. (أحكام أهل الذمة لابن القيم 2 / 668) .
(2) الباعوث: استسقاء النصارى. كما في القاموس، والشعانين: أعياد لهم كما
في أحكام أهل الذمة لابن القيم ص 721.
(7/124)
نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا، وَلاَ
نُفَرِّقَ نَوَاصِيَنَا، وَنَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا،
وَلاَ نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلاَ نَرْكَبَ
السُّرُوجَ، وَلاَ نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلاَحِ، وَلاَ نَحْمِلَهُ،
وَلاَ نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي
مَجَالِسِهِمْ، وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ، وَنَقُومَ لَهُمْ عَنِ الْمَجَالِسِ
إِذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ، وَلاَ نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي
مَنَازِلِهِمْ، وَلاَ نُعَلِّمَ أَوْلاَدَنَا الْقُرْآنَ، وَلاَ يُشَارِكَ
أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِلَى
الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ، وَأَنْ نُضَيِّفَ كُل مُسْلِمٍ عَابِرَ
سَبِيلٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ،
ضَمَّنَّا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَزْوَاجِنَا
وَمَسَاكِنِنَا، وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا
شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَقَبِلْنَا الأَْمَانَ عَلَيْهِ فَلاَ
ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَل لَك مِنَّا مَا يَحِل لأَِهْل الْمُعَانَدَةِ
وَالشِّقَاقِ. فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غُنْمٍ إِلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ:
أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ (1) .
وَلاَ شَكَّ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاجِبٌ، وَيُنْقَضُ
بِمُخَالَفَتِهِ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَمَا سَيَأْتِي.
ثَانِيًا: حُصُول الذِّمَّةِ بِالْقَرَائِنِ:
وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
أ - الإِْقَامَةُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ:
12 - الأَْصْل أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يَحْصُل عَلَى
الذِّمَّةِ لاَ يُمَكَّنُ مِنَ الإِْقَامَةِ الدَّائِمَةِ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ،
__________
(1) البناية على الهداية 5 / 837، والمغني لابن قدامة 8 / 524، 525،
والأحكام السلطانية للماوردي ص 143، ولأبي يعلى ص 143.
(7/124)
وَإِنَّمَا يُمَكَّنُ مِنَ الإِْقَامَةِ
الْيَسِيرَةِ بِالأَْمَانِ الْمُؤَقَّتِ، وَيُسَمَّى صَاحِبُ الأَْمَانِ
(الْمُسْتَأْمَنُ) ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الإِْقَامَةِ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ لِلْمُسْتَأْمَنِ لاَ تَبْلُغُ سَنَةً، فَإِذَا أَقَامَ
فِيهَا سَنَةً كَامِلَةً أَوْ أَكْثَرَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ
وَيَصِيرُ بَعْدَهَا ذِمِّيًّا.
فَطُول إِقَامَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ قَرِينَةٌ عَلَى رِضَاهُمْ
بِالإِْقَامَةِ الدَّائِمَةِ وَقَبُولِهِمْ شُرُوطَ أَهْل الذِّمَّةِ (1) .
هَذَا، وَقَدْ فَصَّل فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ
فَقَالُوا: الأَْصْل أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ
بِأَمَانٍ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، فَيَضْرِبَ
لَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيُهُ،
وَيَقُول لَهُ: إِنْ جَاوَزْتَ الْمُدَّةَ جَعَلْتُكَ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ، فَإِذَا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا، فَإِذَا أَقَامَ سَنَةً
مِنْ يَوْمِ مَا قَال لَهُ الإِْمَامُ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ (2) .
وَإِذَا لَمْ يَضْرِبْ لَهُ مُدَّةً قَال أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ: يَصِيرُ
ذِمِّيًّا بِإِقَامَتِهِ سَنَةً، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ أَقَامَ
الْمُسْتَأْمَنُ، فَأَطَال الْمُقَامَ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ، فَإِنْ أَقَامَ
بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلاً وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَعَلَى هَذَا
فَاعْتِبَارُ السَّنَةِ مِنْ تَارِيخِ إِنْذَارِ الإِْمَامِ لَهُ
بِالْخُرُوجِ، فَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ الإِْمَامُ بِالْخُرُوجِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ إِلَى دَارِ
الْحَرْبِ، وَلاَ يَصِيرُ ذِمِّيًّا (3) . وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا
لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ الأَْمَانِ لِلْمُسْتَأْمَنِ
وَصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا.
__________
(1) البدائع 7 / 110، والأحكام السلطانية للماوردي 146، والأحكام السلطانية
لأبي يعلى 145.
(2) البدائع 7 / 110.
(3) فتح القدير على الهداية 5 / 272، والخراج لأبي يوسف ص 189.
(7/125)
ب - زَوَاجُ الْحَرْبِيَّةِ مِنَ
الْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ:
13 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّةَ الْمُسْتَأْمَنَةَ
إِذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَقَدْ تَوَطَّنَتْ وَصَارَتْ
ذِمِّيَّةً؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمَسْكَنِ تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ،
أَلاَ تَرَى أَنَّهَا لاَ تَمْلِكُ الْخُرُوجَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ،
فَجَعْلُهَا نَفْسَهَا تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ فِي دَارِنَا رِضًى
بِالتَّوَطُّنِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَرِضَاهَا بِذَلِكَ
دَلاَلَةٌ كَالرِّضَى بِطَرِيقِ الإِْفْصَاحِ، فَلِهَذَا صَارَتْ
ذِمِّيَّةً. بِخِلاَفِ الْمُسْتَأْمَنِ إِذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً؛
لأَِنَّ الزَّوْجَ لاَ يَكُونُ تَابِعًا لاِمْرَأَتِهِ فِي الْمُقَامِ،
فَزَوَاجُهُ مِنَ الذِّمِّيَّةِ لاَ يَدُل عَلَى رِضَاهُ بِالْبَقَاءِ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَصِيرُ ذِمِّيًّا (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْحَنَفِيَّةَ
فِي هَذَا الْحُكْمِ، قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: إِذَا دَخَلَتِ
الْحَرْبِيَّةُ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا فِي
دَارِنَا، ثُمَّ أَرَادَتِ الرُّجُوعَ لَمْ تُمْنَعْ إِذَا رَضِيَ
زَوْجُهَا أَوْ فَارَقَهَا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: تُمْنَعُ (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا
الْحُكْمِ.
ج - شِرَاءُ الأَْرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ:
14 - قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِذَا اشْتَرَى أَرْضًا
خَرَاجِيَّةً فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَزَرَعَهَا، يُوضَعُ عَلَيْهِ
خَرَاجُ الأَْرْضِ وَيَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ
تَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِذَا قَبِلَهَا فَقَدْ
رَضِيَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْل دَارِ الإِْسْلاَمِ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا.
وَلَوْ بَاعَهَا قَبْل أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا لاَ يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛
لأَِنَّ دَلِيل قَبُول الذِّمَّةِ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 10 / 84، والبدائع 7 / 110، والسير الكبير 5 / 1865،
والزيلعي 2 / 269.
(2) المغني 8 / 402.
(7/125)
وُجُوبُ الْخَرَاجِ لاَ نَفْسُ الشِّرَاءِ،
فَمَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لاَ يَصِيرُ ذِمِّيًّا.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِشَرْطِ تَنْبِيهِهِ عَلَى
أَنَّهُ فِي حَالَةِ عَدَمِ بَيْعِهِ الأَْرْضَ وَرُجُوعِهِ إِلَى
بِلاَدِهِ سَيَكُونُ ذِمِّيًّا، إِذْ لاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ ذِمِّيًّا بِلاَ
رِضًى مِنْهُ أَوْ قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ تَكْشِفُ عَنْ رِضَاهُ (1) .
هَذَا، وَلَمْ نَجِدْ لِسَائِرِ الْفُقَهَاءِ رَأْيًا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ.
ثَالِثًا - صَيْرُورَتُهُ ذِمِّيًّا بِالتَّبَعِيَّةِ:
15 - هُنَاكَ حَالاَتٌ يَصِيرُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا
تَبَعًا لِغَيْرِهِ؛ لِعَلاَقَةٍ بَيْنَهُمَا تَسْتَوْجِبُ هَذِهِ
التَّبَعِيَّةَ فِي الذِّمَّةِ مِنْهَا:
أ - الأَْوْلاَدُ الصِّغَارُ وَالزَّوْجَةُ:
16 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ الأَْوْلاَدَ الصِّغَارَ يَدْخُلُونَ فِي
الذِّمَّةِ تَبَعًا لآِبَائِهِمْ أَوْ أُمَّهَاتِهِمْ إِذَا دَخَلُوا فِي
الذِّمَّةِ (2) ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِيهِ الْتِزَامُ أَحْكَامِ
الإِْسْلاَمِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَامَلاَتِ، وَالصَّغِيرُ فِي
مِثْل هَذَا يَتْبَعُ خَيْرَ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ
الْحَنَفِيَّةُ، وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ،
حَيْثُ قَالُوا. لاَ تُعْقَدُ الذِّمَّةُ إِلاَّ لِكَافِرٍ حُرٍّ بَالِغٍ
ذَكَرٍ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ فَهُمْ أَتْبَاعٌ
(3) .
وَإِذَا بَلَغَ صِبْيَانُ أَهْل الذِّمَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ
دُونَ حَاجَةٍ إِلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) البدائع 7 / 110، وابن عابدين 3 / 346، والزيلعي 2 / 269
(2) السير الكبير 5 / 1870، والمهذب للشيرازي 2 / 251، 253، والمغني لابن
قدامة 8 / 508.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي ص 104.
(7/126)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ
خُلَفَائِهِ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ لِهَؤُلاَءِ وَلأَِنَّهُمْ تَبِعُوا
الأَْبَ فِي الأَْمَانِ، فَتَبِعُوهُ فِي الذِّمَّةِ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ لَهُ عَقْدَ
الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل كَانَ لِلأَْبِ دُونَهُ، فَعَلَى
هَذَا جِزْيَتُهُ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّرَاضِي (2) .
وَمِثْل هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي الذِّمَّةِ يَجْرِي
عَلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أَنَّ
زَوْجَيْنِ مُسْتَأْمَنَيْنِ دَخَلاَ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِالأَْمَانِ،
أَوْ تَزَوَّجَ مُسْتَأْمَنٌ مُسْتَأْمَنَةً فِي دَارِنَا ثُمَّ صَارَ
الرَّجُل ذِمِّيًّا، أَوْ دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ دَارَ الإِْسْلاَمِ
بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا، صَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا
لِلزَّوْجِ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمُقَامِ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا (3)
.
ب - اللَّقِيطُ:
17 - إِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي مَكَانِ أَهْل الذِّمَّةِ،
كَقَرْيَتِهِمْ أَوْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ يُعْتَبَرُ ذِمِّيًّا تَبَعًا
لَهُمْ، وَلَوِ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ - وَفِيهَا أَهْل ذِمَّةٍ - أَوْ بِدَارٍ فَتَحَهَا
الْمُسْلِمُونَ وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ صُلْحًا، أَوْ
أَقَرُّوهَا بِيَدِهِمْ بَعْدَ
__________
(1) السير الكبير 5 / 1870، والقوانين الفقهية ص 104، والمهذب 2 / 253،
والروضة 8 / 300، والمغني 8 / 508.
(2) المهذب للشيرازي 2 / 253، والروضة 8 / 300.
(3) السير الكبير 5 / 1865، والفتاوى الهندية 2 / 235.
(4) ابن عابدين 3 / 326، والحطاب 6 / 82، وجواهر الإكليل 2 / 220.
(7/126)
مِلْكِهَا بِجِزْيَةٍ وَفِيهَا مُسْلِمٌ -
وَلَوْ وَاحِدًا - حُكِمَ بِإِسْلاَمِ اللَّقِيطِ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل
أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلإِْسْلاَمِ. وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيمَا فَتَحُوهَا مُسْلِمٌ فَاللَّقِيطُ كَافِرٌ (1) .
رَابِعًا - الذِّمَّةُ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ:
18 - هَذَا النَّوْعُ مِنَ الذِّمَّةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا إِذَا فَتَحَ
الْمُسْلِمُونَ بِلاَدًا غَيْرَ إِسْلاَمِيَّةٍ، وَرَأَى الإِْمَامُ تَرْكَ
أَهْل هَذِهِ الْبِلاَدِ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ، وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ
عَلَيْهِمْ، كَمَا فَعَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فَتْحِ سَوَادِ
الْعِرَاقِ (2) .
حُقُوقُ أَهْل الذِّمَّةِ
19 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ أَهْل الذِّمَّةِ: أَنَّ لَهُمْ
مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ جَرَتْ عَلَى
لِسَانِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَدُل عَلَيْهَا عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَيُؤَيِّدُهَا بَعْضُ الآْثَارِ عَنِ السَّلَفِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَال: إِنَّمَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ
لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا.
لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُطَبَّقَةٍ عَلَى إِطْلاَقِهَا،
فَالذِّمِّيُّونَ لَيْسُوا كَالْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 126، والمغني لابن قدامة 5 / 748.
(2) الكاساني 7 / 111، 119، وحاشية القليوبي 3 / 126، وأحكام أهل الذمة
لابن القيم 1 / 105.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 6 / 111، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 105،
والمهذب للشيرازي 2 / 256، والأحكام السلطانية للماوردي ص 247، والمغني
لابن قدامة 8 / 445، 535.
(7/127)
وَالْوَاجِبَاتِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ
كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ.
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ أَهْل الذِّمَّةِ مِنَ
الْحُقُوقِ:
أَوَّلاً - حِمَايَةُ الدَّوْلَةِ لَهُمْ:
20 - يُعْتَبَرُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ أَهْل دَارِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ
الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَعْطَوْهُمُ الذِّمَّةَ فَقَدِ الْتَزَمُوا دَفْعَ
الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِمْ، وَصَارُوا أَهْل دَارِ
الإِْسْلاَمِ، كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَلأَِهْل الذِّمَّةِ حَقُّ الإِْقَامَةِ آمِنِينَ
مُطْمَئِنِّينَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ،
وَعَلَى الإِْمَامِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ كُل مَنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ أَهْل الذِّمَّةِ؛
لأَِنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَهْدِ حِفْظَهُمْ مِنَ الاِعْتِدَاءِ
عَلَيْهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْهُمْ، وَمَنْعُ مَنْ
يَقْصِدُهُمْ بِالأَْذَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْكُفَّارِ،
وَاسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ مُنْفَرِدِينَ
عَنْهُمْ فِي بَلَدٍ لَهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ
لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ (2) .
وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ لاَ
يُظْلَمُونَ وَلاَ يُؤْذَوْنَ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ حَقَّهُ، أَوْ
كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ
__________
(1) البدائع للكاساني 5 / 281، وشرح السير الكبير 1 / 140، والمغني 5 /
566.
(2) البدائع 7 / 111، والشرح الصغير للدردير 2 / 273 و 4 / 335، والمهذب 2
/ 256، وكشاف القناع 3 / 139، والمغني 8 / 535.
(7/127)
أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ
نَفْسٍ مِنْهُ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
حَتَّى إِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَهْل الْحَرْبِ إِذَا
اسْتَوْلُوا عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ، فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا
أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِمْ، وَجَبَ رَدُّهُمْ إِلَى
ذِمَّتِهِمْ، وَلَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُمْ، وَهَذَا فِي قَوْل عَامَّةِ
أَهْل الْعِلْمِ، كَمَا قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: لأَِنَّ ذِمَّتَهُمْ
بَاقِيَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَا يَنْقُضُهَا، وَحُكْمُ
أَمْوَالِهِمْ حُكْمُ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ فِي حُرْمَتِهَا (2) .
ثَانِيًا - حَقُّ الإِْقَامَةِ وَالتَّنَقُّل:
21 - لأَِهْل الذِّمَّةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ آمِنِينَ
مُطْمَئِنِّينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، مَا لَمْ يَظْهَرْ
مِنْهُمْ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا بَذَلُوا
الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ
كَدِمَائِنَا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إِقَامَةِ
الذِّمِّيِّ وَاسْتِيطَانِهِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ فِيمَا سِوَاهُمَا، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْضُ
الْعَرَبِ) (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
يَجْتَمِعُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ دِينَانِ (4) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَئِنْ عِشْتُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ -
لأَُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ
__________
(1) حديث: " ألا من ظلم معاهدا. . . . " أخرجه أبو داود 3 / 437 ح 3052،
قال العراقي: إسناده جيد (تنزيه الشريعة 2 / 182، نشر مكتبة القاهرة) .
(2) ابن عابدين 3 / 243، 244، والمهذب 2 / 253، والمغني 8 / 444
(3) الموسوعة الفقهية في الكويت 3 / 126.
(4) حديث: " لا يجتمع في أرض العرب دينان. . . " أخرجه أبو عبيد في الأموال
ص 128 نشر دار الفكر سنة 1395 هـ.
(7/128)
الْعَرَبِ (1) .
أَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
فَيَجُوزُ لأَِهْل الذِّمَّةِ أَنْ يَسْكُنُوا فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ
أَوْ مُنْفَرِدِينَ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ رَفْعُ بِنَائِهِمْ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ بِقَصْدِ التَّعَلِّي، وَإِذَا لَزِمَ مِنْ سُكْنَاهُمْ فِي
الْمِصْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ أُمِرُوا
بِالسُّكْنَى فِي نَاحِيَةٍ - خَارِجَ الْمِصْرِ - لَيْسَ فِيهَا جَمَاعَةُ
الْمُسْلِمِينَ إِذَا ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ (2) .
22 - وَأَمَّا حَقُّ التَّنَقُّل فَيَتَمَتَّعُ أَهْل الذِّمَّةِ بِهِ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ أَيْنَمَا يَشَاءُونَ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا،
إِلاَّ أَنَّ فِي دُخُولِهِمْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَأَرْضَ الْحِجَازِ
تَفْصِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ:
23 - إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلاَّ يَتَعَرَّضَ
الْمُسْلِمُونَ لأَِهْل الذِّمَّةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَأَدَاءِ
عِبَادَتِهِمْ دُونَ إِظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ، فَعَقْدُ الذِّمَّةِ
إِقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ
وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ احْتِمَال
دُخُول الذِّمِّيِّ فِي الإِْسْلاَمِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 275، وجواهر الإكليل 1 / 267، والماوردي ص 167، والمغني
8 / 529، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 176 - 186. والحديث: " لئن عشت
إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ". أخرجه مسلم (3 /
1388 نشر عيسى الحلبي 1375 هـ، والترمذي 4 / 156 / ح 1606، نشر مصطفى
الحلبي مصر 1398 هـ) واللفظ للترمذي. وقال: حسن صحيح.
(2) ابن عابدين 3 / 275، 276، والأحكام السلطانية للماوردي 145، 168، ولأبي
يعلى ص 143، والمغني 8 / 524، 530، وجواهر الإكليل 1 / 267، وكشاف القناع 3
/ 136.
(7/128)
عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ
لِلْمُسْلِمِينَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ، فَهَذَا يَكُونُ
عَنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ لاَ عَنْ طَرِيقِ الإِْكْرَاهِ، وَقَدْ قَال
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) ، وَفِي
كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل نَجْرَانَ:
وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُول
اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَكُل مَا تَحْتَ
أَيْدِيهِمْ. . . (2) وَهَذَا الأَْصْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ، لَكِنْ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ
نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - مَعَابِدُ أَهْل الذِّمَّةِ:
24 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَمْصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْسَامٍ (3) :
الأَْوَّل: مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْشَئُوهُ كَالْكُوفَةِ
وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ إِحْدَاثُ
كَنِيسَةٍ وَلاَ بِيعَةٍ وَلاَ مُجْتَمَعٍ لِصَلاَتِهِمْ وَلاَ صَوْمَعَةٍ
بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ، وَلاَ يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ
الْخَمْرِ وَاتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ؛ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا (4) وَلأَِنَّ
هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ
__________
(1) سورة البقرة / 256.
(2) حديث: " كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران. . . . " أخرجه
البيهقي في دلائل النبوة (5 / 385) نشر دار الكتب العلمية. بيروت سنة 1405
هـ. وفي إسناده جهالة (البداية والنهاية لابن كثير 5 / 48، نشر دار الكتب،
بيروت سنة 1405 هـ) .
(3) الخراج لأبي يوسف ص 72، والبدائع 7 / 113، والدسوقي 2 / 204، وكشاف
القناع 3 / 116، 133.
(4) حديث: " لا تبنى كنيسة في دار الإسلام، ولا يبنى ما خرب منها. . . . "
قال الزيلعي في نصب الراية (3 / 154، نشر دار المأمون. بيروت 1357 هـ) :
أخرجه ابن عدي في الكامل وقال: سنده ضعيف.
(7/129)
يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ
لِلْكُفْرِ، وَلَوْ عَاقَدَهُمُ الإِْمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ
فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ (1) .
الثَّانِي: مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ
إِحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مِلْكًا
لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَل يَجِبُ
هَدْمُهُ؟ (2) ؟ قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجِبُ هَدْمُهُ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ فَتَحُوا كَثِيرًا مِنَ الْبِلاَدِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا
شَيْئًا مِنَ الْكَنَائِسِ.
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي
الْبِلاَدِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، وَقَدْ كَتَبَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ: أَلاَّ يَهْدِمُوا
بِيعَةً وَلاَ كَنِيسَةً وَلاَ بَيْتَ نَارٍ.
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ هَدْمُهُ، فَلاَ يَقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ
كَانَتْ فِيهِ؛ لأَِنَّهَا بِلاَدٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ
يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ، كَالْبِلاَدِ الَّتِي اخْتَطَّهَا
الْمُسْلِمُونَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُهْدَمُ، وَلَكِنْ تَبْقَى
بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ اتِّخَاذِهَا لِلْعِبَادَةِ
(3) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 300، وجواهر الإكليل 1 / 268، ومغني المحتاج 4 / 253،
والمغني لابن قدامة 8 / 526.
(2) المهذب 2 / 256، والدسوقي 2 / 204، وجواهر الإكليل 1 / 268، والمغني
لابن قدامة 8 / 527.
