الموسوعة
الفقهية الكويتية أَوْزَانٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرَ.
أَوْسُقٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرَ.
أَوْصَافٌ
انْظُرْ: صِفَةً.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، القاعدة التاسعة ص 135، 136 وما بعدها ط
دار مكتبة الهلال / بيروت، والأشباه والنظائر للسيوطي القاعدة العاشرة ص
128، 129 وما بعدها ط مصطفى الحلبي بمصر، وجامع الفصولين 2 / 187 الطبعة
الأولى بالمطبعة الأميرية، ورد المحتار على الدر المختار 4 / 253، والتوضيح
على التنقيح 1 / 339.
(7/169)
أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوَقْتُ: مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مُقَدَّرٌ لأَِمْرٍ مَا، وَكُل
شَيْءٍ قَدَّرْتُ لَهُ حِينًا فَقَدْ وَقَّتُّهُ تَوْقِيتًا. وَأَوْقَاتُ
الصَّلاَةِ هِيَ: الأَْزْمِنَةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّارِعُ لِفِعْل
الصَّلاَةِ أَدَاءً، فَالْوَقْتُ سَبَبُ وُجُوبِ الصَّلاَةِ، فَلاَ تَصِحُّ
قَبْل دُخُولِهِ، وَتَكُونُ (قَضَاءً) بَعْدَ خُرُوجِهِ (1) .
أَقْسَامُ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ:
2 - تَنْقَسِمُ الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: صَلَوَاتٌ مَفْرُوضَةٌ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ
الْخَمْسُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: صَلَوَاتٌ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ الْوِتْرُ
وَالْعِيدَانِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: صَلَوَاتٌ مَسْنُونَةٌ، كَالسُّنَنِ الْقَبْلِيَّةِ
وَالْبَعْدِيَّةِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَالْجُمْهُورُ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ،
وَالْوِتْرُ عِنْدَهُمْ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْعِيدَانِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ
أَصْل مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الأَْوْقَاتِ:
3 - أَصْل مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الأَْوْقَاتِ عُرِفَ بِالْكِتَابِ،
__________
(1) المصباح مادة " وقت " والطحطاوي ص 93.
(7/170)
قَال تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ
تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمَدُ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَْرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (1)
قَال بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلاَةُ،
أَيْ: صَلُّوا حِينَ تُمْسُونَ، أَيْ حِينَ تَدْخُلُونَ فِي وَقْتِ
الْمَسَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ. وَ {حِينَ
تُصْبِحُونَ} الْمُرَادُ بِهِ صَلاَةُ الصُّبْحِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَعَشِيًّا} صَلاَةُ الْعَصْرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صَلاَةُ الظُّهْرِ. (2)
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا} (3)
وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ أَوْقَاتَ الصَّلاَةِ كَحَدِيثِ
إِمَامَةِ جِبْرِيل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَنَصُّهُ: أَمَّنِي جِبْرِيل عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى
الظُّهْرَ فِي الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل
الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ،
ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ،
ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ
حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى
الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ
لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل
كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل،
ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ
صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ سَفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ
__________
(1) سورة الروم / 17، 18.
(2) أحكام القرآن للقرطبي 14 / 14.
(3) سورة الإسراء / 78.
(7/170)
الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيل وَقَال: يَا
مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا
بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1)
عَدَدُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عَدَدَ أَوْقَاتِ
الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ خَمْسٌ بِقَدْرِ عَدَدِ الصَّلَوَاتِ، وَمَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْوِتْرَ فَرْضٌ فَيَكُونُ عَدَدُ
الأَْوْقَاتِ سِتًّا لَيْسَ صَحِيحًا، بَل إِنَّهُ يَقُول: إِنَّ الْوِتْرَ
وَاجِبٌ، وَهُوَ أَقَل رُتْبَةً مِنَ الْفَرْضِ. (2)
مَبْدَأُ كُل وَقْتٍ وَنِهَايَتُهُ
مَبْدَأُ وَقْتِ الصُّبْحِ وَنِهَايَتُهُ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَبْدَأَ وَقْتِ الصُّبْحِ
طُلُوعُ الْفَجْرِ الصَّادِقِ (3) وَيُسَمَّى الْفَجْرُ الثَّانِي،
وَسُمِّيَ صَادِقًا؛ لأَِنَّهُ بَيَّنَ وَجْهَ الصُّبْحِ وَوَضَّحَهُ،
وَعَلاَمَتُهُ بَيَاضٌ يَنْتَشِرُ فِي الأُْفُقِ عُرْضًا. أَمَّا الْفَجْرُ
الْكَاذِبُ، وَيُسَمَّى الْفَجْرُ الأَْوَّل، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ
حُكْمٌ، وَلاَ يَدْخُل بِهِ وَقْتُ الصُّبْحِ، وَعَلاَمَتُهُ بَيَاضٌ
يَظْهَرُ طُولاً يَطْلُعُ وَسَطَ السَّمَاءِ ثُمَّ يَنْمَحِي بَعْدَ
ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر. . . " أخرجه الترمذي
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال ابن عبد
البر في التمهيد: وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه
له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم. (سنن الترمذي 1 / 178 - 280 ط الحلبي،
ونصب الراية 1 / 221، وجامع الأصول 5 / 209، 210) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 123 الطبعة الأولى سنة 1327 هـ، وبداية المجتهد 1 /
47 المطبعة المولوية بفاس سنة 1327 هـ.
(3) البدائع 1 / 142، وبداية المجتهد 1 / 51، والإقناع في شرح ألفاظ أبي
شجاع 1 / 273 مطبعة بولاق. والمغني 1 / 395 مطبعة المنار بمصر.
(7/171)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَجْرَيْنِ
مُقَدَّرٌ بِثَلاَثِ دَرَجَاتٍ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ إِمَامَةِ جِبْرِيل لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَيْثُ قَال: ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ
بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى
الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ
الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ
قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذِهِ الْوَقْتَيْنِ (1)
6 - أَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الصُّبْحِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ: قُبَيْل طُلُوعِ الشَّمْسِ (2) ، وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي
أَحَدِ الأَْقْوَال عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الاِخْتِيَارِيَّ
لِلصُّبْحِ إِلَى الإِْسْفَارِ، وَبَعْدَ الإِْسْفَارِ إِلَى طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقْتُ ضَرُورَةٍ لأَِصْحَابِ الأَْعْذَارِ، كَالْحَائِضِ
تَطْهُرُ بَعْدَ الإِْسْفَارِ، وَمِثْل ذَلِكَ النُّفَسَاءُ، وَالنَّائِمُ
يَسْتَيْقِظُ، وَالْمَرِيضُ يَبْرَأُ مِنْ مَرَضِهِ، جَازَ لِهَؤُلاَءِ
الصَّلاَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ، وَفِي قَوْلٍ
آخَرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الصُّبْحَ كُل وَقْتِهِ اخْتِيَارِيٌّ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصُّبْحَ لَهُ أَرْبَعَةُ
أَوْقَاتٍ: وَقْتُ فَضِيلَةٍ وَهُوَ أَوَّلُهُ، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ إِلَى
الإِْسْفَارِ، وَجَوَازٍ بِلاَ كَرَاهَةٍ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَكَرَاهَةٌ
بَعْدَ الْحُمْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِوَقْتِ الْفَضِيلَةِ مَا فِيهِ ثَوَابٌ
أَكْثَرُ مِنْ وَقْتِ الاِخْتِيَارِ، وَالْمُرَادُ بِوَقْتِ الْجَوَازِ
بِلاَ كَرَاهَةٍ مَا لاَ ثَوَابَ فِيهِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا
الاِخْتِيَارِيِّ الإِْسْفَارُ. وَبَعْدَ الإِْسْفَارِ وَقْتُ عُذْرٍ
وَضَرُورَةٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَمَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةِ
__________
(1) حديث: " أمني جبريل. . . " سبق تخريجه (ف / 3) .
(2) ابن عابدين 1 / 240.
(3) بلغة السالك 1 / 83.
(7/171)
الصُّبْحِ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إِلاَّ
بَعْدَ الإِْسْفَارِ، جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ بِلاَ
كَرَاهَةٍ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَيْقَظَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ،
وَأَخَّرَ صَلاَةَ الصُّبْحِ إِلَى مَا بَعْدَ الإِْسْفَارِ بِدُونِ
عُذْرٍ، كَانَتْ صَلاَتُهُ مَكْرُوهَةً. (1)
7 - مِمَّا تَقَدَّمَ يُعْرَفُ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ
آخِرَ وَقْتِ الصُّبْحِ طُلُوعُ الشَّمْسِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ لِلصَّلاَةِ أَوَّلاً وَآخِرًا،
وَإِنَّ أَوَّل وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَآخِرَهُ
حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ (2)
مَبْدَأُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَنِهَايَتُهُ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَبْدَأَهُ مِنْ زَوَال
الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ تُجَاهَ الْغَرْبِ، وَلاَ يَصِحُّ
أَدَاؤُهَا قَبْل الزَّوَال. (3)
وَيُعْرَفُ الزَّوَال بِأَنْ تَغْرِزَ خَشَبَةً مُسْتَوِيَةً فِي أَرْضٍ
مُسْتَوِيَةٍ، وَالشَّمْسُ لاَ زَالَتْ فِي الْمَشْرِقِ، فَمَا دَامَ ظِل
الْخَشَبَةِ يُنْتَقَصُ فَالشَّمْسُ قَبْل الزَّوَال، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
لِلْخَشَبَةِ ظِلٌّ، أَوْ تَمَّ نَقَصَ الظِّل، بِأَنْ كَانَ الظِّل أَقَل
مَا يَكُونُ، فَالشَّمْسُ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي
تُحْظَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ، فَإِذَا انْتَقَل الظِّل مِنَ الْمَغْرِبِ
إِلَى الْمَشْرِقِ، وَبَدَأَ فِي الزِّيَادَةِ، فَقَدْ زَالَتِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 353 وما بعدها.
(2) حديث: " إن للصلاة أولا وآخرا. . . " أخرجه الترمذي مطولا وقال عبد
القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: هو حديث حسن (سنن الترمذي 1 / 238، 284
ط الحلبي، وجامع الأصول 5 / 214، 215.) ".
(3) بداية المجتهد 1 / 48.
(7/172)
الشَّمْسُ مِنْ وَسَطِ السَّمَاءِ وَدَخَل
وَقْتُ الظُّهْرِ.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ الظُّهْرِ الزَّوَال، حَدِيثُ
إِمَامَةِ جِبْرِيل الْمُتَقَدِّمُ.
وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمَعَهُمْ
الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ بُلُوغُ ظِل الشَّيْءِ
مِثْلَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَال، لِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل
الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى بِهِ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: حِينَ يَبْلُغُ ظِل الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ
سِوَى فَيْءِ الزَّوَال: وَالْمُرَادُ بِفَيْءِ الزَّوَال: الظِّل
الْحَاصِل لِلأَْشْيَاءِ حِينَ تَزُول الشَّمْسُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ،
وَسُمِّيَ فَيْئًا؛ لأَِنَّ الظِّل رَجَعَ إِلَى الْمَشْرِقِ بَعْدَ أَنْ
كَانَ فِي الْمَغْرِبِ، وَيَخْتَلِفُ ظِل الزَّوَال طُولاً وَقِصَرًا
وَانْعِدَامًا بِاخْتِلاَفِ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ. وَكُلَّمَا
بَعُدَ الْمَكَانُ مِنْ خَطِّ الاِسْتِوَاءِ كُلَّمَا كَانَ فَيْءُ
الزَّوَال أَطْوَل، وَهُوَ فِي الشِّتَاءِ أَطْوَل مِنْهُ فِي الصَّيْفِ.
(2)
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ بُلُوغُ
ظِل الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَال، بِمَا رُوِيَ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ
فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُْمَمِ كَانَ بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ
إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أُوتِيَ أَهْل التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ
فَعَمِلُوا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا
قِيرَاطًا. ثُمَّ أُوتِيَ أَهْل الإِْنْجِيل الإِْنْجِيل فَعَمِلُوا إِلَى
صَلاَةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ
أُوتِينَا الْقُرْآنَ،
__________
(1) راجع المراجع المذكورة لجميع الفقهاء في أوقات الصلاة. والمغني (1 /
374، 375) ط الرياض.
(2) ابن عابدين 1 / 240، وبلغة السالك 1 / 83، ونهاية المحتاج 1 / 353،
والمغني 1 / 395.
(7/172)
فَعَمِلَنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ،
فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَال: أَهْل الْكِتَابَيْنِ:
أَيْ رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ،
وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلاً؟
قَال: قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: هَل ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ
شَيْءٍ، قَالُوا: لاَ. قَال: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ (1)
دَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْعَصْرِ أَقَل مِنْ مُدَّةِ
الظُّهْرِ وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ
الْمِثْلَيْنِ.
وَاسْتَدَل لأَِبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْرِدُوا
بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ
وَالإِْبْرَادُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ إِذَا كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ،
لاَ سِيَّمَا فِي الْبِلاَدِ الْحَارَّةِ كَالْحِجَازِ (2) .
وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الظُّهْرَ لَهُ وَقْتُ
فَضِيلَةٍ وَهُوَ أَوَّلُهُ، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ إِلَى آخِرِهِ، وَوَقْتُ
عُذْرٍ لِمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ،
فَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ عِنْدَ الْجَمْعِ. (3)
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الاِخْتِيَارِيَّ لِلظُّهْرِ إِلَى
بُلُوغِ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَوَقْتُهُ الضَّرُورِيُّ حِينَ
الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ، فَيُصَلِّي
__________
(1) حديث: " إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر. . .
" أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (فتح الباري 2 / 38 ط
السلفية، وعمدة القاري 5 / 50 ط المنيرية) .
(2) حديث أبي سعيد: " أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم. . . . "
أخرجه البخاري مرفوعا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه (فتح الباري 2 / 18 ط
السلفية) وانظر البدائع 1 / 122، 123، وبداية المجتهد 1 / 48.
(3) حاشية شرح المنهاج 1 / 270.
(7/173)
الظُّهْرَ بَعْدَ بُلُوغِ الظِّل مِثْلَهُ،
إِلَى مَا قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ بِوَقْتٍ لاَ يَسَعُ إِلاَّ صَلاَةَ
الْعَصْرِ. (1)
مَبْدَأُ وَقْتِ الْعَصْرِ وَنِهَايَتُهُ:
9 - أَمَّا مَبْدَأُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَهُوَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ
وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ حِينِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْل،
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ حِينِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْلَيْنِ (2)
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى تَدَاخُل وَقْتَيِ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ، فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا صَلَّى الظُّهْرَ عِنْدَ صَيْرُورَةِ
ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَآخَرُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ
كَانَتْ صَلاَتُهُمَا أَدَاءً، وَخَالَفَ فِي هَذَا ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ
الْعَرَبِيِّ (3) .
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ،
وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مَثَلَكُمْ
وَمَثَل مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُْمَمِ. . .، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ:
إِذَا كَانَ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُدَّةَ الْعَصْرِ أَقَل مِنْ
مُدَّةِ الظُّهْرِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ بَعْدَ
الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْلَيْنِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل الْمُتَقَدِّمِ،
وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، أَيْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ
عَلَى الْمِثْل، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ فِي
الْحَدِيثِ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ صَلَّى بِهِ
الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل،
وَهُوَ يَتَعَارَضُ مَعَ صَلاَتِهِ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي
حِينَ صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، الأَْمْرُ الَّذِي يَدُل عَلَى
تَدَاخُل
__________
(1) بلغة السالك 1 / 82، 83 ط بيروت.
(2) المراجع المذكور في أوقات الصلاة.
(3) بلغة السالك 1 / 82.
(7/173)
وَقْتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَدَفْعًا
لِهَذَا التَّعَارُضِ قَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ صَارَ
ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، أَيْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْل. (1)
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِظَاهِرِ حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل،
وَفِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى بِهِ الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل فِي
الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى بِهِ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي،
الأَْمْرُ الَّذِي يَدُل عَلَى تَدَاخُل الْوَقْتَيْنِ.
10 - أَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الْعَصْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَا لَمْ
تَغِبِ الشَّمْسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل
أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ (2) وَيُضِيفُ
الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ وَقْتَ الاِخْتِيَارِ يَنْتَهِي بِمَبْدَأِ
اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: حِينَ يَصِيرُ ظِل كُل شَيْءٍ
مِثْلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ إِلَى أَنَّ
آخِرَ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ؛ لِحَدِيثِ: إِذَا
صَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ
(3) ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَصْرَ لَهُ سَبْعَةُ
أَوْقَاتٍ، فَضِيلَةٌ: أَوَّلُهُ، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ: إِلَى
الْمِثْلَيْنِ، وَوَقْتُ عُذْرٍ - لِمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ - فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ ضَرُورَةٍ كَالْحَائِضِ
وَالنُّفَسَاءِ تَطْهُرَانِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَالْمَرِيضُ يَبْرَأُ
فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَيْضًا، وَوَقْتُ جَوَازٍ بِلاَ كَرَاهَةٍ وَهُوَ
بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ، وَوَقْتُ كَرَاهَةٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 22.
(2) حديث: " من أدرك. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 56 ط السلفية) .
(3) حديث: " إذا صليتم العصر. . . " أخرجه مسلم مرفوعا من حديث عبد الله بن
عمرو (صحيح مسلم 1 / 426 ط عيسى الحلبي) وبداية المجتهد 1 / 49.
(7/174)
حُرْمَةٍ، وَهُوَ مَا قَبْل آخِرِ
الْوَقْتِ بِوَقْتٍ لاَ يَسَعُ جَمِيعَهَا. (1)
مَبْدَأُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَنِهَايَتُهُ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَبْدَأَ وَقْتِ
الْمَغْرِبِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، لِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل
الْمُتَقَدِّمِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ غَرَبَتِ
الشَّمْسُ فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعِهِمَا.
أَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ،
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقْتُ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ
مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ (2) .
وَالْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ امْتِدَادَ
لَهُ، بَل يُقَدَّرُ بِقَدْرِ ثَلاَثِ رَكَعَاتٍ بَعْدَ تَحْصِيل
شُرُوطِهَا مِنْ مَكَارِهِ حَدَثٍ وَخَبَثٍ وَسِتْرِ عَوْرَةٍ. (3)
وَلِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل الْمُتَقَدِّمِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ صَلَّى
الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: يَنْقَضِي وَقْتُهَا بِمُضِيِّ
قَدْرِ وُضُوءٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ وَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَخَمْسِ
رَكَعَاتٍ، وَهِيَ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ الْمَغْرِبُ وَرَكْعَتَانِ سُنَّةٌ
بَعْدَهَا. (4)
مَبْدَأُ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَنِهَايَتُهُ:
12 - يَبْدَأُ وَقْتُ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ بِلاَ خِلاَفٍ
بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 353.
(2) حديث: " وقت صلاة المغرب. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 427 ط عيسى
الحلبي) .
(3) بداية المجتهد 1 / 51 - 52.
(4) البدائع 1 / 123، وجواهر الإكليل 1 / 33، ونهاية المحتاج 1 / 353، 354،
وحاشية القليوبي على المنهاج 1 / 114 ط عيسى الحلبي، والمغني 1 / 374، 375.
(7/174)
فِي مَعْنَى الشَّفَقِ، فَذَهَبَ أَبُو
حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي
جَوِّ السَّمَاءِ بَعْدَ ذَهَابِ الْحُمْرَةِ الَّتِي تَعْقُبُ غُرُوبَ
الشَّمْسِ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ
الْحُمْرَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ
الشَّفَقَيْنِ يُقَدَّرُ بِثَلاَثِ دَرَجَاتٍ، وَهِيَ تَعْدِل اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ دَقِيقَةً. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْعِشَاءِ
سَبْعَةَ أَوْقَاتٍ: وَقْتُ فَضِيلَةٍ وَهُوَ أَوَّلُهُ، وَاخْتِيَارٌ
إِلَى آخِرِ ثُلُثِ اللَّيْل الأَْوَّل، وَقِيل إِلَى نِصْفِ اللَّيْل
لِحَدِيثِ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََخَّرْتُ صَلاَةَ
الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْل (1) وَجَوَازٌ بِلاَ كَرَاهَةٍ
لِلْفَجْرِ الأَْوَّل، وَبِكَرَاهَةٍ إِلَى الْفَجْرِ الثَّانِي، وَوَقْتُ
حُرْمَةٍ وَضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ.
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْبَيَاضُ، بِمَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ: إِنَّ آخِرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ
حِينَ يَسْوَدُّ الأُْفُقُ (2) وَإِنَّمَا يَسْوَدُّ إِذَا خَفِيَتِ
الشَّمْسُ فِي الظَّلاَمِ، وَهُوَ وَقْتُ مَغِيبِ الشَّفَقِ الأَْبْيَضِ.
(3)
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْحُمْرَةُ بِمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ
يُصَلِّي الْعِشَاءَ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " لولا أن أشق. . . " أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه مرفوعا بلفظ: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث
الليل أو نصفه ". وقال: حديث أبي هريرة حديث صحيح (تحفة الأحوذي 1 / 508
نشر المكتبة السلفية) .
(2) حديث: " إن آخر وقت المغرب حين يسود الأفق. . . " أورده الزيلعي في نصب
الراية بلفظ: " آخر وقت المغرب إذا اسود الأفق " واستغربه، وقال ابن حجر في
الدراية: لم أجده لكن في حديث أبي مسعود عند أبي داود: ويصلي المغرب حين
تسقط الشمس ويصلي العشاء حين يسود الأفق (نصب الراية 1 / 234، والدراية 1 /
103، وعون المعبود 1 / 152 ط الهند) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 124.
(7/175)
مَغِيبِ الْقَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ
الثَّالِثَةِ (1) وَهُوَ وَقْتُ مَغِيبِ الشَّفَقِ الأَْحْمَرِ. (2)
13 - أَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الْعِشَاءِ، فَحِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ
الصَّادِقُ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوَّل وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ
يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَآخِرُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ (3) وَالْمَشْهُورُ
فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا ثُلُثُ اللَّيْل،
لِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل الْمُتَقَدِّمِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ
صَلاَّهُمَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي ثُلُثِ اللَّيْل.
__________
(1) حديث: " أنه كان يصلي العشاء عند مغيب القمر في الليلة الثالثة " أخرجه
الترمذي وأبو داود والنسائي من حديث النعمان بن بشير بلفظ " أنا أعلم الناس
بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء الآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصليها لسقوط القمر لثالثة " قال ابن العربي: هو حديث صحيح. (تحفة الأحوذي
1 / 507 نشر المكتبة السلفية، وسنن النسائي 1 / 264 وسنن أبي داود 1 / 291،
292 ط استانبول، ونيل الأوطار 2 / 9، 10 ط المطبعة العثمانية) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 124.
(3) حديث: " أول وقت العشاء حين يغيب الشفق، وآخره حين يطلع الفجر " الشطر
الأول من الحديث أخرجه الترمذي بلفظ " إن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب
الأفق " ضمن حديث طويل، وقال عبد القادر الأرناؤوط: هو حديث حسن. وأما
الشطر الثاني من الحديث أورده ابن حجر في الدراية بلفظ: " آخر وقت العشاء
حين يطلع الفجر " وقال: لم أجده، لكن قال الطحاوي: يظهر من مجموع الأحاديث
أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر، وذلك أن في حديث ابن عباس وأبي موسى
وأبي سعيد الخدري رووا أنه أخرها إلى ثلث الليل، وفي حديث أبي هريرة وأنس:
أنه أخرها حتى انتصف، وفي حديث عائشة: أنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل،
فثبت أن الليل كله وقت لها، ويؤيده كتاب عمر إلى أبي موسى: وصل العشاء أي
الليل شئت. وحديث أبي قتادة: " ليس في النوم تفريط " (سنن الترمذي 1 / 283،
284 ط الحلبي. وجامع الأصول 5 / 241، 215، والدراية 1 / 103 ط الفجالة) .
(7/175)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آخِرَ
وَقْتِهَا الاِخْتِيَارِيِّ ثُلُثُ اللَّيْل، وَبَعْدَهُ إِلَى طُلُوعِ
الْفَجْرِ وَقْتُ ضَرُورَةٍ، بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا شُفِيَ مِنْ
مَرَضِهِ، أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ طَهُرَتَا. (1)
انْقِسَامُ الْوَقْتِ إِلَى مُوَسَّعٍ وَمُضَيَّقٍ وَبَيَانُ وَقْتِ
الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الأَْدَاءِ
14 - الْوَقْتُ الْمُوَسَّعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِكُلٍّ مِنَ
الْفَرَائِضِ هُوَ: مِنْ أَوَّل الْوَقْتِ إِلَى أَلاَّ يَبْقَى مِنَ
الْوَقْتِ أَكْثَرُ مِمَّا يَسَعُ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ لِلصَّلاَةِ،
فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ إِلاَّ مَا يَسَعُ تَكْبِيرَةَ
الإِْحْرَامِ لِلصَّلاَةِ فَهُوَ وَقْتٌ مُضَيَّقٌ، يَحْرُمُ التَّأْخِيرُ
عَنْهُ. وَعِنْدَ زُفَرَ: يَتَضَيَّقُ الْوَقْتُ إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ
مَا يَتَّسِعُ لِرَكَعَاتِ الصَّلاَةِ.
أَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَهُوَ مِنْ أَوَّل الْوَقْتِ إِلَى مَا قَبْل
خُرُوجِهِ بِزَمَنٍ يَسَعُ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ أَوْ ثَلاَثَ
رَكَعَاتِ الْمَغْرِبِ مَثَلاً.
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ فَهُوَ الْوَقْتُ الْبَاقِي الَّذِي
يَسَعُ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ أَوْ ثَلاَثَ رَكَعَاتِ الْمَغْرِبِ.
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (2) ، وَمِنْهُ
يَتَبَيَّنُ أَنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ،
وَقَبْل آخِرِ الْوَقْتِ يَكُونُ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَدَاءِ
الصَّلاَةِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَبَيْنَ عَدَمِ
أَدَائِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 9، وجواهر الإكليل 1 / 33، وقليوبي 1 / 114، والمغني
1 / 381، والمراجع السابقة.
(2) بدائع الصنائع 1 / 94 - 95.
(7/176)
يَتَعَلَّقُ بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ
الْوَقْتِ وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ. (1)
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلاَفِ فِي مُقِيمٍ سَافَرَ فِي آخِرِ وَقْتِ
الظُّهْرِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حِينَ يَقْضِي الظُّهْرَ يَقْضِيهِ
رَكْعَتَيْنِ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ،
وَهُوَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ مُسَافِرًا، فَيَقْضِي صَلاَةَ
الْمُسَافِرِينَ. وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يَقْضِي الظُّهْرَ
أَرْبَعًا؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْءِ الأَْوَّل
مِنَ الْوَقْتِ وَمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ فِي الْجُزْءِ الأَْوَّل مِنَ
الْوَقْتِ كَانَ مُقِيمًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلاَةِ
الْمُقِيمِينَ.
وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ
نَفِسَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ جُنَّ الْعَاقِل أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ
فِي آخِرِ الْوَقْتِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ هَذَا الْفَرْضِ إِذَا
زَال الْمَانِعُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ
الْوَقْتِ، وَهَؤُلاَءِ جَمِيعًا لَيْسُوا أَهْلاً لِلْخِطَابِ فِي آخِرِ
الْوَقْتِ، وَحَيْثُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الأَْدَاءُ لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ.
الأَْوْقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ:
وَقْتُ الصُّبْحِ الْمُسْتَحَبِّ (2) :
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الإِْسْفَارُ
بِالْفَجْرِ أَيْ تَأْخِيرُهُ إِلَى أَنْ يَنْتَشِرَ الضَّوْءُ
وَيَتَمَكَّنَ كُل مَنْ يُرِيدُ الصَّلاَةَ بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ
مِنْ أَنْ يَسِيرَ فِي الطَّرِيقِ بِدُونِ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ، كَأَنْ
تَزِل قَدَمُهُ، أَوْ يَقَعَ فِي حُفْرَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الأَْضْرَارِ الَّتِي تَنْشَأُ
__________
(1) القليوبي 1 / 115، 117، والمغني 1 / 397.
(2) المستحب: هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو رغب فيه ولم يوجبه،
ولم يواظب عليه.
(7/176)
مِنَ السَّيْرِ فِي الظَّلاَمِ،
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَْجْرِ (1) .
وَلأَِنَّ فِي الإِْسْفَارِ تَكْثِيرًا لِلْجَمَاعَةِ، وَفِي التَّغْلِيسِ
أَيِ السَّيْرِ فِي الظُّلْمَةِ تَقْلِيلُهَا، فَكَانَ أَفْضَل، هَذَا فِي
حَقِّ الرِّجَال، أَمَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يُصَلِّينَ فِي
بُيُوتِهِنَّ أَوَّل الْوَقْتِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الشَّابَّاتُ
وَالْعَجَائِزُ، لاَ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
وَكَذَلِكَ الْحَاجُّ فِي مُزْدَلِفَةَ فَجْرَ يَوْمِ النَّحْرِ، يُصَلِّي
الْفَجْرَ بِغَلَسٍ فِي أَوَّل الْوَقْتِ؛ لِيَتَفَرَّغَ لِوَاجِبِ
الْوُقُوفِ الَّذِي يَبْدَأُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي يَوْمَ
النَّحْرِ وَآخِرُهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْوُقُوفَ وَاجِبٌ
مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. (2)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) إِلَى أَنَّ التَّغْلِيسَ - أَيِ
السَّيْرَ فِي الظَّلاَمِ - أَفْضَل؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الْفَجْرِ
مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ
حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ (4)
__________
(1) حديث: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر. . . " أخرجه أبو داود والترمذي
واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح قال الحافظ ابن حجر في الفتح: رواه
أصحاب السنن وصححه غير واحد (سنن أبي داود 1 / 294 ط استانبول، وتحفة
الأحوذي 1 / 477 - 479 نشر المكتبة السلفية، وفتح الباري 2 / 55 ط السلفية)
.
(2) حاشية الطحطاوي على المراقي ص 98، وابن عابدين 2 / 178 ط الأولى،
وبدائع الصنائع 1 / 125.
(3) بلغة السالك 1 / 73، والإقناع 1 / 378 - 379، والمغني 1 / 405.
(4) حديث عائشة رضي الله عنهما: " كن نساء المؤمنات " أخرجه البخاري (فتح
الباري 2 / 54 ط السلفية) .
(7/177)
16 - أَمَّا وَقْتُ الظُّهْرِ
الْمُسْتَحَبُّ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى الإِْبْرَادِ بِظُهْرِ الصَّيْفِ، وَالتَّعْجِيل
بِظُهْرِ الشِّتَاءِ، إِلاَّ فِي يَوْمِ غَيْمٍ فَيُؤَخِّرُ. (1)
وَمَعْنَى الإِْبْرَادِ بِالظُّهْرِ تَأْخِيرُهُ إِلَى أَنْ تَخِفَّ
حِدَّةُ الْحَرِّ، وَيَتَمَكَّنُ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنَ
السَّيْرِ فِي ظِلاَل الْجُدَرَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْخِيرُ أَفْضَل
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ
فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ (2)
وَلأَِنَّ فِي التَّأْخِيرِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ، وَفِي التَّعْجِيل
تَقْلِيلَهَا فَكَانَ أَفْضَل. أَمَّا ظُهْرُ الشِّتَاءِ فَيُسْتَحَبُّ
تَعْجِيلُهُ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ فِي أَوَّل وَقْتِهَا رِضْوَانُ اللَّهِ،
وَلاَ مَانِعَ مِنَ التَّعْجِيل؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ التَّعْجِيل فِي
ظُهْرِ الصَّيْفِ لُحُوقُ الضَّرَرِ بِالْمُصَلِّينَ، الأَْمْرُ الَّذِي
يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا الْمَانِعُ غَيْرُ
مَوْجُودٍ فِي ظُهْرِ الشِّتَاءِ، فَكَانَ التَّعْجِيل أَفْضَل. أَمَّا فِي
يَوْمِ الْغَيْمِ فَيُؤَخِّرُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْل
دُخُول وَقْتِهِ. (3)
وَذَهَبَتِ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيل أَفْضَل صَيْفًا
وَشِتَاءً إِلاَّ لِمَنْ يَنْتَظِرُ جَمَاعَةً، فَيُنْدَبُ التَّأْخِيرُ
بِرُبُعِ الْقَامَةِ، أَمَّا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَيُنْدَبُ التَّأْخِيرُ
حَتَّى يَبْلُغَ الظِّل نِصْفَ قَامَةٍ. (4)
وَالْمُرَادُ بِرُبُعِ الْقَامَةِ أَوْ نِصْفِهَا - اللَّذَيْنِ يُنْدَبُ
__________
(1) المراجع المذكورة للحنفية والحنابلة في أوقات الصلاة.
(2) حديث: " أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم. . . " سبق تخريجه (ف
/ 8) .
(3) واللجنة ترى أن هذا إذا لم يكن هناك ضوابط للوقت كالساعات وغيرها.
(4) بلغة السالك 1 / 73.
(7/177)
التَّأْخِيرُ إِلَيْهَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ - رُبُعُ الْمِثْل أَوْ نِصْفُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ
يُعَجِّل، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ يُؤَخِّرُ حَتَّى يَكُونَ
لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يَمْشِي فِيهِ طَالِبُ الْجَمَاعَةِ، بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ فِي بَلَدٍ حَارٍّ كَالْحِجَازِ (1) .
17 - أَمَّا وَقْتُ الْعَصْرِ الْمُسْتَحَبُّ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2)
يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا مَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الشَّمْسُ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ
مَا دَامَتِ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً (3) وَلِيَتَمَكَّنَ مِنَ
التَّنَفُّل قَبْلَهَا؛ لأَِنَّ التَّنَفُّل بَعْدَهَا مَكْرُوهٌ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِهَا،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَقْتُ الأَْوَّل مِنَ
الصَّلاَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالْوَقْتُ الآْخِرُ عَفْوُ اللَّهِ (4)
18 - أَمَّا وَقْتُ الْمَغْرِبِ الْمُسْتَحَبُّ: فَلاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ - أَوْ قَال
عَلَى الْفِطْرَةِ - مَا لَمْ
__________
(1) الإقناع 1 / 398 - 399.
(2) ابن عابدين 1 / 246، 247.
(3) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يؤخر العصر ما دامت الشمس
بيضاء نقية. . . ". أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري. (عون المعبود 1 /
158 ط الهند، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 1 / 240 نشر دار المعرفة) .
(4) حديث: " الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله "
أخرجه الترمذي والبيهقي من طريق يعقوب بن الوليد المدني، وقال البيهقي: هذا
الحديث يعرف بيعقوب بن الوليد المدني، ويعقوب منكر الحديث، وضعفه يحيى بن
معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ نسبوه إلى الوضع، وقد روي بأسانيد
أخر كلها ضعيفة. (سنن الترمذي 1 / 321 ط الحلبي، والسنن الكبرى للبيهقي 1 /
435 ط الهند، ونصب الراية 1 / 242، 243) .
(7/178)
يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ
تَشْتَبِكَ النُّجُومُ (1) وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا فِي يَوْمِ
الْغَيْمِ مَخَافَةَ أَنْ تُصَلَّى قَبْل دُخُول وَقْتِهَا. (2)
19 - أَمَّا وَقْتُ الْعِشَاءِ الْمُسْتَحَبُّ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إِلَى مَا قَبْل ثُلُثِ اللَّيْل؛
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلاَ أَنْ
أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََخَّرْتُ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل أَوْ
نِصْفِهِ (3) ، وَالتَّأْخِيرُ إِلَى النِّصْفِ مُبَاحٌ، وَبَعْدَ
النِّصْفِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً.
وَالْمَكْرُوهُ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُعَاقَبُ عَلَى
فِعْلِهِ عِقَابًا أَقَل مِنْ عِقَابِ تَارِكِ الْفَرْضِ، أَعْنِي أَنَّهُ
يَكُونُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ عَمْدًا.
وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ مَظِنَّةَ الْمَطَرِ أَوِ
الْبَرْدِ؛ لأَِنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَى تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إِلَى
آخِرِ الْوَقْتِ إِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَى الْمُصَلِّينَ؛ لِحَدِيثِ:
لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي. . . الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
قَرِيبًا.
أَمَّا أَوْقَاتُ الاِسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةُ وَالْمَسْنُونَةُ
20 - الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَةُ - غَيْرُ الْفَرْضِ - الَّتِي لَهَا وَقْتٌ
مُعَيَّنٌ، هِيَ: الْوِتْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِيدَانِ.
أ - أَمَّا الْوِتْرُ: فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَبْدَأَ
وَقْتِ
__________
(1) حديث: " لا تزال أمتي بخير. . . " أخرجه أبو داود وسكت عنه، وقال عبد
القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: إسناده حسن. (عون المعبود 1 / 161 ط
الهند، وجامع الأصول 5 / 233) وانظر المراجع المذكورة سابقا.
(2) المراجع المذكورة، والبدائع 1 / 123، والمغني 1 / 319.
(3) حديث: " لولا أن أشق. . . " سبق تخريجه (ف / 12) .
(7/178)
الْوِتْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَبْدَأُ وَقْتِ
الْعِشَاءِ، وَهُوَ مَغِيبُ الشَّفَقِ الأَْبْيَضِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ
يُصَلَّى الْوِتْرُ قَبْل الْعِشَاءِ لِلتَّرْتِيبِ اللاَّزِمِ
بَيْنَهُمَا. وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ مَبْدَأَ وَقْتِهِ بَعْدَ
صَلاَةِ الْعِشَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (1)
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِدَلِيلٍ مَعْقُولٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ
يُصَل الْعِشَاءَ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ، لَزِمَهُ قَضَاءُ الْوِتْرِ
وَالْعِشَاءِ بِاتِّفَاقٍ، وَلَوْ كَانَ وَقْتُهُ بَعْدَ صَلاَةِ
الْعِشَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْوِتْرِ لأََنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ
وَقْتُهُ؛ لأَِنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ، وَهُوَ لَمْ
يُصَلِّهَا، وَيَسْتَحِيل أَنْ تَنْشَغِل ذِمَّتُهُ بِصَلاَةِ الْوِتْرِ
بِدُونِ فِعْل الْعِشَاءِ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ هُوَ وَقْتُ
الْعِشَاءِ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلاَةً، فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ
إِلَى صَلاَةِ الصُّبْحِ: الْوِتْرُ، الْوِتْرُ (2) وَكَلِمَةُ (بَيْنَ)
فِي الْحَدِيثِ تَدُل عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ.
وَالْخِلاَفُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ حَقِيقِيٌّ،
يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حَال مَا إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ
نَاسِيًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى الْوِتْرَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ
صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعِيدُ
الْعِشَاءَ دُونَ الْوِتْرِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ
وُضُوءٍ، أَمَّا الْوِتْرُ
__________
(1) انظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 288، وابن عابدين 1 / 241،
247، وجواهر الإكليل 1 / 75، وقليوبي 1 / 212، والمغني 2 / 161.
(2) حديث: " إن الله زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصبح
الوتر الوتر. . . " روي بعدة طرق منها ما أخرجه أحمد والطبراني في الكبير
من حديث أبي بصرة الغفاري، قال الهيثمي: له إسنادان عند أحمد، أحدهما رجاله
رجال الصحيح عدا علي بن إسحاق السلمي شيخ أحمد وهو ثقة. (مجمع الزوائد 2 /
239 نشر مكتبة القدسي، ونصب الراية 2 / 108 وما بعدها) .
