الموسوعة
الفقهية الكويتية جَائِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَائِحَةُ فِي اللُّغَةِ الشِّدَّةُ، تَجْتَاحُ الْمَال مِنْ سَنَةٍ
أَوْ فِتْنَةٍ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَوْحِ بِمَعْنَى
الاِسْتِئْصَال وَالْهَلاَكِ، يُقَال: جَاحَتْهُمُ الْجَائِحَةُ
وَاجْتَاحَتْهُمْ، وَجَاحَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَجَاحَهُ بِمَعْنًى، أَيْ
أَهْلَكَهُ بِالْجَائِحَةِ.
وَتَكُونُ بِالْبَرْدِ يَقَعُ مِنَ السَّمَاءِ إِذَا عَظُمَ حَجْمُهُ
فَكَثُرَ ضَرَرُهُ،
وَتَكُونُ بِالْبَرْدِ أَوْ الْحَرِّ الْمُفْرِطَيْنِ حَتَّى يَفْسُدَ
الثَّمَرُ (1) .
وَالْجَائِحَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا قَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَتَبِعَهُ أَكْثَرُهُمْ: كُل شَيْءٍ لاَ يُسْتَطَاعُ
دَفْعُهُ لَوْ عُلِمَ بِهِ، كَسَمَاوِيٍّ، كَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ، وَمِثْل
ذَلِكَ رِيحُ السَّمُومِ، وَالثَّلْجُ، وَالْمَطَرُ، وَالْجَرَادُ،
وَالْفِئْرَانُ وَالْغُبَارُ، وَالنَّارُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ غَيْرِ
سَمَاوِيٍّ وَجَيْشٍ، وَأَمَّا فِعْل السَّارِقِ فَفِيهِ خِلاَفٌ
عِنْدَهُمْ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ، أَمَّا إِذَا عُلِمَ فَإِنَّهُ
لاَ يَكُونُ جَائِحَةً عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَكْثَرِ
الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ وَيَكُونُ جَائِحَةً
عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: (جوح) .
(15/67)
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا كُل مَا أَذْهَبَ الثَّمَرَةَ أَوْ بَعْضَهَا
بِغَيْرِ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ، كَرِيحٍ وَمَطَرٍ وَثَلْجٍ، وَبَرْدٍ،
وَجَلِيدٍ، وَصَاعِقَةٍ، وَحَرٍّ، وَعَطَشٍ وَنَحْوِهَا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الآْفَةُ:
2 - وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عَرَضٌ يُفْسِدُ مَا يُصِيبُهُ، وَهِيَ
الْعَاهَةُ، وَالْجَمْعُ آفَاتٌ (2) .
وَالآْفَةُ أَعَمُّ مِنَ الْجَائِحَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا قَدْ تُتْلِفُ
الزَّرْعَ وَالثَّمَرَ أَوْ لاَ تُتْلِفُهُ، وَالْجَائِحَةُ أَعَمُّ مِنْ
جِهَةِ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِمَرَضٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ
نَحْوِهِ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الآْفَةَ بِالْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ وَيُقَيِّدُونَهَا فِي الْغَالِبِ بِكَوْنِهَا سَمَاوِيَّةً
أَيْ إِنَّهَا لاَ صُنْعَ فِيهَا لآِدَمِيٍّ، وَالآْفَةُ قَدْ تَكُونُ
عَامَّةً كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَتَكُونُ خَاصَّةً
كَالْجُنُونِ (3) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 185 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 63 ط دار المعرفة،
كفاية الطالب مع حاشية العدوي 2 / 173 ط الحلبي، المنتقى 4 / 232، 233 ط،
الأولى، الأم للشافعي 3 / 58 ط، دار المعرفة، مطالب أولي النهى 3 / 200،
203 ط، المكتب الإسلامي، كشاف القناع 3 / 285 نشر مكتبة النصر، الإنصاف 5 /
76 - 77 ط التراث مصورة عن طبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
(2) المصباح واللسان والقاموس مادة: (أوف) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 47 ط، بولاق، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4
/ 42 ط، بولاق، كفاية الطالب مع حاشية العدوي 2 / 173 ط، الحلبي، حاشية
القليوبي 2 / 211 ط الحلبي، المغني مع الشرح 4 / 216 ط، والمنار، التقرير
والتحبير 2 / 172 ط الأميرية، والتلويح 2 / 167 ط صبيح، وكشف الأسرار
للبزدوي 4 / 263 ونيل الأوطار 5 / 280 - 281 ط مكتبة الجيل، ومصطلح آفة.
(15/68)
ب - التَّلَفُ:
3 - التَّلَفُ الْهَلاَكُ. يُقَال: تَلِفَ الشَّيْءُ تَلَفًا إِذَا هَلَكَ
فَهُوَ تَالِفٌ وَأَتْلَفْتُهُ، وَرَجُلٌ مُتْلِفٌ لِمَالِهِ وَمِتْلاَفٌ
لِلْمُبَالَغَةِ (1) . فَالْجَائِحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ.
أَنْوَاعُ الْجَائِحَةِ وَأَحْكَامُهَا:
4 - الْجَائِحَةُ نَوْعَانِ:
أ - جَائِحَةٌ لاَ دَخْل لآِدَمِيٍّ فِيهَا.
ب - وَجَائِحَةٌ مِنْ قِبَل الآْدَمِيِّ كَفِعْل السُّلْطَانِ وَالْجَيْشِ،
وَالسَّارِقِ، عَلَى قَوْل مَنْ جَعَل فِعْل الآْدَمِيِّ جَائِحَةً.
أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل: فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
كَوْنِهِ جَائِحَةً وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
جَائِحَةٌ مِنْ قِبَل الْمَاءِ، وَجَائِحَةٌ مِنْ قِبَل غَيْرِ الْمَاءِ.
فَأَمَّا الْجَائِحَةُ مِنْ قِبَل الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَل
الْعَطَشِ فَقَدْ قَال مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: يُوضَعُ قَلِيل ذَلِكَ
وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ شِرْبَ مَطَرٍ أَمْ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ
شُرُوطِ تَمَامِهَا السَّقْيُ، فَوَجَبَ أَنْ يُوضَعَ عَنِ الْمُشْتَرِي
قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا لِمَنْفَعَةِ
__________
(1) المصباح مادة: (تلف) .
(15/68)
الأَْرْضِ الْمُكْتَرَاةِ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْجَوَائِحِ أَنَّ سَائِرَ الْجَوَائِحِ لاَ
تَنْفَكُّ الثَّمَرَةُ مِنْ يَسِيرِهَا، وَهَذِهِ تَنْفَكُّ الثَّمَرَةُ
مِنْ يَسِيرِهَا، فَالْمُشْتَرِي دَاخِلٌ عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْهَا،
وَلَمْ يَدْخُل عَلَى سَلاَمَتِهَا مِنْ يَسِيرِ الْعَفَنِ وَالأَْكْل،
وَأَمَّا الْجَائِحَةُ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعَفَنِ
فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْعَفَنِ يَضَعُ كَثِيرَهُ دُونَ
قَلِيلِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَائِحَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ
الآْدَمِيِّينَ كَالسَّرِقَةِ، فَفِيهَا الْخِلاَفُ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
يَرَ ذَلِكَ جَائِحَةً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيمَا رَوَى أَنَسٌ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ (1) وَمِنْهُمْ مَنْ
جَعَلَهُ جَائِحَةً لِدُخُولِهِ فِي حَدِّ الْجَائِحَةِ عِنْدَهُمْ (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجَائِحَةِ مِنْ آثَارٍ:
أ - أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الزَّكَاةِ:
5 - جَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا خُرِصَ التَّمْرُ وَتُرِكَ فِي رُءُوسِ
النَّخْل فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَذَهَبَتِ
الثَّمَرَةُ سَقَطَ عَنْهُمُ الْخَرْصُ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ، وَلاَ
نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا. قَال ابْنُ
__________
(1) حديث: " إذا منع الله الثمرة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 398 - ط
السلفية) ومسلم (3 / 1190 - ط الحلبي) من حديث أنس، واللفظ للبخاري.
(2) المنتقى 4 / 233 ط الأولى، والمهذب 1 / 287 - 288 ط الحلبي، ونيل
الأوطار 5 / 281 ط الجيل.
(15/69)
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ
عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ ثُمَّ أَصَابَتْهُ
جَائِحَةٌ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ إِذَا كَانَ قَبْل الْجِذَاذِ؛
وَلأَِنَّهُ قَبْل الْجِذَاذِ فِي حُكْمِ مَا لاَ تَثْبُتُ الْيَدُ
عَلَيْهِ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى ثَمَرَةً فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ
رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ (1) .
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُونَ عَنِ
الْجَائِحَةِ بِالآْفَةِ أَوِ التَّلَفِ أَوِ الْهَلاَكِ عَدَدًا مِنَ
الصُّوَرِ فِي هَلاَكِ الْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَهَلاَكِ
النِّصَابِ، أَوْ بَعْضِهِ، وَهَلاَكِ سَائِمَةِ الْبَدَل بَعْدَ الْحَوْل،
وَهَلاَكِ الْعَفْوِ، وَبَقَاءِ النِّصَابِ، وَهَلاَكِ الْبَدَل إِنِ
اسْتَبْدَلَهُ بَعْدَ الْحَوْل. وَاشْتَرَطُوا فِي الْمَال الَّذِي
تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَلاَكِهِ أَنْ يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل فَيَهْلَكَ
مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوِ اسْتِهْلاَكٍ قَبْل أَدَاءِ الزَّكَاةِ؛
لأَِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمْ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ تَحْقِيقًا
لِلتَّيْسِيرِ فَيَسْقُطُ بِهَلاَكِ مَحَلِّهِ.
وَهَذَا هُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَال يَسْقُطُ
بِهَلاَكِهِ، فَتَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ كَحَقِّ الْمُضَارِبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا أَصَابَتِ الثِّمَارَ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ بَعْدَ
الْخَرْصِ، أَوْ سُرِقَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ أَوِ الْجَرِينِ، فَإِنْ
تَلِفَتْ كُلُّهَا بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَى
الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ لِفَوَاتِ الإِْمْكَانِ. فَإِنْ
كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا زَكَّاهُ، وَعَلَى الْقَدِيمِ لاَ يَسْقُطُ
__________
(1) المغني 2 / 703.
(15/69)
شَيْءٌ بِالتَّلَفِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ
تَقْصِيرٍ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّرْعَ إِنْ أُصِيبَ بِجَائِحَةٍ بَعْدَ
الْخَرْصِ اعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْجَائِحَةُ فِي جَانِبِ السُّقُوطِ،
فَيُزَكِّي مَا بَقِيَ إِنْ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ،
وَالْحَاصِل كَمَا فِي الدُّسُوقِيِّ أَنَّ الْجَائِحَةَ الَّتِي لاَ
تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي لاَ تُوضَعُ عَنِ الْبَائِعِ فِي الزَّكَاةِ،
وَمَا تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي تُوضَعُ عَنِ الْبَائِعِ زَكَاتُهَا.
وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَسْتَقِرُّ فِي
الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ إِلاَّ بِجَعْلِهَا فِي جَرِينٍ، أَوْ بَيْدَرٍ،
أَوْ مِسْطَاحٍ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ
سَقَطَتِ الزَّكَاةُ خُرِصَتِ الثَّمَرَةُ أَوْ لَمْ تُخْرَصْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الزَّكَاةِ.
ب - أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الْبَيْعِ:
6 - أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ
الْجَوَائِحِ (2) وَقَدْ حَمَلَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ
يُسْقِطَ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي
__________
(1) فتح القدير مع العناية 1 / 511، 512، 514، 515، 516، 528 ط الأميرية،
والمجموع 5 / 377، 379، 482 ط، السلفية بالمدينة المنورة مصورة عن الطبعة
المنيرية، الدسوقي 1 / 454 ط، الفكر، الشرح الصغير 1 / 618 - 619 ط،
المعارف، مطالب أولي النهى 2 / 26 - 27 ط، المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " أمر بوضع الجوائح ". أخرجه مسلم (3 / 1191 - ط الحلبي) من حديث
جابر بن عبد الله.
(15/70)
لِلثَّمَرَةِ أَوِ الزَّرْعِ ثَمَنَ مَا
يُتْلِفُ مِنْهُ الْجَائِحَةُ. فَالْمَبِيعُ إِنْ كَانَ ثَمَرًا أَوْ
زَرْعًا، وَأُصِيبَ بِجَائِحَةٍ قَبْل الْقَبْضِ وَبُدُوِّ الصَّلاَحِ،
أَوْ بَعْدَهُمَا، أَوْ أُجِيحَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ وَقَبْل
الْجِذَاذِ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل مِنْهَا مَا يَلِي:
مَا يُعْتَبَرُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى بَقَائِهِ
فِي أَصْلِهِ لِتَمَامِ صَلاَحِهِ وَلاَ لِبَقَاءِ نَضَارَتِهِ كَالتَّمْرِ
الْيَابِسِ وَالزَّرْعِ، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ يُوضَعُ فِيهِ
جَائِحَةٌ؛ لأَِنَّ تَسْلِيمَهُ قَدْ كَمُل بِتَخَلِّي الْبَائِعِ عَنْهُ
إِلَى الْمُبْتَاعِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي أَصْلِهِ مَنْفَعَةٌ
مُسْتَثْنَاةٌ يُسْتَنْظَرُ اسْتِيفَاؤُهَا، فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ
الصُّبْرَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الأَْصْل، وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ إِلَى
بَقَائِهِ فِي أَصْلِهِ لِحِفْظِ نَضَارَتِهِ أَيْ لِمَعْنًى مُقْتَرِنٍ
بِهِ كَالْعِنَبِ، يُشْتَرَى بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ
الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ مَسَائِل اخْتَلَفُوا فِيهَا وَيَجِبُ رَدُّهَا
إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْمُنْتَقَى عَدَمُ
الْحَاجَةِ إِلَى التَّبْقِيَةِ لِتَمَامِ نُضْجٍ أَوْ بُدُوِّ صَلاَحٍ (1)
.
مِقْدَارُ مَا يُوضَعُ مِنَ الْجَائِحَةِ:
8 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي تُصِيبُهُ
الْجَائِحَةُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) المنتقى 4 / 233 - 234، حاشية القليوبي 2 / 237 ط الحلبي، ومطالب أولي
النهى 3 / 204.
(15/70)
أَحَدُهَا: ثِمَارُ التِّينِ، وَالتَّمْرِ،
وَالْعِنَبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ،
وَالتُّفَّاحِ، فَهَذِهِ يُرَاعَى فِي جَوَائِحِهَا الثُّلُثُ، فَإِنْ
كَانَ الَّذِي تَلِفَ أَقَل مِنْ ثُلُثِ الثِّمَارِ فَلاَ يُوضَعُ عَنِ
الْمُشْتَرِي شَيْءٌ، وَإِنْ بَلَغَ التَّالِفُ مِنْهَا الثُّلُثَ وُضِعَ
عَنْهُ جَمِيعُ الْجَائِحَةِ. وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ الثُّلُثُ لأَِنَّ
الثُّلُثَ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، كَمَا وَرَدَ فِي
الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ
وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (1) .
الثَّانِي: الْبُقُول وَالأُْصُول الْمُغَيَّبَةُ مِمَّا الْغَرَضُ فِي
أَعْيَانِهَا دُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: انْتِفَاءُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِيهَا،
وَالثَّانِيَةُ: إِثْبَاتُ حُكْمِ الْجَائِحَةِ فِيهَا.
فَعَلَى الْقَوْل بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْجَائِحَةِ فِيهَا فَهَل يُعْتَبَرُ
فِيهَا الثُّلُثُ أَمْ لاَ؟ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
الْجَائِحَةَ تُوضَعُ فِيهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، بَلَغَتِ الثُّلُثَ
أَوْ قَصُرَتْ عَنْهُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّالِفُ شَيْئًا تَافِهًا، وَرَوَى عَلِيُّ
بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ لاَ يُوضَعُ مِنْ جَائِحَتِهَا إِلاَّ مَا بَلَغَ
الثُّلُثَ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ نَوْعٌ جَرَى مَجْرَى الْبُقُول فِي أَنَّ أَصْلَهُ
مَبِيعٌ مَعَ ثَمَرَتِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَى الأَْشْجَارِ فِي أَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْهُ ثَمَرَتُهُ، كَالْقِثَّاءِ، وَالْبِطِّيخِ،
وَالْقَرْعِ، وَالْبَاذِنْجَانِ، وَالْفُول، وَالْجُلْبَانِ، فَهَذَا
__________
(1) حديث: " الثلث، والثلث كثير ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 164 ط
السلفية) ومسلم (3 / 1250 - ط الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(15/71)
النَّوْعُ يُعْتَبَرُ فِي جَائِحَتِهِ
الثُّلُثُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ
الْمَالِكِيَّةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ
الثَّمَرَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ سَائِرِ الثِّمَارِ،
وَقَال أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: الْمَقَاثِئُ، كَالْبَقْل
تُوضَعُ الْجَائِحَةُ فِيهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا دُونَ اعْتِبَارِ
الثُّلُثِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا نَبَاتٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ
فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الثُّلُثُ كَالْبُقُول (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جُزَيٍّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِنَ
الثِّمَارِ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَالْعِنَبِ، وَالتِّينِ فِي صَفْقَةٍ
وَاحِدَةٍ فَأَصَابَتِ الْجَائِحَةُ صِنْفًا مِنْهَا وَسَلِمَ سَائِرُهَا
فَجَائِحَةُ كُل جِنْسٍ مُعْتَبَرَةٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ ثُلُثَهُ
وُضِعَتْ، وَإِنْ قَصُرَتْ عَنْهُ لَمْ تُوضَعْ.