(3) فتح القدير 5 / 300، وابن عابدين 3 / 263 ط بولاق، ومغني المحتاج 4 /
254، وأسنى المطالب 4 / 220، وقليوبي 4 / 234 - 235.
(7/129)
الثَّالِثُ: مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ
صُلْحًا، فَإِنْ صَالَحَهُمُ الإِْمَامُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ
وَالْخَرَاجَ لَنَا، فَلَهُمْ إِحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهَا
مِنَ الْكَنَائِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ
الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ، فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَنْعُ؛ لأَِنَّ
الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ.
وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا، وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ،
فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ،
وَالأَْوْلَى أَلاَّ يُصَالِحَهُمْ إِلاَّ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ
صُلْحُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَدَمِ إِحْدَاثِ شَيْءٍ
مِنْهَا.
وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا، لاَ يَجُوزُ الإِْحْدَاثُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ،
وَيَجُوزُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَلاَ يَتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مِنْ إِبْقَائِهَا كَنَائِسَ (1) .
ب - إِجْرَاءُ عِبَادَاتِهِمْ:
25 - الأَْصْل فِي أَهْل الذِّمَّةِ تَرْكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ،
فَيُقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي
يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ، كَضَرْبِ النَّاقُوسِ خَفِيفًا
فِي دَاخِل مَعَابِدِهِمْ، وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي
يَعْتَقِدُونَ بِجَوَازِهَا، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَاتِّخَاذِ
الْخَنَازِيرِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 300، والدسوقي 2 / 204، وجواهر الإكليل 1 / 268، ومغني
المحتاج 4 / 254، والمغني لابن قدامة 8 / 526، 527.
(7/130)
وَبَيْعِهَا، أَوِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ
فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ إِذَا
انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ. وَيُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ هَذَا أَلاَّ
يُظْهِرُوهَا وَلاَ يَجْهَرُوا بِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلاَّ
مُنِعُوا وَعُزِّرُوا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، فَقَدْ جَاءَ فِي
شُرُوطِ أَهْل الذِّمَّةِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ: " أَلاَّ
نَضْرِبَ نَاقُوسًا إِلاَّ ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا،
وَلاَ نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا، وَلاَ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي
الصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةَ فِي كَنَائِسِنَا، وَلاَ نُظْهِرُ صَلِيبًا
وَلاَ كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ " إِلَخْ (1)
هَذَا، وَقَدْ فَصَّل بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقُرَى، فَقَالُوا: لاَ يُمْنَعُونَ مِنْ
إِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ
وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْل
الإِْسْلاَمِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ،
وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالأَْعْيَادُ وَالْحُدُودُ؛
لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ إِظْهَارِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ لِكَوْنِهِ
إِظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إِظْهَارِ شَعَائِرِ
الإِْسْلاَمِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لإِِظْهَارِ
الشَّعَائِرِ، وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ (2) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقُرَى الْعَامَّةِ وَالْقُرَى الَّتِي
يَنْفَرِدُ بِهَا أَهْل الذِّمَّةِ، فَلاَ يُمْنَعُونَ فِي الأَْخِيرَةِ
مِنْ إِظْهَارِ عِبَادَاتِهِمْ (3) .
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 837، وابن عابدين 3 / 272، والدسوقي 2 / 204،
ومغني المحتاج 4 / 257، وكشاف القناع 3 / 133.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 113.
(3) المهذب 2 / 256.
(7/130)
رَابِعًا - اخْتِيَارُ الْعَمَل:
26 - يَتَمَتَّعُ الذِّمِّيُّ بِاخْتِيَارِ الْعَمَل الَّذِي يَرَاهُ
مُنَاسِبًا لِلتَّكَسُّبِ، فَيَشْتَغِل بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ
كَمَا يَشَاءُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الذِّمِّيَّ فِي
الْمُعَامَلاَتِ كَالْمُسْلِمِ، هَذَا هُوَ الأَْصْل، وَهُنَاكَ
اسْتِثْنَاءَاتٌ فِي هَذَا الْمَجَال سَتَأْتِي فِي بَحْثِ مَا يُمْنَعُ
مِنْهُ الذِّمِّيُّونَ.
أَمَّا الأَْشْغَال وَالْوَظَائِفُ الْعَامَّةُ، فَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ
الإِْسْلاَمُ كَالْخِلاَفَةِ، وَالإِْمَارَةِ عَلَى الْجِهَادِ،
وَالْوِزَارَةِ وَأَمْثَالِهَا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْهَدَ بِذَلِكَ
إِلَى ذِمِّيٍّ، وَمَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْسْلاَمُ كَتَعْلِيمِ
الصِّغَارِ الْكِتَابَةَ، وَتَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الإِْمَامُ أَوِ
الأَْمِيرُ، يَجُوزُ أَنْ يُمَارِسَهُ الذِّمِّيُّونَ (1) . وَتَفْصِيل
هَذِهِ الْوَظَائِفِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. وَانْظُرْ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَ:
(اسْتِعَانَةٍ) .
الْمُعَامَلاَتُ الْمَالِيَّةُ لأَِهْل الذِّمَّةِ:
27 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ فِي الْمُعَامَلاَتِ
كَالْبُيُوعِ وَالإِْجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ
كَالْمُسْلِمِينَ (إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي) . وَذَلِكَ لأَِنَّ
الذِّمِّيَّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى
الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ، فَيَصِحُّ مِنْهُمُ الْبَيْعُ
وَالإِْجَارَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَنَحْوُهَا مِنَ
الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ
تَصِحُّ مِنْهُمْ عُقُودُ الرِّبَا وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ
وَالْمَحْظُورَةُ الَّتِي لاَ تَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا صَرَّحَ
بِهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ.
قَال الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الذِّمِّيِّينَ فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 276، وجواهر الإكليل 2 / 254، والأحكام السلطانية
للماوردي ص 21 - 25، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 13 - 15.
(7/131)
الْمُعَامَلاَتِ وَالتِّجَارَاتِ
كَالْبُيُوعِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ (1) ، وَمِثْلُهُ
مَا قَالَهُ الإِْمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ، وَصَرَّحَ بِهِ
الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَال: كُل مَا جَازَ مِنْ بُيُوعِ
الْمُسْلِمِينَ جَازَ مِنْ بُيُوعِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَمَا يَبْطُل أَوْ
يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ يَبْطُل وَيَفْسُدُ مِنْ
بُيُوعِهِمْ، إِلاَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ (2) .
بَل إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ بَيْعِ الْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَهُمْ أَيْضًا قَبْل الْقَبْضِ. وَكَلاَمُ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا يَدُل عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ
الْقَاعِدَةِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ أَهْل دَارِ
الإِْسْلاَمِ، وَمُلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ فِي الْمُعَامَلاَتِ
(3) .
قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: تَبْطُل بَيْنَهُمُ
الْبُيُوعُ الَّتِي تَبْطُل بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا، فَإِذَا
مَضَتْ وَاسْتُهْلِكَتْ لَمْ نُبْطِلْهَا وَقَال: فَإِنْ جَاءَ رَجُلاَنِ
مِنْهُمْ قَدْ تَبَايَعَا خَمْرًا وَلَمْ يَتَقَابَضَاهَا أَبْطَلْنَا
الْبَيْعَ، وَإِنْ تَقَابَضَاهَا لَمْ نَرُدَّهُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ مَضَى (4)
.
إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نُجْمِلُهُ
فِيمَا يَلِي:
أ - الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ
بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُمَا
لاَ يُعْتَبَرَانِ مَالاً مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) تفسير الأحكام للجصاص 2 / 436، وانظر ابن عابدين 3 / 276.
(2) المبسوط للسرخسي 10 / 84، والبدائع للكاساني 4 / 176.
(3) المغني 8 / 505، 5 / 515، وكشاف القناع 3 / 117، وجواهر الإكليل 2 /
25، 181.
(4) الأم للشافعي 4 / 211.
(7/131)
قَال: أَلاَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالأَْصْنَامِ (1)
، لَكِنَّهُمْ أَقَرُّوا الْمُعَامَلَةَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ
أَهْل الذِّمَّةِ، بِنَحْوِ شُرْبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ
مِثْلِهَا، بِشَرْطِ عَدَمِ الإِْظْهَارِ؛ لأَِنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ
الذِّمَّةِ: أَنْ يُقَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْكُفْرِ مُقَابِل
الْجِزْيَةِ، وَيُتْرَكَ هُوَ وَشَأْنُهُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ مِنَ الْحِل
وَالْحُرْمَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِمَّا
يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا.
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ (2) .
وَيَسْتَدِل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَمْرَ
وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، كَالْخَل وَالشَّاةِ
لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُشَّارِهِ
بِالشَّامِ: أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ
أَثْمَانِهَا، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لِمَا
أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمُ الْبَيْعَ (3) .
ب - ضَمَانُ الإِْتْلاَفِ:
29 - إِذَا أَتْلَفَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ فَلاَ ضَمَانَ
اتِّفَاقًا؛ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ
إِتْلاَفُهُمَا لأَِهْل الذِّمَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ مَا لاَ يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ
الْمُسْلِمِ لاَ يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. . .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 424 ح 2236 تصوير عن الطبعة السلفية) .
(2) البدائع للكاساني 5 / 143، وجواهر الإكليل 1 / 470، وحاشية الجمل 3 /
481، والأحكام السلطانية للماوردي ص 145، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
143، والمغني لابن قدامة 5 / 223.
(3) البدائع 5 / 143.
(4) مغني المحتاج 2 / 285، والمغني لابن قدامة 5 / 223.
(7/132)
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا
بِضَمَانِ مُتْلِفِهِمَا لأَِهْل الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُمَا مَالٌ
مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ، وَبِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ، إِذَا لَمْ
يُظْهِرِ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ (1) ، وَتَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ) .
ج - اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا لِلْخِدْمَةِ:
30 - تَجُوزُ مُعَامَلَةُ الإِْيجَارِ وَالاِسْتِئْجَارِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُ إِذَا
اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمًا لإِِجْرَاءِ عَمَلٍ، فَإِذَا كَانَ
الْعَمَل الَّذِي يُؤَاجِرُ الْمُسْلِمَ لِلْقِيَامِ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ
لِنَفْسِهِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَرْثِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ،
أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ كَعَصْرِ الْخُمُورِ
وَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ.
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ
لِخِدْمَةِ الذِّمِّيِّ الشَّخْصِيَّةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِذْلاَل
الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الْكَافِرِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:
(إِجَارَةٍ) (3)
د - وَكَالَةُ الذِّمِّيِّ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ:
31 - لاَ يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّل مُسْلِمٌ كَافِرًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ
لَهُ مِنْ مُسْلِمَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ
الذِّمِّيَّ لاَ يَمْلِكُ عَقْدَ هَذَا النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ فَلاَ
يَجُوزُ وَكَالَتُهُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ؛
لأَِنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ: أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّل
مِمَّنْ يَمْلِكُ
__________
(1) البدائع 5 / 16، 113، والزرقاني على خليل 3 / 146.
(2) البدائع 4 / 189، والشرح الصغير 4 / 35، وجواهر الإكليل 2 / 188،
والقليوبي 3 / 67، والمغني 6 / 138.
(3) ر: (إجارة) في الموسوعة الفقهية (1 / 288 ف 104) .
(7/132)
فِعْل مَا وُكِّل بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ
الْوَكِيل عَاقِلاً، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ (1) .
هـ - عَدَمُ تَمْكِينِ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ
الْحَدِيثِ:
32 - لاَ يَجُوزُ تَمْكِينُ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ أَوْ
دَفْتَرٍ فِيهِ أَحَادِيثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لأَِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى
ابْتِذَالِهِ (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ،
إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ يَمْنَعَانِ الذِّمِّيَّ
مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ إِذَا اغْتَسَل لِذَلِكَ
(3) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفِ) .
و شَهَادَةُ أَهْل الذِّمَّةِ:
33 - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَهْل الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
اتِّفَاقًا، إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ
غَيْرُهُمْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَيُعَلِّل الْفُقَهَاءُ عَدَمَ قَبُول
الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلاَيَةِ،
وَلاَ وِلاَيَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ.
كَذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَهْل الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ} ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِذِي عَدْلٍ. وَأَجَازَهَا
__________
(1) البدائع 6 / 20، 22، والزرقاني على خليل 3 / 128، والمغني لابن قدامة 5
/ 88.
(2) جواهر الإكليل 2 / 3، والأم للشافعي 4 / 212، والمغني 1 / 624.
(3) ابن عابدين 1 / 119.
(7/133)
الْحَنَفِيَّةُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ
مِلَلُهُمْ، مَا دَامُوا عُدُولاً فِي دِينِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْل
الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَلأَِنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ، فَتُقْبَل شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ (1) .
هَذَا، وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ أُخْرَى فِي مَسَائِل الْوَصِيَّةِ
وَإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ وَالتَّمَلُّكِ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ
وَنَحْوِهَا، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ.
أَنْكِحَةُ أَهْل الذِّمَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا
34 - لاَ يَخْتَلِفُ أَحْكَامُ نِكَاحِ أَهْل الذِّمَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ
مِنْ أَهْل الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً.
وَلاَ يَجُوزُ زَوَاجُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ
كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ كِتَابِيًّا. وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}
(2) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (3) وَلاَ يَجُوزُ
زَوَاجُ مُسْلِمٍ مِنْ ذِمِّيَّةٍ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا
__________
(1) البدائع 6 / 280، والفتاوى الهندية 3 / 396، والخرشي على خليل 7 / 176،
والمهذب 2 / 325، والمغني لابن قدامة 9 / 182 - 184. وحديث: " أن النبي صلى
الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. . . " أخرجه ابن ماجه
(2 / 794 ح 2373، نشر دار إحياء الكتب - القاهرة 1372 هـ والبيهقي 10 /
165) قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (4 / 198 نشر المكتبة الأثرية) :
أخرجه ابن ماجه، وفي إسناده مجالد وهو سيء الحفظ.
(2) سورة البقرة / 221.
(3) سورة الممتحنة / 10.
(7/133)
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1)
وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً، إِذَا كَانَتْ
كِتَابِيَّةً كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الْيَوْمَ أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ (3) .
وَاجِبَاتُ أَهْل الذِّمَّةِ الْمَالِيَّةِ
35 - عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَاجِبَاتٌ وَتَكَالِيفُ مَالِيَّةٌ
يَلْتَزِمُونَ بِهَا قِبَل الدَّوْلَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ مُقَابِل مَا
يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ الْحِمَايَةِ وَالْحُقُوقِ، وَهَذِهِ
الْوَاجِبَاتُ عِبَارَةٌ عَنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ،
وَفِيمَا يَلِي نُجْمِل أَحْكَامَهَا:
أ - الْجِزْيَةُ: وَهِيَ الْمَال الَّذِي تُعْقَدُ عَلَيْهِ الذِّمَّةُ
لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ لأَِمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، تَحْتَ حُكْمِ
الإِْسْلاَمِ وَصَوْنِهِ (4) . وَتُؤْخَذُ كُل سَنَةٍ مِنَ الْعَاقِل
الْبَالِغِ الذَّكَرِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ
وَالْمَجَانِينِ اتِّفَاقًا، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا:
السَّلاَمَةُ مِنَ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ. وَفِي مِقْدَارِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَمَا تَسْقُطُ بِهِ
الْجِزْيَةُ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْحْكَامِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ: (جِزْيَةٌ) .
__________
(1) سورة البقرة / 221.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) الجصاص 2 / 324، والبدائع 2 / 253، والخرشي 3 / 226، 8 / 69، والمهذب 2
/ 45، 46، 255، والإقناع 2 / 71، 72، والمغني 6 / 589، 7 / 800، وابن
عابدين 2 / 394، والزيلعي 2 / 173
(4) ابن عابدين 3 / 266، والنهاية لابن الأثير 1 / 162، ومنح الجليل 1 /
756، وقليوبي 4 / 228، والمغني 8 / 495.
(7/134)
ب - الْخَرَاجُ: وَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى
رِقَابِ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا (1) .
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى
الأَْرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِسَاحَتِهَا وَنَوْعِ زِرَاعَتِهَا،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى
الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ كَالْخُمُسِ أَوِ السُّدُسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ
(2) ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (خَرَاجٌ) .
ج - الْعُشُورُ: وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَمْوَال أَهْل الذِّمَّةِ
الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ، إِذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى
بَلَدٍ دَاخِل دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَمِقْدَارُهَا نِصْفُ الْعُشْرِ،
وَتُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ حِينَ الاِنْتِقَال عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَوْجَبُوهَا
فِي كُل مَرَّةٍ يَنْتَقِلُونَ بِهَا (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:
(عُشْرٍ) .
مَا يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْل الذِّمَّةِ:
36 - يَجِبُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ الاِمْتِنَاعُ عَمَّا فِيهِ غَضَاضَةٌ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَانْتِقَاصُ دِينِ الإِْسْلاَمِ، مِثْل ذِكْرِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ
دِينِهِ بِسُوءٍ لأَِنَّ إِظْهَارَ هَذِهِ الأَْفْعَال اسْتِخْفَافٌ
بِالْمُسْلِمِينَ وَازْدِرَاءٌ بِعَقِيدَتِهِمْ. وَعَدَمُ الْتِزَامِ
الذِّمِّيِّ بِمَا ذُكِرَ يُؤَدِّي إِلَى انْتِقَاضِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي
بَحْثِ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 146، ولأبي يعلى ص 146.
(2) ابن عابدين 3 / 256، وجواهر الإكليل 1 / 260، وقليوبي 4 / 224، والمغني
2 / 716.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 183، والمغني 8 / 518، والأموال لأبي عبيد ص 533.
(7/134)
كَذَلِكَ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ
إِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ إِدْخَالِهَا فِيهَا عَلَى وَجْهِ الشُّهْرَةِ
وَالظُّهُورِ. وَيُمْنَعُونَ كَذَلِكَ مِنْ إِظْهَارِ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ
حُرْمَتَهُ كَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا.
وَيُؤْخَذُ أَهْل الذِّمَّةِ بِالتَّمْيِيزِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي
زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَمَلاَبِسِهِمْ، وَلاَ يُصَدَّرُونَ فِي
مَجَالِسَ، وَذَلِكَ إِظْهَارًا لِلصِّغَارِ عَلَيْهِمْ، وَصِيَانَةً
لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الاِغْتِرَارِ بِهِمْ أَوْ مُوَالاَتِهِمْ
(1) .
وَتَفْصِيل مَا يُمَيِّزُ بِهِ أَهْل الذِّمَّةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي
الزِّيِّ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِل
تُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْجِزْيَةِ
وَعَقْدِ الذِّمَّةِ.
جَرَائِمُ أَهْل الذِّمَّةِ وَعُقُوبَاتُهُمْ
أَوَّلاً - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْل الذِّمَّةِ فِي الْحُدُودِ:
37 - إِذَا ارْتَكَبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ جَرِيمَةً مِنْ
جَرَائِمِ الْحُدُودِ، كَالزِّنَى أَوِ الْقَذْفِ أَوِ السَّرِقَةِ أَوْ
قَطْعِ الطَّرِيقِ، يُعَاقَبُ بِالْعِقَابِ الْمُحَدَّدِ لِهَذِهِ
الْجَرَائِمِ شَأْنُهُمْ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ شُرْبَ
الْخَمْرِ حَيْثُ لاَ يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيهِ؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ
حِلِّهَا، وَمُرَاعَاةً لِعَهْدِ الذِّمَّةِ، إِلاَّ إِنْ أَظْهَرُوا
شُرْبَهَا، فَيُعَزَّرُونَ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي
الْجُمْلَةِ، إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الأَْحْكَامِ يَخْتَصُّ بِهَا
أَهْل الذِّمَّةِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي:
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 840، والبدائع للكاساني 7 / 113، 114، وجواهر
الإكليل 1 / 268، 269، ومغني المحتاج 4 / 256، 257، وكشاف القناع 3 / 126،
127، والأحكام السلطانية للماوردي ص 140، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص
144، 145.
(7/135)
أ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى الْمُسَاوَاةِ فِي تَطْبِيقِ
عُقُوبَةِ الرَّجْمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ، وَلَوْ كَانَ
مُتَزَوِّجًا مِنْ ذِمِّيَّةٍ، لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ
الْعُقُوبَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَجْمِ يَهُودِيَّيْنِ (1) .
وَصَرَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِأَنَّ الزَّانِيَ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ مُتَزَوِّجًا لاَ يُرْجَمُ؛ لاِشْتِرَاطِ
الإِْسْلاَمِ فِي تَطْبِيقِ الرَّجْمِ عِنْدَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ
الْمُتَزَوِّجُ بِالْكِتَابِيَّةِ لاَ يُرْجَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛
لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الإِْحْصَانِ: الإِْسْلاَمُ وَالزَّوَاجُ مِنْ
مُسْلِمَةٍ (2) مُسْتَدِلًّا بِمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
يَهُودِيَّةً: دَعْهَا فَإِنَّهَا لاَ تُحْصِنُكَ (3) ،
ب - لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ أَحَدًا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، بَل
يُعَزَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَذْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ
مُسْلِمًا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (4) .
ج - يُطَبَّقُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى السَّارِقِ الْمُسْلِمِ أَوِ
الذِّمِّيِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ
أَهْل الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ خَمْرًا
أَوْ خِنْزِيرًا،
__________
(1) حديث: " رجم اليهودين. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 1166 ح
6841 مصور عن طبعة السلفية) .
(2) البدائع 7 / 38، وحاشية الدسوقي 4 / 320، والمنتقى شرح الموطأ 3 / 331،
والمهذب 2 / 268، والمغني لابن قدامة 10 / 129.
(3) حديث: " إنها لا تحصنك. . . . " أخرجه الداقطني عن كعب بن مالك (3 /
148 نشر دار المحاسن 1386 هـ) وقال: فيه أبو بكر بن مريم وهو ضعيف.
(4) ابن عابدين 3 / 168، والبدائع للكاساني 7 / 40، والحطاب 6 / 298، 299،
والمهذب 2 / 273، والمغني 8 / 216.
(7/135)
لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا (1) ، كَمَا هُوَ
مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ) .