(7/179)
فَلاَ يُعِيدُهُ؛ لأَِنَّهُ صَلاَّهُ فِي
وَقْتِهِ بِوُضُوءٍ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُعِيدُ الْوِتْرَ
وَالْعِشَاءَ. أَمَّا الْوِتْرُ فَلأَِنَّهُ صَلاَّهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ،
وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَلأَِنَّهُ صَلاَّهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ. (1)
أَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الْوِتْرِ فَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الصَّادِقِ
لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي ذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ
صَلاَةً. . . الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. (2)
ب - أَمَّا الْعِيدَانِ فَوَقْتُهُمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَارْتِفَاعِهَا قَدْرَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ وَقْتُهُمَا
بِاخْتِلاَفِ الأَْمْكِنَةِ.
وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِهِمَا فَزَوَال الشَّمْسِ مِنْ وَسَطِ
السَّمَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا.
21 - أَمَّا السُّنَنُ الَّتِي لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ وَتُسَمَّى
السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ الْمُؤَكَّدَةُ الَّتِي تُطْلَبُ كُل يَوْمٍ،
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي
الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَهِيَ رَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ
قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْل الْجُمُعَةِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا،
فَتَكُونُ الرَّكَعَاتُ الْمَطْلُوبَةُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ رَكْعَةً، بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَْيَّامِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ
فِيهَا فِي كُل يَوْمٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَالأَْصْل فِي هَذِهِ السُّنَنِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ثَابَرَ
عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى
اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ: رَكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ،
وَأَرْبَعٍ قَبْل الظُّهْرِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 272.
(2) المراجع السابقة.
(7/179)
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَيْنِ
بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ (1)
وَأَمَّا الأَْرْبَعُ الَّتِي بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَدَلِيلُهَا قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ
الْجُمُعَةِ فَلْيُصَل أَرْبَعًا (2) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ تُصَلَّى رَكْعَتَا
الْفَجْرِ. قَال: وَتَأَكُّدُ النَّفْل قَبْل الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا،
وَقَبْل الْعَصْرِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَلاَ حَدَّ فِي
الْجَمِيعِ، وَيَكْفِي فِي تَحْصِيل النَّدْبِ رَكْعَتَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَسْنُونَ مِنَ
الصَّلَوَاتِ عَشْرُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْل الصُّبْحِ،
وَرَكْعَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ
بَعْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (3) . لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَفِظْتُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْل الظُّهْرِ،
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ،
وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل
صَلاَةِ الصُّبْحِ (4) .
__________
(1) حديث: " من ثابر على ثنتي عشرة ركعة. . . " أخرجه الترمذي (2 / 273 ط
الحلبي، والنسائي 3 / 260، 261 ط المطبعة المصرية، وابن ماجه 1 / 361 ط
الحلبي من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا وإسناده حسن. كما قال
المباركفوري وشعيب الأرناؤوط (تحفة الأحوذي 2 / 467 نشر السلفية، وشرح
السنة بتحقيق شعيب الأرناؤوط 3 / 444) وفي الباب عن أم حبيبة وأبي هريرة
وأبي موسى وابن عمر. قال الترمذي: وحديث أم حبيبة من طريق عنبسة حديث حسن
صحيح.
(2) حديث: " من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا. . . " أخرجه مسلم
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (صحيح مسلم 2 / 600 ط الحلبي) .
وانظر البدائع 1 / 284.
(3) الإقناع 1 / 390 - 391، والمغني 1 / 762، وبلغة السالك 1 / 771.
(4) حديث ابن عمر " حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات. . . "
أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 58 ط السلفية) .
(7/180)
22 - أَمَّا الْمَنْدُوبُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ فَأَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ وَقَبْل الْعِشَاءِ وَبَعْدَهُ،
وَسِتٌّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ. (1) وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
غَيْرَ الْمُؤَكَّدِ أَنْ يَزِيدَ رَكْعَتَيْنِ قَبْل الظُّهْرِ
وَبَعْدَهَا، وَيُنْدَبُ أَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ، وَاثْنَتَانِ قَبْل
الْعِشَاءِ. وَلِتَفْصِيلِهِ وَرَأْيِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ ارْجِعْ
إِلَى الْمَنْدُوبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي (بَابِ النَّوَافِل) .
أَوْقَاتُ الْكَرَاهَةِ
أَوَّلاً - أَوْقَاتُ الْكَرَاهَةِ لأَِمْرٍ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ
عَدَدُ أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ عَدَدَهَا ثَلاَثَةٌ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ
تَرْتَفِعَ بِمِقْدَارِ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ، وَعِنْدَ اسْتِوَائِهَا
فِي وَسَطِ السَّمَاءِ حَتَّى تَزُول، وَعِنْدَ اصْفِرَارِهَا بِحَيْثُ لاَ
تُتْعِبُ الْعَيْنَ فِي رُؤْيَتِهَا إِلَى أَنْ تَغْرُبَ. وَاسْتَثْنَى
الشَّافِعِيَّةُ الصَّلاَةَ بِمَكَّةَ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ كَمَا يَأْتِي.
(2)
وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الأَْوْقَاتُ أَوْقَاتَ كَرَاهَةٍ؛ لأَِنَّ
الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَسْتَوِي وَتَصْفَرُّ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ
فَتَكُونُ الصَّلاَةُ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ تَشَبُّهًا بِمَنْ
يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا فِي هَذِهِ
الأَْوْقَاتِ. يَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ
وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا
ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ
__________
(1) البدائع 1 / 290.
(2) ابن عابدين 1 / 246، والمغني 1 / 753، والبجيرمي على الإقناع 2 / 109
وما بعدها.
(7/180)
قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا،
فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا،
وَنَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ
فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَدَدَ أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ
اثْنَانِ: عِنْدَ الطُّلُوعِ وَعِنْدَ الاِصْفِرَارِ، أَمَّا وَقْتُ
الاِسْتِوَاءِ فَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهِ عِنْدَهُمْ، وَحُجَّتُهُمْ
فِي ذَلِكَ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي
وَقْتِ الاِسْتِوَاءِ، وَعَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ؛
لأَِنَّ الْمَدِينَةَ مَوْطِنُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَالْوَحْيُ كَانَ يَنْزِل بَيْنَ
ظَهْرَانَيْهِمْ، فَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ الَّذِي
سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، وَالَّذِي يَدُل عَلَى النَّهْيِ فِي وَقْتِ
الاِسْتِوَاءِ، لَعَمِلُوا بِهِ. (2)
وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْوْقَاتَ الثَّلاَثَةَ
مَكْرُوهَةٌ إِلاَّ فِي مَكَّةَ، وَإِلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ
الاِسْتِوَاءِ. أَمَّا فِي مَكَّةَ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا
الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ (3) .
وَأَمَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الاِسْتِوَاءِ فَلأَِنَّ
الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ فِي وَقْتِ
الاِسْتِوَاءِ حَتَّى
__________
(1) حديث: " إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان. . . " أخرجه مالك في الموطأ
واللفظ له والنسائي وابن ماجه، وقال الحافظ البوصيري: إسناده مرسل ورجاله
ثقات (الموطأ 1 / 219 ط الحلبي، وسنن النسائي 1 / 275، وسنن ابن ماجه 1 /
397 ط الحلبي) .
(2) بداية المجتهد 1 / 53.
(3) البجيرمي على الإقناع 2 / 109 وما بعدها. وحديث: " يا بني عبد مناف لا
تمنعوا أحدا طاف. . . " أخرجه الترمذي والبغوي من حديث جبير بن مطعم وصححاه
(سنن الترمذي 3 / 220 ط الحلبي، وشرح السنة 3 / 331 نشر المكتب الإسلامي) .
(7/181)
يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ لِيَخْطُبَ
فِيهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ.
24 - وَلاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ
التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ. أَمَّا السُّنَنُ،
فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى كَرَاهَتِهَا (1)
لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ،
أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ
بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى
تَمِيل الشَّمْسُ، وَحِينَ تُضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ - أَيْ حِينَ
تَمِيل - حَتَّى تَغْرُبَ (2) . وَالْمُرَادُ بِقَبْرِ الْمَوْتَى فِي
الْحَدِيثِ صَلاَةُ الْجِنَازَةِ، لاَ الدَّفْنُ، فَإِنَّ الدَّفْنَ فِي
هَذِهِ الأَْوْقَاتِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ.
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا إِبَاحَةُ السُّنَنِ فِي هَذِهِ
الأَْوْقَاتِ، إِلاَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ
عِنْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ: كَرَاهَةُ السُّنَنِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ
الأَْوْقَاتِ.
وَحُجَّتُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْولَى: أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا
الْمَوْضُوعِ دَلِيلاَنِ مُتَعَارِضَانِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
(أَحَدُهُمَا) حَدِيثُ عُقْبَةَ الْمَارُّ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي يَدُل عَلَى
كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ أَيَّ صَلاَةٍ كَانَتْ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ.
(ثَانِيهِمَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَقَدَ
أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلاَةِ أَوْ غَفَل فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا (3)
، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُل عَلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ فِي كُل وَقْتٍ
عِنْدَ التَّذَكُّرِ. وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بَيْنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 315 وما بعدها.
(2) حديث عقبة بن عامر: " ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهانا أن نصلي. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 568، 569 ط الحلبي) .
(3) أخرجه مسلم (1 / 477 - ط الحلبي) .
(7/181)
الْحَدِيثَيْنِ، بِأَنْ نَسْتَثْنِيَ مِنَ
الصَّلَوَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ السُّنَنَ،
وَيَكُونُ النَّهْيُ مُنَصَّبًا عَلَى الْفَرَائِضِ، أَمَّا السُّنَنُ
فَلَيْسَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا.
وَحُجَّةُ مَالِكٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ
السُّنَنِ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ: حَدِيثُ عُقْبَةَ الَّذِي يَدُل عَلَى
كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا فِيهَا. (1)
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ صَلاَةَ الْكُسُوفِ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ
إِذَا دَخَل الْمَسْجِدَ لاَ لِغَرَضِ أَنْ يُصَلِّيَهَا، بِأَنْ دَخَل
الْمَسْجِدَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، ثُمَّ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ (2) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ.
25 - وَأَمَّا حُكْمُ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي هَذِهِ
الأَْوْقَاتِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ
الْمَارِّ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي يَدُل عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ
فِيهَا مُطْلَقًا.
وَلاَ تَجُوزُ صَلاَةُ الْجِنَازَةِ إِذَا حَضَرَتْ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ
الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أُخِّرَتِ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا بِدُونِ عُذْرٍ إِلَى
الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ. وَلاَ تَجُوزُ سَجْدَةُ تِلاَوَةٍ تُلِيَتْ
آيَتُهَا أَوْ سُمِعَتْ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سَجَدَ
لَهَا التَّالِي أَوِ السَّامِعُ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ. أَمَّا إِذَا
حَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا
فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَمِثْل ذَلِكَ سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ إِذَا تُلِيَتْ آيَتُهَا فِي
الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سَجَدَ لَهَا التَّالِي أَوِ السَّامِعُ فِي
هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، إِذَا
حَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي الْوَقْتِ غَيْرِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أُخِّرَتِ
الصَّلاَةُ عَلَيْهَا إِلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ: حَدِيثُ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 53.
(2) البجيرمي على الإقناع 2 / 109 وما بعدها.
(7/182)
عُقْبَةَ الْمَارُّ ذِكْرُهُ.
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى صِحَّةِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ
مَعَ الْكَرَاهَةِ: أَنَّ مَا وَجَبَ فِي وَقْتٍ نَاقِصٍ يُؤَدَّى فِي
النَّاقِصِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَا وَجَبَ فِي كَامِلٍ لاَ يُؤَدَّى فِي
النَّاقِصِ، وَمَنْ أَجْل ذَلِكَ صَحَّ عَصْرُ الْيَوْمِ مَعَ
الْكَرَاهَةِ، إِذَا أُدِّيَ فِي وَقْتِ الاِصْفِرَارِ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ
فِي نَاقِصٍ فَيُؤَدَّى كَمَا وَجَبَ، وَلَمْ يَصِحَّ عَصْرُ أَمْسِ إِذَا
أَدَّاهُ فِي وَقْتِ الاِصْفِرَارِ الْيَوْمَ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ فِي
كَامِلٍ فَلاَ يُؤَدَّى فِي النَّاقِصِ. (1)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي
هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ؛ لِحَدِيثِ: إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ
عَنِ الصَّلاَةِ أَوْ غَفَل عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، دَل
الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي كُل وَقْتٍ عِنْدَ
التَّذَكُّرِ. (2)
ثَانِيًا: أَوْقَاتُ الْكَرَاهَةِ لأَِمْرٍ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ
26 - وَهِيَ عَشْرَةُ أَوْقَاتٍ، كَمَا ذَكَرَهَا الشُّرُنْبُلاَلِيُّ:
وَأَوْصَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى نَيِّفٍ وَثَلاَثِينَ مَوْضِعًا،
أَهَمُّهَا: (3)
الْوَقْتُ الأَْوَّل: قَبْل صَلاَةِ الصُّبْحِ.
27 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى كَرَاهِيَةِ التَّنَفُّل قَبْل
صَلاَةِ الصُّبْحِ إِلاَّ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ إِذَا كَانَ مِنْ
عَادَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهُ بِاللَّيْل، فَلَمْ يُصَلِّهِ حَتَّى طَلَعَ
الْفَجْرُ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل قَبْل صَلاَةِ
الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَلِّغَ
شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 250.
(2) بداية المجتهد 12 / 53 وما بعدها، والبجيرمي على الإقناع 2 / 209 وما
بعدها، والمغني 1 / 753 وما بعدها.
(3) ابن عابدين 1 / 254.
(7/182)
وَلاَ تُصَلُّوا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلاَّ
سَجْدَتَيْنِ. (1)
أَيْ لاَ صَلاَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.
(2)
الْوَقْتُ الثَّانِي: بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل الْمُطْلَقِ
(وَهُوَ مَا لاَ سَبَبَ لَهُ) بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، (3) لِمَا رَوَاهُ
الشَّيْخَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
لاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلاَ
صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَدَاءِ كُل صَلاَةٍ لَهَا سَبَبٌ،
كَالْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَالطَّوَافِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ
فَائِتَةً فَرْضًا أَمْ نَفْلاً، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَال: هُمَا اللَّتَانِ
بَعْدَ الظُّهْرِ. (4)
__________
(1) حديث: ليبلغ شاهدكم غائبكم، ولا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين " أخرجه
أبو داود واللفظ له والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: حديث
ابن عمر حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قدامة بن موسى وروى عنه غير واحد.
وذكر الزيلعي طرقا أخرى للحديث من غير طريق قدامة بن موسى، وقال: وكل ذلك
يعكر على الترمذي في قوله: لا نعرفه إلا من حديث قدامة. ويدل على ذلك ما
أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له - من حديث حفصة " كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركع وسنن الترمذي 2 / 279، 280 ط
الحلبي، وفتح الباري 3 / 58 ط السلفية، وصحيح مسلم 1 / 500 ط الحلبي، ونصب
الراية 1 / 255، 256) .
(2) اللباب شرح مختصر القدوري ط المطبعة الأزهرية 1 / 50، وابن عابدين 1 /
254، والإقناع 2 / 110، والمغني 1 / 447، وبلغة السالك 1 / 77.
(3) المراجع السابقة.
(4) البجيرمي على الخطيب 2 / 101 والحديث أخرجه البخاري 3 / 105
(7/183)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ
الإِْتْيَانِ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذَا
نَسِيَهَا وَلَمْ يَتَذَكَّرْهَا إِلاَّ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ؛ لِمَا
رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ
الصُّبْحَ، فَوَجَدَنِي أُصَلِّي، فَقَال: مَهْلاً يَا قَيْسُ أَصَلاَتَانِ
مَعًا؟ قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْتُ رَكْعَتَيِ
الْفَجْرِ. قَال: فَلاَ إِذَنْ (1) ظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرَّجُل يُصَلِّي الصُّبْحَ بَعْدَ أَنْ
صَلاَّهُ مَعَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي
سُنَّةَ الْفَجْرِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدِ الْعَصْرِ، وَسُنَّةُ
الْفَجْرِ فِي مَعْنَاهَا. (2)
الْوَقْتُ الثَّالِثُ: بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ:
29 - ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى
كَرَاهَةِ التَّنَفُّل الْمُطْلَقِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، لِحَدِيثِ
الشَّيْخَيْنِ الَّذِي تَقَدَّمَ: لاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ.
(3)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قَضَاءِ سُنَّةِ الظُّهْرِ بَعْدَ
صَلاَةِ الْعَصْرِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى نَافِلَةَ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ. (4)
الْوَقْتُ الرَّابِعُ: قَبْل صَلاَةِ الْمَغْرِبِ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل
قَبْل صَلاَةِ الْمَغْرِبِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَيْنَ كُل أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ
__________
(1) حديث قيس بن فهد " خرج رسول الله. . . " أخرجه الترمذي (2 / 285 ط
الحلبي) والحاكم (1 / 274 - 275 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه
الذهبي.
(2) المغني 1 / 757.
(3) ابن عابدين 1 / 254 وما بعدها، والشرح الصغير 1 / 404، والقليوبي
وعميرة 1 / 211.
(4) المغني 1 / 758.
(7/183)
إِلاَّ الْمَغْرِبَ. (1) وَالْمُرَادُ
بِالأَْذَانَيْنِ: الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ، فَبَيْنَ أَذَانِ الصُّبْحِ
وَإِقَامَتِهِ سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَبَيْنَ أَذَانِ الظُّهْرِ
وَإِقَامَتِهِ سُنَّةُ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةُ، وَبَيْنَ أَذَانِ
الْعَصْرِ وَإِقَامَتِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ مَنْدُوبَةً عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَبَيْنَ أَذَانِ الْعِشَاءِ وَإِقَامَتِهِ أَرْبَعُ
رَكَعَاتٍ مَنْدُوبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ الْمَغْرِبَ لِقِصَرِ
وَقْتِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ قَبْل الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ
عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ؛ لِلأَْمْرِ بِهِمَا فِي حَدِيثِ
أَبِي دَاوُد صَلُّوا قَبْل صَلاَةِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، (2) وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: هُمَا جَائِزَتَانِ، وَلَيْسَتَا بِسُنَّةٍ. (3)
كَمَا اسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلاَةِ
الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، (4) فَيَرْكَعُونَ رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى إِنَّ الرَّجُل الْغَرِيبَ لَيَدْخُل الْمَسْجِدَ،
فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلاَةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ
يُصَلِّيهِمَا. (5)
__________
(1) حديث " بين كل أذانين صلاة إلا المغرب. . . ". أخرجه الدارقطني
والبيهقي في سننيهما من طريق حيان بن عبيد الله العدوي من حديث بريدة بلفظ:
" إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب " رواه البزار في مسنده وقال: لا
نعلم من رواه عن ابن بريدة إلا حيان بن عبيد ال ونصب الراية 2 / 140، وعمدة
القاري 5 / 138 ط المنيرية) .
(2) الحديث أخرجه البخاري (3 / 59) .
(3) المراجع السابقة، والمغني 2 / 129.
(4) أي أسرع كل واحد منهم إلى عمود من أعمدة المسجد لصلاة الركعتين.
(5) المغني 1 / 466. وحديث: " كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب.
. . " أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (صحيح مسلم 1 / 573 ط
الحلبي) .
(7/184)
الْوَقْتُ الْخَامِسُ: عِنْدَ خُرُوجِ
الْخَطِيبِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلاَتِهِ:
31 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل عِنْدِ خُرُوجِ الْخَطِيبِ
إِلَى الْمِنْبَرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ - وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ - فَقَدْ لَغَوْتَ.
(1) دَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالإِْنْصَاتِ،
كَانَ أَمْرُهُ لَغْوًا مِنَ الْكَلاَمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ
الأَْمْرُ بِالإِْنْصَاتِ - وَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ - لَغْوًا مِنَ
الْكَلاَمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَانَ التَّنَفُّل لَغْوًا مِنَ الأَْعْمَال
مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّنَفُّل يُفَوِّتُ
الاِسْتِمَاعَ إِلَى الْخَطِيبِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ، فَلاَ يُتْرَكُ
الْوَاجِبُ مِنْ أَجْل النَّفْل.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ
لِمَنْ دَخَل وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ، فَأَجَازُوا التَّنَفُّل
بِرَكْعَتَيْنِ. (2)
لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ
فَجَلَسَ، فَقَال لَهُ: يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ
وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا. (3)
الْوَقْتُ السَّادِسُ: عِنْدَ الإِْقَامَةِ:
32 - ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل عِنْدَ
الإِْقَامَةِ لِلصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ إِذَا
لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا إِذَا خَافَ فَوْتَهَا تَرَكَهَا،
وَإِنَّمَا كُرِهَ التَّنَفُّل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ
__________
(1) حديث: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " أخرجه
البخاري مرفوعا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (فتح الباري 2 / 414 ط
السلفية) .
(2) ابن عابدين 1 / 255 وما بعدها، والشرح الصغير 1 / 513، والبجيرمي 1 /
189، والمغني 2 / 319 ط الرياض.
(3) حديث جابر: " قال جاء سليك الغطفاني. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 2 /
597 ط الحلبي) .
(7/184)
الْمَكْتُوبَةَ. (1) وَاسْتَثْنَى مِنَ
الْحَدِيثِ سُنَّةَ الْفَجْرِ لِكَوْنِهَا آكَدَ السُّنَنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ
الإِْمَامَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَلْيَدْخُل مَعَهُ فِي صَلاَتِهِ،
وَيَتْرُكْ سُنَّةَ الْفَجْرِ. وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ: فَإِنْ
خَافَ أَنْ يَفُوتَهُ الإِْمَامُ بِرَكْعَةٍ تَرَكَ سُنَّةَ الْفَجْرِ
وَقَضَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يَفُوتَهُ
الإِْمَامُ بِرَكْعَةٍ أَتَى بِالسُّنَّةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَوْنِهِ دَاخِلَهُ:
أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَاخِل الْمَسْجِدِ وَصَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ،
وَالإِْمَامُ يُصَلِّي الصُّبْحَ، كَانَتَا صَلاَتَيْنِ مَعًا فِي مَوْضِعٍ
وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مُخْتَلِفًا مَعَ الإِْمَامِ، فَهُوَ يُصَلِّي نَفْلاً،
وَالإِْمَامُ يُصَلِّي فَرْضًا، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا رُوِيَ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَال: سَمِعَ قَوْمٌ
الإِْقَامَةَ، فَقَامُوا يُصَلُّونَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَصَلاَتَانِ مَعًا؟
أَصَلاَتَانِ مَعًا؟ وَذَلِكَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ قَبْل الصُّبْحِ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُقِيمَتِ
الصَّلاَةُ فَلاَ يَشْرَعُ فِي صَلاَةٍ نَافِلَةٍ وَلَوْ رَاتِبَةً، وَلَوْ
__________
(1) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " أخرجه مسلم من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. (صحيح مسلم 1 / 493 ط الحلبي) .
(2) الشرح الصغير 1 / 409.
(3) حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: " سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون. . .
" أخرجه مالك في الموطأ وقال ابن عبد البر: لم يختلف الرواة عن مالك في
إرسال هذا الحديث. وقال عبد القادر الأرناؤوط محقق جامع الأصول: في إسناده
أيضا شريك بن عبد الله ابن أبي نمر، وهو جامع الأصول 6 / 22) .
(7/185)
شَرَعَ فِيهَا لاَ تَنْعَقِدُ، وَيَسْتَوِي
فِي ذَلِكَ سُنَّةُ الْفَجْرِ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّنَنِ؛ لِلْحَدِيثِ
السَّابِقِ. (1)
الْوَقْتُ السَّابِعُ: قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا:
33 - ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل قَبْل صَلاَةِ
الْعِيدِ فِي الْمَنْزِل وَالْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ الصَّلاَةِ يُكْرَهُ
التَّنَفُّل فِي الْمَسْجِدِ، وَلاَ يُكْرَهُ فِي الْمَنْزِل؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يُصَلِّي قَبْل
الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِل صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
(2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل قَبْل صَلاَةِ
الْعِيدِ وَبَعْدَهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل قَبْلَهَا
وَبَعْدَهَا فِي الْمُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ. (3)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ التَّنَفُّل قَبْلَهَا
وَلاَ بَعْدَهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ لِغَيْرِ الإِْمَامِ. (4)
الْوَقْتُ الثَّامِنُ: بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي كُلٍّ
مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ:
34 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّل بَيْنَ
الصَّلاَتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي عَرَفَةَ،
وَالْمَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ فِي مُزْدَلِفَةَ، فَإِذَا جَمَعَ
الإِْمَامُ بَيْنَ الظُّهْرِ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 409 ط. دار المعارف. والبجيرمي على الخطيب 2 / 4 ط
دار المعرفة، وكشاف القناع 1 / 459، والمغني 2 / 387.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد. . . "
أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري. قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.
وقال الحافظ البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. (سنن ابن ماجه
1 / 41 ط الحلبي، وفتح الباري 2 / 476 ط السلفية) .
(3) الشرح الصغير 1 / 189، والمغني 2 / 387.
(4) القليوبي 1 / 308.
(7/185)
وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، يُصَلِّي
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَتْرُكُ سُنَّةَ الظُّهْرِ
الْبَعْدِيَّةَ، وَمِثْل ذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ. فَيُصَلِّي
الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَيَتْرُكُ سُنَّةَ
الْمَغْرِبِ الْبَعْدِيَّةَ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يَتَطَوَّعْ بَيْنَهُمَا.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: فَأَمَّا الْفَصْل بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِعَمَلٍ
غَيْرِ الصَّلاَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ
الْمُزْدَلِفَةَ نَزَل فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ
أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُل إِنْسَانٍ
بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّى، وَلَمْ
يُصَل بَيْنَهُمَا. (1) وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا
فِي أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يَتَطَوَّعَ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ. (2)
الْوَقْتُ التَّاسِعُ: عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ:
35 - لاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ
التَّنَفُّل عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِذَا ضَاقَ وَقْتُ
الظُّهْرِ مَثَلاً، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَسَعُ صَلاَتَهُ،
حَرُمَ التَّنَفُّل لِمَا فِي التَّنَفُّل مِنْ تَرْكِ أَدَاءِ الصَّلاَةِ
الْمَفْرُوضَةِ وَالاِشْتِغَال بِالنَّفْل، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ نَافِلَةً - وَلَوْ رَاتِبَةً
- مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ. (3)
__________
(1) حديث أسامة بن زيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة. .
. " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 240 ط السلفية) .
(2) تفسير القرطبي 2 / 424، 425 في تفسير قوله تعالى: (فإذا أفضتم من
عرفات) في المسألة الخامسة عشر، ونهاية المحتاج 3 / 281، وكشاف القناع 2 /
492، والدر المختار ورد المحتار 1 / 485، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي ص
239.
(3) كشاف القناع 1 / 261، ونهاية المحتاج 2 / 114، وابن عابدين 1 / 483،
والحطاب 2 / 66.
(7/186)
حُكْمُ الصَّلاَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا
تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ بِلاَ عُذْرٍ:
36 - لاَ يُعْلَمُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَأْخِيرَ
الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا بِدُونِ عُذْرٍ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، لاَ يُرْفَعُ
إِلاَّ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَبْدِ،
وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَل
ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ أَيْ مُقَصِّرٌ، حَيْثُ قَال: لَيْسَ
التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ. (1)
37 - أَمَّا تَأْخِيرُهَا بِعُذْرِ النِّسْيَانِ، فَلاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ عَلَى
هَذَا التَّأْخِيرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ
عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (2)
38 - وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا بِعُذْرِ النَّوْمِ، فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي النَّوْمِ
تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ
أَحَدُكُمْ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا.
(3)
أَنَّ النَّوْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ عَنْ
وَقْتِهَا لاَ يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مُفَرِّطًا،
وَقَدْ نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاَةِ
الصُّبْحِ فِي حَدِيثِ التَّعْرِيسِ (4) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَال:
سِرْنَا مَعَ
__________
(1) حديث: " ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة. . . " أخرجه أبو
داود والترمذي واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأصل الحديث أخرجه مسلم
مطولا (سنن الترمذي 1 / 3341، 335 ط الحلبي، وسنن أبي داود 1 / 304 ط عزت
عبيد دعاس، وصحيح مسلم 1 / 472، 473 ط الحلبي) .
(2) حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. . . " سبق
تخريجه في مصطلح أهلية (ف / 39) .
(3) حديث: " ليس في النوم تفريط. . . " سبق تخريجه (ف / 36) .
(4) التعريس: نزول القوم المسافرين في مكان الاستراحة آخر الليل، ثم
يرتحلون بعد ذلك.
(7/186)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَال بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا
رَسُول اللَّهِ، قَال: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاَةِ، قَال
بِلاَلٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلاَلٌ ظَهْرَهُ
إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ
الشَّمْسِ فَقَال: يَا بِلاَل أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ فَقَال: مَا أُلْقِيَتْ
عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَال: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ
أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ، يَا بِلاَل
قُمْ فَأَذِّنِ النَّاسَ بِالصَّلاَةِ، فَتَوَضَّأْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ
الشَّمْسُ، وَابْيَاضَّتْ، قَامَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ (1) غَيْرَ أَنَّهُ
يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
أَنَّهُ لَوْ نَامَ تَفُوتُهُ الصَّلاَةُ يُكَلِّفُ أَحَدًا بِإِيقَاظِهِ،
وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. (2)
وَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْل صَلاَةِ
الْعِشَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ،
لِحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ
النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. (3)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْل الصَّلاَةِ فِي
جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ كَرَاهَةُ النَّوْمِ بَعْدَ
دُخُول الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْل دُخُولِهِ فَجَائِزٌ عِنْدَهُمْ. (4)
39 - أَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ تَقْدِيمُهَا
بِعُذْرِ السَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِعُذْرِ
__________
(1) حديث أبي قتادة " سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه
البخاري، وزيادة " بالناس " عند أبي داود فقط. (فتح الباري 2 / 66، 67 ط
السلفية، وسنن أبي داود 1 / 307 ط عزت عبيد دعاس) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 246، وبلغة السالك في أوقات الصلاة 1 / 232 وما
بعدها.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها. . . " أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 49 - ط السلفية) ومسلم (1 / 447 ط الحلبي) .
(4) رد المحتار 1 / 246، وشرح المحلى على المنهاج 1 / 115.
(7/187)
السَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ (1) لِمَا
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجَّل بِهِ السَّيْرُ فِي
السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْعِشَاءِ. (2) وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال:
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ارْتَحَل
قَبْل أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ - أَيْ قَبْل أَنْ تَزُول الشَّمْسُ عَنْ
وَسَطِ السَّمَاءِ - أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ
نَزَل، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْل أَنْ
يَرْتَحِل صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ. (3) دَل الْحَدِيثُ الأَْوَّل
عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ
مُسَافِرًا، وَأَسْرَعَ فِي السَّيْرِ؛ لِيَصِل إِلَى غَرَضِهِ فِي
الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. وَدَل الْحَدِيثُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ابْتَدَأَ السَّفَرَ قَبْل دُخُول وَقْتِ
الظُّهْرِ، أَخَّرَ الظُّهْرَ وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ،
وَإِذَا ابْتَدَأَ السَّفَرَ قَبْل دُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ، صَلاَّهَا
ثُمَّ سَافَرَ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ، وَيُسْتَدَل
لِلْجُمْهُورِ أَيْضًا بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ
الصَّلاَتَيْنِ لِلسَّفَرِ وَغَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ فِي
عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
فَيَجْمَعُ الإِْمَامُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ،
بِأَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَاتٍ،
وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ
بِمُزْدَلِفَةَ فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 92، والإقناع 2 / 169، والمغني 1 / 409.
(2) حديث ابن عمر أخرجه البخاري (الفتح 2 / 572 ط السلفية) ومسلم (1 / 489
ط الحلبي) .
(3) حديث أنس بن مالك أخرجه البخاري (الفتح 2 / 582 ط السلفية) ومسلم (1 /
489 ط الحلبي) .
(7/187)
وَالْعِشَاءَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لِجَوَازِ هَذَا الْجَمْعِ: أَنْ يَكُونَ
مُحْرِمًا بِحَجٍّ لاَ عُمْرَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّلاَةُ
بِجَمَاعَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ فِي جَمْعِ عَرَفَةَ هُوَ
السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ -
أَنْ تَكُونَ الصَّلاَةُ بِجَمَاعَةٍ، وَأَجَازُوا لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ
أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ الْجَمْعِ وَلَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، أَمَّا
الْجَمْعُ فِي مُزْدَلِفَةَ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ غَيْرُ الإِْحْرَامِ
وَالْمَكَانِ، وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ.
40 - وَقَدْ تَضَمَّنَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَمْرَيْنِ: (الأَْوَّل) أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي
عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ. (الثَّانِي) لاَ
يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِعُذْرِ سَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ.
أَمَّا الأَْمْرُ الأَْوَّل فَدَلِيلُهُ: أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا نُسُكَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ، اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ هَذَا الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ.
وَأَمَّا الأَْمْرُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي
غَيْرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِعُذْرِ سَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ -
فَدَلِيلُهُ: أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً
بِأَوْقَاتِهَا بِالدَّلاَئِل الْمَقْطُوعِ بِهَا مِنَ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالإِْجْمَاعِ، فَلاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا
عَنْ أَوْقَاتِهَا بِنَوْعٍ مِنَ الاِسْتِدْلاَل وَخَبَرِ الْوَاحِدِ،
وَالسَّفَرُ أَوِ الْمَطَرُ لاَ أَثَرَ لَهُمَا فِي تَأْخِيرِ الصَّلاَةِ
عَنْ وَقْتِهَا أَوْ تَقْدِيمِهَا عَنْ وَقْتِهَا. (1)
مَنْ لَمْ يَجِدْ بَعْضَ الأَْوْقَاتِ الْخَمْسَةِ
41 - اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ بَعْضَ
__________
(1) انظر رد المحتار 1 / 256، والبدائع 1 / 127.
(7/188)
الأَْوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، كَسُكَّانِ
الْمَنَاطِقِ الْقُطْبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَنَاطِقَ تَسْتَمِرُّ فِي
نَهَارٍ دَائِمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَفِي لَيْلٍ دَائِمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ
أُخْرَى، كَمَا يَقُول الْجُغْرَافِيُّونَ، فَهَل يَجِبُ عَلَى سُكَّانِ
هَذِهِ الْمَنَاطِقِ - إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ - أَنْ يُصَلُّوا
الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا وَقْتًا لَهَا، بِأَنْ يُقَدِّرُوا
لِكُل صَلاَةٍ وَقْتًا أَوْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ هَذِهِ الصَّلَوَاتُ؟ .
وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَنَاطِقِ
الْقُطْبِيَّةِ، تَأْتِي فِيهَا فَتَرَاتٌ لاَ يُوجَدُ وَقْتُ الْعِشَاءِ،
أَوْ يَطْلُعُ الْفَجْرُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ مُبَاشَرَةً.
وَفِي بَعْضِ الْمَنَاطِقِ لاَ تَغِيبُ الشَّمْسُ مُطْلَقًا.
ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ هَذِهِ
الصَّلَوَاتِ عَنْهُمْ، وَيُقَدِّرُونَ لِكُل صَلاَةٍ وَقْتًا، فَفِي
السِّتَّةِ الأَْشْهُرِ الَّتِي تَسْتَمِرُّ فِي نَهَارٍ دَائِمٍ
يُقَدِّرُونَ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ وَالْفَجْرِ وَقْتًا،
مِثْل ذَلِكَ السِّتَّةُ الأَْشْهُرِ الأُْخْرَى يُقَدِّرُونَ لِلصُّبْحِ
وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا، بِاعْتِبَارِ أَقْرَبِ الْبِلاَدِ
الَّتِي لاَ تَتَوَارَى فِيهَا الأَْوْقَاتُ الْخَمْسَةُ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَيَّامِ الدَّجَّال،
الَّذِي هُوَ مِنْ عَلاَمَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، فَقَدْ أَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّقْدِيرِ فِيهَا، فِي
الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَال: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّال وَلُبْثَهُ فِي الأَْرْضِ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ
كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ. قَال الرَّاوِي: قُلْنَا
يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الْيَوْمَ الَّذِي كَالسَّنَةِ،
أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَال: لاَ، وَلَكِنِ اقْدُرُوا لَهُ.
أَيْ صَلُّوا صَلاَةَ سَنَةٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ كَسَنَةٍ،
وَقَدِّرُوا لِكُل صَلاَةٍ وَقْتًا. (1)
__________
(1) حديث: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الدجال ولبثه في الأرض. . . "
أخرجه أحمد والترمذي مطولا من حديث النواس بن سمعان الكلابي، وقال الترمذي:
هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر.
(مسند أحمد بن حنبل 4 / 181 ط الميمنية، وسنن الترمذي 4 / 510 - 514 ط
الحلبي) .
(7/188)
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَى سُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا وَقْتًا لَهَا؛ لأَِنَّ
الْوَقْتَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا عُدِمَ السَّبَبُ - وَهُوَ
الْوَقْتُ - عُدِمَ الْمُسَبَّبُ وَهُوَ الْوُجُوبُ. (1)
وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْبِلاَدِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا اللَّيْل
أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي الصَّيْفِ، فَقَبْل أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ
الأَْحْمَرُ، يَظْهَرُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ فَلاَ يُوجَدُ وَقْتٌ
لِلْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ؛ لأَِنَّ أَوَّل وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبُ
الشَّفَقِ الأَْحْمَرِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ قَبْل أَنْ
يَغِيبَ الشَّفَقُ.
فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ
سُقُوطِ الْوِتْرِ وَالْعِشَاءِ عَنْ أَهْل هَذِهِ الْبِلاَدِ، بَل
يُقَدِّرُونَ لِلْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ وَقْتًا بِاعْتِبَارِ أَقْرَبِ
الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ. وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ عُلَمَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى سُقُوطِ الْوِتْرِ وَالْعِشَاءِ، وَهُوَ الَّذِي
مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ نُورِ الإِْيضَاحِ وَعِبَارَتُهُ: وَمَنْ لَمْ
يَجِدْ وَقْتَهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ. لَكِنَّهُ خِلاَفُ الْمَذْهَبِ
وَمَا عَلَيْهِ الْمُتُونُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (2)
إِلَى تَقْدِيرِ مَغِيبِ شَفَقِ أَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا
كَانَ أَقْرَبُ الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ يَغِيبُ فِيهَا الشَّفَقُ بَعْدَ
سَاعَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمُدَّةُ اللَّيْل فِي هَذِهِ الْبِلاَدِ
ثَمَانِي سَاعَاتٍ، فَيَكُونُ أَوَّل الْعِشَاءِ عِنْدَهُمْ بَعْدَ سَاعَةٍ
مِنْ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار عليه 1 / 242، 244.
(2) بلغة السالك 1 / 72، والمنهاج 1 / 110.