وَقَال أَصْبَغُ: يَعْتَبِرُ الْجُمْلَةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَائِحَةُ
ثُلُثَ الْجَمِيعِ وُضِعَتْ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
9 - وَلَوِ اشْتَرَطَ الْبَائِعُ عِنْدَ بَيْعِ الثَّمَرِ أَنْ لاَ يَضَعَ
الْجَائِحَةَ عَنِ الْمُشْتَرِي إِنْ حَصَلَتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ شَرْطًا فَاسِدًا وَلَوْ فِيمَا عَادَتُهُ أَنْ يُجَاحَ
وَيَصِحُّ الْعَقْدُ لِنُدْرَةِ الْجَائِحَةِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ
الْبَائِعُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَإِذَا فَسَدَ الشَّرْطُ
فَلاَ يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ. وَقَال أَبُو الْحَسَنِ:
__________
(1) المنتقى 4 / 235، والقوانين الفقهية 260 - 261 ط دار الكتاب العربي،
بداية المجتهد 2 / 205 ط الكليات الأزهرية.
(2) الزرقاني 5 / 193، 196 ط الفكر.
(15/71)
يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ
أَيْ لِزِيَادَةِ الْغَرَرِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى وَضْعِ
الْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ فِي الْقَلِيل
وَالْكَثِيرِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْءَ التَّافِهَ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ،
فَإِذَا تَلِفَ شَيْءٌ لَهُ قَدْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَةِ وُضِعَ مِنَ
الثَّمَنِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ، فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ بَطَل الْعَقْدُ،
وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ
مَا كَانَ يُعَدُّ دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلاَ
يُوضَعُ عَنِ الْبَائِعِ شَيْءٌ وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَبْلَغِ
(الْمِقْدَارُ) وَقِيل ثُلُثُ الْقِيمَةِ، فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ أَوْ
أَكْثَرُ مِنَ الثُّلُثِ رَجَعَ بِقِيمَةِ التَّالِفِ كُلِّهِ مِنَ
الثَّمَنِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ فِي
الْجَدِيدِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَآخَرُونَ، إِلَى أَنَّ الثِّمَارَ
الْمَبِيعَةَ تَكُونُ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلاَ
يَجِبُ وَضْعُ الْجَائِحَةِ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ (3) .
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: إِنَّ الرَّجُل إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَ
فَقَبَضَهُ فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَسَوَاءٌ مِنْ قَبْل أَنْ
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي 3 / 158، والشرح الصغير 3 / 232.
(2) المغني 4 / 217 مع الشرح الكبير، وروضة الطالبين 3 / 470، 471، والأم
للشافعي 3 / 56، 57.
(3) البناية 6 / 244، وفتح القدير 5 / 102، والمبسوط 13 / 91 ط السعادة،
وروضة الطالبين 3 / 470 - 471 ط المكتب الإسلامي، والأم للشافعي 3 / 56،
57، والوجيز 1 / 151، وبداية المجتهد 2 / 186.
(15/72)
يَجِفَّ أَوْ بَعْدَمَا جَفَّ مَا لَمْ
يَجُدَّهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجَائِحَةُ أَصَابَتْ ثَمَرَةً وَاحِدَةً
أَوْ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِ الْمَال لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْ
قَوْلَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمَّا قَبَضَهَا وَكَانَ مَعْلُومًا أَنْ
يَتْرُكَهَا إِلَى الْجِذَاذِ كَانَ فِي غَيْرِ مَعْنَى مَنْ قَبَضَ فَلاَ
يَضْمَنُ إِلاَّ مَا قَبَضَ، كَمَا يَشْتَرِي الرَّجُل مِنَ الرَّجُل
الطَّعَامَ كَيْلاً، فَيَقْبِضُ بَعْضَهُ وَيَهْلَكَ بَعْضُهُ قَبْل أَنْ
يَقْبِضَهُ فَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ،
وَيَضْمَنُ مَا قَبَضَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِذَا قَبَضَ الثَّمَرَةَ
كَانَ مُسَلَّطًا عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ قَطَعَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا،
فَمَا هَلَكَ فِي يَدَيْهِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِ لاَ مِنْ مَال
الْبَائِعِ، فَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُقَال يَضْمَنُ الْبَائِعُ الثُّلُثَ إِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ
فَأَكْثَرُ، وَلاَ يَضْمَنُ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّهُ إِنَّمَا
اشْتَرَاهَا بَيْعَةً وَاحِدَةً وَقَبَضَهَا قَبْضًا وَاحِدًا (1) .
10 - فَخُلاَصَةُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا تَنْحَصِرُ فِي
ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: وَضْعُ الْجَائِحَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ مَا زَادَ عَلَى
الثُّلُثِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي
الثِّمَارِ وَفِيمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِوَضْعِ الْجَائِحَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ
__________
(1) الأم للشافعي 3 / 59 ط المعرفة.
(15/72)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: مَنْ بَاعَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ
يَأْخُذْ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا عَلاَمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَال أَخِيهِ؟
(1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ (2) . فَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ
الْجَوَائِحَ حَدِيثَا جَابِرٍ هَذَانِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ أَيْضًا،
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مَبِيعٌ بَقِيَ عَلَى الْبَائِعِ
فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، بِدَلِيل مَا عَلَيْهِ مِنْ سَقْيِهِ إِلَى أَنْ
يَكْمُل، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ مِنْهُ أَصْلُهُ سَائِرُ
الْمَبِيعَاتِ الَّتِي بَقِيَ فِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَالْفَرْقُ
عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَذَا الْمَبِيعِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْبُيُوعِ أَنَّ
هَذَا بَيْعٌ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ، وَالْمَبِيعُ لَمْ يَكْمُل بَعْدُ،
فَكَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ،
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي ضَمَانِهِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ.
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ وَضْعِ الْجَائِحَةِ مُطْلَقًا: وَهُوَ قَوْل
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ. وَاسْتَدَلُّوا
بِتَشْبِيهِ هَذَا الْبَيْعِ بِسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ، وَأَنَّ
التَّخْلِيَةَ فِي هَذَا الْمَبِيعِ هُوَ الْقَبْضُ. وَقَدْ اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعَاتِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنَ الْمُشْتَرِي،
وَمِنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ أَيْضًا حَدِيثُ
__________
(1) حديث: " من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا، علام
يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ". أخرجه ابن ماجه (2 / 727 - ط الحلبي)
والحاكم (2 / 36 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله
واللفظ لابن ماجه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) تقدم تخرجه (ف 6) .
(15/73)
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال: أُجِيحَ
رَجُلٌ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا وَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتُصُدِّقَ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ وَفَاءَ دَيْنِهِ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ
ذَلِكَ (1) قَالُوا فَلَمْ يَحْكُمْ بِالْجَائِحَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ
بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَأَمْرَ غُرَمَائِهِ بِأَخْذِ مَا وَجَدُوا لاَ
يَدُل عَلَى وُجُوبِ وَضْعِ الْجَائِحَةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ تُوضَعُ لَمْ
يَفْتَقِرْ إِلَى أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَالأَْخْذِ
فَيَكُونُ الأَْمْرُ مَحْمُولاً عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، أَوْ فِيمَا بِيعَ
قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ، فَيُوضَعُ الثُّلُثُ وَمَا زَادَ
عَنْهُ، وَلاَ يُوضَعُ أَقَل مِنْهُ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ
وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (3) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الإِْجَارَةِ:
11 - لَوِ اكْتَرَى أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَفَسَدَ الزَّرْعُ بِجَائِحَةٍ
فَلاَ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الأُْجْرَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حديث: " خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ". أخرجه مسلم (3 / 1191 - ط
الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) بداية المجتهد 2 / 186 - 188، والأم للشافعي 3 / 58 ط المعرفة، ونيل
الأوطار 5 / 281 ط الجيل، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 216 - 217 ط
المصرية، والتفصيل يذكره الفقهاء في بيع الأصول والثمار.
(3) تقدم تخريجه (ف 8) .
(15/73)
وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فِيمَا
قَبَضَهُ مِنَ الأُْجْرَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَصَرَّحَ
الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُؤَجِّرُ قَبَضَهَا فَلَهُ
طَلَبُهَا؛ لأَِنَّهَا تَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ انْتَفَعَ
الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ.
وَلَوْ فَسَدَتِ الأَْرْضُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ بِجَائِحَةٍ
ثَبَتَ الرَّدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَأْجِرُ
الإِْجَارَةَ أَجَازَهَا بِجَمِيعِ الأُْجْرَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ،
وَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِأُجْرَةِ بَاقِي الْمُدَّةِ وَاسْتَقَرَّتْ
أُجْرَةُ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيُوَزِّعُ
الْمُسَمَّى عَلَى الْمُدَّتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لاَ
بِاعْتِبَارِ الْمُدَّةِ. وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنْ كُتُبِ
الْحَنَابِلَةِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الأَْجْوِبَةِ الْمِصْرِيَّةِ
أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ بُسْتَانًا أَوْ أَرْضًا وَسَاقَاهُ عَلَى
الشَّجَرِ بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ إِذَا أُتْلِفَ الثَّمَرُ بِجَرَادٍ
وَنَحْوِهِ مِنَ الآْفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَضْعُ
الْجَائِحَةِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ صُورَةً الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً
فَيَحُطُّ عَنْهُ مِنَ الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَا تَلِفَ مِنَ الثَّمَرَةِ
سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا لِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ
الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الأَْمْرُ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ (1) . أَيْ
لأَِنَّهُ شِرَاءٌ لِلثَّمَرَةِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ
إِجَارَةً وَمُسَاقَاةً (2) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الْغَصْبِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ
__________
(1) تقدم تخريجه (ف 6) .
(2) الوجيز 1 / 238 ط. المعرفة، وكشاف القناع 3 / 286 - 287 ط النصر، مصطلح
(إجارة)
(15/74)
رَدَّ الْمَغْصُوبِ وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ
بِالتَّلَفِ أَوْ الإِْتْلاَفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (1) فَإِنْ
تَعَيَّبَ بِسَمَاوِيٍّ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْمَغْصُوبِ
بِلاَ أَرْشٍ لِعَيْبِهِ وَتَرْكِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنْهُ يَوْمَ
غَصْبِهِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ قَلِيل الْعَيْبِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ (2) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الْوَدِيعَةِ:
13 - الأَْصْل أَنَّ الْوَدِيعَةَ إِذَا تَلِفَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ
فَلاَ يَضْمَنُهَا الْمُودَعُ لأَِنَّ يَدَهُ يَدَ أَمَانَةٍ فَلاَ
يَضْمَنُ إِلاَّ بِتَعْدَادِ تَفْرِيطٍ، وَانْظُرْ لِلتَّفَاصِيل
مُصْطَلَحَ (وَدِيعَةٌ) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الصَّدَاقِ:
14 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَهْرَ الْمُعَيَّنَ إِذَا تَلِفَ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْخِيَارَ
بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَهُ عَلَى حَالِهِ أَوْ تُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ
الْعَقْدِ غَيْرَ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". أخرجه أبو داود (3 / 822 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) من حديث سمرة بن جندب، وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 53 ط
شركة الطباعة الفنية) بالاختلاف في سماع الحسن البصري من سمرة.
(2) فتح القدير 7 / 366 ط الأميرية، جواهر الإكليل 2 / 151 ط. المعرفة،
حاشية القليوبي 3 / 28 ط، والحلبي، كشاف القناع 4 / 106 وما بعدها ط النصر،
ومصطلح (غصب) .
(15/74)
أَنَّهَا لاَ تُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ
إِذَا اخْتَارَتْ أَخْذَهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْمَهْرِ
قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ: لاَ تُوضَعُ فِيهِ جَائِحَةٌ لأَِنَّ
هَذَا الْعَقْدَ لاَ يَقْتَضِي الْمُغَابَنَةَ وَالْمُكَايَسَةَ وَإِنَّمَا
يَقْتَضِي الْمُوَاصَلَةَ وَالْمُكَارَمَةَ، وَوَضْعُ الْجَائِحَةِ
يُنَافِي ذَلِكَ.
ثَانِيهِمَا: قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ: تُوضَعُ فِيهِ الْجَائِحَةُ
لأَِنَّهُ عَقْدٌ ثَبَتَ فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فَثَبَتَ فِيهِ وَضْعُ
الْجَائِحَةِ كَالْبَيْعِ (2) . وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ
ضَمَانِ الزَّوْجِ لِلصَّدَاقِ فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا عَيْنًا
وَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَوْلَيْنِ:
أَظْهَرُهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ كَالْمَبِيعِ فِي
يَدِ الْبَائِعِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ ضَمَانُ يَدٍ
كَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَامِ، وَفَرَّعُوا عَلَى هَذَيْنِ
الْقَوْلَيْنِ مَسَائِل مِنْهَا:
تَلَفُ الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَعَلَى أَنَّهُ
ضَمَانُ عَقْدٍ يَنْفَسِخُ عَقْدُ الصَّدَاقِ وَيُقَدَّرُ عَوْدُ الْمِلْكِ
إِلَيْهِ قُبَيْل التَّلَفِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا كَانَ عَلَيْهِ
مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ لَوْ مَاتَ، كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ يَتْلَفُ قَبْل
الْقَبْضِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْل، وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ
الْيَدِ تَلِفَ عَلَى مِلْكِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا فَعَلَيْهَا
__________
(1) نتائج الأفكار 2 / 456 ط الأميرية.
(2) المنتقى 4 / 234 ط الأولى.
(15/75)
تَجْهِيزُهُ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الصَّدَاقُ
عَلَى هَذَا الْقَوْل، بَل بَدَل مَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ
يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِثْل الصَّدَاقِ، إِنْ كَانَ
مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَا تَلِفَ مِنَ الصَّدَاقِ
وَهُوَ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِسَمَاوِيٍّ، فَمَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ
فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَكِيلاً وَلاَ مَوْزُونًا،
فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا إِنْ تَلِفَ أَوْ نَقَصَ، وَمَا لاَ تَصَرُّفَ
لَهَا فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ وَهُوَ مَا عَدَا الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ،
فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ، وَإِنْ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْضَهُ أَوْ
لَمْ يُمَكِّنْهَا مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَى كُل حَالٍ، لأَِنَّ
يَدَهُ مُتَعَدِّيَةٌ فَضَمِنَهُ كَالْغَاصِبِ (2) .
جَائِزٌ
انْظُرْ: جَوَازٌ.
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 250 ط المكتب الإسلامي.
(2) المغني 6 / 704 - 705 ط الرياض، ومصطلح: (نكاح) .
(15/75)
جَائِزَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَائِزَةُ: الْعَطِيَّةُ إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيل الإِْكْرَامِ
يُقَال: أَجَازَهُ أَيْ: أَعْطَاهُ جَائِزَةً. وَالْجَمْعُ جَوَائِزُ.
وَقَرِيبٌ مِنْهَا التُّحْفَةُ فَهِيَ مَا أَتْحَفْتَهُ غَيْرَكَ مِنَ
الْبِرِّ. قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ:
" وَأَصْلُهَا أَنَّ أَمِيرًا وَاقَفَ عَدُوًّا وَبَيْنَهُمَا نَهْرٌ
فَقَال:
مَنْ جَازَ هَذَا النَّهْرَ فَلَهُ كَذَا، فَكُلَّمَا جَازَ مِنْهُمْ
وَاحِدٌ أَخَذَ جَائِزَةً وَقَال أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ: أَجَازَ
السُّلْطَانُ فُلاَنًا بِجَائِزَةٍ: أَصْل الْجَائِزَةِ أَنْ يُعْطِيَ
الرَّجُل الرَّجُل مَاءً وَيُجِيزَهُ لِيَذْهَبَ لِوَجْهِهِ فَيَقُول
الرَّجُل إِذَا وَرَدَ مَاءً لِقَيِّمِ الْمَاءِ: أَجِزْنِي مَاءً، أَيْ:
أَعْطِنِي مَاءً حَتَّى أَذْهَبَ لِوَجْهِي وَأَجُوزَ عَنْكَ، ثُمَّ كَثُرَ
هَذَا حَتَّى سَمَّوُا الْعَطِيَّةَ جَائِزَةً. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ:
الْجِيزَةُ مِنَ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ
مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، يُقَال: اسْقِنِي جِيزَةً وَجَائِزَةً
وَجَوْزَةً: وَفِي الْحَدِيثِ: الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ،
وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ (1)
__________
(1) حديث: " الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة. . . " أخرجه الترمذي
(4 / 345 - ط الحلبي) من حديث أبي شريح الكعبي. وقال: " حسن صحيح ". وله
أصل في صحيح البخاري (الفتح 10 / 531 - ط السلفية) .
