الموسوعة
الفقهية الكويتية رَخَمٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الموافقات 1 / 314 و 3 / 155.
(22/165)
رِدْءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّدْءُ فِي اللُّغَةِ: الْمُعِينُ وَالنَّاصِرُ، مِنْ رَدَأَ،
يُقَال: رَدَأْتُ الْحَائِطَ رِدْءًا أَيْ: دَعَّمْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ.
وَيُقَال: أَرْدَأْتُ فُلاَنًا: أَيْ أَعَنْتُهُ. وَيُقَال: فُلاَنٌ رِدْءُ
فُلاَنٍ، أَيْ يَنْصُرُهُ وَيَشُدُّ ظَهْرَهُ، وَجَمْعُهُ أَرْدَاءٌ. قَال
اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
{فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} (1) يَعْنِي مُعِينًا. (2)
وَاصْطِلاَحًا الأَْرْدَاءُ: هُمُ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ الْمُقَاتِلِينَ
فِي الْجِهَادِ، وَقِيل: هُمُ الَّذِينَ وَقَفُوا عَلَى مَكَانٍ حَتَّى
إِذَا تَرَكَ الْمُقَاتِلُونَ الْقِتَال قَاتَلُوا. (3)
__________
(1) سورة القصص / 34.
(2) متن اللغة والمصباح المنير ولسان العرب في المادة والمعجم الوسيط،
والقرطبي 13 / 286.
(3) قواعد الفقه للمجددي / 306.
(22/165)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَدَدُ:
2 - الْمَدَدُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ مَدَّهُ مَدًّا أَيْ زَادَهُ،
وَيُقَال: أَمْدَدْتُهُ بِمَدَدٍ أَيْ: أَعَنْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ بِهِ (1)
.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (2)
وَقَال سُبْحَانَهُ: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ
الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي
تَلْحَقُ بِالْمَغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ. (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
حَقُّ الرِّدْءِ فِي الْغَنَائِمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ أَيْ: الْعَوْنَ الَّذِي
حَضَرَ بِنِيَّةِ الْقِتَال وَلَمْ يُقَاتِل وَالْمُقَاتِل الْمُبَاشِرَ
سِيَّانِ فِي أَصْل الاِسْتِحْقَاقِ فِي الْغَنَائِمِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ
فِي جَوَازِ تَفْضِيل الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى
التَّسْوِيَةِ الْكَامِلَةِ؛ لاِسْتِوَاءِ الْكُل فِي سَبَبِ
الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ بِنِيَّةِ الْقِتَال عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَشُهُودُ الْوَقْعَةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَلِقَوْل أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) متن اللغة والمصباح ولسان العرب في المادة.
(2) سورة الإسراء / 6.
(3) سورة آل عمران / 125.
(4) المهذب 2 / 247، وابن عابدين 3 / 231، كشاف القناع 3 / 82، 83.
(22/166)
: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ
الْوَقْعَةَ " (1) وَلأَِنَّهُ لَيْسَ كُل الْجَيْشِ يُقَاتِل؛ لأَِنَّ
ذَلِكَ خِلاَفُ مَصْلَحَةِ الْحَرْبِ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ
بَعْضُهُمْ فِي الرِّدْءِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْفَظُونَ السَّوَادَ،
وَبَعْضُهُمْ فِي الْعُلُوفَةِ عَلَى حَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي
الْحَرْبِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْمَالِكِيَّةُ. (2)
أَمَّا مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ لاَ بِنِيَّةِ الْقِتَال، كَالسُّوقِيِّ
(التَّاجِرِ) وَالْخَادِمِ، وَالْمُحْتَرِفِ كَالْخَيَّاطِ، فَإِنْ قَاتَل
أُسْهِمَ لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي خِلاَفِ الأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ لاَ يُسْهَمُ
لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقِتَال. (3) وَإِنْ لَمْ يُقَاتِل لاَ
يُسْهَمُ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقِتَال وَعَدَمِ
الاِشْتِرَاكِ فِيهِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْهَمُ لَهُ؛
لأَِنَّهُ حَضَرَ الْوَقْعَةَ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ،
وَالْغَالِبُ أَنَّ الْحُضُورَ إِلَى الْقِتَال يَجُرُّ إِلَيْهِ. أَمَّا
مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَال أَصْلاً فَلاَ سَهْمَ لَهُ إِلاَّ إِذَا
حُبِسَ فِي خِدْمَةِ الْجِهَادِ وَلِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، كَأَنْ طَلَبَ
الإِْمَامُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 225، 226، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 3 / 1370،
ومغني المحتاج 3 / 101 - 103، وكشاف القناع 3 / 82، والأحكام السلطانية
للماوردي ص 140، ولأبي يعلى ص 151.
(2) التاج والإكليل 3 / 370، والمراجع السابقة.
(3) فتح القدير 2 / 225، 226 وما بعدها، والحطاب مع التاج والإكليل 3 /
371، 373، ونهاية المحتاج 6 / 145، 146، ومغني المحتاج 3 / 102، 103، وكشاف
القناع 3 / 82، 83.
(22/166)
بَعْضَ الْعَسْكَرِ لِيُحْرَسَ مِنْ
هُجُومِ الْعَدُوِّ، أَوْ أَفْرَدَ مِنَ الْجَيْشِ كَمِينًا؛ لِكَوْنِهِمْ
رِدْءًا لِمَنْ قَاتَل، وَعَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ تَقْوَى بِهِ
نُفُوسُ الْمُقَاتِلِينَ. (1)
وَأَمَّا الْمَدَدُ فَإِذَا لَحِقُوا عَسَاكِرَ الْمُسْلِمِينَ أَثْنَاءَ
الْقِتَال يُسْهَمُ لَهُمْ، وَإِذَا لَحِقُوهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْقِتَال وَإِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لاَ يُسْهَمُ لَهُمْ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا إِذَا لَحِقُوهُمْ بَعْدَ الْقِتَال قَبْل أَنْ يُخْرِجُوا
الْغَنِيمَةَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُسْهَمُ لَهُمْ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُمْ
لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ، وَيُسْهَمُ لَهُمْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ لاَ يَحْصُل
إِلاَّ بَعْدَ الإِْحْرَازِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
(2) وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (غَنِيمَة) .
الرِّدْءُ فِي الْجِنَايَاتِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ عُقُوبَةِ الرِّدْءِ فِي
جَرَائِمِ التَّعْزِيرِ إِذَا رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ.
أَمَّا فِي الْحُدُودِ، فَلاَ يُحَدُّ الرِّدْءُ حَدَّ الزِّنَى وَلاَ
حَدَّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ؛ لأَِنَّهَا جَرَائِمُ تَتَعَلَّقُ بِشَخْصِ
الْمُجْرِمِ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 231، والفتاوى الخانية 3 / 567، والشرح الكبير مع
الدسوقي 2 / 192، والمهذب 2 / 247، والمغني 8 / 419، 420، وكشاف القناع 3 /
82، 83، وقليوبي 3 / 193 وما بعدها.
(22/167)
وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ
(الْحِرَابَةِ) وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْل، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - الرِّدْءُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةِ) :
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ الرِّدْءَ أَيِ الْمُعِينَ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ
حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ، فَإِنْ بَاشَرَ أَحَدُهُمْ أُجْرِيَ
الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ، فَإِذَا قَتَل أَحَدُهُمْ يُقْتَل
هُوَ وَالآْخَرُونَ؛ لأَِنَّهُ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ
بِأَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ رِدْءًا لِلْبَعْضِ؛ وَلأَِنَّ الْمُحَارَبَةَ
مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُول الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ،
وَمِنْ عَادَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُبَاشَرَةُ مِنَ الْبَعْضِ
وَالإِْعَانَةُ مِنَ الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَلاَ يَتَمَكَّنُ الْمُبَاشِرُ
مِنْ فِعْلِهِ إِلاَّ بِقُوَّةِ الرِّدْءِ، فَلَوْ لَمْ يَلْحَقِ الرِّدْءُ
بِالْمُبَاشِرِ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ،
فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُبَاشِرُ وَالرِّدْءُ كَالْغَنِيمَةِ، وَنَصَّ
الدُّسُوقِيُّ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ يَشْمَل مَنْ يَتَقَوَّى
الْمُحَارِبُونَ بِجَاهِهِ، إِذْ لَوْلاَ جَاهُهُ مَا تَجَرَّأَ الْقَاتِل
عَلَى الْقَتْل، فَجَاهُهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْقَتْل حُكْمًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَعَانَ قُطَّاعَ
الطَّرِيقِ أَوْ كَثَّرَ جَمْعَهُمْ بِالْحُضُورِ، أَوْ كَانَ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 5 / 181، وبدائع الصنائع 7 / 91، والزرقاني 8 /
11، وحاشية الدسوقي 4 / 350، المواق بهامش الحطاب 6 / 316، والمغني 8 /
297.
(22/167)
عَيْنًا لَهُمْ وَلَمْ يُبَاشِرْ
بِنَفْسِهِ، بَل يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَالنَّفْيِ وَغَيْرِهِمَا (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَة) .
ب - الرِّدْءُ فِي السَّرِقَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ إِذَا لَمْ يَدْخُل
الْحِرْزَ، وَلَمْ يَشْتَرِكْ فِي إِخْرَاجِ الْمَال فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ
(2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَة) .
ج - الرِّدْءُ فِيمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ:
7 - إِذَا تَمَالأََ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْل إِنْسَانٍ فَبَاشَرَ بَعْضُهُمُ
الْفِعْل الْمُفْضِيَ لِلْقَتْل وَلَمْ يُبَاشِرْهُ الآْخَرُونَ
لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى ارْتِكَابِهِ مُسْبَقًا وَحَضَرُوا رِدْءًا
لِلْقَتَلَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى مَنْ لَمْ
يُبَاشِرِ الْفِعْل الْمُفْضِيَ لِلْقَتْل؛ لأَِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي
الْقِصَاصِ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْمُبَاشَرَةَ مِنَ الْكُل، وَاشْتَرَطَ
الْحَنَفِيَّةُ فَضْلاً عَنِ الْمُبَاشَرَةِ أَنْ يَكُونَ جُرْحُ كُل
وَاحِدٍ جُرْحًا سَارِيًا (3) ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ هَذَا الشَّرْطَ وَقَالُوا:
__________
(1) المهذب 2 / 286، ومغني المحتاج 4 / 182.
(2) الدسوقي 4 / 335، ومغني المحتاج 4 / 172، والمغني لابن قدامة 8 / 283 -
284.
(3) الزيلعي مع الهوامش للشلبي 6 / 114، وفتح القدير مع الهداية 4 / 244.
(22/168)
يُقْتَل الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ وَإِنْ
تَفَاضَلَتْ جِرَاحَاتُهُمْ فِي الْعَدَدِ وَالْفُحْشِ، وَعَلَى ذَلِكَ
فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الرِّدْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْتَل الْمُتَمَالِئُونَ عَلَى الْقَتْل أَوِ
الضَّرْبِ بِأَنْ قَصَدَ الْجَمِيعُ الْقَتْل أَوِ الضَّرْبَ وَحَضَرُوا
وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا
بِحَيْثُ لَوِ اسْتُعِينَ بِهِمْ أَعَانُوا، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ
غَيْرُهُمْ ضَرَبُوا (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَصُّ مِنَ الرِّدْءِ الْمُتَمَالِئِينَ عَلَى
الْقَتْل (أَيِ الْمُتَّفِقِينَ مُسْبَقًا عَلَى الْقَتْل) وَإِنْ لَمْ
يُبَاشِرْهُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَوِ
اسْتُعِينَ بِهِمْ أَعَانُوا.
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَوَاطُؤ ج 14 ص 114، 115،
وَقِصَاص) .
أَثَرُ الرِّدْءِ فِي مَنْعِ الإِْرْثِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْقَاتِل يُمْنَعُ
مِنَ الْمِيرَاثِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ
أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْكَفَّارَةِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ مِيرَاثِ مُوَرِّثِهِ
الْقَتِيل عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ
حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ كُل مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْل يُمْنَعُ مِنَ
الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْل بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ، وَإِمَامٍ
وَقَاضٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتْل عَمْدًا أَمْ غَيْرَهُ، مَضْمُونًا
أَمْ لاَ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 245، ونهاية المحتاج 7 / 261 - 263، والمغني لابن قدامة 7
/ 671 - 674، ومغني المحتاج 4 / 22.
(22/168)
وَيُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَنْ بَاشَرَ
أَوْ تَسَبَّبَ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي التَّسَبُّبِ، كَمَا إِذَا
حَفَرَ بِئْرًا أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ (1) . وَهَذَا فِي
الْجُمْلَةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِرْث ج 3 ف 17) (وَقَتْل)
.
__________
(1) السراجية ص 18، 19، والعذب الفائض 1 / 30، 31، ومغني المحتاج 4 / 25،
26، والدسوقي 4 / 486.
(22/169)
رِدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الرِّدَاءِ فِي اللُّغَةِ: الثَّوْبُ يَسْتُرُ الْجُزْءَ
الأَْعْلَى مِنَ الْجِسْمِ فَوْقَ الإِْزَارِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا
يُرْتَدَى وَيُلْبَسُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَا يَسْتُرُ أَعْلَى الْبَدَنِ مِنَ
الثِّيَابِ. وَيُقَابِلُهُ: الإِْزَارُ وَهُوَ: مَا يَسْتُرُ أَسْفَل
الْبَدَنِ (2) .
الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ
يَلْبَسَ رِدَاءً وَإِزَارًا أَبْيَضَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ مَغْسُولَيْنِ
(3) . لِمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
مَرْفُوعًا: وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ
(4) وَالتَّفَاصِيل فِي (إِحْرَام) .
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية الجمل 2 / 504، وحاشية الدسوقي 1 / 249 - 250.
(3) كشاف القناع 2 / 407، وابن عابدين 2 / 157، حاشية الجمل 2 / 504، حاشية
الدسوقي 2 / 39
(4) حديث: " ليحرم أحدكم في إزار ورداء
ونعلين " أخرجه أحمد (2 / 34 - ط الميمنية) وإسناده صحيح.
(22/169)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ
الرِّدَاءُ لِكُل مُصَلٍّ وَلَوْ نَافِلَةً. وَالرِّدَاءُ: هُوَ مَا
يُلْقِيهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ أَيْ كَتِفَيْهِ فَوْقَ ثَوْبِهِ دُونَ أَنْ
يُغَطِّيَ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ لأَِئِمَّةِ الْمَسْجِدِ،
وَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُهُ (1) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ بِقَمِيصٍ
وَرِدَاءٍ، فَإِنْ أَرَادَ الاِقْتِصَارَ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ
فَالْقَمِيصُ أَفْضَل مِنَ الرِّدَاءِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ،
ثُمَّ الرِّدَاءُ ثُمَّ الْمِئْزَرُ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِثَوْبَيْنِ
فَالأَْفْضَل الْقَمِيصُ وَالرِّدَاءُ، ثُمَّ الإِْزَارُ أَوِ السَّرَاوِيل
مَعَ الْقَمِيصِ، ثُمَّ أَحَدُهُمَا مَعَ الرِّدَاءِ، وَالإِْزَارُ مَعَ
الرِّدَاءِ أَفْضَل مِنَ السَّرَاوِيل مَعَ الرِّدَاءِ؛ لأَِنَّهُ لُبْسُ
الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَحْكِي تَقَاطِيعَ الْخِلْقَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: قَمِيصٌ مَعَ رِدَاءٍ أَوْ إِزَارٍ أَوْ
سَرَاوِيل، أَوْلَى مِنْ رِدَاءٍ مَعَ إِزَارٍ أَوْ سَرَاوِيل وَأَوْلَى
مِنْ إِزَارٍ مَعَ سَرَاوِيل. وَإِنْ صَلَّى فِي الرِّدَاءِ وَحْدَهُ
وَكَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا خَالَفَ بَيْنَ
طَرَفَيْهِ بِمَنْكِبَيْهِ (3) .، وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالاِضْطِبَاعِ بِأَنْ يَجْعَل وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ مَنْكِبِهِ
الأَْيْمَنِ وَطَرَفَيْهِ عَلَى الأَْيْسَرِ، وَيُكْرَهُ اشْتِمَال
الصَّمَّاءِ: بِأَنْ يُجَلِّل بَدَنَهُ بِالرِّدَاءِ ثُمَّ يَرْفَعَ
طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ، كَمَا يُكْرَهُ اشْتِمَال
الْيَهُودِ بِأَنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 249 - 331.
(2) المجموع 3 / 173، كشاف القناع 1 / 276، الاختيار 1 / 45، مغني المحتاج
1 / 187.
(3) المصادر السابقة.
(22/170)
يُجَلِّل بَدَنَهُ بِالثَّوْبِ دُونَ
رَفْعِ طَرَفَيْهِ (1) لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. ر: (صَلاَة) .
تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي دُعَاءِ الاِسْتِسْقَاءِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَحْوِيل
الرِّدَاءِ بَعْدَ دُعَاءِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَل مَا عَلَى
الْمَنْكِبِ الأَْيْمَنِ عَلَى الأَْيْسَرِ، وَمَا عَلَى الأَْيْسَرِ عَلَى
الأَْيْمَنِ (2) .
لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ
وَقَلَبَ رِدَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ يَدْعُو بِلاَ قَلْبِ رِدَاءٍ (4)
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 179، مغني المحتاج 1 / 187.
(2) أسنى المطالب 1 / 292، وحاشية الدسوقي 1 / 406، كشاف القناع 2 / 71.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى. . . . " أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 498 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن زيد.
(4) ابن عابدين 1 / 567، الاختيار 1 / 45.
(22/170)
رَدَاءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّدَاءَةُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْجَوْدَةِ، وَمَعْنَاهَا
الْخِسَّةُ وَالْفَسَادُ، وَرَدُؤَ الشَّيْءُ رَدَاءَةً فَهُوَ رَدِيءٌ
عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أَيْ وَضِيعٌ خَسِيسٌ (1) . وَضِدُّهُ جَادَ
الشَّيْءُ جُودَةً وَجَوْدَةً (بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (1 م (2))
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّدَاءَةِ:
إِخْرَاجُ الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ فِي الزَّكَاةِ:
2 - لاَ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّدِيءَ عَنِ الْجَيِّدِ
الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومتن اللغة مادة: (جود) و (ردؤ) وجمهور
اللغة 3 / 241، وحاشية عميرة 2 / 255، ومطالب أولي النهى 3 / 212.
(2) بدائع الصنائع 5 / 189، ومطالب أولي النهى 3 / 212، والدسوقي 3 / 24،
80، وروضة الطالبين 4 / 231.
(22/171)
لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ (1)
.
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ضِمْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا
فِيمَا يُخْرِجُهُ الْمُزَكِّي وَيَأْخُذُهُ السَّاعِي أَنْ يَكُونَ
وَسَطًا، فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ وَلاَ الرَّدِيءَ
إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ التَّقْدِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَال. فَعَنْ
عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
رَجُلاً عَلَى الصَّدَقَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبِكْرَ
وَالشَّارِفَ وَذَا الْعَيْبِ وَإِيَّاكَ وَحَزَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ (2) .
وَوَرَدَ أَنَّهُ قَال لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ
أَمْوَالِهِمْ (3) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ
طَعْمَ الإِْيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ
رَافِدَةً (4) عَلَيْهِ كُل عَامٍ، وَلاَ يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلاَ
الدَّرِنَةَ (5) ، وَلاَ الْمَرِيضَةَ وَلاَ الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ (6) ،
وَلَكِنْ مِنْ
__________
(1) نيل الأوطار 4 / 208 نشر دار الجيل.
(2) حديث: " بعث رجلاً على الصدقة. . " أخرجه أبو داود في المراسيل (132 -
ط الرسالة) ، وإسناده ضعيف لإرساله، وأخرجه مالك في الموطأ (1 / 267 - ط
الحلبي) عن عمر بن الخطاب، أنه قال: لا تأخذوا حَزَرات المسلمين.
(3) حديث: " إياكم وكرائم أموالهم " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 - ط
السلفية) من حديث ابن عباس.
(4) الرافدة: المعينة، أي: تعينه نفسه على أدائها (النهاية لابن الأثير،
رفد) .
(5) الدرنة: الجرباء (المغني 2 / 602) .
(6) الشرط: رزالة المال (المغني 2 / 602) .
(22/171)
وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ (1) .
وَلأَِنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ
بِأَخْذِ الْوَسَطِ، وَالْوَسَطُ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنَ
الأَْرْفَعِ، وَأَرْفَعَ مِنَ الأَْدْوَنِ (2) .
بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ:
3 - يَرَى أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ مِنَ
الرِّبَوِيَّاتِ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُل
وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُل، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (3) ، وَلأَِنَّ تَفَاوُتَ
الْوَصْفِ لاَ يُعَدُّ تَفَاوُتًا عَادَةً، وَلَوِ اعْتُبِرَ لأََفْسَدَ
بَابَ الْبِيَاعَاتِ، إِذْ قَلَّمَا يَخْلُو عِوَضَانِ عَنْ تَفَاوُتٍ مَا،
__________
(1) حديث: " ثلاث من فعلهن فقد طَعمَ طَعْمَ الإيمان " أخرجه أبو داود (2 /
240 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري، وقال
المنذري في مختصر السنن (2 / 198 - نشر دار المعرفة) : أخرجه منقطعًا،
وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة مسندًا، وذكره أيضًا أبو القاسم
الطبراني وغيره مسندًا. وهو في معجم الطبراني الصغير (1 / 334 - ط المكتب
الإسلامي) كما قال مسندًا.
(2) بدائع الصنائع 2 / 33، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 1 / 604.
(3) حديث: " جيدها ورديئها سواء " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 37 - ط
المجلس العلمي) وقال: غريب، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد، يعني
حديث: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. . . مثلاً بمثل، يدًا بيد. . . إلخ "
أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) . والمجموع 5 / 426 - 428، والمغني 2 /
601، 602.
(22/172)
فَلَمْ يُعْتَبَرْ (1) .
ذِكْرُ الرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ:
4 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ ذِكْرَ الْجَوْدَةِ
وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لاِخْتِلاَفِ الْغَرَضِ بِهِمَا
فَيُفْضِي تَرْكُهُمَا إِلَى النِّزَاعِ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ عِنْدَ ذِكْرِ الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ يَصِحُّ
السَّلَمُ إِلاَّ بِتَوَافُرِهَا:
أَنْ يُضْبَطَ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ
بِهَا ظَاهِرًا، فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عِوَضٌ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ
بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ كَالثَّمَنِ. وَلأَِنَّ
الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْمَبِيعِ، وَطَرِيقُهُ إِمَّا الرُّؤْيَةُ وَإِمَّا
الْوَصْفُ، وَالرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةٌ هَاهُنَا فَتَعَيَّنَ الْوَصْفُ.
وَالأَْوْصَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَّفَقٍ عَلَى اشْتِرَاطِهَا
وَمُخْتَلَفٍ فِيهَا. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ثَلاَثَةُ أَوْصَافٍ:
الْجِنْسُ، وَالنَّوْعُ، وَالْجَوْدَةُ أَوِ الرَّدَاءَةُ. فَهَذِهِ لاَ
بُدَّ مِنْهَا فِي كُل مُسْلَمٍ فِيهِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
__________
(1) فتح القدير 6 / 151 نشر دار إحياء التراث العربي، والزيلعي 4 / 89،
والمغني 4 / 10، والشرح الصغير 3 / 63، والمجموع 10 / 83.
(2) بدائع الصنائع 5 / 207، والجوهرة النيرة 1 / 266، والاختيار 2 / 34،
35، والشرح الصغير 3 / 278، ونهاية المحتاج 4 / 208، وروضة الطالبين 4 /
38، والمغني 4 / 310.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 310.
(22/172)
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي
الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَيُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْجَيِّدِ لِلْعُرْفِ (1)
. وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَلَم) .
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الْحَوَالَةِ:
5 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ تَمَاثُل الدَّيْنَيْنِ - الْمُحَال
بِهِ وَالْمُحَال عَلَيْهِ - جِنْسًا وَقَدْرًا، وَحُلُولاً أَوْ
تَأْجِيلاً، وَصِحَّةً أَوْ تَكَسُّرًا، وَجَوْدَةً أَوْ رَدَاءَةً.
لأَِنَّ الْحَوَالَةَ تَحْوِيل الْحَقِّ فَيُعْتَبَرُ تَحَوُّلُهُ عَلَى
صِفَتِهِ (2) ، وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ مَا يَشْمَل الْجَوْدَةَ أَوِ
الرَّدَاءَةَ، وَالصِّحَّةَ أَوِ التَّكَسُّرَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْقَلِيل
عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالصَّحِيحِ عَلَى الْمُكَسَّرِ، وَبِالْجَيِّدِ
عَلَى الرَّدِيءِ، وَبِالْمُؤَجَّل عَلَى الْحَال، وَبِالأَْبْعَدِ أَجَلاً
عَلَى الأَْقْرَبِ (4) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ أَنْ
يَكُونَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدْيُونًا لِلْمُحِيل، وَمِنْ ثَمَّ لاَ
يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ التَّمَاثُل بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ الْمُحَال بِهِ
وَالْمُحَال عَلَيْهِ جِنْسًا، أَوْ قَدْرًا، أَوْ صِفَةً (5) .
وَالتَّفْصِيل (ر: حَوَالَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 28، ونهاية المحتاج 4 / 208.
(2) روضة الطالبين 4 / 131، وتحفة المحتاج 5 / 230، والمغني 4 / 577،
والكافي 2 / 219، والشرح الصغير 3 / 426، والخرشي 4 / 234 ط العامرة.
(3) تحفة المحتاج 5 / 230.
(4) روضة الطالبين 4 / 231.
(5) مجلة الأحكام العدلية المادة (686) .
(22/173)
قَبُول الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ فِي
الْقَرْضِ:
6 - لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُقْرِضِ قَبُول الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ فِي
الْقَرْضِ، فَإِنْ أَقْرَضَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَقَضَاهُ
خَيْرًا مِنْهُ فِي الْقَدْرِ أَوِ الصِّفَةِ أَوْ دُونَهُ بِرِضَاهُمَا
جَازَ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْفُقَهَاءِ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَرْض)
__________
(1) المغني 4 / 356.
(22/173)
رَدٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّدُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ رَدَدْتُ الشَّيْءَ، وَمِنْ
مَعَانِيهِ مَنْعُ الشَّيْءِ وَصَرْفُهُ، وَرَدُّ الشَّيْءِ أَيْضًا
إِرْجَاعُهُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ
أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (1) . أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ
إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ السُّنَّةُ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ. وَرَدَّ فُلاَنًا
خَطَّأَهُ. وَتَقُول: رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ جَوَابًا
أَيْ: رَجَعَهُ وَأَرْسَلَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) حديث: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو
رد " أخرجه مسلم (3 / 1344 - ط الحلبي) .
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، مادة: (ردد) ،
والقليوبي وعميرة (3 / 21 - ط عيسى البابي الحلبي) .
(22/174)
وَالرَّدُّ فِي الإِْرْثِ: دَفْعُ مَا
فَضَل عَنْ فَرْضِ ذَوِي الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ
حُقُوقِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ:
إِرْث ف 63 ج 3 ص 49) .
وَالْقِسْمَةُ بِالرَّدِّ هِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا لِرَدِّ أَحَدِ
الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ مَالاً أَجْنَبِيًّا، كَأَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ مِنْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بِئْرٌ أَوْ شَجَرٌ لاَ تُمْكِنُ
قِسْمَتُهُ، وَمَا فِي الْجَانِبِ الآْخَرِ لاَ يُعَادِل ذَلِكَ إِلاَّ
بِضَمِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ، فَيَرُدُّ مَنْ يَأْخُذُ الْجَانِبَ
الَّذِي فِيهِ الْبِئْرُ أَوِ الشَّجَرُ قِسْطَ قِيمَتِهِ أَيْ قِيمَةِ مَا
ذُكِرَ مِنَ الْبِئْرِ أَوِ الشَّجَرِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَة)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلرَّدِّ بِاخْتِلاَفِ
مَوْطِنِهِ كَمَا يَلِي:
الرَّدُّ فِي الْعُقُودِ:
مُوجِبَاتُ الرَّدِّ:
لِلرَّدِّ مُوجِبَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا يَلِي:
3 - أ - الاِسْتِحْقَاقُ: فَإِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الشَّيْءِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423 ط مصطفى البابي الحلبي 1908 م، أدب القضاء ص 527
دار الفكر، الطبعة الثانية 1982 م، تحقيق الدكتور محمد الزحلي.