د - إِذَا بَغَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مُنْفَرِدِينَ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ،
إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ عَنْ ظُلْمٍ رَكِبَهُمْ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَإِذَا بَغَوْا مَعَ الْبُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ
تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ (2) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَغْيٌ) .
هَذَا، وَيُعَاقَبُ أَهْل الذِّمَّةِ بِعُقُوبَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ
(الْحِرَابَةِ) إِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا كَالْمُسْلِمِينَ بِلاَ
خِلاَفٍ (3) .
ثَانِيًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْل الذِّمَّةِ فِي الْقِصَاصِ:
38 - أ - إِذَا ارْتَكَبَ الذِّمِّيُّ الْقَتْل الْعَمْدَ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ، إِذَا كَانَ الْقَتِيل مُسْلِمًا أَوْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ
بِلاَ خِلاَفٍ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْقَتِيل مُسْتَأْمَنًا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَال: إِنَّ
عِصْمَةَ الْمُسْتَأْمَنِ مُؤَقَّتَةٌ، فَكَانَ فِي حَقْنِ دَمِهِ شُبْهَةٌ
تُسْقِطُ الْقِصَاصَ.
أَمَّا إِذَا قَتَل مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أَوْ ذِمِّيَّةً عَمْدًا، فَقَدْ
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ قِصَاصَ عَلَى الْمُسْلِمِ؛
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ
بِكَافِرٍ (4) ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) البدائع 7 / 67، والخرشي 8 / 92، والمهذب 2 / 281، والمغني 8 / 268.
(2) البدائع 7 / 113، ومغني المحتاج 4 / 128، 259، والخرشي 3 / 149،
والمغني 8 / 121، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 145.
(3) المبسوط 9 / 95، وجواهر الإكليل 1 / 269، والمغني 8 / 298.
(4) حديث: " لا يقتل مسلم بكافر. . . . " أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب
(فتح الباري 1 / 204 ح 111 مصور عن الطبعة السلفية) .
(7/136)
يُقْتَصُّ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ،
وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا إِذَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ غِيلَةً
(خَدِيعَةً) أَوْ لأَِجْل الْمَال، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ)
(1) .
ب - لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ
فِي الْقَتْل الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْخَطَأِ عَلَى
عَاقِلَةِ الْقَاتِل، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتِيل مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ.
وَفِي مِقْدَارِ دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْمَقْتُول، وَمَنْ يَشْتَرِكُ فِي
تَحَمُّلِهَا مِنْ عَاقِلَةِ الذِّمِّيِّ الْقَاتِل تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ
(2) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) (وَعَاقِلَةٌ) .
وَلاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الذِّمِّيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْكَافِرُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
لأَِنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، لاَ
إِنْ كَانَتْ صِيَامًا (3) . (ر: كَفَّارَةٌ) .
ج - لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ فِي جَرَائِمِ
الاِعْتِدَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، مِنَ الْجُرْحِ وَقَطْعِ
الأَْعْضَاءِ، إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُقْتَصُّ مِنَ الذِّمِّيِّ
لِلْمُسْلِمِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ مُطْلَقًا
إِذَا تَوَفَّرَتِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 249، والبدائع 7 / 236، ومغني المحتاج 4 / 16، والمهذب
2 / 185، 186، والخرشي 8 / 3 - 6، وجواهر الإكليل 2 / 255، والمغني 7 /
652، 653.
(2) ابن عابدين 3 / 249، والبدائع 7 / 254، والخرشي 8 / 31، 32، وجواهر
الإكليل 2 / 271، والقليوبي 4 / 155، والمغني 7 / 793.
(3) البدائع 7 / 252، والخرشي 8 / 49، ومغني المحتاج 4 / 107، والمغني لابن
قدامة 8 / 94.
(7/136)
الشُّرُوطُ، وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ
الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْل
الذِّمَّةِ مُطْلَقًا، بِحُجَّةِ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي تَطْبِيقِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَتِ الْجُرُوحُ فِيمَا
بَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ (1) وَتَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ. (ر: قِصَاصٌ) .
ثَالِثًا - التَّعْزِيرَاتُ:
39 - الْعُقُوبَاتُ التَّعْزِيرِيَّةُ يُقَدِّرُهَا وَلِيُّ الأَْمْرِ
حَسَبَ ظُرُوفِ الْجَرِيمَةِ وَالْمُجْرِمِ، فَتُطَبَّقُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ، وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ مُنَاسِبًا
مَعَ الْجَرِيمَةِ شِدَّةً وَضَعْفًا وَمَعَ حَالَةِ الْمُجْرِمِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٍ) .
خُضُوعُ أَهْل الذِّمَّةِ لِوِلاَيَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ
40 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الذِّمِّيِّ الْقَضَاءَ
عَلَى الذِّمِّيِّينَ، وَإِنَّمَا يَخْضَعُونَ إِلَى جِهَةِ الْقَضَاءِ
الْعَامَّةِ الَّتِي يَخْضَعُ لَهَا الْمُسْلِمُونَ. وَقَالُوا: وَأَمَّا
جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ،
فَإِنَّمَا هِيَ رِئَاسَةٌ وَزَعَامَةٌ، لاَ تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ،
فَلاَ يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ، بَل بِالْتِزَامِهِمْ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ حَكَمَ الذِّمِّيُّ بَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ
جَازَ، فِي كُل مَا يُمْكِنُ التَّحْكِيمُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ أَهْلٌ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 356، وجواهر الإكليل 2 / 259، ومغني المحتاج 4 / 25.
(2) ابن عابدين 3 / 177، وجواهر الإكليل 2 / 296، وقليوبي 4 / 205، والمغني
8 / 324 - 326.
(7/137)
لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ،
فَجَازَ تَحْكِيمُهُ بَيْنَهُمْ. إِلاَّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى:
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَحْكِيمُ أَهْل الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ
لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى، وَأَمَّا تَحْكِيمُهُمْ فِي الْقِصَاصِ
فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
41 - وَإِذَا رُفِعَتِ الدَّعْوَى إِلَى الْقَضَاءِ الْعَامِّ يَحْكُمُ
الْقَاضِي الْمُسْلِمُ فِي خُصُومَاتِ أَهْل الذِّمَّةِ وُجُوبًا، إِذَا
كَانَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا
إِذَا كَانَ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ
بَيْنَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
لِلْحَنَابِلَةِ: الْقَاضِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ: الْحُكْمِ
أَوِ الإِْعْرَاضِ (3) بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوك
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اشْتَرَطُوا التَّرَافُعَ مِنْ قِبَل
الْخَصْمَيْنِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخَيَّرُ
الْقَاضِي فِي النَّظَرِ فِي الدَّعْوَى أَوْ عَدَمِ النَّظَرِ فِيهَا (5)
. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٍ) (وَوِلاَيَةٍ) .
وَفِي جَمِيعِ الأَْحْوَال إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي الْمُسْلِمُ بَيْنَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 397، وابن عابدين 4 / 299، وجواهر الإكليل 2 /
221، ومغني المحتاج 4 / 377، والمغني لابن قدامة 8 / 39.
(2) سورة المائدة / 49.
(3) البدائع 2 / 312، والقليوبي 3 / 256، ومغني المحتاج 3 / 195، والمغني
لابن قدامة 8 / 214، 215، 535.
(4) سورة المائدة / 42.
(5) جواهر الإكليل 1 / 296، 2 / 217.
(7/137)
غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لاَ يَحْكُمُ إِلاَّ
بِالشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَل اللَّهُ إِلَيْكَ}
(1) .
مَا يُنْقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ
42 - يَنْتَهِي عَهْدُ الذِّمَّةِ بِإِسْلاَمِ الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ عَقْدَ
الذِّمَّةِ عُقِدَ وَسِيلَةً لِلإِْسْلاَمِ، وَقَدْ حَصَل الْمَقْصُودُ.
وَيُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِلُحُوقِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ،
أَوْ بِغَلَبَتِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ يُحَارِبُونَنَا مِنْهُ؛ لأَِنَّهُمْ
صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا، فَيَخْلُو عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنِ
الْفَائِدَةِ، وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحَرْبِ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
الْمَذَاهِبِ (2) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ
أَيْضًا بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الْجِزْيَةِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى
الْعَقْدِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ عَنْ إِعْطَاءِ
الْجِزْيَةِ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لأَِنَّ الْغَايَةَ الَّتِي
يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَال الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لاَ أَدَاؤُهَا،
وَالاِلْتِزَامُ بَاقٍ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الاِمْتِنَاعُ لِعُذْرِ
الْعَجْزِ الْمَالِيِّ، فَلاَ يُنْقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ (4) .
43 - وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى اعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
نَاقِضَةً لِلْعَهْدِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ بِشُرُوطٍ:
__________
(1) سورة المائدة / 49.
(2) الهداية مع الفتح 5 / 303، وجواهر الإكليل 1 / 267، ومغني المحتاج 4 /
258، 259، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 143، 144.
(3) جواهر الإكليل 1 / 269، ومغني المحتاج 4 / 258، والأحكام السلطانية
لأبي يعلى 145.
(4) البدائع 7 / 113، وفتح القدير على الهداية 5 / 302، 303.
(7/138)
فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْقَضُ
عَهْدُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَرُّدِ عَلَى الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ،
بِإِظْهَارِ عَدَمِ الْمُبَالاَةِ بِهَا، وَبِإِكْرَاهِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ
عَلَى الزِّنَى بِهَا إِذَا زَنَى بِهَا بِالْفِعْل، وَبِغُرُورِهَا
وَتَزَوُّجِهَا وَوَطْئِهَا، وَبِتَطَلُّعِهِ عَلَى عَوْرَاتِ
الْمُسْلِمِينَ، وَبِسَبِّ نَبِيٍّ مُجْمَعٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَنَا
بِمَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ (1) . فَإِنْ سَبَّ بِمَا أُقِرَّ
عَلَى كُفْرِهِ بِهِ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ، كَمَا إِذَا قَال: عِيسَى
إِلَهٌ مَثَلاً، فَإِنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ، أَوْ
أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ، أَوْ دَل أَهْل الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةِ
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ طَعَنَ فِي
الإِْسْلاَمِ أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ ذَكَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوءٍ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ انْتِقَاضَ
الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ، وَإِلاَّ فَلاَ يُنْتَقَضُ؛ لِمُخَالَفَتِهِ
الشَّرْطَ فِي الأَْوَّل دُونَ الثَّانِي (&# x662
;) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ فَعَلُوا مَا ذُكِرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ
نُقِضَ الْعَهْدُ مُطْلَقًا، وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّ
ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ (3) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ سَبَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُنْقَضُ عَهْدُهُ إِذَا
لَمْ يُعْلِنِ السَّبَّ؛ لأَِنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ، وَالْعَقْدُ
يَبْقَى مَعَ أَصْل الْكُفْرِ، فَكَذَا مَعَ الزِّيَادَةِ، وَإِذَا
أَعْلَنَ قُتِل، وَلَوِ امْرَأَةً، وَلَوْ قَتَل مُسْلِمًا أَوْ زَنَى
بِمُسْلِمَةٍ لاَ يُنْقَضُ عَهْدُهُ، بَل تُطَبَّقُ عَلَيْهِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 269.
(2) مغني المحتاج 4 / 258، 259.
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 143 - 145، والمغني لابن قدامة 8 / 525،
وكشاف القناع 3 / 143.
(7/138)
عُقُوبَةُ الْقَتْل وَالزِّنَى؛ لأَِنَّ
هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا، وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ
وَالْحُرْمَةِ، وَبَقِيَتِ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ، فَمَعَ
الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى (1) .
حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ:
44 - إِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ
فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَيُحْكَمُ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ
الْحَرْبِ، لأَِنَّهُ الْتَحَقَ بِالأَْمْوَاتِ، وَتَبِينُ مِنْهُ
زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي خَلَّفَهَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ،
وَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ، وَإِذَا تَابَ وَرَجَعَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ
وَتَعُودُ ذِمَّتُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ
وَأُسِرَ يُسْتَرَقُّ، بِخِلاَفِ الْمُرْتَدِّ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي حُكْمِ نَاقِضِ الْعَهْدِ،
حَسَبَ اخْتِلاَفِ أَسْبَابِ النَّقْضِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: قُتِل
بِسَبِّ نَبِيٍّ بِمَا لَمْ يَكْفُرْ بِهِ وُجُوبًا، وَبِغَصْبِ مُسْلِمَةٍ
عَلَى الزِّنَى، أَوْ غُرُورِهَا بِإِسْلاَمِهِ فَتَزَوَّجَتْهُ، وَهُوَ
غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَأَبَى الإِْسْلاَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَمَّا الْمُطَّلِعُ
عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى الإِْمَامُ فِيهِ رَأْيَهُ
بِقَتْلٍ أَوِ اسْتِرْقَاقٍ. وَمَنِ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ
أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، وَإِنْ خَرَجَ لِظُلْمٍ
لَحِقَهُ لاَ يُسْتَرَقُّ وَيُرَدُّ لِجِزْيَتِهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ يُقْتَل،
وَإِنِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ إِبْلاَغُهُ مَأْمَنَهُ
فِي
__________
(1) البدائع 7 / 113، والهداية مع فتح القدير 5 / 302، 303.
(2) ابن عابدين 3 / 277، والبناية على الهداية 5 / 842.
(3) جواهر الإكليل 1 / 269، والشرح الكبير للدردير على هامش الدسوقي 2 /
205.
(7/139)
الأَْظْهَرِ، بَل يَخْتَارُ الإِْمَامُ
فِيهِ قَتْلاً أَوْ رِقًّا أَوْ مَنًّا أَوْ فِدَاءً (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَسْبَابِ النَّقْضِ فِي
الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَالُوا: خُيِّرَ الإِْمَامُ فِيهِ بَيْنَ
أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الْقَتْل وَالاِسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ
وَالْمَنِّ، كَالأَْسِيرِ الْحَرْبِيِّ؛ لأَِنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا
عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلاَ عَقْدٍ، فَأَشْبَهَ اللِّصَّ
الْحَرْبِيَّ، وَيَحْرُمُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ نَقْضِ الْعَهْدِ إِذَا
أَسْلَمَ (2) .
هَذَا، وَلاَ يَبْطُل أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ بِنَقْضِ
عَهْدِهِمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لأَِنَّ النَّقْضَ إِنَّمَا وُجِدَ
مِنَ الرِّجَال الْبَالِغِينَ دُونَ الذُّرِّيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ
يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِهِمْ. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ
أَنَّهُ تُسْتَرَقُّ ذُرِّيَّتُهُمْ (3) .
أَهْل الشُّورَى
انْظُرْ: مَشُورَةً
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 258، 259.
(2) كشاف القناع 3 / 144، والمغني 8 / 459، 529.
(3) ابن عابدين 3 / 277، وجواهر الإكليل 1 / 269، ومغني المحتاج 4 / 259،
وكشاف القناع 3 / 144.
(7/139)
أَهْل الْكِتَابِ
التَّعْرِيفُ:
1 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ (أَهْل الْكِتَابِ) هُمُ:
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِفِرَقِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ (1) .
وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ أَهْل الْكِتَابِ هُمْ: كُل
مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ، وَيَشْمَل الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى، وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُدَ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَشِيثٍ. وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دِينًا سَمَاوِيًّا
مُنَزَّلاً بِكِتَابٍ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أُنْزِل الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} (2) قَالُوا:
وَلأَِنَّ تِلْكَ الصُّحُفَ كَانَتْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالاً لاَ أَحْكَامَ
فِيهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى
أَحْكَامٍ.
وَالسَّامِرَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي
أَكْثَرِ الأَْحْكَامِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّابِئَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى.
وَفِي قَوْلٍ لأَِحْمَد، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ النَّصَارَى.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 268، وفتح القدير 3 / 373 ط بولاق، وتفسير القرطبي 20 /
140 ط دار الكتب، والمهذب 2 / 250 ط الحلبي، والمغني مع الشرح الكبير 7 /
501.
(2) سورة الأنعام / 156.
(7/140)
ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ:
أَنَّهُمْ إِنْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُول دِينِهِمْ،
مِنْ تَصْدِيقِ الرُّسُل وَالإِْيمَانِ بِالْكُتُبِ كَانُوا مِنْهُمْ،
وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أُصُول دِينِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ،
وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ (1) .
أَمَّا الْمَجُوسُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا
مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَتَهُمْ فِي
قَبُول الْجِزْيَةِ فَقَطْ. وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَبُو
ثَوْرٍ، فَاعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فِي كُل أَحْكَامِهِمْ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل
الْكِتَابِ. . . (2) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَلَوْ
كَانُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ لَمَا تَوَقَّفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ
الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكُفَّارُ
2 - الْكُفَّارُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ أَهْل كِتَابٍ، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهُمْ، وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَهُمُ الْمَجُوسُ،
وَقِسْمٌ لاَ كِتَابَ لَهُمْ وَلاَ شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَهُمْ مَنْ عَدَا
هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ
__________
(1) المغني 8 / 496، 497 ط الرياض. والقليوبي 4 / 229.
(2) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب. . . . " الحديث بهذا اللفظ طرقه
جميعها ضعيفة انظر نصب الراية للزيلعي 3 / 448، ولكن لقصة الحديث شاهد في
البخاري في الجزية (الفتح 6 / 257، 3156) " أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل
موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من
المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها
من مجوس هجر ".
(3) ابن عابدين 4 / 336، وأحكام أهل الذمة 1 / 2، والمغني 8 / 498 ط
الرياض.
(7/140)
وَغَيْرِهِمْ. وَعَلَى ذَلِكَ فَأَهْل
الْكِتَابِ مِنَ الْكُفَّارِ. فَالْكُفَّارُ أَعَمُّ مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهُ يَشْمَل أَهْل الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ (1) .
ب - أَهْل الذِّمَّةِ:
3 - أَهْل الذِّمَّةِ هُمُ: الْمُعَاهَدُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُقِيمُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَيُقِرُّونَ عَلَى
كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ
الإِْسْلاَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ (2) .
فَلاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ وَأَهْل الْكِتَابِ، فَقَدْ
يَكُونُ ذِمِّيًّا غَيْرَ كِتَابِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ كِتَابِيًّا غَيْرَ
ذِمِّيٍّ، وَهُمْ مَنْ كَانَ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَهْل الْكِتَابِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْل الْكِتَابِ (الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى) إِذَا قُوبِلُوا بِالْمَجُوسِ. فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ (3)
، وَأَمَّا الْيَهُودِيَّةُ إِذَا قُوبِلَتْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ
فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى
الاِتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ تَفَاوُتَ بَيْنَ هَاتَيْنِ
الْفِرْقَتَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال أَصْحَابِ
التَّفَاسِيرِ وَالْفُقَهَاءِ، الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ مِمَّنْ رَتَّبُوا أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً كَثِيرَةً عَلَى
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَيِّ تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى
حَدٍّ سَوَاءٍ، مِثْل: جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَأَهْل
الْمَذَاهِبِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَازِ شَهَادَةِ
بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ،
__________
(1) المغني 8 / 496.
(2) القاموس وكشاف القناع 3 / 116.
(3) المبسوط 5 / 48، وفتح القدير 3 / 287.
(7/141)
وَجَوَازِ أَكْل ذَبِيحَتِهِمْ، وَحِل
نِكَاحِ نِسَائِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ
الْفِقْهِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ أَهْل مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ
نِحَلُهُمْ؛ وَلأَِنَّهُ يَجْمَعُهُمُ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالإِْنْكَارِ
لِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ شَرٌّ مِنَ
الْيَهُودِيَّةِ.
وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْهُمُ ابْنُ
نُجَيْمٍ وَصَاحِبُ الدُّرَرِ وَابْنُ عَابِدِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَفَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِقَوْلِهِمْ:
يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ
وَنَصْرَانِيٍّ أَوْ عَكْسِهِ تَبَعًا لِلْيَهُودِيِّ لاَ النَّصْرَانِيِّ.
وَفَائِدَتُهُ خِفَّةُ الْعُقُوبَةِ فِي الآْخِرَةِ، حَيْثُ إِنَّ فِي
الآْخِرَةِ يَكُونُ النَّصْرَانِيُّ أَشَدَّ عَذَابًا؛ لأَِنَّ نِزَاعَ
النَّصَارَى فِي الإِْلَهِيَّاتِ، وَنِزَاعَ الْيَهُودِ فِي النُّبُوَّاتِ.
وَكَذَا فِي الدُّنْيَا؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ مِنْ كِتَابِ
الأُْضْحِيَّةِ أَنَّهُ: يُكْرَهُ الأَْكْل مِنْ طَعَامِ الْمَجُوسِيِّ
وَالنَّصْرَانِيِّ؛ لأَِنَّ الْمَجُوسِيَّ يَطْبُخُ الْمُنْخَنِقَةَ
وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ، وَالنَّصْرَانِيَّ لاَ ذَبِيحَةَ
لَهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُل ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ أَوْ يَخْنُقُهَا، وَلاَ
بَأْسَ بِطَعَامِ الْيَهُودِيِّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَأْكُل إِلاَّ مِنْ
ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ أَوِ الْمُسْلِمِ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ
شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا (2) .
وَالاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، مَنْقُولاً
عَنِ الْخُلاَصَةِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ
__________
(1) المبسوط 4 / 210، و 5 / 32، 38، 44، والمغني 8 / 567، 568، وروضة
الطالبين 7 / 135، 136، والحطاب 3 / 447، والمدونة الكبرى 4 / 306.
(2) ابن عابدين 2 / 395، والبحر الرائق 3 / 225، 226، وشرح الدرر 1 / 235،
والتفسير الكبير 12 / 67.
(7/141)
كُفْرَ الْيَهُودِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ
النَّصَارَى؛ لأَِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَنُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُفْرُ النَّصَارَى
أَخَفُّ لأَِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ؛ وَلأَِنَّ
الْيَهُودَ أَشَدُّ جَمِيعِ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ،
وَأَصْلَبُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ أَلْيَنُ
عَرِيكَةً مِنَ الْيَهُودِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ (1)
.