(15/76)
أَيْ: يُضَافُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،
فَيَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل بِمَا اتَّسَعَ لَهُ مِنْ
بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَيُقَدِّمُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ
مَا حَضَرَهُ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ مَا يَجُوزُ
بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يَجُوزُ بِهِ
الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَهُوَ صَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ، إِنْ شَاءَ فَعَل وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. . .
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: أَجَازَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ أَيْ بِعَطَاءٍ. .
. وَفِي الْحَدِيثِ: أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ
(1) أَيْ: أَعْطُوهُمُ الْجِيزَةَ (أَيْ الْجَائِزَةَ) وَمِنْ حَدِيثِ
الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَلاَ أَمْنَحُكَ أَلاَ
أُجِيزُكَ أَيْ أُعْطِيكَ، وَالأَْصْل الأَْوَّل، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُل
عَطَاءٍ (2) ".
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُكَافَأَةُ
2 - هِيَ مَصْدَرُ كَافَأَ، يُقَال: كَافَأَهُ عَلَى الشَّيْءِ مُكَافَأَةً
وَكِفَاءً أَيْ جَازَاهُ، وَكَافَأَ فُلاَنٌ فُلاَنًا: مَاثَلَهُ.
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَ الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ الْمُكَافَأَةَ
__________
(1) حديث: " أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ". أخرجه البخاري (الفتح 6 /
170 ط السلفية) ومسلم (3 / 1258 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) لسان العرب 1 / 32، وتاج العروس والمصباح المنير مادة " جوز " و " عطى
" و " تحف "، والفروق في اللغة 160.
(15/76)
بِأَنَّهَا: الْمُسَاوَاةُ
وَالْمُقَابَلَةُ فِي الْفِعْل، أَوْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ
كُفْؤُهَا.
وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: مُقَابَلَةُ الإِْحْسَانِ
بِمِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةٍ (1) .
فَالْجَائِزَةُ تَكُونُ بِلاَ مُقَابِلٍ، أَمَّا الْمُكَافَأَةُ فَتَكُونُ
بِمُقَابِلٍ وَتَكُونُ مُمَاثِلَةً عَلَى الأَْقَل.
ب - الأَْجْرُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الأَْجْرِ: الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَل، وَالثَّوَابُ،
وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ، وَالْمَهْرُ. وَالأَْجْرُ قَدْ يَكُونُ
دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا، وَيُقَال فِيمَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَمَا
يَجْرِي مَجْرَى الْعَقْدِ، وَلاَ يُقَال إِلاَّ فِي النَّفْعِ دُونَ
الضَّرِّ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَائِزَةِ وَالأَْجْرِ، أَنَّ الْجَائِزَةَ بِلاَ
مُقَابِلٍ وَلاَ تَعَاقُدٍ وَلاَ عِلْمَ بِهَا، أَمَّا الأَْجْرُ
فَيُخَالِفُ فِي كُل ذَلِكَ.
ج - الْجَزَاءُ:
4 - هُوَ مَصْدَرُ جَزَى، يُقَال: جَزَى الشَّيْءُ يَجْزِي أَيْ كَفَى،
وَجَزَى عَنْهُ أَيْ قَضَى، وَالْجَزَاءُ يَكُونُ مَنْفَعَةً أَوْ
مَضَرَّةً أَيْ بِالْمُقَابَلَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (3) } وَإِنْ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب مادة " كفأ " والمفردات في غريب القرآن
93، 437، والتعريفات للجرجاني.
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، والكليات لأبي البقاء 1
/ 55، والمفردات في غريب القرآن ص 11.
(3) سورة طه / 76.
(15/77)
شَرًّا فَشَرٌّ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (1) } وَيُقَال فِيمَا كَانَ
عَنْ عَقْدٍ وَغَيْرِ عَقْدٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
لَفْظُ جَزَى دُونَ جَازَى؛ لأَِنَّ الْمُجَازَاةَ هِيَ الْمُكَافَأَةُ
أَيْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ كُفْؤُهَا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ
لاَ كُفْءَ لَهَا، وَلِهَذَا لاَ يَسْتَعْمِل الْمُكَافَأَةَ فِي حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَالْجَزَاءُ يَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَيَكُونُ بِالْمَنْفَعَةِ أَوِ
الْمَضَرَّةِ بِخِلاَفِ الْجَائِزَةِ.
د - الْجُعْل:
5 - الْجُعْل: لُغَةً مَا يُجْعَل لِلْعَامِل عَلَى عَمَلِهِ، وَهُوَ
أَعَمُّ مِنَ الأَْجْرِ وَالثَّوَابِ
وَاصْطِلاَحًا: الْمَال الْمَعْلُومُ سُمِّيَ فِي الْجَعَالَةِ لِمَنْ
يَعْمَل عَمَلاً مُبَاحًا وَلَوْ كَانَ مَجْهُولاً فِي الْقَدْرِ أَوْ
الْمُدَّةِ أَوْ بِهِمَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَائِزَةِ أَنَّ
الْجَائِزَةَ عَطِيَّةٌ بِلاَ مُقَابِلٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الأَْصْل إِبَاحَةُ الْجَائِزَةِ عَلَى عَمَلٍ مَشْرُوعٍ سَوَاءٌ
أَكَانَ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَثِّ عَلَى
فِعْل الْخَيْرِ وَالإِْعَانَةِ عَلَيْهِ بِالْمَال وَهُوَ مِنْ قَبِيل
الْهِبَةِ.
__________
(1) سورة الشورى / 40.
(2) القاموس المحيط، والكليات 1 / 55، 2 / 17، والمفردات في غريب القرآن
11، 93، والفروق في اللغة 41.
(15/77)
وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
لِلْجَائِزَةِ بِاخْتِلاَفِ مَبْحَثِهَا الْفِقْهِيِّ.
وَهُنَاكَ مَوَاطِنُ لِلْجَائِزَةِ لَهَا حُكْمٌ خَاصٌّ مِنْهَا: جَائِزَةُ
السُّلْطَانِ، وَالْجَائِزَةُ فِي السِّبَاقِ (السَّبَقِ) .
أَوَّلاً: جَائِزَةُ السُّلْطَانِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول جَائِزَةِ السُّلْطَانِ أَوْ
هَدِيَّتِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَبُول هَدِيَّةِ
أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي مَالِهِمُ الْحُرْمَةُ إِلاَّ
إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَال حَلاَلٌ، بِأَنْ كَانَ لِصَاحِبِهِ
تِجَارَةٌ، أَوْ زَرْعٌ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ؛ لأَِنَّ أَمْوَال النَّاسِ لاَ
تَخْلُو عَنْ قَلِيل حَرَامٍ فَالْمُعْتَبَرُ الْغَالِبُ.
وَأَمَّا جَائِزَةُ السُّلْطَانِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ بِالْجَوْرِ فَقَال
الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَخْذِهَا،
فَقَال بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ
حَرَامٍ، قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَبِهِ نَأْخُذُ مَا لَمْ
نَعْرِفْ شَيْئًا حَرَامًا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْحَابِهِ.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَحْرُمُ الأَْكْل وَلاَ
الْمُعَامَلَةُ، وَلاَ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، مِمَّنْ
أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ إِلاَّ مَا عُلِمَ حُرْمَتُهُ، وَلاَ يَخْفَى
الْوَرَعُ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 342، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 262.
(15/78)
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي جَائِزَةِ
السُّلْطَانِ: أَكْرَهُهَا، وَكَانَ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا، وَيَمْنَعُ
بَنِيهِ وَعَمَّهُ مِنْ أَخْذِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِمَا
أَخَذُوهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَمْوَالَهُمْ تَخْتَلِطُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ
مِنَ الْحَرَامِ مِنَ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، وَقَدْ
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلاَل بَيِّنٌ
وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ
وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل
الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى،
أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ (1) وَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ
يَرِيبُكَ (2) .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ تَنَزَّهُوا عَنْ
مَال السُّلْطَانِ، مِنْهُمْ: حُذَيْفَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ،
وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَلَمْ يَرَ أَحْمَدُ ذَلِكَ حَرَامًا، فَإِنَّهُ سُئِل فَقِيل لَهُ: مَال
السُّلْطَانِ حَرَامٌ؟ فَقَال: لاَ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُتَنَزَّهَ
عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَال: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ
__________
(1) حديث: " الحلال بين والحرام بين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 26 -
ط السلفية) ، ومسلم (3 / 219 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط
الحلبي) ، والحاكم (4 / 99 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث الحسن بن
علي، وقال الذهبي: " سنده قوي ".
(15/78)
الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذِهِ
الدَّرَاهِمِ حَقٌّ، فَكَيْفَ أَقُول إِنَّهَا سُحْتٌ؟
وَقَال أَحْمَدُ: جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ
الصَّدَقَةِ، يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ صِينَ عَنْهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلُهُ لِدَنَاءَتِهَا
وَلَمْ يُصَانُوا عَنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ (1) .
ثَانِيًا - جَائِزَةُ السَّبَقِ (الْجُعْل) :
8 - السَّبْقُ - بِسُكُونِ الْبَاءِ - مَصْدَرُ سَبَقَ، وَالسَّبَقُ -
بِفَتْحِ الْبَاءِ - الْجُعْل أَيِ الْمَال الَّذِي يُوضَعُ بَيْنَ
الْمُتَسَابِقِينَ لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ، أَيِ الْجَائِزَةُ.
وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ بِالسَّبَقِ، أَوْ السِّبَاقِ، أَوْ
الْمُسَابَقَةِ، وَيُرِيدُونَ مَا يَعُمُّ سِبَاقَ الْخَيْل أَوْ الإِْبِل
وَالرَّمْيِ، لِقَوْل الأَْزْهَرِيِّ: النِّضَال فِي الرَّمْيِ،
وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْل، وَالسِّبَاقُ يَكُونُ فِي الْخَيْل
وَالرَّمْيِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ (2)
} قِيل: مَعْنَاهُ نَنْتَضِل بِالسِّهَامِ.
وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ
بِلَفْظِ الْمُنَاضَلَةِ أَيِ الْمُبَارَاةِ وَالْمُغَالَبَةِ فِي
الرَّمْيِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاضَلْتُهُ فَنَضَلْتُهُ، كَغَالَبْتُهُ
فَغَلَبْتُهُ، وَزْنًا وَمَعْنًى (3) .
__________
(1) المغني 6 / 443 - 444.
(2) سورة يوسف / 17.
(3) مغني المحتاج 4 / 311.
(15/79)
9 - وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ
الْمُسَابَقَةِ السُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
فَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْل
الْمُضْمَرَةِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ
أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَبَيْنَ الْخَيْل الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ
ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي رُزَيْقٍ (1) . مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ
(2) .
10 - وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ
الْجُعْل أَوِ الْجَائِزَةُ، وَمُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَتَجُوزُ مِنْ غَيْرِ
تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا فَسَبَقَتْهُ،
قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ
فَسَبَقَنِي فَقَال: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ (3) . وَلِخَبَرِ
الْبُخَارِيِّ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَال:
__________
(1) حديث: " سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء. . . " أخرجه البخاري
(الفتح 6 / 71 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1491 - ط الحلبي) من حديث عبد
الله بن عمر.
(2) المغني 8 / 651.
(3) حديث: " هذه بتلك السبقة ". أخرجه أبو داود (3 / 66 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) وصححه العراقي في تخريخ أحاديث إحياء علوم الدين (2 / 44 - ط المكتبة
التجارية) .
(15/79)
ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل فَإِنَّ
أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا (1) .
وَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ إِذَا قُصِدَ بِالْمُسَابِقَةِ التَّلَهِّي أَوِ
الْمُفَاخَرَةُ فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً، أَمَّا إِذَا قُصِدَ بِهَا
التَّقَوِّي وَالاِسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ فَإِنَّهَا تَكُونُ
مَنْدُوبَةً، بَل تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ
التَّقَوِّي عَلَى الْجِهَادِ وَالإِْعْدَادُ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ إِلاَّ
بِهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل (2) }
وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِجَائِزَةٍ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ
عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي الْخَيْل، وَالإِْبِل، وَالسَّهْمِ،
لِحَدِيثِ: لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ، أَوْ نَصْلٍ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ مَنْدُوبَةً إِذَا
قُصِدَ بِهَا الإِْعْدَادُ لِلْجِهَادِ، بَل تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى
الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الإِْعْدَادُ لِلْجِهَادِ إِلاَّ بِهَا
(4) .
11 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي غَيْرِ
__________
(1) المغني 8 / 651، ومغني المحتاج 4 / 311. وحديث: " ارموا بني إسماعيل،
فإن أباكم كان راميا ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 91 - ط السلفية) من حديث
سلمة بن الأكوع.
(2) سورة الأنفال / 6.
(3) حديث: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو انصل ". أخرجه أبو داود (3 / 63 -
64 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن القطان كما في
تلخيص الحبير لابن حجر (4 / 161 - ط شركة الطباعة الفنية)
(4) رد المحتار على الدر المختار 5 / 258، وجواهر الإكليل 1 / 271، ومغني
المحتاج 4 / 311، والمغني 8 / 652
(15/80)
الْخَيْل، وَالإِْبِل، وَالسَّهْمِ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي " سِبَاقٍ ".
وَالْجُعْل أَوِ الْجَائِزَةُ - يَجُوزُ بِشُرُوطٍ، مِنْهَا: كَوْنُهُ
مَعْلُومًا جِنْسًا، وَقَدْرًا، وَصِفَةً، وَمِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ (1) .
وَالْجَائِزَةُ قَدْ يُخْرِجُهَا الإِْمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ
الْمُتَسَابِقَيْنِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا.
فَإِنْ أَخْرَجَهَا الإِْمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ
الْمُتَسَابِقَيْنِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا فَقَدِ اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ السَّبَقِ صَحِيحٌ وَالْجُعْل حَلاَلٌ.
وَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمُتَسَابِقَانِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا
لَمْ تَصِحَّ الْمُسَابَقَةُ وَلَمْ يَحِل الْجُعْل لأَِنَّ ذَلِكَ قِمَارٌ
(2) وَهُوَ حَرَامٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَصِحُّ
الْمُسَابَقَةُ، وَيَحِل الْجُعْل فِي حَالَةِ إِخْرَاجِهِ، أَوِ
اشْتِرَاطِهِ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ إِذَا أَدْخَلاَ بَيْنَهُمَا
مُحَلِّلاً يُخْرِجُ عَقْدَ الْمُسَابَقَةِ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ،
يَغْنَمُ إِنْ
__________
(1) شرح الزرقاني 3 / 152، ومغني المحتاج 4 / 311.
(2) قال ابن عابدين (5 / 258) القمار من القمر الذي يزداد تارة وينتقص
أخرى، وسمي القمار قمارا لأن كل واحد من المقامرين يجوز أن يذهب ماله
لصاحبه ويجوز أن يستفيد مال صاحبه، وهو حرام بالنص، ولا كذلك إذا شرط من
جانب واحد لأن الزيادة والنقصان لا تمكن فيهما بل في أحدهما تمكن الزيادة
وفي الآخر الانتقاص فلا تكون مقامرة.