(22/174)
مُسْتَحَقًّا لِلْغَيْرِ وَجَبَ رَدُّ
الشَّيْءِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ
كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، أَوْ فِي الْجِنَايَاتِ كَالْغَصْبِ
وَالسَّرِقَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى
الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ج 3 219) ،
وَمُصْطَلَحِ: (اسْتِرْدَاد) (ف 5 ح 3 283) .
4 - ب - فَسْخُ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ: سَوَاءٌ كَانَ عَدَمُ
لُزُومِهَا عَائِدًا إِلَى طَبِيعَتِهَا، كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ،
أَوْ إِلَى دُخُول الْخِيَارِ - بِأَنْوَاعِهِ - عَلَيْهَا كَالْبَيْعِ
وَالإِْجَارَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَكِلاَ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ لِمَنْ
ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ، وَيَرُدُّ كُلٌّ مَا فِي يَدِهِ إِلَى
صَاحِبِهِ (2) .
5 - ج - بُطْلاَنُ الْعَقْدِ: فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ
وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنَ
الآْخَرِ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِل لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا،
وَلاَ يُنْتِجُ أَيَّ أَثَرٍ.
وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ
حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، إِلاَّ
أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " أخرجه أبو داود 3 / 822 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) من حديث الحسن بن سمرة، وأعله ابن حجر بقوله: " الحسن مختلف
في سماعه من سمرة " كذا في التلخيص الحبير (3 / 53 - ط شركة الطباعة
الفنية) .
(2) انظر الموسوعة الفقهية 3 / 283 ف 6، 7
(22/175)
مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَالْفَسْخُ فِي
الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَلْزِمُ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ،
وَرَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي (1) . (انْظُرْ: اسْتِرْدَاد) .
6 - د - الإِْقَالَةُ: وَمَحَلُّهَا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ. وَمُقْتَضَى
الإِْقَالَةِ رَدُّ الأَْمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَيْ رَدُّ
الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، وَالثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي (2) ،
سَوَاءٌ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا فَسْخًا وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أَوْ عِنْدَ مَنِ
اعْتَبَرَهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُمُ
الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ، أَوْ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا فَسْخًا
فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل
أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَالَة
ج 5 324)
7 - هـ - انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْعَقْدِ: إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ
فِي الْعُقُودِ الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَفْعُ يَدِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الرَّدُّ. قِيل
لأَِحْمَدَ: إِذَا اكْتَرَى دَابَّةً أَوِ اسْتَعَارَ أَوِ اسْتَوْدَعَ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ؟ فَقَال أَحْمَدُ: مَنِ اسْتَعَارَ
شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذَهُ، فَأَوْجَبَ الرَّدَّ فِي
الْعَارِيَّةِ وَلَمْ
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية مصطلح، استرداد ج 3 / 285 ف 10، 11، 12
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 144 - دار إحياء التراث العربي، البهجة في شرح
التحفة 2 / 146 ط مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثانية 1951 م، كشاف
القناع 3 / 250 ط عالم الكتب.
(22/175)
يُوجِبْهُ فِي الإِْجَارَةِ
وَالْوَدِيعَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ فَلاَ
يَقْتَضِي رَدَّهُ وَمُؤْنَتَهُ، كَالْوَدِيعَةِ، وَفَارَقَ الْعَارِيَّةَ،
فَإِنَّ ضَمَانَهَا يَجِبُ، فَكَذَلِكَ رَدُّهَا، وَعَلَى هَذَا مَتَى
انْقَضَتِ الْمُدَّةُ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ
أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ إِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلاَ
ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَدِّ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الإِْجَارَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ يَلْزَمُهُ قَبْل الْمُطَالَبَةِ؛
لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ فَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا قَبْل الطَّلَبِ
كَالْوَدِيعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: يَلْزَمُهُ لأَِنَّهُ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الإِْجَارَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي إِمْسَاكِهَا
فَلَزِمَهُ الرَّدُّ كَالْعَارِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ
وَقْتِهَا، فَإِنْ قُلْنَا لاَ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ لَمْ يَلْزَمْهُ
مُؤْنَةُ الرَّدِّ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ لَزِمَهُ
مُؤْنَةُ الرَّدِّ كَالْعَارِيَّةِ (1) .
مُسْقِطَاتُ الرَّدِّ فِي الْعُقُودِ:
يَسْقُطُ الرَّدُّ فِي الْعُقُودِ لِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
8 - أ - تَصْحِيحُ الْعَقْدِ: جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يُفَرِّقُونَ
بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَهُمَا عِنْدَهُمْ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ
بَاطِلاً هَل يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا رُفِعَ الْمُفْسِدُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ لاَ
يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 46، والمهذب 1 / 408، والمغني 5 / 535، والبدائع 4 /
205.
(22/176)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ
الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الشُّرُوطِ
فَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَقَدْ سَبَقَ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْحِيح ج 12 58 ف 11)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل
وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْقَلِبَ الْعَقْدُ
الْفَاسِدُ صَحِيحًا وَذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ. وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ
فِي الْعَقْدِ الْبَاطِل، وَإِذَا انْقَلَبَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ صَحِيحًا
سَقَطَ الرَّدُّ لِزَوَال مُوجِبِهِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَصْحِيح ج 12 58 ف 11، 12، 13، 14) .
9 - ب - تَجْدِيدُ الْعَقْدِ: وَيَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ
الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ كَالإِْجَارَةِ، فَإِذَا اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ
عَلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ لِمُدَّةٍ أُخْرَى سَقَطَ رَدُّ الْعَيْنِ
الْمُؤَجَّرَةِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا؛ وَلِزَوَال مَا يُوجِبُهُ
وَهُوَ انْتِهَاءُ فَتْرَةِ الْعَقْدِ.
10 - ج - سُقُوطُ الْخِيَارِ: وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ
اللاَّزِمَةِ بِسَبَبِ دُخُول الْخِيَارِ عَلَيْهَا، فَإِذَا سَقَطَ
الْخِيَارُ بِأَحَدِ مُسْقِطَاتِهِ أَصْبَحَ الْعَقْدُ لاَزِمًا
وَامْتَنَعَ الرَّدُّ حِينَئِذٍ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 178 دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1982 م، شرح
منح الجليل 2 / 570 مكتبة النجاح، شرح روض الطالب 2 / 37 المكتبة
الإسلامية، مغني المحتاج 2 / 40 دار إحياء التراث العربي، شرح منتهى
الإرادات 2 / 250 عالم الكتب.
(22/176)
وَالْخِيَارَاتُ مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ
مُسْقِطَاتُهَا، وَهِيَ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَار) .
أَنْوَاعُ الرَّدِّ:
11 - يُقَسِّمُ الْحَنَفِيَّةُ رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ إِلَى رَدٍّ
بِالْقَضَاءِ وَرَدٍّ بِالتَّرَاضِي.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ
الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ الْمَعِيبِ إِلَى ثَالِثٍ ثُمَّ رَدِّهِ عَلَيْهِ
بِعَيْبٍ، فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ
بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ، كَانَ لَهُ
أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ فُسِخَ مِنَ
الأَْصْل فَجُعِل الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَإِنْ قَبِلَهُ بِالتَّرَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى
الْبَائِعِ الأَْوَّل.
فَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخًا،
وَبِالتَّرَاضِي بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ الأَْوَّل فَسْخًا
فِي الْمُشْتَرِي الأَْوَّل وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - بَيْنَ الرَّدِّ بِالْقَضَاءِ وَالرَّدِّ
بِالتَّرَاضِي،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 267، 268 دار الكتاب العربي) ، القوانين الفقهية 299
ط دار العلم للملايين 1979 م، قليوبي وعميرة 2 / 195، 196 ط عيسى البابي
الحلبي، كشاف القناع 3 / 205 وما بعدها ط عالم الكتب 1983 م، مطالب أولي
النهى 3 / 91، 94، 97، 99 منشورات المكتب الإسلامي بدمشق.
(22/177)
فَكِلاَهُمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ
أَصْلِهِ (1) . وَيَنْقَسِمُ رَدُّ الْمَبِيعِ كَذَلِكَ إِلَى رَدٍّ
قَهْرِيٍّ، وَرَدٍّ اخْتِيَارِيٍّ، فَالرَّدُّ الْقَهْرِيُّ كَرَدِّ
الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ، وَالرَّدُّ الاِخْتِيَارِيُّ كَالإِْقَالَةِ (2) .
رَدُّ مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
12 - إِذَا بَلَغَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَرَشَدَ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ
دَفْعُ الْمَال إِلَيْهِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (4) } .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رُشْد، حَجْر) .
رَدُّ السَّلاَمِ:
13 - رَدُّ السَّلاَمِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: قَال فِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ: اعْلَمْ أَنَّهُمْ
قَالُوا: إِنَّ السَّلاَمَ سُنَّةٌ وَإِسْمَاعَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَجَوَابَهُ
أَيْ رَدَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِسْمَاعَ رَدِّهِ وَاجِبٌ بِحَيْثُ لَوْ
لَمْ يُسْمِعْهُ لاَ يَسْقُطُ هَذَا الْفَرْضُ عَنِ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 167 ط دار صادر، حاشية الدسوقي 3 / 125 ط دار
الفكر، القوانين الفقهية 292 ط دار العلم للملايين 1979 م، مغني المحتاج 2
/ 56 - ط مصطفى البابي الحلبي 1908 م، كشاف القناع 3 / 222 - ط عالم الكتب
1983م.
(2) نهاية المحتاج 4 / 56 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، حاشية الجمل 3 / 146
دار إحياء التراث العربي.
(3) الموسوعة الفقهية 3 / 289 ف 17
(4) سورة النساء / 6.
(22/177)
السَّامِعِ، حَتَّى قِيل: لَوْ كَانَ
الْمُسَلِّمُ أَصَمَّ يَجِبُ عَلَى الرَّادِّ أَنْ يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ
وَيُرِيَهُ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَصَمَّ لَسَمِعَهُ. قَال الشَّيْخُ
عَمِيرَةُ: هُوَ - أَيْ رَدُّ السَّلاَمِ - حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَلاَم) .
رَدُّ الشَّهَادَةِ:
14 - الأَْصْل فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ التُّهْمَةُ أَيِ الشَّكُّ
وَالرِّيبَةُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهَا خَبَرٌ يَحْتَمِل
الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إِذَا تَرَجَّحَ
جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَبِالتُّهْمَةِ لاَ يَتَرَجَّحُ.
وَالتُّهْمَةُ قَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ، فَإِنَّ
مَنْ لاَ يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ
فَقَدْ لاَ يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَيْضًا، فَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ،
وَقَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ مِنْ قَرَابَةٍ يُتَّهَمُ
بِهَا بِإِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ،
كَقَرَابَةِ الْوِلاَدَةِ. وَقَدْ تَكُونُ لِخَلَلٍ فِي التَّمْيِيزِ
كَالْعَمَى الْمُفْضِي إِلَى تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ. وَقَدْ
تَكُونُ بِالْعَجْزِ عَمَّا جَعَلَهُ الشَّارِعُ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِهِ
كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ (2) ، قَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 265، دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 2 /
171، دار الفكر، مواهب الجليل 3 / 348، دار الفكر، قليوبي وعميرة 4 / 215،
عيسى البابي الحلبي.
(2) شرح العناية على الهداية بهامش شرح فتح القدير 6 / 473 دار إحياء
التراث العربي، القوانين الفقهية 336، دار العلم للملايين 1979م، قليوبي
وعميرة 4 / 318 وما بعدها، عيسى البابي الحلبي، كشاف القناع 6 / 416 وما
بعدها، عالم الكتب.
(22/178)
اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (1) } .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة) .
رَدُّ الْيَمِينِ:
15 - إِذَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ،
وَحَكَمَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ نَاكِلٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ
بِالنُّكُول، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى
الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حَكَمَ لَهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء، إِثْبَات، وَأَيْمَان،
وَنُكُول) .
رَدُّ مَال الْغَيْرِ:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَال
الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ كَالْغَصْبِ فَإِنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَوْرًا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ
(3) وَلأَِنَّ
__________
(1) سورة النور / 13.
(2) أدب القضاء ص 218 وما بعدها، 223، دار الفكر الطبعة الثانية 1982م،
تبصرة الحكام 1 / 154 دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، حاشية الجمل 5 /
425، دار إحياء التراث العربي، ونيل المآرب 2 / 456، والمغني 9 / 235،
والبدائع 6 / 230.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت. . . " سبق تخريجه ف / 3.
(22/178)
الْمَظَالِمَ يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا
فَوْرًا؛ لأَِنَّ بَقَاءَهَا بِيَدِهِ ظُلْمٌ آخَرُ. وَكَذَا السَّارِقُ
يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً
اتِّفَاقًا.
فَإِنْ هَلَكَتْ أَوِ اسْتُهْلِكَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ
كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَإِلاَّ فَقِيمَتُهَا، سَوَاءٌ قُطِعَ أَوْ لَمْ
يُقْطَعْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قُطِعَ فِي السَّرِقَةِ وَالْعَيْنُ
هَالِكَةٌ لاَ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ، فَلاَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمُ الْقَطْعُ
وَالْغُرْمُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ (1) وَفِي
رِوَايَةِ الْبَزَّارِ لاَ يَضْمَنُ السَّارِقُ سَرِقَتَهُ بَعْدَ
إِقَامَةِ الْحَدِّ (2) وَفِي رِوَايَةٍ لاَ غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ
بَعْدَ قَطْعِ يَمِينِهِ (3) . وَلأَِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي
الْقَطْعَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ ضَمِنَهُ لَمَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَنِدًا إِلَى
وَقْتِ الأَْخْذِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْتَفِي
الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ
الْمُنْتَفِي.
__________
(1) حديث: " لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد " أخرجه النسائي (8 / 93
- ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الرحمن بن عوف، وقال النسائي: " هذا
مرسل، وليس بثابت ".
(2) حديث: " لا يضمن السارق سرقته بعد إقامة الحد " أخرجه البزار كما في
نصب الراية (3 / 375 - ط المجلس العلمي) ، ونقل الزيلعي عن ابن القطان أنه
أعله بالإرسال، كما تقدم ذلك في النسائي أيضًا، وزاد كذلك بجهالة الراوي عن
عبد الرحمن بن عوف.
(3) حديث: " لا غرم على السارق بعد قطع يمينه " أخرج هذه الرواية الدارقطني
(3 / 182 - ط دار المحاسن) بإسناد الرواية السابقة.
(22/179)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
إِنْ كَانَ مُوسِرًا يَوْمَ الْقَطْعِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ، وَإِنْ
كَانَ عَدِيمًا لَمْ يَضْمَنْ وَلَمْ يَغْرَمْ (1) . وَكَذَلِكَ يَجِبُ
رَدُّ مَال الْغَيْرِ إِذَا أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ عِنْدَمَا
يُوجَدُ مَا يُوجِبُ الرَّدَّ، وَذَلِكَ كَرَدِّ اللُّقَطَةِ عِنْدَ
ظُهُورِ الْمَالِكِ، وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ عِنْدَ الطَّلَبِ (2)
.
مُؤْنَةُ (3) الرَّدِّ:
17 - مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الْفَسْخُ وَرَدُّ الْمَبِيعِ
إِلَى بَائِعِهِ وَالثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَتَكُونُ مُؤْنَةُ رَدِّ
الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ
وَاجِبَ الرَّدِّ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَهُوَ الْمُشْتَرِي (4) .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مُؤْنَةَ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 168، 169 ط دار إحياء التراث العربي، حاشية ابن
عابدين 3 / 210، 5 / 114 ط دار إحياء التراث العربي، القوانين الفقهية 358،
390 ط دار العلم للملايين 1979 م، قليوبي وعميرة 3 / 28، 4 / 198 ط عيسى
البابي الحلبي، كشاف القناع 4 / 78، 6 / 149 ط عالم الكتب 1983 م.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 494 ط دار إحياء التراث العربي، القوانين الفقهية
371 ط دار العلم للملايين 1979م، قليوبي وعميرة 3 / 20، 122، 181 ط عيسى
البابي الحلبي، كشاف القناع 4 / 65، 209 وما بعدها ط عالم الكتب 1983 م.
(3) المؤنة: اسم لما يتحمله الإنسان من ثقل النفقة (التعريفات للجرجاني ص
303) .
(4) روضة الطالبين 3 / 408 ط المكتب الإسلامي، حاشية الجمل 3 / 84 ط دار
إحياء التراث العربي، المغني 4 / 253 مطبوعات رئاسة إدارات البحوث العلمية
- الرياض 1981 م، القوانين الفقهية 286 - ط دار العلم للملايين 1979 م.
(22/179)
الْمُسْتَعِيرِ (1) لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى
تُؤَدِّيَ (2) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مُؤْنَةَ رَدِّ الْمَغْصُوبِ
عَلَى الْغَاصِبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ
لاَعِبًا أَوْ جَادًّا، وَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ
فَلْيَرْدُدْهَا عَلَيْهِ (3) وَلأَِنَّ الْمُؤْنَةَ مِنْ ضَرُورَاتِ
الرَّدِّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ
ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُؤْنَة)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 505 ط دار إحياء التراث العربي، مواهب الجليل 5 /
273 ط دار الفكر الطبعة الثانية 1978 م، قليوبي وعميرة 3 / 20 ط عيسى
البابي الحلبي، كشاف القناع 4 / 73 ط عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " سبق تخريجه ف / 3.
(3) حديث: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه. . . " أخرجه أحمد (4 / 221 - ط
الميمنية) من حديث يزيد بن السائب، وحسنه البيهقي كما في التلخيص الحبير (3
/ 46 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) بدائع الصنائع 7 / 148 دار الكتاب العربي 1982 م، البهجة في شرح التحفة
2 / 345 ط مصطفى البابي الحلبي 1951م، الطبعة الثانية، نهاية المحتاج 5 /
105 ط مصطفى البابي الحلبي 1967 م، كشاف القناع 4 / 78 ط عالم الكتب 1983
م.
(22/180)
رِدَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الرِّدَّةُ
عَنِ الإِْسْلاَمِ.
يُقَال: ارْتَدَّ عَنْهُ ارْتِدَادًا أَيْ تَحَوَّل. وَالاِسْمُ
الرِّدَّةُ، وَالرِّدَّةُ عَنِ الإِْسْلاَمِ: الرُّجُوعُ عَنْهُ.
وَارْتَدَّ فُلاَنٌ عَنْ دِينِهِ إِذَا كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: (الرِّدَّةُ: كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ
أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (2)) .
شَرَائِطُ الرِّدَّةِ:
2 - لاَ تَقَعُ الرِّدَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ
شَرَائِطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل وَالاِخْتِيَارِ (3) .
__________
(1) الجمهرة ولسان العرب والصحاح وتاج العروس ومتن اللغة والمعجم الوسيط.
(2) تحفة الفقهاء 7 / 134، والقليوبي وعميرة 4 / 174، وحاشية الباجوري 2 /
328، ومنح الجليل 4 / 461، وشرح الخرشي المالكي 8 / 62، وهداية الراغب 437،
والمغني لابن قدامة الحنبلي 8 / 540، ومنتهى الإرادات لابن النجار 2 / 498.
(3) البدائع 7 / 134، المهذب 2 / 222، فيض الإله المالك 2 / 305، الفروع 2
/ 160
(22/180)
رِدَّةُ الصَّبِيِّ:
3 - رِدَّةُ الصَّبِيِّ لاَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مُقْتَضَى
الْقِيَاسِ، وَقَوْلٌ لأَِحْمَدَ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ
بِرِدَّةِ الصَّبِيِّ اسْتِحْسَانًا (2) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ (3) .
الْمُرْتَدُّ قَبْل الْبُلُوغِ لاَ يُقْتَل:
4 - ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُقْتَل قَبْل بُلُوغِهِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الصَّبِيَّ إِذَا ارْتَدَّ لاَ يُقْتَل حَتَّى
بَعْدَ بُلُوغِهِ، قَال فِي الأُْمِّ: (فَمَنْ أَقَرَّ بِالإِْيمَانِ قَبْل
الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلاً، ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْل الْبُلُوغِ أَوْ
بَعْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَلاَ
__________
(1) المبسوط 10 / 122، وابن عابدين 4 / 257، ورحمة الأمة ص 296، والمغني
لابن قدامة 8 / 551، والإنصاف 10 / 329.
(2) المبسوط 10 / 622 (يحكم بردته استحسانًا لعلته لا لحكمه) . ويلاحظ
أيضًا كشف الأسرار للبزدوي 4 / 1371.
(3) المغني 8 / 551، والإنصاف 10 / 329، جواهر الإكليل 1 / 21، 116
(4) المبسوط 10 / 122، والتحفة 4 / 530، والبدائع 7 / 135، والهداية 2 /
126، وابن عابدين 4 / 257، والإنصاف 10 / 320، ومنار السبيل 2 / 407،
والمغني 8 / 551.
(22/181)
يُقْتَل؛ لأَِنَّ إِيمَانَهُ لَمْ يَكُنْ
وَهُوَ بَالِغٌ، وَيُؤْمَرُ بِالإِْيمَانِ، وَيُجْهَدُ عَلَيْهِ بِلاَ
قَتْلٍ (1)) .
رِدَّةُ الْمَجْنُونِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ صِحَّةَ لإِِسْلاَمِ
مَجْنُونٍ وَلاَ لِرِدَّتِهِ (2) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ تَبْقَى
سَائِرَةً عَلَيْهِ (3) .
لَكِنْ إِنْ كَانَ يُجَنُّ سَاعَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَتْ
رِدَّتُهُ فِي إِفَاقَتِهِ وَقَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جُنُونِهِ لاَ
تَقَعُ، كَمَا نَقَل ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ (4) .
رِدَّةُ السَّكْرَانِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ
رِدَّةَ السَّكْرَانِ لاَ تُعْتَبَرُ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ
الرِّدَّةَ تُبْنَى عَلَى الاِعْتِقَادِ، وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ
لِمَا يَقُول (5) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ،
__________
(1) الأم 6 / 649.
(2) البدائع 7 / 634، الإقناع 4 / 301، الكافي لابن قدامة 3 / 155، المهذب
2 / 222، والأم 6 / 148، والشامل 2 / 159 و 6 / 102، والقليوبي وعميرة 4 /
176.
(3) المراجع السابقة.
(4) البدائع 7 / 134.
(5) المبسوط 10 / 123، وتحفة الفقهاء 4 / 532، والبدائع 7 / 134، وابن
عابدين 4 / 224، والمهذب 2 / 222، والقليوبي 4 / 176.
(22/181)
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى
وُقُوعِ رِدَّةِ السَّكْرَانِ، وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ الصَّحَابَةَ
أَقَامُوا حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى السَّكْرَانِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ
طَلاَقُهُ، فَتَقَعُ رِدَّتُهُ، وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَأَنَّ عَقْلَهُ لاَ
يَزُول كُلِّيًّا، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالنَّاعِسِ مِنْهُ بِالنَّائِمِ أَوِ
الْمَجْنُونِ (1) .
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ:
7 - الإِْكْرَاهُ: اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ،
فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، مِنْ غَيْرِ
أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ أَهْلِيَّتُهُ، أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ (2)
.
وَالإِْكْرَاهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ الإِْلْجَاءَ وَالاِضْطِرَارَ
طَبْعًا، كَالإِْكْرَاهِ بِالْقَتْل أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الضَّرْبِ الَّذِي
يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ، قَل الضَّرْبُ أَوْ
كَثُرَ. وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إِكْرَاهًا تَامًّا.
وَنَوْعٌ لاَ يُوجِبُ الإِْلْجَاءَ وَالاِضْطِرَارَ، وَهُوَ الْحَبْسُ أَوِ
الْقَيْدُ أَوِ الضَّرْبُ الَّذِي لاَ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَهَذَا
النَّوْعُ مِنَ الإِْكْرَاهِ يُسَمَّى إِكْرَاهًا نَاقِصًا (3) .
8 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ
فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) الإنصاف 10 / 331، والمغني 8 / 563، والأم 6 / 148، والشامل 6 / 102،
والقليوبي 6 / 176.
(2) المبسوط 24 / 38، البدائع 7 / 175، ومرآة الأصول ص 359.
(3) البدائع 7 / 170، المجلة (المادة 949) .
(22/182)
: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللَّهِ (1) } .
وَمَا نُقِل مِنْ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- حَمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا يَكْرَهُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (2) ،
وَهَذَا فِي الإِْكْرَاهِ التَّامِّ (3) .
9 - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْسْلاَمِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْل
أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الإِْسْلاَمِ طَوْعًا، مِثْل أَنْ
يَثْبُتَ عَلَى الإِْسْلاَمِ بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ، فَإِنْ كَانَ
مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُمْ عَلَى الإِْسْلاَمِ - وَهُمْ أَهْل
الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ - فَلاَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، وَلاَ
يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلاَ إِجْبَارُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ
إِسْلاَمِهِ ابْتِدَاءً.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْسْلاَمِ مِمَّنْ يَجُوزُ
إِكْرَاهُهُ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ
مُرْتَدًّا بِرُجُوعِهِ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْمُرْتَدِّينَ (4) .
__________
(1) سورة النحل / 106.
(2) حديث: " إن عادوا فعد " أخرجه ابن سعد (3 / 219 - ط دار صادر) من حديث
محمد بن عمار مرسلاً.
(3) المبسوط 10 / 623، وابن عابدين 4 / 224، والأم 6 / 652، والشامل 6 /
148، وشرح الأنصاري 4 / 249، ومنح الجليل 4 / 407، والمغني 8 / 561،
والإقناع 4 / 306.
(4) المبسوط 10 / 123، والبدائع 7 / 110، 111، وابن عابدين 4 / 246، ومواهب
الجليل 8 / 282، الزرقاني 8 / 68، والشامل 6 / 648، والمغني 8 / 560،
والإقناع 4 / 304، وكشاف القناع 6 / 180 ط الرياض.
(22/182)
مَا تَقَعُ بِهِ الرِّدَّةُ:
10 - تَنْقَسِمُ الأُْمُورُ الَّتِي تَحْصُل بِهَا الرِّدَّةُ إِلَى
أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ - رِدَّةٌ فِي الاِعْتِقَادِ.
ب - رِدَّةٌ فِي الأَْقْوَال.
ج - رِدَّةٌ فِي الأَْفْعَال.
د - رِدَّةٌ فِي التَّرْكِ.
إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الأَْقْسَامَ تَتَدَاخَل، فَمَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا
عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَرْكٍ.
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الاِعْتِقَادِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، أَوْ
جَحَدَهُ، أَوْ نَفَى صِفَةً ثَابِتَةً مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ أَثْبَتَ
لِلَّهِ الْوَلَدَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ (1) .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَال بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ، أَوْ شَكَّ فِي
ذَلِكَ (2) . وَدَلِيلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {كُل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ
وَجْهَهُ (3) } .
وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: (لأَِنَّ حُدُوثَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 223، والقليوبي وعميرة 4 / 174، والشامل 2 / 17، ومنح
الجليل 4 / 461، والدسوقي 4 / 302، والإقناع 4 / 297، والإنصاف 10 / 326،
المغني 8 / 565.
(2) منح الجليل 4 / 462، والشامل 2 / 102، وكفاية الأخيار 2 / 202، والعدة
4 / 300.
(3) سورة القصص / 88.
(22/183)
الْعَالَمِ مِنْ قَبِيل مَا اجْتَمَعَ
فِيهِ الإِْجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ، بِالنَّقْل عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ،
فَيَكْفُرُ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ النَّقْل الْمُتَوَاتِرَ (1)) .