(7/189)
غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِذَا كَانَتْ
مُدَّةُ اللَّيْل فِي الْبِلاَدِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عِشَاءٌ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ سَاعَةً، فَيُقَدَّرُ مَغِيبُ الشَّفَقِ عِنْدَهُمْ بِسَاعَةٍ
وَنِصْفٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لأَِنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ الشَّفَقِ فِي
أَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ سَاعَةٌ، وَهِيَ تُعَادِل الثُّمُنَ مِنَ
اللَّيْل؛ لأَِنَّ اللَّيْل عِنْدَهُمْ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، وَالْبِلاَدُ
الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عِشَاءٌ وَلَيْلُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً،
يُقَدَّرُ لِغِيَابِ الشَّفَقِ ثُمُنَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ سَاعَةٌ
وَنِصْفٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الْعِشَاءِ عَلَى أَهْل
هَذِهِ الْبِلاَدِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ. (1)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَقَلُوا فِيهَا الْخِلاَفَ
بَيْنَ ثَلاَثَةٍ مِنْ مَشَايِخِنَا وَهُمُ: الْبَقَّالِيُّ
وَالْحَلْوَانِيُّ وَالْبُرْهَانِيُّ الْكَبِيرُ، وَأَفْتَى
الْبَقَّالِيُّ: بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَكَانَ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي
بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ وَافَقَ الْبَقَّالِيَّ حِينَمَا أَرْسَل إِلَيْهِ
مَنْ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ أَسْقَطَ صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ:
أَيَكْفُرُ؟ فَأَجَابَ الْبَقَّالِيُّ السَّائِل: مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ
أَوْ رِجْلاَهُ كَمْ فُرُوضُ وُضُوئِهِ؟ قَال: ثَلاَثٌ. قَال: فَكَذَلِكَ
الصَّلاَةُ، فَاسْتَحْسَنَ الْحَلْوَانِيُّ، وَرَجَعَ إِلَى قَوْل
الْبَقَّالِيِّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ. أَمَّا الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ
فَقَدْ رَجَّحَ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ، وَمَنَعَ مَا أَفْتَى بِهِ
الْبَقَّالِيُّ مِنَ الْقَوْل بِعَدَمِ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ السَّبَبِ
وَهُوَ الْوَقْتُ، كَمَا يَسْقُطُ غُسْل الْيَدَيْنِ عَنْ مَقْطُوعِهِمَا.
وَقَال: لاَ يَرْتَابُ مُتَأَمِّلٌ فِي ثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ
مَحَل الْفَرْضِ، وَبَيْنَ عَدَمِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ. إِلَى أَنْ
قَال: وَانْتِفَاءُ الدَّلِيل عَلَى الشَّيْءِ لاَ يَلْزَمُ فِيهِ
انْتِفَاءُ هَذَا الشَّيْءِ؛ لِجَوَازِ دَلِيلٍ آخَرَ. وَقَدْ وُجِدَ
وَهُوَ
__________
(1) المنهاج 1 / 110.
(7/189)
مَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارُ
الإِْسْرَاءِ، مِنْ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ،
وَجَعْلِهَا شَرْعًا عَامًّا لأَِهْل الآْفَاقِ، لاَ تَفْضِيل بَيْنَ
قُطْرٍ وَقُطْرٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ
مُصَحَّحَانِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالأَْرْجَحُ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ، لاَ
سِيَّمَا إِذَا قَال بِهِ إِمَامٌ مِنَ الأَْئِمَّةِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَل يَنْوِي الْقَضَاءَ أَوْ لاَ يَنْوِيهِ؟
ذَكَرَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَنْوِي الْقَضَاءَ لِفَقْدِ
وَقْتِ الأَْدَاءِ، وَاعْتَرَضَهُ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ
يَنْوِ الْقَضَاءَ يَكُونُ أَدَاءً، ضَرُورَةً لاَ وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا،
وَهِيَ لَيْسَتْ أَدَاءً؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي صُلِّيَتْ فِيهِ
لَيْسَ وَقْتًا لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ، بَل وَقْتٌ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ. (1)
وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: افْتِرَاضُ أَنَّ الْوَقْتَ
مَوْجُودٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، وَهَذَا
بِخِلاَفِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ
الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا مِنْ مَذْهَبِهِمْ. (2)
أَمَّا الْبِلاَدُ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا وَقْتُ الظُّهْرِ، فَيَبْلُغُ
ظِل الشَّيْءِ مِثْلَهُ بَعْدَ زَوَال الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ
بِوَقْتٍ قَصِيرٍ لاَ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْمُصَلِّي مِنْ صَلاَةِ
الظُّهْرِ، فَلَمْ نَجِدْ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ نَصًّا عَلَى حُكْمِ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَوْقَاتُ الْكَرَاهِيَةِ
انْظُرْ: أَوْقَاتَ الصَّلاَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 242، 243.
(2) واللجنة ترى أن الأخذ بالرأي الثاني أقرب إلى مقاصد الشريعة ألا وهو
الذي يؤيده حديث الدجال، وفي الموضوع مسائل عصرية يرجع إليها في ملحق
المسائل المستجدة
(7/190)
أَوْقَاتٌ
انْظُرْ: أَوْقَاتَ الصَّلاَةِ
أَوْقَاصٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الأَْوْقَاصُ: جَمْعُ وَقَصٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَقَدْ تَسْكُنُ
الْقَافُ، وَالْوَقَصُ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: قِصَرُ الْعُنُقِ،
كَأَنَّمَا رَدٌّ فِي جَوْفِ الصَّدْرِ. وَالْكَسْرُ: يُقَال: وُقِصَتْ
عُنُقُهُ أَيْ: كُسِرَتْ وَدَقَّتْ. (1)
وَقَدِ اسْتُعْمِل فِي الشَّرْعِ: لِمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي
أَنْصِبَةِ زَكَاةِ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَوْ هُوَ: مَا
بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ فِي الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، أَوْ فِي الْبَقَرِ
خَاصَّةً، وَهُوَ وَاحِدُ الأَْوْقَاصِ.
فَمَثَلاً إِذَا بَلَغَتِ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ، فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى
أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى
وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا شَاتَانِ. فَالثَّمَانُونَ الَّتِي بَيْنَ
الأَْرْبَعِينَ وَبَيْنَ الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَصٌ. (2)
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، والقاموس مادة: " وقص ".
(2) شرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 443 ط النصر، والعناية على الهداية 1
/ 494 ط الأميرية، وبدائع الصنائع 2 / 62 ط الجمالية، وتبيين الحقائق 1 /
259 ط دار المعرفة، وابن عابدين 2 / 20 ط المصرية.
(7/190)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْشْنَاقُ:
2 - الأَْشْنَاقُ: جَمَعَ شَنَقٍ، هَذَا وَجَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ
وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الشَّنَقَ بِفَتْحَتَيْنِ: مَا
بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول: هُوَ الْوَقَصُ، وَبَعْضُ
الْفُقَهَاءِ يَخُصُّ الشَّنَقَ بِالإِْبِل، وَالْوَقَصَ بِالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ.
وَفَسَّرَ مَالِكٌ الشَّنَقَ بِمَا يُزَكَّى مِنَ الإِْبِل بِالْغَنَمِ.
كَالْخَمْسِ مِنَ الإِْبِل فَفِيهَا شَاةٌ، وَالْعَشْرِ فِيهَا شَاتَانِ،
وَالْخَمْسَ عَشْرَةَ فِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ، وَالْعِشْرِينَ فِيهَا
أَرْبَعٌ. (1)
ب - الْعَفْوُ:
3 - يُقَال لِمَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا: الْعَفْوُ، وَهُوَ فِي
اللُّغَةِ مَصْدَرُ عَفَا، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْمَحْوُ وَالإِْسْقَاطُ.
(2)
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ كَالْوَقَصِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ
الَّذِي يَفْصِل بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ فِي زَكَاةِ النَّعَمِ، أَوْ فِي
كُل الأَْمْوَال، وَسُمِّيَ عَفْوًا لأَِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، أَيْ لاَ
زَكَاةَ فِيهِ. (3)
__________
(1) المصباح والقاموس ولسان العرب مادة: " شنق "، والعدوي على الرسالة 1 /
439 ط دار المعرفة، والمدونة 1 / 310 ط السعادة، ومواهب الجليل 2 / 257 ط
النجاح، وحاشية الجمل 2 / 221 ط التراث، وروضة الطالبين 2 / 153 ط المكتب
الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 189 ط النصر.
(2) القاموس المحيط، والمصباح مادة: " عفو ".
(3) تبيين الحقائق 1 / 260 ط دار المعرفة، وابن عابدين 2 / 20 ط المصرية،
وكشاف القناع 2 / 189 ط النصر.
(7/191)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ
الْبَحْثِ:
أَوْقَاصُ الإِْبِل:
4 - يُبْحَثُ عَنِ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالأَْوْقَاصِ فِي مُصْطَلَحِ
(زَكَاةٍ) أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِزَكَاةِ النَّعَمِ، وَهِيَ
الإِْبِل وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، إِذِ الأَْوْقَاصُ كَمَا سَبَقَ: مَا
بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ مِنْ كُل الأَْنْعَامِ، وَالْمُرَادُ
بِالْفَرِيضَتَيْنِ النِّصَابَانِ. فَمَا بَيْنَ كُل نِصَابَيْنِ
يُعْتَبَرُ وَقْصًا. هَذَا. وَالأَْوْقَاصُ فِي الإِْبِل عَلَى خَمْسِ
مَرَاتِبَ:
الأُْولَى: الأَْرْبَعَةُ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ
الشَّاةُ وَهِيَ الْخَمْسُ مِنَ الإِْبِل، وَالشَّاتَانِ وَهِيَ الْعَشْرُ،
وَالثَّلاَثُ شِيَاهٍ وَهِيَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالأَْرْبَعُ شِيَاهٍ
وَهِيَ الْعِشْرُونَ، وَبِنْتُ الْمَخَاضِ وَهِيَ الْخَمْسُ
وَالْعِشْرُونَ.
الثَّانِيَةُ: الْعَشَرَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ مَا تَجِبُ
فِيهِ بِنْتُ الْمَخَاضِ، وَهِيَ الْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ، وَمَا تَجِبُ
فِيهِ بِنْتُ اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالثَّلاَثُونَ.
الثَّالِثَةُ: التِّسْعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ مَا تَجِبُ
فِيهِ بِنْتَ اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ وَالثَّلاَثُونَ، وَمَا تَجِبُ
فِيهِ الْحِقَّةُ، وَهِيَ السِّتُّ وَالأَْرْبَعُونَ.
الرَّابِعَةُ: الأَْرْبَعَ عَشْرَةَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ مَا
تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّةُ وَهِيَ السِّتُّ وَالأَْرْبَعُونَ، وَمَا تَجِبُ
فِيهِ الْجَذَعَةُ وَهِيَ الإِْحْدَى وَالسِّتُّونَ. وَهِيَ الَّتِي
تَفْصِل أَيْضًا بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْجَذَعَةُ وَهِيَ الإِْحْدَى
وَالسِّتُّونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ بِنْتَا اللَّبُونِ وَهِيَ السِّتُّ
وَالسَّبْعُونَ، وَالَّتِي تَفْصِل أَيْضًا بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا
تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّتَانِ وَهِيَ الإِْحْدَى وَالتِّسْعُونَ.
الْخَامِسَةُ: التِّسْعُ وَالْعِشْرُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ
مَا تَجِبُ فِيهِ الْحِقَّتَانِ وَهِيَ الإِْحْدَى وَالتِّسْعُونَ،
(7/191)
وَمَا تَجِبُ فِيهِ ثَلاَثُ بَنَاتِ
لَبُونٍ وَهِيَ الإِْحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ عِنْدَ ابْنِ
الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، إِذْ زِيَادَةُ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ
وَالْعِشْرِينَ تُؤَثِّرُ عِنْدَهُمْ فِي تَغْيِيرِ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ زِيَادَةَ الْوَاحِدَةِ
عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لاَ تُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ الْوَاجِبِ،
وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ بِزِيَادَةِ خَمْسٍ،
فَيَسْتَمِرُّ أَخْذُ الْحِقَّتَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ.
فَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْوَقَصِ عَلَى هَذَا
الْقَوْل تَكُونُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ.
وَالَّذِي ارْتَضَاهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ
الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ
الزَّائِدُ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ السَّاعِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ
الْحِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثِ بَنَاتِ لَبُونٍ. (1) وَالتَّفْصِيل مَعَ
الأَْدِلَّةِ وَمَا قِيل فِيهَا مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ) .
أَوْقَاصُ الْبَقَرِ:
5 - الأَْوْقَاصُ فِي الْبَقَرِ لاَ تَخْرُجُ عَنْ عَدَدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التِّسْعَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ مَا يَجِبُ فِيهِ
التَّبِيعُ أَوِ التَّبِيعَةُ، وَهُوَ الثَّلاَثُونَ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ
الْمُسِنَّةُ أَوِ الْمُسِنُّ وَهُوَ الأَْرْبَعُونَ، وَهُوَ الَّتِي
تَقَعُ أَيْضًا بَعْدَ الْعَدَدِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْوَاجِبُ
بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ اتِّفَاقًا وَهُوَ السِّتُّونَ، وَمَا فَوْقَهَا
كَالتِّسْعَةِ الَّتِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ. وَالسَّبْعِينَ
وَالثَّمَانِينَ.
وَهَكَذَا. (2)
__________
(1) حاشية العدوي على الرسالة 1 / 439 - 441 ط دار المعرفة، وتبيين الحقائق
1 / 260 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 2 / 151 ط المكتب الإسلامي، وكشاف
القناع 2 / 184 - 186 و 189 ط النصر
(2) تبيين الحقائق 1 / 261، 262 ط دار المعرفة، وحاشية العدوي على الرسالة
1 / 441، 442 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 2 / 152 ط المكتب الإسلامي،
وكشاف القناع 2 / 191 ط النصر.
(7/192)
الثَّانِي: التِّسْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ
الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْمُسِنَّةُ أَوِ
الْمُسِنُّ عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الأَْرْبَعُونَ، وَالْعَدَدُ
الَّذِي يَتَغَيَّرُ بَعْدَهُ الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ عَشْرَةٍ وَهُوَ
السِّتُّونَ، فَإِنَّهَا وَقَصٌ لاَ زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ. (1)
هَذَا وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ فِي الْبَقَرِ إِذَا زَادَ عَدَدُهَا عَلَى الأَْرْبَعِينَ.
سَيَأْتِي ذِكْرُهَا.
أَوْقَاصُ الْغَنَمِ:
6 - الأَْوْقَاصُ فِي الْغَنَمِ تَكُونُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: الثَّمَانُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ مَا تَجِبُ فِيهِ
الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ وَهِيَ الأَْرْبَعُونَ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ
الشَّاتَانِ وَهِيَ الإِْحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ.
ثَانِيًا: التِّسْعُ وَالسَّبْعُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَفْصِل بَيْنَ مَا
تَجِبُ فِيهِ الشَّاتَانِ وَهِيَ الإِْحْدَى وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الثَّلاَثُ الشِّيَاهِ وَهِيَ الْوَاحِدَةُ
بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ.
ثَالِثًا: التِّسْعُ وَالتِّسْعُونَ، وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ
الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الثَّلاَثُ الشِّيَاهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ
بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ وَقَبْل الْعَدَدِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بَعْدَهُ
الْوَاجِبُ بِزِيَادَةِ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 261، 262 ط دار المعرفة، وحاشية العدوي على الرسالة
1 / 441، 442 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 2 / 152 ط المكتب الإسلامي،
وكشاف القناع 2 / 191 ط النصر.
(7/192)
مِائَةٍ وَهُوَ الثَّلاَثُمِائَةِ،
فَيَسْتَمِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقَصُ عَلَى تِسْعٍ وَتِسْعِينَ (1) .
زَكَاةُ أَوْقَاصِ الإِْبِل:
7 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
زَكَاةِ أَوْقَاصِ الإِْبِل قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لاَ زَكَاةَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا
تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَقَطْ؛ وَلأَِنَّ الْوَقَصَ عَفْوٌ بَعْدَ
النِّصَابِ كَمَا هُوَ عَفْوٌ أَيْضًا قَبْل النِّصَابِ، فَالأَْرْبَعَةُ
الْوَاقِعَةُ بَعْدَ الْخَمْسَةِ وَقَبْل الْعَشَرَةِ عَفْوٌ، إِذْ هِيَ
كَالأَْرْبَعَةِ الْوَاقِعَةِ قَبْل الْخَمْسِ. وَهَذَا الْقَوْل هُوَ
قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ قَوْلَيْنِ
فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا فِي
الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ. (2)
الثَّانِي: أَنَّهَا تُزَكَّى، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا الْقَوْل الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ
الإِْمَامُ مَالِكٌ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ
الْبُوَيْطِيِّ، وَدَلِيل هَذَا الْقَوْل حَدِيثُ أَنَسٍ: فِي أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ مِنَ الإِْبِل فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ فِي كُل خَمْسٍ
شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ
فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، (3) فَجَعَل الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ
وَمَا زَادَ. وَلأَِنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فَلَمْ يَكُنْ عَفْوًا،
كَالزِّيَادَةِ عَلَى نِصَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. (4)
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 263، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 442، وروضة
الطالبين 2 / 153، وكشاف القناع 2 / 194.
(2) ابن عابدين 2 / 20، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 439، والمهذب 1 /
152.
(3) حديث أنس: " في أربع وعشرين من الإبل. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 317 ط السلفية) .
(4) ابن عابدين 2 / 20 ط المصرية، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 439،
والمهذب 1 / 152.
(7/193)
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلاَفِ - كَمَا
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ - فِيمَنْ مَلَكَ تِسْعًا مِنَ
الإِْبِل، فَهَلَكَ بَعْدَ الْحَوْل مِنْهَا أَرْبَعَةٌ لَمْ يَسْقُطْ
شَيْءٌ عَلَى الأَْوَّل، وَيَسْقُطُ عَلَى الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِ
شَاةٍ. (1)
هَذَا وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الأَْوْقَاصَ لاَ
زَكَاةَ فِيهَا قَوْلاً وَاحِدًا؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ
بِالنِّصَابِ فَقَطْ، فَلَوْ كَانَ لَهُ تِسْعُ إِبِلٍ مَغْصُوبَةٍ
حَوْلاً، فَخَلَصَ مِنْهَا بَعِيرًا، لَزِمَهُ خُمُسِ شَاةٍ. (2)
زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ مَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِينَ
إِلَى السِّتِّينَ مِنَ الْبَقَرِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَقْصٌ لاَ زَكَاةَ فِيهَا، وَهُوَ
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَدَلِيل هَذَا
الْقَوْل أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل
ثَلاَثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُل
أَرْبَعِينَ مُسِنًّا أَوْ مُسِنَّةً، فَقَالُوا: الأَْوْقَاصَ، فَقَال:
مَا أَمَرَنِي فِيهَا بِشَيْءٍ، وَسَأَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنِ الأَْوْقَاصِ
فَقَال: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ (3) .
وَفَسَّرُوهَا بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ؛ وَلأَِنَّ
الأَْصْل فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُل وَاجِبَيْنِ وَقْصٌ،
__________
(1) ابن عابدين 2 / 20.
(2) كشاف القناع 2 / 189.
(3) حديث: " لما بعث رسول الله. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 99 - ط شركة
الطباعة الفنية) والبزار كما في مجمع الزوائد (3 / 73 - ط دار السعادة)
وقال الهيثمي: لم يتابع بقية - يعني ابن الوليد - على رفعه إلا الحسن بن
عمارة والحسن ضعيف، وقد روي عن عطاء مرسلا.
(7/193)
لأَِنَّ تَوَالِيَ الْوَاجِبَاتِ غَيْرُ
مَشْرُوعٍ فِيهَا، لاَ سِيَّمَا فِيمَا يُؤَدِّي إِلَى التَّشْقِيصِ فِي
الْمَوَاشِي. (1)
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الأَْصْل عَنْهُ -
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ - أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِينَ
يَجِبُ فِيهِ بِحِسَابِهِ إِلَى السِّتِّينَ، فَفِي الْوَاحِدَةِ
الزَّائِدَةِ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ التَّبِيعِ،
وَفِي الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثَا عُشْرِ تَبِيعٍ
وَهَكَذَا.
وَدَلِيل هَذَا الْقَوْل هُوَ أَنَّ الْمَال سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَنَصْبُ
النِّصَابِ بِالرَّأْيِ لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا إِخْلاَؤُهُ عَنِ الْوَاجِبِ
بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَهُوَ غَيْرُ
ثَابِتٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فِي الصَّحِيحِ.
(2) الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ
عَنْهُ - وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ - أَنَّهُ لاَ شَيْءَ فِي
الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا
مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ.
وَدَلِيل هَذَا الْقَوْل هُوَ أَنَّ الأَْوْقَاصَ مِنَ الْبَقَرِ تِسْعٌ
تِسْعٌ، كَمَا قَبْل الأَْرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ، فَكَذَا هُنَا.
(3) :
زَكَاةُ أَوْقَاصِ الْغَنَمِ:
9 - وَلاَ زَكَاةَ فِي أَوْقَاصِ الْغَنَمِ بِالاِتِّفَاقِ (4)
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 262، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 441، 442، وروضة
الطالبين 2 / 152، وكشاف القناع 2 / 191.
(2) تبيين الحقائق 1 / 262.
(3) تبيين الحقائق 1 / 262، وفتح القدير 1 / 499، 500، وبدائع الصنائع 2 /
28، والمبسوط 2 / 187.
(4) كشاف القناع 2 / 194، وتبيين الحقائق 1 / 263، وروضة الطالبين 2 / 153.
(7/194)
أَوْقَافٌ
انْظُرْ وَقْفٌ.
أُوقِيَّةٌ
انْظُرْ مَقَادِيرَ.
أَوْلَوِيَّةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الأَْوْلَوِيَّةُ لُغَةً: مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ لِلأَْوَّل، أَيْ كَوْنُ
الشَّيْءِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَيُقَال: هُوَ أَوْلَى بِكَذَا: أَيْ
أَحْرَى بِهِ وَأَجْدَرُ وَأَقْرَبُ وَأَحَقُّ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلِيِّ:
وَهُوَ الْقُرْبُ. (1) وَقَدِ اسْتَعْمَل الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ
الأَْوْلَى بِمَعْنَى: الأَْحْرَى وَالأَْفْضَل، إِلاَّ أَنَّ أَفْعَل
التَّفْضِيل هُنَا عَلَى غَيْرِ بَابِهِ، بِدَلِيل أَنَّ مُقَابِل
الأَْوْلَى - وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِخِلاَفِ الأَْوْلَى - لاَ
فَضْل فِيهِ، بَل فِيهِ نَوْعُ كَرَاهَةٍ خَفِيفَةٍ.
كَمَا اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الأَْوْلَى أَيْضًا بِمَعْنَى
__________
(1) التاج والمصباح ومفردات الراغب ونهاية ابن الأثير مادة: " ولي "،
والبحر المحيط لأبي حيان 8 / 71.
(7/194)
الأَْحَقِّ، عَلَى غَيْرِ بَابِ أَفْعَل
التَّفْضِيل أَيْضًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلشَّيْءِ دُونَ
غَيْرِهِ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً:
2 - يُعَبِّرُ الأُْصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا عَنِ النَّدْبِ
الْخَفِيفِ بِالأَْوْلَى، وَقَدْ يَقُولُونَ: إِنَّ الأَْمْرَ عَلَى سَبِيل
الأَْوْلَوِيَّةِ. (2)
ثَانِيًا:
3 - الأَْمْرُ بِالشَّيْءِ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ فِي
الْجُمْلَةِ، فَالأَْمْرُ بِفِعْل الْمَنْدُوبَاتِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ
النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَرْكُ الْمَنْدُوبِ لاَ
يَسْتَوْجِبُ إِثْمًا، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّرْكِ بِأَنَّهُ خِلاَفُ
الأَْوْلَى.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ خِلاَفَ الأَْوْلَى فَقَدْ
أَسَاءَ. وَالإِْسَاءَةُ عِنْدَهُمْ دُونَ الْكَرَاهَةِ، أَوْ أَفْحَشُ،
أَوْ أَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنَ كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْرِيمِ. (3)
ثَالِثًا: الدَّلاَلَةُ وَالْفَحْوَى:
4 - مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلاَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ " الدَّلاَلَةُ
وَالْفَحْوَى " وَهِيَ: ثُبُوتُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ
لِفَهْمِ مَنَاطِ الْحُكْمِ بِاللُّغَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلاَ تَقُل
لَهُمَا أُفٍّ} (4)
وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ؛ لأَِجْل أَنَّ مَنَاطَ النَّهْيِ
عَنْهُ هُوَ الإِْيذَاءُ، وَهَذَا مَفْهُومٌ لُغَةً، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ
إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ، فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمِنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 374 ط الأولى، والقليوبي 3 / 129، وشرح جمع الجوامع 1 /
81 ط مصطفى الحلبي، وفواتح الرحموت 1 / 409.
(2) شرح جمع الجوامع 1 / 81، وابن عابدين 1 / 374.
(3) ابن عابدين 1 / 375 و 381، والهداية 1 / 55، 187 ط الحلبي.
(4) سورة الإسراء / 23.
(7/195)
جُزْئِيَّاتِهِ الضَّرْبُ فَيَكُونُ
مَنْهِيًّا عَنْهُ أَيْضًا، وَلاَ يَجِبُ فِي الدَّلاَلَةِ أَوْلَوِيَّةُ
الْمَسْكُوتِ فِي تَحَقُّقِ الْمَنَاطِ فِيهِ.
وَقِيل: إِنَّهُ تَنْبِيهٌ بِالأَْدْنَى عَلَى الأَْعْلَى فَتُشْتَرَطُ
الأَْوْلَوِيَّةُ عَلَى هَذَا، وَيَخْرُجُ مَا فِيهِ مُسَاوَاةٌ،
وَيُسَمَّى الأَْوَّل عِنْدَئِذٍ فَحْوَى الْخِطَابِ، كَمَا يُطْلَقُ
عَلَيْهِ (الْمَفْهُومُ الأَْوَّل) وَيُسَمَّى الثَّانِي (لَحْنُ
الْخِطَابِ) . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنَ
الْخِطَابِ مُتَرَادِفَانِ. (1)
رَابِعًا: قِيَاسُ الأَْوْلَى:
5 - مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ: الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَهُوَ: مَا قُطِعَ
فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، أَوْ كَانَ تَأْثِيرُ الْفَارِقِ فِيهِ
احْتِمَالاً ضَعِيفًا. فَالأَْوَّل كَقِيَاسِ الأَْمَةِ عَلَى الْعَبْدِ
فِي تَقْوِيمِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ الْمُعْتَقِ الْمُوسِرِ
وَعِتْقُهَا عَلَيْهِ. وَمِثَال مَا كَانَ فِيهِ تَأْثِيرُ الْفَارِقِ
احْتِمَالاً ضَعِيفًا: قِيَاسُ الْعَمْيَاءِ عَلَى الْعَوْرَاءِ فِي
الْمَنْعِ مِنَ التَّضْحِيَةِ، حَيْثُ إِنَّ الْعَمْيَاءَ تُرْشَدُ
لِلْمَرْعَى الْحَسَنِ، بِخِلاَفِ الْعَوْرَاءِ، فَإِنَّهَا تُوكَل إِلَى
بَصَرِهَا - وَهُوَ نَاقِصٌ - فَلاَ تَسْمَنُ، فَيَكُونُ الْعَوَرُ
مَظِنَّةَ الْهُزَال. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ فِي عَدَمِ
الإِْجْزَاءِ نَقْصُ الْجَمَال بِسَبَبِ نَقْصِ تَمَامِ الْخِلْقَةِ، لاَ
نَقْصِ السِّمَنِ.
وَقِيل: الْجَلِيُّ: الْقِيَاسُ الأَْوَّل، كَقِيَاسِ الضَّرْبِ عَلَى
التَّأْفِيفِ فِي التَّحْرِيمِ، وَعَلَى التَّعْرِيفِ الأَْوَّل يَصْدُقُ
بِالأَْوْلَى كَالْمُسَاوِي. (2)
وَهُنَاكَ خِلاَفٌ فِي كَوْنِ قِيَاسِ الأَْوَّل مِنَ الْقِيَاسِ
الأُْصُولِيِّ أَوِ اللُّغَوِيِّ، يُنْظَرُ فِي مَحَلِّهِ. (3) وَتَمَامُ
الْكَلاَمِ عَلَى مَا سَبَقَ مَحَلُّهُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 409، وشرح جمع الجوامع 1 / 240، 241.
(2) شرح جمع الجوامع 2 / 340.
(3) شرح جمع الجوامع 1 / 241.
(7/195)
خَامِسًا:
6 - مِنَ الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الأَْوْلَوِيَّةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ أَحْيَانًا كَلِمَةُ (لاَ بَأْسَ) ، لَكِنِ الْغَالِبُ
اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تُسْتَعْمَل
فِي الْمَنْدُوبِ أَحْيَانًا، فَإِنْ قَالُوا: لاَ بَأْسَ بِكَذَا دَل
عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ غَيْرُهُ غَالِبًا. (1)
مِنْ مَوَاطِنِ الْبَحْثِ:
7 - يَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ مَبَاحِثَ الأَْوْلَوِيَّةِ وَالأَْوْلَى
فِي مَبَاحِثِ الْحُكْمِ وَأَنْوَاعِهِ، وَفِي مَبَاحِثِ الدَّلاَلَةِ
وَأَنْوَاعِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ. كَمَا يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ
بِمُنَاسَبَةِ الْكَلاَمِ عَلَى صِيغَةِ " لاَ بَأْسَ " وَفِي مَوَاضِعَ
مُتَفَرِّقَةٍ بِحَسَبِ الْمُنَاسَبَاتِ كَالأَْوْلَى بِالإِْمَامَةِ
وَبِالصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدَّفْنِ وَالذَّبْحِ فِي الْحَجِّ
وَبِالْحَضَانَةِ وَتَرْبِيَةِ اللَّقِيطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَوْلِيَاءٌ
انْظُرْ: وِلاَيَةٌ.
إِيَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيَاسُ مِنَ الشَّيْءِ، وَالْيَأْسُ مِنْهُ: انْقِطَاعُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 81، 442.
(7/196)
الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ وَالأَْمَل فِيهِ
(وَالْيَأْسُ) مَصْدَرُ يَئِسَ يَيْأَسُ فَهُوَ يَائِسٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي
كَلاَمِ الْعَرَبِ كَثِيرًا: أَيِسَ يَيْأَسُ فَهُوَ آيِسٌ. (1)
هَذَا، وَيُقَال لِلرَّجُل يَائِسٌ وَآيِسٌ، وَلِلْمَرْأَةِ يَائِسَةٌ
وَآيِسَةٌ، لَكِنْ إِنْ أُرِيدَ يَأْسُهَا مِنَ الْحَيْضِ خَاصَّةً قِيل:
هِيَ آيِسٌ، (2) بِدُونِ تَاءٍ. وَهُوَ الأَْحْرَى عَلَى قَوَاعِدِ
اللُّغَةِ، وَيَرِدُ فِيهَا أَيْضًا فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ كَثِيرًا:
آيِسَةٌ. (3)
هَذَا، وَيَرِدُ الْيَأْسُ وَالإِْيَاسُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ
بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل، وَهُوَ اصْطِلاَحٌ لَهُمْ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ
الْحَيْضِ عَنِ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ وَالطَّعْنِ فِي السِّنِّ.
وَالثَّانِي: هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْمُتَقَدِّمُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ: الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ: تَوْبَةُ
الْيَائِسِ أَيْ تَوْبَةُ مَنْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ. وَفِيمَا يَلِي
بَيَانُ أَحْكَامِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
أَوَّلاً:
الإِْيَاسُ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ الْحَيْضِ بِسَبَبِ الْكِبَرِ:
2 - الإِْيَاسُ دُورٌ مِنْ حَيَاةِ الْمَرْأَةِ، يَنْقَطِعُ فِيهِ
الْحَيْضُ
__________
(1) تاج العروس واللسان، مادة: " أيس "، والمطلع على أبواب المقنع ص 348،
ورد المحتار 1 / 201، 202، والمغرب في ترتيب المعرب للمطرزي ص 509. ومنه
حديث: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون " أخرجه مسلم (4 / 2166 - ط
الحلبي) والترمذي (4 / 330 - ط الحلبي) .
(2) المغني لابن قدامة 7 / 503، الطبعة الثالثة وما يوافقها.
(3) ابن عابدين 5 / 240، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 3 / 348، والمغني
7 / 458، 459.
(7/196)
وَالْحَمْل، بِسَبَبِ تَغَيُّرَاتٍ
تَطْرَأُ عَلَى جِسْمِهَا.
وَيُرَافِقُ هَذَا الاِنْقِطَاعَ اضْطِرَابٌ فِي وَظَائِفِ الأَْعْضَاءِ،
وَاضْطِرَابَاتٌ نَفْسِيَّةٌ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُعُودُ:
3 - قُعُودُ الْمَرْأَةِ بِمَعْنَى إِيَاسِهَا. فَقَدْ فَسَّرَهُ أَهْل
اللُّغَةِ بِانْقِطَاعِ الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ عَنْهَا. قَال ابْنُ
السِّكِّيتِ: امْرَأَةٌ قَاعِدٌ إِذَا قَعَدَتْ عَنِ الْمَحِيضِ. فَإِذَا
أَرَدْتَ الْقُعُودَ قُلْتَ: هِيَ قَاعِدَةٌ. وَجَمْعُهَا قَوَاعِدُ.
وَقَدْ فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} (2)
بِمَنِ انْقَطَعَ عَنْهُنَّ الْحَيْضُ. وَقَال الزَّجَّاجُ: هُنَّ
اللاَّتِي قَعَدْنَ عَنِ الأَْزْوَاجِ. (3)
ب - الْعُقْرُ وَالْعُقُمُ:
4 - الْمَرْأَةُ الْعَاقِرُ: هِيَ الَّتِي لاَ تَلِدُ. وَيُقَال لِلرَّجُل
أَيْضًا: عَاقِرٌ، إِنْ كَانَ لاَ يُولَدُ لَهُ. وَالْعُقُمُ أَيْضًا فِي
الْمَرْأَةِ وَالرَّجُل، يُقَال: قَدْ عَقُمَتِ الْمَرْأَةُ بِمَعْنَى:
أَعْقَمَهَا اللَّهُ. فَهِيَ عَقِيمٌ وَمَعْقُومَةٌ. وَيُقَال لِلرَّجُل
أَيْضًا: عَقِيمٌ، إِنْ كَانَ لاَ يُولَدُ لَهُ. (4)
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ يُقَال لَهَا: عَاقِرٌ وَعَقِيمٌ، إِذَا
كَانَتْ لاَ تَحْمِل وَلَوْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ، وَبِهَذَا تُخَالِفُ
الآْيِسَةَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَكُونُ آيِسَةً إِلاَّ إِذَا
امْتَنَعَ عَنْهَا الْحَيْضُ بِسَبَبِ السِّنِّ، ثُمَّ إِنِ امْتَنَعَ
الْحَيْضُ بِسَبَبِ ذَلِكَ امْتَنَعَ الْحَمْل عَادَةً وَلاَ بُدَّ. فَكُل
آيِسَةٍ عَقِيمٌ، وَلاَ عَكْسَ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة النور / 60.
(3) لسان العرب، والمصباح، والتاج.
(4) اللسان.
(7/197)
ج - امْتِدَادُ الطُّهْرِ:
5 - قَدْ يُمْتَنَعُ الْحَيْضُ عَنِ الْمَرْأَةِ قَبْل سِنِّ الإِْيَاسِ
لِعَارِضٍ مِنْ هُزَالٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ رَضَاعٍ، فَلاَ يُسَمَّى ذَلِكَ
يَأْسًا. وَقَدْ يَكُونُ امْتِنَاعُهُ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، فَيُقَال
لَهَا فِي كُل تِلْكَ الأَْحْوَال (مُمْتَدَّةُ الطُّهْرِ) أَوْ
(مُنْقَطِعَةُ الْحَيْضِ) . وَفَرَّقَ فِي (الدُّرِّ الْمُنْتَقَى) بَيْنَ
هَذَيْنِ الاِصْطِلاَحَيْنِ فَقَال: مُنْقَطِعَةُ الْحَيْضِ: هِيَ الَّتِي
بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ قَطُّ. وَمُرْتَفِعَةُ الْحَيْضِ: هِيَ
مَنْ حَاضَتْ وَلَوْ مَرَّةً، ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَامْتَدَّ
طُهْرُهَا، وَلِذَا تُسَمَّى مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ. (1)
سِنُّ الإِْيَاسِ:
6 - يُقَرِّرُ الأَْطِبَّاءُ أَنَّ وَظِيفَةَ الْحَمْل لَدَى الْمَرْأَةِ
تَسْتَمِرُّ لَدَيْهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ 35 عَامًا، تَتَعَطَّل لَدَيْهَا
بَعْدَهَا وَظِيفَةُ الْحَمْل وَالإِْنْجَابِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ سِنِّ الإِْيَاسِ عَلَى
أَقْوَالٍ:
(1) فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهِ. وَعَلَيْهِ فَأَيُّ سِنٍّ
رَأَتْ فِيهَا الدَّمَ فَهُوَ حَيْضٌ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ
السِّتِّينَ. وَهَذَا قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. قَالُوا: لاَ يُحَدُّ
الإِْيَاسُ بِمُدَّةٍ، بَل إِيَاسُهَا أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا لاَ
يَحِيضُ مِثْلُهَا فِيهِ. فَإِذَا بَلَغَتْهُ، وَانْقَطَعَ دَمُهَا، حُكِمَ
بِإِيَاسِهَا. فَمَا رَأَتْهُ بَعْدَ الاِنْقِطَاعِ حَيْضٌ، فَيَبْطُل بِهِ
الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ، وَتَفْسُدُ الأَْنْكِحَةُ أَيْ يَظْهَرُ
فَسَادُ نِكَاحِهَا إِنْ كَانَتِ اعْتَدَّتْ بِالأَْشْهُرِ وَتَزَوَّجَتْ،
ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ. (2)
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 240 ط بولاق الأولى. وقد عبر بعض
الحنفية بدل انقطاع الحيض في هذه الحالة بامتناع الحيض كما في ابن عابدين 2
/ 602، 606.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 606، وفتح القدير 4 / 145 ط
الميمنية.
(7/197)
(2) وَقِيل: يُحَدُّ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، هُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، قِيل فِيهِ إِنَّ عَلَيْهِ الاِعْتِمَادَ، وَإِنَّ
عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْمَشَايِخِ، فَمَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ بَعْدَهَا
فَلَيْسَ بِحَيْضٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا
خَالِصًا فَحَيْضٌ، حَتَّى يَبْطُل بِهِ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ، إِنْ
جَاءَهَا قَبْل تَمَامِ الأَْشْهُرِ لاَ بَعْدَهَا، حَتَّى لاَ تَفْسُدَ
الأَْنْكِحَةُ، قَالُوا: وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى، وَعَلَيْهِ
فَالنِّكَاحُ إِنْ وَقَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الأَْشْهُرِ ثُمَّ رَأَتِ
الدَّمَ جَائِزٌ. (1)
(3) وَقِيل يُحَدُّ بِخَمْسِينَ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ،
قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: عَلَيْهِ الْمُعَوَّل وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. (2) وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل
بِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي
بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ ".
(4) وَقِيل يُحَدُّ سِنُّ الْيَأْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل امْرَأَةٍ
بِيَأْسِ نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا مِنَ الأَْبَوَيْنِ؛ لِتَقَارُبِهِنَّ فِي
الطَّبْعِ. فَإِذَا بَلَغَتِ السِّنَّ الَّذِي يَنْقَطِعُ فِيهِ
حَيْضُهُنَّ فَقَدْ بَلَغَتْ سِنَّ الْيَأْسِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ. (3)
(5) وَالْقَوْل الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ: الْمُعْتَبَرُ سِنُّ الْيَأْسِ
لِجَمِيعِ النِّسَاءِ بِحَسَبِ مَا يَبْلُغُ الْخَبَرُ عَنْهُنَّ.
وَأَقْصَاهُ فِيمَا عُلِمَ اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيل:
سِتُّونَ. وَقِيل خَمْسُونَ. (4)
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 606، وفتح القدير 4 / 45.
(2) الدر وحاشيته 2 / 606، والمغني 1 / 460.
(3) شرح المنهاج للمحلي بحاشية القليوبي 3 / 43، والجمل على شرح المنهج 4 /
445.
(4) شرح المنهاج 3 / 43، والجمل 4 / 445.