عَقْدُ الذِّمَّةِ لأَِهْل الْكِتَابِ:
5 - يَجُوزُ لإِِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُبْرِمَ عَقْدَ
الذِّمَّةِ مَعَ أَهْل الْكِتَابِ، عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ فِي
الْمُرَادِ بِهِمْ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَدَلِيل
الاِتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لأَِهْل الْكِتَابِ قَوْله
تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ
بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) . وَيَتَرَتَّبُ
عَلَى الْعَقْدِ أَنْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الإِْمَامِ، وَالْمُرَادُ
بِالْتِزَامِ الأَْحْكَامِ: قَبُول مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ
أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، وَأَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَالْمُرَادُ بِالإِْعْطَاءِ: الْتِزَامُهُ
وَالإِْجَابَةُ إِلَى بَذْلِهِ، لاَ حَقِيقَةَ الإِْعْطَاءِ وَلاَ
جَرَيَانَ الأَْحْكَامِ فِعْلاً، وَبِالْعَقْدِ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ
وَأَمْوَالُهُمْ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَالْخَلَفِ عَنِ الإِْسْلاَمِ
فِي إِفَادَةِ الْعِصْمَةِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا طَلَبَ أَهْل الْكِتَابِ
__________
(1) المصادر السابقة، وفتح القدير للشوكاني 2 / 63، 65.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) الكاساني 7 / 111، والمغني 8 / 500، والخرشي 3 / 143 - 144.
(7/142)
عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَكَانَ فِيهِ
مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ إِجَابَتُهُمْ
إِلَيْهِ (1) .
وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَمَا يَنْعَقِدُ بِهِ،
وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ، وَعَلَى مَنْ تُفْرَضُ، وَبِمَ تَسْقُطُ، وَمَا
يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَهْل
الذِّمَّةِ) (وَجِزْيَةٌ) .
ذَبَائِحُ أَهْل الْكِتَابِ:
6 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ
ذَبَائِحِ أَهْل الْكِتَابِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ.
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَال
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَأَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ يَرَوْنَ إِبَاحَةَ صَيْدِهِمْ أَيْضًا، قَال
ذَلِكَ عَطَاءٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلاَ
نَعْلَمُ أَحَدًا ثَبَتَ عَنْهُ تَحْرِيمُ صَيْدِ أَهْل الْكِتَابِ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْعَدْل وَالْفَاسِقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل
الْكِتَابِ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ فِي إِبَاحَةِ ذَبِيحَةِ
الْكِتَابِيِّ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ مَنْ سِوَاهُ. وَسُئِل
أَحْمَدُ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى أَهْل الْحَرْبِ فَقَال: لاَ بَأْسَ
بِهَا. وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُل مَنْ نَحْفَظُ
عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛
لِعُمُومِ الآْيَةِ فِيهِمْ.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِ الْكِتَابِيِّ مِمَّنْ لاَ تَحِل
__________
(1) المهذب 2 / 253.
(2) سورة المائدة / 5.
(7/142)
ذَبِيحَتُهُ، وَالآْخَرُ مِمَّنْ تَحِل
ذَبِيحَتُهُ، قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَحِل صَيْدُهُ وَلاَ ذَبِيحَتُهُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الأَْبُ غَيْرَ كِتَابِيٍّ لاَ تَحِل،
وَإِنْ كَانَ الأَْبُ كِتَابِيًّا فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا:
تُبَاحُ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَالثَّانِي: لاَ تُبَاحُ؛
لأَِنَّهُ وَجَدَ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالإِْبَاحَةَ، فَغَلَبَ مَا
يَقْتَضِي التَّحْرِيمُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ بِكُل حَالٍ لِعُمُومِ
النَّصِّ؛ وَلأَِنَّهُ كِتَابِيٌّ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ، فَتَحِل
ذَبِيحَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ كِتَابِيَّيْنِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ ابْنَ وَثَنِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ (وَهُوَ مِنْ
أَهْل الْكِتَابِ) فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ
تَحْرِيمُهُ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حِلُّهُ؛ لأَِنَّ
الاِعْتِبَارَ بِدِينِ الذَّابِحِ لاَ بِدِينِ أَبِيهِ، بِدَلِيل أَنَّ
الاِعْتِبَارَ فِي قَبُول الْجِزْيَةِ بِذَلِكَ، وَلِعُمُومِ النَّصِّ
وَالْقِيَاسِ (1)
وَأَمَّا ذَبْحُ الْكِتَابِيِّ لِمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ أَوْ مَنْعِهِ
عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجَعَل ابْنُ عَرَفَةَ الْكَرَاهَةَ قَوْلاً ثَالِثًا،
وَالرَّاجِحُ مِنْ تِلْكَ الأَْقْوَال الْقَوْل بِالْكَرَاهَةِ (2) .
أَمَّا غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى نَصٍّ فِي
ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقُوا الْقَوْل فِي حِل ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ
كَمَا سَبَقَ. وَلَمْ يُفَصِّلُوا كَمَا فَصَّل الْمَالِكِيَّةُ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِهِمُ الْحِل.
نِكَاحُ نِسَاءِ أَهْل الْكِتَابِ:
7 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ
الْمُسْلِمِ
__________
(1) المغني 8 / 567، 568.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 102.
(7/143)
لِلْكِتَابِيَّةِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (1)
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ نِسَاءِ نَصَارَى بَنِي
تَغْلِبَ. وَالصَّحِيحُ عَنْهُ: أَنَّهُمْ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ خَصَّ الْجَوَازَ بِنِسَاءِ
أَهْل الْعَهْدِ دُونَ أَهْل الْحَرْبِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ
فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا (2) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (نِكَاحٍ) .
اسْتِعْمَال آنِيَةِ أَهْل الْكِتَابِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَال آنِيَةِ أَهْل
الْكِتَابِ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا. وَصَرَّحَ
الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْل
الْكِتَابِ مِنَ الأَْطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَال أَوَانِي أَهْل الْكِتَابِ،
إِلاَّ أَنْ يَتَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا فَلاَ كَرَاهَةَ، وَقَدْ سَبَقَ
تَفْصِيل الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ (آنِيَةٍ) (3)
دِيَةُ أَهْل الْكِتَابِ:
9 - دِيَةُ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ مَالِكٍ
وَأَحْمَدَ، وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ دِيَةُ الْكِتَابِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ
الْمَرْأَةِ
__________
(1) سورة المائدة / 5.
(2) الجصاص 1 / 391 - 396، والشرح الكبير 2 / 367، ونهاية المحتاج 6 / 284،
والمغني 8 / 17، والقرطبي 6 / 79.
(3) الموسوعة الفقهية - الكويت 1 / 14 - 15.
(7/143)
نِصْفُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ (1) ، وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (دِيَةٍ) .
مُجَاهَدَةُ أَهْل الْكِتَابِ:
10 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ} (2) .
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ
لإِِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَخَصَّ أَهْل الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ
لِتَعَاظُمِ مَسْئُولِيَّتِهِمْ؛ لِمَا أُوتُوا مِنْ كُتُبٍ سَمَاوِيَّةٍ،
وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُل وَالشَّرَائِعِ
وَالْمِلَل، وَخُصُوصًا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ، فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ
عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمُ الْجَرِيمَةُ، فَنَبَّهَ عَلَى
مَحَلِّهِمْ، ثُمَّ جَعَل لِلْقِتَال غَايَةً، وَهِيَ إِعْطَاءُ
الْجِزْيَةِ بَدَلاً مِنَ الْقَتْل (3) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا طَلَبُوا الْكَفَّ عَنِ الْقِتَال، لَكِنَّ
الْخِلاَفَ فِي غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (أَهْل الْحَرْبِ،
وَأَهْل الذِّمَّةِ، وَجِزْيَةٌ) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قِتَال أَهْل الْكِتَابِ أَفْضَل مِنْ قِتَال
غَيْرِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَأْتِي مِنْ مَرْوَ لِغَزْوِ
الرُّومِ، فَقِيل لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَال: هَؤُلاَءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى
دِينٍ (4) .
__________
(1) الكاساني 7 / 237، والشرح الكبير 4 / 238، والمهذب 2 / 173، وكشاف
القناع 6 / 21.
(2) سورة التوبة / 29.
(3) تفسير القرطبي 8 / 109 - 110.
(4) المغني 8 / 350.
(7/144)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لأُِمِّ خَلاَّدٍ: إِنَّ ابْنَكِ
لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، قَالَتْ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُول اللَّهِ؟
قَال: لأَِنَّهُ قَتَلَهُ أَهْل الْكِتَابِ (1) .
الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الْكِتَابِ فِي الْقِتَال:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمُنْذِرِ، وَابْنَ
حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ
إِلَى: جَوَازِ الاِسْتِعَانَةِ بِأَهْل الْكِتَابِ فِي الْقِتَال عِنْدَ
الْحَاجَةِ (2) . لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ
بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ (3)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ
يَعْرِفَ الإِْمَامُ حُسْنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَيَأْمَنَ
خِيَانَتَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَأْمُونِينَ لَمْ تَجُزِ
الاِسْتِعَانَةُ بِهِمْ؛ لأَِنَّنَا إِذَا مَنَعْنَا الاِسْتِعَانَةَ
بِمَنْ لاَ يُؤْمِنُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْل
__________
(1) حديث: " إن ابنك. . . " أخرجه أبو داود في الجهاد (3 / 13 / 2488) ط
الدعاس، وفي سنده عبد الخبير وفرج بن فضالة. قال المنذري: وقال البخاري:
عبد الخبير عن أبيه عن جده ثابت بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم روى
عنه فرج بن فضالة، حديثه ليس بالقائم، فرج عند مناكير. وقال أبو حاتم
الرازي: عبد الخبير حديثه ليس بالقائم، منكر الحديث. وقال ابن عدي: وعبد
الخبير ليس
(2) ابن عابدين 3 / 235، والمبسوط 10 / 33، وفتح القدير 5 / 242، 243،
والحطاب 3 / 352، وروضة الطالبين 10 / 239، ومغني المحتاج 4 / 221،
والإنصاف 4 / 143، والمغني 8 / 414.
(3) حديث: " استعان في غزوة حنين " أخرجه ابن هاشم (4 / 86 ط الحلبي) . قال
الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 180) : ورواه البزار باختصار، وفيه ابن إسحاق
وقد صرح بالسماع في رواية أبي يعلى، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
(7/144)
الْمُخْذِل وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ
أَوْلَى (1) .
كَمَا شَرَطَ الإِْمَامُ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ:
أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ، بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ،
وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُونَهُمْ، أَمْكَنَهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ
جَمِيعًا.
وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدُوِّ،
كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْجُوزَجَانِيُّ: أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِمُشْرِكٍ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ (3) .
وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَكُونُوا فِي غَيْرِ الْمُقَاتِلَةِ، بَل فِي خَدَمَاتِ
الْجَيْشِ (4) . وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ (ر: جِهَادٌ) .
تَرْكُ أَهْل الْكِتَابِ وَمَا يَدِينُونَ:
12 - إِنْ كَانَ أَهْل الْكِتَابِ أَهْل ذِمَّةٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ،
فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ
فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَغَرَامَاتِ الْمُتْلَفَاتِ،
وَيُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقَائِدِهِمْ
وَعِبَادَاتِهِمْ بِشُرُوطٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل
الذِّمَّةِ) .
الأَْحْكَامُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ:
13 - يَشْتَرِكُ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ فِي أَحْكَامٍ مِنْهَا:
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 239، والمغني 8 / 414، وكشاف القناع 3 / 48.
(2) روضة الطالبين 10 / 239.
(3) حديث: " فارجع فلن أستعين بمشرك. . " أخرجه مسلم في الجهاد (3 / 1449 /
1817) .
(4) الحطاب 3 / 352، والمدونة الكبرى 3 / 40، وفتح القدير 5 / 242، 243،
والمغني 8 / 414.
(7/145)
أ - أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ
وَأَهْل الْكِتَابِ مِنْ دُخُول الْحَرَمِ، وَلَوْ دَخَل الْمُشْرِكُ
الْحَرَمَ مُتَسَتِّرًا وَمَاتَ، نُبِشَ قَبْرُهُ، وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ،
فَلَيْسَ لَهُمُ الاِسْتِيطَانُ وَلاَ الاِجْتِيَازُ.
فَإِذَا جَاءَ رَسُولٌ مِنْهُمْ خَرَجَ الإِْمَامُ إِلَى الْحِل لِيَسْمَعَ
مَا يَقُول.
وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، فَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَخْرُجُ
مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الإِْسْلاَمِ،
وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ مُسَافِرِينَ، وَيُضْرَبُ لَهُمْ
أَجَلٌ لِلْخُرُوجِ خِلاَل ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، كَمَا ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَجَلاَهُمْ.
وَفِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا لاَ يُعْتَبَرُ،
وَأَحْكَامُ دُخُول الْكُفَّارِ إِلَيْهَا يُنْظَرُ (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
ب - وَمِنْهَا أَنْ يُمْنَعَ أَهْل الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ
دُخُول الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ مُسْتَدِلًّا بِالآْيَةِ {إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (2) إِلَخْ، وَدُخُول الْكُفَّارِ
فِيهَا يُنَاقِضُ رَفْعَهُمَا.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الآْيَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ
الْمُشْرِكِينَ، خَاصَّةً بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلاَ يُمْنَعُونَ
مِنْ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي دُخُول الْمُشْرِكِينَ وَأَهْل الْكِتَابِ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي السِّيَرِ
الْكَبِيرِ بِالْمَنْعِ. وَالثَّانِيَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
بِعَدَمِ الْمَنْعِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْحَرَمِ بِكُل
حَالٍ.
__________
(1) سورة التوبة / 28.
(2) سورة النور / 36.
(7/145)
فَإِذَا امْتَنَعَ أَهْل الْكِتَابِ مِنْ
دَفْعِ الْجِزْيَةِ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَل الْمُشْرِكُونَ؛
لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْصِمُونَ دِمَاءَهُمْ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ.
فَإِذَا مَنَعُوهَا سَاوَوُا الْمُشْرِكِينَ فِي إِهْدَارِ دَمِهِمْ (1) .
ج - وَمِنَ الأُْمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ أَلاَّ يُحْدِثُوا مَعْبَدًا فِي
دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَأَلاَّ يُدْفَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ (2) .
وِلاَيَةُ أَهْل الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ:
14 - لاَ وِلاَيَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، لاَ وِلاَيَةً عَامَّةً
وَلاَ خَاصَّةً، فَلاَ يَكُونُ الْكَافِرُ إِمَامًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَلاَ قَاضِيًا عَلَيْهِمْ، وَلاَ شَاهِدًا، وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي
زَوَاجِ مُسْلِمَةٍ، وَلاَ حَضَانَةَ لَهُ لِمُسْلِمٍ، وَلاَ يَكُونُ
وَلِيًّا عَلَيْهِ وَلاَ وَصِيًّا. (3)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (4) .
وَالتَّوْلِيَةُ شَقِيقَةُ التَّوَلِّي، فَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُمْ نَوْعًا
مِنْ تَوَلِّيهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ
تَوَلاَّهُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وَلاَ يَتِمُّ الإِْيمَانُ إِلاَّ
بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَالْوِلاَيَةُ تُنَافِي الْبَرَاءَةَ، فَلاَ
تَجْتَمِعُ الْبَرَاءَةُ وَالْوِلاَيَةُ أَبَدًا.
وَالْوِلاَيَةُ إِعْزَازٌ، فَلاَ تَجْتَمِعُ هِيَ وَإِذْلاَل الْكُفْرِ
أَبَدًا.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 277، 279، 283، والقرطبي 8 / 104، والمهذب 2 / 257،
والمغني 8 / 531.
(2) ابن عابدين 3 / 271
(3) ابن عابدين في القضاء والشهادة والنكاح، وكتب باقي المذاهب في هذه
الأبواب.
(4) سورة الممتحنة / 1.
(7/146)
وَالْوِلاَيَةُ صِلَةٌ، فَلاَ تُجَامِعُ
مُعَادَاةَ الْكُفَّارِ. (1)
وَالتَّفْصِيلاَتُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ النِّكَاحِ
وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (كُفْرٍ) .
بُطْلاَنُ زَوَاجِ أَهْل الْكِتَابِ بِالْمُسْلِمَاتِ:
15 - وَالأَْصْل فِي هَذَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) ، قَال
الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ قَوْلُهُ {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ} الآْيَةُ: أَيْ لَمْ يُحِل اللَّهُ مُؤْمِنَةً
لِكَافِرٍ، وَلاَ نِكَاحَ مُؤْمِنٍ لِمُشْرِكَةٍ (3) .
الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ:
16 - الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ - وَلَوْ مُخْتَلِفَاتٍ فِي الدِّينِ -
وَاجِبٌ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ
أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْقَسَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ
وَالذِّمِّيَّةِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَسَمَ مِنْ حُقُوقِ
الزَّوْجِيَّةِ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ،
كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. (4)
حُكْمُ التَّعَامُل مَعَ أَهْل الْكِتَابِ:
17 - التَّعَامُل مَعَ أَهْل الْكِتَابِ جَائِزٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ
__________
(1) أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 242 ط دار العلم للملايين، بيروت.
(2) سورة الممتحنة / 10.
(3) القرطبي 18 / 63، 64.
(4) ابن عابدين 2 / 400، والشرح الكبير 2 / 339، والمهذب 2 / 68، والمغني 7
/ 36.
(7/146)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ سِلْعَةً إِلَى الْمَيْسَرَةِ
(1) وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اشْتَرَى
مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ (2) فَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ "
زَارَعَهُمْ وَسَاقَاهُمْ " (3) وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ " أَكَل مِنْ
طَعَامِهِمْ " وَهُنَاكَ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ غَيْرَ مَا ذُكِرَ، وَهُنَاكَ
تَفْصِيلاَتٌ فِي مُشَارَكَتِهِمْ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا (4)
.
أَهْل الْمَحَلَّةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَهْل الْمَحَلَّةِ فِي اللُّغَةِ: الْقَوْمُ يَنْزِلُونَ بِمَوْضِعِ
مَا يَعْمُرُونَهُ بِالإِْقَامَةِ بِهِ، وَيُجْمَعُ أَهْلٌ عَلَى
أَهْلِينَ، وَرُبَّمَا قِيل: أَهَالِي الْمَحَلَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (5) .
__________
(1) حديث: " اشترى من يهودي سلعة إلى الميسرة. . " أخرجه أحمد (الفتح
الرباني 15 / 188) ط دار الشهاب. وقال البنا الساعاتي: أخرجه النسائي
والحاكم وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما. . " أخرجه
البخاري في الرهن (الفتح 5 / 1429 / 2509) ط السلفية. ومسلم في المساقاة (3
/ 1226) ط الحلبي.
(3) أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 269 - 270 ط دار الملايين.
(4) حديث أنه " ثبت عنه أنه زارعهم وساقهم. . . " أخرجه البخاري في الحرث
والمزارعة (الفتح 5 / 10 / 2328) ط السلفية.
(5) المصباح المنير، ولسان العرب المحيط، مادة: " أهل، حلل ". والبيجوري 2
/ 231.
(7/147)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَاقِلَةُ:
2 - الْعَاقِلَةُ هُمْ: قَبِيلَةُ الشَّخْصِ وَعَشِيرَتُهُ وَإِنْ
بَعُدُوا.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: دَافِعُ الدِّيَةِ عَاقِلٌ، وَالْجَمْعُ عَاقِلَةٌ،
وَسُمِّيَتِ الدِّيَةُ عَقْلاً تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ؛ لأَِنَّ الإِْبِل
كَانَتْ تُعْقَل بِفِنَاءِ وَلِيِّ الْقَتِيل، ثُمَّ كَثُرَ الاِسْتِعْمَال
حَتَّى أُطْلِقَ الْعَقْل عَلَى الدِّيَةِ، إِبِلاً كَانَتْ أَوْ نُقُودًا.
(1)
وَأَهْل الْمَحَلَّةِ قَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ وَقَدْ لاَ
تَكُونُ.
ب - الْقَبِيلَةُ:
الْقَبِيلَةُ: مِنَ الْقَبِيل الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ،
ثَلاَثَةً فَصَاعِدًا مِنْ قَوْمٍ شَتَّى، وَالْقَبِيلَةُ لُغَةً يُرَادُ
بِهَا: بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ (2) . وَأَهْل الْمَحَلَّةِ قَدْ لاَ يَكُونُونَ
مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ.
ج - أَهْل الْخُطَّةِ:
يُرَادُ بِالْخُطَّةِ مَوْضِعُ مَا خَطَّهُ الإِْمَامُ وَوَضَّحَهُ
لِيَسْكُنَهُ الْقَوْمُ (3) .
د - أَهْل السِّكَّةِ:
السِّكَّةُ وَالشَّارِعُ: مَا يَكُونُ بَيْنَ الْبُيُوتِ مِنْ فَرَاغٍ
تَمُرُّ بِهِ الْمُشَاةُ وَالدَّوَابُّ وَغَيْرُهَا.
__________
(1) المصباح المنير مادة: " عقل "، ونيل الأوطار 7 / 86.
(2) لسان العرب المحيط، والزاهر في ألفاظ الشافعي ص 422، والمصباح المنير.
(3) المغني 8 / 65.
(7/147)
أَحْكَامُ أَهْل الْمَحَلَّةِ:
3 - لأَِهْل الْمَحَلَّةِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ تَبَعًا لِمَا يُضَافُ
إِلَيْهَا.
فَإِمَامُ أَهْل الْمَحَلَّةِ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ
مِمَّنْ تَصِحُّ إِمَامَتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَل مِنْهُ
قِرَاءَةً أَوْ عِلْمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَى
أَرْضًا لَهُ عِنْدَهَا مَسْجِدٌ يُصَلِّي فِيهِ مَوْلًى لَهُ، فَصَلَّى
ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَهُمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ
يَؤُمَّهُمْ فَأَبَى، وَقَال: صَاحِبُ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ (1) .
وَأَذَانُ أَهْل الْمَحَلَّةِ فِي مَسْجِدِهِمْ يُغْنِي الْمُصَلِّينَ عَنِ
الأَْذَانِ، إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُسْمِعُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَدِيمُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (2) .