(15/80)
سَبَقَ وَلاَ يَغْرَمُ إِنْ سُبِقَ، عَلَى
أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ رَمْيُهُ مُكَافِئًا
لِفَرَسَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرَيْهِمَا، أَوْ رَمْيَيْهِمَا، وَيَتَوَهَّمُ
أَنْ يَسْبِقَهُمَا أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ أَوْ يُسْبَقَ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا كَانَ ضَعِيفًا عَنْهُمَا بِحَيْثُ لاَ يُتَصَوَّرُ سَبْقُهُ،
أَوْ قَوِيًّا بِحَيْثُ يَسْبِقُ لاَ مَحَالَةَ، فَإِنَّ السِّبَاقَ لاَ
يَصِحُّ، وَالْجُعْل لاَ يَحِل؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ قِمَارًا، وَلِذَلِكَ
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَدْخَل فَرَسًا
بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ،
وَمَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ
فَهُوَ قِمَارٌ (1) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
12 - وَالْجَائِزَةُ فِي حَالَةِ وُجُودِ الْمُحَلِّل تُسْتَحَقُّ عَلَى
النَّحْوِ التَّالِي: إِنْ جَاءَ الْمُتَسَابِقَانِ وَالْمُحَلِّل
كُلُّهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَحْرَزَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَقَ نَفْسِهِ
وَلاَ شَيْءَ لِلْمُحَلِّل لأَِنَّهُ لاَ سَابِقَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ
سَبَقَا الْمُحَلِّل، وَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّل وَحْدَهُ أَحْرَزَ
السَّبَقَيْنِ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا أَحْرَزَ سَبَقَ
نَفْسِهِ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمُحَلِّل
شَيْئًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا وَالْمُحَلِّل أَحْرَزَ السَّابِقُ
مَال نَفْسِهِ، وَيَكُونُ سَبَقُ
__________
(1) حديث: " من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن. . . " رواه أبو داود (3 /
66 - 67 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وصوب أبو حاتم الرازي
وقف الحديث على سعيد بن المسيب، كذا في التلخيص لابن حجر (4 / 163 - ط شركة
الطباعة الفنية) .
(15/81)
الْمَسْبُوقِ بَيْنَ السَّابِقِ
وَالْمُحَلِّل نِصْفَيْنِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ
جُعْلاً مُتَسَاوِيًا أَوْ مُخْتَلِفًا لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ مِنْهُمَا
فِي الْجَرْيِ أَوِ الرَّمْيِ فَيُمْنَعُ لأَِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي
الْقِمَارِ، وَمَنَعَ الشَّرْعُ فِي بَابِ الْمُعَاوَضَةِ مِنِ اجْتِمَاعِ
الْعِوَضَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَيَظَل الْحُكْمُ الْمَنْعُ وَلَوْ
بِمُحَلِّلٍ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا يُمْكِنُ سَبْقُهُ لَهُمَا فِي
الْجَرْيِ وَالرَّمْيِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَقَ أَخَذَ الْجَمِيعَ؛
لِعَوْدِ الْجُعْل إِلَى مُخْرِجِهِ عَلَى تَقْدِيرِ سَبْقِهِ (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 258، ومغني المحتاج 4 / 314، والمغني
8 / 659.
(2) جواهر الإكليل 1 / 271، وشرح الزرقاني 3 / 153.
(15/81)
جَائِفَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْجَائِفَةُ لُغَةً الْجِرَاحَةُ الَّتِي وَصَلَتِ الْجَوْفَ. فَلَوْ
وَصَلَتْ إِلَى جَوْفِ عَظْمِ الْفَخِذِ لَمْ تَكُنْ جَائِفَةً لأَِنَّ
الْعَظْمَ لاَ يُعَدُّ مُجَوَّفًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
فَهِيَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْفُذُ وَيَصِل إِلَى جَوْفٍ، كَبَطْنٍ،
وَصَدْرٍ، وَثُغْرَةِ نَحْرٍ، وَجَنْبَيْنِ، وَخَاصِرَةٍ، وَمَثَانَةٍ،
وَعَجَّانٍ، وَكَذَا لَوْ أَدْخَل مِنَ الشَّرَجِ شَيْئًا فَخَرَقَ بِهِ
حَاجِزًا فِي الْبَطْنِ.
وَلَوْ نَفَذَتِ الطَّعْنَةُ أَوِ الْجُرْحُ فِي الْبَطْنِ وَخَرَجَتْ مِنْ
مَحَلٍّ آخَرَ فَجَائِفَتَانِ.
وَتَحْصُل الْجَائِفَةُ بِكُل مَا يُفْضِي إِلَى بَاطِنِ جَوْفٍ، فَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيفَ بِحَدِيدَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ مُحَدِّدَةٍ، وَلاَ
بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجَائِفَةُ وَاسِعَةً أَوْ ضَيِّقَةً وَلَوْ قَدْرَ
إِبْرَةٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير. مادة: (جوف) .
(2) حاشية ابن عابدين (5 / 356) دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير (8 /
313) دار إحياء التراث العربي ببيروت، وكفاية الطالب شرح الرسالة (2 / 243)
مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1357 هـ، ومواهب الجليل لشرح مختصر
خليل (6 / 258) دار الفكر ببيروت ط 2 لسنة 1398 هـ، ونهاية المحتاج إلى شرح
المنهاج (7 / 306) المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين (9 / 265) المكتب
الإسلامي، ومطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (6 / 265) ط لسنة 1380 هـ،
والمكتب الإسلامي، وكشاف القناع للبهوتي (6 / 54) سنة 1402 هـ - دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع.
(15/82)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ.
وَأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً،
لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الَّذِي فِيهِ: وَفِي الْجَائِفَةِ
ثُلُثُ الدِّيَةِ (1) . وَعَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ
الزِّيَادَةُ فِيهَا فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ وَلِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: لاَ قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ وَلاَ الْجَائِفَةِ (2) .
وَاتَّفَقُوا فِي الْجَائِفَةِ إِذَا نَفَذَتْ مِنْ جَانِبٍ لآِخَرَ
أَنَّهَا جَائِفَتَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ (3) .
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو " وفي الجائفة ثلث الدية ". أخرجه أحمد (2 / 217
- ط الميمنية) بلفظ " وفي الجائفة ثلث العقل " وإسناده حسن.
(2) حديث العباس بن عبد المطلب: " لا قود في المأمومة، ولا الجائفة ".
أخرجه ابن ماجه (2 / 881 ط الحلبي) وأعله المناوي بجهالة أحد رواته وضعف
آخر. فيض القدير (6 / 436 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حاشية ابن عابدين (5 / 356) ، وكفاية الطالب (2 / 243) ، ومواهب الجليل
(6 / 246) ، (6 / 258) ، وشرح الزرقاني (8 / 35) ، ونهاية المحتاج (7 / 306
- 307) ، وروضة الطالبين (9 / 256) ، وكشاف القناع (6 / 54 - 56) ، ومطالب
أولي النهى (6 / 132) .
(15/82)
وَإِنْ خَرَقَتْ جَائِفَةُ الْبَطْنِ
الأَْمْعَاءَ، أَوْ لَذَعَتْ كَبِدًا أَوْ طِحَالاً، أَوْ كَسَرَتْ
جَائِفَةُ الْجَنْبِ الضِّلْعَ، فَفِيهَا مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَمَنْ مَاتَ بِجَائِفَةٍ فَيَتَعَيَّنُ الْقَتْل بِالسَّيْفِ عَلَى
الْجَانِي (عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى الْقَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ)
لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ: يُفْعَل بِهِ كَفِعْلِهِ أَيْ يُجَافُ مَعَ
قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَيَذْكُرُونَ أَحْكَامًا فِيمَنْ أَجَافَ شَخْصًا جَائِفَتَيْنِ
بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، وَفِيمَنِ الْتَحَمَتْ جَائِفَتُهُ فَفَتَحَهَا
آخَرُ، وَفِيمَنْ وَسَّعَ جَائِفَةَ غَيْرِهِ فِي أَبْوَابِ الدِّيَاتِ
مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1) .
3 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ دَاوَى جَائِفَةً
بِدَوَاءٍ فَوَصَل إِلَى جَوْفِهِ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَإِنْ لَمْ يَصِل الدَّوَاءُ إِلَى بَاطِنِ الأَْمْعَاءِ،
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ أَدْخَل شَيْئًا إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7 / 291، 306 - 307) ، والجمل على شرح
المنهج (5 / 64) دار إحياء التراث العربي، والمغني (7 / 727) ، وحكومة
العدل: ما يقدر من ضمان، وكشاف القناع للبهوتي (6 / 54 - 56) ، ومطالب أولي
النهى شرح غاية المنتهى (6 / 132) .
(2) فتح القدير لابن الهمام (2 / 73) ، والاختيار لتعليل المختار للموصلي
(2 / 356) دار المعرفة للطباعة والنشر ط 3 لسنة 1395 هـ، وحواشي الشرواني
وابن القاسم على تحفة المحتاج بشرح المنهاج (3 / 403) دار صادر ببيروت،
وروضة الطالبين (2 / 356) ، وكشاف القناع (2 / 318) ، ومطالب أولي النهى (2
/ 191) .
(15/83)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى
أَنَّ صَوْمَهُ لاَ يَفْسُدُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ
الدَّوَاءُ مَائِعًا أَمْ غَيْرَ مَائِعٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصِل إِلَى
مَدْخَل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ (1) .
4 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَثْبُتُ
الْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ بِإِقْطَارِ اللَّبَنِ فِي الْجَائِفَةِ مَا لَمْ
يَصِل اللَّبَنُ إِلَى الْمَعِدَةِ لِخَرْقٍ فِي الأَْمْعَاءِ مَثَلاً؛
لأَِنَّ وُصُول اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ لاَ يَحْصُل بِهِ التَّغَذِّي،
وَالْحُرْمَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِمَا يَنْبُتُ بِهِ اللَّحْمُ،
وَيَنْشُزُ بِهِ الْعَظْمُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الْجُوعُ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الآْخَرِ
إِلَى أَنَّهُ يَحْصُل التَّحْرِيمُ بِوُصُول اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِ
الرَّضِيعِ وَلَوْ مِنْ جَائِفَةٍ (3) .
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام (2 / 73) ، والمدونة الكبرى (1 / 198) ، ومواهب
الجليل (2 / 424) ، وكشاف القناع (2 / 318) .
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4 / 9) ، دار الكتاب العربي ببيروت. ط
2 لسنة 1402 هـ، وفتح القدير (3 / 15) ، وكتاب الكافي لابن عبد البر (2 /
540) مكتبة الرياض الحديثة. ط 1 لسنة 1398 هـ، ونهاية المحتاج إلى شرح
المنهاج (7 / 165) ، وروضة الطالبين (9 / 6 - 7) ، وكشاف القناع (5 / 445)
، والمغني لابن قدامة (8 / 175) مكتبة القاهرة بتحقيق طه محمد الزيني.
(3) فتح القدير (3 / 15) ، والجمل على شرح المنهج (4 / 477) ، وروضة
الطالبين (9 / 6 - 7) .
(15/83)
وَتَوَقَّفَ الْعَلاَّمَةُ الأَُجْهُورِيُّ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اللَّبَنِ الْوَاصِل لِلْجَوْفِ مِنْ ثُقْبَةٍ
فِي حِينِ رَجَّحَ الشَّيْخُ النَّفْرَاوِيُّ التَّحْرِيمَ (1) .
جَارٌ
انْظُرْ: جِوَارٌ، شُفْعَةٌ.
__________
(1) الفواكه الدواني للنفراوي (2 / 89) دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
(15/84)
جَارِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَارِحَةُ - وَاحِدَةُ الْجَوَارِحِ - وَهِيَ فِي اللُّغَةِ:
الَّتِي تَكْسِبُ وَهِيَ مِنْ (جَرَحَ) وَمِنْ مَعَانِيهَا كَسَبَ
وَتَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى كَلَمَ أَيْ شَقَّ الْجِلْدَ. قَال تَعَالَى:
{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ (1) } أَيْ كَسَبْتُمْ.
وَتُطْلَقُ عَلَى أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا؛
لأَِنَّهُ يَتَكَسَّبُ بِهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَتُطْلَقُ عَلَى
ذَوَاتِ الصَّيْدِ مِنَ السِّبَاعِ كَالْكِلاَبِ، وَالطَّيْرِ كَالْبَازِي
لأَِنَّهَا تَجْرَحُ لأَِهْلِهَا أَيْ تَكْسِبُ لَهُمْ (2) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
حُكْمُ مَا تَعْقِرُهُ الْجَارِحَةُ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مَأْكُول اللَّحْمِ يَحِل بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ،
وَهُوَ أَعْلَى الْعُنُقِ، أَوْ اللَّبَّةِ وَهِيَ أَسْفَلُهُ
__________
(1) سورة الأنعام / 60.
(2) تاج العروس مادة: " جرح ".
(3) مطالب أولي النهى 6 / 348.
(15/84)
إِذَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، أَمَّا
غَيْرُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَالصَّيْدِ فَجَمِيعُ أَجْزَائِهِ مَذْبَحٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصَّيْدِ بِشُرُوطِهِ
بِالْجَوَارِحِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ مِمَّا يَجْرَحُ
بِنَابِهِ كَالْكَلْبِ، وَالْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَغَيْرِهَا مِنْ
ذَوَاتِ النَّابِ، وَالطَّيْرِ مِمَّا يَجْرَحُ بِمِخْلَبِهِ كَالْبَازِي،
وَالشَّاهِينِ، وَالصَّقْرِ، مِمَّا لَهُ مِخْلَبٌ (1) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِل
لَهُمْ قُل أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ
(2) } .
وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ وَفِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ
اللَّهِ فَكُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ
ذَكَاتَهُ فَكُل (3)
شُرُوطُ الْجَارِحَةِ الَّتِي يَحِل أَكْل صَيْدِهَا:
3 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِحِل مَا تَقْتُلُهُ الْجَوَارِحُ مِنَ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 246، وروض الطالب 1 / 555، وابن عابدين 5 / 298،
ومطالب أولي النهى 6 / 348، والمدونة الكبرى 2 / 51.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) حديث أبي ثعلبة الخشبي: " وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل،
وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 /
604 - 605 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1532 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري
(15/85)
الصَّيْدِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أ - أَنْ تَكُونَ الْجَارِحَةُ مِمَّا لَهُ نَابٌ أَوْ مِخْلَبٌ، وَزَادَ
الْحَنَفِيَّةُ أَلاَ يَكُونَ نَجِسَ الْعَيْنِ.
ب - أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ (2) } أَيْ مُعَلِّمِينَ، وَحَدِيثُ
ثَعْلَبَةَ السَّابِقُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيهِ: مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُل
(3) .
ج - أَنْ يُوجَدَ الإِْرْسَال مِنْ صَاحِبِهَا فَلاَ يَحِل مَا يَقْتُلُهُ
الْمُسْتَرْسِل بِنَفْسِهِ، وَأَنْ تَذْهَبَ الْجَارِحَةُ عَلَى سُنَنِ
الإِْرْسَال، وَأَلاَّ يُشَارِكَهُ فِي الإِْرْسَال مَنْ لاَ يَحِل
صَيْدُهُ، فَإِنْ شَارَكَهُ مَجُوسِيٌّ فَلاَ تَحِل.
د - وَأَلاَّ يُشَارِكَ الْجَارِحَةَ فِي الأَْخْذِ مَا لاَ يَحِل
الصَّيْدُ بِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ.
هـ - أَلاَّ يَتَمَكَّنَ الصَّائِدُ مِنَ الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّيْدِ
فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَرُمَ لِتَقْصِيرِهِ
بِتَرْكِ الذَّبْحِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
و أَنْ يَقْتُلَهُ جَرْحًا. فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَمْ يَحِل عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَحَامَل عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ بِضَغْطِهِ
حَل فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ (5) .
ز - أَنْ لاَ تَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ:
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 205.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) حديث ثعلبة سبق تخريجه ف / 2.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 297، والشرح الكبير للدردير 2 / 106، ومطالب أولي
النهى 6 / 351.
(5) روضة الطالبين 3 / 244.
(15/85)
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهُ عَدَمُ الأَْكْل،
مَرَّاتٍ يَرْجِعُ عَدَدُهَا إِلَى الْعُرْفِ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (2) } . وَالْجَارِحَةُ الآْكِلَةُ
مِنَ الصَّيْدِ إِنَّمَا أَمْسَكَتْهُ لِنَفْسِهَا.
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الأَْكْل مِنَ الصَّيْدِ (3) ،
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
عَدَمُ اشْتِرَاطِ تَرْكِ الأَْكْل فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ لِتَعَذُّرِ
تَعْلِيمِهَا تَرْكَ الأَْكْل.
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى بَعْضُهَا يَتَّصِل بِالصَّائِدِ وَبَعْضُهَا
يَتَعَلَّقُ بِالصَّيْدِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) المدونة 2 / 52.
(15/86)
جَارِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْجَارِيَةِ لُغَةً: السَّفِينَةُ، وَفِتْيَةُ
النِّسَاءِ، وَقِيل لِلأَْمَةِ جَارِيَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ لِجَرْيِهَا
مُسْتَسْخَرَةً فِي أَشْغَال مَوَالِيهَا (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
وَالْفُقَهَاءُ إِنَّمَا عَنَوْا بِمُصْطَلَحِ جَارِيَةٍ بِمَعْنَى
الْفَتَاةِ الصَّغِيرَةِ، وَالشَّابَّةِ، وَالأَْمَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَتَاةُ، وَالأَْمَةُ
2 - الْفَتَاةُ: الشَّابَّةُ مُطْلَقًا حُرَّةً أَوْ أَمَةً. أَمَّا
الْجَارِيَةُ فَتُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ، وَعَلَى الصَّغِيرَةِ، وَعَلَى
الأَْمَةِ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا
وَالأَْمَةُ: لاَ تُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى الرَّقِيقَةِ مِنَ النِّسَاءِ.