(7/198)
(6) وَقِيل بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ بَعْضِ
الأَْجْنَاسِ وَبَعْضٍ، فَهُوَ لِلْعَرَبِيَّاتِ سِتُّونَ عَامًا،
وَلِلْعَجَمِيَّاتِ خَمْسُونَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. قَال ابْنُ
قُدَامَةَ: لأَِنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَقْوَى طَبِيعَةً. (1)
(7) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِيمَا نَقَلَهُ
الْخِرَقِيُّ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الإِْيَاسَ لَهُ حَدَّانِ: أَعْلَى
وَأَدْنَى. فَأَقَلُّهُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا خَمْسُونَ سَنَةً. وَأَعْلاَهُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَبْعُونَ. قَالُوا: فَمَنْ بَلَغَتْ سَبْعِينَ
فَدَمُهَا غَيْرُ حَيْضٍ قَطْعًا. وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْ خَمْسِينَ
فَدَمُهَا حَيْضٌ قَطْعًا. وَلاَ يُسْأَل النِّسَاءُ - أَيْ ذَوَاتُ
الْخِبْرَةِ - فِيهِمَا. وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ لِلنِّسَاءِ؛
لأَِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ. (2)
وَأَعْلاَهُ عِنْدَ أَحْمَدَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ سِتُّونَ سَنَةً،
تَيْأَسُ بَعْدَهَا يَقِينًا. وَمَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ
مِنَ الدَّمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، لاَ تَتْرُكْ لَهُ الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ.
وَتَقْضِي الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ احْتِيَاطًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ مَتَى بَلَغَتِ الْمَرْأَةُ
خَمْسِينَ فَانْقَطَعَ حَيْضُهَا عَنْ عَادَتِهَا عِدَّةَ مَرَّاتٍ
لِغَيْرِ سَبَبٍ فَقَدْ صَارَتْ آيِسَةً؛ لأَِنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ فِي
حَقِّ هَذِهِ نَادِرٌ، بِدَلِيل قِلَّةِ وُجُودِهِ، وَقَوْل عَائِشَةَ:
لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ فَإِذَا
انْضَمَّ إِلَى هَذَا انْقِطَاعُهُ عَنِ الْعَادَةِ مَرَّاتٍ حَصَل
الْيَأْسُ مِنْ وُجُودِهِ، فَلَهَا حِينَئِذٍ أَنْ تَعْتَدَّ
بِالأَْشْهُرِ، وَإِنِ انْقَطَعَ قَبْل ذَلِكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَنِ
ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ تَدْرِي مَا رَفَعَهُ - أَيْ فَتَتَرَبَّصُ
تِسْعَةَ أَشْهُرٍ لاِسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ
لِلْعِدَّةِ - وَإِنْ رَأَتِ
__________
(1) المغني 1 / 363 و 7 / 460، 461.
(2) الزرقاني على خليل في أبواب العدة 4 / 204، والشرح الكبير 2 / 273.
(7/198)
الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى
الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا فَهُوَ حَيْضٌ فِي الصَّحِيح؛
لأَِنَّ دَلِيل الْحَيْضِ الْوُجُودُ فِي زَمَنِ الإِْمْكَانِ، وَهَذَا
يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا. وَإِنْ رَأَتْهُ
بَعْدَ السِّتِّينَ فَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ لأَِنَّهُ
لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ. (1)
اشْتِرَاطُ انْقِطَاعِ الدَّمِ مُدَّةً قَبْل الْحُكْمِ بِالإِْيَاسِ:
7 - ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي سِيَاقِ الْقَوْل بِأَنَّ
سِنَّ الإِْيَاسِ 50 أَوْ 55 عَامًا، قَالُوا: يُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ
بِالإِْيَاسِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ عَنْهَا
مُدَّةً طَوِيلَةً، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي الأَْصَحِّ. قَالُوا:
وَالأَْصَحُّ أَلاَّ يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
بَعْدَ مُدَّةِ الإِْيَاسِ. بَل لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا قَبْل مُدَّةِ
الإِْيَاسِ، ثُمَّ تَمَّتْ مُدَّةُ الإِْيَاسِ، وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا
يُحْكَمُ بِإِيَاسِهَا وَتَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ. (2) وَلَمْ
يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الشَّرْطِ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا اطَّلَعْنَا
عَلَيْهِ.
إِيَاسُ مَنْ لَمْ تَحِضْ:
8 - لَمْ يَعْرِضْ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنَّصِّ عَلَيْهَا فِيمَا
اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ. فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ
الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ بِالسِّنِّ، وَاسْتَمَرَّ امْتِنَاعُ
الْحَيْضِ، فَإِنَّهَا يُحْكَمُ بِإِيَاسِهَا مَتَى بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ
عَامًا. نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْجَامِعِ. (3)
وَمُقْتَضَى إِطْلاَقِ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِإِيَاسِهَا
إِلاَّ مَتَى بَلَغَتْ سِنَّ الإِْيَاسِ الْمُعْتَبَرِ، كَغَيْرِهَا.
__________
(1) المغني 7 / 461.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 607.
(3) ابن عابدين 2 / 602، 606.
(7/199)
السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي تَطْلِيقِ
الآْيِسَةِ:
9 - السُّنَّةُ فِي طَلاَقِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ
يَأْتِهَا فِيهِ زَوْجُهَا، أَوْ أَثْنَاءَ الْحَمْل. أَمَّا طَلاَقُهَا
أَثْنَاءَ الْحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، فَإِنَّهُ طَلاَقٌ
بِدْعِيٌّ. وَأَمَّا الآْيِسَةُ مِنَ الْحَيْضِ فَقَدْ قِيل: لاَ سُنَّةَ
لِطَلاَقِهَا وَلاَ بِدْعَةَ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ فِي
طَلاَقِهَا أَنْ تَطْلُقَ عَلَى رَأْسِ كُل شَهْرٍ طَلْقَةً.
وَقِيل: طَلاَقُهَا طَلاَقٌ سُنِّيٌّ وَلَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (طَلاَقٍ) .
عِدَّةُ طَلاَقِ الآْيِسَةِ:
10 - تَعْتَدُّ ذَاتُ الأَْقْرَاءِ مِنَ الطَّلاَقِ بِثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَالْحَامِل عِدَّتُهَا إِلَى وَضْعِ حَمْلِهَا، أَمَّا الَّتِي أَيِسَتْ
مِنَ الْحَيْضِ، إِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَعِدَّتُهَا مِنَ الطَّلاَقِ
ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الطَّلاَقِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ
نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} . (3)
وَالتَّفْصِيل فِي (عِدَّةٍ) .
مَنْ تَأْخُذُ حُكْمَ الآْيِسَةِ مِنَ النِّسَاءِ:
11 - إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا، وَعَرَفَتْ مَا
رَفَعَهُ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ
زَوَال الْعَارِضِ وَعَوْدَ الدَّمِ وَإِنْ طَال، إِلاَّ أَنْ تَصِيرَ فِي
سِنِّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 419، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 348، وشرح منتهى
الإرادات 3 / 134 مطبعة أنصار السنة.
(2) ابن عابدين 2 / 602، وشرح المنتهى 3 / 220، والمغني 7 / 425، 458، 459،
503.
(3) سورة الطلاق / 4.
(7/199)
الْيَأْسِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَعْتَدُّ
عِدَّةَ الآْيِسَاتِ. (1)
أَمَّا إِنْ كَانَ ارْتِفَاعُ حَيْضِهَا لِسَبَبٍ لاَ تَعْلَمُهُ،
وَكَانَتْ حُرَّةً، فَقَدْ قِيل: تَتَرَبَّصُ سَنَةً: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
لِلْحَمْل، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ كَالآْيِسَةِ. وَقِيل فِي
مُدَّةِ تَرَبُّصِهَا غَيْرُ ذَلِكَ (2) (ر: عِدَّةٌ) .
أَحْكَامُ اللِّبَاسِ وَالنَّظَرِ وَنَحْوِهِمَا بِالنِّسْبَةِ
لِلآْيِسَةِ:
12 - إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اجْتَمَعَ لَهَا مَعَ الإِْيَاسِ انْقِطَاعُ
رَجَائِهَا فِي النِّكَاحِ ثَبَتَ لَهَا نَوْعٌ مِنَ الرُّخْصَةِ فِي
كَمَال الاِسْتِتَارِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ
النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ
أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} (3) ، قَال
الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا: هُنَّ الْعُجَّزُ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ
عَنِ التَّصَرُّفِ مِنِ السِّنِّ، وَقَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ وَالْمَحِيضِ.
هَذَا قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَال أَبُو عُبَيْدَةَ: هُنَّ
اللاَّتِي قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ؛
لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْعُدُ عَنِ الْوَلَدِ، وَفِيهَا مُسْتَمْتَعٌ.
وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِهَذَا الْحُكْمِ - وَهُوَ جَوَازُ وَضْعِ
الْجِلْبَابِ أَوِ الرِّدَاءِ عَنْهُنَّ، إِذَا كَانَ مَا تَحْتَهُ مِنَ
الثِّيَابِ سَاتِرًا لِمَا يَجِبُ سِتْرُهُ - لاِنْصِرَافِ الأَْنْفُسِ
__________
(1) المغني 7 / 465.
(2) واللجنة ترى أن المرأة التي لم تبلغ سن الإياس، ولكن تحقق بما لا يبقى
معه مجال للشك امتناع الحيض والحمل في حقها، لا شك أن حكمها في الاعتداد
ونحوه حكم الآيسة ولا فرق، لأن حكم الآيسة ينطبق عليها أنها ممن (يئسن من
المحيض) ومثال ذلك أن تكون قد استؤصل منها
(3) سورة النور / 60.
(7/200)
عَنْهُنَّ، وَقِيل: لاَ بَأْسَ بِالنَّظَرِ
مِنْهَا إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ
لاَ مَذْهَبَ لِلرِّجَال فِيهِنَّ، فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ
لِغَيْرِهِنَّ، وَأُزِيل عَنْهُنَّ كُلْفَةُ التَّحَفُّظِ الْمُتْعِبَةِ
لَهُنَّ. (1)
ثَانِيًا:
الإِْيَاسُ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ
13 - الإِْيَاسُ مِنْ حُصُول بَعْضِ الأَْشْيَاءِ جَائِزٌ وَلاَ بَأْسَ
بِهِ. بَل اسْتِحْضَارُ الإِْيَاسِ مِنْ بَعْضِ الأَْشْيَاءِ الْبَعِيدَةِ
الْحُصُول قَدْ يَكُونُ رَاحَةً لِلنَّفْسِ مِنْ تَطَلُّبِهَا. وَفِي
الْحَدِيثِ أَجْمَعُ الإِْيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. (2)
وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
وَرَحْمَتِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الإِْيَاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الإِْيَاسُ مِنَ
الرِّزْقِ أَوْ نَحْوِهِ كَالْوَلَدِ، أَوْ وُجُودِ الْمَفْقُودِ، أَوْ
يَأْسِ الْمَرِيضِ مِنَ الْعَافِيَةِ، أَوْ يَأْسِ الْمُذْنِبِ مِنَ
الْمَغْفِرَةِ.
وَالإِْيَاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَقَدْ
عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ:
عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ؛ لِمَا وَرَدَ فِيهِ
مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 309، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1388 ط عيسى
الحلبي، وشرح المنتهى 3 / 5، وابن عابدين 5 / 235، والهندية 5 / 329،
والمغني 6 / 559.
(2) حديث: " أجمع الأياس مما في أيدي الناس " أخرجه أحمد (5 / 412 - ط
الميمنية) من حديث أبي أيوب الأنصاري وضعفه البوصيري في الزوائد كما في
التعليق على ابن ماجه (2 / 1396 - ط الحلبي) ، ولكن له شاهد من حديث سعد بن
أبي وقاص أخرجه الحاكم (4 / 326 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه
الذهبي.
(7/200)
اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}
(1) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ
الضَّالُّونَ} . (2)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: مَا الْكَبَائِرُ؟
فَقَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالإِْيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ،
وَالأَْمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ (3) قِيل:
وَالأَْشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا، وَبِكَوْنِهِ أَكْبَرَ
الْكَبَائِرِ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
وَالطَّبَرَانِيُّ. ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا كَانَ الْيَأْسُ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنَ الْكَبَائِرِ لأَِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ
النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ. ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ
حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ
الرَّحْمَةِ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْقُنُوطُ، بِحَسَبِ مَا دَل عَلَيْهِ
سِيَاقُ الآْيَةِ: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} (4)
وَتَارَةً يَنْضَمُّ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ عَدَمَ وُقُوعِ
الرَّحْمَةِ لَهُ يَرَى أَنَّهُ سَيُشَدِّدُ عَذَابَهُ كَالْكُفَّارِ.
وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى. (5)
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْيَأْسِ مِنَ الرِّزْقِ فِي مِثْل قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَبَّةٍ وَسَوَاءٍ ابْنَيْ
خَالِدِ لاَ تَيْأَسَا مِنَ الرِّزْقِ مَا تَهَزْهَزَتْ رُءُوسُكُمَا. (6)
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقَنُوطِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ أَوْ
__________
(1) سورة يوسف / 87.
(2) سورة الحجر / 56.
(3) حديث: " الكبائر. . . " أخرجه البزار والطبراني كما في المجمع (4 / 104
- ط المقدسي) وقال: ورجاله موثقون.
(4) سورة فصلت / 49.
(5) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر بتصرف قليل 1 / 82 - 83.
(6) حديث: " لا تيأس من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما " أخرجه أحمد (3 / 469 - ط
الميمنية) وابن ماجه (2 / 1394 - ط الحلبي) وقال البوصيري: إسناده صحيح.
(7/201)
حُلُول الْمُصِيبَةِ فِي مِثْل قَوْله
تَعَالَى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآِيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . (1)
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْيَأْسِ مِنْ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فِي قَوْله
تَعَالَى: {قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . (2)
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ،
فَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُل شَيْءٍ. وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ فَالإِْنَابَةُ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَطْلُوبَةٌ، وَبَابُ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنَ
الذُّنُوبِ جَمِيعًا مَفْتُوحٌ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، أَيْ حِينَ
يَيْأَسُ مِنَ الْحَيَاةِ.
فَتَوْبَةُ الْيَائِسِ - وَهِيَ تَوْبَةُ مَنْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ
كَالْمُحْتَضَرِ - الْمَشْهُورُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، كَإِيمَانِ
الْيَائِسِ. وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ. وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
بَيْنَ تَوْبَةِ الْيَائِسِ وَإِيمَانِ الْيَائِسِ، فَقَالُوا بِقَبُول
الأَْوَّل دُونَ الثَّانِي (3) (ر: احْتِضَارٌ. تَوْبَةٌ) .
أَمَّا مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْيَائِسُ حَقًّا مِنْ
مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي
وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، (4) بِخِلاَفِ مَنْ مَاتَ عَلَى
الإِْيمَانِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُرْجَى لَهُ.
__________
(1) سورة الروم / 36، 37.
(2) سورة الزمر / 53.
(3) وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 571 و 3 / 289.
(4) سورة العنكبوت / 23.
(7/201)
أَيَامَى
انْظُرْ نِكَاحٌ.
إِيتَارٌ
انْظُرْ وَتْرٌ.
إِيتِمَانٌ
انْظُرْ أَمَانَةٌ.
إِيجَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيجَابُ: لُغَةً مَصْدَرُ أَوْجَبَ. يُقَال أَوْجَبَ الأَْمْرَ
عَلَى النَّاسِ إِيجَابًا: أَيْ أَلْزَمَهُمْ بِهِ إِلْزَامًا، وَيُقَال:
وَجَبَ الْبَيْعُ يَجِبُ وُجُوبًا أَيْ: لَزِمَ وَثَبَتَ، وَأَوْجَبَهُ
إِيجَابًا: أَلْزَمَهُ إِلْزَامًا. (1)
وَاصْطِلاَحًا: يُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا:
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير في مادة: " وجب ".
(7/202)
طَلَبُ الشَّارِعِ الْفِعْل عَلَى سَبِيل
الإِْلْزَامِ، وَهُوَ بِهَذَا يُخَالِفُ الاِخْتِيَارَ.
وَمِنْهَا: التَّلَفُّظُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: الإِْيجَابُ: هُوَ مَا صَدَرَ أَوَّلاً مِنْ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ بِصِيغَةٍ صَالِحَةٍ لإِِفَادَةِ الْعَقْدِ، وَالْقَبُول:
مَا صَدَرَ ثَانِيًا مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ.
وَيَرَى غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْيجَابَ: مَا صَدَرَ مِنَ
الْبَائِعِ، وَالْمُؤَجِّرِ، وَالزَّوْجَةِ، أَوْ وَلِيِّهَا، عَلَى
اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، سَوَاءٌ صَدَرَ أَوَّلاً أَوْ آخِرًا؛
لأَِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَيُمَلِّكُونَ: الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ
الْمَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَأْجِرَ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ، وَالزَّوْجَ
الْعِصْمَةَ، وَهَكَذَا. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَرْضُ:
2 - يَأْتِي الْفَرْضُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا بِمَعْنَى: الإِْيجَابِ
يُقَال: فَرَضَ اللَّهُ الأَْحْكَامَ فَرْضًا أَيْ أَوْجَبَهَا، وَلاَ
فَرْقَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالإِْيجَابِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَرْضُ: مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ
لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ إِذَا كَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ
شُبْهَةٌ كَالْقِيَاسِ. (2)
__________
(1) التهانوي 472، 1204، 1448، وفتح القدير 2 / 344، والمغني 3 / 561 ط
الرياض، والمجموع 7 / 165 ط السعودية.
(2) المصباح المنير في المادة، والتعريفات للجرجاني، والمستصفى للغزالي 1 /
66، ومسلم الثبوت 1 / 59.
(7/202)
ب - الْوُجُوبُ:
وَهُوَ أَثَرُ الإِْيجَابِ، فَالإِْيجَابُ مِنَ الْحَاكِمِ بِهِ،
وَالْوُجُوبُ صِفَةُ الْفِعْل الْمَحْكُومِ فِيهِ، فَمَا أَوْجَبَهُ
اللَّهُ صَارَ بِإِيجَابِهِ وَاجِبًا.
ج - النَّدْبُ: وَهُوَ طَلَبُ الشَّارِعِ الْفِعْل لاَ عَلَى وَجْهِ
الإِْلْزَامِ بِهِ، كَصَلاَةِ النَّافِلَةِ.
مَصْدَرُ الإِْيجَابِ الشَّرْعِيِّ:
3 - الإِْيجَابُ الشَّرْعِيُّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ خِطَابُ الشَّرْعِ لِلْمُكَلَّفِينَ بِمَا
يُوجِبُهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يُوجِبُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِعْل
طَاعَةٍ بِالنَّذْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ شَرْعًا؛ لإِِيجَابِ
اللَّهِ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ، كَأَنْ يَنْذُرَ شَخْصٌ صَوْمَ أَيَّامٍ،
أَوْ حَجَّ الْبَيْتِ، أَوْ صَدَقَةً مُعَيَّنَةً.
وَيُنْظَرُ لِتَفَاصِيل أَحْكَامِ الْوَاجِبِ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
الإِْيجَابُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
4 - يَكُونُ الإِْيجَابُ بِاللَّفْظِ، وَهُوَ الأَْكْثَرُ. وَيَكُونُ
بِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنَ الأَْبْكَمِ وَنَحْوِهِ فِي غَيْرِ
النِّكَاحِ. وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل كَمَا فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ.
وَقَدْ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ. وَيَكُونُ الإِْيجَابُ بِالرِّسَالَةِ أَوِ
الرَّسُول، إِذْ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَوِ
الرَّسُول، وَعِلْمُهُ بِمَا فِيهَا، هُوَ مَجْلِسُ الإِْيجَابِ. (1)
__________
(1) الهداية 3 / 17، وفتح القدير 5 / 79، والبدائع 5 / 138، وابن عابدين 2
/ 425، 4 / 379، 5 / 421، وقليوبي وعميرة 2 / 153، 329، 3 / 130، 219، 327،
وجواهر الإكليل 1 / 233، 348.
(7/203)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ، وَالْخِلاَفُ
فِيهِ، فِي أَبْوَابِ الْمُعَامَلاَتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَخَاصَّةً
الْبُيُوعُ، وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ (إِرْسَالٍ. إِشَارَةٍ. عَقْدٍ)
.
شُرُوطُ صِحَّةِ الإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ:
5 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْيجَابِ فِي الْعُقُودِ شُرُوطٌ أَهَمُّهَا:
أَهْلِيَّةُ الْمُوجِبِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِيغَةٌ،
وَعَقْدٌ) .
خِيَارُ الإِْيجَابِ:
6 - يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - مِثْل الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ لِلْمُوجِبِ
حَقَّ الرُّجُوعِ قَبْل الْقَبُول، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ
الْمُوجِبَ لَوْ رَجَعَ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِصَاحِبِهِ قَبْل أَنْ
يُجِيبَهُ الآْخَرُ، لاَ يُفِيدُهُ رُجُوعُهُ إِذَا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ
بِالْقَبُول، وَلاَ يَمْلِكُ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ خِيَارَ
الْمَجْلِسِ، وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ رُجُوعِ الْمُوجِبِ عَنْ إِيجَابِهِ
حَتَّى بَعْدَ قَبُول الْعَاقِدِ الآْخَرِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى يَصِحُّ
رُجُوعُهُ قَبْل اتِّصَال الْقَبُول بِهِ. (1)
إِيجَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيجَارُ: مَصْدَرُ آجَرَ، وَفِعْلُهُ الثُّلاَثِيُّ أَجَرَ.
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 241، وفتح القدير 5 / 78 - 80، والمغني مع الشرح 4 /
4، وشرح الروض 2 / 5، والشرواني على التحفة 4 / 223، والبدائع 5 / 134 ط
المكتبة الإسلامية، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 155.
(7/203)
يُقَال: آجَرَ الشَّيْءُ يُؤَجِّرُهُ
إِيجَارًا. وَيُقَال: آجَرَ فُلاَنٌ فُلاَنًا دَارَهُ أَيْ: عَاقَدَهُ
عَلَيْهَا.
وَالْمُؤَاجَرَةُ: الإِْثَابَةُ وَإِعْطَاءُ الأَْجْرِ.
وَآجَرْتُ الدَّارَ أُوجِرُهَا إِيجَارًا، فَهِيَ مُؤَجَّرَةٌ.
وَالاِسْمُ: الإِْجَارَةُ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِجَارَةٌ ج 1 252)
وَالإِْيجَارُ (أَيْضًا) مَصْدَرٌ لِلْفِعْل أَوْجَرَ، وَفِعْلُهُ
الثُّلاَثِيُّ (وَجَرَ) ، يُقَال: أَوْجَرَهُ: إِذَا أَلْقَى الْوُجُورَ
فِي حَلْقِهِ. (1)
هَذَا فِي اللُّغَةِ، وَلَمْ يَخْرُجِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ
ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الإِْيجَارَ بِمَعْنَى: صَبِّ
اللَّبَنِ أَوِ الدَّوَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا فِي الْحَلْقِ. (2)
وَاشْتَهَرَ عِنْدَهُمُ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ بِمَعْنَى:
بَيْعِ الْمَنْفَعَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ إِيجَارَ لَبَنِ امْرَأَةٍ فِي
حَلْقِ طِفْلٍ رَضِيعٍ فِيمَا بَيْنَ الْحَوْلَيْنِ يَثْبُتُ بِهِ
التَّحْرِيمُ، كَارْتِضَاعِهِ مِنْ ثَدْيِهَا؛ لأَِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي
التَّحْرِيمِ هُوَ حُصُول الْغِذَاءِ بِاللَّبَنِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ
وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ رَضَاعَ إِلاَّ مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ
اللَّحْمَ (3) وَذَلِكَ يَحْصُل بِالإِْيجَارِ؛ لأَِنَّهُ يَصِل إِلَى
الْجَوْفِ، وَبِذَلِكَ يُسَاوِي الاِرْتِضَاعَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير وتاج العروس وتهذيب الأسماء واللغات مادة:
" وجر ".
(2) ابن عابدين 2 / 104، 105، 413 ط بولاق ثالثة، ونهاية المحتاج 3 / 168 ط
المكتبة الإسلامية.
(3) ابن عابدين 2 / 413، 419، والدسوقي 2 / 502 ط دار الفكر، والمهذب 2 /
157، 158 ط دار المعرفة، والمغني 7 / 537، 538 ط الرياض، وكشاف القناع 5 /
446 ط الرياض. وحديث: " لا رضاع. . . " أخرجه أبو داود (2 / 549 - ط عزت
عبيد دعاس) وقال ابن حجر: أبو موسى الهلالي وأبوه، قال أبو حاتم: مجهولان
(التلخيص الحبير 2 / 4 - ط شركة الطباعة الفنية)
(7/204)
مِنَ الثَّدْيِ فِي التَّحْرِيمِ.
وَفِي هَذَا خِلاَفٌ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ أَيْضًا
فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ الَّتِي تَنْشُرُ الْحُرْمَةَ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: رَضَاعٌ) .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي وُصُول شَيْءٍ لِجَوْفِ الصَّائِمِ
بِالإِْيجَارِ مُكْرَهًا، هَل يَصِيرُ بِهِ مُفْطِرًا أَمْ لاَ؟ يَقُول
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَوْجَرَ الصَّائِمُ مُكْرَهًا،
أَوْ كَانَ نَائِمًا وَصُبَّ فِي حَلْقِهِ شَيْءٌ، كَانَ مُفْطِرًا
بِذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: مَنْ أُوجِرَ مُكْرَهًا لَمْ
يَكُنْ مُفْطِرًا بِذَلِكَ؛ لاِنْتِفَاءِ الْفِعْل وَالْقَصْدِ مِنْهُ،
وَلِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ
عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَأْتِي تَفْصِيل الإِْيجَارِ بِمَعْنَى صَبِّ شَيْءٍ فِي الْحَلْقِ
فِي الرَّضَاعِ وَالصَّوْمِ، كَمَا يَأْتِي فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ،
وَذَلِكَ بِإِيجَارِ سُمٍّ فِي فَمِ إِنْسَانٍ.
إِيدَاعٌ
انْظُرْ وَدِيعَةً
__________
(1) ابن عابدين 2 / 104، 105، والدسوقي 1 / 526، ومغني المحتاج 1 / 430،
وكشاف القناع 2 / 320. وحديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . ". أخرجه
الحاكم (2 / 198 ط دار الكتاب العربي) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.
(7/204)
إِيصَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيصَاءُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَوْصَى، يُقَال: أَوْصَى فُلاَنٌ
بِكَذَا يُوصِي إِيصَاءً، وَالاِسْمُ الْوِصَايَةُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ
وَكَسْرِهَا) وَهُوَ: أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ
بِأَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقِيَامُ بِذَلِكَ الأَْمْرِ
فِي حَال حَيَاةِ الطَّالِبِ أَمْ كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ. (1)
وَفِي الْمُغْرِبِ: أَوْصَى زَيْدٌ لِعُمَرَ بِكَذَا إِيصَاءً، وَقَدْ
وَصَّى بِهِ تَوْصِيَةً، وَالْوَصِيَّةُ وَالْوَصَاةُ اسْمَانِ فِي مَعْنَى
الْمَصْدَرِ، وَمِنْهُ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا} (2)
وَالْوِصَايَةُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ الْوَصِيِّ. وَقِيل الإِْيصَاءُ:
طَلَبُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَلَى غَيْبٍ مِنْهُ حَال
حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ (3)
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، فَالإِْيصَاءُ بِمَعْنَى
الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ
إِقَامَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي تَصَرُّفٍ
مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ فِي تَدْبِيرِ شُئُونِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ
وَرِعَايَتِهِمْ، وَذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُقَامُ يُسَمَّى الْوَصِيُّ.
أَمَّا إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرٍ فِي حَال
حَيَاتِهِ، فَلاَ يُقَال لَهُ فِي الاِصْطِلاَحِ إِيصَاءٌ عِنْدَهُمْ،
وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ وَكَالَةٌ. (4)
__________
(1) مختار الصحاح. مادة " وصى ".
(2) سورة النساء / 12.
(3) المغرب، وتهذيب الأسماء واللغات 2 / 95، وابن عابدين 6 / 647.
(4) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 181، وفتاوى قاضي خان 3 / 512 (هامش
الفتاوى الهندية) .
(7/205)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَصِيَّةُ:
2 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ أَعَمُّ
مِنَ الإِْيصَاءِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ، تَصْدُقُ عَلَى التَّمْلِيكِ
الْمُضَافِ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَتَصْدُقُ
عَلَى الإِْيصَاءِ، وَهُوَ طَلَبُ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ
بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ
وَالإِْيصَاءَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ
بِأَنَّهَا: عَقْدٌ يُوجِبُ حَقًّا فِي ثُلُثِ مَال الْعَاقِدِ يَلْزَمُ
بِمَوْتِهِ، أَوْ يُوجِبُ نِيَابَةً عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (2)
وَعَرَّفَهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: (3) بِأَنَّهَا الأَْمْرُ
بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوِ التَّبَرُّعِ بِالْمَال بَعْدَهُ.
فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ التَّعْرِيفَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ
تَكُونُ بِالتَّبَرُّعِ بِالْمَال بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ تَكُونُ
بِإِقَامَةِ الْمُوصِي غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ
الأُْمُورِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَهِيَ شَامِلَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى
السَّوَاءِ، فَكِلاَهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَصِيَّةِ.
ب - الْوِلاَيَةُ:
3 - الْوِلاَيَةُ هِيَ: الْقُدْرَةُ عَلَى إِنْشَاءِ الْعُقُودِ
وَالتَّصَرُّفَاتِ النَّافِذَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إِجَازَةِ
أَحَدٍ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ وَالتَّصَرُّفَاتُ مُتَعَلِّقَةً
بِمَنْ قَامَ بِهَا سُمِّيَتِ الْوِلاَيَةُ وِلاَيَةً قَاصِرَةً، وَإِنْ
كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِغَيْرِهِ سُمِّيَتِ الْوِلاَيَةُ وِلاَيَةً
مُتَعَدِّيَةً، وَهَذِهِ
__________
(1) البدائع 6 / 333، وتبيين الحقائق 6 / 182، والدر المختار ورد المحتار 6
/ 648، والإقناع 4 / 24، وقليوبي 3 / 156 و 177.
(2) الشرح الكبير 4 / 375، والبهجة في شرح التحفة 2 / 310.
(3) الروض المربع 2 / 245.
(7/205)
الْوِلاَيَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ أَعَمُّ
مِنَ الْوِصَايَةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُمَلِّكُ صَاحِبَهُ
التَّصَرُّفَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ غَيْرِهِ، إِلاَّ أَنَّ
الْوِلاَيَةَ قَدْ يَكُونُ مَصْدَرُهَا الشَّرْعَ، كَوِلاَيَةِ الأَْبِ
عَلَى ابْنِهِ، (1) وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرُهَا الْعَقْدَ كَمَا فِي
الْوَكَالَةِ وَالإِْيصَاءِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِتَوْلِيَةِ صَاحِبِ
الشَّأْنِ فِي التَّصَرُّفِ، فَهُوَ الَّذِي يَعْهَدُ إِلَى غَيْرِهِ
بِالنِّيَابَةِ عَنْهُ فِي بَعْضِ الأُْمُورِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
ج - الْوَكَالَةُ:
4 - الْوَكَالَةُ: إِقَامَةُ الشَّخْصِ غَيْرَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي
تَصَرُّفِ مَمْلُوكٍ قَابِلٍ لِلنِّيَابَةِ؛ لِيَفْعَلَهُ فِي حَال
حَيَاتِهِ.
فَهِيَ تُشْبِهُ الإِْيصَاءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ
تَفْوِيضٌ لِلْغَيْرِ فِي الْقِيَامِ بِبَعْضِ الأُْمُورِ نِيَابَةً
عَمَّنْ فَوَّضَهُ، إِلاَّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ
التَّفْوِيضَ لِلْغَيْرِ فِي الإِْيصَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَمَّا
فِي الْوَكَالَةِ فَإِنَّ التَّفْوِيضَ يَكُونُ فِي حَال الْحَيَاةِ.
هَذَا وَسَوْفَ يَقْتَصِرُ الْكَلاَمُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عَلَى
الإِْيصَاءِ بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْوَصِيِّ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ
بِسَائِرِ أَحْكَامِ الْوَصِيَّةِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّةٌ)
.
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ عَقْدُ الإِْيصَاءِ:
5 - يَتَحَقَّقُ عَقْدُ الإِْيصَاءِ بِإِيجَابٍ مِنَ الْمُوصِي، وَقَبُولٍ
مِنَ الْمُوصَى إِلَيْهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الإِْيجَابِ أَنْ يَكُونَ
بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، بَل يَصِحُّ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى تَفْوِيضِ
الأَْمْرِ إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، مِثْل:
جَعَلْتُ فُلاَنًا وَصِيًّا، أَوْ عَهِدْتُ إِلَيْهِ بِمَال أَوْلاَدِي
بَعْدَ وَفَاتِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
__________
(1) رد المحتار 6 / 647، والشرح الكبير 4 / 375، والإقناع 4 / 24.
(7/206)
وَكَذَلِكَ الْقَبُول، فَإِنَّهُ يَصِحُّ
بِكُل مَا يَدُل عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَالرِّضَى بِمَا صَدَرَ مِنَ
الْمُوصِي، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَوْل كَقَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ، أَوْ
أَجَزْتُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَمْ بِالْفِعْل الدَّال عَلَى الرِّضَى،
كَبَيْعِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ شِرَائِهِ
شَيْئًا يَصْلُحُ لِلْوَرَثَةِ، أَوْ قَضَائِهِ لِدَيْنٍ أَوِ اقْتِضَائِهِ
لَهُ. (1)
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقَبُول أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الإِْيجَابِ،
بَل يَمْتَدُّ زَمَنُهُ إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لأَِنَّ أَثَرَ
عَقْدِ الإِْيصَاءِ لاَ يَظْهَرُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَكَانَ
الْقَبُول مُمْتَدًّا إِلَى مَا بَعْدَهُ.
وَصَحَّ قَبُول الإِْيصَاءِ فِي حَال حَيَاةِ الْمُوصِي عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ
فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْمُوصَى إِلَيْهِ
يَقَعُ لِمَنْفَعَةِ الْمُوصِي. فَلَوْ وَقَفَ الْقَبُول وَالرَّدُّ عَلَى
مَوْتِهِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي، وَلَمْ يُسْنِدْ
وَصِيَّتَهُ إِلَى أَحَدٍ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ بِهِ، وَهَذَا
بِخِلاَفِ قَبُول الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ مِنَ الْمَال فَإِنَّ قَبُول
الْمُوصَى لَهُ لاَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛
لأَِنَّ الاِسْتِحْقَاقَ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ،
فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَا يَدْعُو إِلَى تَقْدِيمِ الْقَبُول عَلَى
الْمَوْتِ. (2) وَفِي الْقَوْل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ
يَصِحُّ الْقَبُول فِي الإِْيصَاءِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛
لأَِنَّ الإِْيصَاءَ مُضَافٌ إِلَى الْمَوْتِ، فَقَبْل الْمَوْتِ لَمْ
يَدْخُل وَقْتُهُ، فَلاَ يَصِحُّ الْقَبُول أَوِ الرَّدُّ قَبْلَهُ، كَمَا
فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَال.
__________
(1) الاختيار 5 / 66، والدر المختار ورد المحتار 6 / 700، وتبيين الحقائق 6
/ 206، ومغني المحتاج 3 / 77.
(2) الروض المربع 2 / 248، والمغني لابن قدامة 6 / 141، والشرح الكبير 4 /
405.
(7/206)
حُكْمُ الإِْيصَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ:
6 - الأَْصْل فِي الإِْيصَاءِ إِلَى الْغَيْرِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ،
وَذَلِكَ لأَِنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوِلاَيَةِ
عَلَيْهِ مِمَّنْ صَدَرَ عَنْهُ، وَالْمُوصِي تَنْتَهِي وِلاَيَتُهُ
بِالْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ أَجَازَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ هَذَا
الأَْصْل، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ كَانَ يُوصِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، مِنْ غَيْرِ
إِنْكَارٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَاعْتُبِرَ هَذَا إِجْمَاعًا
مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ. رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ قَال: أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ سَبْعَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَالْمِقْدَادُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ، وَمُطِيعُ بْنُ الأَْسْوَدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ
أَنَّهُ لَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ أَوْصَى إِلَى عُمَرَ. وَرُوِيَ أَنَّ
ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ أَوْصَى فَكَتَبَ: إِنْ حَدَثَ بِي حَادِثُ الْمَوْتِ
مِنْ مَرَضِي هَذَا، فَمَرْجِعُ وَصِيَّتِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ،
ثُمَّ إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَلأَِنَّ الإِْيصَاءَ وَكَالَةٌ وَأَمَانَةٌ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ
وَالْوَكَالَةَ فِي الْحَيَاةِ، وَكِلاَهُمَا جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ
الإِْيصَاءُ. (1)
حُكْمُ الإِْيصَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي:
7 - الإِْيصَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِذَا
كَانَ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ الْمَجْهُولَةِ، أَوِ
الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا فِي الْحَال؛ لأَِنَّ أَدَاءَهَا وَاجِبٌ،
وَالإِْيصَاءُ هُوَ الْوَسِيلَةُ لأَِدَائِهِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا
مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ الإِْيصَاءُ عَلَى الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ وَمَنْ
فِي حُكْمِهِمْ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِمُ الضَّيَاعُ؛ لأَِنَّ فِي هَذَا
الإِْيصَاءِ صِيَانَةً
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 73، 74، والمغني لابن قدامة 6 / 144.
(7/207)
لَهُمْ مِنَ الضَّيَاعِ، وَصِيَانَةُ
الصِّغَارِ مِنَ الضَّيَاعِ وَاجِبَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لِحَدِيثِ: كَفَى
بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُول. (1)
أَمَّا الإِْيصَاءُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ الْمَعْلُومِ، وَرَدِّ
الْمَظَالِمِ الْمَعْلُومَةِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا إِنْ كَانَتْ،
وَالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمُ
الَّذِينَ لاَ يُخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيَاعُ، فَهُوَ سُنَّةٌ أَوْ
مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، تَأَسِّيًا بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ
فِي ذَلِكَ، حَيْثُ كَانَ يُوصِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، (2) كَمَا
تَقَدَّمَ.
هَذَا هُوَ حُكْمُ الإِْيصَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوصِي.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْوَصِيِّ، فَإِنَّهُ إِذَا أَوْصَى إِلَيْهِ
أَحَدٌ جَازَ لَهُ قَبُول الْوَصِيَّةِ، إِذَا كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى
الْقِيَامِ بِمَا أُوصِيَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَوَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ
أَدَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُوصِي إِلَى بَعْضٍ،
فَيَقْبَلُونَ الْوَصِيَّةَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ كَانَ وَصِيًّا لِرَجُلٍ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ
وَصِيًّا لِسَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَقِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ (3) أَنَّ تَرْكَ الدُّخُول فِي الْوَصِيَّةِ
أَوْلَى؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ، وَهُوَ لاَ يَعْدِل بِالسَّلاَمَةِ
شَيْئًا، وَلِذَلِكَ كَانَ يَرَى تَرْكَ الاِلْتِقَاطِ، وَتَرْكُ
الإِْحْرَامِ مِنْ قَبْل الْمِيقَاتِ أَفْضَل؛ تَحَرِّيًا لِلسَّلاَمَةِ
وَاجْتِنَابًا لِلْخَطَرِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
أَنَّ النَّبِيَّ قَال لأَِبِي ذَرٍّ: إِنِّي أَرَاكَ
__________
(1) حديث: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول " أخرجه مسلم (2 / 692 - ط
الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 3 / 73، والمغني لابن قدامة 6 / 144، وابن عابدين 6 /
648، والإقناع 4 / 34، وقليوبي وعميرة 3 / 177، والشرح الصغير 2 / 465.
(3) المغني لابن قدامة 6 / 144.