12 - وَيَكْفُرُ مَنْ جَحَدَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ (2) ،
وَلَوْ كَلِمَةً. وَقَال الْبَعْضُ: بَل يَحْصُل الْكُفْرُ بِجَحْدِ حَرْفٍ
وَاحِدٍ (3) . كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِاعْتِقَادِ تَنَاقُضِهِ
وَاخْتِلاَفِهِ، أَوِ الشَّكِّ بِإِعْجَازِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى
مِثْلِهِ، أَوْ إِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ (4) ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ (5) .
أَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ، فَلاَ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ،
وَلاَ رَادُّهُ؛ لأَِنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ مِنْ فِعْل الْبَشَرِ.
وَقَدْ نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْلاَل دِمَاءِ
الْمَعْصُومِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، إِنْ جَرَى بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ -
كَمَا فَعَل الْخَوَارِجُ - لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ (6) . وَلَعَل
السَّبَبَ أَنَّ الاِسْتِحْلاَل جَرَى بِاجْتِهَادٍ خَاطِئٍ، فَلاَ
يَكْفُرُ صَاحِبُهُ.
13 - وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا مَنِ اعْتَقَدَ كَذِبَ
__________
(1) العدة 4 / 300، وابن عابدين 4 / 223، والإقناع 4 / 297، والإنصاف 10 /
327، والفروع 2 / 159، ومنار السبيل 2 / 404.
(2) ابن عابدين 4 / 224، 230، والمغني 8 / 548، والإقناع 4 / 297، وفتاوى
السبكي 2 / 577.
(3) الإعلام بقواطع الإسلام 2 / 42، إقامة البرهان ص 139.
(4) ابن عابدين 4 / 222.
(5) الفروع 2 / 159، والإقناع 4 / 297، والآداب 2 / 298.
(6) المغني 8 / 548.
(22/183)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ حِل شَيْءٍ
مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ أَنْكَرَ
أَمْرًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (1) .
حُكْمُ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى
كَفَرَ، سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا أَوْ مُسْتَهْزِئًا (2) .
وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ (3) } .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُول تَوْبَتِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) وَالْحَنَابِلَةُ (5) إِلَى قَبُولِهَا،
وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (6) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الرِّدَّةِ بِذَلِكَ
وَبَيْنَ الرِّدَّةِ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 223، 224، 230، والمغني 8 / 548، والإقناع 4 / 297،
وفتاوى السبكي 2 / 577.
(2) نيل الأوطار 8 / 194 - 195، والسيف المشهور ورقة (2) ، والمغني 8 /
565، والفروع 2 / 160، والخرشي 8 / 74، والصارم المسلول ص 550، والشروط
العمرية ص 141.
(3) سورة التوبة / 65 - 66
(4) ابن عابدين 4 / 232.
(5) المغني 8 / 565، والصارم المسلول ص 550، ونقل ابن مفلح قبول التوبة
بشرط أن لا تتكرر منه ثلاثًا (الفروع 2 / 160) .
(6) الخرشي 8 / 74.
(22/184)
حُكْمُ سَبِّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
15 - السَّبُّ هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الاِنْتِقَادُ
وَالاِسْتِخْفَافُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبُّ فِي عُقُول
النَّاسِ، عَلَى اخْتِلاَفِ اعْتِقَادَاتِهِمْ، كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ
(1) .
وَحُكْمُ سَابِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ
بِلاَ خِلاَفٍ (2) .
وَيُعْتَبَرُ سَابًّا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل مَنْ
أَلْحَقَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْبًا أَوْ نَقْصًا،
فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسَبِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ،
أَوِ ازْدَرَاهُ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ، أَوْ لَعَنَهُ (3) ، أَوْ شَتَمَهُ،
أَوْ عَابَهُ، أَوْ قَذَفَهُ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (4) .
هَل يُقْتَل السَّابُّ رِدَّةً أَمْ حَدًّا؟
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ (5) وَالْحَنَابِلَةُ (6) وَابْنُ تَيْمِيَّةَ
(7) : إِنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، كَأَيِّ مُرْتَدٍّ؛ لأَِنَّهُ بَدَّل دِينَهُ
فَيُسْتَتَابُ، وَتُقْبَل تَوْبَتُهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ - فِيمَا يَنْقُلُهُ السُّبْكِيُّ - فَيَرَوْنَ
أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَّةٌ
وَزِيَادَةٌ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ
__________
(1) الصارم المسلول ص 556.
(2) ابن عابدين 4 / 232 - 237، وفتاوى السبكي 2 / 573، والسيف المسلول 4 -
11، 79، والشروط العمرية ص 214، والشامل 2 / 171.
(3) السيف المسلول ورقة 79.
(4) الشامل 2 / 171.
(5) ابن عابدين 4 / 233 - 235، والسيف المشهور ورقة 2.
(6) الهداية للكلوذاني ورقة (202) .
(7) الصارم المسلول ص 53، 245، 293، 423، 527.
(22/184)
السَّابَّ كَفَرَ أَوَّلاً، فَهُوَ
مُرْتَدٌّ، وَأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ قَتْلَهُ
(1)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُسْتَتَابُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا
فَيُسْلِمَ (2) .
حُكْمُ سَبِّ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
17 - مِنَ الأَْنْبِيَاءِ مَنْ هُمْ مَحَل اتِّفَاقٍ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ،
فَمَنْ سَبَّهُمْ فَكَأَنَّمَا سَبَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَسَابُّهُ كَافِرٌ، فَكَذَا كُل نَبِيٍّ مَقْطُوعٍ
بِنُبُوَّتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (3) .
وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ، فَمَنْ سَبَّهُ
زُجِرَ، وَأُدِّبَ وَنُكِّل بِهِ، لَكِنْ لاَ يُقْتَل، صَرَّحَ بِهَذَا
الْحَنَفِيَّةُ (4) .
حُكْمُ سَبِّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَل
بِحَقِّهَا، وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ (5) قَال تَعَالَى فِي
__________
(1) السيف المسلول ورقة (2) ، ومنار السبيل 2 / 409.
(2) الدسوقي 4 / 309.
(3) ابن عابدين 4 / 235، والسيف المشهور ورقة (2) ، والشامل 2 / 171،
والصارم المسلول ص 570، والقليوبي 4 / 175.
(4) السيف المشهور ورقة (2) .
(5) ابن عابدين 4 / 237، وفتاوى السبكي 2 / 552، والإقناع 4 / 299، والخرشي
8 / 74، والصارم المسلول 571.
(22/185)
حَدِيثِ الإِْفْكِ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا
اللَّهُ مِنْهُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) } .
فَمَنْ عَادَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ (2) .
وَهَل تُعْتَبَرُ مِثْلَهَا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ؟ قَال الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ:
إِنَّهُنَّ مِثْلُهَا فِي ذَلِكَ (3) . وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ
مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
.
وَالطَّعْنُ بِهِنَّ يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّعْنُ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَارُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ وَهُوَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ
الأُْخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُنَّ - سِوَى عَائِشَةَ - كَسَائِرِ
الصَّحَابَةِ، وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ، لأَِنَّهُ قَاذِفٌ (5) .
أَمَّا سَابُّ الْخُلَفَاءِ فَهُوَ لاَ يَكْفُرُ، وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ
(6) .
حُكْمُ مَنْ قَال لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ:
19 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال
__________
(1) سورة النور / 17.
(2) الصارم المسلول / 571.
(3) السيف المشهور ورقة (2) ، والسيف المسلول ورقة 82، والصارم المسلول
571.
(4) سورة النور / 26.
(5) أسنى المطالب 4 / 117، وانظر المراجع السابقة.
(6) ابن عابدين 4 / 236 - 237.
(22/185)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرِئٍ قَال لأَِخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ
بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَال، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِفِسْقِ الْقَائِل. قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ:
وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ
لِلْحَدِّ، بِأَنْ قَال: يَا كَافِرُ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا فَاجِرُ
(2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ مَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ كُفْرَهُ، مِثْل قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا
فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
فَهَذَا كُفْرٌ لاَ يُخْرِجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ بَل هُوَ تَشْدِيدٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا وَلَوْ لِذَنْبِهِ كَفَرَ؛
لأَِنَّهُ سَمَّى الإِْسْلاَمَ كُفْرًا، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: مَنْ دَعَا
رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَال عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ
حَارَ عَلَيْهِ (4) . أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا إِنْ كَفَّرَهُ بِلاَ
تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلاَّ فَلاَ
يَكْفُرُ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الأَْصْل عَنِ الْمُتَوَلِّي،
__________
(1) حديث: " أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر. . . " أخرجه مسلم (1 / 79 - ط
الحلبي) .
(2) تحفة الفقهاء 3 / 231، الإقناع 4 / 297، والفروع 2 / 161.
(3) حديث: " من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد. . . . " أخرجه
أحمد (2 / 429 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وقال الذهبي: " إسناده قوي
" كذا في فيض القدير 6 / 23 - ط المكتبة التجارية) .
(4) حديث: " من دعا رجلاً بالكفر. . . " أخرجه مسلم 1 / 80، ط الحلبي) من
حديث أبي ذر.
(22/186)
وَأَقَرَّهُ، وَالأَْوْجَهُ مَا قَالَهُ
النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى
الْمُسْتَحِل فَلاَ يَكْفُرُ غَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْلُهُ فِي
أَذْكَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ يُحَرَّمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا (1) .
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنَ الأَْفْعَال:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِلْقَاءَ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ فِي
مَحَلٍّ قَذِرٍ يُوجِبُ الرِّدَّةَ؛ لأَِنَّ فِعْل ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ
بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَمَارَةُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَا إِلْقَاءُ بَعْضِهِ.
وَكَذَا كُل فِعْلٍ يَدُل عَلَى الاِسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
(3) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ، أَوْ لِلشَّمْسِ، أَوْ
لِلْقَمَرِ فَقَدْ كَفَرَ (4) .
وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الاِسْتِهْزَاءِ بِالإِْسْلاَمِ، فَقَدْ
كَفَرَ. قَال بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ (5) وَدَلِيلُهُمْ قَوْله تَعَالَى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 118 - ط المكتبة الإسلامية.
(2) ابن عابدين 4 / 222، والقليوبي 4 / 174، والإعلام 2 / 38، وكفاية
الأخيار 2 / 201، ومنار السبيل 2 / 404، وشرح منح الجليل 4 / 461، والخرشي
8 / 62.
(3) الإعلام 2 / 38، وشرح منح الجليل 4 / 461، وشرح الخرشي 8 / 62.
(4) ابن عابدين 4 / 222، القليوبي 4 / 174، والإنصاف 10 / 326، والشامل
لبهرام 2 / 170.
(5) ابن عابدين 4 / 222.
(22/186)
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاللَّهِ
وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (1) } .
الرِّدَّةُ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ:
21 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ جَاحِدًا لَهَا يَكُونُ
مُرْتَدًّا (2) ، وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ؛ لأَِنَّهَا
مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (3)
.
وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً فَفِي حُكْمِهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يُقْتَل رِدَّةً، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَأَيُّوبَ
السَّخْتِيَانِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهَوَيْهِ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ
الطَّحَاوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ
بْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ
الصَّحَابَةِ.
__________
(1) سورة التوبة / 65.
(2) ابن القيم في كتابه: " الصلاة وحكم تاركها ".
(3) ابن عابدين 1 / 352 - 353، ورسالة بدر الرشيد ورقة (8) ، وعمدة القاري
24 / 81، والإنصاف 1 / 401، 10 / 327، والمغني 8 / 547، والإقناع 1 / 71،
ومنتهى الإرادات 1 / 52، 2 / 299.
(22/187)
وَالْقَوْل الثَّانِي: يُقْتَل حَدًّا لاَ
كُفْرًا، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ (1) .
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ كَسَلاً يَكُونُ
فَاسِقًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (2) .
جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ:
22 - جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ عَلَى غَيْرِهِ لاَ تَخْلُو: إِمَّا أَنْ
تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَكُلٌّ مِنْهَا، إِمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى
مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مُسْتَأْمَنٍ، أَوْ مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ.
وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّفْسِ بِالْقَتْل،
أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، كَالْقَطْعِ وَالْجَرْحِ، أَوْ عَلَى الْعِرْضِ
كَالزِّنَى وَالْقَذْفِ، أَوْ عَلَى الْمَال كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ
الطَّرِيقِ. وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ قَدْ تَقَعُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ،
ثُمَّ يَهْرُبُ الْمُرْتَدُّ إِلَى بِلاَدِ الْحَرْبِ، أَوْ لاَ يَهْرُبُ،
أَوْ تَقَعُ فِي بِلاَدِ الْحَرْبِ، ثُمَّ يَنْتَقِل الْمُرْتَدُّ إِلَى
بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ هَذِهِ كُلُّهَا فِي إِسْلاَمِهِ، أَوْ رِدَّتِهِ،
وَقَدْ يَسْتَمِرُّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يَعُودُ مُسْلِمًا، وَقَدْ تَقَعُ
مِنْهُ مُنْفَرِدًا، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ أَهْل بَلَدٍ.
وَمِثْل هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَال فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ.
__________
(1) كتاب الصلاة لابن القيم 42، القليوبي وعميرة 1 / 319، كفاية الأخيار 2
/ 204، والمغني 8 / 444، والشرح الصغير 1 / 238.
(2) ابن عابدين 1 / 352 - 353
(22/187)
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى النَّفْسِ:
23 - إِذَا قَتَل مُرْتَدٌّ مُسْلِمًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ،
اتِّفَاقًا (1) .
أَمَّا إِذَا قَتَل الْمُرْتَدُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا
فَيُقْتَل بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ (3) وَهُوَ
أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ (4) ؛ لأَِنَّهُ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ
الذِّمِّيِّ، إِذِ الْمُرْتَدُّ مُهْدَرُ الدَّمِ وَلاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ،
وَلاَ مُنَاكَحَتُهُ، وَلاَ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ.
وَلاَ يُقْتَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ
لِلشَّافِعِيِّ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ
عَلَى رِدَّتِهِ (5) .
وَإِذَا قَتَل الْمُرْتَدُّ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا خَطَأً
وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلاَ تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالدِّيَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا عِصْمَةُ الدَّمِ لاَ الإِْسْلاَمُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 7 / 2، والبدائع 7 / 233، والمغني 8 / 255، 554،
والإقناع 4 / 306، والهداية للكلوذاني 202، والأم 6 / 153، ومنح الجليل 4 /
467، والخرشي 8 / 66.
(2) المسلم يقتل بالذمي عند الحنفية، فمن باب أولى أن يقتل به المرتد.
البدائع 7 / 237 والفتاوى الهندية 7 / 3.
(3) المغني 8 / 255، والإقناع 4 / 175.
(4) الأم 6 / 33، وعدم المكافأة يتأتى من أن المرتد لا يقر على ردته، بل
يحمل على الإسلام، والشامل لابن الصباغ 6 / 14، ومغني المحتاج 4 / 16.
(5) الشامل لبهرام 8 / 71، والخرشي 8 / 66، ومنح الجليل 4 / 467، ومغني
المحتاج 4 / 16.
(22/188)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ حَل دَمُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَهْل
الْحَرْبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ
بَيْتَ الْمَال يَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مِمَّنْ جَنَى
فَكَمَا يَأْخُذُ مَالَهُ يَغْرَمُ عَنْهُ. وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتُبْ.
فَإِنْ تَابَ فَقِيل: فِي مَالِهِ، وَقِيل: عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيل:
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقِيل: عَلَى مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ (2) .
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
24 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ فَرْقَ فِي جِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ بَيْنَ
مَا إِذَا كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، وَلاَ يُقْتَل
الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ
لِزِيَادَتِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالإِْسْلاَمِ الْحُكْمِيِّ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُقْتَل الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ
وَالذِّمِّيِّ. وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ
الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا.
وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لاَ يُقْتَل الْمُرْتَدُّ
بِالذِّمِّيِّ وَلاَ يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ؛ لأَِنَّ أَحْكَامَ
الإِْسْلاَمِ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ بِدَلِيل وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ
عَلَيْهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالإِْسْلاَمِ.
__________
(1) المبسوط 1 / 108، وابن عابدين 4 / 252، والشامل لابن الصباغ 6 / 66،
والأم 6 / 153، والمغني 8 / 554، والإقناع 4 / 306.
(2) الخرشي 8 / 66، والبدائع 7 / 252، والشامل لبهرام 2 / 171.
(22/188)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَنَا: أَنَّهُ
كَافِرٌ فَيُقْتَل بِالذِّمِّيِّ كَالأَْصْلِيِّ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الأَْظْهَرُ قَتْل الْمُرْتَدِّ بِالذِّمِّيِّ
لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ. بَل الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ
الذِّمِّيِّ لأَِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فَأَوْلَى أَنْ يُقْتَل
بِالذِّمِّيِّ (1) .
زِنَى الْمُرْتَدِّ:
25 - إِذَا زَنَى مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَدَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ. وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَفِي زَوَال
الإِْحْصَانِ بِرِدَّتِهِ خِلاَفٌ. أَسَاسُهُ الْخِلاَفُ فِي شُرُوطِ
الإِْحْصَانِ، هَل مِنْ بَيْنِهَا الإِْسْلاَمُ أَمْ لاَ؟
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مَنِ ارْتَدَّ بَطَل إِحْصَانُهُ،
إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ
الرِّدَّةَ لاَ تُؤَثِّرُ فِي الإِْحْصَانِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ لَيْسَ
مِنْ شُرُوطِ الإِْحْصَانِ (3) .
__________
(1) العدوي على الخرشي 8 / 66، ومنح الجليل 4 / 467، والمواق بهامش الحطاب
6 / 282، والمغني 7 / 657 - 658 و 8 / 149، ومغني المحتاج 4 / 16 - 17،
والمهذب 2 / 225، وينظر البدائع 7 / 137 - 236، 253
(2) التحفة 3 / 215، والخرشي 8 / 68، ومنح الجليل 4 / 472.
(3) الشامل للصباغ 6 / 15، وكفاية الأخيار 2 / 179، والإنصاف 10 / 337،
والهداية للكلوذاني 204، والتحفة 3 / 215.
(22/189)
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ:
26 - إِذَا قَذَفَ الْمُرْتَدُّ غَيْرَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ
بِشُرُوطِهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُل مِنْهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ،
حَيْثُ لاَ سُلْطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْقَضِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
شَرَائِطِ الْقَذْفِ، وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا إِسْلاَمُ الْقَاذِفِ (1) .
إِتْلاَفُ الْمُرْتَدِّ الْمَال:
27 - إِذَا اعْتَدَى مُرْتَدٌّ عَلَى مَال غَيْرِهِ - فِي بِلاَدِ
الإِْسْلاَمِ - فَهُوَ ضَامِنٌ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الرِّدَّةَ
جِنَايَةٌ، وَهِيَ لاَ تَمْنَحُ صَاحِبَهَا حَقَّ الاِعْتِدَاءِ (2) .
السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ:
28 - إِذَا سَرَقَ الْمُرْتَدُّ مَالاً، أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، فَهُوَ
كَغَيْرِهِ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ
السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الإِْسْلاَمُ. لِذَا فَالْمُسْلِمُ
وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ (3) .
مَسْئُولِيَّةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ جِنَايَاتِهِ قَبْل الرِّدَّةِ:
29 - إِذَا جَنَى مُسْلِمٌ عَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْجَانِي
__________
(1) البدائع 7 / 40، 45، والخرشي 8 / 66، وكفاية الأخيار 2 / 184
(2) ابن عابدين 4 / 252، والكافي 3 / 163، والخرشي المالكي 8 / 66، والشامل
6 / 602، والهداية للكلوذاني 202، والشامل لابن الصباغ 6 / 102.
(3) ابن عابدين 4 / 252.
(22/189)
يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُل مَا فَعَل
سَوَاءٌ اسْتَمَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ تَابَ عَنْهَا (1) .
الاِرْتِدَادُ الْجَمَاعِيُّ:
30 - الْمَقْصُودُ بِالاِرْتِدَادِ الْجَمَاعِيِّ: هُوَ أَنْ تُفَارِقَ
الإِْسْلاَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ أَهْل بَلَدٍ. كَمَا حَدَثَ
عَلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَإِنْ حَصَل ذَلِكَ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ
قِتَالِهِمْ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَهْل
الرِّدَّةِ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَصِيرِ دَارِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل لِلْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) :
إِذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا، فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ
دَارَ حَرْبٍ؛ لأَِنَّ الْبُقْعَةَ إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْنَا، أَوْ
إِلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ. فَكُل مَوْضِعٍ ظَهَرَ
فِيهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ فَهُوَ دَارُ حَرْبٍ، وَكُل مَوْضِعٍ كَانَ
الظَّاهِرُ فِيهِ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، فَهُوَ دَارُ إِسْلاَمٍ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا تَصِيرُ دَارُ
الْمُرْتَدِّينَ دَارَ حَرْبٍ بِثَلاَثِ شَرَائِطَ:
__________
(1) المبسوط 1 / 108، وابن عابدين 4 / 252، الأم 6 / 153، والشامل لابن
الصباغ 6 / 14، والإقناع 4 / 175 وقد قال بقتل المرتد، تقدمت ردته، أو
تأخرت، منح الجليل 4 / 467، والمغني 8 / 564.
(2) المبسوط 10 / 113، والأم 6 / 32، ونيل الأوطار 7 / 218.
(22/190)
أَوَّلاً: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ
الشِّرْكِ، لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ
لِلْمُسْلِمِينَ.
ثَانِيًا: أَنْ لاَ يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَلاَ
ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ.
ثَالِثًا: أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا.
(فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ؛ لأَِنَّ
هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ مُحْرَزَةً
لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَبْطُل ذَلِكَ الإِْحْرَازُ، إِلاَّ بِتَمَامِ
الْقَهْرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ
الثَّلاَثِ (1)) .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ فَقَدْ
أُهْدِرَ دَمُهُ، لَكِنَّ قَتْلَهُ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ افْتَاتَ عَلَى
حَقِّ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَهُ (2) .
وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ)
إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الذِّمِّيِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ
مِنَ الذِّمِّيِّ (3) .
__________
(1) المبسوط 10 / 113، وابن عابدين 4 / 174، والمغني 8 / 554، واختلاف
الأئمة 270، والإفصاح 348
(2) المبسوط 10 / 106، والفتاوى الهندية 7 / 3، والأم 6 / 154، والإنصاف 9
/ 462، والهداية لأبي الخطاب 203، والشامل لبهرام 2 / 158.
(3) الشامل لبهرام 2 / 158، منح الجليل 4 / 344، الإنصاف 9 / 462، البدائع
7 / 236، مغني المحتاج 4 / 15، 16، 17
(22/190)
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِيمَا
دُونَ النَّفْسِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّ
هَدَرٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِصْمَةَ لَهُ (1) .
أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ
فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا، أَوْ وَقَعَتْ عَلَى مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ
فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا فَفِيهَا أَقْوَالٌ (2) تُنْظَرُ فِي بَابِ "
الْقِصَاصِ " مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ
الْمُرْتَدِّ، لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ: أَنْ يَكُونَ
الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْف)
ثُبُوتُ الرِّدَّةِ:
34 - تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ.
وَتَثْبُتُ الرِّدَّةُ عَنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ، بِشَرْطَيْنِ:
أ - شَرْطُ الْعَدَدِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِشَاهِدَيْنِ فِي
__________
(1) المبسوط 10 / 106، والفتاوى الهندية 7 / 3، الأم 6 / 154، الإنصاف 9 /
462، الشامل لبهرام 2 / 158.
(2) 10 / 107، البدائع 7 / 253، والشامل 2 / 159، والمغني 8 / 253.
(3) البدائع 7 / 40، والتحفة 3 / 225، وكفاية الأخيار 2 / 184، والإنصاف 10
/ 202، الأم 6 / 151.
(22/191)
ثُبُوتِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي
ذَلِكَ إِلاَّ الْحَسَنُ، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ (1) .
ب - تَفْصِيل الشَّهَادَةِ:
يَجِبُ التَّفْصِيل فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرِّدَّةِ بِأَنْ يُبَيِّنَ
الشُّهُودُ وَجْهَ كُفْرِهِ، نَظَرًا لِلْخِلاَفِ فِي مُوجِبَاتِهَا،
وَحِفَاظًا عَلَى الأَْرْوَاحِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِثْبَات، وَشَهَادَة) .
وَإِذَا ثَبَتَتِ الرِّدَّةُ بِالإِْقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ
يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل.
وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُرْتَدُّ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ
إِنْكَارُهُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ
الْقَتْل فِي حَقِّهِ (3) .
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ وَلاَ يَنْفَعُهُ
إِنْكَارُهُ، بَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ
مُسْلِمًا (4) .
اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ
حُكْمُهَا:
35 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ - فِي قَوْلٍ - وَأَحْمَدُ
فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ اسْتِتَابَةَ
الْمُرْتَدِّ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. بَل مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا يُسْتَحَبُّ
الإِْمْهَال، إِنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ، فَيُمْهَل ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ (5) .
__________
(1) المغني 8 / 557.
(2) منح الجليل 4 / 465، الخرشي 8 / 64.
(3) ابن عابدين 4 / 246.
(4) مغني المحتاج 4 / 138، المغني 8 / 140.
(5) التحفة 3 / 530، والبدائع 7 / 134، والمبسوط 10 / 98، وابن عابدين 4 /
225.
(22/191)
وَعِنْدَ مَالِكٍ تَجِبُ الاِسْتِتَابَةُ
وَيُمْهَل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
فِي أَظْهَرِ الأَْقْوَال يَجِبُ الاِسْتِتَابَةُ وَتَكُونُ فِي الْحَال
فَلاَ يُمْهَل (2) .
وَثَبَتَتْ الاِسْتِتَابَةُ بِمَا وَرَدَ أَنَّ امْرَأَةً يُقَال لَهَا
أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الإِْسْلاَمُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَّ
قُتِلَتْ (3) . وَلأَِثَرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
اسْتَتَابَ الْمُرْتَدَّ ثَلاَثًا (4) .
كَيْفِيَّةُ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ:
36 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنِ
الأَْدْيَانِ سِوَى الإِْسْلاَمِ، أَوْ عَمَّا انْتَقَل إِلَيْهِ بَعْدَ
نُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى
وَجْهِ
__________
(1) لطائف الإشارات 136، وتفسير القرطبي 3 / 47، ورحمة الأمة 269، والخرشي
8 / 65، ومنح الجليل 4 / 465، والشامل لبهرام 2 / 17، والإنصاف 10 / 328،
وهداية الراغب 538، ومنار السبيل 2 / 405.
(2) الأم 6 / 32، والمهذب 2 / 223، ومغني المحتاج 4 / 139، 140
(3) حديث: " ورد أن امرأة يقال لها: أم رومان ارتدت " أخرجه الدارقطني (3 /
118 - ط دار المحاسن) ، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص 4 / 49 - ط شركة
الطباعة الفنية.
(4) المراجع السابقة.
(22/192)
الْعَادَةِ أَوْ بِدُونِ التَّبَرِّي لَمْ
يَنْفَعْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا قَال إِذْ لاَ يَرْتَفِعُ بِهِمَا
كُفْرُهُ.
قَالُوا: إِنْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ
مُنْكِرٌ لاَ يُتَعَرَّضْ لَهُ لاَ لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، بَل لأَِنَّ
إِنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ، فَيَمْتَنِعُ الْقَتْل فَقَطْ وَتَثْبُتُ
بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الإِْنْكَارُ مَعَ
الإِْقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ (1) .
وَإِذَا نَطَقَ الْمُرْتَدُّ بِالشَّهَادَتَيْنِ: صَحَّتْ تَوْبَتُهُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (2) ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل
النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَال: لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ
وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (3) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَيْثُ إِنَّ
الشَّهَادَةَ يَثْبُتُ بِهَا إِسْلاَمُ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ فَكَذَا
الْمُرْتَدُّ. فَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَدُّ الإِْسْلاَمَ، وَرَفَضَ
النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، لاَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 246.