أَحْكَامُ الْجَارِيَةِ فِي الإِْطْلاَقَاتِ الْفِقْهِيَّةِ:
3 - الأَْصْل أَنْ تَخْتَلِفَ الْجَارِيَةُ عَنِ الْغُلاَمِ فِي بَعْضِ
الأَْحْكَامِ مِنْهَا:
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير مادة: (جري) .
(15/86)
أ - حُكْمُ التَّطَهُّرِ مِنْ بَوْل
الصَّبِيِّ وَالْجَارِيَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الرَّضِيعَ يُطَهَّرُ الثَّوْبُ مِنْ بَوْلِهِ
بِالنَّضْحِ بِالْمَاءِ، أَمَّا الْجَارِيَةُ فَلاَ يُطَهَّرُ مِنْ
بَوْلِهَا إِلاَّ بِالْغَسْل بِالْمَاءِ لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ يُغْسَل
مِنْ بَوْل الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي بَابِ النَّجَاسَةِ.
ب - حُكْمُ الْعَقِّ عَنِ الْمَوْلُودِ، يُعَقُّ عَنِ الْغُلاَمِ
بِشَاتَيْنِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ،
عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مُصْطَلَحِ: " عَقِيقَةٌ ".
ج - الإِْجْبَارُ فِي النِّكَاحِ، فَالْجَارِيَةُ، لِوَلِيِّهَا أَنْ
يَجْبُرَهَا عَلَى الزَّوَاجِ فِي أَحْوَالٍ مَحْدُودَةٍ، يُنْظَرُ
بَيَانُهَا وَبَيَانُ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجْبَارِ فِي مُصْطَلَحِ "
نِكَاحٌ " " وَإِجْبَارٌ ".
د - وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ أَيْضًا فِي بَقَاءِ الْجَارِيَةِ وَالْغُلاَمِ
فِي حَضَانَةِ الْحَاضِنَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(حَضَانَةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج (1 / 84) ، وكشاف القناع (1 / 189) . والخبر: " يغسل من
بول الجارية، ويرش من بول الغلام ". أخرجه أبو داود (1 / 262 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) والحاكم من حديث أبي السمح وصححه ووافقه الذهبي (1 / 199 - ط
دائرة المعارف العثمانية) .
(15/87)
جَاسُوسِيَّةٌ
انْظُرْ: تَجَسُّسٌ.
جَامِعٌ
انْظُرْ: مَسْجِدٌ.
(15/87)
جُبَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُبَارُ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ.
مِنْ مَعَانِيهِ الْهَدَرُ وَالْبَرِيءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: أَنَا
مِنْهُ خَلاَوَةٌ وَجُبَارٌ وَكُل مَا أُفْسِدَ وَأُهْلِكَ كَالسَّيْل
يُقَال: ذَهَبَ دَمُهُ جُبَارًا أَيْ هَدَرًا.
وَمِنْهُ: حَرْبٌ جُبَارٌ: أَيْ لاَ قَوَدَ فِيهَا وَلاَ دِيَةَ (1) .
وَلَمْ يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ جُبَارٍ إِلاَّ بِمَعْنَى
الْهَدَرِ. فَإِذَا وَصَفُوا فِعْل آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ
جُبَارٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَا تَلِفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْل يَكُونُ
هَدَرًا، لاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ بِقِصَاصٍ، وَلاَ دِيَةٍ، وَلاَ
قِيمَةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الضَّمَانُ:
2 - الضَّمَانُ يَأْتِي لَمَعَانٍ مِنْهَا:
__________
(1) تاج العروس، ومختار الصحاح مادة: (جبر) .
(2) كفاية الطالب الرباني بحاشية العدوي 2 / 284 ط الحلبي، والمغني لابن
قدامة 8 / 337. مكتبة الرياض الحديثة.
(15/88)
الاِلْتِزَامُ بِالْغُرْمِ، وَمِنْهَا
الْكَفَالَةُ (1) .
قَال الْكَفَوِيُّ: " هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ رَدِّ مِثْل الْهَالِكِ إِنْ
كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا (2) ".
فَالْحُكْمُ الَّذِي يُفِيدُهُ لَفْظُ الضَّمَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى
يَكُونُ ضِدًّا لِلْحُكْمِ الَّذِي يُفِيدُهُ لَفْظُ " الْجُبَارُ ".
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَتَعَرَّضُ الْفُقَهَاءُ لِهَذَا الْحُكْمِ فِي الْجِنَايَاتِ
وَالضَّمَانِ، وَمِنَ الصُّوَرِ الَّتِي اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
اعْتِبَارِهَا جُبَارًا:
أ - مَا أَتْلَفَتْهُ الدَّابَّةُ الْمُنْفَلِتَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ
مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ (3)
.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ
جُبَارٌ (4)
__________
(1) القاموس الفقهي لغة واصطلاحا، وشرح الخرشي على مختصر خليل 4 / 237،
المطبعة العامرة الشرقية. مصر. ط الأولى 1316 هـ.
(2) الكليات 3 / 142 نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي - دمشق سنة 1981 م.
(3) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 6 / 608 ط الحلبي، الطبعة الثانية 1386
- 1966 م، وكفاية الطالب الرباني بحاشية العدوي 2 / 284، وروضة الطالبين 10
/ 197 المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 4 / 89 المكتب
الإسلامي.
(4) حديث: " العجماء جرحها جبار. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 254
ط السلفية) ومسلم (3 / 1334 ط عيسى الحلبي) .
(15/88)
وَالْمُرَادُ بِالْعَجْمَاءِ:
الْبَهِيمَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا لاَ تَتَكَلَّمُ (1) .
وَلَيْسَ ذِكْرُ الْجَرْحِ فِي الْحَدِيثِ قَيْدًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ
بِهِ إِتْلاَفُهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِجَرْحٍ أَمْ
بِغَيْرِهِ (2) .
ب - وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي مَوَاتٍ فَسَقَطَ
فِيهِ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، فَمَاتَ أَوْ جُرِحَ، أَوْ عَطِبَ، فَلاَ
ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَسَبُّبٌ فِي ذَلِكَ
أَوْ تَغْرِيرٌ (3) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ - وَالْبِئْرُ جُبَارٌ.
وَكَذَا الأَْمْرُ لَوْ حَفَرَ مَعْدِنًا (أَيْ مَنْجَمًا) فِي مِلْكِهِ،
أَوْ فِي مَوَاتٍ مِنْ الأَْرْضِ، فَوَقَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ
فَدَمُهُ هَدَرٌ، لِقَوْلِهِ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ (4) .
وَمِنْ صُوَرِ الإِْتْلاَفَاتِ الَّتِي حَصَل فِيهَا خِلاَفٌ هَل تَكُونُ
هَدَرًا أَوْ يَلْزَمُ فِيهَا الضَّمَانُ.
أ - إِتْلاَفُ الْبَهَائِمِ لِلزَّرْعِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا.
ب - مَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ الْمَرْكُوبَةُ بِرِجْلِهَا أَوْ يَدِهَا.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِتْلاَفٌ، وَضَمَانٌ) .
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (عجم) .
(2) فتح الباري 12 / 257.
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 10 / 4709، 4717، مطبعة الإمام.
القاهرة، والمدونة 6 / 445، 454، دار صادر - بيروت، وروضة الطالبين 9 /
316، والمغني لابن قدامة 7 / 823.
(4) فتح الباري 12 / 256.
(15/89)
جِبَايَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِبَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمْعُ وَالتَّحْصِيل يُقَال: جَبَيْتُ
الْمَال وَالْخَرَاجَ أَجْبِيهِ جِبَايَةً، جَمَعْتُهُ، وَجَبَوْتُهُ
أَجْبُوهُ جِبَاوَةً مِثْلُهُ، وَالْجَابِيَةُ حَوْضٌ ضَخْمٌ
وَالْجَابِي: هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ الْخَرَاجَ، وَكَذَا مَنْ يَجْمَعُ
الْمَاءَ لِلإِْبِل، وَالْجِبَاوَةُ: اسْمُ الْمَاءِ الْمَجْمُوعِ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِسَابُ:
2 - الْحِسَابُ هُوَ الْعَمَل الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ضَبْطِ
الْمَال الَّذِي يَجْمَعُهُ الْجُبَاةُ، وَمَعْرِفَةِ مَوْرِدِهِ
وَمَصْرِفِهِ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، إِحْصَاءُ الْمَال وَعَدُّهُ،
وَالْحِسَابُ، مِنْ وَسَائِل ضَبْطِ الْجِبَايَةِ (2) .
__________
(1) انظر أساس البلاغة للزمخشري والصحاح واللسان والمصباح مادة: (جبي)
وأيضا المغرب ص / 75 ط. بيروت.
(2) المصباح مادة: (حسب)
(15/89)
ب - الْخَرْصُ:
3 - الْخَرْصُ تَقْدِيرُ مَا عَلَى النَّخْل وَنَحْوِهِ مِنْ ثَمَرٍ،
بِالظَّنِّ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَرْصِ وَالْجِبَايَةِ، أَنَّ الْخَارِصَ عَمَلُهُ
التَّقْدِيرُ، وَالْجَابِي عَمَلُهُ الْجَمْعُ (1) .
ج - الْعِرَافَةُ:
4 - الْعِرَافَةُ وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: تَدْبِيرُ الْقَوْمِ
وَالْقِيَامُ عَلَى سِيَاسَتِهِمْ، وَالْعَرِيفُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ
الَّذِي يُعَرِّفُ الْجَابِيَ أَرْبَابَ الصَّدَقَاتِ إِذَا لَمْ
يَعْرِفْهُمْ (2) .
د - الْكِتَابَةُ:
5 - الْكِتَابَةُ: تَقْيِيدُ مَا يَدْفَعُهُ أَرْبَابُ الأَْمْوَال مِنَ
الصَّدَقَةِ (3) . وَهِيَ مِنْ وَسَائِل ضَبْطِ الْجِبَايَةِ.
حُكْمُ الْجِبَايَةِ:
6 - جِبَايَةُ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ لِبَيْتِ الْمَال وَاجِبَةٌ عَلَى
الإِْمَامِ. قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَالَّذِي يَلْزَمُهُ (أَيِ الإِْمَامَ)
مِنَ الأُْمُورِ عَشْرَةُ أَشْيَاءَ. . ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْهَا: "
جِبَايَةَ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ نَصًّا
وَاجْتِهَادًا مِنْ غَيْرِ عَسْفٍ (4) ".
__________
(1) المغرب / 142 ط الكتاب العربي، المصباح مادة: (خرص) ، وحاشية القليوبي
2 / 20 ط الحلبي.
(2) المصباح مادة " عرف "، والمجموع 6 / 188 ط السلفية.
(3) المصباح وأساس البلاغة للزمخشري مادة: (كتب) ، وحاشية القليوبي 3 / 196
ط الحلبي.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 16، ولأبي يعلى ص 28.
(15/90)
مَحَل الْجِبَايَةِ:
الْجِبَايَةُ تَكُونُ فِي الأَْمْوَال الَّتِي تَرِدُ إِلَى بَيْتِ الْمَال
كَبَعْضِ أَمْوَال الزَّكَاةِ وَأَمْوَال الْفَيْءِ. وَفِيمَا يَلِي مَا
يَتَعَلَّقُ بِجِبَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
أ - جِبَايَةُ الزَّكَاةِ:
7 - جِبَايَةُ الزَّكَاةِ وَاجِبَةٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَبْعَثُونَ
السُّعَاةَ؛ وَلأَِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَال وَلاَ يَعْرِفُ
مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَل، فَوَجَبَ أَنْ يَبْعَثَ
مَنْ يَأْخُذُ (1) .
وَعَمَل الْجَابِي إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَْمْوَال الَّتِي وَلاَّهُ
الإِْمَامُ جِبَايَتَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، وَهِيَ
تَشْمَل الْعَامِلِينَ عَلَى جِبَايَتِهَا، وَذَكَرُوا أَيْضًا مَا
يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِل مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ مُقَابِل عَمَلِهِ،
وَذَكَرُوا أَيْضًا الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا جِبَايَةُ
الزَّكَاةِ. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً - شُرُوطُ الْجَابِي:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلْجَابِي شُرُوطًا هِيَ:
- أ - الإِْسْلاَمُ:
8 - اشْتِرَاطُ الإِْسْلاَمِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى:
__________
(1) المصباح مادة (زكو) ، وحاشية القليوبي 2 / 2 ط الحلبي، والمهذب مع
المجموع 6 / 167 ط السلفية.
(15/90)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ (1) } وَلأَِنَّ الْعَمَل الَّذِي
يَقُومُ بِهِ الْجَابِي وَغَيْرُهُ فِي الزَّكَاةِ إِنَّمَا هُوَ وِلاَيَةٌ
فَاشْتُرِطَ فِيهَا الإِْسْلاَمُ كَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُهُ؛ لأَِنَّهُ يَأْخُذُ
أَجْرًا مُقَابِل جِبَايَتِهِ (2) .
ب - أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا:
9 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَابِي بَالِغًا عَاقِلاً لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ
الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِلْقَبْضِ؛ وَلأَِنَّ عَمَلَهُ وِلاَيَةٌ،
وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ (3) .
ج - الْكِفَايَةُ:
10 - ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَالْمُرَادُ
بِالْكِفَايَةِ أَهْلِيَّتُهُ لِلْقِيَامِ بِعَمَلِهِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى
تَحَمُّل أَعْبَائِهِ، فَإِنَّ الأَْمَانَةَ وَحْدَهَا لاَ تَفِي مَا لَمْ
يَصْحَبْهَا الْقُوَّةُ عَلَى الْعَمَل وَالْكِفَايَةُ فِيهِ (4) .
__________
(1) سورة آل عمران / 118.
(2) المبدع 2 / 418 ط المكتب الإسلامي، شرح منتهى الإرادات 1 / 425 ط عالم
الكتب، والدسوقي 1 / 495 ط الفكر.
(3) المبدع 2 / 415 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 275 ط النصر، وشرح
منتهى الإرادات 1 / 425 ط عالم الكتب، والمغني 2 / 654 ط الرياض.
(4) منتهى الإرادات 1 / 425 ط عالم الكتب، وكشاف القناع 2 / 275 ط النصر،
والمبدع 2 / 415 ط المكتب الإسلامي، والمغني 2 / 654 ط الرياض.
(15/91)
د - الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ مَا يُجْبَى
مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا:
11 - ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْعَامِل عَلَى
الزَّكَاةِ مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ عَالِمًا بِحُكْمِهَا لِئَلاَّ يَأْخُذَ
غَيْرَ الْوَاجِبِ أَوْ يُسْقِطَ وَاجِبًا، أَوْ يَدْفَعَ لِغَيْرِ
الْمُسْتَحِقِّ أَوْ يَمْنَعَ مُسْتَحِقًّا. وَعِبَارَةُ أَبِي إِسْحَاقَ
الشِّيرَازِيِّ: وَلاَ يَبْعَثُ إِلاَّ فَقِيهًا لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى
مَعْرِفَةِ مَا يُؤْخَذُ وَمَا لاَ يُؤْخَذُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى
الاِجْتِهَادِ فِيمَا يَعْرِضُ مِنْ مَسَائِل الزَّكَاةِ وَأَحْكَامِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَامِل إِنْ كَانَ مِنْ عُمَّال
التَّفْوِيضِ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ يُفَوَّضُ إِلَيْهِمْ عُمُومُ
الأَْمْرِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِأَحْكَامِ الزَّكَاةِ،
لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِيهِ
كِفَايَةٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِل مُنَفِّذًا وَقَدْ عَيَّنَ لَهُ
الإِْمَامُ مَا يَأْخُذْهُ جَازَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ
الزَّكَاةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَبْعَثُ الْعُمَّال وَيَكْتُبُ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَ وَكَذَلِكَ كَتَبَ
أَبُو بَكْرٍ لِعُمَّالِهِ (1) .
هـ - الْعَدَالَةُ وَالأَْمَانَةُ:
12 - ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَجَعَل
بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الأَْمَانَةَ شَرْطًا مُسْتَقِلًّا وَالْمُرَادُ
بِالْعَدَالَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ فَاسِقًا؛ لأَِنَّ الْفَاسِقَ
__________
(1) الدسوقي 1 / 495 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 138 ط المعرفة، والمجموع
6 / 167 ط السلفية، وكشاف القناع 2 / 275.