(7/207)
ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا
أُحِبُّ لِنَفْسِي، فَلاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلاَ
تَوَلَّيَنَّ مَال يَتِيمٍ. (1)
وَفِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْبَل
الْوِصَايَةَ؛ لأَِنَّهَا عَلَى خَطَرٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: الدُّخُول
فِيهَا أَوَّل مَرَّةٍ غَلَطٌ، وَالثَّانِيَةُ خِيَانَةٌ، وَالثَّالِثَةُ
سَرِقَةٌ. (2) وَعَنِ الْحَسَنِ: لاَ يَقْدِرُ الْوَصِيُّ أَنْ يَعْدِل
وَلَوْ كَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. وَقَال أَبُو مُطِيعٍ: مَا رَأَيْتُ
فِي مُدَّةِ قَضَائِي عِشْرِينَ سَنَةً مَنْ يَعْدِل فِي مَال ابْنِ
أَخِيهِ. (3)
لُزُومُ عَقْدِ الإِْيصَاءِ وَعَدَمُ لُزُومِهِ:
8 - الإِْيصَاءُ لَيْسَ تَصَرُّفًا لاَزِمًا فِي حَقِّ الْمُوصِي
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ مَتَى شَاءَ، أَمَّا
فِي حَقِّ الْوَصِيِّ، فَإِنَّ عَقْدَ الإِْيصَاءِ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا
فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ
مَتَى شَاءَ، فَإِذَا رَجَعَ كَانَ رُجُوعُهُ عَزْلاً لِنَفْسِهِ عَنِ
الإِْيصَاءِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا صِحَّةَ هَذَا الرُّجُوعِ بِعِلْمِ
الْمُوصِي؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الإِْيصَاءِ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا شَاءَ،
فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوصِي فَلاَ يَصِحُّ
__________
(1) حديث: " إني أراك ضعيفا. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1458 - ط الحلبي) .
(2) رد المحتار 6 / 700.
(3) واللجنة ترى أنه لا خلاف حقيقيا بين الفقهاء في هذه المسألة، لأن من
قال بالجواز قيد ذلك بالاطمئنان إلى أنه سيكون أمينا عدلا، وأما من قال إنه
خلاف الأولى أو إنه مكروه، فقد بنوا ذلك على أن السلامة في هذا الأمر
نادرة، وأن الكثير الغالب ألا يقوم الوصي بحق ا
(7/208)
رُجُوعُهُ حَتَّى لاَ يَصِيرَ مَغْرُورًا
مِنْ جِهَتِهِ. (1)
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ رُجُوعِ الْوَصِيِّ عَنِ الْوِصَايَةِ
إِذَا كَانَ الإِْيصَاءُ وَاجِبًا عَلَى الْمُوصِي بِأَلاَّ يَتَعَيَّنَ
الْوَصِيُّ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَال الْمُوصَى
بِرِعَايَتِهِ، بِاسْتِيلاَءِ ظَالِمٍ عَلَيْهِ مِنْ قَاصِدٍ وَغَيْرِهِ،
فَإِنْ تَعَيَّنَ الْوَصِيُّ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَال
فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ الْوَصِيَّةِ. (2)
أَمَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ عَزْل نَفْسِهِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ،
ذَكَرَهَا ابْنُ مُوسَى فِي الإِْرْشَادِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا قَبِل
الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَقَدْ جَعَلَهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ
فِيمَا أَوْصَى بِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا رَجَعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ
مَوْتِهِ كَانَ تَغْرِيرًا بِهِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِلْوَصِيِّ عَزْل نَفْسِهِ
بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لأَِنَّ الْوِصَايَةَ كَالْوَكَالَةِ مِنْ حَيْثُ
إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ بِالإِْذْنِ، وَالْوَكِيل لَهُ عَزْل
نَفْسِهِ مَتَى شَاءَ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ. وَقَدِ اسْتَثْنَى
الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا وَجَبَ الإِْيصَاءُ وَتَعَيَّنَ
الْقَبُول عَلَى الْوَصِيِّ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ
الْوَصِيَّةِ. (3)
مَنْ يَكُونُ لَهُ تَوْلِيَةُ الْوَصِيِّ:
9 - تَوْلِيَةُ الْوَصِيِّ تَخْتَلِفُ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مَا
يَتَعَلَّقُ الإِْيصَاءُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الإِْيصَاءُ بِتَصَرُّفٍ
مُعَيَّنٍ، كَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ
وَاسْتِرْدَادِهَا، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالَّذِي
__________
(1) ابن عابدين 6 / 700.
(2) الإقناع 4 / 34، والقليوبي وعميرة 3 / 177.
(3) ابن عابدين 6 / 700، والمغني لابن قدامة 6 / 141، والإقناع 3 / 34،
والشرح الكبير 4 / 405، ومواهب الجليل 6 / 403.
(7/208)
يَكُونُ لَهُ تَوْلِيَةُ الْوَصِيِّ هُوَ
صَاحِبُ الشَّأْنِ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ
عَلَى تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، كَانَ لَهُ أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ
غَيْرَهُ فِيهِ لِلْقِيَامِ بِهِ فِي حَال حَيَاتِهِ بِطَرِيقِ
الْوَكَالَةِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، أَمَّا إِنْ
كَانَ الإِْيصَاءُ بِرِعَايَةِ الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ وَمَنْ فِي
حُكْمِهِمْ، كَالْمَجَانِينِ وَالْمَعْتُوهِينَ، وَالنَّظَرِ فِي
أَمْوَالِهِمْ بِحِفْظِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَا يَنْفَعُهُمْ،
فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَوْلِيَةَ الْوَصِيِّ
تَكُونُ لِلأَْبِ؛ لأَِنَّ لِلأَْبِ - عِنْدَهُمْ جَمِيعًا - الْوِلاَيَةُ
عَلَى أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ فِي حَال حَيَاتِهِ،
فَيَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي إِقَامَةِ خَلِيفَةٍ عَنْهُ فِي الْوِلاَيَةِ
عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَمِثْل الأَْبِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْجَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1)
وَالشَّافِعِيَّةِ (2) ، فَلَهُ حَقُّ تَوْلِيَةِ الْوَصِيِّ؛ لأَِنَّ
الْجَدَّ لَهُ عِنْدَهُمُ الْوِلاَيَةُ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ وَإِنْ
نَزَلُوا، فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ الإِْيصَاءِ عَلَيْهِمْ لِمَنْ شَاءَ
بَعْدَ مَوْتِهِ كَالأَْبِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ (3) وَالْحَنَابِلَةُ (4) : لَيْسَ لِلْجَدِّ حَقُّ
تَوْلِيَةِ وَصِيٍّ عَنْهُ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ؛ لأَِنَّ الْجَدَّ
لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ عَلَى أَمْوَال هَؤُلاَءِ الأَْوْلاَدِ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُدْلِي إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُدْلِي
إِلَيْهِمْ بِالأَْبِ، فَكَانَ كَالأَْخِ وَالْعَمِّ، وَلاَ وِلاَيَةَ
لأَِحَدِهِمَا عَلَى مَال أَوْلاَدِ أَخِيهِ، فَكَذَلِكَ الْجَدُّ لاَ
وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى مَال أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ.
وَلِوَصِيِّ الأَْبِ حَقُّ الإِْيصَاءِ بَعْدَهُ لِمَنْ شَاءَ عِنْدَ
__________
(1) ابن عابدين 6 / 714.
(2) مغني المحتاج 3 / 76، وشرح المحلى على المنهاج 2 / 304.
(3) الشرح الصغير 2 / 474.
(4) الروض المربع 2 / 249، والمغني 6 / 135.
(7/209)
الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الأَْبَ أَقَامَهُ
مَقَامَ نَفْسِهِ، فَكَانَ لَهُ الإِْيصَاءُ كَالأَْبِ، وَيُوَافِقُ
الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَيَّدُوا
حَقَّ الْوَصِيِّ فِي الإِْيصَاءِ لِغَيْرِهِ بِمَا إِذَا لَمْ يَمْنَعْهُ
الأَْبُ مِنَ الإِْيصَاءِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ مِنَ
الإِْيصَاءِ إِلَى غَيْرِهِ، كَأَنْ قَال لَهُ: أَوْصَيْتُكَ عَلَى
أَوْلاَدِي، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُوصِيَ عَلَيْهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ
الإِْيصَاءُ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ: لَيْسَ
لِلْوَصِيِّ حَقُّ الإِْيصَاءِ إِلَى غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا جَعَل لَهُ
الإِْيصَاءَ إِلَى غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِطَرِيقِ
النِّيَابَةِ عَنِ الْمُوصِي، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّفْوِيضُ إِلَى
غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَالْوَكِيل، فَإِنَّهُ
لاَ يَجُوزُ لَهُ تَوْكِيل غَيْرِهِ فِيمَا وُكِّل فِيهِ، إِلاَّ إِذَا
أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل، فَكَذَلِكَ (2) الْوَصِيُّ.
وَلِلْقَاضِي إِذَا لَمْ يُوصِ الأَْبُ وَالْجَدُّ أَوْ وَصِيُّهُمَا
لأَِحَدٍ أَنْ يُعَيِّنَ وَصِيًّا مِنْ قِبَلِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛
لأَِنَّهُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ. (3) وَالْقَاضِي
لاَ يَلِي أُمُورَ الْقَاصِرِينَ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ يَكِل
أُمُورَهُمْ إِلَى مَنْ يُعَيِّنُهُمْ مِنَ الأَْوْصِيَاءِ. (4)
أَمَّا الأُْمُّ فَلَيْسَ لَهَا تَوْلِيَةُ الْوَصِيِّ عَلَى أَوْلاَدِهَا
عِنْدَ
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 474.
(2) مغني المحتاج 3 / 76، والروض المربع 2 / 249، والمغني لابن قدامة 6 /
142.
(3) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له ". أخرجه الترمذي (3 / 408 - ط
الحلبي) والحاكم (2 / 168 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه
الذهبي.
(4) الشرح الصغير 2 / 474، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 402،
والإقناع 4 / 52، والمنهاج وشرح الجلال 2 / 304، والمغني لابن قدامة 6 /
640، 641، وحاشية ابن عابدين 6 / 722.
(7/209)
الْحَنَفِيَّةِ (1) وَالشَّافِعِيَّةِ (2)
وَالْحَنَابِلَةِ (3) لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لَهَا عَلَى أَوْلاَدِهَا
فِي حَال حَيَاتِهَا، فَلاَ يَكُونُ لَهَا حَقُّ إِقَامَةِ خَلِيفَةٍ
عَنْهَا فِي حَال وَفَاتِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلأُْمِّ الْحَقُّ فِي الإِْيصَاءِ عَلَى
أَوْلاَدِهَا، إِذَا تَوَافَرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلاَثَةُ::
(1) أَنْ يَكُونَ مَال الأَْوْلاَدِ مَوْرُوثًا عَنِ الأُْمِّ، فَإِنْ
كَانَ غَيْرَ مَوْرُوثٍ عَنْهَا، فَلَيْسَ لَهَا الإِْيصَاءُ فِيهِ.
(2) أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمَوْرُوثُ عَنْهَا قَلِيلاً، فَإِنْ كَانَ
كَثِيرًا فَلاَ يَكُونُ لَهَا الإِْيصَاءُ عَلَيْهِ، وَالْمُعَوَّل
عَلَيْهِ فِي اعْتِبَارِ الْمَال قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا هُوَ الْعُرْفُ،
فَمَا اعْتُبِرَ فِي عُرْفِ النَّاسِ كَثِيرًا كَانَ كَثِيرًا، وَمَا
اعْتُبِرَ فِي عُرْفِهِمْ قَلِيلاً كَانَ قَلِيلاً.
(3) أَلاَّ يَكُونَ لِلأَْوْلاَدِ أَبٌ، أَوْ وَصِيٌّ مِنَ الأَْبِ أَوِ
الْقَاضِي، فَإِنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ فَلَيْسَ لِلأُْمِّ حَقُّ
الإِْيصَاءِ عَلَيْهِمْ. (4)
مَنْ تَكُونُ عَلَيْهِ الْوِصَايَةُ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوِصَايَةَ تَكُونُ
عَلَى الصِّغَارِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَهُمُ الْمَجَانِينُ
وَالْمَعْتُوهُونَ مِنَ الْجِنْسَيْنِ؛ لأَِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى
مَنْ يَرْعَى شُؤُونَهُمْ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّزْوِيجِ
إِنِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ احْتَاجُوا إِلَى
مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهِ وَصِيَانَتِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ. (5)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 714.
(2) مغني المحتاج 3 / 76، والإقناع 4 / 33.
(3) الروض المربع 2 / 249، ومنار السبيل في شرح الدليل 2 / 47.
(4) الشرح الصغير 2 / 474.
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 312، 6 / 714، والشرح الصغير 2 / 474، وشرح
الجلال المحلي وقليوبي 3 / 177، ومغني المحتاج 3 / 73، والمغني لابن قدامة
6 / 135، ومنار السبيل شرح الدليل 2 / 47.
(7/210)
شُرُوطُ الْوَصِيِّ:
11 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ شُرُوطًا لاَ يَصِحُّ
الإِْيصَاءُ إِلاَّ بِتَوَافُرِهَا، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ بَعْضُهَا
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِهَا، وَبَعْضُهَا اخْتَلَفُوا فِي
اشْتِرَاطِهِ.
أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِهَا فَهِيَ:
(1) الْعَقْل وَالتَّمْيِيزُ، وَعَلَى هَذَا لاَ يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى
الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لأَِنَّهُ
لاَ وِلاَيَةَ لأَِحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلاَ
يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي شُئُونِ غَيْرِهِ بِالطَّرِيقِ الأَْوْلَى.
(2) الإِْسْلاَمُ، إِذَا كَانَ الْمُوصَى عَلَيْهِ مُسْلِمًا؛ لأَِنَّ
الْوِصَايَةَ وِلاَيَةٌ، وَلاَ وِلاَيَةَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى
الْمُسْلِمِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (1) وَقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ} (2) وَلأَِنَّ الاِتِّفَاقَ فِي الدِّينِ بَاعِثٌ عَلَى
الْعِنَايَةِ وَشِدَّةِ الرِّعَايَةِ بِالْمُوَافِقِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ
الاِخْتِلاَفَ فِي الدِّينِ بَاعِثٌ فِي الْغَالِبِ عَلَى تَرْكِ
الْعِنَايَةِ بِمَصَالِحِ الْمُخَالِفِ فِيهِ.
(3) قُدْرَةُ الْمُوصَى إِلَيْهِ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا أُوصِيَ إِلَيْهِ
فِيهِ، وَحُسْنُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ
الْقِيَامِ بِذَلِكَ؛ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ،
فَلاَ يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَصْلَحَةَ تُرْجَى
مِنَ الإِْيصَاءِ إِلَى مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا فَهِيَ:
(1) الْبُلُوغُ، فَهُوَ شَرْطٌ فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، (4)
__________
(1) سورة النساء / 141.
(2) سورة التوبة / 71.
(3) الشرح الكبير 4 / 402، والشرح الصغير 2 / 474، ومغني المحتاج 3 / 74.
(4) المغني 6 / 137.
(7/210)
فَلاَ يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى
الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ؛ لأَِنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ
عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ عَلَى مَالِهِ، فَلاَ تَكُونُ لَهُ الْوِلاَيَةُ
عَلَى غَيْرِهِ وَمَالِهِ، كَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ
وَالْمَجْنُونِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: بُلُوغُ الْمُوصَى إِلَيْهِ لَيْسَ شَرْطًا فِي
صِحَّةِ الإِْيصَاءِ إِلَيْهِ، بَل الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ هُوَ
التَّمْيِيزُ، (1) وَعَلَى هَذَا: لَوْ أَوْصَى الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ
إِلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِل كَانَ الإِْيصَاءُ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ،
وَلِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْوِصَايَةِ، وَيُعَيِّنَ وَصِيًّا
آخَرَ بَدَلاً مِنْهُ؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ لاَ يَهْتَدِي إِلَى
التَّصَرُّفِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ قَبْل الإِْخْرَاجِ، قِيل يَنْفُذُ
تَصَرُّفُهُ، وَقِيل لاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِلْزَامُهُ بِالْعُهْدَةِ فِيهِ.
وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ بِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ
إِلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِل؛ لأَِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ
وَكَالَتِهِ، وَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاوَزَ
الْعَشْرَ. (2)
(2) الْعَدَالَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا: الاِسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ،
وَتَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَعَدَمِ ارْتِكَابِ
كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى غَيْرِ الْعَدْل -
وَهُوَ الْفَاسِقُ - لاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْوِصَايَةَ وِلاَيَةٌ
وَائْتِمَانٌ، وَلاَ وِلاَيَةَ وَلاَ ائْتِمَانَ لِفَاسِقٍ. (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعَدَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْمُوصَى
إِلَيْهِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمُ الإِْيصَاءُ لِلْفَاسِقِ مَتَى كَانَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 702.
(2) المغني 6 / 137.
(3) مغني المحتاج 3 / 74، والمغني 6 / 138.
(7/211)
يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ، وَلاَ يُخْشَى
مِنْهُ الْخِيَانَةُ. (1) وَيُوَافِقُ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ، حَيْثُ إِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْعَدَالَةِ
الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي الْوَصِيِّ: الأَْمَانَةُ وَالرِّضَى فِيمَا
يَشْرَعُ فِيهِ وَيَفْعَلُهُ، بِأَنْ يَكُونَ حَسَنَ التَّصَرُّفِ،
حَافِظًا لِمَال الصَّبِيِّ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ. (2)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى
الْفَاسِقِ صَحِيحَةٌ، فَإِنَّهُ قَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ:
إِذَا كَانَ (يَعْنِي الْوَصِيَّ) مُتَّهَمًا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ.
وَهَذَا يَدُل عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ، وَيَضُمُّ الْحَاكِمُ
إِلَيْهِ أَمِينًا. (3)
أَمَّا الذُّكُورَةُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْوَصِيِّ،
فَيَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْصَى إِلَى
ابْنَتِهِ حَفْصَةَ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل الشَّهَادَةِ
كَالرَّجُل، فَتَكُونُ أَهْلاً لِلْوِصَايَةِ مِثْلَهُ. (4)
الْوَقْتُ الْمُعْتَبَرُ لِتَوَافُرِ الشُّرُوطِ فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْتِ الْمُعْتَبَرِ لِتَوَافُرِ
الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ، فَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُعْتَبَرَ لِتَحَقُّقِ
الشُّرُوطِ فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ أَوْ عَدَمُ تَحَقُّقِهَا هُوَ وَقْتُ
وَفَاةِ الْمُوصِي؛ لأَِنَّ هَذَا الْوَقْتَ هُوَ وَقْتُ اعْتِبَارِ
الْقَبُول وَتَنْفِيذُ الإِْيصَاءِ،
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 6 / 700.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 402، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 /
474.
(3) المغني 6 / 138.
(4) مغني المحتاج 3 / 75، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 402، والمغني 6
/ 137.
(7/211)
فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَبَرَ دُونَ
غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوِ انْتَفَتِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا أَوْ
بَعْضُهَا عِنْدَ الإِْيصَاءِ، ثُمَّ وُجِدَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ، صَحَّ
الإِْيصَاءُ، وَلَوْ تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا عِنْدَ الإِْيصَاءِ،
ثُمَّ انْتَفَتْ أَوِ انْتَفَى بَعْضُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَلاَ يَصِحُّ
الإِْيصَاءُ.
وَهَذَا الرَّأْيُ أَيْضًا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَإِنْ لَمْ نَجِدْهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي
رَجَعْنَا إِلَيْهَا، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا قَالُوهُ فِي اشْتِرَاطِ
أَلاَّ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَال وَارِثًا لِلْمُوصِي، فَإِنَّهُمْ
نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ الْمُعْتَبَرَ لِتَحَقُّقِ هَذَا الشَّرْطِ
أَوْ عَدَمِ تَحَقُّقِهِ هُوَ وَقْتُ وَفَاةِ الْمُوصِي، لاَ وَقْتُ
الْوَصِيَّةِ، (1) وَهَذَا يَدُل دَلاَلَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ وَقْتَ
الْمَوْتِ هُوَ أَيْضًا الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمْ فِي الشُّرُوطِ
الْوَاجِبِ تَوَافُرُهَا فِي الْوَصِيِّ إِلَيْهِ لِصِحَّةِ الإِْيصَاءِ.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، الْوَقْتُ الْمُعْتَبَرُ لِتَحَقُّقِ هَذِهِ
الشُّرُوطِ أَوْ عَدَمِ تَحَقُّقِهَا هُوَ وَقْتُ الإِْيصَاءِ وَوَقْتُ
وَفَاةِ الْمُوصِي جَمِيعًا، أَمَّا وَجْهُ اعْتِبَارِ وُجُودِهَا عِنْدَ
الإِْيصَاءِ فَلأَِنَّهَا شُرُوطٌ لِصِحَّةِ عَقْدِ الإِْيصَاءِ،
فَاعْتُبِرَ وُجُودُهَا حَال وُجُودِهِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَأَمَّا وَجْهُ اعْتِبَارِ وُجُودِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ؛ فَلأَِنَّ
الْمُوصَى إِلَيْهِ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي،
فَاعْتُبِرَ وُجُودُهَا عِنْدَهُ، كَالإِْيصَاءِ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ
الْمَال. (2)
سُلْطَةُ الْوَصِيِّ:
13 - سُلْطَةُ الْوَصِيِّ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى حَسَبِ الإِْيصَاءِ
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 6 / 649، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 /
389، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 469
(2) المغني 6 / 139، ومنار السبيل شرح الدليل 2 / 46، ومغني المحتاج 3 /
74، 76، وشرح الجلال وحاشية القليوبي 3 / 178، والإقناع 4 / 33.
(7/212)
عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَإِنْ كَانَ
الإِْيصَاءُ خَاصًّا بِشَيْءٍ، كَقَضَاءِ الدُّيُونِ أَوِ اقْتِضَائِهَا،
أَوْ رَدِّ الْوَدَائِعِ أَوِ اسْتِرْدَادِهَا، أَوِ النَّظَرِ فِي أَمْرِ
الأَْطْفَال وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، كَانَتْ سُلْطَةُ الْوَصِيِّ
مَقْصُورَةً عَلَى مَا أُوصِيَ إِلَيْهِ فِيهِ، لاَ تَتَعَدَّاهُ إِلَى
غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الإِْيصَاءُ عَامًّا، كَأَنْ قَال الْمُوصِي:
أَوْصَيْتُ إِلَى فُلاَنٍ فِي كُل أُمُورِي، كَانَتْ سُلْطَةُ الْوَصِيِّ
شَامِلَةً لِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، كَقَضَاءِ الدُّيُونِ
وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَاسْتِرْدَادِهَا، وَحِفْظِ
أَمْوَال الصِّغَارِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَتَزْوِيجِ مَنِ احْتَاجَ
إِلَى الزَّوَاجِ مِنْ أَوْلاَدِهِ. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِالإِْذْنِ مِنَ
الْمُوصِي كَالْوَكِيل. فَإِنْ كَانَ الإِْذْنُ خَاصًّا كَانَتْ سُلْطَتُهُ
مَقْصُورَةً عَلَى مَا أُذِنَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الإِْذْنُ عَامًّا
كَانَتْ سُلْطَتُهُ عَامَّةً، وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ
ذَلِكَ تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، فَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ
الإِْيصَاءُ بِتَزْوِيجِهِمَا؛ لأَِنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ لاَ
يُزَوِّجُهُمَا إِلاَّ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ؛ وَلأَِنَّ الْوَصِيَّ لاَ
يَتَعَيَّرُ بِدُخُول الدَّنِيِّ فِي نَسَبِهِمْ. (1)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ
الإِْيصَاءَ الصَّادِرَ مِنَ الأَْبِ يَكُونُ عَامًّا، وَلاَ يَقْبَل
التَّخْصِيصَ بِنَوْعٍ أَوْ مَكَان أَوْ زَمَانٍ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّ
قَائِمٌ مَقَامَ الأَْبِ، وَوِلاَيَةُ الأَْبِ عَامَّةٌ، فَكَذَلِكَ مَنْ
يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلأَِنَّهُ لَوْلاَ ذَلِكَ لاَحْتَجْنَا إِلَى
تَعْيِينِ وَصِيٍّ آخَرَ، وَالْمُوصِي قَدِ اخْتَارَ هَذَا وَصِيًّا فِي
بَعْضِ
__________
(1) الشرح الكبير 4 / 401، والشرح الصغير 2 / 473، وشرح جلال الدين المحلي
3 / 179، ومغني المحتاج 3 / 76، والمغني لابن قدامة 6 / 136، ومنار السبيل
شرح الدليل 2 / 48، والدر وحاشية ابن عابدين 6 / 722، 723.
(7/212)
أُمُورِهِ، فَجَعْلُهُ وَصِيًّا فِي الْكُل
أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِتَصَرُّفِ هَذَا فِي الْبَعْضِ،
وَلَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ أَصْلاً، وَعَلَى هَذَا:
لَوْ أَوْصَى الأَْبُ إِلَى رَجُلٍ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِ مَالِهِ فِي وُجُوهِ
الْخَيْرِ مَثَلاً، صَارَ وَصِيًّا عَامًّا عَلَى أَوْلاَدِهِ
وَتَرِكَتِهِ، وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِلَى
آخَرَ بِتَنْفِيذِ وَصَيِّتَةِ، كَانَا وَصِيَّيْنِ فِي كُل شَيْءٍ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ. (1)
حُكْمُ عُقُودِ الْوَصِيِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ:
14 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي عُقُودِ الْوَصِيِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ:
أَنَّ الْوَصِيَّ مُقَيَّدٌ فِي تَصَرُّفِهِ بِالنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ
لِمَنْ فِي وِصَايَتِهِ، وَعَلَى هَذَا لاَ يَكُونُ لِلْوَصِيِّ سُلْطَةُ
مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا كَالْهِبَةِ،
أَوِ التَّصَدُّقِ، أَوِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، فَإِذَا
بَاشَرَ الْوَصِيُّ تَصَرُّفًا مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ كَانَ
تَصَرُّفُهُ بَاطِلاً، لاَ يَقْبَل الإِْجَازَةَ مِنْ أَحَدٍ، وَيَكُونُ
لَهُ سُلْطَةُ مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ نَفْعًا مَحْضًا،
كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ،
وَالْكَفَالَةِ لِلْمَال. وَمِثْل هَذَا: التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ
بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ
وَالاِسْتِئْجَارِ وَالْقِسْمَةِ وَالشَّرِكَةِ، فَإِنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ
يُبَاشِرَهَا، إِلاَّ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ ظَاهِرٌ،
فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً.
هَذَا مُجْمَل الْقَوْل فِي عُقُودِ الْوَصِيِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ، أَمَّا
تَفْصِيل الْقَوْل فِيهَا فَهُوَ كَمَا يَأْتِي:
أ - يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَمْوَال مَنْ فِي وِصَايَتِهِ،
وَأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُمْ، مَا دَامَ الْبَيْعُ أَوِ الشِّرَاء بِمِثْل
الْقِيمَةِ أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَهُوَ مَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ
عَادَةً؛ لأَِنَّ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ لاَ بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ فِي
الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَسَامَحْ فِيهِ أَدَّى
ذَلِكَ إِلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 723، الاختيار لتعليل المختار 5 / 69.
(7/213)
سَدِّ بَابِ التَّصَرُّفَاتِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَيْعُ أَوِ الشِّرَاءُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَهُوَ
مَا لاَ يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ عَادَةً، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ
يَكُونُ صَحِيحًا.
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَنْقُولاً، أَمَّا إِنْ كَانَ عَقَارًا
فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ
مُسَوِّغٌ شَرْعِيٌّ؛ لأَِنَّ الْعَقَارَ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ، فَلاَ
حَاجَةَ إِلَى بَيْعِهِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ مُسَوِّغٌ شَرْعِيٌّ، كَأَنْ
يَكُونَ بَيْعُ الْعَقَارِ خَيْرًا مِنْ بَقَائِهِ، وَذَلِكَ فِي
الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
(1) أَنْ يَرْغَبَ شَخْصٌ فِي شِرَاءِ الْعَقَارِ بِضِعْفِ قِيمَتِهِ أَوْ
أَكْثَرَ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ عَقَارًا أَنْفَعَ مِنَ الَّذِي بَاعَهُ.
(2) أَنْ تَكُونَ ضَرِيبَةُ الْعَقَارِ وَمَا يُصْرَفُ عَلَيْهِ
لِلصِّيَانَةِ أَوِ الزِّرَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى غَلاَّتِهِ.
(3) أَنْ يَكُونَ الصِّغَارُ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى
النَّفَقَةِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى تَدْبِيرِ ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيْعِ
الْعَقَارِ الْمَمْلُوكِ لَهُمْ، فَيَسُوغُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ
مِنْهُ قَدْرَ مَا يَكْفِي لِلإِْنْفَاقِ عَلَيْهِمْ. (1)
وَمِثْل ذَلِكَ بَيْعُ وَصِيِّ الأَْبِ أَوِ الْجَدِّ مَال نَفْسِهِ
لِلْمُوصَى عَلَيْهِمْ، أَوْ شِرَاءُ مَال نَفْسِهِ لَهُمْ، فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَنْفَعَةٌ
ظَاهِرَةٌ لِلْمُوصَى عَلَيْهِمْ، كَأَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ لَهُمْ
بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَيَشْتَرِيَهُ مِنْهُمْ بِضِعْفِ قِيمَتِهِ، وَفِي
غَيْرِ الْعَقَارِ: أَنْ يَبِيعَ لَهُمْ مَا يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ
بِعَشَرَةٍ، وَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ،
وَهَذَا
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 211، 213، والاختيار لتعليل المختار 5 / 68، والدر
وحاشية ابن عابدين 6 / 711، والمنهاج وشرح الجلال 2 / 305، والمغني 4 /
241.
(7/213)
عَلَى الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ فِي
مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيُ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ. (1)
وَقَال الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ، وَمُحَمَّدٌ، (2) وَأَبُو يُوسُفَ فِي
أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: لاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ
أَوْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا،
وَذَلِكَ لِعَدَمِ وُفُورِ شَفَقَتِهِ، مِمَّا يَجْعَلُهُ يُؤْثِرُ
مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ مَنْ فِي وِصَايَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ
مُتَّهَمٌ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ
شَيْئًا مِنْ مَال الْمُوصَى عَلَيْهِمْ، نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيهِ، فَإِنْ
وَجَدَ فِي شِرَائِهِ مَصْلَحَةً، بِأَنِ اشْتَرَى الْمَبِيعَ بِقِيمَتِهِ
أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهِ مَصْلَحَةً رَدَّهُ.
وَلِلْوَصِيِّ اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَلَهُ
تَأْخِيرُ اقْتِضَاءِ الدَّيْنِ الْحَال إِنْ كَانَ فِي تَأْخِيرِهِ
مَصْلَحَةٌ. (3)
ب - وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَال مَنْ فِي وِصَايَتِهِ لِمَنْ يَسْتَثْمِرُهُ
اسْتِثْمَارًا شَرْعِيًّا، كَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُشَارَكَةِ
وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُل مَا لَهُمْ فِيهِ خَيْرٌ وَمَنْفَعَةٌ.
كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَقُومَ بِالاِتِّجَارِ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فِي
نَظِيرِ جُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْوَصِيِّ اسْتِثْمَارُ مَال مَنْ فِي
وِصَايَتِهِ بِجُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ؛ لِئَلاَّ يُحَابِيَ نَفْسَهُ، فَإِنِ
اسْتَثْمَرَهُ مَجَّانًا فَلاَ يُكْرَهُ، بَل هُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ
الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ. (4) وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَتَى
اتَّجَرَ الْوَصِيُّ فِي الْمَال بِنَفْسِهِ، فَالرِّبْحُ كُلُّهُ
لِلْيَتِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ. (5)
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 212، والاختيار 5 / 68.
(2) الشرح الكبير 4 / 405، والمغني 5 / 109، قليوبي 2 / 305.
(3) حاشية الشلبي 6 / 212، والدر وحاشية ابن عابدين 6 / 720.
(4) الشرح الكبير 4 / 405.
(5) المغني 4 / 240.
(7/214)
وَاسْتِثْمَارُ مَال الصِّغَارِ وَمَنْ فِي
حُكْمِهِمْ وَاجِبٌ عَلَى الْوَصِيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِقَوْل
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: ابْتَغُوا فِي أَمْوَال
الْيَتَامَى، لاَ تَأْكُلْهَا الصَّدَقَةُ (1) وَمَنْدُوبٌ أَوْ
مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛
لأَِنَّ فِيهِ خَيْرًا وَنَفْعًا لأَِصْحَابِ الْمَال، وَالشَّرْعُ يَحُثُّ
عَلَى فِعْل مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلنَّاسِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُل
عَلَى الْوُجُوبِ، وَالأَْمْرُ بِالاِتِّجَارِ فِي قَوْل عُمَرَ مَحْمُولٌ
عَلَى النَّدْبِ، كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ. (2)
ج - وَلِلْوَصِيِّ الإِْنْفَاقُ عَلَى الصِّغَارِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ
بِحَسَبِ قِلَّةِ الْمَال وَكَثْرَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ، فَلاَ يَضِيقُ
عَلَى صَاحِبِ الْمَال الْكَثِيرِ دُونَ نَفَقَةِ مِثْلِهِ، وَلاَ
يُوَسِّعُ عَلَى صَاحِبِ الْمَال الْقَلِيل بِأَكْثَرَ مِنْ نَفَقَةِ
مِثْلِهِ.
وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ
إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى مَنْ يَكُونُونَ فِي حَضَانَتِهِ لِمُدَّةِ شَهْرٍ،
إِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لاَ يُتْلِفُونَهُ، فَإِنْ خَافَ إِتْلاَفَهُ
دَفَعَ إِلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ يَوْمًا فَيَوْمًا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ لاَ يَضْمَنُ مَا
أَنْفَقَهُ فِي الْمُصَاهَرَاتِ بَيْنَ الْيَتِيمِ وَالْيَتِيمَةِ
وَغَيْرِهِمَا فِي خَلْعِ الْخَاطِبِ أَوِ الْخَطِيبَةِ، وَفِي
الضِّيَافَاتِ الْمُعْتَادَةِ، وَالْهَدَايَا الْمَعْهُودَةِ، وَفِي
الأَْعْيَادِ - وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ - وَفِي اتِّخَاذِ
ضِيَافَةٍ لِخَتْنِهِ لِلأَْقَارِبِ وَالْجِيرَانِ، مَا لَمْ يُسْرِفْ
فِيهِ، وَكَذَا لِمُؤَدِّبِهِ، وَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الصِّبْيَانِ،
__________
(1) الأثر عن عمر: " ابتغوا في أموال اليتامى. . . " أخرجه البيهقي (4 /
107 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: إسناده صحيح.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 405، وحاشية الشلبي 6 / 213، والمغني
4 / 240، وحاشية القليوبي 2 / 304، وخبايا الزوايا ص 276.
(7/214)
فَإِنْ أَسْرَفَ كَانَ ضَامِنًا لِمَا
أَسْرَفَ فِيهِ. (1)
كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الْيَتِيمِ مَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالأَْدَبِ، إِنْ كَانَ
أَهْلاً لِذَلِكَ، وَصَارَ الْوَصِيُّ مَأْجُورًا عَلَى تَصَرُّفِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لِهَذَا التَّعَلُّمِ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَتَكَلَّفَ فِي تَعْلِيمِهِ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ فِي صَلاَتِهِ. (2) وَفِي
الْمُغْنِي: (3) يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُلْحِقَ الصَّبِيَّ
بِالْمَكْتَبِ لِيَتَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَلاَ يَحْتَاجُ
إِلَى إِذْنِ حَاكِمٍ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي
صِنَاعَةٍ، إِذَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ فِي ذَلِكَ.
د - وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَحْتَال بِدَيْنِ مَنْ فِي وِصَايَتِهِ إِذَا
كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ أَمْلأََ مِنَ الْمَدِينِ الأَْصْلِيِّ، فَإِنْ
كَانَ أَعْسَرَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ مُقَيَّدَةٌ
بِالنَّظَرِ، وَلَيْسَ مِنَ النَّظَرِ قَبُول الْحَوَالَةِ عَلَى
الأَْعْسَرِ. (4)
هـ - وَلاَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَهَبَ
شَيْئًا مِنْ مَال الصَّغِيرِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَلاَ أَنْ
يَتَصَدَّقَ، وَلاَ أَنْ يُوصِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لأَِنَّهَا مِنَ
التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، فَلاَ يَمْلِكُهَا
الْوَصِيُّ، وَلاَ الْوَلِيُّ وَلَوْ كَانَ أَبًا.
و وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ مَال الصَّغِيرِ وَنَحْوَهُ
لِغَيْرِهِ، وَلاَ أَنْ يَقْتَرِضَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِمَا فِي إِقْرَاضِهِ
مِنْ تَعْطِيل الْمَال عَنِ الاِسْتِثْمَارِ، وَالْوَصِيُّ مَأْمُورٌ
بِتَنْمِيَتِهِ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ. (5) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الإِْقْرَاضُ
بِلاَ ضَرُورَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 725.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 6 / 725.
(3) المغني 4 / 243.
(4) تبيين الحقائق 6 / 211.
(5) حاشية ابن عابدين 6 / 712، وحاشية الدسوقي 4 / 405.
(7/215)
الْقَاضِي. (1) وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ
عَدَمَ جَوَازِ الإِْقْرَاضِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ
لِلْيَتِيمِ، فَمَتَى أَمْكَنَ الْوَصِيُّ التِّجَارَةَ بِهِ أَوْ تَحْصِيل
عَقَارٍ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ لَمْ يُقْرِضْهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ
وَكَانَ فِي إِقْرَاضِهِ حَظٌّ لِلْيَتِيمِ جَازَ، كَأَنْ يَكُونَ
لِلْيَتِيمِ مَالٌ مَثَلاً يُرِيدُ نَقْلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ،
فَيُقْرِضُهُ لِرَجُلٍ لِيَقْضِيَهُ بَدَلَهُ فِي الْبَلَدِ الآْخَرِ،
يَقْصِدُ حِفْظَهُ مِنَ الْغَرَرِ فِي نَقْلِهِ، أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ
الْهَلاَكَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ يَكُونُ مِمَّا
يُتْلَفُ بِتَطَاوُل مُدَّتِهِ، أَوْ يَكُونُ حَدِيثُهُ خَيْرًا مِنْ
قَدِيمِهِ كَالْحِنْطَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ، وَإِنَّمَا
قَصَدَ إِرْفَاقَ الْمُقْتَرِضِ وَقَضَاءَ حَاجَتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ
جَائِزٍ. (2)
النَّاظِرُ عَلَى الْوَصِيِّ، وَمُهِمَّتُهُ:
15 - النَّاظِرُ عَلَى الْوَصِيِّ هُوَ الشَّخْصُ الَّذِي يُعَيِّنُهُ
الْمُوصِي أَوِ الْقَاضِي لِمُرَاقَبَةِ أَعْمَال الْوَصِيِّ
وَتَصَرُّفَاتِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوِصَايَةِ، دُونَ أَنْ يَشْتَرِكَ
مَعَهُ فِي إِجْرَائِهَا، وَذَلِكَ لِضَمَانِ قِيَامِ الْوَصِيِّ
بِعَمَلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل. وَتَسْمِيَتُهُ بِهَذَا الاِسْمِ
اصْطِلاَحُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (3) ، وَيُسَمِّيهِ
الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا وَالشَّافِعِيَّةُ: مُشْرِفًا، (4) أَمَّا
الْحَنَابِلَةُ فَيُسَمُّونَهُ: أَمِينًا. (5)
وَمُهِمَّةُ الْمُشْرِفِ أَنْ يُرَاقِبَ الْوَصِيَّ فِي إِدَارَةِ مَال
الصِّغَارِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَتَصَرُّفَاتُهُ فِيهِ. وَعَلَى
الْوَصِيِّ أَنْ يُجِيبَ الْمُشْرِفَ إِلَى كُل مَا يَطْلُبُهُ مِنْ
إِيضَاحٍ عَنْ إِدَارَتِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، كَيْ يَتَمَكَّنَ مِنَ
الْقِيَامِ
__________
(1) قليوبي 2 / 305.