(2) المبسوط لمحمد 143، المبسوط للسرخسي 10 / 112) ، وابن عابدين 4 / 226،
وقال: (يكفي للآخرة التشهد، وللدنيا التبري مما كان يعتقد) والشامل لابن
الصباغ 2 / 171، والإنصاف 1 / 335، والإقناع 4 / 303، وهداية الراغب 538،
والكافي 3 / 160.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. . . " رواه
مسلم (1 / 52، ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(22/192)
تَصِحُّ تَوْبَتُهُ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنْ مَاتَ، فَأَقَامَ
وَارِثُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الرِّدَّةِ: حُكِمَ
بِإِسْلاَمِهِ (2) . وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَحْصُل تَوْبَةُ
الْمُرْتَدِّ بِصَلاَتِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ بُدَّ فِي إِسْلاَمِ
الْمُرْتَدِّ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ لإِِنْكَارِ
شَيْءٍ آخَرَ، كَمَنْ خَصَّصَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِ أَوْ جَحَدَ
فَرْضًا أَوْ تَحْرِيمًا فَيَلْزَمُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ الإِْقْرَارُ
بِمَا أَنْكَرَ (3) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ صَلَّى الْمُرْتَدُّ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ
إِلاَّ أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ، أَوْ كِتَابٍ، أَوْ
نَبِيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ
الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحْكَمُ
بِإِسْلاَمِهِ بِمُجَرَّدِ صَلاَتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ
الصَّلاَةِ وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ. وَأَمَّا لَوْ زَكَّى أَوْ صَامَ
فَلاَ يَكْفِي ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِإِسْلاَمِهِ، لأَِنَّ الْكُفَّارَ
يَتَصَدَّقُونَ، وَالصَّوْمُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لاَ يُعْلَمُ (4) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَتَوْبَةِ
مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، وَتَوْبَةُ السَّاحِرِ عَلَى أَقْوَالٍ
يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْبَة) .
__________
(1) الإقناع 4 / 303.
(2) الإنصاف 10 / 337 - ط - 1957
(3) أسنى المطالب 4 / 124، والإنصاف 10 / 335، 336
(4) المغني 8 / 144 ط 3
(22/193)
تَوْبَةُ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
37 - قَال الْحَنَفِيَّةُ بِقَبُول تَوْبَةِ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ، مَعَ ضَرُورَةِ تَأْدِيبِ السَّابِّ وَعَدَمِ
تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلاَثًا (2) .
وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ خِلاَفٌ، الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ قَبُول
تَوْبَتِهِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (3) .
أَمَّا سَابُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُول تَوْبَتِهِ (5)
.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل تَوْبَةُ قَاذِفِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ:
يُقْتَل حَدًّا وَلاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَال الصَّيْدَلاَنِيُّ:
يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لأَِنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ
بِإِسْلاَمِهِ وَبَقِيَ جَلْدُهُ (6) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ (7) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ
بِقُرْآنٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل وَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ؛
لأَِنَّ كُفْرَهُ يُشْبِهُ كُفْرَ الزِّنْدِيقِ، وَيُقْتَل حَدًّا لاَ
كُفْرًا إِنْ قُتِل بَعْدَ تَوْبَتِهِ لأَِنَّ قَتْلَهُ حِينَئِذٍ لأَِجْل
ازْدِرَائِهِ لاَ لأَِجْل كُفْرِهِ (8) .
__________
(1) السيف المشهور ورقة 2، وابن عابدين 4 / 232.
(2) المغني 8 / 565، والفروع 2 / 160.
(3) الخرشي 8 / 74، والصارم المسلول 550
(4) ابن عابدين 4 / 233، والسيف المشهور 2
(5) الهداية لأبي الخطاب ورقة (202) ، والصارم المسلول 53، 245، 293، 423،
527
(6) السيف المسلول ورقة (2) ، ومغني المحتاج 4 / 141.
(7) منار السبيل 2 / 409.
(8) الخرشي 8 / 70.
(22/193)
تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ:
38 - مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ وَتَوْبَتُهُ قَال الأَْحْنَافُ
وَالشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل تَوْبَتُهُ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (2)
} وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ
أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ
(3) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ لاَ تُقْبَل (4) .
وَحُجَّتُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ
اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (5) }
__________
(1) المبسوط لمحمد 144، وقال ابن عابدين (4 / 225) : تقبل توبته، لكنه يعذب
في كل مرة، ويحبس. وقال الكرخي: هذا قول أصحابنا جميعًا، وأسنى المطالب 4 /
122) ، والأم 6 / 147 - 148، والشامل لابن الصباغ 10 / 148، والسيف المسلول
29
(2) سورة الأنفال / 38.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 75 - ط
السعادة) من حديث أبي هريرة.
(4) ابن عابدين 4 / 225، والمغني 8 / 543، والكافي 3 / 159، وهداية الراغب
439، ومنار السبيل 2 / 409، ولم نجد عند المالكية تعرضًا لهذه المسألة، وقد
نسب إليهم في المغني وحاشية ابن عابدين القول بعدم قبول
توبة من تكررت ردته.
(5) سورة النساء / 137.
(22/194)
وَلأَِنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ، دَلِيلٌ
عَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالاَةِ (1) .
تَوْبَةُ السَّاحِرِ:
39 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: بِعَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ
السَّاحِرِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ (2) (وانْظُرْ مُصْطَلَحَيْ:
تَوْبَة، وَسِحْر) .
قَتْل الْمُرْتَدِّ:
40 - إِذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ، وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشَرَائِطِ
الرِّدَّةِ، أُهْدِرَ دَمُهُ، وَقَتْلُهُ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ
بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ (3) . فَلَوْ قُتِل قَبْل الاِسْتِتَابَةِ
فَقَاتِلُهُ مُسِيءٌ، وَلاَ يَجِبُ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ غَيْرَ التَّعْزِيرِ،
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَسُولاً لِلْكُفَّارِ فَلاَ يُقْتَل؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُل رُسُل
مُسَيْلِمَةَ (4) . فَإِذَا قُتِل الْمُرْتَدُّ عَلَى
__________
(1) منار السبيل 2 / 409.
(2) رسالة بدر الرشيد مخطوطة، وابن عابدين 4 / 240، وقد فصل فقال: يكفر
الساحر بتعلمه السحر وفعله، فإن لم يعتقده لا يكفر، كأن يستعمله للتجربة.
ورحمة الأمة 267، والمغني 8 / 153 ط 3
(3) المبسوط 10 / 106، والأم 6 / 154، والشامل لابن الصباغ 1 / 101،
والإنصاف 9 / 462، والشامل لبهرام 2 / 158.
(4) الفروع 2 / 159، وابن عابدين 4 / 668. وحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يقتل رسل مسيلمة. . . ورد من قوله صلى الله عليه وسلم من حديث نعيم
بن مسعود الأشجعي لرسولي مسيلمة: " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت
أعناقكما ". أخرجه أبو داود (3 / 192 - تحقيق عزت عبيد دعاس)
(22/194)
رِدَّتِهِ، فَلاَ يُغَسَّل، وَلاَ يُصَلَّى
عَلَيْهِ، وَلاَ يُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَدَلِيل قَتْل الْمُرْتَدِّ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (2) وَحَدِيثُ: لاَ يَحِل
دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي
رَسُول اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ،
وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ
لِلْجَمَاعَةِ (3) .
أَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
كَالْمُرْتَدِّ (4) ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ
امْرَأَةً يُقَال لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الإِْسْلاَمُ
فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَّ قُتِلَتْ (5) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لاَ تُقْتَل، بَل
تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل الْكَافِرَةِ الَّتِي لاَ تُقَاتِل أَوْ
تُحَرِّضُ عَلَى
__________
(1) كفاية الأخيار 2 / 204.
(2) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 - ط
السلفية) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ". أخرجه البخاري
(الفتح 12 / 201 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود.
(4) مغني المحتاج 4 / 139، والمغني لابن قدامة 8 / 123 ط الرياض) ،
والدارقطني 3 / 119.
(5) حديث: " ورد أن امرأة يقال لها: أم رومان ارتدت، سبق تخريجه ف 35
(22/195)
الْقِتَال (1) ، فَتُقَاسُ الْمُرْتَدَّةُ
عَلَيْهَا (2) .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى مَال الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ
:
دُيُونُ الْمُرْتَدِّ:
41 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ ابْتُدِئَ مِنْ
تَرِكَتِهِ بِتَسْدِيدِ دُيُونِهِ (3) . لَكِنْ هَل يُسَدَّدُ مِنْ
كَسْبِهِ فِي الإِْسْلاَمِ؟ أَمْ مِنْ كَسْبِهِ فِي الرِّدَّةِ؟ أَمْ
مِنْهُمَا مَعًا؟
اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي
مَصِيرِ أَمْوَال الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُول
السَّرَخْسِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَرَوَى
أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الكافرة التي لا تقاتل أو
تحرض على القتال ". ورد في حديث رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال:
انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأة قتيل وأخرجه الحاكم (2 / 122
- ط دائرة المعارف العثمانية) مطولاً، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) المبسوط 10 / 108، 109، والبدائع 7 / 135، والتحفة 4 / 530، وابن
عابدين 4 / 247، والزرقاني على الموطأ 2 / 295.
(3) المبسوط لمحمد 142، والمهذب 2 / 224، ومغني المحتاج 4 / 142، والإنصاف
10 / 342، والمغني 8 / 545.
(22/195)
أَنْ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ كَسْبِ
الرِّدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ
الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ كَسْبَ الإِْسْلاَمِ حَقُّ وَرَثَتِهِ، وَلاَ حَقَّ
لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ، بَل هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، فَلِهَذَا
كَانَ فَيْئًا إِذَا قُتِل، فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ
حَقِّهِ أَوْلَى، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْدَأُ
بِكَسْبِ الإِْسْلاَمِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ
فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ
مِلْكِ الْمَدْيُونِ. . فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا
لَهُ، فَلاَ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ
مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ.
وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دُيُونَ إِسْلاَمِهِ تُقْضَى
مِنْ كَسْبِ الإِْسْلاَمِ، وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ
كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ،
وَحُصُول كُل وَاحِدٍ مِنَ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي
وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ، فَيُقْضَى كُل دَيْنٍ مِنَ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ
فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ،
وَبِهِ قَال زُفَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي
رِدَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ
مَصْرُوفًا إِلَى دَيْنِهِ، كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ (1) .
42 - وَإِذَا أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ
يَقُول:
__________
(1) المبسوط 10 / 106، والبدائع 7 / 139، وابن عابدين 4 / 248.
(22/196)
إِنْ أَسْلَمَ جَازَ، أَمَّا إِنْ قُتِل
عَلَى رِدَّتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ إِلاَّ عَلَى مَا اكْتَسَبَهُ
بَعْدَ رِدَّتِهِ. أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى أَنَّ إِقْرَارَهُ كُلَّهُ
جَائِزٌ إِنْ قُتِل مُرْتَدًّا، أَوْ تَابَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنْ قُتِل
عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ إِقْرَارَهُ بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارِ
الْمَرِيضِ (1) ، يُبْتَدَأُ أَوَّلاً بِدَيْنِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ
بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لأَِصْحَابِ دُيُونِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ
إِذَا أُهْدِرَ دَمُهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ إِقْرَارِ الْمُرْتَدِّ عَمَّا
قَبْل الرِّدَّةِ وَخِلاَلَهَا، مَا لَمْ يُوقَفْ تَصَرُّفُهُ، فَقَدْ قَال
الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ كُل مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْل الرِّدَّةِ
لأَِحَدٍ، قَال: وَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ،
وَلاَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٍ لِلرِّدَّةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ إِلاَّ
بِإِقْرَارٍ مِنْهُ فِي الرِّدَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَمَا
دَانَ (3) فِي الرِّدَّةِ، قَبْل وَقْفِ مَالِهِ لَزِمَهُ، وَمَا دَانَ
بَعْدَ وَقْفِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ رُدَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ
كَانَ مِنْ سَلَفٍ وُقِفَ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَل، وَإِنْ
رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ لَزِمَهُ (4) .
أَمْوَال الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتُهُ:
43 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ
__________
(1) المقصود مرض الموت، فلا ينفذ إقراره إلا من الثلث.
(2) المبسوط لمحمد 177، والتحرير مخطوطة غير مرقمة ج 2
(3) دان تأتي بمعنى استدان كما في القاموس.
(4) الأم 6 / 153.
(22/196)
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ لاَ يَزُول عَنْ
مَالِهِ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَالِهِ
فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ زَال مِلْكُهُ وَصَارَ فَيْئًا،
وَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ عَادَ إِلَيْهِ مَالُهُ؛ لأَِنَّ زَوَال
الْعِصْمَةِ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَال الْمِلْكِ؛ وَلاِحْتِمَال
الْعَوْدِ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ،
وَلَوْ تَصَرَّفَ تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ مَوْقُوفَةً فَإِنْ أَسْلَمَ
جَازَ تَصَرُّفُهُ، وَإِنْ قُتِل أَوْ مَاتَ بَطَل تَصَرُّفُهُ وَهَذَا
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَفَصَّل
الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَقْبَل
التَّعْلِيقَ كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ كَانَ تَصَرُّفُهُ
مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ، أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ
الَّتِي تَكُونُ مُنَجَّزَةً وَلاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ
وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى بُطْلاَنِ وَقْفِ
الْعُقُودِ، وَهَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَفِي الْقَدِيمِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً
أَيْضًا كَغَيْرِهَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
لاَ يَزُول مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ
حَالَةَ الإِْسْلاَمِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ
الْحُرِّيَّةُ، وَالْكُفْرُ لاَ يُنَافِي الْمِلْكَ كَالْكَافِرِ
الأَْصْلِيِّ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ جَائِزَةً
كَمَا تَجُوزُ مِنَ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ، أَوْ دَبَّرَ، أَوْ
كَاتَبَ، أَوْ بَاعَ، أَوِ اشْتَرَى، أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ،
إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَال: يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ
الصَّحِيحِ، أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَال: يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ
الْمَرِيضِ
(22/197)
مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ
مُشْرِفٌ عَلَى التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ يُقْتَل فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ
الْمَوْتِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ اسْتِيلاَدَ
الْمُرْتَدِّ وَطَلاَقَهُ وَتَسْلِيمَهُ الشُّفْعَةَ صَحِيحٌ وَنَافِذٌ؛
لأَِنَّ الرِّدَّةَ لاَ تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَصَحَّحَهُ أَبُو
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ - وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّ مِلْكَهُ يَزُول بِرِدَّتِهِ لِزَوَال الْعِصْمَةِ بِرِدَّتِهِ
فَمَالُهُ أَوْلَى، وَلِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ قَال لِوَفْدِ بُزَاخَةَ وَغَطَفَانَ: نَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا
مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ إِلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا؛ وَلأَِنَّ
الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا دَمَهُ بِالرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا
مَالَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَلاَ تَصَرُّفَ لَهُ أَصْلاً لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لَهُ.
وَمَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّ الذَّكَرِ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدَّةِ
الأُْنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَزُول مِلْكُ الْمُرْتَدَّةِ الأُْنْثَى عَنْ
أَمْوَالِهَا بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا؛
لأَِنَّهَا لاَ تُقْتَل فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَال
مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا (1) .
__________
(1) البدائع 7 / 136 - 137، وجواهر الإكليل 1 / 35 و 2 / 279، والمدونة 2 /
318، والدسوقي 4 / 307، والحطاب 6 / 284، ومغني المحتاج 4 / 142 - 143،
والمهذب 2 / 224، والمغني 8 / 128 - 129، وكشاف القناع 6 / 181 - 182
(22/197)
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ:
44 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ حِيل بَيْنَهُمَا فَلاَ يَقْرَبُهَا بِخَلْوَةٍ وَلاَ
جِمَاعٍ وَلاَ نَحْوِهِمَا. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ارْتَدَّ
أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ
مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل؛
لأَِنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي النِّكَاحَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا عَاجِلاً
لاَ طَلاَقًا وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الرِّدَّةُ قَبْل الدُّخُول وَكَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ
الزَّوْجَ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى أَوِ الْمُتْعَةُ، وَإِنْ كَانَتْ
هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلاَ شَيْءَ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ
الْمُرْتَدُّ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ كَانَ ذَلِكَ طَلْقَةً بَائِنَةً، فَإِنْ
رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ لَمْ تَرْجِعْ لَهُ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ،
مَا لَمْ تَقْصِدِ الْمَرْأَةُ بِرِدَّتِهَا فَسْخَ النِّكَاحِ، فَلاَ
يَنْفَسِخُ؛ مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا.
وَقِيل: إِنَّ الرِّدَّةَ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلاَقٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
الْمُسْلِمَيْنِ فَلاَ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَمْضِيَ
عِدَّةُ الزَّوْجَةِ قَبْل أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ،
فَإِذَا
__________
(1) المبسوط للسرخسي 5 / 49، والدر وابن عابدين 2 / 392، وبدائع الصنائع 7
/ 136.
(2) الشرح الكبير والدسوقي 2 / 270، والشامل لبهرام 2 / 171
(22/198)
انْقَضَتْ بَانَتْ مِنْهُ،
وَبَيْنُونَتُهَا مِنْهُ فَسْخٌ لاَ طَلاَقٌ، وَإِنْ عَادَ إِلَى
الإِْسْلاَمِ قَبْل انْقِضَائِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْل
الدُّخُول انْفَسَخَ النِّكَاحُ فَوْرًا وَتَنَصَّفَ مَهْرُهَا إِنْ كَانَ
الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدَّ، وَسَقَطَ مَهْرُهَا إِنْ كَانَتْ هِيَ
الْمُرْتَدَّةَ.
وَلَوْ كَانَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُول فَفِي رِوَايَةٍ تُنْجَزُ
الْفُرْقَةُ. وَفِي أُخْرَى تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ عَلَى انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ (2) .
حُكْمُ زَوَاجِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الرِّدَّةِ:
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ
تَزَوَّجَ فَلاَ يَصِحُّ زَوَاجُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ مِلَّةَ لَهُ، فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً، وَلاَ كَافِرَةً، وَلاَ مُرْتَدَّةً (3)
.
مَصِيرُ أَوْلاَدِ الْمُرْتَدِّ:
46 - مَنْ حُمِل بِهِ فِي الإِْسْلاَمِ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَذَا مَنْ
حُمِل بِهِ فِي حَال رِدَّةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَالآْخَرُ مُسْلِمٌ، قَال
بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ؛ لأَِنَّ بِدَايَةَ
__________
(1) الأم 6 / 149، 150
(2) المحرر 2 / 30، والمغني 8 / 99، ومنتهى الإرادات 2 / 198.
(3) المبسوط 5 / 48، والأم 5 / 51، 6 / 115، والمغني 8 / 546، الذخيرة 2 /
213.
(22/198)
الْحَمْل كَانَ لِمُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، وَإِنْ وُلِدَ خِلاَل الرِّدَّةِ (1) .
لَكِنْ مَنْ كَانَ حَمْلُهُ خِلاَل رِدَّةِ أَبَوَيْهِ كِلَيْهِمَا،
فَفِيهِ خِلاَفٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لأَِبَوَيْهِ فَيُسْتَتَابُ
إِذَا بَلَغَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ
أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ كَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ،
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ كَانَ فِي أُصُول أَبَوَيْهِ
مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، وَاسْتَثْنَى
الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مَا لَوْ أَدْرَكَ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ قَبْل
الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الإِْسْلاَمِ (2) .
إِرْثُ الْمُرْتَدِّ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَال الْمُرْتَدِّ إِذَا قُتِل، أَوْ
مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ - أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَال، وَهَذَا
قَوْل مَالِكٍ (3) ، وَالشَّافِعِيِّ (4) وَأَحْمَدَ (5) .
__________
(1) البدائع 7 / 139، والشامل لابن الصباغ 6 / 601.
(2) الإنصاف 10 / 347، والخرشي 8 / 66، ومغني المحتاج 4 / 142، وأسنى
المطالب 4 / 123.
(3) منح الجليل 4 / 469، والخرشي 8 / 66، الشامل لبهرام 2 / 171
(4) الشامل لابن الصباغ 1 / 101، والأم 6 / 151، 7 / 330.
(5) المغني 6 / 346، والهداية للكلوذاني 203، وقد نقل عن أحمد ثلاثة أقوال
كالشافعية، إلا أن صاحب الإنصاف 10 / 339 قال: إن المذهب كون فيئًا حين
موته.
(22/199)
ب - أَنَّهُ يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ اكْتَسَبَهُ فِي إِسْلاَمِهِ أَوْ رِدَّتِهِ،
وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (1) .
ج - أَنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَال إِسْلاَمِهِ لِوَرَثَتِهِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَال رِدَّتِهِ لِبَيْتِ الْمَال،
وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ لاَ يَرِثُ أَحَدًا مِنْ
أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ لاِنْقِطَاعِ الصِّلَةِ بِالرِّدَّةِ. كَمَا
لاَ يَرِثُ كَافِرًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي صَارَ
إِلَيْهِ. وَلاَ يَرِثُ مُرْتَدٌّ مِثْلَهُ (3) .
وَوَصِيَّةُ الْمُرْتَدِّ بَاطِلَةٌ لأَِنَّهَا مِنَ الْقُرَبِ وَهِيَ
تَبْطُل بِالرِّدَّةِ (4) .
أَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إِحْبَاطِ الْعَمَل:
48 - قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ
وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) }
قَال الأَْلُوسِيُّ تَبَعًا لِلرَّازِيِّ: إِنَّ
__________
(1) المبسوط 10 / 104.
(2) المبسوط 10 / 101، والبدائع 7 / 138، ورحمة للأمة 191
(3) المغني 6 / 343، والإنصاف 7 / 351.
(4) المبسوط لمحمد 142، والمغني 8 / 546، والشامل لبهرام 2 / 171، والخرشي
8 / 68.
(5) سورة البقرة / 217.
(22/199)
مَعْنَى الْحُبُوطِ هُوَ الْفَسَادُ (1) .
وَقَال النَّيْسَابُورِيُّ: إِنَّهُ أَتَى بِعَمَلٍ لَيْسَ فِيهِ
فَائِدَةٌ، بَل فِيهِ مَضَرَّةٌ، أَوْ أَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَهُ
السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا شَرْعًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ الْحُبُوطَ يَكُونُ بِإِبْطَال الثَّوَابِ،
دُونَ الْفِعْل (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (4) إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ
الرِّدَّةِ يُوجِبُ الْحَبْطَ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ (5) . . .}
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: بِأَنَّ الْوَفَاةَ عَلَى الرِّدَّةِ
شَرْطٌ فِي حُبُوطِ الْعَمَل، أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَيَمُتْ
وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (6) }
فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ
يَحْبَطُ ثَوَابُ الْعَمَل فَقَطْ، وَلاَ يُطَالَبُ الإِْعَادَةَ إِذَا
عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَمَاتَ عَلَيْهِ (7) .
__________
(1) روح المعاني 2 / 157.
(2) التفسير الكبير 11 / 148، وغرائب القرآن 2 / 319
(3) ابن عابدين 4 / 400.
(4) روح المعاني 2 / 157، والكشاف 1 / 271، وعمدة القاري 24 / 79، وإرشاد
الساري 10 / 76، وتفسير القرطبي 3 / 48.
(5) سورة المائدة / 5.
(6) سورة البقرة / 217.
(7) القليوبي 4 / 174.
(22/200)
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ
تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْحَجِّ:
49 - يَجِبُ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ وَتَابَ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةِ (2) ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ أَنْ يُعِيدَ
حَجَّهُ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ
لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، بَل يُجْزِئُ الْحَجُّ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْل
رِدَّتِهِ (4) .
تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ
قَضَاءِ الصَّلاَةِ الَّتِي تَرَكَهَا أَثْنَاءَ رِدَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ
كَانَ كَافِرًا، وَإِيمَانُهُ يَجُبُّهَا (5) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ (6) .
وَنُقِل عَنِ الْحَنَابِلَةِ الْقَضَاءُ وَعَدَمُهُ. وَالْمَذْهَبُ
عِنْدَهُمْ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُرْتَدِّ الَّذِي تَابَ صَلاَةٌ فَائِتَةٌ، قَبْل
رِدَّتِهِ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ فَهَل يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (7)
__________
(1) الإشارات مخطوطة مجهولة صاحبها 23
(2) الشامل لبهرام 2 / 171، والخرشي 8 / 68.
(3) القليوبي وعميرة 4 / 174، ومغني المحتاج 4 / 133.
(4) الإنصاف 10 / 338.
(5) ابن عابدين 1 / 357، 4 / 252، والخرشي 8 / 68.
(6) القليوبي 1 / 121، والإعلام 2 / 98، ومغني المحتاج 1 / 130.
(7) ابن عابدين 3 / 302.
(22/200)
وَالشَّافِعِيَّةِ (1) وَالْحَنَابِلَةِ
(2) إِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ مَعْصِيَةٌ،
وَالْمَعْصِيَةُ تَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ.
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الإِْسْلاَمَ
يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ بِتَوْبَتِهِ أَسْقَطَ مَا قَبْل الرِّدَّةِ
(3) .
51 - تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (4) وَالْحَنَابِلَةُ (5) إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ
يُنْتَقَضُ بِالرِّدَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ
الشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ بَيْنِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ (6) .
ذَبَائِحُ الْمُرْتَدِّ:
52 - ذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ لاَ يَجُوزُ أَكْلُهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ مِلَّةَ
لَهُ، وَلاَ يُقَرُّ عَلَى دِينٍ انْتَقَل إِلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ
دِينَ أَهْل الْكِتَابِ (7) .
إِلاَّ مَا نُقِل عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، مِنْ أَنَّ
الْمُرْتَدَّ إِنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْل الْكِتَابِ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ
(8) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 130.
(2) الإنصاف 1 / 391.
(3) الشامل لبهرام 2 / 171، والذخيرة 2 / 214، والخرشي 9 / 68.
(4) الخرشي 1 / 157.
(5) الإنصاف 1 / 219.
(6) المغني 1 / 176 - ط الرياض
(7) المبسوط لمحمد 142، والأم 6 / 155، 7 / 231، والمغني 8 / 549، والإنصاف
10 / 389.
(8) المغني 8 / 549.
(22/201)
رِزْقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّزْقُ لُغَةً الْعَطَاءُ دُنْيَوِيًّا كَانَ أَمْ أُخْرَوِيًّا،
وَالرِّزْقُ أَيْضًا مَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ وَيُتَغَذَّى بِهِ، يُقَال:
أَعْطَى السُّلْطَانُ رِزْقَ الْجُنْدِ، وَرُزِقْتُ عِلْمًا (1)
قَال الْجُرْجَانِيُّ: الرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ إِلَى
الْحَيَوَانِ فَيَأْكُلُهُ، فَيَكُونُ مُتَنَاوِلاً لِلْحَلاَل
وَالْحَرَامِ (2) .
وَالرِّزْقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَا يُفْرَضُ فِي بَيْتِ الْمَال
بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً (3) .
وَقِيل: الرِّزْقُ هُوَ مَا يُجْعَل لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ
يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَطَاءُ:
2 - الْعَطَاءُ لُغَةً اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ أَعْطِيَةٌ،
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) ابن عابدين 5 / 411.
(4) ابن عابدين 5 / 411، والكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 279، والمغرب ص
319
(22/201)
وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَعْطِيَاتٌ (1) .
وَالْعَطَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا يُفْرَضُ فِي كُل سَنَةٍ لاَ
بِقَدْرِ الْحَاجَةِ بَل بِصَبْرِ الْمُعْطَى لَهُ وَغَنَائِهِ فِي أَمْرِ
الدِّينِ.
وَقِيل فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطِيَّةِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ
مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِل، وَالرِّزْقَ مَا يُجْعَل لِفُقَرَاءِ
الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الأَْتْقَانِيِّ أَنَّهُ نَظَرَ فِي هَذَا
الْفَرْقِ (2) .