(15/91)
لاَ وِلاَيَةَ لَهُ، وَالْمُرَادُ
بِالْعَدَالَةِ هُنَا كَمَا جَاءَ فِي الدُّسُوقِيِّ وَالْخَرَشِيِّ مِنْ
كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَدَالَةُ كُل وَاحِدٍ فِيمَا يَفْعَلُهُ،
فَعَدَالَةُ الْمُفَرِّقِ فِي تَفْرِقَتِهَا، وَالْجَابِي فِي
جِبَايَتِهَا، وَهَكَذَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَدَالَةُ
الشَّهَادَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ. وَالْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ بِحُكْمِهَا
شَرْطَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَمَل وَالإِْعْطَاءِ مِنَ
الزَّكَاةِ (1) .
و كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ آل الْبَيْتِ:
13 - يَجُوزُ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اسْتِعْمَال ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى
الصَّدَقَاتِ إِنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِمْ أُجْرَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ
الزَّكَاةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَا يَأْخُذُونَهُ عَلَى عَمَلِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ
فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ
جَوَازِ إِعْطَائِهِمْ عَنِ الْعَمَل مِنْهَا تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شُبْهَةِ أَخْذِ
الصَّدَقَةِ، لأَِنَّ الْفَضْل بْنَ الْعَبَّاسِ، وَالْمُطَّلِبَ بْنَ
رَبِيعَةَ سَأَلاَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعِمَالَةَ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَقَال: إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِل
لِمُحَمَّدٍ وَلاَ لآِل مُحَمَّدٍ (2) وَهُوَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ لاَ
تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ.
__________
(1) كشاف القناع 2 / 275، والدسوقي 1 / 495، والخرشي مع حاشية العدوي عليه
2 / 216، والزرقاني على مختصر خليل 2 / 176 - 177، والمجموع 6 / 167.
(2) حديث: " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد " أخرجه مسلم (2 / 753 ط
الحلبي) وأبو داود (3 / 389 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(15/92)
وَجَوَّزَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي
وَجْهٍ كَوْنَ الْعَامِل مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَأَنْ يُعْطَى عَلَى
عَمَلِهِ مِنْ سَهْمِ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل عَلَى
سَبِيل الْعِوَضِ عَنْ عَمَلِهِ.
وَذَهَبَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَال
ذَوِي الْقُرْبَى فِي الأَْعْمَال الأُْخْرَى لِلزَّكَاةِ كَالْحِرَاسَةِ
وَالسَّوْقِ؛ لأَِنَّهَا إِجَارَةٌ مَحْضَةٌ (1) .
ثَانِيًا - مِقْدَارُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مُقَابِل عَمَلِهِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَامِل مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ
يَسْتَحِقُّ أَجْرًا عَلَى عَمَلِهِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مُقَابِل عَمَلِهِ، وَفِي كَوْنِهِ
يَتَقَيَّدُ بِالثَّمَنِ، وَفِي كَوْنِ مَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةً.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَابِيَ فِي الصَّدَقَةِ يُعْطَى
بِقَدْرِ عَمَلِهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانَهُ زَادَ عَلَى الثَّمَنِ أَوْ
نَقَصَ وَإِنْ جَاوَزَتْ كِفَايَتُهُ نِصْفَ مَا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ
فَلاَ يُزَادُ عَلَى النِّصْفِ لأَِنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الإِْنْصَافِ،
وَإِنَّمَا يُعْطَى كِفَايَتَهُ لأَِنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَل
لِمَصْلَحَةِ الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُ كِفَايَتُهُ فِي الزَّكَاةِ
كَالْمُقَاتِلَةِ وَالْقَاضِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالإِْجَارَةِ لأَِنَّهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 188 وتبيين الحقائق 1 / 297، وبدائع الصنائع 2 /
44، والدسوقي 1 / 495، والخرشي مع حاشية العدوي عليه 2 / 216، والزرقاني 2
/ 177، وروضة الطالبين 2 / 336، والمجموع 6 / 167، وشرح منتهى الإرادات 1 /
425، وكشاف القناع 2 / 275، والكافي 1 / 329.
(15/92)
عَمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَمَا يَأْخُذُهُ
الْعَامِل مِنَ الزَّكَاةِ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ عِمَالَةً؛ لأَِنَّ
أَصْحَابَ الأَْمْوَال لَوْ حَمَلُوا الزَّكَاةَ إِلَى الإِْمَامِ لاَ
يَسْتَحِقُّ الْعَامِل شَيْئًا وَلَوْ هَلَكَ مَا جَمَعَهُ مِنَ الزَّكَاةِ
لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِل شَيْئًا كَالْمُضَارِبِ إِذَا هَلَكَ مَال
الْمُضَارَبَةِ، إِلاَّ أَنَّ فِيهِ شِبْهَ الصَّدَقَةِ بِدَلِيل سُقُوطِ
الزَّكَاةِ عَنْ أَرْبَابِ الأَْمْوَال. وَلِذَا لاَ تَحِل لِلْعَامِل
الْهَاشِمِيِّ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِخِلاَفِ
الْغَنِيِّ، لأَِنَّهُ لاَ يُوَازِيهِ فِي الْكَرَامَةِ، كَمَا لاَ تَحِل
لِلإِْمَامِ أَوْ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ رِزْقَهُمَا فِي بَيْتِ الْمَال (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَابِيَ يَأْخُذُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ
وَلاَ تَتَقَيَّدُ تِلْكَ الأُْجْرَةُ بِالثُّمُنِ وَلاَ بِالنِّصْفِ، بَل
إِنَّ الزَّكَاةَ تُدْفَعُ كُلُّهَا لَهُ إِنْ لَمْ يَفِ بَعْضُهَا
بِأُجْرَةِ الْمِثْل.
وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الْجُبَاةَ لاَ تُدْفَعُ أُجُورُهُمْ مِنَ
الزَّكَاةِ إِلاَّ بِوَصْفِ الْفَقْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
أَخَذُوا أُجُورَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَال مُقَابِل عَمَلِهِمْ، وَمِثْل
الْجُبَاةِ فِي هَذَا حُرَّاسُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، أَوْ حُرَّاسُ زَكَاةِ
الْمَال، وَأَمَّا مَا سِوَى هَؤُلاَءِ مِنَ الْعَامِلِينَ فَإِنَّهُمْ
يَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ بِأَحَدِ وَصْفَيْنِ: الْفَقْرُ،
أَوِ الْعَمَل، أَوْ بِهِمَا مَعًا.
إِنْ لَمْ يَفِ أَحَدُهُمَا بِالأُْجْرَةِ، وَلاَ يَأْخُذُ الْجَابِي
__________
(1) الاختيار 1 / 119، وتبيين الحقائق 1 / 297، وفتح القدير مع العناية 2 /
16 - 17، والفتاوى الهندية 1 / 188.
(15/93)
عِنْدَهُمْ بِوَصْفِ الْعَزْمِ إِذَا كَانَ
مِدْيَانًا بِإِعْطَاءِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ يَقْسِمُهَا فَلاَ يَحْكُمُ
لِنَفْسِهِ (1) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ صَرْفِ جَمِيعِ الزَّكَاةِ إِلَى
جَمِيعِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، مَعَ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ
حِصَصِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَيَكُونُ لِكُل صِنْفٍ مِنَ
الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ثُمُنُ مَا جُمِعَ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ
قَدْرَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ قَل أَمْ كَثُرَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الثُّمُنُ قَدْرَ
أُجْرَتِهِ فَقَطْ أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهِ أَخَذَ
أُجْرَتَهُ وَالْبَاقِي لِلأَْصْنَافِ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ
مُنْحَصِرَةٌ فِي الأَْصْنَافِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلْعَامِل فِيهَا
حَقٌّ تَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلأَْصْنَافِ، وَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ
أُجْرَتِهِ وَجَبَ إِتْمَامُ أُجْرَتِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَذَكَرَ صَاحِبُ
الْمُهَذَّبِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي تُتَمَّمُ مِنْهَا تِلْكَ الأُْجْرَةُ
أَرْبَعَ طُرُقٍ الصَّحِيحُ مِنْهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ الأَْصْحَابِ كَمَا
جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا يُتَمَّمُ
مِنْ سِهَامِ بَقِيَّةِ الأَْصْنَافِ وَهَذَا الْخِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ فِي
جَوَازِ التَّتْمِيمِ مِنْ سِهَامِ بَقِيَّةِ الأَْصْنَافِ.
وَأَمَّا بَيْتُ الْمَال فَيَجُوزُ التَّتْمِيمُ مِنْهُ بِلاَ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 139، والدسوقي 1 / 495، والزرقاني 2 / 177، ومواهب
الجليل 349 - 350، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 217.
(15/93)
خِلاَفٍ، فَلَوْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ
يَجْعَل أُجْرَةَ الْعَامِل كُلَّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال وَيَقْسِمَ
جَمِيعَ الزَّكَوَاتِ عَلَى بَقِيَّةِ الأَْصْنَافِ جَازَ؛ لأَِنَّ بَيْتَ
الْمَال لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ، صَرَّحَ
بِهَذَا كُلِّهِ صَاحِبُ الشَّامِل وَآخَرُونَ، وَنَقَل الرَّافِعِيُّ
اتِّفَاقَ الأَْصْحَابِ عَلَيْهِ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلإِْمَامِ تَعْيِينَ أُجْرَةِ الْجَابِي
قَبْل بَعْثِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَاعِيًا وَلَمْ
يَجْعَل لَهُ أُجْرَةً فَلَمَّا جَاءَ أَعْطَاهُ (2) ، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ
أُجْرَةً دَفَعَهَا إِلَيْهِ. وَإِلاَّ دَفَعَ إِلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ.
وَيَدْفَعُ مِنْهَا أُجْرَةَ الْحَاسِبِ، وَالْكَاتِبِ، وَالْعَدَّادِ،
وَالسَّائِقِ، وَالرَّاعِي، وَالْحَافِظِ، وَالْحَمَّال، وَالْكَيَّال،
وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ مُؤْنَتِهَا فَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِالْعَامِل
لأَِنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَغَيْرُهُ يَأْخُذُ عَلَى
وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ (3) .
ثَالِثًا - كَيْفِيَّةُ جِبَايَةِ الزَّكَاةِ:
15 - الْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهُ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ
الْحَوْل وَمِنْهُ مَا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ، فَالْمَال الَّذِي لاَ
يُعْتَبَرُ
__________
(1) المجموع 6 / 188 ط السلفية.
(2) حديث: " بعث عمر ساعيا ولم يجعل له أجرة، فلما جاء أعطاه ". أخرجه مسلم
(2 / 723 ط الحلبي) .
(3) الكافي 1 / 331 - 332 ط المكتب الإسلامي، والمجموع 6 / 187.
(15/94)
فِيهِ الْحَوْل كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ
لاَ يُجْبَى إِلاَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَهُوَ وَقْتُ إِدْرَاكِ الثِّمَارِ
وَاشْتِدَادِ الْحَبِّ. وَلَكِنْ يُخْرَصُ، أَيْ يُقَدَّرُ مَا فِيهِ مِنَ
الثَّمَرِ لِتَحْدِيدِ الْوَاجِبِ فِيهِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَانْظُرْ
لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (خَرْصٌ) .
وَأَمَّا الْمَال الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل كَزَكَاةِ النَّعَمِ
مَثَلاً، فَإِنَّ السَّاعِيَ يُعَيِّنُ شَهْرًا مُحَدَّدًا مِنَ السَّنَةِ
يَأْتِي فِيهِ أَصْحَابَ الأَْمْوَال لِجِبَايَةِ زَكَاتِهِ.
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهْرَ هُوَ
الْمُحَرَّمَ لأَِنَّهُ أَوَّل السَّنَةِ، وَيُسْتَحَبُّ عَدُّ
الْمَاشِيَةِ عَلَى مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى الْمَاءِ أَوْ فِي
الأَْفْنِيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ
النَّاسِ عَلَى مِيَاهِهِمْ، أَوْ عِنْدَ أَفْنِيَتِهِمْ (1) وَإِنْ
أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْمَال بِعَدَدِهِ قَبِل مِنْهُ، وَإِنْ قَال لَمْ
يَكْمُل الْحَوْل أَوْ فَرَّقْتُ زَكَاتَهُ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَمْنَعُ
الأَْخْذَ مِنْهُ قَبِل مِنْهُ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، لأَِنَّ الزَّكَاةَ
عِبَادَةٌ وَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَحْلِفُ عَلَيْهَا
كَالصَّلاَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَ كَرَائِمَ الْمَال
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ
إِلَى الْيَمَنِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ
وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (2)
__________
(1) حديث: " تؤخذ صدقات الناس على مياههم أو عند أفنيتهم ". أخرجه أحمد (2
/ 185 - ط الميمنية) وأبو داود الطيالسي (ص 299 ط دائرة المعارف العثمانية)
من حديث عبد الله بن عمر، وإسناده حسن.
(2) حديث: " فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ". أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 357 ط السلفية) .
(15/94)
وَذَلِكَ لأَِنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ
لِلْفُقَرَاءِ فَلاَ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الإِْجْحَافَ بِمَال الأَْغْنِيَاءِ.
وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ أَرْدَئِهَا بَل يَأْخُذُ الْوَسَطَ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْجَابِي إِذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ
لِلْمُزَكِّي (1) ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَل عَلَيْهِمْ إِنَّ
صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (2) وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى
قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ
قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل فُلاَنٍ فَأَتَاهُ
أَبِي بِصَدَقَةٍ فَقَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل أَبِي أَوْفَى (3) وَلاَ
يَجِبُ الدُّعَاءُ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا
لَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّعَاةَ؛
وَلأَِنَّ سَائِرَ مَا يَأْخُذُهُ الإِْمَامُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ
وَالدُّيُونِ وَغَيْرِهِمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا الدُّعَاءُ،
فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَأَمَّا الآْيَةُ فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ
الْوُجُوبُ خَاصًّا بِهِ لِكَوْنِ صَلاَتِهِ سَكَنًا بِخِلاَفِ غَيْرِهِ.
وَمِنَ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُول: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ،
وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا،
وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْطِي أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 210 ط المكتب الإسلامي، والكافي 1 / 329 ط المكتب
الإسلامي، وفتح الباري 3 / 360 ط الرياض.
(2) سورة التوبة / 103.
(3) حديث: " كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلى على آل فلان ". أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 361 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 756 - ط الحلبي) .
(15/95)
اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلاَ تَجْعَلْهَا
مَغْرَمًا (1) .
وَنُقِل وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ دُعَاءَ قَابِضِ
الصَّدَقَةِ لِدَافِعِهَا وَاجِبٌ عَمَلاً بِظَاهِرِ الآْيَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَصَل عَلَيْهِمْ} (2) .
رَابِعًا - جِبَايَةُ الْفَيْءِ:
16 - الْفَيْءُ مِنْ مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَال، وَهُوَ الْمَال
الْمَأْخُوذُ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ
أَوْ رِكَابٍ.
وَيَشْمَل الْفَيْءُ عَدَدًا مِنَ الأَْمْوَال مِنْهَا مَا هَرَبَ عَنْهُ
الْكُفَّارُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَمِنْهَا الْجِزْيَةُ، وَالْخَرَاجُ،
وَالْعُشُورُ. (3)
أ - جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ:
17 - الْجِزْيَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِلْمَال الْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْل
الذِّمَّةِ (4) .
وَاصْطِلاَحًا عِبَارَةٌ عَنْ وَظِيفَةٍ أَوْ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنَ
الْكَافِرِ فِي كُل عَامٍ مُقَابِل إِقَامَتِهِ فِي دِيَارِ الإِْسْلاَمِ
(5) .
__________
(1) نيل الأوطار 4 / 217 - 218 ط الجيل، وفتح الباري 3 / 361 - 362.
(2) سورة التوبة / 103.
(3) روضة الطالبين 6 / 354، والفتاوى الهندية 2 / 205، وجواهر الإكليل 1 /
260، وكشاف القناع 3 / 100، ط النصر، والمغني 6 ط الرياض.
(4) لسان العرب والمصباح المنير وأساس البلاغة.
(5) الفتاوى الهندية 2 / 244، وجواهر الإكليل 1 / 226، وكفاية الأخيار 2 /
133، والمغني 8 / 495 ط الرياض.
(15/95)
أَمَّا الإِْنَابَةُ فِي أَدَائِهَا
وَمِقْدَارُهَا وَمَتَى تَجِبُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ
مُصْطَلَحِ: (جِزْيَةٌ) .