وَفِي جَدِيدِ الْمَذْهَبِ: يُنْدَبُ الأَْذَانُ لِلْمُصَلِّي وَإِنْ
سَمِعَ أَذَانَ أَهْل الْمَحَلَّةِ. (3)
وَفِي مَسْأَلَةِ اشْتَرَاكِ أَهْل الْمَحَلَّةِ بِالْقَسَامَةِ
وَالدِّيَةِ إِذَا وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لاَ يُعْرَفُ قَاتِلُهُ -
وَهُنَاكَ لَوْثٌ - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُقْسِمُ
هُوَ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا، بِأَنَّ أَهْل الْمَحَلَّةِ أَوْ
بَعْضَهُمْ قَتَلَهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 374، 375 ط بولاق، والحطاب 2 / 104 ط النجاح،
وحاشية الشرواني وابن القاسم 2 / 297، والمغني 2 / 205 ط الرياض، وكشاف
القناع 1 / 473 ط الرياض. والأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أتى أرضا له
عندها مسجد. . " أخرجه البيهقي (3 / 126 - ط دائرة المعارف العثمانية)
وإسناده حسن.
(2) البدائع 1 / 153 ط شركة المطبوعات، وجواهر الإكليل 1 / 37 ط دار
المعرفة، ونهاية المحتاج 1 / 386 ط مصطفى الحلبي، والمغني 1 / 418 ط
الرياض.
(3) نهاية المحتاج 1 / 386.
(7/148)
وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا مِنْكُمْ (1)
. فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِمْ (أَهْل
الْمَحَلَّةِ) خَمْسِينَ يَمِينًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ: أَتَحْلِفُونَ
خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ، قَالُوا. كَيْفَ
نَأْخُذُ أَقْوَال قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ قَال: فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَهْل الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ الْقَتِيل
فِيهَا هُمُ الَّذِينَ يَشْتَرِكُونَ أَوَّلاً بِالْقَسَامَةِ، ثُمَّ
يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ
قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
تُبْرِئُكُمْ يَهُودٌ بِخَمْسِينَ. . (3) الْحَدِيثُ.
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ
كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَرَّرَهَا رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتِيلٍ مِنَ الأَْنْصَارِ وُجِدَ
فِي حَيٍّ لِيَهُودٍ، فَأَلْزَمَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْيَهُودَ الدِّيَةَ وَالْقَسَامَةَ (4) . (ر: قَسَامَةٌ -
دِيَةٌ) .
__________
(1) حديث: " أتحلفون خمسين يمينا منكم. . " أخرجه النسائي (8 / 7 ط المكتبة
التجارية) وأصله في صحيح مسلم (3 / 1291 الحلبي) .
(2) الشرح الصغير 4 / 421 ط دار المعارف، وحاشية البيجوري 2 / 231 ط م
الحلبي، والمغني 8 / 75 ط الرياض. وحديث: " أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون
صاحبكم " أخرجه مسلم (3 / 1291 - ط الحلبي.) .
(3) حديث: " تبرئكم يهود. . . . " شطر من الحديث المتقدم.
(4) المبسوط 26 / 107 ط دار المعرفة، والاختيار 5 / 53. وحديث: " إلزام
الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود الدية والقسامة " أخرجه من هذا الطريق
عبد الرزاق في المصنف (10 / 27 - ط المجلس العلمي) ويتقوى بما أورده مسلم
في صحيحه (3 / 1295 - ط الحلبي) .
(7/148)
أَهْل النَّسَبِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْهْل: أَهْل الْبَيْتِ، وَالأَْصْل فِيهِ الْقَرَابَةُ، وَقَدْ
أُطْلِقَ عَلَى الأَْتْبَاعِ.
وَأَهْل الرَّجُل: أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، وَأَهْل الرَّجُل: عَشِيرَتُهُ
وَذَوُو قُرْبَاهُ.
وَأَهْل الْمَذْهَبِ: مَنْ يَدِينُ بِهِ.
وَالنَّسَبُ: الْقَرَابَةُ، وَهُوَ الاِشْتِرَاكُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ
الأَْبَوَيْنِ، وَقِيل هُوَ فِي الآْبَاءِ خَاصَّةً، أَيِ: الاِشْتِرَاكُ
مِنْ جِهَةِ الأَْبِ فَقَطْ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ فَأَهْل النَّسَبِ لُغَةً: هُمُ الأَْقَارِبُ مِنْ جِهَةِ
الأَْبَوَيْنِ، وَقِيل مِنْ جِهَةِ الأَْبِ فَقَطْ.
وَالْفُقَهَاءُ يَعْتَبِرُونَ النَّسَبَ مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ
فَقَطْ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ هُوَ مَا كَانَ مِنْ
جِهَةِ الأَْبِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ لاَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ،
إِلاَّ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ (أَهْل النَّسَبِ) لَمْ يَرِدْ إِلاَّ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: مَنْ أَوْصَى لأَِهْل نَسَبِهِ
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس والمصباح المنير والمفردات للراغب.
(2) البدائع 7 / 350 ط الجمالية، ومنح الجليل 4 / 72 ط النجاح ليبيا،
ونهاية المحتاج 5 / 379، والمغني 5 / 617 ط الرياض.
(7/149)
فَالْوَصِيَّةُ لِمَنْ يُنْتَسَبُ إِلَيْهِ
مِنْ جِهَةِ الأَْبِ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ إِلَى الآْبَاءِ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى مَنْ
يُنْتَسَبُ إِلَيَّ، أَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي
الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيَّ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى مَنْ
يُنْتَسَبُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ، وَلاَ يَدْخُل فِي ذَلِكَ
أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ بَل إِلَى
آبَائِهِمْ، (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ} (3)
وَيَذْكُرُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ كَانَ امْرَأَةً دَخَل
أَوْلاَدُ بَنَاتِهَا؛ لأَِنَّ ذِكْرَ الاِنْتِسَابِ فِي حَقِّهَا
لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لاَ لِلإِْخْرَاجِ، فَالْعِبْرَةُ فِيهَا
بِالنِّسْبَةِ اللُّغَوِيَّةِ لاَ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَكُونُ كَلاَمُ
الْفُقَهَاءِ مَحْمُولاً عَلَى وَقْفِ الرَّجُل. (4)
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَبَقِيَّةِ
الْمَذَاهِبِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ
لأَِبِيهِ لاَ لأُِمِّهِ. (5)
وَلَمْ يُصَرِّحُوا فِي أَغْلَبِ كُتُبِهِمْ بِتَعْبِيرٍ مُمَاثِلٍ لِمَا
وَرَدَ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي
الرَّهُونِيِّ: مَنْ قَال: حَبْسٌ عَلَى وَلَدِي وَأَنْسَابِهِمْ، فَفِي
دُخُول وَلَدِ الْبَنَاتِ فِي تَحْبِيسِ جَدِّهِمْ لِلأُْمِّ فِي
الْمَذْهَبِ قَوْلاَنِ، قِيل: إِنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلاَّ أَنْ
يُخَصُّوا بِلَفْظِ الدُّخُول، وَقِيل: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ. (6)
__________
(1) الاختيار 5 / 78 ط دار المعرفة، وابن عابدين 5 / 453 ط ثالثة.
(2) المغني 5 / 617، ونهاية المحتاج 5 / 379.
(3) سورة الأحزاب / 5.
(4) نهاية المحتاج 5 / 379.
(5) منح الجليل 4 / 72.
(6) الرهوني 7 / 162 ط بولاق.
(7/149)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - جَاءَ ذِكْرُ أَهْل النَّسَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَابِ
الْوَصِيَّةِ، وَشَبِيهُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي بَابَيِ الْوَصِيَّةِ
وَالْوَقْفِ (ر: وَصِيَّةٌ - وَقْفٌ) .
إِهْلاَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل الإِْهْلاَل: رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل، ثُمَّ
كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى قِيل لِكُل رَافِعٍ صَوْتَهُ: مُهِلٌّ
وَمُسْتَهِلٌّ (1) ، وَمِنْ مَعَانِيهِ النَّظَرُ إِلَى الْهِلاَل،
وَظُهُورِ الْهِلاَل، وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ. (2)
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعَانِي السَّابِقَةِ، وَبِمَعْنَى:
ذِكْرِ اسْمٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ الذَّبْحِ.
صِلَتُهُ بِالاِسْتِهْلاَل:
2 - كَثِيرًا مَا يَأْتِي الاِسْتِهْلاَل بِمَعْنَى الإِْهْلاَل أَيْ:
رَفْعِ الصَّوْتِ، غَيْرَ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَطْلَقَ
اسْتِهْلاَل الصَّبِيِّ عَلَى: كُل مَا يَدُل عَلَى حَيَاةِ الْمَوْلُودِ،
سَوَاءٌ كَانَ رَفْعَ صَوْتٍ أَوْ حَرَكَةَ عُضْوٍ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ (3)
.
__________
(1) المصباح مادة " هلل " والنظم المستعذب هامش المهذب 1 / 208 نشر دار
المعرفة، والفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية 4 / 330.
(2) ترتيب القاموس والمصباح مادة " هلل ".
(3) المبسوط 16 / 144، وابن عابدين 5 / 377، والبحر الرائق 2 / 202 ط
العلمية.
(7/150)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - طَلَبُ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ
شَعْبَانَ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، بَعْضُهُمْ يَقُول:
يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ تَرَائِي الْهِلاَل لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ
شَعْبَانَ وَتَطَلُّبُهُ؛ لِيَحْتَاطُوا بِذَلِكَ لِصِيَامِهِمْ،
وَلْيَسْلَمُوا مِنَ الاِخْتِلاَفِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَحْصُوا هِلاَل شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ
(1) .
وَالْبَعْضُ يَرَى أَنَّ الْتِمَاسَ هِلاَل رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَى
الْكِفَايَةِ؛ لأَِنَّهُ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْفَرْضِ (2) . وَلاَ
يَثْبُتُ هِلاَل سَائِرِ الشُّهُورِ غَيْرَ هِلاَل رَمَضَانَ إِلاَّ
بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، بِهَذَا قَال الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلاَّ أَبَا
ثَوْرٍ، فَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَل فِي هِلاَل شَوَّالٍ عَدْلٌ
وَاحِدٌ كَهِلاَل رَمَضَانَ.
أَمَّا هِلاَل رَمَضَانَ فَفِيهِ خِلاَفٌ: فَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ
يَشْتَرِطُ عَدْلَيْنِ، وَالْبَعْضُ يَكْتَفِي بِوَاحِدٍ. (3)
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ رَأَى هِلاَل رَمَضَانَ وَحْدَهُ
لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَوْ جَامَعَ فِيهِ؛
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ
وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (4) . وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ
الصَّوْمُ، وَلَكِنْ إِنْ جَامَعَ فِيهِ فَلاَ كَفَّارَةَ وَقَال عَطَاءٌ
وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ
رَاهْوَيْهِ: لاَ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ.
وَمَنْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الْفِطْرُ كَذَلِكَ
__________
(1) حديث: " أحصوا هلال شعبان لرمضان. . . " أخرجه الترمذي (3 / 62 - ط
الحلبي) والحاكم (1 / 425 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه
الذهبي، وانظر المغني 3 / 87.
(2) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 354.
(3) المجموع 6 / 280، 281.
(4) حديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 /
119 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(7/150)
عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ؛ لِلْحَدِيثِ
السَّابِقِ، وَقَال مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ: لاَ يَجُوزُ لَهُ
الأَْكْل فِيهِ. (1)
وَظُهُورُ الْهِلاَل فِي النَّهَارِ يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ لِلَّيْلَةِ التَّالِيَةِ، وَيُفَرِّقُ آخَرُونَ بَيْنَ
ظُهُورِهِ قَبْل الزَّوَال فَيَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَبَعْدَهُ
فَيَكُونُ لِلَّيْلَةِ التَّالِيَةِ. (2)
وَظُهُورُ الْهِلاَل فِي بَلَدٍ يُوجِبُ الصِّيَامَ عَلَى أَهْلِهَا،
أَمَّا غَيْرُ أَهْل بَلَدِ الرُّؤْيَةِ فَفِي وُجُوبِ الصَّوْمِ
عَلَيْهِمْ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ
مَوْطِنُهَا مُصْطَلَحُ: (الصَّوْمِ (3)) .
4 - وَالإِْهْلاَل بِالنُّسُكِ بِمَعْنَى الإِْحْرَامِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ
يَكُونَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا، وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ
أَحْكَامَهُ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ التَّمَتُّعِ،
وَالإِْفْرَادِ، وَالْقِرَانِ، وَفِي الإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ
بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا.
كَمَا يَكُونُ الإِْهْلاَل بِمَعْنَى التَّلْبِيَةِ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ
بِهَا. (4) وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِحْرَامٍ) (ج 2 ص 128) .
5 - وَالإِْهْلاَل بِالذَّبْحِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِاسْمِ اللَّهِ.
فَإِنْ أَهَل بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَذْكُرَ
عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَأَنْ يَقُول: بِاسْمِ
الْمَسِيحِ أَوِ الْعَذْرَاءِ مَثَلاً، فَلاَ يَحِل أَكْل الْمَذْبُوحِ.
(5)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ
__________
(1) المجموع 6 / 280.
(2) المجموع 6 / 272، 273.
(3) المجموع 6 / 274.
(4) الحطاب 3 / 20، 23، والمهذب 1 / 208 نشر دار المعرفة، وابن عابدين 2 /
191.
(5) الشرح الصغير 2 / 158 ط دار المعارف، والروضة 3 / 205 ط المكتب
الإسلامي.
(7/151)
يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي الصَّيْدِ
وَالذَّبَائِحِ وَالأُْضْحِيَّةِ، وَقَدْ أَفْرَدَ ابْنُ نُجَيْمٍ
رِسَالَةً لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمَوَاطِنِ السَّابِقَةِ، يَتَكَلَّمُ
الْفُقَهَاءُ عَنْ إِهْلاَل الْمَوْلُودِ فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَفِي
التَّسْمِيَةِ، وَفِي الإِْرْثِ، وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ كُلِّهِ ذُكِرَ فِي مَبْحَثِ (اسْتِهْلاَلٍ) .
أَهْلِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْهْلِيَّةُ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ (أَهْلٍ) وَمَعْنَاهَا
لُغَةً - كَمَا فِي أُصُول الْبَزْدَوِيِّ -: الصَّلاَحِيَّةُ. (2)
وَيَتَّضِحُ تَعْرِيفُ الأَْهْلِيَّةِ فِي الاِصْطِلاَحِ مِنْ خِلاَل
تَعْرِيفِ نَوْعَيْهَا: أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَأَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ.
فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ
الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِصُدُورِ
الْفِعْل مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا (3) .
__________
(1) رسائل ابن نجيم ص 212 ط مكتب الهلال.
(2) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 237، والقاموس المحيط، ولسان العرب،
والمصباح مادة: (أهل) .
(3) التلويح على التوضيح 2 / 161 ط صبيح، والتقرير والتجير 3 / 164 ط
الأولى بولاق، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 237 ط ودار الكتاب العربي،
وفواتح الرحموت 1 / 156 دار صادر.
(7/151)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّكْلِيفُ:
2 - التَّكْلِيفُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ
وَمَشَقَّةٌ. (1)
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ كَذَلِكَ، حَيْثُ قَالُوا: التَّكْلِيفُ
إِلْزَامُ الْمُخَاطَبِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مِنْ فِعْلٍ أَوْ
تَرْكٍ.
فَالأَْهْلِيَّةُ وَصْفٌ لِلْمُكَلَّفِ.
ب - الذِّمَّةُ:
3 - الذِّمَّةُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالضَّمَانُ
وَالأَْمَانُ. (2)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَإِنَّهَا: وَصْفٌ يُصَيِّرُ الشَّخْصَ بِهِ
أَهْلاً لِلإِْلْزَامِ وَالاِلْتِزَامِ. (3)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الأَْهْلِيَّةِ وَالذِّمَّةِ: أَنَّ الأَْهْلِيَّةَ
أَثَرٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ.
مَنَاطُ الأَْهْلِيَّةِ وَمَحَلُّهَا:
4 - الأَْهْلِيَّةُ بِمَعْنَاهَا الْمُتَقَدِّمِ مَنَاطُهَا، أَيْ
مَحَلُّهَا الإِْنْسَانُ، مِنْ حَيْثُ الأَْطْوَارُ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا،
فَإِنَّهُ فِي الْبِدَايَةِ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ،
فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأَْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْجَنِينِ،
وَبَعْدَ الْوِلاَدَةِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ يَكُونُ طِفْلاً،
فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأَْهْلِيَّةِ
__________
(1) الصحاح مادة " كلف ".
(2) المصباح المنير مادة: ذمم ".
(3) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 238، 239 ط دار الكتاب العربي، وحاشية
قليوبي 2 / 285 ط الحلبي.
(7/152)
الْخَاصَّةِ بِالطِّفْل، وَبَعْدَ
التَّمْيِيزِ تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الأَْهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ
بِالْمُمَيَّزِ إِلَى أَنْ يَصِل بِهِ الأَْمْرُ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ،
فَتَثْبُتُ لَهُ الأَْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ
ذَلِكَ مَانِعٌ، كَطُرُوءِ عَارِضٍ يَمْنَعُ ثُبُوتَ تِلْكَ الأَْهْلِيَّةِ
الْكَامِلَةِ لَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى
أَقْسَامِ الأَْهْلِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا.
أَقْسَامُ الأَْهْلِيَّةِ وَأَنْوَاعُهَا:
5 - الأَْهْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ، وَأَهْلِيَّةُ
أَدَاءً.
وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ قَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَقَدْ تَكُونُ
نَاقِصَةً.
وَكَذَا أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ:
6 - سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ: صَلاَحِيَّةُ الشَّخْصِ
لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ مَعًا، أَوْ لَهُ،
أَوْ عَلَيْهِ (1) .
وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ تَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا وَتَتَعَدَّدُ بِحَسَبِ
انْقِسَامِ الأَْحْكَامِ، فَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الأَْحْكَامِ،
وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِبَعْضِهَا أَصْلاً، وَهُوَ أَهْلٌ لِبَعْضِهَا
بِوَاسِطَةِ رَأْيِ الْوَلِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةُ
مُنْقَسِمَةً نَظَرًا إِلَى أَفْرَادِ الأَْحْكَامِ، وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ،
وَهُوَ الصَّلاَحُ لِلْحُكْمِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلاً لِحُكْمِ الْوُجُوبِ
بِوَجْهٍ كَانَ هُوَ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ، وَمَنْ لاَ فَلاَ. (2)
وَمَبْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ هَذِهِ عَلَى الذِّمَّةِ، أَيْ أَنَّ
هَذِهِ الأَْهْلِيَّةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ ذِمَّةٍ
صَالِحَةٍ؛ لأَِنَّ
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 161 ط صبيح، والتقرير والتحبير 2 / 164 ط
الأميرية، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 237 ط دار الكتاب العربي.
(2) أصول البزدوي مع شرحه 4 / 237 ط دار الكتاب العربي.
(7/152)
الذِّمَّةَ هِيَ مَحَل الْوُجُوبِ،
وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَيْهَا وَلاَ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ،
وَلِهَذَا اخْتَصَّ الإِْنْسَانُ بِالْوُجُوبِ دُونَ سَائِرِ
الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذِمَّةٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الذِّمَّةِ
لِلإِْنْسَانِ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، حَتَّى يَكُونَ صَالِحًا لِوُجُوبِ
الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ النِّكَاحِ
بِتَزْوِيجِ الْوَلِيِّ إِيَّاهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِعَقْدِ
الْوَلِيِّ. (1)
أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ:
7 - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ نَوْعَانِ:
أ - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ النَّاقِصَةُ، وَتَتَمَثَّل فِي الْجَنِينِ فِي
بَطْنِ أُمِّهِ، بِاعْتِبَارِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً عَنْ أُمِّهِ ذَا
حَيَاةٍ خَاصَّةٍ، فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ مِنْ
وَجْهٍ كَمَا سَيَأْتِي، لاَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَكْتَمِل
مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
ب - أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ الْكَامِلَةُ، وَهِيَ تَثْبُتُ لِلإِْنْسَانِ
مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَإِنَّهُ تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ
الْكَامِلَةُ؛ لِكَمَال ذِمَّتِهِ حِينَئِذٍ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَيَكُونُ
بِهَذَا صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ. (2)
ثَانِيًا: أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ:
8 - سَبَقَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ
لِصُدُورِ الْفِعْل مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدَ بِهِ شَرْعًا (3) .
وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ هَذِهِ لاَ تُوجَدُ عِنْدَ الشَّخْصِ إِلاَّ
إِذَا
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 237، 238 ط دار الكتاب العربي.
(2) التقرير والتحبير 2 / 165 ط الأميرية، والتلويح على التوضيح 2 / 163 ط
صبيح، وأصول السرخسي 2 / 333 ط دار الكتاب العربي.
(3) التلويح علي التوضيح 2 / 161 ط صبيح، والتقرير والتحبير 3 / 164 ط
الأميرية، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 237 ط دار الكتاب العربي.
(7/153)
بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ؛ لِقُدْرَتِهِ
حِينَئِذٍ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَوْ عَلَى سَبِيل الإِْجْمَال،
وَلِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الأَْعْبَاءِ، فَتَثْبُتُ لَهُ
أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْقَاصِرَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُهُ مَا
دَامَ نُمُوُّهُ لَمْ يَكْتَمِل جِسْمًا وَعَقْلاً، فَإِذَا اكْتَمَل
بِبُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ ثَبَتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ
الْكَامِلَةِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَهْلاً لِلتَّحَمُّل وَالأَْدَاءِ،
بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُمَيَّزِ، فَإِنَّهُ لاَ تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ
الأَْهْلِيَّةُ لاِنْتِفَاءِ الْقُدْرَتَيْنِ عَنْهُ.
أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ:
9 - أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ نَوْعَانِ:
أ - أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ قَاصِرَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ
قَاصِرَةٍ.