وَقَال الْحَلْوَانِيُّ: الْعَطَاءُ لِكُل سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ، وَالرِّزْقُ
يَوْمًا بِيَوْمٍ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي
غَالِبِ اسْتِعْمَالاَتِهِمْ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ
فَمُعْتَبَرٌ بِالْكِفَايَةِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ بِهَا (4) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَصْرِفُ (الإِْمَامُ) قَدْرَ حَاجَتِهِمْ - يَعْنِي
أَهْل الْعَطَاءِ - وَكِفَايَتِهِمْ (5) .
قَال النَّوَوِيُّ: يُفَرِّقُ (الإِْمَامُ) الأَْرْزَاقَ فِي كُل عَامٍ
مَرَّةً وَيَجْعَل لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لاَ يَخْتَلِفُ، وَإِذَا
__________
(1) المغرب ص 319
(2) ابن عابدين 5 / 411.
(3) الكليات 3 / 279.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 205، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 242
(5) المغني 6 / 417.
(22/202)
رَأَى مَصْلَحَةً أَنْ يُفَرِّقَ
مُشَاهَرَةً وَنَحْوَهَا فَعَل (1) .
كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُطْلِقُونَ الرِّزْقَ عَلَى مَا يُفْرَضُ مِنْ
بَيْتِ الْمَال لِلْمُقَاتِلَةِ وَلِغَيْرِهِمْ، كَالْقُضَاةِ
وَالْمُفْتِينَ وَالأَْئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ (2) .
أَخْذُ الرِّزْقِ لِلإِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ:
3 - يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى مَا يَتَعَدَّى
نَفْعُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَصَالِحِ، كَالْقَضَاءِ
وَالْفُتْيَا وَالأَْذَانِ وَالإِْمَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ
وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَتَحَمُّل
الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا. كَمَا يُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ
الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ (3) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَلَيْسَ
عِوَضًا وَأُجْرَةً بَل رِزْقٌ لِلإِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَخْذُ
الرِّزْقِ عَلَى الْعَمَل لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً وَلاَ
يَقْدَحُ فِي الإِْخْلاَصِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قَدَحَ مَا اسْتُحِقَّتِ
الْغَنَائِمُ وَسَلَبُ الْقَاتِل (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 363.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 641، وانظر الجوهرة النيرة 2 / 380.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 641، والجوهرة النيرة 2 / 380، وابن عابدين 3 /
280 - 282، وجواهر الإكليل 1 / 260، وحاشية الجمل 5 / 336 - 337، وروضة
الطالبين 1 / 205.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 641.
(22/202)
وَلِلتَّفْصِيل ر: (بَيْتُ الْمَال ف 12 ج
8 ص 251) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْحْكَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالرِّزْقِ:
4 - أ - قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الأَْرْزَاقَ الَّتِي تُطْلَقُ
لِلْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَالْوُلاَةِ يَجُوزُ فِيهَا الدَّفْعُ
وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيل وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ؛ لأَِنَّ
الأَْرْزَاقَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ وَتُصْرَفُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ،
وَقَدْ تَعْرِضُ مَصْلَحَةٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الإِْمَامِ الصَّرْفُ فِيهَا (1) . فَقَدْ كَتَبَ
أَبُو يُوسُفَ فِي رِسَالَتِهِ لأَِمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ
الرَّشِيدِ:
مَا يَجْرِي عَلَى الْقُضَاةِ وَالْوُلاَةِ مِنْ بَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِبَايَةِ الأَْرْضِ أَوْ مِنْ خَرَاجِ الأَْرْضِ
وَالْجِزْيَةِ لأَِنَّهُمْ فِي عَمَل الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ
مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ وَيَجْرِي عَلَى كُل وَالِي مَدِينَةٍ وَقَاضِيهَا
بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِل، وَكُل رَجُلٍ تُصَيِّرُهُ فِي عَمَل
الْمُسْلِمِينَ فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ وَلاَ تُجْرِ
عَلَى الْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ مِنْ مَال الصَّدَقَةِ شَيْئًا إِلاَّ
وَالِيَ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ يُجْرَى عَلَيْهِ مِنْهَا كَمَا قَال
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا (2) } فَأَمَّا
الزِّيَادَةُ فِي أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَالْوُلاَةِ
وَالنُّقْصَانُ مِمَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ إِلَيْكَ، مَنْ
رَأَيْتَ أَنْ تَزِيدَهُ فِي رِزْقِهِ مِنْهُمْ زِدْتَ، وَمَنْ رَأَيْتَ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 3، وتهذيب الفروق 3 / 4.
(2) سورة التوبة / 60.
(22/203)
أَنْ تَحُطَّ رِزْقَهُ حَطَطْتَ، أَرْجُو
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوَسِّعًا عَلَيْكَ (1) .
5 - ب - قَال الْقَرَافِيُّ: أَرْزَاقُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ
يَجُوزُ أَنْ تُنْقَل عَنْ جِهَاتِهَا إِذَا تَعَطَّلَتْ أَوْ وُجِدَتْ
جِهَةٌ هِيَ أَوْلَى بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِهَةِ
الأُْولَى؛ لأَِنَّ الأَْرْزَاقَ مَعْرُوفٌ يَتْبَعُ الْمَصَالِحَ
فَكَيْفَمَا دَارَتْ دَارَ مَعَهَا (2) .
6 - ج - قَال الْقَرَافِيُّ أَيْضًا: الإِْقْطَاعَاتُ الَّتِي تُجْعَل
لِلأُْمَرَاءِ وَالأَْجْنَادِ مِنَ الأَْرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الرِّبَاعِ هِيَ أَرْزَاقُ بَيْتِ الْمَال، وَلَيْسَتْ
إِجَارَةً لَهُمْ، لِذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا مِقْدَارٌ مِنَ الْعَمَل
وَلاَ أَجَلٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ الإِْجَارَةُ، وَلَيْسَ الإِْقْطَاعُ
مُقَدَّرًا كُل شَهْرٍ بِكَذَا، وَكُل سَنَةٍ بِكَذَا حَتَّى تَكُونَ
إِجَارَةً، بَل هُوَ إِعَانَةٌ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ
تَنَاوُلُهُ إِلاَّ بِمَا قَالَهُ الإِْمَامُ مِنَ الشَّرْطِ مِنَ
التَّهَيُّؤِ لِلْحَرْبِ، وَلِقَاءِ الأَْعْدَاءِ، وَالْمُنَاضَلَةِ عَلَى
الدِّينِ، وَنُصْرَةِ كَلِمَةِ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ،
وَالاِسْتِعْدَادِ بِالسِّلاَحِ وَالأَْعْوَانِ عَلَى ذَلِكَ. فَمَنْ لَمْ
يَفْعَل مَا شَرَطَهُ الإِْمَامُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ
التَّنَاوُل؛ لأَِنَّ مَال بَيْتِ الْمَال لاَ يُسْتَحَقُّ إِلاَّ
بِإِطْلاَقِ الإِْمَامِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي أَطْلَقَهُ (3) .
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 186 - 187 نشر السلفية.
(2) الفروق 3 / 3 - 4
(3) الفروق 3 / 5.
(22/203)
7 - د - وَقَال الْقَرَافِيُّ أَيْضًا:
الْمَصْرُوفُ مِنَ الزَّكَاةِ لِلْمُجَاهِدِينَ لَيْسَ أُجْرَةً، بَل هُوَ
رِزْقٌ خَاصٌّ مِنْ مَالٍ خَاصٍّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّزْقِ الْخَاصِّ
وَبَيْنَ أَصْل الأَْرْزَاقِ هُوَ أَنَّ أَصْل الأَْرْزَاقِ يَصِحُّ أَنْ
يَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَال، وَهَذَا يَجِبُ صَرْفُهُ إِمَّا فِي جِهَةِ
الْمُجَاهِدِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ؛
لأَِنَّ جِهَةَ هَذَا الْمَال عَيَّنَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِخْرَاجُهَا فِيهَا
إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ (1) .
8 - هـ - مَا يُصْرَفُ مِنْ جِهَةِ الْحُكَّامِ لِقَسَّامِ الْعَقَارِ
بَيْنَ الْخُصُومِ، وَلِمُتَرْجِمِ الْكُتُبِ عِنْدَ الْقُضَاةِ
وَلِكَاتِبِ الْقَاضِي، وَلأُِمَنَاءِ الْقَاضِي عَلَى الأَْيْتَامِ،
وَلِلْخَرَّاصِ عَلَى خَرْصِ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ مِنَ الدَّوَالِي
أَوِ النَّخْل، وَلِسُعَاةِ الْمَوَاشِي وَالْعُمَّال عَلَى الزَّكَاةِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِل رِزْقٌ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الأَْرْزَاقِ دُونَ أَحْكَامِ الإِْجَارَاتِ (2) .
9 - و - نَقَل الرَّحِيبَانِيُّ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَوْلَهُ:
الأَْرْزَاقُ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الْوَاقِفُونَ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ نَقْدُ
الْبَلَدِ فِيمَا بَعْدُ فَإِنَّهُ يُعْطَى الْمُسْتَحِقُّ مِنْ نَقْدِ
الْبَلَدِ مَا قِيمَتُهُ قِيمَةُ الْمَشْرُوطِ (3) .
__________
(1) الفروق 3 / 7، وتهذيب الفروق 3 / 18.
(2) تهذيب الفروق 3 / 18.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 376.
(22/204)
وَظَائِفُ الإِْمَامِ فِي الْقِسْمَةِ
عَلَى أَهْل الْجِهَادِ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ (1) :
لِلإِْمَامِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَهْل الْجِهَادِ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ
وَظَائِفُ:
10 - إِحْدَاهَا: يَضَعُ دِيوَانًا - وَهُوَ الدَّفْتَرُ الَّذِي يُثْبِتُ
فِيهِ الأَْسْمَاءَ - فَيُحْصِي الْمُرْتَزِقَةَ بِأَسْمَائِهِمْ
وَيُنَصِّبُ لِكُل قَبِيلَةٍ أَوْ عَدَدٍ يَرَاهُ عَرِيفًا لِيَعْرِضَ
عَلَيْهِ أَحْوَالَهُمْ وَيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُثْبِتُ فِيهِ
قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ (2) .
11 - الثَّانِيَةُ: يُعْطِي كُل شَخْصٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ فَيَعْرِفُ
حَالَهُ، وَعَدَدَ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ، وَقَدْرَ نَفَقَتِهِمْ
وَكِسْوَتِهِمْ وَسَائِرِ مُؤْنَتِهِمْ، وَيُرَاعِي الزَّمَانَ
وَالْمَكَانَ وَمَا يَعْرِضُ مِنْ رُخْصٍ وَغَلاَءٍ، وَحَال الشَّخْصِ فِي
مُرُوءَتِهِ وَضِدِّهَا، وَعَادَةَ الْبَلَدِ فِي الْمَطَاعِمِ،
فَيَكْفِيهِ الْمُؤْنَاتِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْجِهَادِ فَيُعْطِيهِ
لأَِوْلاَدِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي نَفَقَتِهِ أَطْفَالاً كَانُوا أَوْ
كِبَارًا، وَكُلَّمَا زَادَتِ الْحَاجَةُ بِالْكِبَرِ زَادَ فِي حِصَّتِهِ
(3) .
12 - الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الإِْمَامُ فِي
الإِْعْطَاءِ وَفِي إِثْبَاتِ الاِسْمِ فِي الدِّيوَانِ قُرَيْشًا عَلَى
سَائِرِ النَّاسِ.
13 - الرَّابِعَةُ: لاَ يُثْبِتُ الإِْمَامُ فِي الدِّيوَانِ اسْمَ
__________
(1) المرتزقة هم: الذين لهم رزق معلوم في بيت المال.
(2) روضة الطالبين 6 / 359، وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 205، وأبي
يعلى ص 240، والمغني 6 / 417.
(3) روضة الطالبين 6 / 359، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 242، والماوردي
ص 205
(22/204)
صَبِيٍّ وَلاَ مَجْنُونٍ وَلاَ امْرَأَةٍ،
وَلاَ ضَعِيفٍ لاَ يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ كَالأَْعْمَى وَالزَّمِنِ،
وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِل إِذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ يُعْطَى
لَهُمْ كَمَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ الرِّجَال
الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ.
وَلَخَّصَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى شَرْطَ إِثْبَاتِ الْجَيْشِ فِي
الدِّيوَانِ فِي خَمْسَةِ أَوْصَافٍ وَهِيَ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ،
وَالإِْسْلاَمُ، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الآْفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ
الْقِتَال، وَالاِسْتِعْدَادُ لِلإِْقْدَامِ عَلَى الْحُرُوبِ (1) .
14 - الْخَامِسَةُ: يُفَرِّقُ الإِْمَامُ الأَْرْزَاقَ فِي كُل عَامٍ
مَرَّةً وَيَجْعَل لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لاَ يَخْتَلِفُ، وَإِذَا رَأَى
مَصْلَحَةً أَنْ يُفَرِّقَ مُشَاهَرَةً وَنَحْوَهَا فَعَل (2) .
وَإِذَا تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ عَنْهُمْ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَكَانَ
حَاصِلاً فِي بَيْتِ الْمَال كَانَ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ
كَالدُّيُونِ الْمُسْتَحَقَّةِ (3) .
وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ دَفَعَ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلاَدِهِ
الصِّغَارِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْطَ ذُرِّيَّتُهُ
بَعْدَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 361 - 363، والأحكام السلطانية للماوردي 203 - 206،
والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 241 - 242، والمغني 6 / 417 - 418، ومجموعة
فتاوى ابن تيمية 8 / 565، والزرقاني 3 / 127.
(2) روضة الطالبين 6 / 363، والأحكام السلطانية للماوردي ص 205 - 206،
والأحكام السلطانية لأبي يعلى 243، والمغني 6 / 417.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 206، وأبي يعلى ص 243
(22/205)
لَمْ يُجَرِّدْ نَفْسَهُ لِلْقِتَال؛
لأَِنَّهُ يَخَافُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الضَّيَاعَ، فَإِذَا عَلِمَ
أَنَّهُمْ يُكْفَوْنَ بَعْدَ مَوْتِهِ سَهُل عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَإِذَا
بَلَغَ ذُكُورُ أَوْلاَدِهِمْ وَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي
الْمُقَاتِلَةِ فَرَضَ لَهُمُ الرِّزْقَ وَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا تُرِكُوا.
وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلاَدِهِ وَهُوَ أَعْمَى أَوْ زَمِنٌ رُزِقَ كَمَا
كَانَ يُرْزَقُ قَبْل الْبُلُوغِ، هَذَا فِي ذُكُورِ الأَْوْلاَدِ أَمَّا
الإِْنَاثُ فَمُقْتَضَى مَا وَرَدَ فِي " الْوَسِيطِ " أَنَّهُنَّ
يُرْزَقْنَ إِلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ (1) .
الْقَوْل الضَّابِطُ فِيمَنْ يَرْعَاهُ الإِْمَامُ:
15 - مَنْ يَرْعَاهُ الإِْمَامُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَال ثَلاَثَةُ
أَصْنَافٍ:
صِنْفٌ مِنْهُمْ مُحْتَاجُونَ وَالإِْمَامُ يَبْغِي سَدَّ حَاجَاتِهِمْ
وَهَؤُلاَءِ مُعْظَمُ مُسْتَحِقِّي الزَّكَوَاتِ فِي الآْيَةِ
الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ. قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ (2) . . .} الآْيَةَ.
وَلِلْمَسَاكِينِ اسْتِحْقَاقٌ فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ كَمَا
يُفَصِّلُهُ الْفُقَهَاءُ، وَهَؤُلاَءِ صِنْفٌ مِنَ الأَْصْنَافِ
الثَّلاَثَةِ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَقْوَامٌ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ كِفَايَتُهُمْ
وَيَدْرَأُ عَنْهُمْ بِالْمَال الْمُوَظَّفِ لَهُمْ حَاجَتَهُمْ،
وَيَتْرُكُهُمْ مَكْفِيِّينَ لِيَكُونُوا مُتَجَرِّدِينَ لِمَا هُمْ
بِصَدَدِهِ مِنْ مَهَامِّ الإِْسْلاَمِ وَهَؤُلاَءِ صِنْفَانِ:
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 363، والمغني 6 / 418، وابن عابدين 3 / 81
(2) سورة التوبة / 60.
(22/205)
16 - أَحَدُهُمَا: الْمُرْتَزِقَةُ وَهُمْ
نَجْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُدَّتُهُمْ وَوَزَرُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهِمْ مَا يَرُمُّ خَلَّتَهُمْ وَيَسُدُّ
حَاجَتَهُمْ وَيَسْتَعِفُّوا بِهِ عَنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ
وَالْمَطَالِبِ، وَيَتَهَيَّئُوا لِمَا رُشِّحُوا لَهُ، وَتَكُونُ
أَعْيُنُهُمْ مُمْتَدَّةً إِلَى أَنْ يُنْدَبُوا فَيَخِفُّوا عَلَى
الْبِدَارِ، وَيُنْتَدَبُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَثَاقَلُوا
وَيَتَشَاغَلُوا بِقَضَاءِ أَرَبٍ وَتَمْهِيدِ سَبَبٍ (1) . فَقَدْ وَرَدَ
عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلاً
فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ
خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا (2)
.
وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ
فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ (3) .
17 - وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الَّذِينَ انْتَصَبُوا لإِِقَامَةِ أَرْكَانِ
الدِّينِ، وَانْقَطَعُوا بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِمْ وَاسْتِقْلاَلِهِمْ بِهَا
عَنِ التَّوَسُّل إِلَى مَا يُقِيمُ أَوَدَهُمْ وَيَسُدُّ خَلَّتَهُمْ،
وَلَوْلاَ قِيَامُهُمْ بِمَا لاَبَسُوهُ لَتَعَطَّلَتْ
__________
(1) الغياثي لإمام الحرمين الجويني ص 244 - 247
(2) حديث: " من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة. . . . " أخرجه أبو داود (3 /
354 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 406 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " من استعملناه على عمل فرزقناه. . . . " أخرجه أبو داود (3 /
353 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 406 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(22/206)
أَرْكَانُ الإِْيمَانِ. فَعَلَى الإِْمَامِ
أَنْ يَكْفِيَهُمْ مُؤَنَهُمْ حَتَّى يَسْتَرْسِلُوا فِيمَا تَصَدَّرُوا
لَهُ بِفَرَاغِ جَنَانٍ، وَتَجَرُّدِ أَذْهَانٍ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ
الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ وَالْقُسَّامُ وَالْمُفْتُونَ
وَالْمُتَفَقِّهُونَ، وَكُل مَنْ يَقُومُ بِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ
الدِّينِ يُلْهِيهِ قِيَامُهُ بِهَا عَمَّا فِيهِ سَدَادُهُ وَقِوَامُهُ.
فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةُ فَالْمَال الْمَخْصُوصُ بِهِمْ أَرْبَعَةُ
أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَالصِّنْفُ الثَّانِي يُدِرُّ عَلَيْهِمْ
كِفَايَتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ (ر: بَيْتُ
الْمَال) .
18 - وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: قَوْمٌ تُصْرَفُ إِلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ
مَال بَيْتِ الْمَال عَلَى غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهَارِهِمْ وَلاَ يُوقَفُ
اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ وَلاَ عَلَى اسْتِيفَاءِ كِفَايَةٍ
وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، فَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُّونَ
سَهْمًا مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ
حَاجَةٍ وَكِفَايَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (1) . وَفِي الْمَسْأَلَةِ
خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آل ف 14 ج 1 ص 105)
(وَخُمُس، وَغَنِيمَة، وَقَرَابَة) .
رِسَالَةٌ
انْظُرْ: إِرْسَال.
__________
(1) الغياثي ص 244 - 247
(22/206)
رُسْغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّسْغُ لُغَةً هُوَ مِنَ الإِْنْسَانِ مَفْصِل مَا بَيْنَ
السَّاعِدِ وَالْكَفِّ، وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَهُوَ مِنَ الْحَيَوَانِ
الْمَوْضِعُ الْمُسْتَدِقُّ الَّذِي بَيْنَ الْحَافِرِ وَمَوْصِل
الْوَظِيفِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْل (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْنْسَانِ
(2) . قَال النَّوَوِيُّ: الرُّسْغُ مَفْصِل الْكَفِّ وَلَهُ طَرَفَانِ
وَهُمَا عَظْمَانِ: الَّذِي يَلِي الإِْبْهَامَ كُوعٌ، وَالَّذِي يَلِي
الْخِنْصَرَ كُرْسُوغٌ (3) .
وَيَذْكُرُونَ الْكُوعَ وَالرُّسْغَ فِي بَيَانِ حَدِّ الْيَدِ
الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ وَمَسْحِهَا فِي
التَّيَمُّمِ، وَقَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير، مادة: (رسغ) .
(2) العناية بهامش فتح القدير 1 / 19 نشر دار إحياء التراث العربي، والبحر
الرائق 1 / 18.
(3) المجموع 2 / 227 - 228
(4) انظر المغني 1 / 99، 100، 255
(22/207)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ:
2 - يُسَنُّ غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ
الْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ قَامَ مِنَ النَّوْمِ أَمْ لَمْ
يَقُمْ؛ لأَِنَّهَا الَّتِي تُغْمَسُ فِي الإِْنَاءِ وَتَنْقُل مَاءَ
الْوُضُوءِ إِلَى الأَْعْضَاءِ فَفِي غَسْلِهِمَا إِحْرَازٌ لِجَمِيعِ
الْوُضُوءِ (1) . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ؛ وَلأَِنَّهُ وَرَدَ غَسْلُهُمَا فِي صِفَةِ وُضُوءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي رَوَاهَا عُثْمَانُ،
وَكَذَلِكَ فِي وَصْفِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا
لِوُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَقِيل: إِنَّهُ فَرْضٌ وَتَقْدِيمُهُ سُنَّةٌ، وَاخْتَارَهُ فِي فَتْحِ
الْقَدِيرِ وَالْمِعْرَاجِ وَالْخَبَّازِيَّةِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْل
مُحَمَّدٍ فِي الأَْصْل (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ غَمْسِ الْيَدِ فِي الإِْنَاءِ قَبْل
غَسْلِهَا، وَحُكْمِ غَسْل الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ
اللَّيْل أَوْ نَوْمِ النَّهَارِ، وَكَيْفِيَّةِ غَسْلِهِمَا تُنْظَرُ
مُصْطَلَحَاتُ: (نَوْم، وُضُوء، وَيَد) .
مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الأَْيْدِي الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 36، وتبيين الحقائق 1 / 3، 4، والفتاوى الهندية 1 / 6،
والبحر الرائق 1 / 18، والمغني 1 / 97 - 100، وروضة الطالبين 1 / 58،
وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 157، نشر دار المعرفة.
(2) حديث: " صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه مسلم (1 / 204،
205 - ط الحلبي) من حديث عثمان بن عفان.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 6.
(22/207)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَسْحِهَا فِي
التَّيَمُّمِ فِي قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ (1) } عَلَى الاِتِّجَاهَاتِ الآْتِيَةِ:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَمَالِكٌ فِي
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وُجُوبَ اسْتِيعَابِ الْيَدَيْنِ إِلَى
الْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَسْحِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ
لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (3) .
وَكَذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ الأَْسْلَعِ قَال: كُنْتُ أَخْدُمُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيل بِآيَةِ
التَّيَمُّمِ، فَأَرَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَيْفَ الْمَسْحُ لِلتَّيَمُّمِ، فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ الأَْرْضَ
ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَمَسَحْتُ بِهِمَا وَجْهِي، ثُمَّ ضَرَبْتُ بِهِمَا
الأَْرْضَ فَمَسَحْتُ بِهِمَا يَدَيَّ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) مراقي الفلاح ص 64 - 65، والبناية 1 / 495، وروضة الطالبين 1 / 112،
وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 1 / 321 - 322، وبداية المجتهد 1 / 68 - 69
نشر دار المعرفة.
(3) حديث: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة. . . . " أخرجه الدارقطني (1
/ 180 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمر، ثم صوب رواية من وقفه على
ابن عمر.
(4) حديث الأسلع: " في صفة المسح " أخرجه البيهقي في السنن (1 / 208 - ط
دائرة المعارف العثمانية) من حديث الأسلع، وقال: " الربيع بن بدر - يعني
راويه - ضعيف. إلا أنه غير منفرد به، وقد روينا هذا القول من التابعين عن
سالم بن عبد الله، والحسن البصري، والشعبي، وإبرا
(22/208)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ
- فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْهُ - وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ
الأُْخْرَى وَعَلَيْهَا جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى
الْقَدِيمِ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالأَْعْمَشُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ
الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
وَقَالُوا فِي وَجْهِ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ: إِنَّ الْحُكْمَ إِذَا
عُلِّقَ بِمُطْلَقِ الْيَدَيْنِ لَمْ يَدْخُل فِيهِ الذِّرَاعُ كَقَطْعِ
السَّارِقِ وَمَسِّ الْفَرْجِ (1) . كَمَا احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمَّارٍ
قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ
كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَال: إِنَّمَا كَانَ
يَكْفِيكَ أَنْ تَقُول بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ
الأَْرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَال عَلَى الْيَمِينِ
وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ
وَالْكَفَّيْنِ (2) . وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
وَابْنُ
__________
(1) المبسوط 1 / 107، ومراقي الفلاح 1 / 65، وحاشية العدوي على شرح الرسالة
1 / 203 نشر دار المعرفة. وروضة الطالبين 1 / 112، وكشاف القناع 1 / 174 -
175، والمغني 1 / 254 - 255
(2) حديث عمار: " بعثني رسول الله في حاجة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1
/ 456 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 280 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(22/208)
شِهَابٍ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ
الْمَسْحُ إِلَى الْمَنَاكِبِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَيَمُّم) .
مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ:
4 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي
السَّرِقَةِ هُوَ قَطْعُ الْيُمْنَى مِنَ الرُّسْغِ؛ لأَِنَّ الْمَنْصُوصَ
قَطْعُ الْيَدِ، وَقَطْعُ الْيَدِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الرُّسْغِ، وَقَدْ
يَكُونُ مِنَ الْمِرْفَقِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمَنْكِبِ، وَلَكِنْ
هَذَا الإِْبْهَامُ زَال بِبَيَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الرُّسْغِ؛
وَلأَِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ إِنَّمَا
يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَرِقَة) .
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 69، والمبسوط 1 / 107، والمنتقى 1 / 114
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 133 - 134، والمغني 8 / 259 - 260، وروضة الطالبين
10 / 140، والزرقاني 8 / 92.
(22/209)
رَسُولٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّسُول فِي اللُّغَةِ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ الْمُرْسِل بِأَدَاءِ
الرِّسَالَةِ بِالتَّسْلِيمِ أَوِ الْقَبْضِ، وَالَّذِي يُتَابِعُ
أَخْبَارَ الَّذِي بَعَثَهُ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ جَاءَتِ الإِْبِل
رَسَلاً: أَيْ مُتَتَابِعَةً قَطِيعًا بَعْدَ قَطِيعٍ.
وَسُمِّيَ الرَّسُول رَسُولاً؛ - لأَِنَّهُ ذُو رِسَالَةٍ.
وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَرْسَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ فُلاَنًا فِي
رِسَالَةٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَرَسُولٌ.
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: وَالرَّسُول يُقَال تَارَةً لِلْقَوْل
الْمُتَحَمَّل كَقَوْل الشَّاعِرِ:
أَلاَ أَبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولاً
وَتَارَةً لِمُتَحَمِّل الْقَوْل (1) .
وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ
وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ، كَمَا يَجُوزُ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ
فَيُجْمَعُ عَلَى رُسُلٍ. كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2) } ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَقُولاَ
إِنَّا رَسُول رَبِّ الْعَالَمِينَ (3) } .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والتعريفات للجرجاني وغريب القرآن
للأصفهاني مادة: " رسل ".
(2) سورة التوبة / 128.
(3) سورة الشعراء / 16.
(22/209)
وَلِلرَّسُول فِي الاِصْطِلاَحِ
مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الشَّخْصُ الْمُرْسَل مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى آخَرَ
بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ بِهَذَا
الْمَعْنَى فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَال) .
وَالثَّانِي: الْوَاحِدُ مِنْ رُسُل اللَّهِ.