18 - وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ جِبَايَتِهَا فَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ صُوَرًا
لِكَيْفِيَّةِ الصَّغَارِ مِنْهَا: الْوَارِدُ فِي الآْيَةِ، وَمِنْهَا
أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ وَهُوَ قَائِمٌ، وَيَكُونُ
الْقَابِضُ قَاعِدًا، وَتَكُونُ يَدُ الْقَابِضِ أَعْلَى مِنْ يَدِ
الذِّمِّيِّ، وَيَقُول لَهُ الْقَابِضُ أَعْطِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ: إِنَّ الأَْصَحَّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ تَفْسِيرُ الصَّغَارِ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ
وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ، وَنَقَل عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ نَحْوَهُ
مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ فِي الأُْمِّ فَقَدْ قَال: إِنْ أَخَذَ
الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ أَخَذَهَا بِأَحْمَالٍ وَلَمْ يُضَرَّ أَحَدٌ
مِنْهُمْ وَلَمْ يَنَلْهُ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ. قَالُوا: وَأَشَدُّ الصَّغَارِ
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمَا لاَ يَعْتَقِدُهُ
وَيُضْطَرَّ إِلَى احْتِمَالِهِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّ أَهْل
الذِّمَّةِ لاَ يُعَذَّبُونَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ (2) .
فَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَال: مَرَّ هِشَامُ بْنُ
__________
(1) الاختيار 4 / 139 ط المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 267، ونهاية المحتاج 8
/ 89، والمغني 8 / 537.
(2) ابن عابدين 3 / 270 - 271، والاختيار 4 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 267،
والدسوقي ابن عابدين 3 / 270 - 271، والاختيار 4 / 139، وجواهر الإكليل 1 /
267، والدسوقي 2 / 202، والخرشي 3 / 145، وحاشية قليوبي 4 / 232 - 233،
وروضة الطالبين 10 / 315 - 316، ونهاية المحتاج 8 / 89، وكشاف القناع 3 /
123، والمغني 8 / 537.
(15/96)
حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ
الأَْنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ فَقَال: مَا
شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ، فَقَال هِشَامٌ: أَشْهَدُ
لَسَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا
(1) .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِمَالٍ كَثِيرٍ، قَال أَبُو عُبَيْدٍ:
أَحْسَبُهُ الْجِزْيَةَ فَقَال: إِنِّي لأََظُنُّكُمْ قَدْ أَهْلَكْتُمُ
النَّاسَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذْنَا إِلاَّ عَفْوًا صَفْوًا قَال:
بِلاَ سَوْطٍ وَلاَ نَوْطٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَمْ يَجْعَل ذَلِكَ عَلَى يَدِيَّ وَلاَ فِي سُلْطَانِي (2) .
ب - جِبَايَةُ الْخَرَاجِ:
19 - الْخَرَاجُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْكِرَاءِ وَالْغَلَّةِ وَمِنْهُ
قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَرَاجُ
بِالضَّمَانِ (3) وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ
الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا لِبَيْتِ الْمَال. وَالأَْرْضُ
الْمُخْتَصَّةُ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا هِيَ الَّتِي صُولِحَ
عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ وَلَنَا
عَلَيْهَا الْخَرَاجُ. وَكَذَلِكَ الأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً
عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ". أخرجه مسلم (4 /
2018 - ط الحلبي) .
(2) الأموال للقاسم بن سلام ص 43. ط التجارية.
(3) حديث: " الخراج بالضمان ". أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) والحاكم (2 / 15 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي.
(15/96)
مَنْ يَقُول بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا
(1) .
فَأَمَّا مِقْدَارُ الْخَرَاجِ الْمَأْخُوذِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(خَرَاجٌ) .
ج - جِبَايَةُ عُشُورِ أَهْل الذِّمَّةِ:
20 - الْعُشْرُ ضَرِيبَةٌ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ
الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ
يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ
يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى بَلَدٍ
آخَرَ، تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ
دَارِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا مِثْلُهَا عُشُورُ أَهْل
الْحَرْبِ مِنَ التُّجَّارِ كَذَلِكَ إِذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ
إِلَيْنَا مُسْتَأْمِنِينَ (2) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي جَابِي الْخَرَاجِ:
21 - يُرْسِل الإِْمَامُ بَعْضَ أَهْل الْخِبْرَةِ لِيُقَدِّرَ مَا يُوضَعُ
عَلَى الأَْرَضِينَ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْخَرَاجِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ
ذَلِكَ وَعُلِمَ يُرْسِل الإِْمَامُ مَنْ يَجْبِي الْخَرَاجَ فِي
مَوْعِدِهِ حَسَبَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ، وَيُشْتَرَطُ فِي مَنْ يَقُومُ
بِجِبَايَةِ عُمُومِ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَمْوَال الْفَيْءِ مِنْ خَرَاجٍ
وَغَيْرِهِ، الإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالأَْمَانَةُ،
وَالاِضْطِلاَعُ بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ
__________
(1) المصباح مادة: (خرج) ، والأحكام السلطانية للماوردي ص 146 - 148 ط
المكتبة العلمية.
(2) الموسوعة الفقهية 8 / 246 ف 9.
(15/97)
يَكُونَ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا؛ لأَِنَّهُ
يَتَوَلَّى قَبْضَ مَا اسْتَقَرَّ بِوَضْعِ غَيْرِهِ (1) .
فَإِنْ كَانَتْ وِلاَيَتُهُ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَمْوَال الْفَيْءِ
فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَا وَلِيَهُ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ لاَ يَخْلُو
حَالُهُ عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ لاَ يَسْتَغْنِيَ فِيهِ عَنْ
الاِسْتِنَابَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَغْنِ فِيهِ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ اعْتُبِرَ فِيهِ الإِْسْلاَمُ
وَالْحُرِّيَّةُ مَعَ اضْطِلاَعِهِ بِشُرُوطِ مَا وَلِيَ مِنْ مِسَاحَةٍ
أَوْ حِسَابٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا وَلاَ عَبْدًا لأَِنَّ
فِيهَا وِلاَيَةً، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الاِسْتِنَابَةِ جَازَ أَنْ
يَكُونَ عَبْدًا لأَِنَّهُ كَالرَّسُول الْمَأْمُورِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ
ذِمِّيًّا فَيُنْظَرُ فِيمَا رُدَّ إِلَيْهِ مِنْ مَال الْفَيْءِ، فَإِنْ
كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ فِيهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَالْخَرَاجِ
الْمَوْضُوعِ عَلَى رِقَابِ الأَْرَضِينَ إِذَا صَارَتْ فِي أَيْدِي
الْمُسْلِمِينَ فَفِي جَوَازِ كَوْنِهِ ذِمِّيًّا وَجْهَانِ. هَذَا وَإِذَا
بَطَلَتْ وِلاَيَةُ الْعَامِل فَقَبَضَ مَال الْفَيْءِ مَعَ فَسَادِ
وِلاَيَتِهِ بَرِئَ الدَّافِعُ مِمَّا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْهَهُ عَنِ
الْقَبْضِ؛ لأَِنَّ الْقَابِضَ مِنْهُ مَأْذُونٌ لَهُ، وَإِنْ فَسَدَتْ
وِلاَيَتُهُ وَجَرَى فِي الْقَبْضِ مَجْرَى الرَّسُول، وَيَكُونُ الْفَرْقُ
بَيْنَ صِحَّةِ وِلاَيَتِهِ وَفَسَادِهَا أَنَّ لَهُ الإِْجْبَارَ عَلَى
الدَّفْعِ مَعَ صِحَّةِ الْوِلاَيَةِ وَلَهُ الإِْجْبَارَ مَعَ فَسَادِهَا،
فَإِنْ نُهِيَ عَنِ الْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ وِلاَيَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
الْقَبْضُ وَلاَ الإِْجْبَارُ وَلَمْ يَبْرَأَ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ
إِلَيْهِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 130 ط العلمية، والأحكام السلطانية لأبي
يعلى 2 / 157 ط مصطفى الحلبي.
(15/97)
إِذَا عَلِمَ بِنَهْيِهِ. وَفِي
بَرَاءَتِهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى
عَزْل الْوَكِيل إِذَا تَصَرَّفَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالْعَزْل (1) .
هَذَا وَيُعَيِّنُ الْجَابِي شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ لِجِبَايَةِ تِلْكَ
الأَْمْوَال، وَأَمَّا مَا يَأْخُذُهُ مُقَابِل عَمَلِهِ فَهُوَ كَمَا
ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ كِفَايَةُ سَنَةٍ وَيُقَدِّمُهُ الإِْمَامُ عَلَى
غَيْرِهِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ آل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (2) .
مُحَاسَبَةُ الإِْمَامِ لِلْجُبَاةِ:
22 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ مُحَاسَبَةُ الْجُبَاةِ تَأَسِّيًا بِرَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّهُ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ
جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَل رَجُلاً مِنَ الأَْسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ
بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ (3)
وَهُوَ أَصْلٌ فِي مُحَاسَبَةِ الْجُبَاةِ.
وَيَجِبُ عَلَى الْجُبَاةِ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ مَعَ الإِْمَامِ
فَلاَ يُخْفُوا شَيْئًا مِنَ الْمَال الَّذِي جَمَعُوهُ لأَِنَّهُ مِنَ
الأَْمَانَةِ (4) . وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 130 - 131 ط العلمية، والأحكام السلطانية
لأبي يعلى ص 125 وما قبلها ط الحلبي.
(2) الخرشي 3 / 129 ط. بولاق، والدسوقي 2 / 190 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1
/ 260 ط. المعرفة.
(3) حديث: " استعمل رجلا من الأسد على صدقات بني سليم ". أخرجه البخاري
(الفتح 3 / 365 - 366 ط السلفية) .
(4) فتح الباري 3 / 365 - 366 ط. الرياض.
(15/98)
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(1) .
وَقَدْ تَوَعَّدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
يَفْعَل ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ
أَبِي عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى
عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَال: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ
الأَْنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ:
اقْبَل عَنِّي عَمَلَكَ قَال: وَمَا لَكَ؟ قَال: سَمِعْتُكَ تَقُول كَذَا
وَكَذَا قَال: وَأَنَا أَقُول الآْنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ
عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ
أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى (2) .
وَلَيْسَ لِلْجُبَاةِ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ بَعْضَهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ،
وَمَا أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْعَمَل يُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَال
لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَل
ذَلِكَ مِنِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ حِينَ قَدِمَ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْمَلَهُ
عَلَى الصَّدَقَةِ وَقَال: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، بَل
قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَال: مَا
بَال عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُول: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي
أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى
يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لاَ يَنَال أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ
__________
(1) سورة الأنفال / 27.
(2) حديث: " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1465
ط. الحلبي) .
(15/98)
الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ،
بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ
(1) ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عَفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ
قَال: اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ (2) ".
__________
(1) تيعر: تصيح بفتح العين وكسرها واليعار صوت الشاة.
(2) حديث: " ما بال عامل أبعثه فيقول. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 13 /
164 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1463 ط. الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي.
(15/99)
جَبٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبُّ لُغَةً الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمَجْبُوبُ، وَهُوَ الَّذِي
اسْتُؤْصِل ذَكَرُهُ وَخُصْيَاهُ.
وَالْجَبُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: قَطْعُ الذَّكَرِ كُلِّهِ أَوْ
بَعْضِهِ بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مِنْهُ مَا يَتَأَتَّى بِهِ الْوَطْءُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُنَّةُ:
2 - الْعُنَّةُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ
وُجُودِ الآْلَةِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ عَدَمَ
إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْجَبِّ يَكُونُ لِقَطْعِ الْمَذَاكِيرِ.
وَالْعَجْزُ عَنْ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ فِي الْعُنَّةِ يَكُونُ لِدَاءٍ
يَمْنَعُ مِنْ الاِنْتِشَارِ (3) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير، وتهذيب الأسماء واللغات، والمغرب مادة: (جب)
، وكشاف القناع 5 / 105، وفتح القدير 4 / 128، والقليوبي 3 / 261، وكفاية
الطالب الرباني 2 / 85، ونشر دار المعرفة.
(2) فتح القدير 4 / 128 نشر دار إحياء التراث العربي.
(3) نهاية المحتاج 6 / 303 ط مصطفى الحلبي.
(15/99)
ب - الْخِصَاءُ:
3 - الْخِصَاءُ: هُوَ فَقْدُ الْخُصْيَتَيْنِ خِلْقَةً، أَوْ بِقَطْعٍ،
أَوْ سَلٍّ لَهُمَا (1) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْخِصَاءِ
وَاضِحٌ.
ج - الْوِجَاءُ:
4 - الْوِجَاءُ: هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ وَجَأَ يَجَأُ: أَيْ ضَرَبَ وَدَقَّ
وَهُوَ أَنْ تُرَضَّ خُصْيَتَا الْفَحْل رَضًّا شَدِيدًا يُذْهِبُ شَهْوَةَ
الْجِمَاعِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبِّ وَاضِحٌ إِذِ
الْمَوْجُوءُ لَمْ يُقْطَعْ ذَكَرُهُ، بَل هُوَ شَبِيهٌ بِالْخَصِيِّ.
إِلاَّ أَنَّ خُصْيَتَيْهِ لاَ أَثَرَ لَهُمَا مَعَ وُجُودِهِمَا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَبَّ
مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ بَيْنَ
التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ مَتَى عَلِمَتْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْجَبَّ
يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ (3) إِلاَّ
أَنَّ هُنَاكَ اخْتِلاَفًا وَتَفْصِيلاً فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَبِّ أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
الْجَبُّ الْحَادِثُ بَعْدَ الدُّخُول:
6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ
__________
(1) المغرب، والقليوبي 2 / 197، وأسنى المطالب 3 / 176.
(2) تاج العروس (وجأ) فتح القدير 4 / 128.
(3) ابن عابدين 2 / 593، وفتح القدير 4 / 131 نشر دار إحياء التراث العربي،
والبناية 4 / 761، والزرقاني 3 / 237، وأسنى المطالب 3 / 176، والمغني 6 /
651.
(15/100)
الْوَجْهَيْنِ أَنَّ حُدُوثَ الْجَبِّ
بَعْدَ الدُّخُول لاَ يُثْبِتُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ بَيْنَ
التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ، لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجَةِ فِي وَطْأَةٍ
وَاحِدَةٍ لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِهَا مِنْ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ
وَالإِْحْصَانِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ حُكْمًا
وَيَجِبُ عَلَيْهِ دِيَانَةً (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى
تَخْيِيرِ الزَّوْجَةِ بَيْنَ فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِدَامَتِهِ بِالْجَبِّ
مُطْلَقًا قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ وَلَوْ بِفِعْلِهَا فِي
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُوَرِّثُ الْيَأْسَ مِنَ
الْوَطْءِ (2) .
كَيْفِيَّةُ التَّفْرِيقِ لِلْجَبِّ:
7 - إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوْجَ مَجْبُوبٌ إِمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ تُخَيَّرُ الزَّوْجَةُ لِلْحَال وَلاَ يُؤَجَّل؛ لأَِنَّ
التَّأْجِيل لِرَجَاءِ الْوُصُول إِلَيْهَا وَلاَ يُرْجَى مِنْهُ الْوُصُول
فَلَمْ يَكُنْ التَّأْجِيل مُفِيدًا (3) .
وَالْفُرْقَةُ لِلْجَبِّ لاَ تَقَعُ بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ لأَِنَّ هَذِهِ
الْفُرْقَةَ أَمْرٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَتَحَرٍّ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 436، والزيلعي 3 / 23، وحاشية الدسوقي 2 / 279 ط دار
الفكر، والمغني 6 / 653 ط الرياض، والكافي 2 / 686، نشر المكتب الإسلامي.
(2) أسنى المطالب 3 / 176، ونهاية المحتاج 6 / 305، والشرواني على تحفة
المحتاج 7 / 347، والكافي 2 / 686، والمغني 6 / 651.
(3) بدائع الصنائع 2 / 327، والفواكه الدواني 2 / 69 - 70 نشر دار المعرفة،
والشرح الصغير 2 / 476، وأسنى المطالب 3 / 177، ومطالب أولي النهى 5 / 142،
نشر المكتب الإسلامي.
(15/100)
وَبَذْل جَهْدٍ فِي تَحْرِيرِ سَبَبِهِ
وَذَلِكَ كَالطَّلاَقِ بِالإِْعْسَارِ وَالطَّلاَقِ بِالإِْضْرَارِ.
بِهَذَا قَال عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الأُْصُول - أَنَّ الْفُرْقَةَ
تَقَعُ بِنَفْسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ
كَخِيَارِ مَنْ خَيَّرَهَا زَوْجُهَا (2) .
صِفَةُ الْفُرْقَةِ لِلْجَبِّ:
8 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالْجَبِّ
طَلاَقٌ بَائِنٌ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ الإِْمْسَاكُ
بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ التَّسْرِيحُ بِالإِْحْسَانِ، فَإِنْ
سَرَّحَهَا الزَّوْجُ وَإِلاَّ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ، فَكَانَ
الْفِعْل مَنْسُوبًا إِلَى الزَّوْجِ، فَكَانَ طَلاَقًا بَائِنًا
لِيَتَحَقَّقَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا، وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ
النَّافِذُ اللاَّزِمُ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ، وَلِهَذَا لاَ يَنْفَسِخُ
بِالْهَلاَكِ قَبْل التَّسْلِيمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ
فَسْخٌ لاَ طَلاَقٌ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ لِعَيْبٍ فَكَانَ فَسْخًا كَرَدِّ
الْمُشْتَرِي (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 325، وحاشية الشلبي بهامش الزيلعي 3 / 24، ومواهب
الجليل 3 / 489، وقليوبي وعميرة 3 / 264، وشرح منتهى الإرادات 3 / 52 ط
عالم الكتب، والمغني 6 / 654.