ب - أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ كَامِلَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ
كَامِلَةٍ. (1)
وَالْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ هُنَا: قُدْرَةُ الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْل، أَوْ
هُمَا مَعًا؛ لأَِنَّ الأَْدَاءَ - كَمَا قَال الْبَزْدَوِيُّ -
يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ: قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ
بِالْعَقْل، وَقُدْرَةِ الْعَمَل بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ، وَالإِْنْسَانُ
فِي أَوَّل أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْقُدْرَتَيْنِ، لَكِنْ فِيهِ
اسْتِعْدَادٌ وَصَلاَحِيَّةٌ لأَِنْ تُوجَدَ فِيهِ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ
الْقُدْرَتَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ
تَبْلُغَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَال، فَقَبْل بُلُوغِ
دَرَجَةِ الْكَمَال كَانَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا هُوَ
الْحَال فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيَّزِ قَبْل الْبُلُوغِ، وَقَدْ تَكُونُ
إِحْدَاهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا فِي الْمَعْتُوهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ،
فَإِنَّهُ قَاصِرُ الْعَقْل مِثْل الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ
الْبَدَنِ، وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي الأَْحْكَامِ.
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 164 ط صبيح.
(7/153)
فَالأَْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ: عِبَارَةٌ
عَنْ بُلُوغِ الْقُدْرَتَيْنِ أَوَّل دَرَجَاتِ الْكَمَال، وَهُوَ
الْمُرَادُ بِالاِعْتِدَال فِي لِسَانِ الشَّرْعِ. وَالْقَاصِرَةُ:
عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَتَيْنِ قَبْل بُلُوغِهِمَا أَوْ بُلُوغِ
إِحْدَاهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَال.
ثُمَّ الشَّرْعُ بَنَى عَلَى الأَْهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةَ
الأَْدَاءِ، وَعَلَى الْكَامِلَةِ وُجُوبَ الأَْدَاءِ وَتَوَجَّهَ
الْخِطَابُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلْزَامُ الإِْنْسَانِ الأَْدَاءَ فِي
أَوَّل أَحْوَالِهِ؛ إِذْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ أَصْلاً، وَإِلْزَامُ مَا لاَ
قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَبَعْدَ وُجُودِ
أَصْل الْعَقْل وَأَصْل قُدْرَةِ الْبَدَنِ قَبْل الْكَمَال، فَفِي
إِلْزَامِ الأَْدَاءِ حَرَجٌ؛ لأَِنَّهُ يُحْرِجُ الْفَهْمَ بِأَدْنَى
عَقْلِهِ، وَيُثْقِل عَلَيْهِ الأَْدَاءَ بِأَدْنَى قُدْرَةِ الْبَدَنِ،
وَالْحَرَجُ مُنْتَفٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) فَلَمْ يُخَاطَبْ شَرْعًا
لأَِوَّل أَمْرِهِ حِكْمَةً، وَلأَِوَّل مَا يَعْقِل وَيَقْدِرُ رَحْمَةً،
إِلَى أَنْ يَعْتَدِل عَقْلُهُ وَقُدْرَةُ بَدَنِهِ، فَيَتَيَسَّرُ
عَلَيْهِ الْفَهْمُ وَالْعَمَل بِهِ.
ثُمَّ وَقْتُ الاِعْتِدَال يَتَفَاوَتُ فِي جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى وَجْهٍ
يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ إِلاَّ
بَعْدَ تَجْرِبَةٍ وَتَكَلُّفٍ عَظِيمٍ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ
الَّذِي تَعْتَدِل لَدَيْهِ الْعُقُول فِي الأَْغْلَبِ مَقَامَ اعْتِدَال
الْعَقْل حَقِيقَةً، تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَصَارَ تَوَهُّمُ
وَصْفِ الْكَمَال قَبْل هَذَا الْحَدِّ، وَتَوَهُّمُ بَقَاءِ الْقُصُورِ
بَعْدَ هَذَا الْحَدِّ سَاقِطِي الاِعْتِبَارِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ
الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ
مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى
يَحْتَلِمَ وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ (2) .
__________
(1) سورة الحج / 78.
(2) حديث: " رفع القلم على ثلاث. . . " أخرجه أحمد بن حنبل وأبو داود
والحاكم بهذا المعنى. وقال المناوي: أو رده الحافظ ابن حجر من طرق عديدة
بألفاظ متقاربة ثم قال: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا. وقال عبد القادر
الأرناؤوط محقق جامع الأصول: إسناده حسن، وهو حديث صحيح بطرقه. (فيض القدير
4 / 34، وسنن أبي داود 4 / 558 وما بعدها ط عزت عبيد دعاس، والمستدرك 4 /
389، وجامع الأصول بتحقيق عبد القادر الأرناؤوط 3 / 506، 507) .
(7/154)
وَالْمُرَادُ بِالْقَلَمِ: الْحِسَابُ،
وَالْحِسَابُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ لُزُومِ الأَْدَاءِ، فَدَل عَلَى
أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالأَْهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ
اعْتِدَال الْحَال بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ. (1)
أَثَرُ الأَْهْلِيَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
10 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْكُمُهَا الأَْهْلِيَّةُ - سَوَاءٌ
أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ -
تَخْتَلِفُ وَتَتَعَدَّدُ أَحْكَامُهَا تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ نَوْعِ
الأَْهْلِيَّةِ، وَتَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مَرَاحِل النُّمُوِّ الَّتِي
يَمُرُّ بِهَا الإِْنْسَانُ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ تِلْكَ الأَْهْلِيَّةِ،
فَالأَْهْلِيَّةُ - كَمَا سَبَقَ - إِمَّا أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَإِمَّا
أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ، وَكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ تَكُونُ نَاقِصَةً
وَقَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
هَذَا، وَلِلْوُقُوفِ عَلَى تِلْكَ الأَْحْكَامِ، لاَ بُدَّ أَنْ
نَتَنَاوَل تِلْكَ الْمَرَاحِل الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِْنْسَانُ،
وَبَيَانُ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ فِي كُل مَرْحَلَةٍ مِنْ تِلْكَ
الْمَرَاحِل.
الْمَرَاحِل الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِْنْسَانُ:
11 - يَمُرُّ الإِْنْسَانُ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ بِخَمْسِ مَرَاحِل
أَسَاسِيَّةٍ، وَهَذِهِ الْمَرَاحِل هِيَ:
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 248، 249 ط دار الكتاب العربي.
(7/154)
(1) مَرْحَلَةُ مَا قَبْل الْوِلاَدَةِ،
أَيْ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
(2) مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ وَالصِّغَرِ، أَيْ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ
أُمِّهِ، وَقَبْل بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ.
(3) مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ سِنَّ
التَّمْيِيزِ إِلَى الْبُلُوغِ.
(4) مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، أَيْ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ سِنِّ الصِّغَرِ
إِلَى سِنِّ الْكِبَرِ.
(5) مَرْحَلَةُ الرُّشْدِ، أَيِ اكْتِمَال الْعَقْل.
هَذَا، وَلِكُل مَرْحَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاحِل أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ
نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
الْمَرْحَلَةُ الأُْولَى - الْجَنِينُ:
12 - الْجَنِينُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الاِجْتِنَانِ، وَهُوَ
الْخَفَاءُ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ،
وَالْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْجَنِينِ لاَ يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَا
الْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي
الْبَطْنِ (1) .
وَالْجَنِينُ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَالْجُزْءِ مِنْ
أُمِّهِ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا يُحْكَمُ بِعَدَمِ اسْتِقْلاَلِهِ، فَلاَ
تَثْبُتُ لَهُ ذِمَّةٌ، وَبِالتَّالِي فَلاَ يَجِبُ لَهُ وَلاَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ.
وَإِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً
بِحَيَاةٍ خَاصَّةٍ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ الذِّمَّةِ لَهُ، وَبِذَلِكَ
يَكُونُ أَهْلاً لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَلَمَّا لَمْ
يُمْكِنْ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الأُْخْرَى مِنْ كُل
وَجْهٍ، فَإِنَّ الشَّرْعَ عَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ
أُمِّهِ بِعَدَمِ
__________
(1) المصباح المنير مادة: (جنن) ، وحاشية قليوبي 4 / 159 ط الحلبي.
(7/155)
أَهْلِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ،
وَعَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً بِحَيَاةٍ
خَاصَّةٍ بِكَوْنِهِ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ لَهُ، وَبِهَذَا لاَ يَكُونُ
لِلْجَنِينِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ كَامِلَةٍ، بَل أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ
نَاقِصَةٍ. (1)
13 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِثْبَاتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ
لِلْجَنِينِ، كَحَقِّهِ فِي النَّسَبِ، وَحَقِّهِ فِي الإِْرْثِ، وَحَقِّهِ
فِي الْوَصِيَّةِ، وَحَقِّهِ فِي الْوَقْفِ.
فَأَمَّا حَقُّهُ فِي النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ: فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ
رَجُلٌ وَأَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، إِذَا
تَوَافَرَتْ شُرُوطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمُبَيَّنَةُ فِي مَوْضِعِهَا.
(2) ر: (نَسَبٌ) .
وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الإِْرْثِ: فَهُوَ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ (3) وَقَدِ اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْل لِلإِْرْثِ مَتَى قَامَ بِهِ
سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ وَتَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ (4) .
وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الْوَقْفِ: فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى الْوَصِيَّةِ،
وَيَسْتَحِقُّهُ إِنِ اسْتَهَل.
__________
(1) التقرير والتحبير 2 / 165 ط الأميرية، والتلويح على التوضيح 2 / 163 ط
صبيح، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 239، 240 ط دار الكتاب العربي.
(2) ابن عابدين 2 / 534، وجواهر الإكليل 1 / 381، والروضة 8 / 357، وكشاف
القناع 5 / 405.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 455 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية ابن عابدين 5 /
418 ط بولاق، وجواهر الإكليل 2 / 317 ط دار المعرفة، وحاشية قليوبي 3 / 157
ط الحلبي، وكشاف القناع 4 / 356.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 418 ط بولاق، وجواهر الإكليل 2 / 317 ط دار
المعرفة، وحاشية قليوبي 3 / 157 ط الحلبي، وكشاف القناع 4 / 356 ط النصر.
(7/155)
وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيَّةُ
الْوَقْفَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ تَسْلِيطٌ فِي الْحَال بِخِلاَفِ
الْوَصِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى حَمْلٍ
أَصَالَةً، كَأَنْ يَقِفَ دَارَهُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ
الْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْحَمْل لاَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ
بِغَيْرِ الإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، أَمَّا إِذَا وَقَفَ عَلَى الْحَمْل
تَبَعًا لِمَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقِفَ عَلَى
أَوْلاَدِهِ، أَوْ عَلَى أَوْلاَدِ فُلاَنٍ وَفِيهِمْ حَمْلٌ، فَإِنَّ
الْوَقْفَ يَشْمَلُهُ عِنْدَهُمْ. (2)
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ - الطُّفُولَةُ:
14 - تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنْ حِينِ انْفِصَال الْجَنِينِ عَنْ
أُمِّهِ حَيًّا، وَتَمْتَدُّ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ، فَفِي هَذِهِ
الْمَرْحَلَةِ تَثْبُتُ لِلْمَوْلُودِ الذِّمَّةُ الْكَامِلَةُ، فَيَصِيرُ
أَهْلاً لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، أَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ
لَهُ فَهِيَ ثَابِتَةٌ حَتَّى قَبْل الْوِلاَدَةِ - كَمَا سَبَقَ -
فَتَثْبُتُ لَهُ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، بَل صَرَّحَ
الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّ لَهُ يَدًا وَاخْتِصَاصًا كَالْبَالِغِ (3) .
وَأَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يَأْتِي.
وَوُجُوبُ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ عَلَى الطِّفْل فِي هَذِهِ
الْمَرْحَلَةِ، الْمُرَادُ مِنْهُ: حُكْمُهُ، وَهُوَ الأَْدَاءُ عَنْهُ،
فَكُل مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَا لاَ فَلاَ.
وَإِنَّمَا قُيِّدَ الأَْدَاءُ بِالْمُمْكِنِ؛ لأَِنَّ الطِّفْل فِي هَذِهِ
الْمَرْحَلَةِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَافَّةُ الْحُقُوقِ
كَالْبَالِغِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُعَامَل بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي هَذِهِ
الْمَرْحَلَةِ؛ لِضَعْفِ
__________
(&# x661 ;) حاشية ابن
عابدين 5 / 419 ط بولاق، وجواهر الإكليل 2 / 317 ط دار المعرفة، وحاشية
قليوبي 36 / 99 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 5 / 361 ط المكتبة الإسلامية.
(2) كشاف القناع 4 / 249 ط النصر.
(3) حاشية القليوبي 3 / 125 ط الحلبي.
(7/156)
بِنْيَتِهِ، وَلِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى
مُبَاشَرَةِ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ، فَيُؤَدِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا
أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا
تَفْصِيلاً فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، الَّتِي تُؤَدَّى
عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ حُقُوقِ الْعِبَادِ،
كَمَا ذَكَرُوا أَيْضًا حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَبَيَانُ
ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: حُقُوقُ الْعِبَادِ:
15 - حُقُوقُ الْعِبَادِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَنِ
الطِّفْل لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَلاَ
يُؤَدَّى عَنْهُ.
فَحُقُوقُ الْعِبَادِ الْوَاجِبَةُ وَالَّتِي تُؤَدَّى عَنْهُ هِيَ:
أ - مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَال وَيَحْتَمِل النِّيَابَةَ،
فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُ؛ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ كَالْغُرْمِ وَالْعِوَضِ.
ب - مَا كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، أَوْ
كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالأَْعْوَاضِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّهُ
يُؤَدَّى عَنْهُ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ الَّتِي لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ لاَ تَجِبُ
عَلَيْهِ وَلاَ تُؤَدَّى عَنْهُ فَهِيَ:
أ - الصِّلَةُ الشَّبِيهَةُ بِالأَْجْزِيَةِ كَتَحَمُّل الدِّيَةِ مَعَ
الْعَاقِلَةِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ.
ب - الْعُقُوبَاتُ كَالْقِصَاصِ، أَوِ الأَْجْزِيَةِ الشَّبِيهَةِ بِهَا
كَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ.
ثَانِيًا: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:
16 - هَذِهِ الْحُقُوقُ أَيْضًا مِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الطِّفْل،
وَمِنْهَا مَا لاَ يَجِبُ.
فَالْحُقُوقُ الَّتِي هِيَ مَئُونَةٌ مَحْضَةٌ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ
تَجِبُ عَلَيْهِ، وَتُؤَدَّى عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا
الْمَال، فَتَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ.
(7/156)
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَلاَ تَجِبُ
عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً.
أَمَّا الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ
وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْفَهْمِ
وَضَعْفِ بَدَنِهِ.
وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ فِطْرٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ
فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ عِبَادَةً خَالِصَةً بَل
فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
الأَْغْنِيَاءِ حَقًّا لِلْمُحْتَاجِينَ، فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ
كَمَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا عِنْدَهُمْ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، وَتَحْتَاجُ
إِلَى النِّيَّةِ، وَلاَ تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حُقُوقُ اللَّهِ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ،
فَإِنَّهَا لاَ تَلْزَمُهُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ
الْعُقُوبَاتُ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ؛ لأَِنَّ
الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ جَزَاءً لِلتَّقْصِيرِ، وَهُوَ لاَ يُوصَفُ
بِهِ. (1)
ثَالِثًا: أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ:
17 - أَقْوَال الصَّبِيِّ وَأَفْعَالُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلاَ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ لَمْ يُمَيِّزْ فَلاَ
اعْتِدَادَ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. (2)
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 163، 164 ط صبيح، والتقرير والتحبير 2 / 165،
166 ط الأميرية، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 239، 248 ط دار الكتاب
العربي، وفتح الغفار على المنار 3 / 81 ط الحلبي.
(2) المنثور للزركشي 2 / 301، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في
الكويت، وانظر أيضا مصطلح (طفل، وصغير) في الموسوعة الفقهية.
(7/157)
الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّمْيِيزُ:
18 - التَّمْيِيزُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: مِزْتُهُ مَيْزًا، مِنْ
بَابِ بَاعَ، وَهُوَ: عَزْل الشَّيْءِ وَفَصْلُهُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَيَكُونُ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمُخْتَلِطَاتِ، وَمَعْنَى تَمَيُّزِ
الشَّيْءِ: انْفِصَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ
يَقُولُونَ: سِنُّ التَّمْيِيزِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ: تِلْكَ السِّنُّ
الَّتِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ،
وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَيَّزْتُ الأَْشْيَاءَ: إِذَا فَرَّقْتُهَا
بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: التَّمْيِيزُ
قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ يُسْتَنْبَطُ بِهَا الْمَعَانِيَ.
وَهَذِهِ الْمَرْحَلَةُ تَبْدَأُ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ سَبْعَ سِنِينَ،
وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ كَمَا حَدَّدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ،
وَتَنْتَهِي بِالْبُلُوغِ، فَتَشْمَل الْمُرَاهِقَ وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ
الْبُلُوغَ. (1)
فَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ يُصْبِحُ عِنْدَ الصَّبِيِّ مِقْدَارٌ مِنَ
الإِْدْرَاكِ وَالْوَعْيِ يَسْمَحُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ
التَّصَرُّفَاتِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْقَاصِرَةِ؛
لأَِنَّ نُمُوَّهُ الْبَدَنِيَّ وَالْعَقْلِيَّ لَمْ يَكْتَمِلاَ بَعْدُ،
وَبَعْدَ اكْتِمَالِهِمَا تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ
الْكَامِلَةِ؛ لأَِنَّ أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ الْكَامِلَةِ لاَ تَثْبُتُ
إِلاَّ بِاكْتِمَال النُّمُوِّ الْبَدَنِيِّ وَالنُّمُوِّ الْعَقْلِيِّ،
فَمَنْ لَمْ يَكْتَمِل نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ مَعًا، أَوْ
لَمْ يَكْتَمِل فِيهِ نُمُوُّ أَحَدِهِمَا فَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ فِيهِ
تَكُونُ قَاصِرَةً.
فَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَال الْعَقْل فِيهِ، وَإِنْ
كَانَ كَامِلاً مِنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ، بِخِلاَفِ أَهْلِيَّةِ
الْوُجُوبِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ كَامِلَةً مُنْذُ الْوِلاَدَةِ،
فَالطِّفْل
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ميز "، وحاشية ابن عابدين 5 / 421 ط بولاق،
وجواهر الإكليل 1 / 22 ط دار المعرفة.
(7/157)
أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، كَمَا
سَبَقَ. (1)
وَلِلتَّمْيِيزِ أَثَرُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ
يَجُوزُ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ الْقَاصِرَةِ مُبَاشَرَةُ بَعْضِ
التَّصَرُّفَاتِ وَتَصِحُّ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الثَّابِتَ مَعَ الأَْهْلِيَّةِ
الْقَاصِرَةِ صِحَّةُ الأَْدَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ
التَّصَرُّفَاتِ الأُْخْرَى، وَخَاصَّةً تِلْكَ الَّتِي يَعُودُ ضَرَرُهَا
عَلَيْهِ، فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ أَيْضًا مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ، بَل لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ
إِذْنِ الْوَلِيِّ.
وَفِيمَا يَلِي مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيل
الإِْجْمَال، أَمَّا التَّفْصِيل فَفِي مُصْطَلَحِ (تَمْيِيزٍ) .
تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ:
19 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ،
إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذِهِ
الْحَالَةِ إِمَّا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحُقُوقُ عِبَادَاتٍ
وَعَقَائِدَ، أَوْ حُقُوقًا مَالِيَّةً، أَوْ عُقُوبَاتٍ، وَإِمَّا: أَنْ
تَكُونَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهِيَ إِمَّا:
مَالِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ مَالِيَّةٍ.
أ - حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:
20 - أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلاَةِ، فَلاَ خِلاَفَ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ
يُؤْمَرُ بِأَدَائِهَا فِي سِنِّ السَّابِعَةِ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا
فِي سِنِّ الْعَاشِرَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: مُرُوا
صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 164 ط وصبيح، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4
/ 248 ط دار الكتاب العربي.
(7/158)
سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا
لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (1) .
وَأَمَّا الْعَقَائِدُ كَالإِْيمَانِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ
الصَّبِيِّ، فَيُعْتَبَرُ إِيمَانُهُ؛ لأَِنَّهُ خَيْرٌ مَحْضٌ، وَخَالَفَ
فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ إِسْلاَمَهُ لاَ يَصِحُّ
حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِحَدِيثِ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ وَمِنْهَا عَنِ
الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ. . .
وَأَمَّا رِدَّتُهُ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ؛
لأَِنَّهَا ضَرَرٌ مَحْضٌ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْحُكْمِ
بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مَا
عَدَا الْقَتْل.
وَنُقِل فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ وَالْمُنْتَقَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ
إِلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ (2) .
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَالِيَّةُ
كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ. (3)
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 164، نيل الأوطار 1 / 377 ط دار الجيل، وبدائع
الصنائع 1 / 155 ط الأولى، وجواهر الإكليل 1 / 34 ط دار المعرفة، وحاشية
قليوبي 1 / 121 ط الحلبي، وكشاف القناع 1 / 225 ط النصر. وحديث: " مروا
صبيانكم. . . " سبق تخريجه في مصطلح (أنوثة / ف / 9) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 306، والتلويح على التوضيح 2 / 164، 165، وجواهر
الإكليل 1 / 116، والمنثور للزركشي 2 / 295، والمغني 8 / 133 - 148.
(3) بدائع الصنائع 2 / 504 ط الأولى، وجواهر الإكليل 2 / 326 ط دار
المعرفة، والروضة 2 / 149 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 169 ط
النصر.