وَيُرَادُ بِرُسُل اللَّهِ تَارَةً الْمَلاَئِكَةُ مِثْل قَوْله تَعَالَى:
{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُل رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ (1) }
وَقَوْلِهِ: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (2) } وَقَوْلِهِ:
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ (3) } ، وَتَارَةً
يُرَادُ بِهِمُ الأَْنْبِيَاءُ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل (4) } .
وَالرَّسُول مِنَ الْبَشَرِ هُوَ ذَكَرٌ حُرٌّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ
بِشَرْعٍ وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ
فَنَبِيٌّ فَحَسْبُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَجِبُ عَلَى الرَّسُول مِنْ قِبَل اللَّهِ تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ
إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُول
بَلِّغْ مَا أُنْزِل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (5) } .
__________
(1) سورة هود / 8.
(2) سورة الزخرف / 80.
(3) سورة هود / 77.
(4) سورة آل عمران / 144.
(5) سورة المائدة / 67.
(22/210)
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ
الرُّسُل الإِْيمَانُ بِهِمْ وَتَصْدِيقُهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ
وَمُتَابَعَتُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ.
حُكْمُ مَنْ سَبَّ رَسُولاً مِنَ الرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ:
3 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى كُفْرِ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ
نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، أَوْ رِسَالَةَ أَحَدٍ مِنَ الرُّسُل
عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ كَذَّبَهُ، أَوْ سَبَّهُ، أَوِ
اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوْ سَخِرَ مِنْهُ، أَوِ اسْتَهْزَأَ بِسُنَّةِ
رَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ
تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (1) } الآْيَةَ.
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
مُهِينًا (2) } .
كَمَا أَنَّ مَنْ سَبَّ الرَّسُول يُقْتَل (3) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة، وَتَوْبَة) .
وَيُمَاثِل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ
بَقِيَّةُ الرُّسُل وَالأَْنْبِيَاءُ وَالْمَلاَئِكَةُ، فَمَنْ سَبَّهُمْ
أَوْ لَعَنَهُمْ، أَوْ عَابَهُمْ أَوْ قَذَفَهُمْ أَوِ اسْتَخَفَّ
بِحَقِّهِمْ، أَوْ أَلْحَقَ بِهِمْ نَقْصًا، أَوْ غَضَّ مِنْ
مَرْتَبَتِهِمْ أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِمْ
__________
(1) سورة التوبة / 65 - 66
(2) سورة الأحزاب / 57.
(3) ابن عابدين 3 / 390، الشفاء للقاضي عياض 2 / 952، المغني لابن قدامة 8
/ 123، 150، مغني المحتاج 4 / 135، جواهر الإكليل 2 / 280.
(22/210)
مَا لاَ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِمْ عَلَى
طَرِيقِ الذَّمِّ قُتِل (1) . وَالتَّفْصِيل فِي: (تَوْبَة، رِدَّة) .
الذَّبْحُ بِاسْمِ رَسُول اللَّهِ:
4 - لاَ يَجُوزُ الذَّبْحُ بِاسْمِ رَسُول اللَّهِ، وَلاَ بِاسْمِ اللَّهِ
وَمُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ - بِالْجَرِّ - حَيْثُ يَجِبُ تَجْرِيدُ اسْمِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ اسْمِ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (2) } الآْيَةَ،
وَقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَرِّدُوا
التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا إِشْرَاكُ اسْمِ اللَّهِ
عَزَّ شَأْنُهُ وَاسْمِ غَيْرِهِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (ذَبَائِح) .
حِمَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
5 - كَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَحْمِيَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا " حَمَى النَّقِيعَ لِخَيْل الْمُسْلِمِينَ
(4) " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: حَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الرَّبَذَةَ لإِِبِل الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَخَيْل
الْمُجَاهِدِينَ (5) .
__________
(1) المصادر السابقة نفسها.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) البدائع 5 / 48، وروضة الطالبين 3 / 205، ومواهب الجليل 1 / 18
(4) حديث: " حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين "
أخرجه البيهقي (6 / 146 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عمر،
وضعفه ابن حجر في الفتح (5 / 45 - ط السلفية) .
(5) حديث: " حمى الربذة لإبل الصدقة " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 /
158 - ط القدسي) ، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح ".
(22/211)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ
مَا حَمَاهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا حَمَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَصٌّ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ أَنْ يَنْقُضَهُ،
وَأَنْ يُغَيَّرَ بِحَالٍ، سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْحَاجَةُ الَّتِي حَمَى
لَهَا أَمْ زَالَتْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ حُكْمُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَقْضٍ وَلاَ إِبْطَالٍ؛
وَلأَِنَّ هَذَا تَغْيِيرُ الْمَقْطُوعِ بِصِحَّتِهِ بِاجْتِهَادٍ
بِخِلاَفِ حِمَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْئِمَّةِ وَالْخُلَفَاءِ فَيَجُوزُ
نَقْضُهُ لِلْحَاجَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ نَقْضِ مَا حَمَاهُ الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زَالَتِ الْحَاجَةُ الَّتِي حَمَى
مِنْ أَجْلِهَا (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ
الْمَوَاتِ، وَحِمَى) .
رُسُل أَهْل الْحَرْبِ وَالْمُوَادَعَةِ:
6 - أَهْل الْحَرْبِ وَالْمُوَادَعَةِ إِذَا أَرْسَلُوا أَحَدًا إِلَى
دِيَارِ الإِْسْلاَمِ لِتَبْلِيغِ رِسَالَةٍ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ
الرِّسَالَةَ إِلَى الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤَمِّنُ رُسُل الْمُشْرِكِينَ، وَلَمَّا
جَاءَهُ رَسُولاَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَال لَهُمَا: لَوْلاَ أَنَّ
الرُّسُل لاَ تُقْتَل
__________
(1) الأحكام السلطانية ص 185، روضة الطالبين 5 / 292، جواهر الإكليل 1 /
274، 2 / 202، نهاية المحتاج 5 / 338.
(22/211)
لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا (1) ؛ وَلأَِنَّ
الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى عَقْدِ الأَْمَانِ لِلرُّسُل، فَإِنَّنَا لَوْ
قَتَلْنَا رُسُلَهُمْ لَقَتَلُوا رُسُلَنَا، فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ
الْمُرَاسَلَةِ.
وَعَقْدُ الأَْمَانِ لِلرَّسُول يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، كَمَا
يَجُوزُ أَنْ يُقَيَّدَ بِمُدَّةٍ حَسَبَ الْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا إِذَا
لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ مَوْجُودًا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، فَإِنْ
كَانَ الإِْمَامُ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُول (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَمَان، حَرَم) .
__________
(1) حديث: " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " أخرجه أبو داود (3 /
192 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأحمد (3 / 488 - ط الميمنية) من حديث نعيم
بن مسعود الأشجعي وإسناده حسن.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 227، القوانين الفقهية ص 159، روضة الطالبين 10 /
280، 309، 244، حاشية الجمل 5 / 212، المغني لابن قدامة 8 / 531، تفسير
القرطبي 8 / 104، مغني المحتاج 4 / 227، 243، أحكام القرآن لابن العربي 2 /
901.
(22/212)
رُشْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ
وَالاِسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَهُوَ
خِلاَفُ الْغَيِّ وَالضَّلاَل، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: رَشِدَ رُشْدًا مِنْ
بَابِ تَعِبَ، وَرَشَدَ يَرْشُدُ مِنْ بَابِ قَتَل، فَهُوَ رَاشِدٌ،
وَالاِسْمُ الرَّشَادُ.
وَالرَّشِيدُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ، وَالَّذِي حَسُنَ تَقْدِيرُهُ، قَال فِي اللِّسَانِ: وَمِنْ
أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الرَّشِيدُ: هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ الْخَلْقَ
إِلَى مَصَالِحِهِمْ أَيْ هَدَاهُمْ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا، فَهُوَ
رَشِيدٌ بِمَعْنَى مُرْشِدٍ، وَقِيل: هُوَ الَّذِي تَنْسَاقُ
تَدْبِيرَاتُهُ إِلَى غَايَاتِهَا عَلَى سَبِيل السَّدَادِ مِنْ غَيْرِ
إِشَارَةِ مُشِيرٍ وَلاَ تَسْدِيدِ مُسَدِّدٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ تَعْرِيفُهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ، وَالرَّشَدُ أَخَصُّ مِنَ الرُّشْدِ فَإِنَّهُ يُقَال فِي
الأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ، وَالرَّشَدُ مُحَرَّكَةٌ
فِي
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: "
رشد ".
(22/212)
الأُْمُورِ الأُْخْرَوِيَّةِ لاَ غَيْرَ
(1) .
وَالرُّشْدُ الْمُشْتَرَطُ لِتَسْلِيمِ الْيَتِيمِ مَالَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِمَّا يُشْتَرَطُ لَهُ الرُّشْدُ هُوَ صَلاَحُ الْمَال عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَصَلاَحُ الْمَال وَالدِّينِ مَعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِرَفْعِ الْحَجْرِ لِلرُّشْدِ ابْتِدَاءً، فَلَوْ
فَسَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالصَّلاَحِ فِي الدِّينِ أَنْ لاَ يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا
يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ. وَفِي الْمَال: أَنْ لاَ يُبَذِّرَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْهْلِيَّةُ:
2 - الأَْهْلِيَّةُ لُغَةً: الصَّلاَحِيَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَهْلِيَّةُ
وُجُوبٍ، وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ.
فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ: صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ
الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 95 ط النصر، المغني 4 / 516ط. الرياض، حاشية
القليوبي 2 / 301 ط. الحلبي، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 383 ط.
المعارف، الإنصاف 5 / 322 ط. التراث.
(3) تفسير الفخر الرازي 9 / 189 ط. الأولى، روضة الطالبين 4 / 180 ط.
المكتب الإسلامي، المهذب 1 / 338 ط. الحلبي، بداية المجتهد 2 / 305 ط.
الكليات الأزهرية.
(22/213)
لِصُدُورِ الْفِعْل مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ
يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.
هَذَا وَالرُّشْدُ هُوَ الْمَرْحَلَةُ الأَْخِيرَةُ مِنْ مَرَاحِل
الأَْهْلِيَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ
وَارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْوِلاَيَةُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِلاَ
خِلاَفٍ (1) .
ب - الْبُلُوغُ:
3 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الاِحْتِلاَمُ وَالإِْدْرَاكُ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ
تَنْقُلُهُ مِنْ حَال الطُّفُولَةِ إِلَى حَال الرُّجُولَةِ، وَهُوَ
يَحْصُل بِظُهُورِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ
كَالاِحْتِلاَمِ، وَكَالْحَبَل وَالْحَيْضِ فِي الأُْنْثَى، فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ،
وَالرُّشْدُ وَالْبُلُوغُ قَدْ يَحْصُلاَنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ
يَتَأَخَّرُ الرُّشْدُ عَنِ الْبُلُوغِ تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ
وَاسْتِعْدَادِهِ (2) .
ج - التَّبْذِيرُ:
4 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقٌّ مِنْ بَذْرِ الْحَبِّ فِي الأَْرْضِ،
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَفْرِيقُ الْمَال عَلَى وَجْهِ الإِْسْرَافِ.
وَالتَّبْذِيرُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الصَّلاَحِ فِي الْمَال،
فَمَنْ كَانَ مُبَذِّرًا كَانَ سَفِيهًا أَيْ غَيْرَ رَشِيدٍ (3) .
__________
(1) الموسوعة 7 / 151 مصطلح (أهلية) .
(2) الموسوعة الفقهية 7 / 160 مصطلح (أهلية) ، 8 / 186 مصطلح (بلوغ) .
(3) المصباح مادة: " بذر "، التعريفات للجرجاني / 72 ط. الكتاب العربي،
تحفة المحتاج 5 / 168 ط. دار صادر.
(22/213)
د - الْحَجْرُ:
5 - وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ مَنْعَ مَوْصُوفِهَا مِنْ
نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي الزَّائِدِ عَلَى قُوتِهِ أَوْ تَبَرُّعِهِ
بِمَالِهِ، أَوِ الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَجْرِ وَالرُّشْدِ أَنَّ الْحَجْرَ أَثَرٌ مِنْ
آثَارِ فِقْدَانِ الرُّشْدِ (1) .
هـ - السَّفَهُ:
6 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْل وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِفَّةٌ تَعْتَرِي الإِْنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى
التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْل، مَعَ عَدَمِ
الاِخْتِلاَل فِي الْعَقْل، وَالسَّفَهُ نَقِيضُ الرُّشْدِ (2) .
وَقْتُ الرُّشْدِ وَكَيْفِيَّةُ مَعْرِفَتِهِ:
7 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّشْدَ الْمُعْتَدَّ بِهِ
__________
(1) المصباح مادة: " حجر "، حاشية ابن عابدين 5 / 89 ط. المصرية، جواهر
الإكليل 2 / 97 ط. المعرفة، حاشية القليوبي 2 / 299 ط. الحلبي، المغني 4 /
505 ط. الرياض.
(2) المصباح مادة: " سفه " التلويح على التوضيح 2 / 191 ط. صبيح، التقرير
والتحبير 2 / 201 ط. الأميرية، كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 369 ط.
دار الكتاب العربي، البحر الرائق 8 / 91 ط. العلمية.
(22/214)
لِتَسْلِيمِ الْمَال لِلْيَتِيمِ لاَ
يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِهِ
اسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ حَتَّى وَلَوْ صَارَ شَيْخًا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَهَذَا الرُّشْدُ قَدْ يَأْتِي مَعَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ
عَنْهُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ
وَاسْتِعْدَادِهِ وَتَعَقُّدِ الْحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ أَوْ
بَسَاطَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ،
وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (2) } .
وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ وَكَانَ عَاقِلاً كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ،
وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ أَنَّهُ
لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، بَل تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ
وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ بِالْفِعْل، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ
أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لأَِنَّ
مَنْعَ الْمَال عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيل الاِحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ،
وَلَيْسَ عَلَى سَبِيل الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ
يَرَى الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، وَالإِْنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِ هَذِهِ
السِّنَّ وَصَلاَحِيَتِهِ لأََنْ يَكُونَ جَدًّا لاَ يَكُونُ أَهْلاً
لِلتَّأْدِيبِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 37 ط. دار الكتب المصرية.
(2) سورة النساء / 5، 6
(22/214)
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ كَمُلَتْ
أَهْلِيَّتُهُ، وَلَكِنْ لاَ تَرْتَفِعُ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، وَتَبْقَى
أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ
رُشْدُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ
فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (1) } فَإِنَّهُ مَنَعَ
الأَْوْلِيَاءَ وَالأَْوْصِيَاءَ مِنْ دَفْعِ الْمَال إِلَى السُّفَهَاءِ،
وَنَاطَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِمْ بِتَوَافُرِ أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ
وَالرُّشْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ الْمَال إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ
مَعَ عَدَمِ الرُّشْدِ (2) .
8 - وَيُعْرَفُ رُشْدُ الصَّبِيِّ بِاخْتِبَارِهِ لِقَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ (3)
} يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُهُ بِأَنْ تُفَوِّضَ إِلَيْهِ
التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ وَذَلِكَ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، فَوَلَدُ التَّاجِرِ
يُخْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُمَاكَسَةِ فِيهِمَا،
وَوَلَدُ الزَّارِعِ فِي أَمْرِ الزِّرَاعَةِ وَالإِْنْفَاقِ عَلَى
الْقُوَّامِ بِهَا، وَالْمُحْتَرِفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحِرْفَتِهِ،
وَالْمَرْأَةُ فِي أَمْرِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِل، وَحِفْظِ الثِّيَابِ،
وَصَوْنِ الأَْطْعِمَةِ
__________
(1) سورة النساء / 5، 6
(2) ابن عابدين 5 / 95، الفتاوى الهندية 5 / 56، جواهر الإكليل 1 / 161، 2
/ 98، والروضة 4 / 177، 178، حاشية القليوبي 2 / 301، والمغني 4 / 506،
كشاف القناع 3 / 452.
(3) سورة النساء / 6.
(22/215)
وَشِبْهِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْبَيْتِ،
وَلاَ تَكْفِي الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الاِخْتِبَارِ بَل لاَ بُدَّ
مِنْ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ بِحَيْثُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ
بِرُشْدِهِ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ الاِخْتِبَارِ
أَصَحُّهُمَا: أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ قَدْرٌ مِنَ الْمَال وَيُمْتَحَنَ
فِي الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُسَاوَمَةِ فَإِذَا آل الأَْمْرُ إِلَى
الْعَقْدِ، عَقَدَ الْوَلِيُّ.
وَالثَّانِي: يَعْقِدُ الصَّبِيُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدُ
لِلْحَاجَةِ، وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ الْمَال الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ
لِلاِخْتِبَارِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَلِيِّ (2) .
وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا وَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ
اخْتِبَارِ الصَّبِيِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَأَمَّل أَخْلاَقَهُ وَيَسْتَمِعَ إِلَى أَغْرَاضِهِ،
فَيَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ بِنَجَابَتِهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِالسَّعْيِ فِي
مَصَالِحِهِ، وَضَبْطِ مَالِهِ، أَوِ الإِْهْمَال لِذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ إِنْ
تَوَسَّمَ الْخَيْرَ مِنْهُ وَيُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَإِنْ
نَمَّاهُ وَأَحْسَنَ النَّظَرَ فِيهِ فَلْيُسَلِّمْ إِلَيْهِ مَالَهُ
جَمِيعَهُ، وَإِنْ أَسَاءَ النَّظَرَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ
مَالِهِ عَنْهُ (3) .
9 - وَأَمَّا وَقْتُ الاِخْتِبَارِ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ
الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْل الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى
__________
(1) المغني 4 / 517 ط. الرياض، روضة الطالبين 4 / 181 ط. المكتب الإسلامي.
(2) روضة الطالبين 4 / 181 ط. المكتب الإسلامي.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 320 ط. الحلبي.
(22/215)
إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ (1) } الآْيَةَ
فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الآْيَةِ يَدُل عَلَى أَنَّ ابْتِلاَءَهُمْ قَبْل
الْبُلُوغِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّاهُمْ يَتَامَى، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ يَتَامَى
قَبْل الْبُلُوغِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَدَّ اخْتِبَارَهُمْ إِلَى الْبُلُوغِ بِلَفْظَةِ
حَتَّى، فَدَل عَلَى أَنَّ الاِخْتِبَارَ قَبْلَهُ؛ وَلأَِنَّ تَأْخِيرَ
الاِخْتِبَارِ إِلَى الْبُلُوغِ يُؤَدِّي إِلَى الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ
الرَّشِيدِ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ يَمْتَدُّ إِلَى أَنْ يُخْتَبَرَ وَيُعْلَمَ
رُشْدُهُ، وَاخْتِبَارُهُ قَبْل الْبُلُوغِ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَكَانَ
أَوْلَى، لَكِنْ لاَ يُخْتَبَرُ إِلاَّ الْمُرَاهِقُ (2) الْمُمَيِّزُ
الَّذِي يَعْرِفُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْمَصْلَحَةَ مِنَ
الْمَفْسَدَةِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لأَِنَّهُ
قَبْلَهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، إِذِ الْبُلُوغُ الَّذِي هُوَ
مَظِنَّةُ الْعَقْل لَمْ يُوجَدْ، فَكَانَ عَقْلُهُ بِمَنْزِلَةِ
الْمَعْدُومِ.
وَلَمْ يُجَوِّزْ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِلصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِل
التِّجَارَةَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ مَالاً
لِيَتَّجِرَ بِهِ حَيْثُ قَال فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: لاَ
أَرَى ذَلِكَ جَائِزًا؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ مُولًى عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ
مُولًى عَلَيْهِ فَلاَ أَرَى الإِْذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إِذْنًا.
وَقَال فِي الْيَتِيمِ الَّذِي بَلَغَ وَاحْتَلَمَ وَالَّذِي لاَ يَعْلَمُ
عَنْهُ وَلِيُّهُ إِلاَّ خَيْرًا فَأَعْطَاهُ ذَهَبًا بَعْدَ
__________
(1) سورة النساء / 6.
(2) المراهق: هو الغلام الذي قارب الاحتلام ولم يحتلم بعد، (المصباح) مادة:
" رهق ".
(22/216)
احْتِلاَمِهِ لِيَخْتَبِرَهُ بِهِ وَأَذِنَ
لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِيَخْتَبِرَهُ بِذَلِكَ، أَوْ لِيَعْرِفَ،
فَدَايَنَ النَّاسَ فَرَهِقَهُ دَيْنٌ: لاَ أَرَى أَنْ يُعَدَّى عَلَيْهِ
فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، لاَ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَلاَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قِيل لِمَالِكٍ: إِنَّهُ قَدْ أَمْكَنَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ،
أَفَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ؟ قَال: لاَ، لَمْ يَدْفَعْ
إِلَيْهِ مَالَهُ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إِلَيْهِ
لِيَخْتَبِرَهُ بِهِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ. وَجَاءَ فِي نِهَايَةِ
الْمُحْتَاجِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ
بِالاِخْتِبَارِ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَكُونُ قَبْل الْبُلُوغِ كُل
وَلِيٍّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ
فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الاِخْتِبَارَ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْحَاكِمِ فَقَطْ.
وَنَسَبَ الْجُورِيُّ الأَْوَّل إِلَى عَامَّةِ الأَْصْحَابِ، وَالثَّانِيَ
إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ.
وَلاَ فَرْقَ فِي وَقْتِ الاِخْتِبَارِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى
عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ فِي مَوْضِعٍ إِلَى
أَنَّ الاِخْتِبَارَ قَبْل الْبُلُوغِ خَاصٌّ بِالْمُرَاهِقِ الَّذِي
يَعْرِفُ الْمُعَامَلَةَ وَالْمَصْلَحَةَ، بِخِلاَفِ الْجَارِيَةِ لِنَقْصِ
خِبْرَتِهَا، وَأَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُمَا سَوَاءٌ (1) .
دَفْعُ الْمَال إِلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِل غَيْرِ الرَّشِيدِ:
10 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْغُلاَمَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ
__________
(1) روح المعاني 4 / 204 ط. المنيرية، المدونة الكبرى 5 / 223 ط. دار صادر،
روضة الطالبين 4 / 181 ط. المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 4 / 352 - 353 ط.
المكتبة الإسلامية، المهذب 1 / 338 ط. الحلبي، المبدع 4 / 335 - 336 ط.
المكتب الإسلامي، الكافي 2 / 195 ط. المكتب الإسلامي، الإنصاف 5 / 323 ط.
التراث، المغني 4 / 518 ط. الرياض.
(22/216)
رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ مَالُهُ
حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْل
ذَلِكَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ
الْعَاقِل الْبَالِغِ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى الْعَامَّةِ
كَالطَّبِيبِ الْجَاهِل، وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالْمُكَارِي
الْمُفْلِسِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ
إِلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَبِهِ قَال
زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْل وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْشْهَرِ
إِلَى عَدَمِ جَوَازِ دَفْعِ الْمَال إِلَى غَيْرِ الرَّشِيدِ حَتَّى
يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ
عَنْهُ حَتَّى وَلَوْ صَارَ شَيْخًا، وَلاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي
مَالِهِ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْل الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ مِنْ أَهْل
الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُل
مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَلَمْ يُفَرِّقِ
الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ زَادُوا فِي حَقِّ الأُْنْثَى لِفَكِّ
الْحَجْرِ عَنْهَا دُخُول زَوْجٍ بِهَا وَشَهَادَةَ الْعُدُول بِحِفْظِهَا
مَالِهَا.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي مُقَابِل الأَْشْهَرِ وَالأَْصَحِّ
(22/217)
عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ لاَ
يُدْفَعُ إِلَيْهَا مَالُهَا بَعْدَ رُشْدِهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَتَلِدَ
أَوْ تُقِيمَ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ سَنَةً. وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ
وَالْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ لِمَا رَوَى شُرَيْحٌ قَال:
عَهِدَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لاَ أُجِيزَ لِجَارِيَةٍ
عَطِيَّةً حَتَّى تَحُول فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلاً أَوْ تَلِدَ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْخِلاَفَ بَيْنَ أَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَى
الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَالْغَفْلَةِ إِنَّمَا
مَحَلُّهُ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِل الْفَسْخَ وَيُبْطِلُهَا
الْهَزْل، وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْفَسْخَ وَلاَ
يُبْطِلُهَا الْهَزْل فَلاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِيهَا بِالإِْجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ فَيَكُونُ فِي
أَحْكَامِهِ كَصَغِيرٍ (1) .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
__________
(1) البناية 8 / 236 ط. الفكر، تبيين الحقائق 5 / 195 ط. بولاق، ابن عابدين
5 / 93 - 95 ط. بولاق، الطحطاوي على الدر المختار 4 / 80 ط. بولاق، الفتاوى
الهندية 5 / 56 ط. المكتبة الإسلامية، تفسير القرطبي 5 / 37 ط. الأولى،
الدسوقي 3 / 293 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 98 ط. المعرفة، أحكام القرآن
لابن العربي 1 / 322 ط. الحلبي، أسهل المدارك 3 / 3 - 4 ط. الحلبي، الشرح
الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 383 ط. المعارف، الخرشي 5 / 296 ط. بولاق، روضة
الطالبين 4 / 181 - 182 ط. المكتب الإسلامي، المهذب 1 / 338 ط. الحلبي،
حاشية القليوبي 2 / 302 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 4 / 353 ط. المكتبة
الإسلامية، تحفة المحتاج 5 / 170 ط. دار صادر، التفسير الكبير للرازي 9 /
189 ط. البهية، الكافي 2 / 196 ط. المكتب الإسلامي، المبدع 4 / 335، 342،
343 ط. المكتب الإسلامي، المغني 4 / 506 ط. الرياض.
(22/217)
بِالطَّيِّبِ (1) } فَإِنَّ الْمُرَادَ
بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمَال
إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَنَعَ عَنْهُ مَالَهُ قَبْل
هَذِهِ الْمُدَّةِ بِالإِْجْمَاعِ وَلاَ إِجْمَاعَ هُنَا فَيَجِبُ دَفْعُ
الْمَال بِالنَّصِّ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنَ
الْبُلُوغِ؛ وَلأَِنَّ أَوَّل أَحْوَال الْبُلُوغِ قَدْ لاَ يُفَارِقُهُ
السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا فَقَدَّرْنَاهُ بِخَمْسٍ
وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لأَِنَّهُ حَال كَمَال لُبِّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَنْتَهِي (يَتِمُّ) لُبُّ
الرَّجُل إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَال أَهْل
الطَّبَائِعِ: مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ
رُشْدَهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ
يَصِيرَ جَدًّا؛ لأَِنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا الْغُلاَمُ
اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ،
ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ
وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا؛ وَلأَِنَّ مَنْعَ
الْمَال عَنْهُ عَلَى سَبِيل التَّأْدِيبِ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ،
وَالاِشْتِغَال بِالتَّأْدِيبِ عِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا
بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلاَ
مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَال بَعْدَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا حُرٌّ بَالِغٌ
عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ فَلاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 2.
(2) البناية 8 / 236 ط. الفكر، تبيين الحقائق 5 / 195 ط. بولاق، روح
المعاني 4 / 206 ط. المنيرية، أحكام القرآن للجصاص 2 / 76 ط. البهية.
(22/218)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ
دَفْعِ الْمَال إِلَيْهِ قَبْل رُشْدِهِ، وَعَدَمِ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ
فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا
بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (1) } فَقَدْ عَلَّقَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِمْ
عَلَى شَرْطَيْنِ: الْبُلُوغِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ. وَالْحُكْمُ
الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا، وَاسْتَدَلُّوا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ (2) }
يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل
هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ بِالْعَدْل (3) } فَأَثْبَتَ الْوِلاَيَةَ
عَلَى السَّفِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ فَلاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ
إِلَيْهِ كَمَنْ لَهُ دُونَ ذَلِكَ (4) .