(2) قليوبي وعميرة 3 / 264، وحاشية الشلبي بهامش الزيلعي 3 / 24.
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الهندية 1 / 413، والزيلعي 3 / 23، وابن عابدين 2
/ 593، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 488، والأشباه والنظائر للسيوطي ص
289 ط دار الكتب العلمية، والكافي 2 / 687، نشر المكتب الإسلامي.
(15/101)
نَسَبُ وَلَدِ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ:
9 - ذَهَبَ أَبُو سُلَيْمَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالإِْصْطَخْرِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَجْبُوبَ يَثْبُتُ نَسَبُ
الْوَلَدِ مِنْهُ، وَيُحْكَى ذَلِكَ قَوْلاً لِلشَّافِعِيِّ كَمَا أَنَّهُ
ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الْمَجْبُوبَ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ؛ لأَِنَّهُ
لاَ يُنْزِل وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ
التُّمُرْتَاشِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -: يُسْأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ
بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَإِلاَّ
لَمْ يَلْزَمْهُ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ التَّفْرِيقِ لِلْجَبِّ، وَأَثَرِ التَّفْرِيقِ
بِالْجَبِّ عَلَى الْمَهْرِ وَعِدَّةِ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ (ر: طَلاَقٌ،
عِدَّةٌ، عَيْبٌ، مَهْرٌ، نَسَبٌ) .
__________
(1) البناية شرح الهداية 4 / 208، وفتح القدير 3 / 219، والمحلي على
المنهاج 4 / 50، والمغني لابن قدامة 7 / 480.
(2) المحلي على المنهاج 4 / 50، والمغني لابن قدامة 7 / 480.
(3) المدونة الكبرى 2 / 445 ط دار صادر، وفتح القدير 3 / 219.
(15/101)
جَبْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبْرُ فِي اللُّغَةِ خِلاَفُ الْكَسْرِ. يُقَال: جَبَرَ عَظْمَهُ
جَبْرًا أَيْ أَصْلَحَهُ بَعْدَ كَسْرٍ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الإِْحْسَانِ
إِلَى الرَّجُل فَيُقَال: جَبَرَهُ جَبْرًا إِذَا أَحْسَن إِلَيْهِ،
وَأَغْنَاهُ بَعْدَ فَقْرٍ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّكْمِيل فَيُقَال:
مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ أَوْ أَتَى بِمَحْظُورٍ
فِيهِ: جَبَرَهُ بِالدَّمِ.
كَمَا يُقَال: جَبَرَ الْمُزَكِّي مَا أَخْرَجَهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ
السِّنَّ الْوَاجِبَ فِي زَكَاةِ إِبِلِهِ فَأَخْرَجَ مَا دُونَهُ وَدَفَعَ
الْفَضْل، وَيُسَمَّى دَفْعُ الْفَضْل جُبْرَانًا، وَيَأْتِي بِمَعْنَى
الإِْكْرَاهِ عَلَى الشَّيْءِ، فَيُقَال: جَبَرَهُ عَلَى الأَْمْرِ
جَبْرًا، وَحَكَى الأَْزْهَرِيُّ: جَبَرَهُ جُبُورًا وَأَجْبَرَهُ
إِجْبَارًا: أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي
اللُّغَوِيَّةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَبْرِ بِاخْتِلاَفِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ.
فَالْجَبْرُ بِمَعْنَى الإِْكْرَاهِ: قَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير، مادة: (جبر)
.
(15/102)
كَإِجْبَارِ الْقَاضِي الْمَدِينَ
الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ الْحَال بِلاَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ
عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ بِطَلَبِ صَاحِبِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ كَإِجْبَارِ الشَّخْصِ عَلَى بَيْعِ
مَالِهِ، أَوْ طَلاَقِ زَوْجَةٍ بِغَيْرِ مُقْتَضًى شَرْعِيٍّ، فَيَحْرُمُ.
أَمَّا الْجَبْرُ بِمَعْنَى التَّكْمِيل فَيَكُونُ إِذَا تَرَكَ وَاجِبًا
فِي الْحَجِّ أَوِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا فِيهِ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يَجِدْ
فِي زَكَاةِ الإِْبِل السِّنَّ الْوَاجِبَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَنْزِل إِلَى
مَا تَحْتَهَا فَيَجِبُ دَفْعُ الْجُبْرَانِ عَلَيْهِ.
وَالْجَبْرُ بِمَعْنَى إِصْلاَحِ الْعَظْمِ بَعْدَ كَسْرِهِ مَشْرُوعٌ
إِذَا خِيفَ ضَرَرٌ بِفَوَاتِ الْعُضْوِ، أَوْ هَلاَكُ النَّفْسِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (تَدَاوِي) .
أَمَّا الْجَبْرُ: بِمَعْنَى الإِْجْبَارِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(إِجْبَارٌ - وَإِحَالاَتُهُ) .
الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي وُجُوبِ الْمَسْحِ
عَلَى مَوْضُوعِ الْجَبْرِ إِذَا شُدَّتْ عَلَيْهِ جَبِيرَةٌ، وَهُوَ مِنْ
أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَتَعَذَّرَ الْغَسْل عَلَى الْعُضْوِ، أَوْ وَجَبَ
عَلَيْهِ الْغَسْل كَالْجُنُبِ (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ:
(جَبِيرَةٌ، مَسْحٌ، تَيَمُّمٌ) .
جَبْرُ وَاجِبِ الزَّكَاةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 186، وحاشية الجمل 1 / 209، والدسوقي 1 / 164، والإنصاف
1 / 188.
(15/102)
فِي زَكَاةِ إِبِلِهِ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ
فَلَمْ يَجِدْهَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُول إِلَى مَا تَحْتَهَا مَعَ
الْجَبْرِ، وَيُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ جُبْرَانًا، أَوْ يَأْخُذُ
الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَهَا وَيُعْطِي الْمُزَكِّيَ الْجُبْرَانَ، ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِي الْجُبْرَانِ هَل هُوَ مُحَدَّدٌ شَرْعًا؟ فَذَهَبَ
الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَبْرَ مُحَدَّدٌ
شَرْعًا: وَهُوَ شَاتَانِ، أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَكَمَا يُشْرَعُ
الْجُبْرَانُ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ تَالِيَةٍ لَهَا، يُشْرَعُ بَيْنَ
السِّنِّ وَالسِّنِّ الأَْعْلَى مِنَ الَّتِي تَلِيهَا إِنْ عَدِمَتِ
التَّالِيَةُ فَيَدْفَعُ جُبْرَانَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَهَذَا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
فَإِذَا كَانَ وَاجِبُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَلَهُ أَنْ
يَصْعَدَ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ فَيَأْخُذَ جُبْرَانًا، وَهُوَ شَاتَانِ،
أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبُهُ بِنْتَ لَبُونٍ فَلَمْ
يَجِدْهَا، لَهُ أَنْ يَنْزِل إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ، فَيَدْفَعَ
الْجُبْرَانَ، وَهَكَذَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفَضْل بَيْنَ الْوَاجِبِ
وَبَيْنَ مَا لَدَيْهِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قِيمَتَيْهِمَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ تَحْصِيل الْوَاجِبِ فَلاَ يَجُوزُ
لِلسَّاعِي أَخْذُ مَا فَوْقَ الْوَاجِبِ وَدَفْعُ الْجُبْرَانِ. أَمَّا
إِذَا نَزَل إِلَى مَا تَحْتَ الْوَاجِبِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنًا جَازَ
(2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ) .
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 225 - 226، وكشاف القناع 2 / 189، وفتح القدير 2 / 142
- 143.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 434.
(15/103)
الْجَبْرُ بِالدَّمِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ: مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ
وَاجِبَاتِ الْحَجِّ كَالإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ
كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الإِْتْيَانِ بِهِ،
يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَبْرُ بِالدَّمِ، وَلاَ يُجْبَرُ بِالدَّمِ إِلاَّ مَا
كَانَ وَاجِبًا.
أَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ فَلاَ تُجْبَرُ إِذَا تُرِكَتْ، وَأَمَّا
تَفْصِيل مَا يُعْتَبَرُ وَاجِبًا يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَاخْتِلاَفُ
الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَنَوْعُ الْجَبْرِ، فَيُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ:
(حَجٌّ) .
(15/103)
جَبْهَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبْهَةُ مِنَ الْوَجْهِ مَعْرُوفَةٌ هِيَ مُسْتَوَى مَا بَيْنَ
الْحَاجِبَيْنِ إِلَى النَّاصِيَةِ، وَقَال الأَْصْمَعِيُّ: هِيَ مَوْضِعُ
السُّجُودِ، وَالْجَمْعُ جِبَاهٌ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلَهَا إِطْلاَقَانِ: فَالْجَبْهَةُ مِنَ
الْوَجْهِ الَّتِي يَجِبُ غَسْلُهَا فِي الْوُضُوءِ، عَرَّفَهَا
الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابِ الْوُضُوءِ بِأَنَّهَا مَا ارْتَفَعَ عَنِ
الْحَاجِبَيْنِ إِلَى مَبْدَأِ الرَّأْسِ، وَهُوَ أَوَّل شَعْرِ الرَّأْسِ
الْمُعْتَادِ، فَتَشْمَل الْجَبِينَيْنِ.
وَعَرَّفُوهَا فِي أَبْوَابِ الصَّلاَةِ بِأَنَّهَا مُسْتَدِيرُ مَا بَيْنَ
الْحَاجِبَيْنِ، وَبِأَنَّهَا مَا اكْتَنَفَهُ الْجَبِينَانِ، وَبِهَذَا
الْمَعْنَى لاَ تَشْمَل الْجَبِينَيْنِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَبِينُ:
2 - الْجَبِينُ فَوْقَ الصَّدْغِ، وَهُمَا جَبِينَانِ عَنْ يَمِينِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير والمغرب، مادة: (جبهة)
.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1 / 86، 240، وكفاية الطالب الرباني 1
/ 210، وروضة الطالبين 1 / 255، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 126.
(15/104)
الْجَبْهَةِ وَعَنْ شِمَالِهَا فَإِذَا
أَرَدْنَا بِالْجَبْهَةِ مُسْتَدِيرَ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إِلَى
النَّاصِيَةِ فَالْجَبِينُ وَالْجَبْهَةُ مُتَبَايِنَانِ، أَمَّا إِنْ
أَرَدْنَا بِالْجَبْهَةِ مَا ارْتَفَعَ عَنِ الْحَاجِبَيْنِ إِلَى مَبْدَأِ
الرَّأْسِ فَالْجَبِينُ جُزْءٌ مِنَ الْجَبْهَةِ (1) .
ب - النَّاصِيَةُ:
3 - النَّاصِيَةُ قِصَاصُ الشَّعْرِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَنُقِل
عَنِ الأَْزْهَرِيِّ قَوْلُهُ: النَّاصِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْبِتُ
الشَّعْرِ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ لاَ الشَّعْرُ الَّذِي تُسَمِّيهِ
الْعَامَّةُ النَّاصِيَةَ
وَقَدَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِرُبُعِ الرَّأْسِ، لأَِنَّهَا أَحَدُ
جَوَانِبِهِ كَمَا عَلَّلَهُ الزَّيْلَعِيُّ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالنَّاصِيَةُ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ ابْتِدَاءً مِنْ
مَنْبِتِ الشَّعْرِ فَوْقَ الْجَبْهَةِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَبْهَةِ:
أَوَّلاً - غَسْل الْجَبْهَةِ فِي الْوُضُوءِ وَمَسْحُهَا فِي
التَّيَمُّمِ:
4 - الْجَبْهَةُ جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ غَسْلُهَا فِي
الْوُضُوءِ وَمَسْحُهَا فِي التَّيَمُّمِ، وَذَلِكَ بِنَصِّ الآْيَةِ
__________
(1) المصباح المنير ومختار الصحاح مادة: (جبن) ورضة الطالبين 1 / 255،
والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 86، 240، وكفاية الطالب 1 / 210.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (نصي) وتبين الحقائق 1 / 3، والبناية
على الهداية 1 / 111، وفتح القدير 1 / 15.
(15/104)
الْكَرِيمَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. . .}
(1) .
وَيَدْخُل فِي غَسْل الْجَبْهَةِ أَسَارِيرُهَا، وَهِيَ خُطُوطُ
الْجَبْهَةِ وَانْكِمَاشُهَا إِنْ لَمْ تَلْحَقْ بِهِ مَشَقَّةٌ كَمَا
صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:
(وُضُوءٌ، وَتَيَمُّمٌ) .
ثَانِيًا - وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الأَْرْضِ فِي السُّجُودِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ أَقَل
السُّجُودِ وَضْعُ بَعْضِ جَبْهَةِ الْمُصَلِّي عَلَى مَا يُصَلَّى
عَلَيْهِ مِنَ الأَْرْضِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَتُفْرَضُ السَّجْدَةُ عَلَى
أَيْسَرِ جُزْءٍ مِنَ الْجَبْهَةِ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا، وَذَلِكَ فِي
الْجُمْلَةِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ عَلَيْهَا حَال الاِخْتِيَارِ
لاَ يَجْزِيهِ (3) ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- قَال: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُسْجَدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ،
وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، وَفِي
رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَمَرَّهَا
عَلَى أَنْفِهِ وَقَال: هَذَا وَاحِدٌ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) الزرقاني 1 / 56.
(3) البدائع 1 / 105، 210، والإقناع 1 / 125، ونهاية المحتاج 1 / 489،
وكفاية الطالب 1 / 210، 211، وروضة الطالبين 1 / 256، وكشاف القناع 1 /
371، وفتح الباري 2 / 296.
(4) حديث ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء:
الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين. أخرجه البخاري (الفتح 2 / 295 - ط
السلفية) والنسائي (2 / 210 - ط المكتبة التجارية) .
(15/105)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُودٌ) .
ثَالِثًا - تَقْبِيل الْجَبْهَةِ:
6 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ تَقْبِيل الرَّجُل جَبْهَةَ الرَّجُل،
وَوَجْهِهِ، وَرَأْسِهِ، إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ
وَالإِْكْرَامِ، أَوِ الشَّفَقَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْوَدَاعِ،
وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ (1) .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ
جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَبَّل بَيْنَ عَيْنَيْهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (تَقْبِيلٌ) .
رَابِعًا - شِجَاجُ الْجَبْهَةِ:
7 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ شِجَاجِ الْوَجْهِ وَالْجَبْهَةِ،
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الْمُوضِحَةِ مِنْهَا قِصَاصًا إِذَا كَانَتْ
عَمْدًا، وَالْمُوضِحَةُ هِيَ الْجَرْحُ الَّذِي يُظْهِرُ الْعَظْمَ بَعْدَ
خَرْقِ الْجِلْدَةِ. وَإِنَّمَا شَرْعُ الْقِصَاصِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 245، 246، والبناية على الهداية 9 / 317، 318، 326 -
327، وجواهر الإكليل 1 / 20، والقليوبي 3 / 213، وكشاف القناع 5 / 16،
والآداب الشرعية 2 / 270 - 279.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفرا حين قدم من الحبشة
وقبل بين عينيه ". أخرجه أبو داود (5 / 392 - تحقيق عزت عبيد دعاس) عن
الشعبي به مرسلا، وإسناده ضعيف لإرساله.
(15/105)
فِي الْمُوضِحَةِ هُوَ تَيْسِيرُ ضَبْطِهَا
وَإِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ فِيهَا دُونَ حَيْفٍ.
أَمَّا الأَْنْوَاعُ الأُْخْرَى مِنَ الشِّجَاجِ فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا
لِعُسْرِ ضَبْطِهَا وَصُعُوبَةِ اسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا (1) .
وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبِ عُسْرِ ضَبْطِهَا فَفِيهَا الدِّيَةُ
الْمُحَدَّدَةُ لَهَا شَرْعًا، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ - جِنَايَةٌ - دِيَاتٌ -
حُكُومَةُ عَدْلٍ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْجَبْهَةِ فِي مَبَاحِثِ الْوُضُوءِ
وَالسَّجْدَةِ، وَمَسَائِل النَّظَرِ وَالْمَسِّ، وَبَحْثِ الْقِصَاصِ
وَالْجِنَايَاتِ وَنَحْوِهَا.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، 372، 373، وقليوبي 4 / 113، 114، والمغني 7 / 703،
704.
(2) حكومة عدل: هي أن ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة فيجب بقدر ذلك من
نصف عشر الدية (الدر المختار 5 / 373) .
(15/106)
|