(2) المغني 4 / 243.
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 703، وحاشية الصاوي 2 / 275.
(4) حاشية الدسوقي 4 / 403، ومغني المحتاج 3 / 78
(5) المغني 6 / 141.
(7/215)
بِمُهِمَّتِهِ الَّتِي عُيِّنَ مِنْ
أَجْلِهَا، وَلَيْسَ لِلْمُشْرِفِ حَقُّ الاِشْتِرَاكِ فِي الإِْدَارَةِ
وَلاَ الاِنْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ، وَإِذَا خَلاَ مَكَانُ الْوَصِيِّ
كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَى مَال الصَّغِيرِ وَيَحْفَظَهُ إِلَى أَنْ
يُعَيَّنَ وَصِيٌّ جَدِيدٌ.
تَعَدُّدُ الأَْوْصِيَاءِ:
16 - الإِْيصَاءُ قَدْ يَكُونُ لِوَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ لأَِكْثَرَ مِنْ
وَاحِدٍ. فَإِذَا كَانَ الإِْيصَاءُ لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَصَدَرَ
الإِْيصَاءُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ قَال الْمُوصِي: أَوْصَيْتُ إِلَى
فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، وَقَبِل كُلٌّ مِنْهُمَا الْوِصَايَةَ صَارَ وَصِيًّا،
وَكَذَلِكَ إِذَا حَصَل الإِْيصَاءُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى
حِدَةٍ، بِأَنْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ آخَرَ،
فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ وَصِيَّيْنِ، إِلاَّ إِذَا قَال الْمُوصِي:
أَخْرَجْتُ الأَْوَّل أَوْ عَزَلْتُهُ، أَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْوَصِيَّةُ
إِلَيْهِمَا بِعَقْدَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَزْل وَاحِدٍ مِنْهُمَا،
فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ وَصِيَّيْنِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَيْهِمَا
دَفْعَةً وَاحِدَةً.
فَإِذَا تَعَدَّدَ الأَْوْصِيَاءُ، وَحَدَّدَ الْمُوصِي لِكُل وَاحِدٍ
اخْتِصَاصَهُ، بِأَنْ عَهِدَ إِلَى أَحَدِ الأَْوْصِيَاءِ الْقِيَامَ
بِشُئُونِ الأَْرَاضِي، وَإِلَى آخَرَ بِشُئُونِ الْمَتْجَرِ، أَوِ
الْمَصْنَعِ، وَإِلَى ثَالِثٍ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ أَطْفَالِهِ، وَفِي
هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَا جُعِل إِلَيْهِ دُونَ
غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى إِلَى وَصِيَّيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَجَعَل
لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ مُنْفَرِدًا، بِأَنْ يَقُول:
أَوْصَيْتُ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْكُمَا بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ
أَطْفَالِي، وَلِكُلٍّ مِنْكُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ، كَانَ
لِكُل وَصِيٍّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ الْمُوصِيَ جَعَل
كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيًّا مُنْفَرِدًا، وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ
تَصَرُّفِهِ عَلَى الاِنْفِرَادِ.
(7/216)
أَمَّا لَوْ أَوْصَى إِلَى وَصِيَّيْنِ
لِيَتَصَرَّفَا مُجْتَمِعَيْنِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا
الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، فَلَوْ تَصَرَّفَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ
الآْخَرِ أَوْ تَوْكِيلٍ مِنْهُ كَانَ لَهُ رَدُّ تَصَرُّفِهِ؛ لأَِنَّ
الْمُوصِيَ لَمْ يَجْعَل ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِنَظَرِهِ
وَحْدَهُ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي
الصُّورَةِ الأُْولَى، وَهِيَ مَا إِذَا خَصَّصَ لِكُل وَصِيٍّ عَمَلاً،
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُول: إِنَّ الْوِصَايَةَ لاَ تَتَخَصَّصُ
بِالتَّخْصِيصِ مِنَ الْمُوصِي، بَل يَكُونُ الْوَصِيُّ وَصِيًّا فِيمَا
يَمْلِكُهُ الْمُوصِي، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلاَمِ عَلَى سُلْطَةِ
الْوَصِيِّ.
وَإِذَا تَعَدَّدَ الأَْوْصِيَاءُ، وَكَانَ الإِْيصَاءُ مُطْلَقًا عَنِ
التَّخْصِيصِ أَوِ التَّقْيِيدِ بِالاِنْفِرَادِ أَوِ الاِجْتِمَاعِ،
بِأَنْ قَال: أَوْصَيْتُ إِلَيْكُمَا بِالنَّظَرِ فِي شُئُونِ أَطْفَالِي
مَثَلاً، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ. فَأَبُو حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٌ يَقُولاَنِ: لَيْسَ لأَِحَدِ الْوَصِيَّيْنِ الاِنْفِرَادُ
بِالتَّصَرُّفِ، إِلاَّ أَنَّهُمَا اسْتَثْنَيَا مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ
التَّصَرُّفَاتِ، فَأَجَازَا لِكُل وَاحِدٍ الاِنْفِرَادَ بِهَا
لِلضَّرُورَةِ، لأَِنَّهَا تَصَرُّفَاتٌ عَاجِلَةٌ لاَ تَحْتَمِل
التَّأْخِيرَ، أَوْ لأَِنَّهَا لاَزِمَةٌ لِحِفْظِ الْمَال، أَوْ لأَِنَّ
اجْتِمَاعَ الرَّأْيِ فِيهَا مُتَعَذَّرٌ، كَتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ
وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ الْمُعَيَّنِ، وَرَدِّ
الْوَدِيعَةِ وَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْمُعَيَّنَتَيْنِ، وَشِرَاءِ مَا
لاَ بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَقَبُول
الْهِبَةِ لَهُ، وَالْخُصُومَةِ عَنِ الْمَيِّتِ فِيمَا يُدْعَى لَهُ أَوْ
عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ الاِجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، أَوْ
يَضُرُّ تَأْخِيرُهُ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ قَرِيبٌ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَوْصَى إِلَى
اثْنَيْنِ وَلَمْ يَجْعَل لِكُلٍّ مِنْهُمَا الاِنْفِرَادَ بِالتَّصَرُّفِ
لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ
اجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ، وَهَذَا فِي أَمْرِ الأَْطْفَال وَأَمْوَالِهِمْ،
وَتَفْرِقَةِ الْوَصَايَا غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ،
(7/216)
وَقَضَاءُ دَيْنٍ لَيْسَ فِي التَّرِكَةِ
جِنْسُهُ. وَأَمَّا رَدُّ الأَْعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ كَالْمَغْصُوبِ
وَالْوَدَائِعِ وَالأَْعْيَانِ الْمُوصَى بِهَا وَقَضَاءُ دَيْنٍ فِي
التَّرِكَةِ جِنْسُهُ، فَلأَِحَدِهِمَا الاِسْتِقْلاَل بِهِ. (1)
وَحُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ أَنَّ الْوِصَايَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ
بِالتَّفْوِيضِ مِنَ الْمُوصِي، فَيُرَاعَى وَصْفُ هَذَا التَّفْوِيضِ،
وَهُوَ الاِجْتِمَاعُ؛ لأَِنَّهُ وَصْفٌ مُفِيدٌ، إِذْ رَأْيُ الْوَاحِدِ
لاَ يَكُونُ كَرَأْيِ الاِثْنَيْنِ، وَالْمُوصِي مَا رَضِيَ إِلاَّ
بِرَأْيِهِمَا، بِدَلِيل اخْتِيَارِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ
يَدُل دَلاَلَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ
رَأْيِهِمَا وَاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّصَرُّفَاتِ، حَتَّى تَكُونَ
أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا
وَصِيٌّ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا جَازَ انْفِرَادُ أَحَدِهِمَا فِي
التَّصَرُّفَاتِ الْمُسْتَثْنَاةِ لأَِنَّهَا ضَرُورِيَّاتٌ،
وَالضَّرُورِيَّاتُ مُسْتَثْنَاةٌ دَائِمًا. (2)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ
الْوَصِيَّيْنِ الاِنْفِرَادُ بِالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ
الأَْشْيَاءِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا فَالْحَاكِمُ - كَمَا
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ - يُقِيمُ أَمِينًا مَقَامَ الْغَائِبِ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ شَرَّكَ بَيْنَ
الْوَصِيَّيْنِ فِي النَّظَرِ، فَلَمْ يَكُنْ لأَِحَدِهِمَا الاِنْفِرَادُ
فِي التَّصَرُّفِ، كَالْوَكِيلَيْنِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدِهِمَا أَنْ
يَتَصَرَّفَ بِدُونِ الآْخَرِ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّانِ. (3)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لِكُلٍّ مِنَ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 6 / 703 - 705، وتبيين الحقائق 6 / 208، 209،
ومغني المحتاج 3 / 77، 78، وحاشية القليوبي 3 / 179.
(2) تبيين الحقائق 6 / 208 / 209.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 403، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 /
475، والمغني 6 / 136.
(7/217)
بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ،
وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْوِصَايَةَ مِنْ قَبِيل الْوِلاَيَةِ،
وَهِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَتَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنَ
الْوَصِيِّينَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَال، كَوِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ إِلَى
الأَْخَوَيْنِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ
الْكَمَال، فَكَذَلِكَ الْوِصَايَةُ تَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنَ الْوَصِيَّيْنِ
عَلَى وَجْهِ الْكَمَال؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وِلاَيَةٌ. (1)
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُجْعَل لِكُلٍّ
مِنْهُمَا التَّصَرُّفُ مُنْفَرِدًا جَعَل الْقَاضِيَ مَكَانَهُ آخَرًا،
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛
لأَِنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا أَوْصَى إِلَى الاِثْنَيْنِ لَمْ يَرْضَ
بِنَظَرِ الْبَاقِي مِنْهُمَا وَحْدَهُ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ، وَلَمْ يُوصِ
قَبْل مَوْتِهِ إِلَى صَاحِبِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، كَانَ لِلْحَاكِمِ
أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا فِيهِ الأَْصْلَحُ، فَإِنْ رَأَى الأَْصْلَحَ فِي
إِبْقَاءِ الْحَيِّ مِنْهُمَا وَصِيًّا وَحْدَهُ لَمْ يَجْعَل مَعَهُ
وَصِيًّا آخَرَ، وَإِنْ رَأَى الأَْصْلَحَ فِي جَعْل غَيْرِهِ وَصِيًّا
مَعَهُ جَعَل مَعَهُ غَيْرَهُ. (3)
الأَْجْرُ عَلَى الْوِصَايَةِ:
17 - يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَ أَجْرًا عَلَى نَظَرِهِ
وَعَمَلِهِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّ كَالْوَكِيل، وَالْوَكِيل يَجُوزُ لَهُ
أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَى عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ، بِهَذَا قَال
الْحَنَابِلَةُ (4) ، وَبِهِ أَيْضًا قَال الْمَالِكِيَّةُ، فَإِنَّهُمْ
نَصُّوا
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 208.
(2) تبيين الحقائق 6 / 209، والدر وحاشية ابن عابدين 6 / 705، والقليوبي 3
/ 179، والمغني 6 / 142.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 403، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 /
475.
(4) المغني 6 / 142.
(7/217)
عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا طَلَبَ
أُجْرَةً عَلَى نَظَرِهِ فِي مَال الْيَتِيمِ، فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ
يَفْرِضَ لَهُ أُجْرَةً عَلَى نَظَرِهِ بِقَدْرِ شُغْلِهِ فِي مَال
الْيَتِيمِ وَشِرَاءِ نَفَقَتِهِ. فَإِنْ تَوَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ. كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ
لِلْوَصِيِّ أُجْرَةً عَلَى نَظَرِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ سَدَادًا
لِلأَْيْتَامِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ النَّاظِرُ فِي أَمْرِ الطِّفْل
أَجْنَبِيًّا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال الطِّفْل قَدْرَ أُجْرَةِ
عَمَلِهِ، فَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَ مَا أَخَذَهُ، وَلَوْ
لِكِفَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا، أَوْ أُمًّا - بِحُكْمِ
الْوَصِيَّةِ لَهَا - فَلاَ يَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا إِنْ كَانَ
غَنِيًّا، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الطِّفْل، وَلَهُ أَنْ
يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ يَحْتَاجُ
إِلَى إِذْنِ حَاكِمٍ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَصِيَّ إِنْ
كَانَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ فَلَيْسَ لَهُ أَجْرٌ عَلَى وَصِيَّتِهِ، وَإِنْ
كَانَ وَصِيَّ الْقَاضِي، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَل لَهُ أَجْرَ الْمِثْل
عَلَى وَصِيَّتِهِ (3) .
وَمَعَ هَذَا فَقَدْ أَجَازُوا لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْكُل مِنْ مَال
الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا، وَيَرْكَبَ دَابَّتَهُ إِذَا ذَهَبَ
فِي حَاجَتِهِ (4) ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا
فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (5) ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ عِنْدِي
يَتِيمًا عِنْدَهُ
__________
(1) البهجة في شرح التحفة، وحلى المعاصم المطبوع بهامش الشرح المذكور 2 /
309.
(2) مغني المحتاج 3 / 78، 79.
(3) الدر وحاشية ابن عابدين 6 / 713.
(4) الاختيار لتعليل المختار 5 / 69، 70.
(5) سورة النساء / 6.
(7/218)
مَالٌ، وَلَيْسَ لِي مَالٌ، آكُل مِنْ
مَالِهِ؟ قَال: كُل بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُسْرِفٍ (1) .
انْتِهَاءُ الْوِصَايَةِ:
18 - تَنْتَهِي الْوِصَايَةُ بِأَحَدِ الأُْمُورِ الآْتِيَةِ:
(1) مَوْتُ الْوَصِيِّ، أَوْ فَقْدُهُ لِشَرْطٍ مِنَ الشُّرُوطِ
الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ، فَإِنْ مَاتَ الْوَصِيُّ، أَوْ فَقَدَ شَرْطًا مِنَ
الشُّرُوطِ الْوَاجِبِ تَوَافُرُهَا لِصِحَّةِ الإِْيصَاءِ، كَالإِْسْلاَمِ
وَالْعَقْل وَغَيْرِهِمَا انْتَهَتْ وِصَايَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛
لأَِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ تُعْتَبَرُ
فِي الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ (2) .
(2) انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْوِصَايَةِ، فَإِذَا أُقِّتَتِ الْوِصَايَةُ
بِمُدَّةٍ، كَأَنْ قَال الْمُوصِي: أَوْصَيْتُ إِلَى فُلاَنٍ لِمُدَّةِ
سَنَةٍ، أَوْ قَال: أَوْصَيْتُ إِلَى فُلاَنٍ مُدَّةَ غِيَابِ وَلَدِي
فُلاَنٍ، أَوْ إِلَى أَنْ يَصِيرَ رَشِيدًا، فَإِذَا حَضَرَ أَوْ رَشَدَ
فَهُوَ وَصِيِّي، فَإِنَّ الإِْيصَاءَ يَنْتَهِي إِذَا حَضَرَ وَلَدُهُ،
أَوْ صَارَ رَشِيدًا؛ لأَِنَّ الإِْيصَاءَ كَالإِْمَارَةِ، وَالإِْمَارَةُ
يَصِحُّ تَوْقِيتُهَا وَتَعْلِيقُهَا عَلَى الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ
الإِْيصَاءُ؛ وَلأَِنَّ الإِْيصَاءَ مُؤَقَّتٌ شَرْعًا بِبُلُوغِ
الأَْيْتَامِ أَوْ إِينَاسِ الرُّشْدِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا
بِالشَّرْطِ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا (3) .
__________
(1) حديث: " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل. . . ". أخرجه
أبو داود (3 / 293 - ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (6 / 256 - ط المكتبة
التجارية) وقواه ابن حجر في الفتح (8 / 241 - ط السلفية) . ورواه ابن أبي
حاتم (مختصر تفسير ابن كثير 1 / 359) .
(2) الشرح الكبير 4 / 403، والشرح الصغير 2 / 475، ومغني المحتاج 3 / 75،
والمغني 6 / 140، 141، والدر وحاشية ابن عابدين 6 / 705، 706.
(3) الشرح الصغير 2 / 473، ومغني المحتاج 3 / 77، والإقناع 4 / 34،
والاختيار 5 / 69.
(7/218)
(3) عَزْل الْوَصِيِّ نَفْسَهُ، فَلَوْ
عَزَل الْوَصِيُّ نَفْسَهُ بَعْدِ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبُول الإِْيصَاءِ،
انْتَهَتْ وِصَايَتُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ لَيْسَ لَهُ عَزْل نَفْسِهِ عَنِ
الإِْيصَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبُولِهِ إِيَّاهُ إِلاَّ
لِعُذْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَنْ ذَلِكَ فِي حُكْمِ
الإِْيصَاءِ.
(4) انْتِهَاءُ الْعَمَل الَّذِي عُهِدَ إِلَى الْوَصِيِّ الْقِيَامُ بِهِ،
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَمَل هُوَ قَضَاءُ الدُّيُونِ الَّتِي عَلَى
الْمَيِّتِ، أَوِ اقْتِضَاءُ دُيُونِهِ الَّتِي لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ
تَوْزِيعُ وَصَايَاهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُمْ بِهَا، انْتَهَتِ
الْوِصَايَةُ بِدَفْعِ الدُّيُونِ إِلَى أَصْحَابِهَا، أَوْ بِأَخْذِهَا
مِمَّنْ كَانَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِإِعْطَاءِ الْوَصَايَا لِمَنْ أَوْصَى
لَهُمْ بِهَا. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَمَل هُوَ النَّظَرُ فِي شُئُونِ
الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ وَأَمْوَالِهِمُ، انْتَهَتْ هَذِهِ الْوِصَايَةُ
بِبُلُوغِ الصَّغِيرِ عَاقِلاً رَشِيدًا، بِحَيْثُ يُؤْتَمَنُ فِي
إِدَارَةِ أَمْوَالِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَمْ يُحَدِّدْ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الرُّشْدِ سِنًّا مُعَيَّنَةً يُحْكَمُ بِزَوَال
الْوِصَايَةِ عَنِ الْقَاصِرِ مَتَى بَلَغَهَا، بَل هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى
ظُهُورِهِ بِالْفِعْل، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الاِخْتِبَارِ
وَالتَّجْرِبَةِ، فَإِذَا دَلَّتِ التَّجْرِبَةُ عَلَى تَحَقُّقِ الرُّشْدِ
حُكِمَ بِرُشْدِهِ، وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى
إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) .
وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ وَكَانَ عَاقِلاً لاَ تَكْمُل
أَهْلِيَّتُهُ، وَلاَ تَرْتَفِعُ الْوِلاَيَةُ أَوِ الْوِصَايَةُ عَنْهُ
فِي مَالِهِ،
__________
(1) سورة النساء / 6.
(7/219)
بَل تَبْقَى أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ
وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي
جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا
بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) ، فَإِنَّهُ مَنَعَ الأَْوْلِيَاءَ
وَالأَْوْصِيَاءَ مِنْ دَفْعِ الْمَال إِلَى السُّفَهَاءِ، وَأَنَاطَ
دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِمْ بِحُصُول أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ.
فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ، مَعَ عَدَمِ
الرُّشْدِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا النَّصِّ وَلاَ فِي غَيْرِهِ تَحْدِيدٌ
لِلرُّشْدِ بِسِنٍّ مُعَيَّنَةٍ، بَل هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى ظُهُورِهِ
بِالْفِعْل، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الاِخْتِبَارِ وَالتَّجْرِبَةِ، فَإِنْ
دَلَّتْ عَلَى تَحَقُّقِ الرُّشْدِ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَسُلِّمَتْ
إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، وَإِلاَّ بَقِيَتِ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهِ،
وَبَقِيَتْ أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ، كَمَا
كَانَتْ قَبْل الْبُلُوغِ مَهْمَا طَال الزَّمَنُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ غَيْرَ رَشِيدٍ - وَكَانَ
عَاقِلاً - كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ أَوِ
الْوِصَايَةُ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ،
بَل تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ
بِالْفِعْل، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ
هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا
لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لأَِنَّ مَنْعَ الْمَال عَنْهُ كَانَ عَلَى
سَبِيل الاِحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيل الْحَجْرِ
عَلَيْهِ، وَالإِْنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِ هَذِهِ السِّنِّ،
وَصَلاَحِيَّتِهِ لأََنْ يَكُونَ جَدًّا، لاَ يَكُونُ أَهْلاً
لِلتَّأْدِيبِ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 5، 6
(2) البدائع 7 / 170، والدر وحاشية ابن عابدين 6 / 149، 150، والشرح الصغير
2 / 138، والمغني 5 / 601، والروض المربع 2 / 202.
(7/219)
إِيفَاءٌ
انْظُرْ: وَفَاءٌ
إِيقَاظٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيقَاظُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ أَيْقَظَهُ: إِذَا نَبَّهَهُ مِنْ
نَوْمِهِ (1) وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ فِي الْفِقْهِ عَنْهُ فِي
اللُّغَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَرِدُ عَلَى الإِْيقَاظِ الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ التَّالِيَةُ: -
فَيَكُونُ فَرْضًا، إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى نَوْمِهِ تَرْكُ فَرْضٍ. أَوْ
كَانَ فِي تَرْكِهِ تَعْرِيضُ حَيَاتِهِ لِخَطَرٍ مُحَقَّقٍ.
- وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، إِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ
تَرْكَهُ نَائِمًا قَدْ يُعَرِّضُهُ لِخَطَرٍ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى
الظَّنِّ أَنَّ تَرْكَهُ يُفَوِّتُ فَرْضًا عَلَيْهِ إِنْ نَامَ بَعْدَ
دُخُول الْوَقْتِ.
- وَقَدْ يَكُونُ سِنَةً، كَإِيقَاظِ مَنْ نَامَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ
أَوْ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ؛ لِوُرُودِ أَخْبَارٍ بِالنَّهْيِ عَنِ
النَّوْمِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (2) .
-
__________
(1) المصباح ومعجم متن اللغة مادة: " يقظ ".
(2) حديث النوم بعد صلاة العصر، وحديث ذم النوم بعد صلاة الصبح. أخرجهما
ابن الجوزي في الموضوعات (3 / 68 - 69 ط السلفية) وحكم عليهما بعدم الصحة،
وذكرهما كذلك ابن عراق في تنزيه الشريعة (2 / 290 ط مكتبة القاهرة) .
(7/220)
وَكَذَلِكَ يُنْدَبُ الإِْيقَاظُ لِغَسْل
يَدَيْهِ أَوْ ثَوْبِهِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ - لاَ سِيَّمَا اللَّحْمَ
- لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَال. قَال: مَنْ
بَاتَ، وَفِي يَدِهِ غَمْرٌ، فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ
نَفْسَهُ (1) .
- وَكَذَلِكَ إِيقَاظُ مَنْ نَامَ فِي الْمِحْرَابِ أَوْ فِي قِبْلَةِ
الْمُصَلِّينَ فِي الصَّفِّ الأَْوَّل.
- وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا لَوْ كَانَ فِي إِيقَاظِهِ ضَرَرٌ
مُحَقَّقٌ، كَالْمَرِيضِ إِذَا نَهَى الطَّبِيبُ عَنْ إِيقَاظِهِ.
هَذَا وَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي دَفْعِ
الضَّرَرِ الأَْكْبَرِ بِارْتِكَابِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ
يَرْتَكِبُ أَهْوَن الضَّرَرَيْنِ.
عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى سَبَبٌ مِمَّا سَبَقَ، فَإِنَّ الأَْصْل
كَرَاهَةُ إِيقَاظِ النَّائِمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيذَاءِ، وَلِمَا
وَرَدَ مِنْ أَخْبَارٍ تُرَاعَى فِيهَا حَال النَّائِمِ، كَمَنْعِ
السَّلاَمِ عَلَى النَّائِمِ، وَخَفْضِ الصَّوْتِ لِمَنْ يُصَلِّي جَهْرًا
بِحَضْرَةِ نَائِمٍ (2) .
مِنْ مَوَاطِنِ الْبَحْثِ:
3 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ الإِْيقَاظِ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ،
حِينَ الْكَلاَمِ عَلَى أَوْقَاتِهَا، بِمُنَاسَبَةِ التَّعَرُّضِ
لِكَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْل الصَّلاَةِ خَوْفَ تَضْيِيعِهَا بِخُرُوجِ
الْوَقْتِ.
__________
(1) حديث: " من بات. . . " أخرجه الترمذي (4 / 289 ط الحلبي) وصححه ابن حجر
في الفتح (9 / 579 ط السلفية) .
(2) الجمل على المنهج 1 / 274 ط الميمنية، وجواهر الإكليل 1 / 34 ط الحلبي،
والزرقاني على متن خليل 1 / 148 ط بولاق، والإنصاف شرح المقنع 1 / 389 ط
مطبعة السنة المحمدية، وابن عابدين 2 / 97 ط الأولى مع التصرف.
(7/220)
إِيقَافٌ
انْظُرْ: وَقْفٌ
إِيلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الإِْيلاَءُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: الْحَلِفُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ
أَكَانَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَمْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ،
مَأْخُوذٌ مِنْ آلَى عَلَى كَذَا يُولِي إِيلاَءً وَأَلْيَةً: إِذَا حَلَفَ
عَلَى فِعْل شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ.
كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا غَضِبَ مِنْ زَوْجَتِهِ حَلَفَ
أَلاَّ يَطَأَهَا السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، أَوْ أَلاَّ يَطَأَهَا
أَبَدًا، وَيَمْضِي فِي يَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ أَوْ حَرَجٍ، وَقَدْ
تَقْضِي الْمَرْأَةُ عُمْرَهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، فَلاَ هِيَ زَوْجَةٌ
تَتَمَتَّعُ بِحُقُوقِ الزَّوْجَةِ، وَلاَ هِيَ مُطَلَّقَةٌ تَسْتَطِيعُ
أَنْ تَتَزَوَّجَ بِرَجُلٍ آخَرَ، فَيُغْنِيهَا اللَّهُ مِنْ سَعَتِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ الإِْسْلاَمُ أَنْصَفَ الْمَرْأَةَ، وَوَضَعَ لِلإِْيلاَءِ
أَحْكَامًا خَفَّفَتْ مِنْ أَضْرَارِهِ، وَحَدَّدَ لِلْمُولِي أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ، وَأَلْزَمَهُ إِمَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى مُعَاشَرَةِ زَوْجَتِهِ،
وَإِمَّا بِالطَّلاَقِ عَلَيْهِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة / 226، 227.
(7/221)
وَالإِْيلاَءُ فِي الاِصْطِلاَحِ -
يُعَرِّفُهُ الْحَنَفِيَّةُ - أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ بِاللَّهِ تَعَالَى،
أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا، أَلاَّ يَقْرَبَ
زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى
قُرْبَانِهَا أَمْرًا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ كَأَنْ
يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ، أَوْ سِتَّةً، أَوْ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ أَبَدًا،
أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِي، أَوْ وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ وَلاَ يَذْكُرُ
مُدَّةً، وَهَذِهِ صُورَةُ الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا صُورَةُ
التَّعْلِيقِ، فَهُوَ أَنْ يَقُول: إِنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ
صِيَامُ شَهْرٍ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ إِطْعَامُ عِشْرِينَ مِسْكِينًا،
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، فَإِذَا
قَال الزَّوْجُ شَيْئًا مِنْ هَذَا اعْتُبِرَ قَوْلُهُ إِيلاَءً. أَمَّا
إِذَا امْتَنَعَ الرَّجُل مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ بِدُونِ يَمِينٍ،
فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِيلاَءً، وَلَوْ طَالَتْ مُدَّةُ الاِمْتِنَاعِ
حَتَّى بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ، بَل يُعْتَبَرُ سُوءُ
مُعَاشَرَةٍ يُتِيحُ لِزَوْجَتِهِ طَلَبَ الْفُرْقَةِ عِنْدَ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ
قُرْبَانِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ الزَّوْجُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
كَالنَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ، فَإِنَّهُ لاَ
يَكُونُ إِيلاَءً؛ لأَِنَّ الإِْيلاَءَ يَمِينٌ، وَالْحَلِفَ بِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ يَمِينًا شَرْعًا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ
أَوْ لِيَصْمُتْ (1) .
وَمِثْل هَذَا لَوْ عَلَّقَ الرَّجُل عَلَى قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ أَمْرًا
لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، كَصَلاَةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ
إِطْعَامِ مِسْكِينٍ، لاَ يَكُونُ إِيلاَءً.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ
الزَّوْجَةِ فِيهَا أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) حديث: " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ". أخرجه البخاري (الفتح
12 / 530 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1267 - ط الحلبي) .
(7/221)
إِيلاَءً، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ لِلإِْيلاَءِ فِي حُكْمِ
الطَّلاَقِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَلاَ يَكُونُ
الْحَلِفُ عَلَى مَا دُونَهَا إِيلاَءً فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ.
وَقَدْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي أَنَّ الإِْيلاَءَ يَكُونُ
بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالتَّعْلِيقِ - الْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ،
فَقَالُوا: الإِْيلاَءُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ
تَعَالَى، أَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ أَوِ الْعِتْقِ أَوِ الْمَشْيِ
إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لاَ
يَكُونُ إِيلاَءً؛ لأَِنَّ الإِْيلاَءَ قَسَمٌ، وَالتَّعْلِيقَ لاَ
يُسَمَّى قَسَمًا شَرْعًا وَلاَ لُغَةً، وَلِهَذَا لاَ يُؤْتَى فِيهِ
بِحَرْفِ الْقَسَمِ، وَلاَ يُجَابُ بِجَوَابِهِ، وَلاَ يَذْكُرُهُ أَهْل
الْعَرَبِيَّةِ فِي بَابِ الْقَسَمِ، وَعَلَى هَذَا لاَ يَكُونُ إِيلاَءً
(1) .
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ تَعْلِيقَ مَا يَشُقُّ
عَلَى النَّفْسِ يَمْنَعُ مِنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ خَوْفًا مِنْ
وُجُوبِهِ، فَيَكُونُ إِيلاَءً كَالْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى،
وَالتَّعْلِيقُ - وَإِنْ كَانَ لاَ يُسَمَّى قَسَمًا شَرْعًا وَلُغَةً -
وَلَكِنَّهُ يُسَمَّى حَلِفًا عُرْفًا (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الإِْيلاَءَ يَكُونُ بِالْحَلِفِ عَلَى
تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) (3)
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 171، والخرشي 3 / 230، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي
2 / 427، ومغني المحتاج 3 / 344، والمغني لابن قدامة 7 / 298.
(2) المراجع السابقة.
(3) الخرشي 3 / 230، والشرح الكبير 2 / 428، ومغني المحتاج 3 / 343،
والمغني لابن قدامة 7 / 300.
(7/222)
إِلَى أَنَّ الإِْيلاَءَ لاَ يَكُونُ
إِلاَّ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذِهِ الآْرَاءِ وَأَدِلَّتُهَا
فِي الْكَلاَمِ عَنْ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ.
2 - وَالْحِكْمَةُ فِي مَوْقِفِ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ مِنَ
الإِْيلاَءِ هَذَا الْمَوْقِفَ: أَنَّ هَجْرَ الزَّوْجَةِ قَدْ يَكُونُ
مِنْ وَسَائِل تَأْدِيبِهَا، كَمَا إِذَا أَهْمَلَتْ فِي شَأْنِ بَيْتِهَا
أَوْ مُعَامَلَةِ زَوْجِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي
تَسْتَدْعِي هَجْرَهَا، عَلَّهَا تَثُوبَ إِلَى رُشْدِهَا وَيَسْتَقِيمَ
حَالُهَا، فَيَحْتَاجُ الرَّجُل فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالاَتِ إِلَى
الإِْيلاَءِ، يُقَوِّي بِهِ عَزْمَهُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ
تَأْدِيبًا لَهَا وَرَغْبَةً فِي إِصْلاَحِهَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الأَْغْرَاضِ الْمَشْرُوعَةِ.
فَلِهَذَا لَمْ تُبْطِل الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ الإِْيلاَءَ
جُمْلَةً، بَل أَبْقَتْهُ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ؛ لِيُمْكِنَ
الاِلْتِجَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
رُكْنُ الإِْيلاَءِ:
3 - رُكْنُ الإِْيلاَءِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ الإِْيلاَءِ عَلَى
وُجُودِهِ هُوَ: اللَّفْظُ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ عَلَى
التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالَّذِي يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ: الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ،
وَهِيَ الْكِتَابَةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي يَبْقَى أَثَرُهَا،
كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْوَرَقِ وَنَحْوِهِ. أَمَّا الْكِتَابَةُ غَيْرُ
الْمُسْتَبِينَةِ، وَهِيَ الَّتِي لاَ يَبْقَى أَثَرُهَا، كَالْكِتَابَةِ
عَلَى الْهَوَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَاءِ فَلاَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ
فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَصِحُّ بِهَا الإِْيلاَءُ.
وَمِثْل الْكِتَابَةِ فِي ذَلِكَ الإِْشَارَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ
النُّطْقِ بِالْعِبَارَةِ، كَالأَْخْرَسِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ. فَإِذَا
كَانَ لِلأَْخْرَسِ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ، يَعْرِفُ الْمُتَّصِلُونَ بِهِ
أَنَّ
(7/222)
الْمُرَادَ بِهَا الْحَلِفُ عَلَى
الاِمْتِنَاعِ مِنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ
أَكْثَرَ، صَحَّ الإِْيلاَءُ بِهَا، كَمَا يَصِحُّ طَلاَقُهُ وَسَائِرُ
تَصَرُّفَاتِهِ (1) .
شَرَائِطُ الإِْيلاَءِ:
4 - شَرَائِطُ الإِْيلاَءِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، مِنْهَا مَا
يُشْتَرَطُ فِي رُكْنِ الإِْيلاَءِ، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل الْمُولِي،
وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ كُل نَوْعٍ مِنْهَا:
أ - شَرَائِطُ الرُّكْنِ:
يُشْتَرَطُ فِي رُكْنِ الإِْيلاَءِ، وَهُوَ صِيغَتُهُ، ثَلاَثَ شَرَائِطَ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى:
5 - أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ صَالِحًا لِلدَّلاَلَةِ عَلَى مَعْنَى
الإِْيلاَءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَادَّةُ اللَّفْظِ دَالَّةً عَلَى
مَنْعِ الزَّوْجِ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ دَلاَلَةً وَاضِحَةً عُرْفًا،
مِثْل قَوْل الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ أُوَاقِعُكِ، أَوْ لاَ
أُجَامِعُكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الإِْيلاَءِ
ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ:
الأَْوَّل: صَرِيحٌ، وَهُوَ مَا دَل عَلَى الْوَطْءِ لُغَةً وَعُرْفًا.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إِيلاَءً مَتَى صَدَرَ عَنْ
قَصْدٍ إِلَى التَّلَفُّظِ بِهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى النِّيَّةِ،
وَلَوْ قَال الزَّوْجُ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدِ الإِْيلاَءَ لاَ يُعْتَبَرُ
قَوْلُهُ لاَ دِيَانَةً
__________
(1) الخرشي 3 / 229.
(7/223)
وَلاَ قَضَاءً؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ لاَ
يَحْتَمِل غَيْرَ الإِْيلاَءِ، فَإِرَادَةُ مَعْنًى آخَرَ خِلاَفَهُ
تَكُونُ إِرَادَةً مَحْضَةً بِدُونِ لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهَا، فَلاَ
تُعْتَبَرُ.
الثَّانِي: مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَهُوَ مَا يُسْتَعْمَل فِي
الْجِمَاعِ عُرْفًا، كَلَفْظِ الْقُرْبَانِ وَالاِغْتِسَال، وَذَلِكَ
كَأَنْ يَحْلِفَ الرَّجُل أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ، وَبِهِ وَرَدَ
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} (1) .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَلاَّ يَغْتَسِل مِنْهَا؛ لأَِنَّ الاِغْتِسَال
مِنْهَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنِ الْجِمَاعِ عَادَةً.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ إِيلاَءً فِي الْقَضَاءِ مِنْ
غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى النِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَال الزَّوْجُ
لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ الْجِمَاعَ، لاَ يُقْبَل مِنْهُ هَذَا
الاِدِّعَاءُ فِي الْقَضَاءِ، وَيُقْبَل مِنْهُ دِيَانَةً، أَيْ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ فِي
عِبَارَتِهِ يَحْتَمِل الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ، وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ
الظَّاهِرِ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ نَوَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ،
فَتَكُونُ إِرَادَتُهُ صَحِيحَةً، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى
الَّذِي أَرَادَهُ يُخَالِفُ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ
لَمْ يُقْبَل مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ قَضَاءً، وَقُبِل مِنْهُ دِيَانَةً.
الثَّالِثُ: الْكِنَايَةُ، وَهُوَ مَا يَحْتَمِل الْجِمَاعَ وَغَيْرَهُ،
وَلَمْ يَغْلِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِمَاعِ عُرْفًا، كَمَا إِذَا
حَلَفَ الرَّجُل: أَلاَّ يَمَسَّ جِلْدُهُ جِلْدَ زَوْجَتِهِ، أَوْ أَلاَّ
يَقْرَبَ فِرَاشَهَا، أَوْ أَلاَّ يَجْمَعَ رَأْسَهُ وَرَأْسَهَا
وِسَادَةٌ.
وَحُكْمُ هَذَا النَّوْعِ: أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِيلاَءً إِلاَّ
بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا قَال الزَّوْجُ: أَرَدْتُ تَرْكَ الْجِمَاعِ كَانَ
مُولِيًا، وَإِنْ قَال: لَمْ أُرِدْ تَرْكَ الْجِمَاعِ لَمْ يَكُنْ
مُولِيًا؛ لأَِنَّ هَذِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 222.
(7/223)
الأَْلْفَاظَ تُسْتَعْمَل فِي الْجِمَاعِ
وَفِي غَيْرِهِ اسْتِعْمَالاً وَاحِدًا فَلاَ يَتَعَيَّنُ الْجِمَاعُ
إِلاَّ بِالنِّيَّةِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ:
أَنَّ الأَْلْفَاظَ فِي ذَلِكَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحَةٍ وَكِنَايَةٍ
فَقَطْ (1) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ:
6 - أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ دَالَّةً عَلَى الإِْرَادَةِ الْجَازِمَةِ
لِلْحَال، وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِخُلُوِّ الصِّيغَةِ مِنْ كُل
كَلِمَةٍ تَدُل عَلَى التَّرَدُّدِ أَوِ الشَّكِّ. وَأَلاَّ تَكُونَ
مُشْتَمِلَةً عَلَى أَدَاةٍ مِنَ الأَْدَوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى
التَّأْخِيرِ وَالتَّسْوِيفِ، كَحَرْفِ السِّينِ أَوْ سَوْفَ؛ لأَِنَّ
التَّرَدُّدَ كَالرَّفْضِ مِنْ حَيْثُ الْحَكَمُ، وَالتَّأْخِيرُ وَعْدٌ
بِإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَلَيْسَ إِنْشَاءً لَهُ فِي
الْحَال، فَالإِْرَادَةُ فِي التَّصَرُّفِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْحَال،
وَلاَ يُوجَدُ التَّصَرُّفُ إِلاَّ بِإِرَادَةِ إِنْشَائِهِ فِي الْحَال.