هَذَا وَالْخِلاَفُ فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ إِلَى إِينَاسِ الرُّشْدِ،
أَوْ إِلَى بُلُوغِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ
بَلَغَ مُبَذِّرًا. فَإِنْ بَلَغَ مُصْلِحًا لِلْمَال فَاسِقًا فِي
الدِّينِ اسْتُدِيمَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ (5) } وَالْفَاسِقُ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ؛
وَلأَِنَّ حِفْظَهُ لِلْمَال لاَ يُوثَقُ بِهِ مَعَ الْفِسْقِ
__________
(1) سورة النساء / 6.
(2) سورة النساء / 5.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) المغني 4 / 506 - 507 ط. الرياض، الكافي 2 / 196 ط. المكتب الإسلامي.
(5) سورة النساء / 6.
(22/218)
؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَدْعُوَهُ
الْفِسْقُ إِلَى التَّبْذِيرِ فَلَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
11 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الرُّشْدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ،
فَقَدْ ذَكَرُوهُ فِي الْبَيْعِ وَفِي الشَّرِكَةِ وَفِي الْوَكَالَةِ
وَفِي ضَمَانِ تَلَفِ الْعَارِيَّةِ وَفِي شَرْطِ الْمُعِيرِ وَفِي
الإِْقْرَارِ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثِينَ بِوَارِثٍ.
وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا لِخُرُوجِهِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ،
وَذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْهِبَةِ، وَفِي الْوَقْفِ، وَفِي وَلِيِّ
النِّكَاحِ، وَفِي رِضَا الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي الْخُلْعِ فِي
شُرُوطِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِل، وَفِي حَاضِنِ اللَّقِيطِ، وَالتَّفْصِيل
مَحَلُّهُ الأَْبْوَابُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ هَذَا فَضْلاً
عَمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ
وَالسَّفِيهِ (2) .
وَيُنْظَرُ: (حَجْر) (وَسَفَه) .
__________
(1) المهذب 1 / 338 ط. الحلبي، روضة الطالبين 4 / 181 - 182 ط. المكتب
الإسلامي.
(2) وانظر ما جاء في: فتح القدير 3 / 218 ط. الأميرية، بدائع الصنائع 3 /
147 ط. الجمالية، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 519، 526 ط. المعارف،
الخرشي 4 / 12 ط. بولاق، الشرح الكبير 2 / 347 - 348، 352، 3 / 6، 348، 433
ط. الفكر، الزرقاني 6 / 112 ط. الفكر، روضة الطالبين 7 / 384 - 388 ط.
المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 307 - 308 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 3
/ 373، 8 / 54 ط. المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 5 / 213 - 215 ط. النصر،
المبدع 7 / 222 - 226 ط. المكتب الإسلامي، مطالب أولي النهى 4 / 248، 328،
377، 388، 5 / 53، 65 ط. المكتب الإسلامي، المغني 6 / 86 - 87 ط. الرياض.
(22/219)
رِشْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّشْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ: الْجُعْل، وَمَا
يُعْطَى لِقَضَاءِ مَصْلَحَةٍ، وَجَمْعُهَا رُشًا وَرِشًا (1) .
قَال الْفَيُّومِيُّ: الرِّشْوَةُ - بِالْكَسْرِ -: مَا يُعْطِيهِ
الشَّخْصُ لِلْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَحْكُمَ لَهُ، أَوْ يَحْمِلَهُ
عَلَى مَا يُرِيدُ (2) .
وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الرِّشْوَةُ: الْوُصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ
بِالْمُصَانَعَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّشَاءِ الَّذِي يُتَوَصَّل بِهِ
إِلَى الْمَاءِ (3) .
وَقَال أَبُو الْعَبَّاسِ: الرِّشْوَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ رَشَا الْفَرْخُ
إِذَا مَدَّ رَأْسَهُ إِلَى أُمِّهِ لِتَزُقَّهُ (4)
- وَرَاشَاهُ: حَابَاهُ، وَصَانَعَهُ، وَظَاهَرَهُ
- وَارْتَشَى: أَخَذَ رِشْوَةً، وَيُقَال: ارْتَشَى مِنْهُ رِشْوَةً: أَيْ
أَخَذَهَا
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط.
(2) المصباح المنير.
(3) النهاية 2 / 226 - دار الفكر.
(4) لسان العرب.
(22/219)
وَتَرَشَّاهُ: لاَيَنَهُ، كَمَا يُصَانَعُ
الْحَاكِمُ بِالرِّشْوَةِ
- وَاسْتَرْشَى: طَلَبَ رِشْوَةً
- وَالرَّاشِي: مَنْ يُعْطِي الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى الْبَاطِل.
- وَالْمُرْتَشِي: الآْخِذُ
- وَالرَّائِشُ: الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا،
وَيَسْتَنْقِصُ لِهَذَا.
وَقَدْ تُسَمَّى الرِّشْوَةُ الْبِرْطِيل وَجَمْعُهُ بَرَاطِيل.
قَال الْمُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرْطِيل بِمَعْنَى
الرِّشْوَةِ، هَل هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ لاَ؟ .
وَفِي الْمَثَل: الْبَرَاطِيل تَنْصُرُ الأَْبَاطِيل (1) .
وَالرِّشْوَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُعْطَى لإِِبْطَال حَقٍّ، أَوْ
لإِِحْقَاقِ بَاطِلٍ (2) .
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ قُيِّدَ بِمَا
أُعْطِيَ لإِِحْقَاقِ الْبَاطِل، أَوْ إِبْطَال الْحَقِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُصَانَعَةُ:
2 - الْمُصَانَعَةُ: أَنْ تَصْنَعَ لِغَيْرِكَ شَيْئًا لِيَصْنَعَ لَكَ
آخَرَ مُقَابِلَهُ، وَكِنَايَةٌ عَنِ الرِّشْوَةِ، وَفِي الْمَثَل: مَنْ
صَانَعَ بِالْمَال لَمْ يَحْتَشِمْ مِنْ طَلَبِ الْحَاجَةِ (3) .
__________
(1) التعريفات 148 - دار الكتاب العربي، الرهوني على الزرقاني 7 / 294 -
بولاق، الباجوري على ابن القاسم 2 / 343 - مصطفى البابي.
(2) تاج العروس، المعجم الوسيط، حاشية الطحطاوي على الدر 3 / 177.
(3) لسان العرب، المصباح، المعجم الوسيط.
(22/220)
ب - السُّحْتُ - بِضَمِّ السِّينِ:
3 - أَصْلُهُ مِنَ السَّحْتِ - بِفَتْحِ السِّينِ - وَهُوَ الإِْهْلاَكُ
وَالاِسْتِئْصَال، وَالسُّحْتُ: الْحَرَامُ الَّذِي لاَ يَحِل كَسْبُهُ؛
لأَِنَّهُ يَسْحَتُ الْبَرَكَةَ أَيْ: يُذْهِبُهَا.
وَسُمِّيَتِ الرِّشْوَةُ سُحْتًا (1) . وَقَدْ سَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ
عَلَى ذَلِكَ (2) .
لَكِنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، لأَِنَّ السُّحْتَ كُل
حَرَامٍ لاَ يَحِل كَسْبُهُ.
ج - الْهَدِيَّةُ:
4 - مَا أَتْحَفْتَ بِهِ غَيْرَكَ، أَوْ مَا بَعَثْتَ بِهِ لِلرَّجُل عَلَى
سَبِيل الإِْكْرَامِ، وَالْجَمْعُ هَدَايَا وَهَدَاوَى - وَهِيَ لُغَةُ
أَهْل الْمَدِينَةِ -
يُقَال: أَهْدَيْتُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَفِي التَّنْزِيل {وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ (3) } .
قَال الرَّاغِبُ: وَالْهَدِيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِاللُّطْفِ، الَّذِي يُهْدِي
بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِهْدَى: الطَّبَقُ الَّذِي يُهْدَى
عَلَيْهِ.
وَالْمِهْدَاءُ: مَنْ يُكْثِرُ إِهْدَاءَ الْهَدِيَّةِ (4) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ الرِّشْوَةُ هِيَ: مَا يُعْطَى بَعْدَ
الطَّلَبِ، وَالْهَدِيَّةُ قَبْلَهُ (5) .
__________
(1) النهاية 2 / 345، المفردات 225، المصباح.
(2) المقنع 3 / 611 - السلفية.
(3) سورة النمل / 35.
(4) لسان العرب، المصباح، المعجم الوسيط والمفردات 541
(5) كشاف القناع 2 / 278.
(22/220)
د - الْهِبَةُ:
5 - الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ بِلاَ عِوَضٍ (1) .
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الْهِبَةُ: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ
الأَْعْوَاضِ وَالأَْغْرَاضِ، فَإِذَا كَثُرَتْ سُمِّيَ صَاحِبُهَا
وَهَّابًا (2) .
وَاتَّهَبْتُ الْهِبَةَ: قَبِلْتُهَا، وَاسْتَوْهَبْتُهَا: سَأَلْتُهَا،
وَتَوَاهَبُوا: وَهَبَ بَعْضُهُمُ الْبَعْضَ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: إِذَا أُطْلِقَتْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ حَال
الْحَيَاةِ بِلاَ عِوَضٍ. وَقَدْ تَكُونُ بِعِوَضٍ فَتُسَمَّى هِبَةَ
الثَّوَابِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهِبَةِ، أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا
إِيصَالاً لِلنَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْعِوَضِ
ظَاهِرًا فِي الْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الرِّشْوَةِ يَنْتَظِرُ
النَّفْعَ، وَهُوَ عِوَضٌ.
و الصَّدَقَةُ:
6 - مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ
كَالزَّكَاةِ، لَكِنِ الصَّدَقَةُ فِي الأَْصْل تُقَال لِلْمُتَطَوَّعِ
بِهِ، وَالزَّكَاةُ لِلْوَاجِبِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْوَاجِبُ صَدَقَةً،
إِِذَا تَحَرَّى صَاحِبُهَا الصِّدْقَ فِي فِعْلِهِ (5) .
__________
(1) المصباح المغرب 496 - دار الكتاب العربي.
(2) النهاية 5 / 231.
(3) المراجع السابقة.
(4) نيل المآرب 2 / 9، ابن عابدين 4 / 508، والمغني 5 / 684، 685،
والقوانين الفقهية لابن جزي ص 373
(5) المفردات 278، التعريفات 174
(22/221)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْهِبَةُ
وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ،
وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ
الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالصَّدَقَةِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ تُدْفَعُ
طَلَبًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي حِينِ أَنَّ الرِّشْوَةَ تُدْفَعُ
لِنَيْل غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ عَاجِلٍ.
أَحْكَامُ الرِّشْوَةِ:
7 - الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَرِشْوَةُ الْمَسْئُول عَنْ عَمَلٍ
حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
(2) } ، قَال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرِّشْوَةُ.
وَقَال تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل
وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَال
النَّاسِ بِالإِْثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (3) } .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَفِي رِوَايَةٍ
زِيَادَةُ " وَالرَّائِشَ (4) ".
__________
(1) المغني 5 / 649.
(2) سورة المائدة / 42.
(3) سورة البقرة / 188.
(4) حديث عبد الله بن عمرو: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي
والمرتشي " أخرجه الترمذي (3 / 614 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح "
وأخرجه أحمد (5 / 279 - ط الميمنية) من حديث ثوبان وفيها زيادة: " والرائش
".
(22/221)
وَيَحْرُمُ طَلَبُ الرِّشْوَةِ،
وَبَذْلُهَا، وَقَبُولُهَا، كَمَا يَحْرُمُ عَمَل الْوَسِيطِ بَيْنَ
الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي (1) .
غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - أَنْ
يَدْفَعَ رِشْوَةً لِلْحُصُول عَلَى حَقٍّ، أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ أَوْ
ضَرَرٍ، وَيَكُونُ الإِْثْمُ عَلَى الْمُرْتَشِي دُونَ الرَّاشِي (2) .
قَال أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ
الرَّجُل عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِالرِّشْوَةِ (3) .
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَال: إِذَا
عَجَزْتَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَاسْتَعَنْتَ عَلَى
ذَلِكَ بِوَالٍ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَثِمَ
دُونَكَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ زَوْجَةً يُسْتَبَاحُ فَرْجُهَا، بَل يَجِبُ
ذَلِكَ عَلَيْكَ؛ لأَِنَّ مَفْسَدَةَ الْوَالِي أَخَفُّ مِنْ مَفْسَدَةِ
الزِّنَا وَالْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعَانَتُكَ بِالأَْجْنَادِ
يَأْثَمُونَ وَلاَ تَأْثَمُ، وَكَذَلِكَ فِي غَصْبِ الدَّابَّةِ
وَغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الْمُعِينِ عِصْيَانٌ
لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ، وَالْجَحْدَ وَالْغَصْبَ عِصْيَانٌ وَمَفْسَدَةٌ،
وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الاِسْتِعَانَةَ بِالْمَفْسَدَةِ - لاَ مِنْ
جِهَةِ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ - عَلَى دَرْءِ
__________
(1) المغني 9 / 78، كشاف القناع 6 / 316، الزواجر 2 / 188، الكبائر للذهبي
142، نهاية المحتاج 8 / 243، نيل الأوطار 8 / 277، ابن عابدين 4 / 303،
مواهب الجليل 6 / 120، المحلى 9 / 131، 157
(2) كشاف القناع 6 / 316، نهاية المحتاج 8 / 243، القرطبي 6 / 183، ابن
عابدين 4 / 304، الحطاب 6 / 121، المحلى 9 / 157، مطالب أولي النهى 6 /
479.
(3) القرطبي 6 / 183.
(22/222)
مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا، كَفِدَاءِ
الأَْسِيرِ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكُفَّارِ لِمَالِنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ،
وَفِيهِ مَفْسَدَةُ إِضَاعَةِ الْمَال، فَمَا لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ أَوْلَى
أَنْ يُجَوَّزَ.
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَسِيرًا نَحْوَ كِسْرَةٍ وَتَمْرَةٍ، حُرِّمَتْ
الاِسْتِعَانَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ لأَِنَّ
الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لاَ يُبَاحُ
بِالْيَسِيرِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الأَْثَرِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا بِدِينَارَيْنِ،
حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ. وَقَال: إِنَّ الإِْثْمَ عَلَى الْقَابِضِ دُونَ
الدَّافِعِ (2) .
وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُل عَنْ
نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِذَا خَافَ الظُّلْمَ (3) .
أَقْسَامُ الرِّشْوَةِ:
8 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الرِّشْوَةَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ
مِنْهَا:
أ - الرِّشْوَةُ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالإِْمَارَةِ وَهِيَ حَرَامٌ
عَلَى الآْخِذِ وَالْمُعْطِي.
ب - ارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى
الآْخِذِ وَالْمُعْطِي، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَقٍّ؛ لأَِنَّهُ
وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
ج - أَخْذُ الْمَال لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، دَفْعًا
__________
(1) حاشية الرهوني 7 / 313.
(2) القرطبي 6 / 184.
(3) كشاف القناع 6 / 316.
(22/222)
لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ،
وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الآْخِذِ فَقَطْ.
د - إِعْطَاءُ إِنْسَانٍ غَيْرِ مُوَظَّفٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ
الْحَاكِمِ مَالاً لِيَقُومَ بِتَحْصِيل حَقِّهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحِل
دَفْعُ ذَلِكَ وَأَخْذُهُ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَنَةُ
الإِْنْسَانِ لِلآْخَرِ بِدُونِ مَالٍ وَاجِبَةً، فَأَخْذُ الْمَال
مُقَابِل الْمُعَاوَنَةِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِمَثَابَةِ أُجْرَةٍ (1) .
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَشِي:
أ - الإِْمَامُ وَالْوُلاَةُ:
9 - قَال ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ
الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الأَْكْبَرِ، وَإِلَى الْقُضَاةِ
وَالْعُمَّال وَجُبَاةِ الأَْمْوَال - وَيُقْصَدُ بِالْكَرَاهِيَةِ
الْحُرْمَةُ -.
وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَل
الْهَدِيَّةَ (2) ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا،
وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيل لَهُ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُهَا، فَقَال:
كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً، وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ؛ لأَِنَّهُ كَانَ
يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 303، البحر الرائق 6 / 285، درر الحكام 4 / 536، شرح
أدب القاضي للخصاف 2 / 25.
(2) حديث: " كان يقبل الهدية " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 203 - ط السلفية)
، ومسلم (2 / 755 - ط الحلبي) من حديث أنس وعائشة.
(22/223)
لاَ لِوِلاَيَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ
بِهَا إِلَيْنَا لِوِلاَيَتِنَا (1) .
يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِمَامَة فِقْرَة 28، 29) .
ب - الْعُمَّال:
10 - وَحُكْمُ الرِّشْوَةِ إِلَى الْعُمَّال (الْوُلاَةِ) كَحُكْمِ
الرِّشْوَةِ إِلَى الإِْمَامِ - كَمَا مَرَّ فِي كَلاَمِ ابْنِ حَبِيبٍ
لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَايَا
الأُْمَرَاءِ غُلُولٌ (2) . وَلِحَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ (3) .
قَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ تَعَزُّزَ
الأَْمِيرِ وَمَنَعَتَهُ بِالْجُنْدِ وَبِالْمُسْلِمِينَ لاَ بِنَفْسِهِ،
فَكَانَتِ الْهَدِيَّةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ
الْغَنِيمَةِ، فَإِذَا اسْتَبَدَّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً،
بِخِلاَفِ هَدَايَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
لأَِنَّ تَعَزُّزَهُ وَمَنَعَتَهُ كَانَتْ بِنَفْسِهِ لاَ
بِالْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتِ الْهَدِيَّةُ لَهُ لاَ لِلْمُسْلِمِينَ (4) .
ج - الْقَاضِي:
11 - وَالرِّشْوَةُ إِلَى الْقَاضِي حَرَامٌ بِالإِْجْمَاعِ (5) .
__________
(1) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك 1 / 30.
(2) حديث: " هدايا الأمراء غلول " أخرجه أحمد (5 / 424 ط. الميمنية) من
حديث أبي حميد الساعدي، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 189 - ط شركة
الطباعة الفنية) ، ولكن له شواهد من أحاديث صحابة آخرين يتقوى بها، ذكر
بعضها ابن حجر.
(3) حديث ابن اللتبية. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 220 - ط السلفية) ، ومسلم
(3 / 1463 ط الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي.
(4) شرح أدب القاضي 2 / 44، وكشاف القناع 2 / 278.
(5) فتاوى قاضي خان 2 / 363، الرهوني 7 / 310، نهاية المحتاج 8 / 242، كشاف
القناع 6 / 316.
(22/223)
قَال الْجَصَّاصُ: وَلاَ خِلاَفَ فِي
تَحْرِيمِ الرِّشَا عَلَى الأَْحْكَامِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ السُّحْتِ الَّذِي
حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَاتَّفَقَتِ الأُْمَّةُ عَلَيْهِ،
وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي (1) .
قَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ (2) : وَيَحْرُمُ قَبُولُهُ هَدِيَّةً،
وَاسْتِعَارَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْهَدِيَّةِ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ
كَالأَْعْيَانِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ وَنَحْوُهُ
فَأُهْدِيَ لَهُ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ
وَسِيلَةٌ إِلَى الرِّشْوَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالأَْوْلَى
أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ، وَفِي الْفُنُونِ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ (3) .
وَهَدِيَّةُ الْقَاضِي فِيهَا تَفْصِيلٌ تُنْظَرُ فِي (هَدِيَّة، قَضَاء) .
د - الْمُفْتِي:
12 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُفْتِي قَبُول رِشْوَةٍ مِنْ أَحَدٍ لِيُفْتِيَهُ
بِمَا يُرِيدُ، وَلَهُ قَبُول هَدِيَّةٍ (4) .
قَال ابْنُ عَرَفَةَ: قَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَا أُهْدِيَ
لِلْمُفْتِي، إِنْ كَانَ يَنْشَطُ لِلْفُتْيَا أُهْدِيَ لَهُ أَمْ لاَ،
فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَنْشَطُ إِذَا أُهْدِيَ
__________
(1) الجصاص 2 / 433 دار الفكر - بيروت.
(2) كشاف القناع 6 / 316، 317
(3) درر الحكام 4 / 538، شرح أدب القاضي للخصاف 2 / 33، 64، ينظر مراجع
للشافعية وغيرهم ككتاب أدب القضاء للماوردي وابن أبي الدم.
(4) الحطاب 6 / 121، الروضة 11 / 111، أسنى المطالب 4 / 284، كشاف القناع 6
/ 301.
(22/224)
لَهُ فَلاَ يَأْخُذُهَا، وَهَذَا مَا لَمْ
تَكُنْ خُصُومَةٌ، وَالأَْحْسَنُ أَنْ لاَ يَقْبَل الْهَدِيَّةَ مِنْ
صَاحِبِ الْفُتْيَا، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَيْشُونٍ وَكَانَ يَجْعَل ذَلِكَ
رِشْوَةً (1) .
هـ - الْمُدَرِّسُ:
13 - إِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا لِعِلْمِهِ
وَصَلاَحِهِ فَلاَ بَأْسَ بِقَبُولِهِ، وَإِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ لِيَقُومَ
بِوَاجِبِهِ فَالأَْوْلَى عَدَمُ الأَْخْذِ (2) .
و الشَّاهِدُ:
14 - وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّاهِدِ أَخْذُ الرِّشْوَةِ. وَإِذَا أَخَذَهَا
سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ (3) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (شَهَادَة) .
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاشِي:
أ - الْحَاجُّ:
15 - لاَ يَلْزَمُ الْحَجُّ مَعَ الْخَفَارَةِ (4) ، وَإِنْ كَانَتْ
يَسِيرَةً؛ لأَِنَّهَا رِشْوَةٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ
الْحَنَابِلَةِ، وَقَال مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَحَفِيدُهُ
تَقِيُّ
__________
(1) الحطاب 6 / 121.
(2) ابن عابدين 4 / 311، نهاية المحتاج 8 / 243.
(3) تبصرة الحكام لابن فرحون - بهامش فتح العلي 1 / 197، الحطاب 6 / 121،
175، المهذب 2 / 330، المغني 9 / 40، 160
(4) الخفارة - مثلثة الخاء: اسم لجعل الخفير، والخفير هو الحارس والحامي
(المطلع 162، كشاف القناع 2 / 391) .
(22/224)
الدِّينِ وَابْنُ قُدَامَةَ: يَلْزَمُهُ
الْحَجُّ وَلَوْ كَانَ يَدْفَعُ خَفَارَةً إِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَال
النَّوَوِيُّ: وَيُكْرَهُ بَذْل الْمَال لِلرَّصْدِيِّينَ؛ لأَِنَّهُمْ
يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَوْ
وَجَدُوا مَنْ يَخْفِرُهُمْ بِأُجْرَةٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ
أَمْنُهُمْ بِهِ، فَفِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ. قَال
الإِْمَامُ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ
كَالرَّاحِلَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
ب - صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
16 - يَجُوزُ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَنْ يَرْشُوَ الْعَامِل
الْقَابِضَ لِخَرَاجِهِ، وَيُهْدِيَ لَهُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ فِي خَرَاجِهِ؛
لأَِنَّهُ يَتَوَصَّل بِذَلِكَ إِلَى كَفِّ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَنْهُ،
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْشُوَهُ أَوْ يُهْدِيَهُ لِيَدَعَ عَنْهُ خَرَاجًا؛
لأَِنَّهُ يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِبْطَال حَقٍّ (2) .
ج - الْقَاضِي:
17 - مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي
أَنْ يَرْشُوَ لِتَحْصِيل الْقَضَاءِ، وَمَنْ تَقَبَّل
__________
(1) كشاف القناع 2 / 391، 392، ابن عابدين 4 / 306، الروضة 3 / 10، الدسوقي
2 / 6.
(2) مطالب أولي النهى 2 / 570، 571
(22/225)
الْقَضَاءَ بِقِبَالَةٍ (عِوَضٍ) ،
وَأَعْطَى عَلَيْهِ الرِّشْوَةَ فَوِلاَيَتُهُ بَاطِلَةٌ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ بَذَل مَالاً لِيَتَوَلَّى
الْقَضَاءَ، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ
وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ
الرَّائِقِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَلَمْ يُوَل إِلاَّ بِمَالٍ هَل يَحِل بَذْلُهُ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحِل
بَذْلُهُ لِلْمَال كَمَا يَحِل طَلَبُ الْقَضَاءِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ تَوَلِّي
الْقَضَاءِ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِسُؤَالِهِمْ أَنْ
يُوَلُّوهُ، فَإِذَا مَنَعَهُ السُّلْطَانُ أَثِمَ بِالْمَنْعِ؛ لأَِنَّهُ
مَنَعَ الأَْوْلَى وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا مَنَعَهُ لَمْ يَبْقَ
وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلاَ يَحِل لَهُ دَفْعُ الرِّشْوَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ بَذْل الْمَال فِي ذَلِكَ أَيْ فِي
نَصْبِهِ قَاضِيًا، وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْمَال عَلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ
(4) .
حُكْمُ الْقَاضِي:
18 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ حُكْمِ الْقَاضِي
__________
(1) الحطاب 6 / 102، الجمل على المنهج 5 / 337، تحقيق القضية 175، ابن
عابدين 4 / 304، الزواجر 1 / 158.
(2) الروضة 11 / 94.
(3) ابن عابدين 4 / 306.
(4) كشاف القناع 6 / 288.
(22/225)
الْمُرْتَشِي، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَنْفُذُ
قَضَاؤُهُ إِذَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِرِشْوَةٍ (1) .
وَلَكِنْ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ الْقَاضِي
الْمُرْتَشِي.
قَال مُنْلاَ خُسْرَوْ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا حَكَمَ
الْقَاضِي بِالرِّشْوَةِ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ قَبْل أَخْذِهِ
الرِّشْوَةَ أَوْ بَعْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلاَفٌ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
1 - فَعَلَى قَوْلٍ: أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي صَحِيحٌ إِذَا كَانَ
مُوَافِقًا لِلْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى الَّتِي
ارْتَشَى فِيهَا أَوِ الَّتِي لَمْ يَرْتَشِ فِيهَا، وَبِأَخْذِ
الرِّشْوَةِ لاَ يَبْطُل الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ حَاصِل أَخْذِ الرِّشْوَةِ
هُوَ فِسْقُ الْقَاضِي، وَبِمَا أَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي لاَ يُوجِبُ
انْعِزَالَهُ فَوِلاَيَةُ الْقَاضِي بَاقِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ
بِحَقٍّ يَلْزَمُ نَفَاذُ قَضَائِهِ.
2 - وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ: لاَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى
الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا، قَال قَاضِيخَانْ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ
رِشْوَةً وَحَكَمَ فَحُكْمُهُ غَيْرُ نَافِذٍ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ
بِحَقٍّ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ قَدِ
اسْتُؤْجِرَ لِلْحُكْمِ، وَالاِسْتِئْجَارُ لِلْحُكْمِ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ
الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي.
__________
(1) البحر الرائق 6 / 284، قاضي خان 2 / 450، الزرقاني 7 / 826، ابن فرحون
1 / 24، الزواجر 1 / 159، المغني 9 / 40.
(22/226)
3 - وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لاَ
يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي
حَكَمَ فِيهَا. وَهَذَا قَوْل الْخَصَّافِ وَالطَّحَاوِيِّ (1) .
انْعِزَال الْقَاضِي:
19 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ - وَالْحَنَابِلَةُ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْخَصَّافُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ
يَنْعَزِل بِفِسْقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَبُولُهُ الرِّشْوَةَ.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى الْحَاكِمُ انْعَزَل فِي الْوَقْتِ
وَإِنْ لَمْ يُعْزَل، وَبَطَل كُل حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) .
وَمَذْهَبُ الآْخَرِينَ أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل بِذَلِكَ، بَل يَنْعَزِل
بِعَزْل الَّذِي وَلاَّهُ (3) .
أَثَرُ الرِّشْوَةِ:
أ - فِي التَّعْزِيرِ:
20 - هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَيَكُونُ
فِيهَا التَّعْزِيرُ.