(7/158)
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِحُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهِ،
فَإِنَّهَا لاَ تُقَامُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ. (1)
ب - حُقُوقُ الْعِبَادِ:
21 - أَمَّا الْمَالِيَّةُ مِنْهَا كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُجْرَةِ
الأَْجِيرِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَْقَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ
الْمَال، وَأَدَاؤُهُ يَحْتَمِل النِّيَابَةَ، فَيَصِحُّ لِلصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ أَدَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ أَدَّاهُ وَلِيُّهُ. (2)
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عُقُوبَةُ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛
لأَِنَّ فِعْل الصَّبِيِّ لاَ يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ، فَلاَ يَصْلُحُ
سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِي فِعْلِهِ،
وَلَكِنْ تَجِبُ فِي فِعْلِهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ لِعِصْمَةِ
الْمَحَل، وَالصِّبَا لاَ يَنْفِي عِصْمَةَ الْمَحَل؛ وَلأَِنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْ وُجُوبِهَا الْمَال، وَأَدَاؤُهُ قَابِلٌ لِلنِّيَابَةِ،
وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى
عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، حَيْثُ
قَالُوا: إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ عَمْدٌ، فَتَغْلُظُ
عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَيُحْرَمُ إِرْثَ مَنْ قَتَلَهُ. (3)
22 - أَمَّا تَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ، فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عَلَى
النَّحْوِ الآْتِي:
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 142، 143 ط المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 2 /
293 ط دار المعرفة، ونهاية المحتاج 7 / 440 ط المكتبة الإسلامية، وكشاف
القناع 6 / 129 ط النصر.
(2) التقرير والتحبير 2 / 170 ط الأميرية، والتلويح على التوضيح 2 / 165 ط
صبيح.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 3، 4، والدسوقي 4 / 237، والمنثور للزركشي 2 /
298، وكشاف القناع 5 / 521.
(7/159)
(1) تَصَرُّفَاتٌ نَافِعَةٌ لَهُ نَفْعًا
مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا دُخُول شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ
مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، مِثْل قَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ، وَهَذِهِ تَصِحُّ مِنْهُ، دُونَ تَوَقُّفٍ
عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ؛ لأَِنَّهَا خَيْرٌ عَلَى كُل
حَالٍ.
(2) تَصَرُّفَاتٌ ضَارَّةٌ بِالصَّغِيرِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ
مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَسَائِرِ
التَّبَرُّعَاتِ وَالطَّلاَقِ وَالْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ، وَهَذِهِ لاَ
تَصِحُّ مِنْهُ، بَل تَقَعُ بَاطِلَةً، وَلاَ تَنْعَقِدُ، حَتَّى وَلَوْ
أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لأَِنَّهُمَا لاَ يَمْلِكَانِ
مُبَاشَرَتَهَا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَلاَ يَمْلِكَانِ إِجَازَتَهَا.
(3) تَصَرُّفَاتٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِحَسَبِ أَصْل
وَضْعِهَا، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ
الْمَالِيَّةِ، وَهَذِهِ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنْهُ، بِاعْتِبَارِ مَا لَهُ
مِنْ أَصْل الأَْهْلِيَّةِ؛ وَلاِحْتِمَال أَنَّ فِيهَا نَفْعًا لَهُ،
إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ
الْوَصِيِّ لِنَقْصِ أَهْلِيَّتِهِ، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ
لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقَعُ صَحِيحَةً لَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ
لاَزِمَةً، وَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ
الْوَصِيِّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنَ
الصَّبِيِّ، فَإِذَا وَقَعَتْ كَانَتْ بَاطِلَةً لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا
أَيُّ أَثَرٍ. (1)
__________
(1) التلويح على التوضيح 2 / 166، والفتاوى الهندية 1 / 353، والتقرير
والتحبير 2 / 170، والدسوقي 2 / 265، والروضة 8 / 22، 23، وكشاف القناع 5 /
234.
(7/159)
الْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ - الْبُلُوغُ:
23 - الْبُلُوغُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ،
تَنْقُلُهُ مِنْ حَال الطُّفُولَةِ إِلَى حَال الرُّجُولَةِ.
وَهُوَ يَحْصُل بِظُهُورِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ
كَالاِحْتِلاَمِ، وَكَالْحَبَل وَالْحَيْضِ فِي الأُْنْثَى، فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِهِ، فَقَدَّرَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِلْفَتَى، وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً
لِلْفَتَاةِ، وَقَدَّرَهُ الصَّاحِبَانِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
تَقْدِيرُهُ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِكُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ
وَالأُْنْثَى. (1)
وَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، يَكْتَمِل
فِيهَا لِلإِْنْسَانِ نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَتَثْبُتُ
لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْكَامِلَةِ، فَيَصِيرُ أَهْلاً لأَِدَاءِ
الْوَاجِبَاتِ وَتَحَمُّل التَّبِعَاتِ، وَيُطَالَبُ بِأَدَاءِ كَافَّةِ
الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَغَيْرِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ
حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا اكْتَمَل نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ مَعَ اكْتِمَال
نُمُوِّهِ الْبَدَنِيِّ، أَمَّا إِذَا وَصَل إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ وَلَمْ
يَكْتَمِل نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ، بِأَنْ بَلَغَ مَعْتُوهًا أَوْ
سَفِيهًا، فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ،
وَيَسْتَمِرُّ ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ
فِي السَّفِيهِ. (2)
الْمَرْحَلَةُ الْخَامِسَةُ - الرُّشْدُ:
24 - الرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 97، وجواهر الإكليل 2 / 97 ط دار المعرفة، والقرطبي 5 /
34 - 36، وحاشية القليوبي 2 / 300، 301.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 56 ط المكتبة الإسلامية.
(3) المصباح المنير.
(7/160)
وَالرُّشْدُ عِنْدَ فُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: حُسْنُ التَّصَرُّفِ
فِي الْمَال، وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْمَارِهِ وَاسْتِغْلاَلِهِ
اسْتِغْلاَلاً حَسَنًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: صَلاَحُ الدِّينِ وَالصَّلاَحُ فِي الْمَال.
وَهَذَا الرُّشْدُ قَدْ يَأْتِي مَعَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ
عَنْهُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ
وَاسْتِعْدَادِهِ وَتَعَقُّدِ الْحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ
وَبَسَاطَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ
أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ
أَمْوَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) .
وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ، وَكَانَ عَاقِلاً كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ،
وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ
لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، بَل تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ
وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ بِالْفِعْل، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ
أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لأَِنَّ
مَنْعَ الْمَال عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيل الاِحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ،
وَلَيْسَ عَلَى سَبِيل الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ
يَرَى الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، وَالإِْنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِ هَذِهِ
السِّنَّ وَصَلاَحِيَّتِهِ لأََنْ يَكُونَ جَدًّا لاَ يَكُونُ أَهْلاً
لِلتَّأْدِيبِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا
بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَلَكِنْ لاَ تَرْتَفِعُ
الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، وَتَبْقَى أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ
وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تُؤْتُوا
__________
(1) سورة النساء / 6.
(7/160)
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل
اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (1) فَإِنَّهُ مَنَعَ الأَْوْلِيَاءَ وَالأَْوْصِيَاءَ مِنْ
دَفْعِ الْمَال إِلَى السُّفَهَاءِ، وَنَاطَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِمْ
بِتَوَافُرِ أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يَدْفَعَ الْمَال إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ مَعَ عَدَمِ الرُّشْدِ. (2)
أَمَّا إِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا، ثُمَّ طَرَأَ السَّفَهُ عَلَيْهِ
بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ، بَيْنَ
عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ.
عَوَارِضُ الأَْهْلِيَّةِ:
25 - الْعَوَارِضُ: جَمْعُ عَارِضٍ أَوْ عَارِضَةٍ، وَالْعَارِضُ فِي
اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: السَّحَابُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا
رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِل أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا} (3) .
وَأَمَّا الْعَوَارِضُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَمَعْنَاهَا: أَحْوَالٌ تَطْرَأُ
عَلَى الإِْنْسَانِ بَعْدَ كَمَال أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ، فَتُؤَثِّرُ
فِيهَا بِإِزَالَتِهَا أَوْ نُقْصَانِهَا، أَوْ تُغَيِّرُ بَعْضَ
الأَْحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ
فِي أَهْلِيَّتِهِ (4) .
أَنْوَاعُ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ:
26 - عَوَارِضُ الأَْهْلِيَّةِ نَوْعَانِ: سَمَاوِيَّةٌ وَمُكْتَسَبَةٌ:
__________
(1) سورة النساء / 5، 6.
(2) ابن عابدين 5 / 95، والفتاوى الهندية 5 / 56، وجواهر الإكليل 1 / 161،
2 / 98، والروضة 4 / 177، 178، وحاشية القليوبي 2 / 301، والمغني 4 / 506،
وكشاف القناع 3 / 452.
(3) سورة الأحقاف / 24، وانظر الصحاح مادة: " عرض ".
(4) التقرير والتجير 2 / 172 ط الأميرية، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 /
262 ط دار الكتاب العربي.
(7/161)
فَالْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ: هِيَ
تِلْكَ الأُْمُورُ الَّتِي لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا اخْتِيَارٌ، وَلِهَذَا
تُنْسَبُ إِلَى السَّمَاءِ؛ لِنُزُولِهَا بِالإِْنْسَانِ مِنْ غَيْرِ
اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْعَتَهُ،
وَالنِّسْيَانُ، وَالنَّوْمُ، وَالإِْغْمَاءُ، وَالْمَرَضُ، وَالرِّقُّ،
وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَالْمَوْتُ.
وَالْمُكْتَسَبَةُ: هِيَ تِلْكَ الأُْمُورُ الَّتِي كَسَبَهَا الْعَبْدُ
أَوْ تَرَكَ إِزَالَتَهَا، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِ، فَالَّتِي تَكُونُ مِنْهُ: الْجَهْل، وَالسُّكْرُ، وَالْهَزْل،
وَالسَّفَهُ، وَالإِْفْلاَسُ، وَالسَّفَرُ، وَالْخَطَأُ، وَالَّذِي يَكُونُ
مِنْ غَيْرِهِ الإِْكْرَاهُ. (1)
وَفِيمَا يَلِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ إِجْمَالاً، مَعَ
إِحَالَةِ التَّفْصِيل إِلَى الْعَنَاوِينِ الْخَاصَّةِ بِهَا.
الْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ:
أَوَّلاً: الْجُنُونُ:
27 - الْجُنُونُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: أَجَنَّهُ اللَّهُ فَجُنَّ،
فَهُوَ مَجْنُونٌ، بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول. (2)
وَأَمَّا عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ فَإِنَّهُ: اخْتِلاَلٌ لِلْعَقْل
يَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال عَلَى نَهْجِ الْعَقْل
(3) . وَالْجُنُونُ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ، فَهُوَ مُسْقِطٌ
لِلْعِبَادَاتِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
وَفِي زَكَاةِ مَال الْمَجْنُونِ خِلاَفٌ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْفَرْقِ
بَيْنَ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) التقرير والتحبير 2 / 172 ط الأميرية، والتلويح على التوضيح 2 / 167 ط
صبيح، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 4 / 263 ط دار الكتاب العربي.
(2) المصباح المنير مادة: " جنن ".
(3) التقرير والتحبير 2 / 173 ط الأميرية، والتلويح على التوضيح 2 / 167 ط
صبيح، وفتح الغفار 3 / 86 ط الحلبي.
(7/161)
وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ، فَحُكْمُهُ
فِيهَا حُكْمُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، فَلاَ يُعْتَدُّ
بِأَقْوَالِهِ لاِنْتِفَاءِ تَعَقُّلِهِ لِلْمَعَانِي.
وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الْجُنُونُ،
فَإِنَّ الْمَجْنُونَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ لِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ،
وَالْمُتْلَفَاتُ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ
كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَصِل إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ.
وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْجُنُونِ تُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (جُنُونٍ) .
ثَانِيًا: الْعَتَهُ:
28 - الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نُقْصَانُ الْعَقْل مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ
أَوْ دَهْشٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلاً فِي الْعَقْل، فَيَصِيرُ
صَاحِبُهَا مُخْتَلَطَ الْكَلاَمِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ
الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ (2) .
وَالْمَعْتُوهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَتَثْبُتُ
لَهُ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الْقَاصِرَةِ، إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الصَّبِيِّ كَمَا جَاءَ فِي التَّلْوِيحِ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ
وَاحِدَةٍ وَهِيَ: أَنَّ امْرَأَةَ الْمَعْتُوهِ إِذَا أَسْلَمَتْ لاَ
يُؤَخَّرُ عَرْضُ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ يُؤَخَّرُ عَرْضُهُ
عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وَاضِحٌ، فَإِنَّ الصِّبَا مُقَدَّرٌ بِخِلاَفِ الْعَتَهِ وَالْجُنُونِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٍ (3)) .
ثَالِثًا: النِّسْيَانُ:
29 - النِّسْيَانُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ:
__________
(1) المصباح مادة: " عته ".
(2) التقرير والتحبير 2 / 176 ط الأميرية.
(3) التلويح على التوضيح 2 / 169 ط صبيح، وانظر مصطلح: " عته ".
(7/162)
أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ عَلَى
ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَهُوَ خِلاَفُ التَّذَكُّرِ.
وَثَانِيهِمَا: التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:
{وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنَكُمْ} (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ
وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (2) . وَالنِّسْيَانُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي
أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ أَيْضًا فِي أَهْلِيَّةِ
الأَْدَاءِ لِكَمَال الْعَقْل، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ
فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الإِْثْمِ وَعَدَمِهِ؛ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ (3) . . .
وَلِلنِّسْيَانِ أَحْكَامٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (نِسْيَانٍ) .
رَابِعًا: النَّوْمُ:
30 - النَّوْمُ: غَشْيَةٌ ثَقِيلَةٌ تَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ فَتَقْطَعُهُ
عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِالأَْشْيَاءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: فُتُورٌ يَعْرِضُ مَعَ قِيَامِ الْعَقْل يُوجِبُ
الْعَجْزَ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالأَْفْعَال
الاِخْتِيَارِيَّةِ وَاسْتِعْمَال الْعَقْل (4) .
وَالنَّوْمُ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إِخْلاَلِهِ
بِالذِّمَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُوجِبُ تَأْخِيرَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ
بِالأَْدَاءِ
__________
(1) سورة البقرة / 237، وانظر المصباح مادة: " نسي ".
(2) التقرير والتحبير 2 / 176 ط الأميرية.
(3) حديث: وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . " أخرجه البيهقي والحاكم بهذا
المعنى. وذكر السخاوي طرق الحديث المختلفة والطعون الواردة عليها وقال:
مجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا. (فيض القدير 6 / 7362، والمستدرك 2 /
198، والمقاصد الحسنة ص 228 - 230 نشر مكتبة الخانجي) .
(4) المصباح مادة: " نوم "، والتقرير والتحبير 2 / 177 ط الأميرية.
(7/162)
إِلَى حَال الْيَقِظَةِ؛ لأَِنَّهُ فِي
حَال النَّوْمِ عَاجِزٌ عَنِ الْفَهْمِ فَلاَ يُنَاسِبُ أَنْ يَتَوَجَّهَ
إِلَيْهِ الْخِطَابُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا انْتَبَهَ مِنَ النَّوْمِ
أَمْكَنَهُ الْفَهْمُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّائِمَ مُطَالَبٌ بِقَضَاءِ
مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي أَثْنَاءِ نَوْمِهِ، وَأَمَّا
عِبَارَاتُ النَّائِمِ مِنَ الأَْقَارِيرِ وَغَيْرِهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ،
وَلاَ يُعْتَدُّ بِهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (نَوْمٍ) .
خَامِسًا: الإِْغْمَاءُ:
31 - الإِْغْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْخَفَاءُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ
فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّل الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ
وَالْحَرَكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَقْل مَغْلُوبًا. (1)
وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْمَرَضِ، وَلِذَا لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَتَأْثِيرُ الإِْغْمَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ
تَأْثِيرِ النَّوْمِ عَلَى النَّائِمِ، وَلِذَا اعْتُبِرَ فَوْقَ
النَّوْمِ؛ لأَِنَّ النَّوْمَ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ،
وَسَبَبُهُ شَيْءٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الزَّوَال، وَالإِْغْمَاءُ عَلَى
خِلاَفِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ التَّنْبِيهَ
وَالاِنْتِبَاهَ مِنَ النَّوْمِ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ، وَأَمَّا
التَّنْبِيهُ مِنَ الإِْغْمَاءِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ. (2)
وَحُكْمُ الإِْغْمَاءِ فِي كَوْنِهِ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضِ
الأَْهْلِيَّةِ حُكْمُ النَّوْمِ، فَلَزِمَهُ مَا لَزِمَ النَّوْمُ،
وَلِكَوْنِهِ يَزِيدُ عَنْهُ جَعَلَهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ فِي جَمِيعِ
الأَْحْوَال حَتَّى فِي الصَّلاَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (إِغْمَاءٍ) .
__________
(1) المصباح مادة: " غمي "، والتقرير والتحبير 2 / 179 ط الأميرية.
(2) التلويح على التوضيح 2 / 170 ط صبيح.
(7/163)
سَادِسًا: الرِّقُّ:
32 - الرِّقُّ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الْعُبُودِيَّةُ. (1)
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ: حَجْزٌ حُكْمِيٌّ عَنِ الْوِلاَيَةِ
وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَمِلْكِيَّةِ الْمَال وَالتَّزَوُّجِ
وَغَيْرِهَا (2) .
هَذَا وَالأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالرَّقِيقِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي
مُصْطَلَحِ: (رِقٍّ) .
سَابِعًا: الْمَرَضُ:
33 - الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ: حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ
بِالْفِعْل.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ
الاِعْتِدَال الْخَاصِّ (3) .
وَهُوَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفَاتِ، أَيْ ثُبُوتُهُ
وَوُجُوبُهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُخِل بِالْعَقْل
وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، فَيَصِحُّ مَا تَعَلَّقَ
بِعِبَارَتِهِ مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ
سَبَبُ الْمَوْتِ بِتَرَادُفِ الآْلاَمِ، وَأَنَّهُ - أَيِ الْمَوْتَ -
عَجْزٌ خَالِصٌ، كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ، فَشُرِعَتِ
الْعِبَادَاتُ مَعَهُ بِقَدْرِ الْمُكْنَةِ؛ لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَكْلِيفُ
مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، فَيُصَلِّي قَاعِدًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الْقِيَامِ، وَمُضْطَجِعًا إِنْ عَجَزَ عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ الْمَرَضُ
سَبَبًا لِلْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ حِفْظًا لِحَقِّ
الْوَارِثِ وَحَقِّ الْغَرِيمِ إِذَا
__________
(1) المصباح المنير مادة: " رقق ".
(2) التقرير والتحبير 2 / 180 ط الأميرية، وفتح الغفار 3 / 91 ط الحلبي.
(3) المصباح مادة: " مرض "، والتقرير والتحبير 2 / 186 ط الأميرية.
(7/163)
اتَّصَل بِهِ الْمَوْتُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْمَرَضَ الْمُمِيتَ هُوَ سَبَبُ الْحَجْرِ لاَ نَفْسُ الْمَرَضِ. (1)
هَذَا، وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْمَرَضِ يُرْجَعُ
إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (مَرَضٍ)
ثَامِنًا: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:
34 - الْحَيْضُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: السَّيَلاَنُ، وَمِنْهُ
الْحَوْضُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الدَّمُ الْخَارِجُ مِنَ الرَّحِمِ لاَ لِوِلاَدَةٍ
وَلاَ لِعِلَّةٍ (2) .
وَأَمَّا النِّفَاسُ فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْوِلاَدَةُ. وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِبَ فَرَاغِ الرَّحِمِ مِنَ الْحَمْل
(3) .
وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ لاَ يُؤَثِّرَانِ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ،
وَلاَ فِي أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ، إِلاَّ أَنَّهُمَا اعْتُبِرَا مِنَ
الْعَوَارِضِ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ كُل
عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الطَّهَارَةُ كَالصَّلاَةِ مَثَلاً. (4)
وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَحَلُّهُ
(حَيْضٌ، وَنِفَاسٌ) .
تَاسِعًا: الْمَوْتُ:
35 - الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْتِ تَتَلَخَّصُ فِي أَنَّ
تِلْكَ الأَْحْكَامَ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ،
وَالدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) فتح الغفار 3 / 96 ط الحلبي.
(2) المصباح مادة: " حيض "، وفتح الغفار 3 / 98 ط الحلبي، والتقرير
والتحبير 2 / 188 ط الأميرية، وحاشية قليوبي 1 / 98 ط الحلبي.
(3) المصباح مادة: " نفس "، وحاشية قليوبي 1 / 98 ط الحلبي.
(4) التلويح على التوضيح 2 / 176، 177 ط صبيح.
(7/164)
التَّكْلِيفُ حُكْمُهَا السُّقُوطُ إِلاَّ
فِي حَقِّ الْمَأْتَمِ، أَوْ مَا شُرِعَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةِ
غَيْرِهِ.
وَالأُْخْرَوِيَّةُ حُكْمُهَا الْبَقَاءُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً
لَهُ عَلَى الْغَيْرِ، أَمْ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ، مِنَ الْحُقُوقِ
الْمَالِيَّةِ وَالْمَظَالِمِ، أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ
بِوَاسِطَةِ الطَّاعَاتِ، أَوْ عِقَابٍ بِوَاسِطَةِ الْمَعَاصِي. (1)
هَذَا، وَمَحَل تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ مُصْطَلَحُ (مَوْتٍ)
الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ:
36 - الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ إِمَّا مِنَ الإِْنْسَانِ، وَإِمَّا
مِنْ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَوَّلاً: الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ الَّتِي مِنَ الإِْنْسَانِ هِيَ:
أ - الْجَهْل:
37 - مَعْنَى الْجَهْل فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الْعِلْمِ. (2) وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ الْعِلْمُ (3) .
وَالْجَهْل لاَ يُؤَثِّرُ فِي الأَْهْلِيَّةِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَقْسَامٌ
بَعْضُهَا يَصْلُحُ عُذْرًا، وَبَعْضُهَا لاَ يَصْلُحُ عُذْرًا. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَهْلٍ (4))
__________
(1) التقرير والتحبير 2 / 189 ط الأميرية، والتلويح على التوضيح 2 / 178 ط
صبيح، وفتح الغفار 3 / 98 ط الحلبي.
(2) المصباح مادة: " جهل ".
(3) فتح الغفار 3 / 102، 103 ط الحلبي.
(4) المنثور 2 / 12، 13، 23 ط الفليج، وفتح الغفار 3 / 102 - 106 ط الحلبي.