فَمَنْ يَقُول لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ سَأَمْنَعُ نَفْسِي مِنْ
مُوَاقَعَتِكِ، أَوْ سَوْفَ أَمْنَعُ نَفْسِي مِنْ مُعَاشَرَتِكِ، لاَ
يَكُونُ مُولِيًا لأَِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لاَ تَدُل عَلَى إِرَادَةِ
مَنْعِ نَفْسِهِ مِنَ الْمُوَاقَعَةِ فِي الْحَال، وَإِنَّمَا تَدُل عَلَى
أَنَّهُ سَيَفْعَل ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَل.
هَذَا، وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ هُنَا أَنَّ اشْتِرَاطَ
الْجَزْمِ فِي الإِْرَادَةِ لِلْحَال لاَ يُنَافِي جَوَازَ أَنْ تَكُونَ
الصِّيغَةُ مُعَلَّقَةً عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، أَوْ
مُضَافَةً إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْرَادَةَ فِي
الإِْيلاَءِ الْمُعَلَّقِ وَالْمُضَافِ مَقْطُوعٌ بِهَا، لاَ تَرَدُّدَ
فِيهَا، غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّ
__________
(1)) البدائع 3 / 162، وابن عابدين 2 / 845، والمغني 7 / 315، 316،
والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 427، وشرح المنهاج 4 / 10.
(7/224)
الإِْيلاَءَ الْمُعَلَّقَ لَمْ يَحْصُل
الْجَزْمُ بِهِ مِنْ قِبَل الْمُولِي فِي الْحَال، بَل عِنْدَ وُجُودِ
الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَالإِْيلاَءُ الْمُضَافُ مَجْزُومٌ بِهِ فِي
الْحَال، غَيْرَ أَنَّ ابْتِدَاءَ حُكْمِهِ مُؤَخَّرٌ إِلَى الْوَقْتِ
الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ قَدْ
صَدَرَا بِإِرَادَةٍ جَازِمَةٍ فِي الْحَال.
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: صُدُورُ التَّعْبِيرِ عَنْ قَصْدٍ:
7 - يَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ النُّطْقَ
بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الإِْيلاَءِ أَوْ مَا يَقُومُ
مَقَامَهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ هَذِهِ الإِْرَادَةِ رَغْبَةٌ فِي
الإِْيلاَءِ وَارْتِيَاحٌ إِلَيْهِ كَانَ الإِْيلاَءُ صَادِرًا عَنْ رِضًى
وَاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ وُجِدَتِ الإِْرَادَةُ فَقَطْ، وَانْتَفَتِ
الرَّغْبَةُ فِي الإِْيلاَءِ وَالاِرْتِيَاحِ إِلَيْهِ لَمْ يَتَحَقَّقِ
الرِّضَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُكْرَهًا عَلَى الإِْيلاَءِ
مِنْ زَوْجَتِهِ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْل أَوِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوِ
الْحَبْسِ الْمَدِيدِ، فَيَصْدُرُ عَنْهُ الإِْيلاَءُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ
مَا هُدِّدَ بِهِ لَوِ امْتَنَعَ، فَإِنَّ صُدُورَ الصِّيغَةِ مِنَ
الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَال يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ، لَكِنْ
لَيْسَ عَنْ رِضًى وَاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ. وَالإِْيلاَءُ فِي هَذِهِ الْحَال
- حَال الإِْكْرَاهِ - غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ
عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1)
، وَإِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِي
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه
ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) وغيره من طرق كثيرة ذكرها السخاوي في
المقاصد ص 229 - 230 ط السعادة. ثم قال: مجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث
أصلا.
(7/224)
إِغْلاَقٍ (1) وَالإِْغْلاَقُ:
الإِْكْرَاهُ؛ لأَِنَّ الْمُكْرَهَ يُغْلَقُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَيُقْفَل
عَلَيْهِ رَأْيُهُ وَقَصْدُهُ، وَإِلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ يُحْمَل عَلَى
النُّطْقِ بِالْعِبَارَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا
حُكْمٌ، كَنُطْقِهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا (2) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِيلاَءُ الْمُكْرَهِ مُعْتَبَرٌ،
وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ الَّتِي سَيَأْتِي بَيَانُهَا؛ لأَِنَّ
الإِْيلاَءَ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ
الإِْكْرَاهِ، نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الأَْيْمَانِ وَالطَّلاَقِ،
وَأَنَّ الإِْيلاَءَ يَمِينٌ فِي أَوَّل الأَْمْرِ، وَطَلاَقٌ بِاعْتِبَارِ
الْمَال، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَا يُقَرَّرُ فِي بَابَيِ الأَْيْمَانِ
وَالطَّلاَقِ.
وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى قِيَاسِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِل؛
لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ التَّصَرُّفِ عَنْ
قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، لَكِنَّهُ لاَ يُرِيدُ حُكْمَهَا، وَطَلاَقُ
الْهَازِل وَيَمِينُهُ مُعْتَبَرَانِ، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ (3) .
8 - وَلَوْ صَدَرَتْ صِيغَةُ الإِْيلاَءِ مِنَ الزَّوْجِ، لَكِنَّهُ لَمْ
يُرِدْ مُوجَبَهَا، بَل أَرَادَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ - وَهَذَا هُوَ
الْهَازِل - فَإِنَّ الإِْيلاَءَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ (4) ،
__________
(1) حديث: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 660 -
ط الحلبي) والحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ورده
الذهبي بقوله: محمد بن عبيدي لم يحتج به مسلم، وقال أبو حاتم: ضعيف.
(2) الخرشي 3 / 173، والشرح الكبير 2 / 367، ومغني المحتاج 3 / 289،
والمغني لابن قدامة 7 / 118.
(3) فتح القدير 3 / 39، وحاشية ابن عابدين 2 / 650، 652، والبدائع 3 / 100.
(4) البدائع 3 / 100، والشرح الكبير 2 / 366، ومغني المحتاج 3 / 288،
والمغني لابن قدامة 6 / 535.
(7/225)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ:
النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (1) وَلأَِنَّ الْهَازِل قَاصِدٌ
لِلسَّبَبِ، وَهُوَ الصِّيغَةُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَأَنَّ
تَرَتُّبَ الأَْحْكَامِ عَلَى أَسْبَابِهَا مَوْكُولٌ إِلَى الشَّارِعِ لاَ
إِلَى الْمُتَصَرِّفِ.
9 - وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الإِْيلاَءِ،
فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الإِْيلاَءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَصْلاً - وَهُوَ
الْمُخْطِئُ - فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ
اعْتِبَارِ إِيلاَءِ الْمُخْطِئِ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ إِنَّمَا
يُعْتَبَرُ إِذَا قَصَدَ اللَّفْظَ الَّذِي يَدُل عَلَيْهِ وَأُرِيدَ
حُكْمُهُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، أَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ وَإِنْ لَمْ
يُرِدْ حُكْمَهُ، وَالْمُخْطِئُ. لَمْ يَقْصِدِ اللَّفْظَ الدَّال عَلَى
الإِْيلاَءِ وَلاَ حُكْمَهُ، فَلاَ يَكُونُ الإِْيلاَءُ الصَّادِرُ مِنْهُ
مُعْتَبَرًا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْطِئِ إِلَى أَنَّ إِيلاَءَهُ لاَ
يُعْتَبَرُ دِيَانَةً، وَيُعْتَبَرُ قَضَاءً. وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ فِي
الْقَضَاءِ دُونَ الدِّيَانَةِ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالإِْيلاَءِ
إِلاَّ الزَّوْجُ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ مِنْ غَيْرِ
حَرَجٍ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ
الإِْيلاَءِ لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ، وَإِذَا سَأَل فَقِيهًا عَمَّا صَدَرَ
مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِأَنْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، مَتَى
عَلِمَ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُول. فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ وَرُفِعَ
الأَْمْرُ إِلَى الْقَاضِي حَكَمَ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ
إِذَا اتَّصَل بِزَوْجَتِهِ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَبِوُقُوعِ
الطَّلاَقِ إِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ بِدُونِ مُعَاشَرَةٍ، كَمَا هُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي
__________
(1) منتقي الأخبار مع شرح نيل الأوطار 6 / 249. وحديث: " ثلاث جدهن جد،
وهزلهن جد. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 644 - ط عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن
حجر في التلخيص (3 / 210 - ط دار المحاسن) .
(2) مغني المحتاج 3 / 287، والمغني لابن قدامة 6 / 235.
(7/225)
أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ
يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. وَلَوْ قَبِل فِي الْقَضَاءِ دَعْوَى أَنَّ مَا
جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ
شَيْءٌ آخَرُ لاَ نَفْتَحُ الْبَابَ أَمَامَ الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ
يَقْصِدُونَ النُّطْقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الإِْيلاَءِ، ثُمَّ
يَدَّعُونَ أَنَّهُ سَبْقُ لِسَانٍ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِهِمْ فِي الطَّلاَقِ
- أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْصِدِ النُّطْقَ بِصِيغَةِ
الإِْيلاَءِ، بَل قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الإِْيلاَءِ، فَزَل
لِسَانُهُ، وَتَكَلَّمَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الإِْيلاَءِ لاَ
يَكُونُ إِيلاَءً فِي الْقَضَاءِ، كَمَا لاَ يَكُونُ إِيلاَءً فِي
الدِّيَانَةِ وَالْفَتْوَى (2) .
وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَطَأِ: وَالْهَزْل
وَالإِْكْرَاهِ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ لاَ تَكُونُ الْعِبَارَةُ
الَّتِي نَطَقَ بِهَا الزَّوْجُ مَقْصُودَةً أَصْلاً، بَل الْمَقْصُودُ
عِبَارَةٌ أُخْرَى، وَصَدَرَتْ هَذِهِ بَدَلاً عَنْهَا. وَفِي الْهَزْل:
تَكُونُ الْعِبَارَةُ مَقْصُودَةً؛ لأَِنَّهَا بِرِضَى الزَّوْجِ
وَاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنْ حُكْمُهَا لاَ يَكُونُ مَقْصُودًا؛ لأَِنَّ
الزَّوْجَ لاَ يُرِيدُ هَذَا الْحُكْمَ، بَل يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ هُوَ
اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ. وَفِي الإِْكْرَاهِ: تَكُونُ الْعِبَارَةُ
صَادِرَةً عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَلَكِنَّهُ اخْتِيَارٌ غَيْرُ
سَلِيمٍ؛ لِوُجُودِ الإِْكْرَاهِ، وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الإِْرَادَةِ،
وَيَجْعَلُهَا لاَ تَخْتَارُ مَا تَرْغَبُ فِيهِ وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ، بَل
تَخْتَارُ مَا يَدْفَعُ الأَْذَى وَالضَّرَرَ.
أَحْوَال صِيغَةِ الإِْيلاَءِ:
10 - الصِّيغَةُ الَّتِي يُنْشِئُ الزَّوْجُ الإِْيلاَءَ بِهَا تَارَةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 556، 657، والفتاوى الهندية 1 / 330.
(2) الشرح الكبير 2 / 366.
(7/226)
تَصْدُرُ خَالِيَةً مِنَ التَّعْلِيقِ
عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَمِنَ الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ
مُسْتَقْبَلٍ، وَتَارَةً تَصْدُرُ مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى
حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، أَوِ الإِْضَافَةُ إِلَى زَمَنٍ
مُسْتَقْبَلٍ.
فَإِذَا صَدَرَتِ الصِّيغَةُ، وَكَانَتْ خَالِيَةً مِنَ التَّعْلِيقِ
وَالإِْضَافَةِ، كَانَ الإِْيلاَءُ مُنَجَّزًا. وَإِنْ صَدَرَتْ، وَكَانَتْ
مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل،
كَانَ الإِْيلاَءُ مُعَلَّقًا. وَإِنْ صَدَرَتْ وَكَانَتْ مُضَافَةً إِلَى
زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَانَ الإِْيلاَءُ مُضَافًا.
وَعَلَى هَذَا فَالإِْيلاَءُ الْمُنَجَّزُ هُوَ: مَا كَانَتْ صِيغَتُهُ
مُطْلَقَةً غَيْرَ مُضَافَةٍ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَلاَ مُعَلَّقَةً
عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّنْجِيزِ
أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ خَمْسَةَ
أَشْهُرٍ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ إِيلاَءً فِي الْحَال، وَتَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ آثَارُهُ بِمُجَرَّدِ صُدُورِهِ.
وَالإِْيلاَءُ الْمُعَلَّقُ هُوَ: مَا رُتِّبَ فِيهِ الاِمْتِنَاعُ عَنْ
قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل بِأَدَاةٍ
مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، مِثْل (إِنْ) (وَإِذَا) (وَلَوْ) (وَمَتَى)
وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: إِنْ
أَهْمَلْتِ شُئُونَ الْبَيْتِ، أَوْ يَقُول لَهَا: لَوْ كَلَّمْتِ فُلاَنًا
فَوَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَال، لاَ يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الرَّجُل إِيلاَءً
قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ التَّعْلِيقَ
يَجْعَل وُجُودَ التَّصَرُّفِ الْمُعَلَّقِ مُرْتَبِطًا بِوُجُودِ
الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَفِي الْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ لاَ
يَكُونُ الزَّوْجُ مُولِيًا قَبْل أَنْ تُهْمِل الْمَرْأَةُ فِي شُئُونِ
الْبَيْتِ، أَوْ تُكَلِّمَ ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَإِذَا أَهْمَلَتْ شُئُونَ
الْبَيْتِ أَوْ كَلَّمَتْهُ صَارَ مُولِيًا، وَاحْتُسِبَتْ مُدَّةُ
الإِْيلاَءِ مِنْ وَقْتِ الإِْهْمَال أَوِ التَّكْلِيمِ فَقَطْ، لاَ مِنْ
وَقْتِ قَوْل الزَّوْجِ.
(7/226)
وَالإِْيلاَءُ الْمُضَافُ هُوَ: مَا
كَانَتْ صِيغَتُهُ مَقْرُونَةً بِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ يَقْصِدُ الزَّوْجُ
مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ حُلُول هَذَا الْوَقْتِ،
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُكِ
مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الآْتِي، أَوْ يَقُول لَهَا: وَاللَّهِ لاَ
أَقْرَبُكِ مِنْ غَدٍ.
وَفِي هَذِهِ الْحَال، يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الرِّجَال إِيلاَءً مِنْ
وَقْتِ صُدُورِ الْيَمِينِ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الإِْيلاَءُ؛
لأَِنَّ الإِْضَافَةَ لاَ تَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ سَبَبًا
لِحُكْمِهِ، وَلَكِنَّهَا تُؤَخِّرُ حُكْمَهُ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي
أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَفِي قَوْل الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ
أَقْرَبُكِ مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الْقَادِمِ يُعْتَبَرُ الزَّوْجُ
مُولِيًا مِنْ زَوْجَتِهِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي صَدَرَتْ فِيهِ هَذِهِ
الصِّيغَةُ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّجُل قَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى
أَلاَّ يُوَلِّيَ مِنْ زَوْجَتِهِ حُكِمَ بِحِنْثِهِ فِي هَذِهِ، وَإِنْ
لَمْ يَحِنِ الْوَقْتُ الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ الْيَمِينُ، وَوَجَبَ
عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ الْمُضَافَةِ،
لَكِنْ لَوِ اتَّصَل بِزَوْجَتِهِ قَبْل مَجِيءِ الشَّهْرِ الَّذِي أَضَافَ
الإِْيلاَءَ إِلَيْهِ لاَ يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ وَوُجُوبِ كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ مُدَّةَ الإِْيلاَءِ لاَ تُحْتَسَبُ
إِلاَّ مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ الَّذِي أَضَافَ الإِْيلاَءَ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا صَحَّ تَعْلِيقُ الإِْيلاَءِ وَإِضَافَتُهُ لأَِنَّهُ يَمِينٌ،
وَالْيَمِينُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْبَل الإِْضَافَةَ
وَالتَّعْلِيقَ (1) .
وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى كَلاَمٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
قَبُول الإِْيلاَءِ لِلإِْضَافَةِ (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 165.
(2) الروضة 8 / 244، الخرشي 4 / 90.
(7/227)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَوْرَدُوا
مِنْ تَطْبِيقَاتِ الإِْيلاَءِ مَا يَدُل عَلَى قَبُول الإِْيلاَءِ
لِلإِْضَافَةِ (1) .
ب - مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مَعًا:
11 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْيلاَءِ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مَعًا
قِيَامُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا عِنْدَ حُصُول
الإِْيلاَءِ أَوْ إِضَافَتِهِ إِلَى النِّكَاحِ.
أَمَّا قِيَامُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً، فَيَتَحَقَّقُ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ
الصَّحِيحِ، وَقَبْل حُصُول الْفُرْقَةِ بَيْنَ الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ،
سَوَاءٌ أَدَخَل الرَّجُل بِزَوْجَتِهِ أَمْ لَمْ يَدْخُل.
وَأَمَّا قِيَامُهُ حُكْمًا، فَيَتَحَقَّقُ بِوُجُودِ الْعِدَّةِ مِنَ
الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلاَقِ
الرَّجْعِيِّ تَكُونُ زَوْجَةً مِنْ كُل وَجْهٍ مَا دَامَتِ الْعِدَّةُ،
فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلإِْيلاَءِ، كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ،
فَإِذَا أَقْسَمَ الزَّوْجُ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ الَّتِي طَلَّقَهَا
طَلاَقًا رَجْعِيًّا مُدَّةً تَسْتَغْرِقُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ
كَانَ مُولِيًا، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَالْمَرْأَةُ لاَ
تَزَال فِي الْعِدَّةِ، بِأَنْ كَانَتْ حَامِلاً، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ
حَامِلٍ وَكَانَ طُهْرُهَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ يَمْتَدُّ طَوِيلاً،
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُؤْمَرُ
الرَّجُل بِالْفَيْءِ، فَإِنْ لَمْ يَفِئْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي إِنِ
امْتَنَعَ عَنِ الطَّلاَقِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكَلاَمِ عَنْ
أَثَرِ الإِْيلاَءِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَقَعُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أُخْرَى (2) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 359 ط النصر، ومطالب أولي النهى 5 / 499 - ط المكتب
الإسلامي، والإنصاف 9 / 176 ط التراث، ومنتهى الإرادات 2 / 320 ط دار
العروبة.
(2) الهداية وفتح القدير 3 / 194، وحاشية ابن عابدين 2 / 842، والبدائع 3 /
171، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 427، ومغني المحتاج 3 / 349،
والمغني لابن قدامة 7 / 313.
(7/227)
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ
طَلاَقٍ بَائِنٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي أَثْنَائِهَا لاَ تَكُونُ
مَحَلًّا لِلإِْيلاَءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى،
أَمْ بَائِنًا بَيْنُونَةً كُبْرَى؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الْبَائِنَ
بِنَوْعَيْهِ يُزِيل رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ، وَلاَ يُبْقِي مِنْ آثَارِ
الزَّوَاجِ شَيْئًا سِوَى الْعِدَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ
أَحْكَامٍ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ قُرْبَانُ الْمُطَلَّقَةِ
طَلاَقًا بَائِنًا وَلَوْ كَانَتِ الْعِدَّةُ قَائِمَةً، فَإِذَا حَلَفَ
الرَّجُل أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ الَّتِي طَلَّقَهَا طَلاَقًا بَائِنًا
كَانَتْ يَمِينُهُ لَغْوًا فِي حُكْمِ الْبِرِّ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ وَلَمْ يَقْرَبْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا
طَلاَقٌ ثَانٍ.
أَمَّا فِي حُكْمِ الْحِنْثِ فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ
عَقَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ وَطِئَهَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَوَجَبَتْ
عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ؛ لِعَدَمِ الْوَفَاءِ
بِمُوجِبِهَا، وَهُوَ عَدَمُ قُرْبَانِهَا، أَيْ أَنَّ حَلِفَهُ لَمْ
يَنْعَقِدْ إِيلاَءً، وَلَكِنَّهُ انْعَقَدَ يَمِينًا.
وَمِثْل هَذَا لَوْ قَال لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: وَاللَّهِ لاَ
أَقْرَبُكِ، وَأَطْلَقَ فِي يَمِينِهِ، أَوْ قَال: أَبَدًا، ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُولِيًا فِي حُكْمِ الْبِرِّ؛
لِعَدَمِ قِيَامِ النِّكَاحِ حَقِيقَةً وَلاَ حُكْمًا عِنْدَ الْحَلِفِ،
حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الزَّوَاجِ، وَلَمْ
يَقْرَبْهَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ
قَائِمًا عِنْدَ حُصُول الْيَمِينِ، لَكِنْ لَوْ قَرَبَهَا بَعْدَ
الزَّوَاجِ أَوْ قَبْلَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لاِنْعِقَادِ
الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي
انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ قِيَامُ النِّكَاحِ، بِخِلاَفِ
انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ الْبِرِّ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ قِيَامُ
النِّكَاحِ (1) .
وَأَمَّا إِضَافَةُ الإِْيلاَءِ إِلَى النِّكَاحِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُول
الرَّجُل لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَوَاللَّهِ لاَ
__________
(1) البدائع 3 / 871.
(7/228)
أَقْرَبُكِ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا
فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ أَجَازُوا إِضَافَةَ الطَّلاَقِ أَوْ
تَعْلِيقَهُ عَلَى النِّكَاحِ (1) ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ
الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ،
وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ زَوْجَةٌ، فَتَكُونُ مَحَلًّا
لِلإِْيلاَءِ الْمُضَافِ إِلَى النِّكَاحِ، كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا
لِلطَّلاَقِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الإِْيلاَءُ
الْمُضَافُ إِلَى النِّكَاحِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَإِنَّهُ
سُبْحَانَهُ جَعَل الإِْيلاَءَ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي
يُضَافُ الإِْيلاَءُ مِنْهَا إِلَى نِكَاحِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً عِنْدَ
حُصُول الإِْيلاَءِ، فَلاَ يَكُونُ الإِْيلاَءُ مِنْهَا صَحِيحًا؛
وَلأَِنَّ الإِْيلاَءَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَحُكْمُ
الشَّيْءِ لاَ يَتَقَدَّمُهُ، كَالطَّلاَقِ وَالْقَسَمِ؛ وَلأَِنَّ
الْمُدَّةَ تُضْرَبُ لِلْمُولِي لِقَصْدِهِ الإِْضْرَارَ بِيَمِينِهِ،
وَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ قَبْل النِّكَاحِ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا
الْقَصْدُ، فَأَشْبَهَ الْمُمْتَنِعَ بِغَيْرِ يَمِينٍ (2) .
12 - وَالْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ
وَالإِْيلاَءِ بِالنِّكَاحِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى
اخْتِلاَفِهِمْ فِي التَّعْلِيقِ وَأَثَرِهِ فِي التَّصَرُّفِ
الْمُعَلَّقِ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: التَّعْلِيقُ يُؤَخِّرُ انْعِقَادَ
التَّصَرُّفِ الْمُعَلَّقِ سَبَبًا لِحُكْمِهِ حَتَّى يُوجَدَ الْمُعَلَّقُ
عَلَيْهِ. فَالتَّصَرُّفُ الْمُعَلَّقُ لاَ وُجُودَ لَهُ عِنْدَ
التَّكَلُّمِ بِالصِّيغَةِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ
الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ: التَّعْلِيقُ لاَ يُؤَخِّرُ
انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ سَبَبًا لِحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ
تَرَتُّبَ
__________
(1) البدائع 3 / 171، وحاشية ابن عابدين 2 / 843، والشرح الكبير 2 / 370،
والخرشي 3 / 176.
(2) مغني المحتاج 3 / 292، والمغني لابن قدامة 7 / 312.
(7/228)
الْحُكْمِ عَلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ
الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ.
فَعِنْدَهُمُ التَّصَرُّفُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ مَوْجُودٌ عِنْدَ
التَّكَلُّمِ بِالصِّيغَةِ، غَيْرَ أَنَّ حُكْمَهُ لاَ يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا: مَنْ قَال لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ
تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ الطَّلاَقُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّةِ
الطَّلاَقِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ عِنْدَ
وُجُودِهِ، وَالطَّلاَقُ الْمُعَلَّقُ لاَ يُوجَدُ فِي رَأْيِهِمْ إِلاَّ
عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، وَعِنْدَ تَحْقِيقِ الشَّرْطِ تَكُونُ
الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ، إِذْ هِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
زَوْجَةٌ، فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلاَقُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ؛
لأَِنَّ الطَّلاَقَ الْمُعَلَّقَ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِحُكْمِهِ عِنْدَ
التَّكَلُّمِ بِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تَكُنْ
زَوْجَةً، فَلَمْ تَتَحَقَّقِ الْمَحَلِّيَّةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ وُقُوعِ
الطَّلاَقِ، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ. وَأَنَّ الإِْيلاَءَ كَالطَّلاَقِ
فِي هَذَا الْحُكْمِ (1) .
ج - مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُولِي:
13 - يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل لِكَيْ يَكُونَ إِيلاَؤُهُ صَحِيحًا مَا
يَأْتِي:
أَوَّلاً: الْبُلُوغُ، بِظُهُورِ الْعَلاَمَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْ
بِالسِّنِّ، فَإِيلاَءُ الصَّبِيِّ لاَ يَنْعَقِدُ (2) (ر: مُصْطَلَحُ:
بُلُوغٍ) .
ثَانِيًا: الْعَقْل، فَلاَ يَصِحُّ الإِْيلاَءُ مِنَ الْمَجْنُونِ
وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، وَلاَ مِنَ الْمَعْتُوهِ؛ لأَِنَّ
الْمَعْتُوهَ
__________
(1) التحرير مع شرح التيسير 1 / 178 وما بعدها.
(2) البدائع 3 / 100، والخرشي 3 / 229، ومغني المحتاج 3 / 343، والمغني
لابن قدامة 7 / 314.
(7/229)
قَدْ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ إِدْرَاكٌ وَلاَ
تَمْيِيزٌ فَيَكُونُ كَالْمَجْنُونِ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ إِدْرَاكٌ
وَتَمْيِيزٌ وَلَكِنَّهُ لاَ يَصِل إِلَى دَرَجَةِ الإِْدْرَاكِ عِنْدَ
الرَّاشِدِينَ الْعَادِيِّينَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَالصَّبِيُّ
الْمُمَيِّزُ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ الإِْيلاَءُ، فَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ (1)
.
وَمِثْل الْمَجْنُونِ فِي الْحُكْمِ الأَْشْخَاصُ التَّالِي ذِكْرُهُمُ:
(1) الْمَدْهُوشُ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَرَتْهُ حَالَةُ انْفِعَالٍ لاَ
يَدْرِي فِيهَا مَا يَقُول أَوْ يَفْعَل، أَوْ يَصِل بِهِ الاِنْفِعَال
إِلَى دَرَجَةٍ يَغْلِبُ مَعَهَا الْخَلَل فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
فَإِذَا صَدَرَ الإِْيلاَءُ مِنَ الزَّوْجِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَال لاَ
يُعْتَبَرُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهُ وَيُرِيدُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْعِلْمَ
وَهَذِهِ الإِْرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَيْنِ؛ لِعَدَمِ حُصُولِهِمَا عَنْ
إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ، كَمَا لاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنَ الصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ (2) .
(2) الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ، فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حُكْمِ
الْمَجْنُونِ، وَمِثْلُهُ النَّائِمُ؛ لأَِنَّهُ لاَ إِدْرَاكَ عِنْدَهُ
وَلاَ وَعْيَ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالإِْيلاَءِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ
كَمَا لاَ يُعْتَدُّ بِطَلاَقِهِ.
(3) السَّكْرَانُ، وَهُوَ الَّذِي صَارَ عَقْلُهُ مَغْلُوبًا مِنْ
تَأْثِيرِ الْمُسْكِرِ، حَتَّى صَارَ يَهْذِي وَيَخْلِطُ فِي كَلاَمِهِ،
وَلاَ يَعِي بَعْدَ إِفَاقَتِهِ مَا كَانَ مِنْهُ فِي حَال سُكْرِهِ،
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِيلاَءَ السَّكْرَانِ لاَ
يُعْتَبَرُ إِذَا كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، كَمَا
لَوْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلضَّرُورَةِ، أَوْ تَحْتَ ضَغْطِ الإِْكْرَاهِ؛
لأَِنَّ السَّكْرَانَ لاَ وَعْيَ عِنْدَهُ وَلاَ إِدْرَاكَ كَالْمَجْنُونِ
وَالنَّائِمِ، بَل أَشَدُّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 659، والمغني لابن قدامة 7 / 314.
(2) البدائع 3 / 100، وحاشية ابن عابدين 2 / 659.
(7/229)
حَالاً مِنَ النَّائِمِ، إِذِ النَّائِمُ
يَنْتَبِهُ بِالتَّنْبِيهِ، أَمَّا السَّكْرَانُ فَلاَ يَنْتَبِهُ إِلاَّ
بَعْدَ الإِْفَاقَةِ مِنَ السُّكْرِ، فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرِ الإِْيلاَءُ
الصَّادِرُ مِنَ النَّائِمِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ الإِْيلاَءُ الصَّادِرُ مِنَ
السَّكْرَانِ بِالطَّرِيقِ الأَْوْلَى.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ السُّكْرُ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ، وَذَلِكَ
بِأَنْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ بِاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ
مُسْكِرٌ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ حَتَّى يَسْكَرَ، فَقَال بَعْضُهُمْ:
يُعْتَبَرُ إِيلاَؤُهُ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا
تَنَاوَل الْمُحَرَّمَ بِاخْتِيَارِهِ يَكُونُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي زَوَال
عَقْلِهِ، فَيُجْعَل مَوْجُودًا عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِ
الْمَعْصِيَةِ (1) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُعْتَبَرُ إِيلاَؤُهُ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ، وَهُوَ أَيْضًا
قَوْل أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَحُجَّتُهُمْ
فِي ذَلِكَ: أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ تَعْتَمِدُ عَلَى الْقَصْدِ
وَالإِْرَادَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالسَّكْرَانُ قَدْ غَلَبَ السُّكْرُ عَلَى
عَقْلِهِ، فَلاَ يَكُونُ عِنْدَهُ قَصْدٌ وَلاَ إِرَادَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلاَ
يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ، كَمَا لاَ يُعْتَدُّ
بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ
وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَالشَّارِعُ لَمْ يَتْرُكِ السَّكْرَانَ بِدُونِ عُقُوبَةٍ عَلَى
سُكْرِهِ، حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى عُقُوبَةٍ أُخْرَى نُنْزِلُهَا بِهِ،
خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ الأُْخْرَى لاَ تَقْتَصِرُ
عَلَى الْجَانِي، بَل تَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ
وَالأَْوْلاَدِ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 3 / 40، والبدائع 3 / 99، والخرشي 3 / 171، 172،
ومغني المحتاج 3 / 279، والمغني لابن قدامة 7 / 114.
(7/230)
وَأَسَاسُ هَذَا الاِخْتِلاَفِ هُوَ
الاِخْتِلاَفُ فِي اعْتِبَارِ طَلاَقِهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ: فَمَنْ
قَال بِاعْتِبَارِ طَلاَقِهِ قَال بِاعْتِبَارِ إِيلاَئِهِ، وَمَنْ قَال
بِعَدَمِ اعْتِبَارِ طَلاَقِهِ قَال بِعَدَمِ اعْتِبَارِ إِيلاَئِهِ؛
لأَِنَّ الإِْيلاَءَ كَطَلاَقٍ مُعَلَّقٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَسَبَبٌ
لِلطَّلاَقِ عِنْدَ آخَرِينَ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ (1) .
د - مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْيلاَءَ لاَ بُدَّ
لَهُ مِنْ مُدَّةٍ يَحْلِفُ الزَّوْجُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ
فِيهَا.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ. فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مُدَّةَ الإِْيلاَءِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ
أَكْثَرُ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
فَلَوْ حَلَفَ الرَّجُل عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ أَقَل مِنْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لاَ يَكُونُ إِيلاَءً، بَل يَكُونُ يَمِينًا. فَإِذَا
حَنِثَ بِالْوَطْءِ قَبْل مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَزِمَتْهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ الزَّوْجُ: أَلاَّ يَطَأَ زَوْجَتَهُ أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ إِيلاَءً بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ
مُدَّةً، أَوْ قَال: أَبَدًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِيلاَءً بِالاِتِّفَاقِ
أَيْضًا. أَمَّا لَوْ حَلَفَ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِيلاَءً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يَكُونُ
إِيلاَءً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَلَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِيلاَءً عِنْدَ الْجَمِيعِ (2) .
__________
(1) نفس المراجع.
(2) البدائع 3 / 171، والهداية وفتح القدير 3 / 183، وحاشية ابن عابدين 2 /
485، والخرشي 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 343، والمغني لابن قدامة 7 / 300.
(7/230)
وَقَدِ احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ
وَافَقَهُمْ بِأَنَّ الإِْيلاَءَ لَهُ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحِنْثُ
إِذَا وَطِئَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ قَبْل مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ،
وَثَانِيهِمَا: وُقُوعُ الطَّلاَقِ إِنْ لَمْ يَطَأْ زَوْجَتَهُ قَبْل
مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الأَْرْبَعَةَ
الأَْشْهُرَ هِيَ الْمُدَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الإِْيلاَءِ، فَلاَ
يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى مَا دُونَهَا إِيلاَءً، كَمَا لاَ يَتَوَقَّفُ
الإِْيلاَءُ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَبِأَنَّ
الإِْيلاَءَ هُوَ الْيَمِينُ الَّتِي تَمْنَعُ قُرْبَانَ الزَّوْجَةِ
خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، فَلَوْ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ
قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لأََمْكَنَ
الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَنْ يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحِنْثُ فِي يَمِينِهِ، فَلاَ يَكُونُ هَذَا
إِيلاَءً (1) .
وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِأَنَّ الْمُولِيَ يُوقَفُ
بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، يُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَيْءِ (وَهُوَ
الرُّجُوعُ عَنِ الْيَمِينِ بِالْفِعْل أَوِ الْقَوْل) وَالتَّطْلِيقِ،
فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ
فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ أَوْ أَقَل مِنْهَا لاَنْقَضَى الإِْيلاَءُ بِانْقِضَائِهَا،
وَلاَ تَصِحُّ الْمُطَالَبَةُ مِنْ غَيْرِ الإِْيلاَءِ (2) .
15 - إِذَا فَقَدَ الإِْيلاَءُ شَرْطًا مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي
تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، فَهَل يَكُونُ لِلْيَمِينِ مَفْعُولُهَا الَّذِي
وُضِعَتْ لإِِفَادَتِهِ شَرْعًا؟ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْطِ
الَّذِي لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِنْ كَانَ مِنْ شَرَائِطِ الصِّيغَةِ
تَرَتَّبَ عَلَى فَقْدِهِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْيَمِينِ أَصْلاً، بِحَيْثُ
لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَةِ مُوجِبِهَا الْحِنْثُ وَوُجُوبُ
الْكَفَّارَةِ أَوْ لُزُومُ مَا رَتَّبَهُ عَلَيْهَا.
__________
(1) البدائع 3 / 171، والمغني لابن قدامة 7 / 300.
(2) جواهر الإكليل 1 / 368.
(7/231)
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي
لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى الرَّجُل
كَالْبُلُوغِ أَوِ الْعَقْل؛ لأَِنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ لِمَا يَصْدُرُ عَنِ
الصَّبِيِّ قَبْل الْبُلُوغِ، وَلاَ لِمَا يَصْدُرُ عَنِ الْمَجْنُونِ
وَمَنْ فِي حُكْمِهِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَهُوَ قِيَامُ النِّكَاحِ حِينَ الإِْيلاَءِ،
فَإِنَّ فَقْدَهُ لاَ يُعَطِّل مَفْعُول الْيَمِينِ، بَل تَبْقَى فِي حَقِّ
الْحِنْثِ، فَلَوْ قَال رَجُلٌ لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: وَاللَّهِ لاَ
أَطَؤُكِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ وَطِئَهَا قَبْل مُضِيِّ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ
الْمُبَيَّنَةُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ
الْعَقْدِ عَلَيْهَا.
أَمَّا فِي حَقِّ الطَّلاَقِ، فَإِنَّ فَقْدَ الشَّرْطِ يُبْطِل الْيَمِينَ
بِالنِّسْبَةِ لَهُ، وَلِهَذَا لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ؛ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الإِْيلاَءِ فِي حَقِّ الطَّلاَقِ
لاِنْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ.
وَمِثْل هَذَا يُقَال فِي حَال عَدَمِ تَوَافُرِ شَرَائِطِ الْمُدَّةِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مَفْعُول الْيَمِينِ يَبْقَى. وَلَوْ
نَقَصَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي حَلَفَ الرَّجُل عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ
الزَّوْجَةِ فِيهَا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ - عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا
لاَ تَكُونُ أَقَل مِنْ ذَلِكَ - وَحَتَّى لَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فِي
أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِهَا فِيهَا،
وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (1) .
أَثَرُ الإِْيلاَءِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ
16 - إِذَا تَحَقَّقَ رُكْنُ الإِْيلاَءِ وَتَوَافَرَتْ شَرَائِطُهُ
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحَدُ أَثَرَيْنِ:
__________
(1) البدائع 3 / 171، والهداية وفتح القدير 3 / 194، والدر المختار مع
حاشية ابن عابدين 2 / 851، ومغني المحتاج 3 / 344.
(7/231)
أَوَّلُهُمَا: يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي
حَالَةِ إِصْرَارِ الزَّوْجِ عَلَى عَدَمِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ الَّتِي
آلَى مِنْهَا، حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ تَارِيخِ
الإِْيلاَءِ.
وَثَانِيهِمَا: يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ حِنْثِهِ فِي الْيَمِينِ
الَّتِي حَلَفَهَا (1) .
أ - حَالَةُ الإِْصْرَارِ:
17 - إِذَا أَصَرَّ الْمُولِي عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ الَّتِي
حَلَفَ أَلاَّ يَقْرَبَهَا كَانَ إِصْرَارُهُ هَذَا دَاعِيًا إِلَى
الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ؛ لأَِنَّ فِي هَذَا
الاِمْتِنَاعِ إِضْرَارًا بِالزَّوْجَةِ، فَحِمَايَةً لَهَا مِنْ هَذَا
الضَّرَرِ، يَكُونُ لَهَا الْحَقُّ فِي مُطَالَبَتِهِ بِالْعَوْدَةِ إِلَى
مُعَاشَرَتِهَا. فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا حَتَّى مَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهَل يَقَعُ الطَّلاَقُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّهَا؟
يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ
الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، بَل لِلزَّوْجَةِ
أَنْ تَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، فَيَأْمُرُ الزَّوْجُ
بِالْفَيْءِ، أَيِ الرُّجُوعِ عَنْ مُوجِبِ يَمِينِهِ، فَإِنْ أَبَى
الْفَيْءَ أَمَرَهُ بِتَطْلِيقِهَا، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ طَلَّقَهَا
عَلَيْهِ الْقَاضِي (2) .
وَيَرَى فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ
مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رَفْعِ الأَْمْرِ
إِلَى الْقَاضِي، وَلاَ حُكْمٍ مِنْهُ بِتَطْلِيقِهَا. وَذَلِكَ جَزَاءً
لِلزَّوْجِ عَلَى الإِْضْرَارِ بِزَوْجَتِهِ وَإِيذَائِهَا بِمَنْعِ
حَقِّهَا الْمَشْرُوعِ.
وَالْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي إِمْهَالِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ
الْمُحَافَظَةُ
__________
(1) البدائع 3 / 176.
(2) الخرشي 3 / 238، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 436، ومغني
المحتاج 3 / 348 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 318 وما بعدها.
(7/232)
عَلَى عَلاَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ
وَمُعَالَجَةُ بَقَائِهَا بِمَا هُوَ غَالِبٌ عَلَى طَبَائِعِ النَّاسِ،
فَإِنَّ الْبُعْدَ عَنِ الزَّوْجَةِ مِثْل هَذَا الزَّمَنِ فِيهِ تَشْوِيقٌ
لِلزَّوْجِ إِلَيْهَا، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى وَزْنِ حَالِهِ مَعَهَا
وَزْنًا صَحِيحًا، فَإِذَا لَمْ تَتَأَثَّرْ نَفْسُهُ بِالْبُعْدِ عَنْهَا،
وَلَمْ يُبَال بِهَا سَهُل عَلَيْهِ فِرَاقُهَا، وَإِلاَّ عَادَ إِلَى
مُعَاشَرَتِهَا نَادِمًا عَلَى إِسَاءَتِهِ مُصِرًّا عَلَى حُسْنِ
مُعَاشَرَتِهَا. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَإِنَّ هَجْرَهَا مِنْ وَسَائِل
تَأْدِيبِهَا، فَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا فِي انْصِرَافِ الزَّوْجِ عَنْهَا
بِإِهْمَالِهَا فِي شَأْنِ زِينَتِهَا، أَوْ بِمُعَامَلَتِهَا إِيَّاهُ
مُعَامَلَةً تُوجِبُ النَّفْرَةَ مِنْهَا، فَإِذَا هَجَرَهَا هَذِهِ
الْمُدَّةَ كَانَ هَذَا زَاجِرًا لَهَا عَمَّا فَرَطَ مِنْهَا (1) .
وَسَبَبُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرْجِعُ
إِلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ التَّرْتِيبِ الَّذِي تَدُل
عَلَيْهِ " الْفَاءُ " فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) أَهُوَ التَّرْتِيبُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ
التَّرْتِيبُ الزَّمَانِيُّ. أَيْ أَنَّ زَمَنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَيْءِ
أَوِ الطَّلاَقِ عَقِبَ مُضِيِّ الأَْجَل الْمَضْرُوبِ، وَهُوَ
الأَْرْبَعَةُ الأَْشْهُرُ أَوْ هُوَ التَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ لاَ
الزَّمَنِيُّ، فَتُفِيدُ تَرْتِيبَ الْمُفَصَّل عَلَى الْمُجْمَل،
وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْفَيْءُ بَعْدَ الإِْيلاَءِ خِلاَل الأَْجَل
الْمَضْرُوبِ لاَ بَعْدَهُ، فَإِذَا انْقَضَى الأَْجَل بِدُونِ فَيْءٍ
فِيهِ وَقَعَ الطَّلاَقُ بِمُضِيِّهِ؟ فَبِالأَْوَّل قَال الْجُمْهُورُ،
وَبِالثَّانِي قَال الْحَنَفِيَّةُ.
فَمَعْنَى الآْيَةِ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ لِلأَْزْوَاجِ
الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَاتِهِمُ انْتِظَارُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فَاءُوا قَبْل مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ،
وَعَادُوا إِلَى وَطْئِهِنَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَوْبَةً مِنْهُمْ
عَنْ ذَلِكَ
__________
(1) البدائع 3 / 176.
(2) سورة البقرة / 228.
(7/232)
الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ، وَالَّذِي
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الإِْضْرَارُ بِزَوْجَاتِهِمْ وَإِيقَاعُ الأَْذَى
بِهِنَّ، وَاللَّهُ يَغْفِرُهُ لَهُمْ بِالْكَفَّارَةِ عَنْهُ، وَإِنْ
أَصَرُّوا عَلَى تَنْفِيذِ يَمِينِهِمْ وَهَجْرِ زَوْجَاتِهِمْ، فَلَمْ
يَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَهِيَ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِصْرَارًا مِنْهُمْ عَلَى
الطَّلاَقِ، فَيَكُونُ إِيلاَؤُهُمْ طَلاَقًا، فَتَطْلُقُ مِنْهُمْ
زَوْجَاتُهُمْ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ
حَاجَةٍ إِلَى تَطْلِيقٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْقَاضِي، جَزَاءً لَهُمْ
عَلَى ضَرَرِ زَوْجَاتِهِمْ.
وَمَعْنَى الآْيَةِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الأَْزْوَاجَ
الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَاتِهِمْ يُمْهَلُونَ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فَاءُوا وَرَجَعُوا عَمَّا مَنَعُوا
أَنْفُسَهُمْ مِنْهُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَا حَدَثَ مِنْهُمْ مِنَ الْيَمِينِ وَالْعَزْمِ عَلَى
ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَإِنْ عَزَمُوا عَلَى الطَّلاَقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْمُدَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِمَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ
الطَّلاَقِ، عَلِيمٌ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ،
فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ
مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سُهَيْل بْنِ أَبِي
صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ
يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ قَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ وَإِلاَّ طَلَّقَ (1) .
__________
(1) منتقى الأخبار مع شرح نيل الأوطار 6 / 272، الطبعة الثالثة (1380 هـ) -
(1961) مصطفى البابي الحلبي. وحديث أبي صالح: " سألت اثني عشر رجلا من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الدارقطني (4 / 61 - ط دار
المحاسن) وإسناده صحيح. (فتح الباري 9 / 429 - ط السلفية) .
(7/233)
نَوْعُ الطَّلاَقِ الَّذِي يَقَعُ
نَتِيجَةً لِلإِْيلاَءِ:
18 - إِذَا وَقَعَ الطَّلاَقُ نَتِيجَةً لِلإِْيلاَءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
وُقُوعُهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ مِنَ
الْفُقَهَاءِ، أَمْ كَانَ وُقُوعُهُ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ، بِنَاءً عَلَى
أَمْرِ الْقَاضِي لَهُ بِالطَّلاَقِ، أَوْ بِإِيقَاعِ الْقَاضِي عِنْدَ
امْتِنَاعِ الزَّوْجِ مِنَ الطَّلاَقِ عِنْدَ مَنْ لاَ يَقُول بِوُقُوعِ
الطَّلاَقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ
طَلاَقًا بَائِنًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ
أَحْمَدَ فِي فُرْقَةِ الْحَاكِمِ (1) . لأَِنَّهُ طَلاَقٌ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَلاَ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهَا إِلاَّ
بِالطَّلاَقِ الْبَائِنِ، إِذْ لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا لاَسْتَطَاعَ
الزَّوْجُ إِعَادَتَهَا فَلاَ تَتَخَلَّصُ مِنَ الضَّرَرِ؛ وَلأَِنَّ
الْقَوْل بِوُقُوعِ الطَّلاَقِ رَجْعِيًّا يُؤَدِّي إِلَى الْعَبَثِ؛
لأَِنَّ الزَّوْجَ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْفَيْءِ وَالتَّطْلِيقِ
يُقَدَّمُ إِلَى الْقَاضِي لِيُطَلِّقَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا طَلَّقَ
عَلَيْهِ الْقَاضِي يُرَاجِعُهَا ثَانِيًا، فَيَكُونُ مَا فَعَلَهُ
الْقَاضِي عَبَثًا، وَالْعَبَثُ لاَ يَجُوزُ.
وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّ
الطَّلاَقَ الْوَاقِعَ بِالإِْيلاَءِ طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ مَا دَامَتِ
الْمَرْأَةُ قَدْ دَخَل بِهَا الزَّوْجُ قَبْل ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ طَلاَقٌ
لاِمْرَأَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلاَ اسْتِيفَاءِ عَدَدٍ،
فَيَكُونُ رَجْعِيًّا كَالطَّلاَقِ فِي غَيْرِ الإِْيلاَءِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَيْئًا لِصِحَّةِ
الرَّجْعَةِ مِنَ الْمُولِي، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ إِذَا
ارْتَجَعَهَا - وَقَدْ بَقِيَتْ مُدَّةُ الإِْيلاَءِ - ضُرِبَتْ لَهُ
مُدَّةٌ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَفِئْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي لِرَفْعِ
الضَّرَرِ عَنِ الْمَرْأَةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ انْحِلاَل الْيَمِينِ
عَنْهُ فِي الْعِدَّةِ بِالْوَطْءِ فِيهَا، أَوْ بِتَكْفِيرِ مَا
يُكَفِّرُ، أَوْ
__________
(1) البدائع 3 / 177، والمغني لابن قدامة 7 / 331.
(7/233)
بِتَعْجِيل الْحِنْثِ فِي الْعِدَّةِ،
فَإِذَا لَمْ يَنْحَل الإِْيلاَءُ بِوَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ
الرَّجْعَةَ تَكُونُ بَاطِلَةً لاَ أَثَرَ لَهَا (1) .
ب - حَالَةُ الْحِنْثِ أَوِ الْفَيْءِ:
19 - الْمَقْصُودُ بِالْحِنْثِ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِمُوجِبِ الْيَمِينِ،
وَهُوَ ذَلِكَ الْوَفَاءُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِامْتِنَاعِ
الزَّوْجِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ الَّتِي آلَى مِنْهَا قَبْل أَنْ
تَمْضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي حَلَفَ أَلاَّ يَقْرَبَهَا فِيهَا، فَإِذَا
كَانَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي حَلَفَ أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ فِيهَا
أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ (مَثَلاً) ثُمَّ
قَرَبَهَا قَبْل أَنْ تَمْضِيَ هَذِهِ الْمُدَّةُ، كَانَ حَانِثًا فِي
يَمِينِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَل بِمُقْتَضَاهَا، وَهُوَ
الاِمْتِنَاعُ مِنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ مُدَّةَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ.
وَالْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ شَرْعًا،
لَكِنَّهُ فِي الإِْيلاَءِ مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّ فِيهِ رُجُوعًا عَنْ
إِيذَاءِ الزَّوْجَةِ وَالإِْضْرَارِ بِهَا، فَهُوَ مَا يَنْطَبِقُ
عَلَيْهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ (2) .
أَمَّا الْفَيْءُ فَمَعْنَاهُ فِي الأَْصْل: الرُّجُوعُ، وَلِذَلِكَ
يُسَمَّى الظِّل الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الزَّوَال فَيْئًا؛ لأَِنَّهُ
رَجَعَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا:
رُجُوعُ الزَّوْجِ إِلَى جِمَاعِ زَوْجَتِهِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ
مِنْهُ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، أَوِ الْوَعْدِ بِهِ
عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ. وَوُجُودُ الْفَيْءِ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 351، والخرشي 3 / 238، 240، والمغني لابن قدامة 7 /
331.
(2) حديث: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها. . . " أخرجه مسلم (3 /
1272 - ط الحلبي) .
(7/234)
إِلاَّ إِذَا كَانَ بِالْجِمَاعِ؛
لأَِنَّهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَى تَرْكِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْفَيْءُ
بِالْقَوْل - كَمَا سَيَأْتِي - فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ، بَل
تَبْقَى الْيَمِينُ قَائِمَةً مُنْعَقِدَةً حَتَّى يُوجَدَ الْجِمَاعُ،
فَإِنْ حَصَل مِنْهُ قَبْل مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي حَلَفَ الزَّوْجُ
عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ فِيهَا حَنِثَ وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ،
وَمِنْ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْفَيْءَ يَكُونُ وُجُودُهُ سَبَبًا فِي
انْحِلاَل الإِْيلاَءِ وَارْتِفَاعِهِ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ بِالْفِعْل
انْحَل الإِْيلاَءُ وَارْتَفَعَ فِي حَقِّ الطَّلاَقِ وَالْحِنْثِ
جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ بِالْقَوْل انْحَل الإِْيلاَءُ فِي حَقِّ
الطَّلاَقِ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْجِمَاعُ
فِي الزَّمَنِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ فِيهِ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ
وَانْحَل الإِْيلاَءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحِنْثِ أَيْضًا.
انْحِلاَل الإِْيلاَءِ
لاِنْحِلاَل الإِْيلاَءِ سَبَبَانِ: الْفَيْءُ، وَالطَّلاَقُ.
حَالَةُ الْفَيْءِ:
20 - الْفَيْءُ - كَمَا تَقَدَّمَ - هُوَ أَنْ يَرْجِعَ الزَّوْجُ إِلَى
مُعَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ الَّتِي آلَى مِنْهَا، بِحَيْثُ تَعُودُ
الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْل
الإِْيلاَءِ. وَلِلْفَيْءِ طَرِيقَانِ: إِحْدَاهُمَا أَصْلِيَّةٌ،
وَالأُْخْرَى اسْتِثْنَائِيَّةٌ.
أَمَّا الأَْصْلِيَّةُ: فَهِيَ الْفَيْءُ بِالْفِعْل. وَأَمَّا
الاِسْتِثْنَائِيَّة: فَهِيَ الْفَيْءُ بِالْقَوْل.
أ - الطَّرِيقُ الأَْصْلِيَّةُ فِي الْفَيْءِ: الْفَيْءُ بِالْفِعْل:
21 - الْمُرَادُ بِالْفِعْل الَّذِي يَكُونُ فَيْئًا وَيَنْحَل بِهِ
الإِْيلاَءُ: إِنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا لأَِحَدٍ
مِنَ الْفُقَهَاءِ.
(7/234)
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ
نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ الْجِمَاعُ،
وَلاَ يَكُونُ مَا دُونَ الْجِمَاعِ فَيْئًا.
وَيَنْبَنِي عَلَى الْفَيْءِ بِالْفِعْل انْحِلاَل الإِْيلاَءِ، وَلُزُومُ
مُقْتَضَى الْيَمِينِ؛ لأَِنَّهُ بِالْجِمَاعِ يَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ،
وَالْيَمِينُ لاَ يَبْقَى بَعْدَ الْحِنْثِ، إِذِ الْحِنْثُ يَقْتَضِي
نَقْضَ الْيَمِينِ، وَالشَّيْءُ لاَ يَبْقَى مَعَ وُجُودِ مَا يَنْقُضُهُ
(1) .
22 - فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ قَسَمًا بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ
مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا، كَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ
وَجَلاَلِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي قَوْل
أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لاَ تَجِبُ
عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِتَعْلِيقِ شَيْءٍ عَلَى قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ
لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَى
الْقُرْبَانِ طَلاَقًا أَوْ عِتْقًا وَقَعَ الطَّلاَقُ وَالْعِتْقُ وَقْتَ
حُصُول الْفَيْءِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ وَالْعِتْقَ مَتَى عُلِّقَ حُصُولُهُ
عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَوُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ،
وَقَعَ الطَّلاَقُ وَثَبَتَ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِهِ، كَمَا هُوَ
مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَى الْقُرْبَانِ صَلاَةً أَوْ صِيَامًا أَوْ
حَجًّا أَوْ صَدَقَةً، فَإِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ لأَِدَائِهِ وَقْتًا أَوْ
لاَ يُعَيِّنَ.
فَإِنْ عَيَّنَ لِلأَْدَاءِ وَقْتًا كَأَنْ يَقُول: إِنْ قَرُبْتُ
زَوْجَتِي مُدَّةَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيَّ صَلاَةُ مِائَةِ رَكْعَةٍ
فِي يَوْمِ كَذَا (مَثَلاً) لَزِمَتْهُ الصَّلاَةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي
عَيَّنَهُ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لِلأَْدَاءِ وَقْتًا وَجَبَ عَلَيْهِ
فِعْل مَا الْتَزَمَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَرَادَ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ
فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ الأَْفْضَل الأَْدَاءَ فِي أَوَّل وَقْتٍ
يُمْكِنُهُ الأَْدَاءُ فِيهِ خَوْفًا مِنَ انْتِهَاءِ الأَْجَل قَبْل أَنْ
يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
__________
(1) البدائع 3 / 173، 178، والمغني لابن قدامة 7 / 324.
(7/235)
ب - الطَّرِيقُ الاِسْتِثْنَائِيَّة فِي
الْفَيْءِ: الْفَيْءُ بِالْقَوْل:
23 - إِذَا آلَى الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ كَانَ الْوَاجِبُ شَرْعًا
عَلَيْهِ أَنْ يَفِيءَ إِلَيْهَا بِالْفِعْل، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الْفَيْءِ بِالْفِعْل لَزِمَهُ الْفَيْءُ بِالْقَوْل. كَأَنْ يَقُول:
فِئْتُ إِلَى زَوْجَتِي فُلاَنَةَ، أَوْ رَجَعْتُ عَمَّا قُلْتُ، أَوْ
مَتَى قَدَرْتُ جَامَعْتُهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كُل مَا يَدُل
عَلَى رُجُوعِهِ عَمَّا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْفَيْءِ بِالْقَوْل: أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا
آذَى زَوْجَتَهُ بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ قُرْبَانِهَا، وَعَجَزَ عَنِ
الرُّجُوعِ، وَكَانَ فِي إِعْلاَنِهِ الْوَعْدُ بِهِ إِرْضَاءً لَهَا
لَزِمَهُ هَذَا الْوَعْدُ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْفَيْئَةِ تَرْكُ
الإِْضْرَارِ الَّذِي قَصَدَهُ الزَّوْجُ بِالإِْيلاَءِ، وَهَذَا
يَتَحَقَّقُ بِظُهُورِ عَزْمِهِ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا
عِنْدَ الْقُدْرَةِ (1) .
شَرَائِطُ صِحَّةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْل:
24 - لاَ يَصِحُّ الْفَيْءُ بِالْقَوْل إِلاَّ إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ
الشَّرَائِطُ الآْتِيَةُ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: الْعَجْزُ عَنِ الْجِمَاعِ، فَإِنْ كَانَ
الزَّوْجُ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ الْفَيْءُ
بِالْقَوْل؛ لأَِنَّ الْفَيْءَ بِالْجِمَاعِ هُوَ الأَْصْل، إِذْ بِهِ
يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنِ الزَّوْجَةِ حَقِيقَةً، وَالْفَيْءُ بِالْقَوْل
خَلَفٌ عَنْهُ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالْخَلَفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى
الأَْصْل، كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ.
وَالْعَجْزُ نَوْعَانِ: عَجْزٌ حَقِيقِيٌّ وَعَجْزٌ حُكْمِيٌّ.
وَالْعَجْزُ الْحَقِيقِيُّ، مِثْل أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
مَرِيضًا مَرَضًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجِمَاعُ، أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ
صَغِيرَةً لاَ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، أَوْ تَكُونَ رَتْقَاءَ: وَهِيَ
الَّتِي يَكُونُ بِهَا انْسِدَادُ مَوْضِعِ الْجِمَاعِ مِنَ الْفَرَجِ،
بِحَيْثُ
__________
(1) البدائع 3 / 173، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 438، ومغني
المحتاج 3 / 350، والمغني لابن قدامة 7 / 327.
(7/235)
لاَ يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا، أَوْ يَكُونَ
الزَّوْجُ مَجْبُوبًا: وَهُوَ الَّذِي اسْتُؤْصِل مِنْهُ عُضْوُ
التَّنَاسُل، أَوْ يَكُونَ عِنِّينًا: وَهُوَ مَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
الْجِمَاعِ مَعَ وُجُودِ عُضْوِ التَّنَاسُل لِضَعْفٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ
أَوْ مَرَضٍ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَحْبُوسًا حَبْسًا يَحُول
دُونَ الْوُصُول إِلَى الْجِمَاعِ، أَوْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لاَ
يَقْدِرُ عَلَى قَطْعِهَا فِي مُدَّةِ الإِْيلاَءِ (1) .
وَالْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ، هُوَ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمَانِعُ عَنِ
الْجِمَاعِ شَرْعِيًّا، كَأَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَائِضًا عِنْدَ
انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ (هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ
يَقُولُونَ بِالْفَيْءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ) أَوْ
يَكُونَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَقْتَ الإِْيلاَءِ مِنْ
زَوْجَتِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ (وَهَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْفَيْءُ
لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي مُدَّةِ الإِْيلاَءِ) .
فَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ حَقِيقِيًّا انْتَقَل الْفَيْءُ مِنَ الْفِعْل
إِلَى الْقَوْل بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ حُكْمِيًّا
انْتَقَل الْفَيْءُ مِنَ الْفِعْل إِلَى الْقَوْل أَيْضًا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ. وَلاَ يَنْتَقِل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ
وَالشَّافِعِيِّ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُطَالَبُ
بِالطَّلاَقِ (2) .
وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالاِنْتِقَال: أَنَّ الْعَجْزَ الْحُكْمِيَّ
كَالْعَجْزِ الْحَقِيقِيِّ فِي أُصُول الشَّرِيعَةِ، كَمَا فِي الْخَلْوَةِ
بِالزَّوْجَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ
وَالْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ،
فَكَذَلِكَ الْفَيْءُ فِي الإِْيلاَءِ يَقُومُ فِيهِ الْعَجْزُ
الْحُكْمِيُّ مَقَامَ الْعَجْزِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 852.
(2) البدائع 3 / 174، والخرشي على مختصر خليل 3 / 239، ومغني المحتاج 3 /
350، والمغني لابن قدامة 7 / 328.
(7/236)
الْحَقِيقِيِّ فِي صِحَّةِ الْفَيْءِ
بِالْقَوْل بَدَلاً مِنَ الْفَيْءِ بِالْفِعْل.
وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الاِنْتِقَال: أَنَّ الزَّوْجَ قَادِرٌ
عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً، وَالاِمْتِنَاعُ عَنْهُ إِنَّمَا جَاءَ
بِسَبَبٍ مِنْهُ، فَلاَ يُسْقِطُ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا:
فَإِنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ بِاخْتِيَارِهِ فِيمَا لَزِمَهُ
بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ فَلاَ يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ (1) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: دَوَامُ الْعَجْزِ عَنِ الْجِمَاعِ إِلَى أَنْ
تَمْضِيَ مُدَّةُ الإِْيلاَءِ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَاجِزًا عَنِ
الْجِمَاعِ فِي مَبْدَأِ الأَْمْرِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ
بَطَل الْفَيْءُ بِالْقَوْل، وَانْتَقَل إِلَى الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ،
حَتَّى لَوْ تَرَكَ الزَّوْجَةَ وَلَمْ يَقْرَبْهَا إِلَى أَنْ مَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَذَلِكَ لِمَا
سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ بَدَلٌ عَنِ الْفَيْءِ
بِالْجِمَاعِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل قَبْل حُصُول الْمَقْصُودِ
بِالْبَدَل بَطَل حُكْمُ الْبَدَل، كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا قَدَرَ عَلَى
الْمَاءِ قَبْل أَدَاءِ الصَّلاَةِ.
وَإِذَا آلَى الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ، ثُمَّ مَرِضَ،
فَإِنْ مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ وَهُوَ صَحِيحٌ يُمْكِنُهُ الْجِمَاعُ
فِيهَا، فَلاَ يَصِحُّ فَيْؤُهُ بِالْقَوْل؛ لأَِنَّهُ كَانَ قَادِرًا
عَلَى الْجِمَاعِ مُدَّةَ الصِّحَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَكُونُ قَدْ فَرَّطَ فِي إِيفَاءِ حَقِّ زَوْجَتِهِ،
فَلاَ يُعْذَرُ بِالْمَرَضِ الْحَادِثِ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضَتْ
عَلَيْهِ مُدَّةٌ - وَهُوَ صَحِيحٌ يُمْكِنُهُ الْجِمَاعُ فِيهَا - فَإِنَّ
فَيْئَهُ بِالْقَوْل يَكُونُ صَحِيحًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ
عَلَى الْجِمَاعِ فِي مُدَّةِ الصِّحَّةِ لِقِصَرِهَا، لَمْ يَكُنْ
مُفَرِّطًا فِي تَرْكِ الْجِمَاعِ، فَكَانَ مَعْذُورًا.
__________
(1) فتح القدير 3 / 169، والمغني 7 / 328.
(7/236)
هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (1)
، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ: قِيَامُ النِّكَاحِ وَقْتَ الْفَيْءِ
بِالْقَوْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ حَال قِيَامِ
الزَّوْجِيَّةِ، وَقَبْل حُصُول الطَّلاَقِ الْبَائِنِ مِنَ الزَّوْجِ.
أَمَّا لَوْ آلَى الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ، ثُمَّ أَوْقَعَ عَلَيْهَا
طَلاَقًا بَائِنًا، وَفَاءً بِالْقَوْل لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْئًا،
وَبَقِيَ الإِْيلاَءُ؛ لأَِنَّ الْفَيْءَ بِالْقَوْل حَال قِيَامِ
النِّكَاحِ إِنَّمَا يَرْفَعُ الإِْيلاَءَ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلاَقِ؛
لإِِيفَاءِ حَقِّ الزَّوْجَةِ بِهَذَا الْفَيْءِ، وَالْمُطَلَّقَةُ
بَائِنًا لَيْسَ لَهَا الْحَقُّ فِي الْجِمَاعِ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُل
مُضِرًّا بِهَا بِالاِمْتِنَاعِ عَنْ جِمَاعِهَا، وَوُقُوعُ الطَّلاَقِ
بِالإِْيلاَءِ كَانَ لِهَذَا السَّبَبِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلاَ يَقَعُ
عَلَيْهَا طَلاَقٌ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، لَكِنْ يَبْقَى الإِْيلاَءُ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَرْفَعُهُ وَهُوَ الْحِنْثُ، وَلِهَذَا لَوْ
تَزَوَّجَهَا وَمَضَتْ مُدَّةُ الإِْيلاَءِ بَعْدَ الزَّوَاجِ مِنْ غَيْرِ
فَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلاَقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأُمِرَ
بِالْفَيْءِ إِلَيْهَا أَوْ طَلاَقِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا
بِخِلاَفِ الْفَيْءِ بِالْفِعْل، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ زَوَال
النِّكَاحِ وَثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ بِسَبَبٍ آخَرَ، كَالْخُلْعِ أَوِ
الطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ، فَإِنَّهُ بِالْفَيْءِ بِالْفِعْل - وَإِنْ كَانَ
مُحْرِمًا - يَبْطُل الإِْيلاَءُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا حَنِثَ فِي
يَمِينِهِ، وَبِالْحِنْثِ تَنْحَل الْيَمِينُ وَيَبْطُل الإِْيلاَءُ،
وَلَكِنْ لاَ تَرْجِعُ الْمَرْأَةُ إِلَى عِصْمَتِهِ، وَيُعْتَبَرُ آثِمًا
بِالْوَطْءِ فِي عِدَّةِ الْبَيْنُونَةِ (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 174، وفتح القدير 3 / 195، والدر وحاشية ابن عابدين 2 /
852، والدسوقي 2 / 437، والمغني 7 / 328.
(2) البدائع 3 / 175 - 179.
(7/237)
وَقْتُ الْفَيْءِ:
25 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُولِيَ يَلْزَمُهُ شَرْعًا أَنْ يَرْفَعَ
الضَّرَرَ عَنِ الزَّوْجَةِ الَّتِي آلَى مِنْهَا، وَطَرِيقُ رَفْعِ
الضَّرَرِ عَنْهَا يَكُونُ بِالْفَيْءِ، وَالْفَيْءُ لَهُ طَرِيقَانِ:
إِحْدَاهُمَا أَصْلِيَّةٌ وَهِيَ: الْفِعْل، وَثَانِيَتُهُمَا
اسْتِثْنَائِيَّةٌ وَهِيَ: الْقَوْل.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْفَيْءُ بِالْفِعْل أَمْ بِالْقَوْل فَإِنَّ لَهُ
وَقْتًا تَخْتَلِفُ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْفَيْءَ يَكُونُ فِي مُدَّةِ الإِْيلاَءِ،
وَهِيَ الأَْرْبَعَةُ الأَْشْهُرُ. فَإِنْ حَصَل الْفَيْءُ فِيهَا، وَكَانَ
الْفَيْءُ بِالْفِعْل، حَنِثَ الزَّوْجُ فِي يَمِينِهِ، وَانْحَل
الإِْيلاَءُ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّلاَقِ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ لاَ تَبِينُ الزَّوْجَةُ.
وَإِنْ حَصَل الْفَيْءُ بِالْقَوْل انْحَل الإِْيلاَءُ فِي حَقِّ
الطَّلاَقِ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، حَتَّى لَوْ فَاءَ الزَّوْجُ
بِالْقَوْل فِي الْمُدَّةِ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ بَعْدَ
الْمُدَّةِ وَجَامَعَهَا، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ
الْكَفَّارَةِ مُعَلَّقٌ بِالْحِنْثِ، وَالْحِنْثُ هُوَ فِعْل الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْجِمَاعُ، فَلاَ يَحْصُل
الْحِنْثُ بِدُونِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَحْصُل الْفَيْءُ فِي مُدَّةِ الإِْيلاَءِ بِالْفِعْل وَلاَ
بِالْقَوْل، وَقَعَ الطَّلاَقُ بِمُضِيِّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا
تَقَدَّمَ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ
الْفَيْءَ يَكُونُ قَبْل مُضِيِّ الأَْرْبَعَةِ الأَْشْهُرِ، وَيَكُونُ
بَعْدَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ حَصَل الْفَيْءُ قَبْل مُضِيِّ هَذِهِ
الْمُدَّةِ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي الْكَلاَمِ عَلَى مَذْهَبِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ حَصَل الْفَيْءُ بَعْدَ مُضِيِّهَا ارْتَفَعَ
الإِْيلاَءُ فِي حَقِّ الطَّلاَقِ وَفِي حَقِّ الْحِنْثِ جَمِيعًا. وَكَذَا
إِنْ حَدَّدَ مُدَّةً فِي يَمِينِهِ فَفَاءَ بَعْدَ مُضِيِّهَا.
(7/237)
أَمَّا إِنْ كَانَ الْفَيْءُ قَبْل
مُضِيِّهَا، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، وَتَلْزَمُهُ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إِنْ كَانَ الْيَمِينُ قَسَمًا، وَيَلْزَمُهُ مَا
الْتَزَمَهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْيَمِينُ قَسَمًا، عِنْدَ مَنْ يَرَى
صِحَّةَ الإِْيلاَءِ فِي حَالَتَيِ الْقَسَمِ وَالتَّعْلِيقِ.
وَمَنْشَأُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى
اخْتِلاَفِهِمْ فِي فَهْمِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، هَل الْفَيْئَةُ مَطْلُوبَةٌ خَارِجَ
الأَْرْبَعَةِ الأَْشْهُرِ أَوْ فِيهَا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا
تَقَدَّمَ.
حَالَةُ الطَّلاَقِ
أَوَّلاً: الطَّلاَقُ الثَّلاَثُ:
26 - إِذَا آلَى الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ، وَكَانَ الإِْيلاَءُ مُطْلَقًا
عَنِ التَّقْيِيدِ بِمُدَّةٍ، أَوْ كَانَ مُؤَبَّدًا، وَلَمْ يُجَامِعْهَا،
بَل طَلَّقَهَا فِي مُدَّةِ الإِْيلاَءِ ثَلاَثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ،
أَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً - وَكَانَتِ الْمُكَمِّلَةَ
لِلثَّلاَثِ - ارْتَفَعَ الإِْيلاَءُ فِي حَقِّ الطَّلاَقِ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ
لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ (1) .
وَقَال أَحْمَدُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ
ثَانٍ مِنْ أَقْوَالِهِ الثَّلاَثَةِ: لاَ يَرْتَفِعُ الإِْيلاَءُ
بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ
رَجُلاً آخَرَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الزَّوْجِ الأَْوَّل الْمُولِي
مِنْهَا، وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ زَوَاجِهَا بِهِ وَلَمْ
يُجَامِعْهَا، لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَصَاحِبَيْهِ، وَلاَ يُطَالَبُ بِالْفَيْءِ
__________
(1) البدائع 3 / 178، والهداية وفتح القدير 3 / 188، وحاشية ابن عابدين 2 /
848، والخرشي 3 / 181، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 375، 376، ومغني
المحتاج 3 / 293.
(7/238)
أَوِ الطَّلاَقِ إِنْ لَمْ يَفِئْ عِنْدَ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْمُوَافِقِ لأَِبِي حَنِيفَةَ
وَصَاحِبَيْهِ.
أَمَّا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ (فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ)
فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَالْقَاضِي
يَقِفُ الزَّوْجَ، فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ لَمْ
يَفْعَل طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي.
وَعِنْدَ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَقَعُ عَلَيْهَا طَلاَقٌ بَائِنٌ
بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ زَوَاجِهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ
وِقَاعٍ.
وَحُجَّةُ الأَْوَّلِينَ: أَنَّ الْحِل الثَّابِتَ بِالزَّوَاجِ الأَْوَّل
قَدْ زَال بِالْكُلِّيَّةِ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ، وَالْحِل الْحَاصِل
بِالزَّوَاجِ الثَّانِي حِلٌّ جَدِيدٌ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ فِيهِ الزَّوْجُ
ثَلاَثَ طَلْقَاتٍ، فَصَارَ إِيلاَؤُهُ فِي الزَّوَاجِ الأَْوَّل
كَإِيلاَئِهِ مِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ.
وَحُجَّةُ الآْخَرِينَ: أَنَّ الْيَمِينَ صَدَرَتْ مُطَلَّقَةً غَيْرَ
مُقَيَّدَةٍ بِالْحِل الَّذِي كَانَ قَائِمًا وَقْتَ صُدُورِهَا، وَعَلَى
هَذَا تُوجَدُ الْيَمِينُ عِنْدَمَا يَتَحَقَّقُ حِل الْمَرْأَةِ
لِلرَّجُل، بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ الْحِل الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ
صُدُورِهَا، وَبَيْنَ الْحِل الَّذِي وُجِدَ بَعْدَ زَوَال الْحِل
الأَْوَّل. فَإِذَا عَادَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الزَّوْجِ الَّذِي آلَى
مِنْهَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِمَاعِ امْرَأَتِهِ
بِنَاءً عَلَى يَمِينِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الإِْيلاَءِ كَمَا لَوْ
لَمْ يُطَلِّقْ (1) .
أَمَّا الإِْيلاَءُ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، فَإِنَّهُ بَاقٍ بَعْدَ
الطَّلاَقِ الثَّلاَثِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا. وَعَلَى
هَذَا لَوْ آلَى الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ إِيلاَءً مُطْلَقًا عَنِ
التَّقْيِيدِ بِمُدَّةٍ، أَوْ مُؤَبَّدًا، وَلَمْ يُجَامِعْهَا، ثُمَّ
طَلَّقَهَا ثَلاَثًا، وَعَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ رَجُلاً
آخَرَ، ثُمَّ جَامَعَهَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ
الْيَمِينِ إِنْ كَانَتِ
__________
(1)
) المراجع السابقة، والمغني لابن قدامة 7 / 335.
(7/238)
الْيَمِينُ قَسَمًا، وَلَزِمَهُ مَا
عَلَّقَهُ عَلَى جِمَاعِهَا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ قَسَمًا؛ لأَِنَّ
الْيَمِينَ إِذَا كَانَتْ لَهَا مُدَّةٌ فَإِنَّهَا تَبْقَى مَا بَقِيَتْ
هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَلاَ تَبْطُل إِلاَّ بِالْحِنْثِ، وَهُوَ فِعْل
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَبْل مُضِيِّ مُدَّةِ الْيَمِينِ، أَوْ بِمُضِيِّ
هَذِهِ الْمُدَّةِ بِدُونِ حِنْثٍ.
وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً لَمْ تُقَيَّدْ بِمُدَّةٍ، أَوْ
ذُكِرَتْ فِيهَا كَلِمَةُ الأَْبَدِ، فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل إِلاَّ
بِالْحِنْثِ، وَهُوَ فِعْل الشَّيْءِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ (وَهُوَ
فِي الإِْيلاَءِ الْجِمَاعُ) فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْحِنْثُ فَالْيَمِينُ
بَاقِيَةٌ (1) .
ثَانِيًا: بَقَاءُ الإِْيلاَءِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِمَا دُونَ
الثَّلاَثِ:
27 - إِذَا آلَى الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ، وَكَانَ الإِْيلاَءُ مُؤَبَّدًا
أَوْ مُطْلَقًا عَنِ التَّوْقِيتِ، بِأَنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُ
زَوْجَتِي أَبَدًا، أَوْ قَال: وَاللَّهِ لاَ أَقْرَبُ زَوْجَتِي وَلَمْ
يَذْكُرْ وَقْتًا، ثُمَّ أَبَانَهَا بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ،
وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، كَانَ الإِْيلاَءُ بَاقِيًا عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا، مَا عَدَا الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ
الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّ الإِْيلاَءَ يَنْتَهِي عِنْدَهُ بِالطَّلاَقِ
الْبَائِنِ بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، كَمَا يَنْتَهِي بِالطَّلاَقِ
الثَّلاَثِ.
وَبِنَاءً عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَقَاءِ
الإِْيلاَءِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، لَوْ مَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الزَّوَاجِ وَلَمْ يُجَامِعْهَا، وَقَعَتْ
طَلْقَةً بَائِنَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: يُؤْمَرُ بِالْفَيْءِ، فَإِنْ أَبَى
وَلَمْ يُطَلِّقْ، طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي. وَكَذَلِكَ لَوْ
تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلاَقُ الثَّانِي، وَمَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا:
وَقَعَتْ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَيُؤْمَرُ بِالْفَيْءِ أَوِ الطَّلاَقِ،
__________
(1) البدائع 3 / 179، والمراجع السابقة.
(7/239)
فَإِنْ لَمْ يَفِئْ أَوْ يُطَلِّقْ طَلَّقَ
عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَبِهَذَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ بَائِنَةً بَيْنُونَةً
كُبْرَى، وَيَبْقَى الإِْيلاَءُ فِي حَقِّ الْحِنْثِ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الطَّلاَقِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَزُفَرَ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَنْحَل الإِْيلاَءُ فِي حَقِّ الطَّلاَقِ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَمَالِكٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ أَبَانَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ الَّتِي آلَى مِنْهَا إِيلاَءً
مُطْلَقًا أَوْ مُؤَبَّدًا بِمَا دُونَ الثَّلاَثِ، وَتَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ
آخَرَ، وَدَخَل بِهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الأَْوَّل عَادَ حُكْمُ
الإِْيلاَءِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ
كَمَا تَقَدَّمَ.
إِنَّمَا الاِخْتِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَا تَعُودُ بِهِ إِلَى الزَّوْجِ
الأَْوَّل: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَعُودُ بِثَلاَثِ
تَطْلِيقَاتٍ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ تَعُودُ إِلَيْهِ بِمَا بَقِيَ، وَهُوَ قَوْل
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَهَذَا الْخِلاَفُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الزَّوَاجَ الثَّانِيَ هَل
يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلاَثَ، أَوْ
لاَ يَهْدِمُ إِلاَّ الثَّلاَثَ؟
فَعِنْدَ الأَْوَّلِينَ يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ كَمَا
يَهْدِمُ الثَّلاَثَ، وَعِنْدَ الآْخِرِينَ لاَ يَهْدِمُ إِلاَّ
الثَّلاَثَ.
وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الأَْوَّل: أَنَّ الزَّوَاجَ الثَّانِيَ إِذَا هَدَمَ
الطَّلاَقَ الثَّلاَثَ، وَأَنْشَأَ حِلًّا كَامِلاً، فَأَوْلَى أَنْ
يَهْدِمَ مَا دُونَ الثَّلاَثِ، وَيُكْمِل الْحِل النَّاقِصَ.
وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي: أَنَّ الْحِل الأَْوَّل لاَ يَزُول إِلاَّ
بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ وَاحِدَةً
أَوِ اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَحَل لَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا،
__________
(1) فتح القدير 2 / 179، والبدائع 3 / 127، 178، وبداية المجتهد لابن رشد 2
/ 72، والخرشي 3 / 181، ومغني المحتاج 3 / 293، والمغني لابن قدامة 7 /
261.
(7/239)
فَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ وَدَخَل بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ
بَعْدَ ذَلِكَ، عَادَتْ إِلَيْهِ بِالْحِل الأَْوَّل، فَلاَ يَمْلِكُ
عَلَيْهَا إِلاَّ مَا بَقِيَ مِنَ الطَّلاَقِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لَهُ
فِي ذَلِكَ الْحِل (1) .
إِيلاَجٌ
انْظُرْ: وَطْءٌ |