(7/164)
ب - السُّكْرُ:
38 - مِنْ مَعَانِي السُّكْرِ: زَوَال الْعَقْل، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ
أَسْكَرَهُ الشَّرَابُ: أَيْ أَزَال عَقْلَهُ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ مِنْ تَنَاوُل
الْمُسْكِرِ، يَتَعَطَّل مَعَهَا عَقْلُهُ، فَلاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ
الأُْمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ (2) .
وَالسُّكْرُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَخَاصَّةً إِنْ كَانَ
طَرِيقُهُ مُحَرَّمًا، كَأَنْ يَتَنَاوَل الْمُسْكِرَ مُخْتَارًا عَالِمًا
بِأَنَّ مَا يَشْرَبُهُ يُغَيِّبُ الْعَقْل.
وَخُلاَصَةُ مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي السُّكْرِ هُوَ: أَنَّهُمْ لَمْ
يَجْعَلُوا الْمُسْكِرَ مُسْقِطًا لِلتَّكْلِيفِ وَلاَ مُضَيِّعًا
لِلْحُقُوقِ، وَلاَ مُخَفِّفًا لِمِقْدَارِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَصْدُرُ
مِنَ السَّكْرَانِ، لأَِنَّهُ جِنَايَةٌ، وَالْجِنَايَةُ لاَ يَصِحُّ أَنْ
يَسْتَفِيدَ مِنْهَا صَاحِبُهَا. وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ
بِالسُّكْرِ مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (سُكْرٍ) .
ج - الْهَزْل:
39 - الْهَزْل: ضِدُّ الْجِدِّ، أَوْ هُوَ اللَّعِبُ، وَهُوَ فِي
اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ هَزَل فِي كَلاَمِهِ هَزْلاً: إِذَا مَزَحَ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَلاَّ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ
وَلاَ الْمَجَازِيَّ، بَل يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُمَا (3) .
وَالْهَزْل لاَ يُنَافِي الأَْهْلِيَّةَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي
بَعْضِ الأَْحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْهَازِل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (هَزْلٍ) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " سكر ".
(2) التلويح على التوضيح 2 / 185 ط صبيح، وفتح الغفار 3 / 106 ط الحلبي.
(3) المصباح مادة: " هزل "، والتقرير والتحبير 2 / 194 ط الأميرية،
والتلويح على التوضيح 2 / 187 ط صبيح.
(7/165)
د - السَّفَهُ:
40 - السَّفَهُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْل، وَأَصْلُهُ
الْخِفَّةُ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِفَّةٌ تَعْتَرِي الإِْنْسَانَ
فَتَبْعَثُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى
الْعَقْل، مَعَ عَدَمِ الاِخْتِلاَل فِي الْعَقْل (1) .
وَإِنَّمَا كَانَ السَّفَهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَلَمْ
يَكُنْ مِنَ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ؛ لأَِنَّ السَّفِيهَ
بِاخْتِيَارِهِ يَعْمَل عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْل مَعَ بَقَاءِ
الْعَقْل. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْعَتَهِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمَعْتُوهَ
يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، بِخِلاَفِ
السَّفِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ لَكِنْ تَعْتَرِيهِ
خِفَّةٌ، فَيُتَابِعُ مُقْتَضَاهَا فِي الأُْمُورِ الْمَالِيَّةِ مِنْ
غَيْرِ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ فِي عَوَاقِبِهَا؛ لِيَقِفَ عَلَى أَنَّ
عَوَاقِبَهَا مَحْمُودَةٌ أَوْ مَذْمُومَةٌ. (3)
وَالسَّفَهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الأَْهْلِيَّةِ بِقِسْمَيْهَا، وَلاَ
يُنَافِي شَيْئًا مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالسَّفِيهُ
يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ،
إِلاَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ رَاعَتْ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَقَرَّرَتْ
أَنْ يُمْنَعَ السَّفِيهُ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ
صِيَانَةً لَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (سَفَهٍ) .
هـ - السَّفَرُ:
41 - السَّفَرُ - بِفَتْحَتَيْنِ - مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: قَطْعُ
__________
(1) المصباح مادة: " سفه "، والتلويح على التوضيح 2 / 191 ط صبيح، والتقرير
والتحبير 2 / 201 ط الأميرية، وكشف الأسرار 4 / 369 ط دار الكتاب العربي.
(2) فتح الغفار 3 / 114 ط الحلبي.
(3) التلويح 2 / 191 ط صبيح.
(7/165)
الْمَسَافَةِ، وَيُقَال ذَلِكَ إِذَا
خَرَجَ لِلاِرْتِحَال أَوْ لِقَصْدِ مَوْضِعٍ فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى؛
لأَِنَّ الْعَرَبَ لاَ يُسَمُّونَ مَسَافَةَ الْعَدْوَى سَفَرًا. (1)
وَفِي الشَّرْعِ: الْخُرُوجُ بِقَصْدِ الْمَسِيرِ مِنْ مَحَل الإِْقَامَةِ
إِلَى مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ فَمَا فَوْقَهَا بِسَيْرِ الإِْبِل وَمَشْيِ الأَْقْدَامِ. (2)
عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
وَالسَّفَرُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الأَْهْلِيَّةِ بِقِسْمَيْهَا، إِلاَّ
أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِنَ الْعَوَارِضِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ
سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ، كَقَصْرِ الصَّلاَةِ
الرُّبَاعِيَّةِ وَالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ. (3)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (سَفَرٍ) .
و الْخَطَأُ:
42 - الْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: مَا قَابَل
الصَّوَابَ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: مَا قَابَل الْعَمْدَ، وَهَذَا
الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِهِ فِي عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الإِْنْسَانِ بِلاَ قَصْدٍ
إِلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ (5) .
وَالْخَطَأُ لاَ يُنَافِي الأَْهْلِيَّةَ بِنَوْعَيْهَا؛ لأَِنَّ الْعَقْل
__________
(1) المصباح مادة: " عدا " والعدوى: طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك، أي
ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون: مسافة العدوى، استفارة من
صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدو واحد.
(2) كشف الأسرار 4 / 376 ط دار الكتاب العربي.
(3) التلويح 2 / 193 ط صبيح، وفتح الغفار 3 / 117 ط الحلبي، والتقرير
والتحبير 2 / 203 ط الأميرية، وجواهر الإكليل 1 / 88 ط دار المعرفة،
والروضة 1 / 385 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 504 ط النصر.
(4) المصباح مادة: " خطأ ".
(5) التلويح 2 / 195 ط صبيح.
(7/166)
مَوْجُودٌ مَعَهُ، وَالْجِنَايَةُ فِيهِ
مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّثَبُّتِ، وَلِذَا يُؤَاخَذُ بِهِ مِنْ هَذِهِ
الْجِهَةِ، فَلاَ تُقَدَّرُ الْعُقُوبَةُ فِيهِ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ
نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا بِقَدْرِ عَدَمِ التَّثَبُّتِ الَّذِي أَدَّى إِلَى
حُصُولِهَا.
وَالْخَطَأُ يُعْذَرُ بِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
إِذَا اجْتَهَدَ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ،
وَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْعُقُوبَةَ عَنِ
الْمُخْطِئِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلاَ يُعْتَبَرُ الْخَطَأُ
عُذْرًا فِيهَا، وَلِذَا فَإِنَّ الْمُخْطِئَ يَضْمَنُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى
خَطَئِهِ مِنْ ضَرَرٍ أَوْ تَلَفٍ. (1)
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأٍ) .
ثَانِيًا: الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ الَّتِي مِنْ غَيْرِ الإِْنْسَانِ
نَفْسِهِ:
43 - وَهِيَ عَارِضٌ وَاحِدٌ فَقَطْ وَهُوَ الإِْكْرَاهُ: وَمَعْنَاهُ فِي
اللُّغَةِ: الْحَمْل عَلَى الأَْمْرِ قَهْرًا. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: حَمْل الْغَيْرِ عَلَى مَا لاَ يَرْضَاهُ مِنْ قَوْلٍ
أَوْ فِعْلٍ، وَلاَ يَخْتَارُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ تُرِكَ وَنَفْسَهُ. (3)
وَهُوَ مُعْدِمٌ لِلرِّضَى لاَ لِلاِخْتِيَارِ؛ لأَِنَّ الْفِعْل يَصْدُرُ
عَنِ الْمُكْرَهِ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ الاِخْتِيَارُ
بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ، وَقَدْ لاَ
يُفْسِدُهُ بِأَنْ يَبْقَى الْفَاعِل مُسْتَقِلًّا فِي قَصْدِهِ.
هَذَا، وَالإِْكْرَاهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مُلْجِئًا أَمْ غَيْرَ مُلْجِئٍ
__________
(1) التقرير والتحبير 2 / 204 ط الأميرية، وفتح الغفار 3 / 118 ط الحلبي.
(2) المصباح مادة: " كره ".
(3) التقرير والتحبير 2 / 206 ط الأميرية، والتلويح 2 / 196 ط صبيح، وفتح
الغفار 3 / 119 ط الحلبي.
(7/166)
كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ
إِكْرَاهًا بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ - كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ -
لاَ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ، وَلاَ
يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ لِبَقَاءِ الْعَقْل وَالْبُلُوغِ،
إِلاَّ أَنَّهُمْ عَدُّوهُ مِنَ الْعَوَارِضِ؛ لأَِنَّهُ يُفْسِدُ
الاِخْتِيَارَ، وَيُجْعَل الْمُكْرَهُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - فِي بَعْضِ
صُوَرِهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (إِكْرَاهٍ) .
إِهْمَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْهْمَال لُغَةً: التَّرْكُ، وَأَهْمَل أَمْرَهُ: لَمْ يُحَكِّمْهُ،
وَأَهْمَلْتُ الأَْمْرَ: تَرَكْتُهُ عَنْ عَمْدٍ أَوْ نِسْيَانٍ،
وَأَهْمَلَهُ إِهْمَالاً: خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، أَوْ
تَرَكَهُ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ.
وَمِنْهُ: الْكَلاَمُ الْمُهْمَل، وَهُوَ خِلاَفُ الْمُسْتَعْمَل. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الإِْهْمَال فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَمَّا
وَرَدَ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ حَسْبَمَا ذُكِرَ.
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 190 ط دار المعرفة، والفتاوى الهندية 5 / 54 ط
المكتبة الإسلامية، وجواهر الإكليل 2 / 97 ط دار المعرفة، وحاشية قليوبي 2
/ 299 ط الحلبي، وكشاف القناع 3 / 416 ط النصر، والحموي على ابن نجيم 1 /
191 ط العامرة، والمنثور 3 / 345 ط الفليج، والأشباه لابن النجيم ص 160 ط
الهلال.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير والصحاح وتاج العروس والقاموس المحيط
مادة: " همل ".
(7/167)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ
الْبَحْثِ:
2 - الإِْهْمَال فِي الأَْمَانَاتِ إِذَا أَدَّى إِلَى هَلاَكِهَا أَوْ
ضَيَاعِهَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَمَانَةً بِقَصْدِ
الاِسْتِحْفَاظِ كَالْوَدِيعَةِ، أَمْ كَانَ أَمَانَةً ضِمْنَ عَقْدٍ
كَالْمَأْجُورِ، أَمْ كَانَ بِطَرِيقِ الأَْمَانَةِ بِدُونِ عَقْدٍ وَلاَ
قَصْدٍ، كَمَا لَوْ أَلْقَتِ الرِّيحُ فِي دَارِ أَحَدٍ ثَوْبَ جَارِهِ (1)
.
فَالْعَيْنُ الْمُودَعَةُ - مَثَلاً - الأَْصْل فِيهَا أَنْ تَكُونَ
أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ، فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ
مِنْهُ وَلاَ إِهْمَالٍ لَمْ يَضْمَنْ؛ لأَِنَّ الأَْمِينَ لاَ يَضْمَنُ
إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ الإِْهْمَال؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل
ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدِعِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِعَارَةٍ، الْوَدِيعَةِ) .
وَإِهْمَال الأَْجِيرِ الْخَاصِّ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، أَمَّا
الأَْجِيرُ الْمُشْتَرَكُ (3) فَإِنَّهُ ضَامِنٌ مُطْلَقًا عِنْدَ
جُمْهُورِ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية مادة: (762 - 768) .
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 / 503، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير
3 / 419، 436، 437، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 280. وحديث: " ليس على
المستعير غير المغل ضمان. . . " أخرجه الدارقطني من حديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما مرفوعا وقال: في إسناده عمرو وعبيدة وهما ضعيفان، وإنما
يروى عن شريح القاضي غير مرفوع (سنن الدارقطني 3 / 41 ط دار المحاسن،
والتلخيص الحبير 3 / 97 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .
(3) الأجير المشترك هو: الذي يعمل للمؤجر ولغيره، كالطبيب والبناء. وهذا ما
يؤخذ من تعريفات الفقهاء جميعا (رد المحتار 6 / 64، وحاشية الدسوقي 4 / 4،
والمهذب 1 / 408، وكشاف القناع 4 / 33) .
(7/167)
الْفُقَهَاءِ (1) عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٍ، وَضَمَانٍ) .
وَمُسْتَأْجِرُ الطَّاحُونِ وَنَحْوِهَا، إِنْ أَهْمَلَهَا حَتَّى سُرِقَ
بَعْضُ أَدَوَاتِهَا عَلَيْهِ ضَمَانُهُ. (2) وَإِهْمَال الْحَاذِقِ مِنْ
طَبِيبٍ أَوْ خِتَانٍ أَوْ مُعَلِّمٍ يُوجِبُ ضَمَانَ مَا يَحْدُثُ
بِسَبَبِ إِهْمَالِهِ.
فَلَوْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ إِلَى سَبَّاحٍ لِيُعْلِمَهُ
السِّبَاحَةَ، فَتَسَلَّمَهُ فَغَرِقَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٍ) .
وَإِهْمَال الْقَاطِعِ الْحَاذِقِ فِي الْقِصَاصِ وَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ
بِتَجَاوُزِهِ مَا أُمِرَ بِهِ، أَوِ الْقَطْعِ فِي غَيْرِ مَحَل الْقَطْعِ
يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ نَتَجَ عَنْ إِهْمَالِهِ وَلاَ
يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا. (3)
وَالْحَسْمُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ مُسْتَحَبٌّ
لِلْمَقْطُوعِ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْمُعَالَجَةُ
وَدَفْعُ الْهَلاَكِ عَنْهُ بِنَزْفِ الدَّمِ، وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ، وَمُفَادُهُ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الإِْمَامِ.
وَقِيل: إِنَّ الْحَسْمَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَدِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، فَيَلْزَمُ الإِْمَامَ فِعْلُهُ، وَلَيْسَ لَهُ
إِهْمَالُهُ وَتَرْكُهُ، وَمُسْتَحَبٌّ لِلإِْمَامِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ. (4)
__________
(1) البدائع 4 / 211، والشرح الصغير 4 / 47، والمهذب 1 / 415، ونهاية
المحتاج 5 / 307 و 308، وكشاف القناع 4 / 25، والمغني 5 / 524 - 527 ط
الرياض، والموسوعة الفقهية مصطلح (إجارة) 1 / 288، 297.
(2) جامع الفصولين 2 / 122 (ر: إجارة. ضمان) في الموسوعة الفقهية.
(3) شرج المنهاج وحاشية قليوبي 4 / 174، ونهاية المحتاج 7 / 333، والمغني
مع الشرح الكبير 6 / 120.
(4) رد المحتار على الدر المختار 3 / 206، وشرح المنهاج 4 / 198، ونهاية
المحتاج 7 / 444، 445، وحاشية الدسوقي 4 / 332، والمغني لابن قدامة 8 /
260، 261.
(7/168)
إِعْمَال الْكَلاَمِ أَوْلَى مِنْ
إِهْمَالِهِ:
3 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ قَاعِدَةُ: إِعْمَال الْكَلاَمِ
أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْمُهْمَل لَغْوٌ، وَكَلاَمُ
الْعَاقِل يُصَانُ عَنْهُ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ مَا أَمْكَنَ عَلَى أَقْرَبِ
وَجْهٍ يَجْعَلُهُ مَعْمُولاً بِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ مُمْكِنَةٍ، وَإِلاَّ
فَمَجَازٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْكَلاَمِ الْحَقِيقَةُ،
وَالْمَجَازُ فَرْعٌ عَنْهُ وَخَلَفٌ لَهُ.
وَاتَّفَقَ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ إِذَا تَعَذَّرَتْ،
أَوْ هُجِرَتْ يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ، وَتَعَذُّرُ الْحَقِيقَةِ: إِمَّا
بِعَدَمِ إِمْكَانِهَا أَصْلاً؛ لِعَدَمِ وُجُودِ فَرْدٍ لَهَا مِنَ
الْخَارِجِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ
أَحْفَادٌ، فَيُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ - وَهُوَ الصَّرْفُ إِلَى
الأَْحْفَادِ - لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ.
أَوْ بِعَدَمِ إِمْكَانِهَا شَرْعًا: كَالْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ،
فَإِنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ - وَهِيَ التَّنَازُعُ - مَحْظُورٌ
شَرْعًا، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَنَازَعُوا} (1) ، وَلِذَا تُحْمَل عَلَى
الْمَجَازِ، وَهُوَ رَفْعُ الدَّعْوَى وَالإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ.
وَبِمَثَابَةِ التَّعَذُّرِ مَا لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُل مِنْ هَذَا
الْقِدْرِ، أَوْ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، أَوْ هَذَا الْبُرِّ، فَإِنَّ
الْحَقِيقَةَ، وَهِيَ الأَْكْل مِنْ عَيْنِهَا مُمْكِنَةٌ لَكِنْ
بِمَشَقَّةٍ، فَيُصَارُ فِي الأَْمْثِلَةِ الثَّلاَثَةِ إِلَى الْمَجَازِ،
وَهُوَ الأَْكْل مِمَّا فِي الْقِدْرِ، أَوْ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ إِنْ
كَانَ، وَإِلاَّ فَمِنْ ثَمَنِهَا، أَوْ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنَ الْبُرِّ
فِي الثَّالِثِ.
وَلَوْ أَكَل عَيْنَ الشَّجَرَةِ مَثَلاً لَمْ يَحْنَثْ.
وَمِثْل تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ هَجْرُهَا، إِذِ الْمَهْجُورُ شَرْعًا أَوْ
عُرْفًا كَالْمُتَعَذَّرِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لاَ يَضَعُ قَدَمَهُ فِي
هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ فِيهِ مُمْكِنَةٌ، لَكِنَّهَا
مَهْجُورَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ الدُّخُول، فَلَوْ
وَضَعَ قَدَمَهُ
__________
(1) سورة الأنفال / 46.
(7/168)
فِيهَا بِدُونِ دُخُولٍ لاَ يَحْنَثُ،
وَلَوْ دَخَلَهَا رَاكِبًا حَنِثَ.
وَإِنْ تَعَذَّرَتِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ أُهْمِل الْكَلاَمُ لِعَدَمِ
الإِْمْكَانِ.
فَإِذَا تَعَذَّرَ إِعْمَال الْكَلاَمِ، بِأَنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ
حَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى حَقِيقِيٍّ لَهُ مُمْكِنٍ؛ لِتَعَذُّرِ
الْحَقِيقَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ لِتَزَاحُمِ
الْمُتَنَافِيَيْنِ مِنَ الْحَقَائِقِ تَحْتَهَا، وَلاَ مُرَجِّحَ، وَلاَ
عَلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ مُسْتَعْمَلٍ، أَوْ كَانَ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ
مِنْ حِسٍّ، أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ مِنْ نَحْوِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ
يُهْمَل حِينَئِذٍ، أَيْ يُلْغَى وَلاَ يُعْمَل بِهِ.
أَمَّا تَزَاحُمُ الْمُتَنَافِيَيْنِ: فَكَمَا لَوْ كَفَل وَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّهَا كَفَالَةُ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ.
وَأَمَّا تَعَذُّرُ الْحَقِيقَةِ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ الْحَمْل عَلَى
الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، فَكَمَا لَوْ
قَال لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ: هَذَا ابْنِي، فَإِنَّهُ كَمَا لاَ يَصِحُّ
إِرَادَةُ الْحَقِيقَةِ مِنْهُ؛ لِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنَ الْغَيْرِ، لاَ
يَصِحُّ أَيْضًا إِرَادَةُ الْمَجَازِ، وَهُوَ الإِْيصَاءُ لَهُ
بِإِحْلاَلِهِ مَحَل الاِبْنِ فِي أَخْذِ مِثْل نَصِيبِهِ مِنَ
التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ الْمَجَازَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ،
وَالْحَقِيقَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَعْمَلَةً لاَ يُصَارُ إِلَيْهَا،
فَالْمَجَازُ أَوْلَى.
وَكَذَا لَوْ قَال لاِمْرَأَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ لأَِبِيهَا: هَذِهِ
بِنْتِي، لَمْ تَحْرُمْ بِذَلِكَ أَبَدًا.
وَأَمَّا تَكْذِيبُ الْحِسِّ: فَكَدَعْوَى قَتْل الْمُورَثِ وَهُوَ حَيٌّ،
أَوْ قَطْعُ الْعُضْوِ وَهُوَ قَائِمٌ، وَكَدَعْوَى الدُّخُول
بِالزَّوْجَةِ وَهُوَ مَجْبُوبٌ.
وَأَمَّا مَا فِي حُكْمِ الْحِسِّ: فَكَدَعْوَى الْبُلُوغِ مِمَّنْ لاَ
يَحْتَمِلُهُ سِنُّهُ أَوْ جِسْمُهُ، وَكَدَعْوَى صَرْفِ الْمُتَوَلِّي
أَوِ الْوَصِيِّ عَلَى الْوَقْفِ أَوِ الصَّغِيرِ مَبْلَغًا لاَ
يَحْتَمِلُهُ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ كُل ذَلِكَ يُلْغَى، وَلاَ يُعْتَبَرُ
وَلاَ يُعْمَل
(7/169)
بِهِ، وَإِنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ. (1)
وَيُرْجَعُ فِيمَا ذُكِرَ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (تَرْجِيحٍ، وَوَكَالَةٍ،
وَكَفَالَةٍ، وَوِصَايَةٍ، وَوَصِيَّةٍ، وَوَقْفٍ) . |