انْظُرْ: تَعْزِير.
ب - دَعْوَى الرِّشْوَةِ عَلَى الْقَاضِي:
21 - لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ خَصْمًا افْتَاتَ عَلَيْهِ
__________
(1) درر الحكام 4 / 537.
(2) القرطبي 6 / 183، ابن فرحون 1 / 78، مغني المحتاج 4 / 381، مطالب أولي
النهى 6 / 468.
(3) قاضي خان 2 / 362، ابن فرحون 1 / 78، أدب القضاء لابن أبي الدم 24
(22/226)
بِقَوْلِهِ حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ
حَقٍّ، أَوِ ارْتَشَيْتَ وَنَحْوِهِ بِضَرْبٍ لاَ يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ
أَسْوَاطٍ وَحَبْسٍ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ
افْتِيَاتُهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ (1) .
ج - فِي الْحُكْمِ بِالرُّشْدِ:
22 - صَرْفُ الْمَال فِي مُحَرَّمٍ كَرِشْوَةٍ عَدَمُ صَلاَحٍ لِلدِّينِ
وَلِلْمَال، مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ بِرُشْدِ الصَّبِيِّ (2) .
د - الْمَال الْمَأْخُوذُ:
23 - إِنْ قَبِل الرِّشْوَةَ أَوِ الْهَدِيَّةَ حَيْثُ حَرُمَ الْقَبُول
وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى صَاحِبِهَا، كَمَقْبُوضٍ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقِيل
تُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَال لِخَبَرِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيمَنْ تَابَ عَنْ أَخْذِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ:
إِنْ عَلِمَ صَاحِبَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ دَفَعَهُ فِي مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ (3) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 477، 478
(2) الجمل 3 / 340.
(3) كشاف القناع 6 / 317، درر الحكام 4 / 537.
(22/227)
رِضًا
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّضَا لُغَةً: مَصْدَرُ رَضِيَ يَرْضَى رِضًا - بِكَسْرِ الرَّاءِ
وَضَمِّهَا، وَرِضْوَانًا - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ. فَيُقَال: رَضِيتُ
الشَّيْءَ، وَرَضِيتُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ، وَبِهِ (1) .
وَهُوَ بِمَعْنَى سُرُورِ الْقَلْبِ وَطِيبِ النَّفْسِ، وَضِدُّ السُّخْطِ
وَالْكَرَاهِيَةِ.
وَالرِّضَاءُ - بِالْمَدِّ - اسْمُ مَصْدَرٍ عِنْدَ الأَْخْفَشِ،
وَمَصْدَرُ رَاضَى بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ
حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُرَاضَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ.
وَالتَّرَاضِي: مَصْدَرُ تَرَاضَى. . .، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي
الْمُشَارَكَةِ، حَيْثُ قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (2) } جَاءَتْ مِنَ
التَّفَاعُل، إِذِ التِّجَارَةُ بَيْنَ
__________
(1) أصل ألف (الرضا) واو، وقيل: أصله ياء، بدليل قولهم في اسم المفعول
(مرضي) ولذا تكتب (الرضا) بالألف، ويجوز كتابتها بالياء. لسان العرب،
القاموس، المصباح مادة: " رضا ".
(2) سورة النساء / 29.
(22/227)
اثْنَيْنِ، أَيْ عَنْ رِضَا كُلٍّ
مِنْهُمَا (1) .
2 - وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: امْتِلاَءُ
الاِخْتِيَارِ، أَيْ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ
إِلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ، وَنَحْوِهَا،
وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَخَّصَهَا التَّفْتَازَانِيُّ، وَابْنُ عَابِدِينَ،
وَالرَّهَاوِيُّ مِنْهُمْ، هِيَ أَنَّ الرِّضَا: إِيثَارُ الشَّيْءِ
وَاسْتِحْسَانُهُ (2) . وَعَرَّفَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ قَصْدُ
الْفِعْل دُونَ أَنْ يَشُوبَهُ إِكْرَاهٌ (3) .
فَعَلَى ضَوْءِ ذَلِكَ: إِنَّ الرِّضَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَخَصُّ مِنَ
الرِّضَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَمُجَرَّدُ الْقَصْدِ إِلَى تَحْقِيقِ
أَثَرٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُسَمَّى الرِّضَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الاِخْتِيَارُ غَايَتَهُ، وَلَمْ يَظْهَرِ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 153 ط. دار الكتب المصرية 1387 هـ.
(2) التلويح على التوضيح 2 / 195 ط. محمد علي صبيح بمصر، وحاشية ابن عابدين
على الدر المختار ط. مصطفى الحلبي 4 / 507، وحاشية الرهاوي على شرح المنار
ص 298، وتيسير التحرير لأمير باد شاه الحلبي 2 / 290.
(3) هذا التعريف وإن لم يصرحوا به لكنه يؤخذ من كتبهم بوضوح، يراجع لذلك:
شرح الخرشي على مختصر خليل 5 / 9 ط الأميرية ببولاق، ومواهب الجليل للحطاب
5 / 9 ط. السعادة 1329، وفتاوى السيوطي، ضمن مجموعة رسائله - مخطوطة الأزهر
رقم (131 فقه شافعي) ورقة (143) ، وحاشية عميرة على شرح المحلي على المنهاج
2 / 156 ط. عيسى الحلبي، وكشاف القناع 2 / 5 للبهوتي ط. الرياض
(22/228)
السُّرُورُ، فِي حِينِ لاَ يُسَمَّى بِهِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الاِسْتِحْسَانُ
وَالتَّفْضِيل عَلَى أَقَل تَقْدِيرٍ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْرَادَةُ:
3 - الإِْرَادَةُ لُغَةً الْمَشِيئَةُ وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ
بِمَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ وَالاِتِّجَاهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ
تَحْصُل الإِْرَادَةُ دُونَ الرِّضَا، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ: (إِرَادَة (1)) .
ب - النِّيَّةُ:
4 - النِّيَّةُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَعَزْمُ الْقَلْبِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ
عَرَّفَهَا الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِيجَادِ
الْفِعْل جَزْمًا، وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ
الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، فَالنِّيَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْعَمَل.
ج - الْقَصْدُ:
5 - الْقَصْدُ لُغَةً: الاِعْتِزَامُ وَالتَّوَجُّهُ، وَالنُّهُوضُ نَحْوَ
الشَّيْءِ، وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْعَزْمُ الْمُتَّجِهُ
نَحْوَ إِنْشَاءِ فِعْلٍ (2) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية 3 / 5.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، مادة " قصد ". التمهيد
للأسنوي ط. مؤسسة الرسالة ص 70، والمنثور في القواعد ط. وزارة الأوقاف
الكويتية 2 / 36.
(22/228)
د - الإِْذْنُ:
6 - الإِْذْنُ لُغَةً: هُوَ الإِْبَاحَةُ، وَإِطْلاَقُ الْفِعْل،
وَالإِْرَادَةُ، حَيْثُ يُقَال: بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ بِإِرَادَتِهِ،
وَالْمُرَادُ بِهِ فِي إِطْلاَقِ الْفُقَهَاءِ: تَفْوِيضُ الأَْمْرِ إِلَى
آخَرَ، فَيَقُولُونَ: صَبِيٌّ مَأْذُونٌ، أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ فِي
التِّجَارَةِ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ عَنِ الرِّضَا.
هـ - الإِْكْرَاهُ
7 - الإِْكْرَاهُ وَالإِْجْبَارُ، وَهُمَا مِنْ أَضْدَادِ " الرِّضَا "
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه) .
و الاِخْتِيَارُ:
8 - الاِخْتِيَارُ لُغَةً: الاِصْطِفَاءُ، وَالإِْيثَارُ، وَالتَّفْضِيل،
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ "
الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ
فِي قُدْرَةِ الْفَاعِل بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ عَلَى الآْخَرِ "
وَلَخَّصَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ
وَإِرَادَتُهُ " وَعَرَّفَهُ الْجُمْهُورُ " أَنَّهُ الْقَصْدُ إِلَى
الْفِعْل وَتَفْضِيلُهُ عَلَى غَيْرِهِ (1) ". وَسَبَقَ التَّفْصِيل فِيهِ
فِي مُصْطَلَحِ " اخْتِيَار (2) ".
حَقِيقَةُ الرِّضَا وَعَلاَقَتُهُ بِالاِخْتِيَارِ:
8 م - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّضَا وَالاِخْتِيَارَ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 507، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 383،
وتيسير التحرير 2 / 290، مواهب الجليل / 25، وشرح الخرشي 5 / 9، وفتاوى
السيوطي ورقة (13) ، وشرح الكوكب المنير 1 / 509.
(2) الموسوعة الفقهية 2 / 9.
(22/229)
شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنْ حَيْثُ
الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ وَالآْثَارُ، فِي حِينِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ
إِلَى أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ (1) .
وَعَلَى ضَوْءِ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرِّضَا أَخَصُّ مِنْ
الاِخْتِيَارِ، قَسَّمُوا الاِخْتِيَارَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ يُوجَدُ
الرِّضَا فِي أَحَدِهَا، وَيَنْعَدِمُ فِي قِسْمَيْنِ:
1 - اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مُتَمَتِّعًا
بِالأَْهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ دُونَ إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ (2) أَوْ كَمَا
يَقُول الْبَزْدَوِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ: مَا يَكُونُ
الْفَاعِل فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا - أَيْ مُسْتَقِلًّا (3) ".
وَالاِخْتِيَارُ الصَّحِيحُ - عِنْدَهُمْ - يَتَحَقَّقُ حَتَّى وَإِنْ
صَاحَبَهُ إِكْرَاهٌ مَا لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا، لَكِنَّ الرِّضَا
يَتَحَقَّقُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الإِْكْرَاهِ،
وَأَمَّا إِذَا وُجِدَ إِكْرَاهٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَإِنَّ الاِخْتِيَارَ
صَحِيحٌ، وَالرِّضَا فَاسِدٌ.
2 - اخْتِيَارٌ بَاطِلٌ وَهُوَ حِينَمَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مَجْنُونًا،
أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرِّضَا مَعْدُومًا
أَيْضًا.
3 - اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى
إِرَادَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 507، وكشف الأسرار 4 / 383، والمصادر الفقهية
والأصولية السابقة.
(2) الإكراه الملجئ عند الحنفية هو ما يكون التهديد بإتلاف النفس أو العضو،
أو الضرب الذي يفضي إلى تلف النفس، أو العضو، وغير الملجئ هو ما كان
الإكراه بالحبس أو القيد، أو الضرب (بدائع الصنائع 7 / 175) .
(3) كشف الأسرار 4 / 382.
(22/229)
شَخْصٍ آخَرَ، أَيْ أَنْ يَتِمَّ فِي ظِل
إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرِّضَا مَعْدُومًا (1) .
فَالإِْكْرَاهُ فِي نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُنَافِي الاِخْتِيَارَ
حَيْثُ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الإِْكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ،
وَيَكُونُ فَاسِدًا مَعَ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، وَلَكِنَّ الإِْكْرَاهَ
بِقِسْمَيْهِ يُنَافِي الرِّضَا (2) .
9 - وَهَذِهِ الأَْقْسَامُ الثَّلاَثَةُ لَهَا عَلاَقَةٌ - كَقَاعِدَةٍ
عَامَّةٍ - بِتَقْسِيمِهِمُ الْعُقُودَ إِلَى الصَّحِيحِ، وَالْبَاطِل،
وَالْفَاسِدِ.
وَتَتَلَخَّصُ وِجْهَةُ نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ
فِي أَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لِكُلٍّ مِنْ الاِخْتِيَارِ وَالرِّضَا
مُخْتَلِفٌ، فَالرِّضَا هُوَ ضِدُّ السَّخَطِ، وَسُرُورُ الْقَلْبِ
وَارْتِيَاحُ النَّفْسِ بِحَيْثُ تَظْهَرُ آثَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ،
وَأَمَّا الاِخْتِيَارُ فَلاَ تُلاَحِظُ فِيهِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ،
بِالإِْضَافَةِ إِلَى أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ بَيْنَ التَّصَرُّفَاتِ،
حَيْثُ اشْتَرَطَ الرِّضَا فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، فَقَال تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) يقول أبو زيد الدبوسي في تقديم الأدلة / مخطوطة دار الكتب المصرية رقم
255 أصول الفقه ص 910: " المكره مختار لما فعله قاصدًا إياه؛ لأنه عرف
الشرين فاختار أهونهما عليه عن علم وقصد، إلا أنه قصد فاسد؛ لأنه قصد لا عن
رضا به، بل لدفع الشر عن نفسه "، وقال البزدوي في أصوله بهامش كشف الأسرار
/ 383: " الإكراه لا ينافي الاختيار، ولذلك كان مخاطبًا في عين ما أكره
عليه ".
(22/230)
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (1) } فِي
حِينِ لَمْ يَشْتَرِطِ الرِّضَا فِي بَعْضِ تَصَرُّفَاتٍ غَيْرِ
مَالِيَّةٍ، مِثْل الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ،
وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلاَقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالرَّجْعَةُ (2) وَمِنَ
الْمَعْلُومِ بَدَاهَةً أَنَّ الرِّضَا بِآثَارِ الْعَقْدِ لاَ يَتَحَقَّقُ
مَعَ الْهَزْل، مَعَ أَنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَعَلَى
ضَوْءِ ذَلِكَ قَسَّمُوا الْعُقُودَ فَجَعَلُوا بَعْضَهَا لاَ يَحْتَاجُ
إِلَى الرِّضَا وَهِيَ الْعُقُودُ الَّتِي سَمَّوْهَا بِالْعُقُودِ غَيْرِ
الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ، وَهِيَ النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ.
وَاشْتَرَطُوا فِي بَعْضِهَا الرِّضَا، وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ،
ثُمَّ جَعَلُوا الاِخْتِيَارَ أَسَاسًا لِجَمِيعِ الْعُقُودِ (3) .
10 - وَلَمْ يَعْتَرِفِ الْجُمْهُورُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ الثُّلاَثِيِّ
لِلاِخْتِيَارِ، حَيْثُ هُوَ مَحْصُورٌ عِنْدَهُمْ فِي الصَّحِيحِ
وَالْبَاطِل، كَمَا أَنَّ الإِْكْرَاهَ عِنْدَهُمْ يُنَافِي الاِخْتِيَارَ
كَمَا يُنَافِي الرِّضَا، قَال الشَّاطِبِيُّ: فَالْعَمَل إِذَا تَعَلَّقَ
بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا
عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا. فَلَوْ
فَرَضْنَا الْعَمَل مَعَ عَدَمِ الاِخْتِيَارِ كَالْمُلْجَأِ، وَالنَّائِمِ
وَالْمَجْنُونِ. . فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِمْ مُقْتَضَى
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حديث: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة " أخرجه أبو
داود 3 / 644 - تحقيق عزت عبيد دعاس، والترمذي (3 / 481 - ط الحلبي) من
حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن ".
(3) إعلام الموقعين 3 / 123 - 126
(22/230)
الأَْدِلَّةِ، فَلَيْسَ هَذَا النَّمَطُ
بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، فَبَقِيَ مَا كَانَ مَفْعُولاً بِالاِخْتِيَارِ
لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ ".
وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ طَلاَقَ الْمُكْرَهِ لاَ
يَقَعُ؛ لأَِنَّهُ سَاقِطُ الاِخْتِيَارِ، وَنَقَل ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ
أَحْمَدَ قَوْلَهُ: إِنَّ الإِْكْرَاهَ يُزِيل الاِخْتِيَارَ (1) ".
آثَارُ هَذَا الاِخْتِلاَفِ:
11 - لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخِلاَفُ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ
لَفْظِيًّا لاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ، وَإِنَّمَا خِلاَفٌ
مَعْنَوِيٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ آثَارٌ فِقْهِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي تَصَرُّفَاتِ
وَعُقُودِ الْهَازِل، وَالْمُكْرَهِ، وَالْمُخْطِئِ، وَالسَّكْرَانِ،
وَمَنْ لَمْ يَفْهَمِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول،
حَيْثُ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ غَيْرِ
الْمَالِيَّةِ مِنْ هَؤُلاَءِ، فَطَلاَقُ هَؤُلاَءِ، وَنِكَاحُهُمْ
وَرَجْعَتُهُمْ وَنَحْوُهَا صَحِيحٌ - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ - اعْتِمَادًا
عَلَى أَصْل الْقَصْدِ وَالاِخْتِيَارِ، وَوُجُودِ الْعِبَارَةِ
الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ، فَلَوْ أَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَقُول لِزَوْجَتِهِ:
يَا عَالِمَةُ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ وَقَعَ
طَلاَقُهُ عِنْدَهُمْ، وَعَلَّل ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ
الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ: اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْقَصْدَ أَمْرٌ بَاطِنٌ
لاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ حَقِيقَةً،
__________
(1) الموافقات 2 / 327ط. دار أبي حرفة ببيروت، الوسيط مخطوطة دار الكتب
المصرية (212 فقه شافعي) ، ورقة (117، 178) ، وحاشية عميرة 2 / 56، شرح
الكوكب المنير 1 / 509.
(22/231)
بَل يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ
الدَّال عَلَيْهِ، وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ بِالْعَقْدِ وَالْبُلُوغِ
نَفْيًا لِلْحَرَجِ ". وَقَال فِي تَعْلِيل وُقُوعِ طَلاَقِ السَّكْرَانِ:
إِنَّ السُّكْرَ وَإِنْ كَانَ يُعْدِمُ الْقَصْدَ الصَّحِيحَ، لَكِنَّهُ
لاَ يُعْدِمُ الْعِبَارَةَ، وَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ: وَلاَ يُشْتَرَطُ
الْعِلْمُ بِمَعْنَى الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِيمَا يَسْتَوِي فِيهِ
الْجِدُّ وَالْهَزْل مِثْل الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ، وَلَمْ يَحْتَجْ
لِنِيَّةٍ، وَبِهِ يُفْتَى (1) ".
وَأَمَّا الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ - مِثْل الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ -
فَاشْتُرِطَ فِيهَا الاِخْتِيَارُ عِنْدَهُمْ لِلاِنْعِقَادِ، وَاشْتُرِطَ
لِصِحَّتِهَا الرِّضَا، فَإِذَا تَحَقَّقَا فِي التَّصَرُّفِ كَانَ
صَحِيحًا وَمُنْعَقِدًا - مَعَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الأُْخْرَى - وَإِذَا
انْعَدَمَ الاِخْتِيَارُ انْعَدَمَ الْعَقْدُ وَأَصْبَحَ بَاطِلاً،
وَأَمَّا إِذَا وُجِدَ الاِخْتِيَارُ وَانْعَدَمَ الرِّضَا فَإِنَّ
الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاشْتَرَطُوا وُجُودَ الرِّضَا - أَيْ
الاِخْتِيَارِ - فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، إِلاَّ إِذَا دَل دَلِيلٌ خَاصٌّ
عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي عَقْدٍ خَاصٍّ، مِثْل الْهَزْل فِي
الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ (2) .
12 - ثُمَّ إِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ
ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:
1 - الْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ لَهُ الأَْهْلِيَّةُ،
وَالْمَوْضُوعَةُ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 384، وجامع الحقائق للخادمي ص (98) ،
(2) المصادر الفقهية والأصولية السابقة للفريقين.
(22/231)
لِلدَّلاَلَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الآْثَارِ،
كَبِعْتُ، وَطَلَّقْتَ.
2 - قَصْدِ الْعِبَارَةِ دُونَ قَصْدِ الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا،
وَهُوَ الاِخْتِيَارُ.
3 - قَصْدِ الْعِبَارَةِ وَالأَْثَرِ، وَهُوَ الرِّضَا.
فَالأَْوَّل هُوَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ، أَوْ
شَرْطٌ لاِنْعِقَادِهَا، وَالثَّانِي شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعُقُودِ
الْمَالِيَّةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا
الْجِدُّ وَالْهَزْل كَالطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا، وَلِذَلِكَ
يَقَعُ طَلاَقُ السَّكْرَانِ، وَالْمُكْرَهِ، وَالسَّاهِي عِنْدَهُمْ،
وَالاِخْتِيَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُنَافِي الإِْكْرَاهَ، بَل
يَجْتَمِعُ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ تَنْعَقِدُ عُقُودُ الْمُكْرَهِ
الْمَالِيَّةُ، وَلَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً نَافِذَةَ الْعُقُودِ؛
لِكَوْنِهَا تَحْتَاجُ إِلَى شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الرِّضَا. وَأَمَّا
الثَّالِثُ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، وَلَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ إِطْلاَقًا.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَجَعَلُوا الْعِبَارَةَ هِيَ
الْوَسِيلَةَ، وَإِنَّمَا الأَْسَاسُ هُوَ الْقَصْدُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ
بِالرِّضَا وَالاِخْتِيَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ
الْمَالِيَّةِ أَمْ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ:
فَالْعَمَل إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الأَْحْكَامُ
التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ
شَيْءٌ مِنْهَا ". وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: مَدَارُ
الْعُقُودِ عَلَى الْعُزُومِ وَالْقُصُودِ (1) ". وَيَقُول الْغَزَالِيُّ
وَالنَّوَوِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ - أَيْ مِنْ
__________
(1) الموافقات 2 / 324، وقواعد الأحكام 2 / 150.
(22/232)
أَرْكَانِ الطَّلاَقِ - الْقَصْدُ إِلَى
لَفْظِ الطَّلاَقِ وَمَعْنَاهُ (1) " وَلِذَلِكَ لاَ يَقَعُ عِنْدَهُمْ
طَلاَقُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي وَالْغَافِل وَنَحْوِهِمْ
(2) .
وَأَمَّا الْخِلاَفُ فِيمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي طَلاَقِ السَّكْرَانِ
فَيَعُودُ فِي الْوَاقِعِ إِلَى مَدَى النَّظْرَةِ إِلَى عِقَابِهِ
وَرَدْعِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ بِالإِْجْمَاعِ إِذَا كَانَ
غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي السَّكْرَانِ
بِتَعَدٍّ، حَيْثُ نَظَرَ الَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلاَقَهُ إِلَى أَنَّ
الْقَوْل بِهِ رَادِعٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ يُكَيَّفُ فِقْهِيًّا
بِأَنَّ رِضَاهُ بِتَنَاوُل الْمُسْكِرِ الَّذِي يَعْلَمُ بِأَنَّ عَقْلَهُ
سَيَغِيبُ بِهِ رِضًا بِالنَّتَائِجِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (3) .
وَكَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الرِّضَا قَصْدُ الْعِبَارَةِ - أَوِ
التَّعْبِيرُ عَنْهُ - فَلاَ بُدَّ كَذَلِكَ مِنْ قَصْدِ الآْثَارِ
الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، فَالْمُكْرَهُ مَثَلاً قَصَدَ الْعِبَارَةَ
مِثْل بِعْتُ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ،
وَإِنَّمَا تَنْفِيذُ مَا هَدَّدَهُ الْمُكْرِهُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ -
وَكَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ قَصْدُ الآْثَارِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عَالِمًا
بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ رَدَّدَ شَخْصٌ وَرَاءَ آخَرَ " بِعْتُ "
أَوْ " قَبِلْتُ " وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ، لَمْ يَتِمَّ الْقَصْدُ،
يَقُول الْغَزَالِيُّ:
__________
(1) الوسيط مخطوطة الدار رقم 312 فقه الشافعي ورقة 177، والروضة 8 / 53،
وفتاوى ابن الصلاح الشهرزوري ط. الحضارة بالقاهرة ص 260
(2) المصادر السابقة، والمنتهى لابن الحاجب ص 32، والقوانين الفقهية ص 197،
199.
(3) القوانين الفقهية ص (196) ، والأم 5 / 235، والروضة للنووي 8 / 12،
المغني لابن قدامة 7 / 114 - 116
(22/232)
وَلَكِنَّ شَرْطَهُ - أَيِ الْقَصْدَ -
الإِْحَاطَةُ بِصِفَاتِ الْمَقْصُودِ ".
وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ - أَيِ الْعَاقِدُ -
عَالِمًا بِمَعْنَاهَا - أَيِ الْعِبَارَةِ، وَلاَ مَقْصُودًا لَهُ لَمْ
تَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا أَيْضًا، وَلاَ نِزَاعَ بَيْنَ
أَئِمَّةِ الإِْسْلاَمِ فِي ذَلِكَ (1) ".
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حِل أَمْوَال النَّاسِ
مَنُوطٌ بِالرِّضَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (2) } وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (3)
وَقَوْلِهِ: وَلاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ إِلاَّ مَا طَابَتْ
بِهِ نَفْسُهُ (4) ، وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ
__________
(1) الوسيط 2 / 596ط. دار الاعتصام، إعلام الموقعين 2 / 121، وسبق أن بعض
الحنفية يصححون عبارة من لم يفهم في النكاح والطلاق، حاشية ابن عابدين 3 /
15، إعلام الموقعين 2 / 121.
(2) سورة النساء / 29.
(3) حديث: إنما البيع عن تراض: أخرجه ابن ماجه (2 / 737 - ط الحلبي) من
حديث أبي سعيد الخدري، وقال البوصيري: " هذا إسناد صحيح " مصباح الزجاجة (2
/ 10 - ط. دار الجنان) .
(4) حديث: " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه " أخرجه أحمد (3
/ 423 - ط الميمنية) من حديث عمر بن يثري، وأورده الهيثمي في المجمع (4 /
171 ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وابنه في زياداته عليه، والطبرني في
الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات ".
(22/233)
مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ (1) ،
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الرِّضَا فِي التَّصَرُّفَاتِ شَرْطًا أَوْ لاَ؟
.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ
الَّتِي تَقْبَل الْفَسْخَ - وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ مِنْ بَيْعٍ
وَإِجَارَةٍ، وَنَحْوِهَا - أَيْ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مَعَ
التَّرَاضِي، وَقَدْ تَنْعَقِدُ الْمَالِيَّةُ لَكِنَّهَا تَكُونُ
فَاسِدَةً كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ، وَيَقُول
الْمَرْغِينَانِيُّ:؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ
التَّرَاضِيَ (2) " وَجَاءَ فِي التَّلْوِيحِ: أَنَّهُ - أَيِ الْبَيْعَ -
يَعْتَمِدُ الْقَصْدَ تَصْحِيحًا لِلْكَلاَمِ، وَيَعْتَمِدُ الرِّضَا؛
لِكَوْنِهِ مِمَّا يَحْتَمِل الْفَسْخَ، بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ " وَقَدْ
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَصْل الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ تَنْعَقِدُ
بِدُونِ الرِّضَا، لَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً، يَقُول أَمِيرُ
بَادْشَاهْ الْحَنَفِيُّ: وَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُخْطِئِ نَظَرًا إِلَى
أَصْل الاِخْتِيَارِ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ،
أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ، لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا
غَيْرَ نَافِذٍ لِعَدَمِ الرِّضَا حَقِيقَةً (3) ".
وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ فِي نَظَرِهِمْ،
__________
(1) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس " أخرجه أحمد (5 / 72 - ط
الميمنية) من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعًا. وأورده الهيثمي في
المجمع (4 / 172 - ط القدسي) وقال: " رواه أبو يعلى، وأبو حرة وثقه أبو
داود وضعفه ابن معين ".
(2) الهداية - مع تكملة فتح القدير 7 / 293 - 294، والبحر الرائق 8 / 81.
(3) تيسير التحرير 2 / 306.
(22/233)
فَالرِّضَا لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا
وَلاَ لَهُ أَثَرٌ فِيهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ
السَّمَرْقَنْدِيُّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الإِْكْرَاهِ
عِنْدَهُمْ، فَبَلَغَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَصَرُّفًا، مِنْهَا
الطَّلاَقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالْحَلِفُ
بِطَلاَقٍ وَعَتَاقٍ وَظِهَارٍ، وَالإِْيلاَءُ، وَقَبُول الْمَرْأَةِ
الطَّلاَقَ عَلَى مَالٍ. . وَيَقُول ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَقَعُ طَلاَقُ
الْمُخْطِئِ؛ لأَِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ مَعْنَى اللَّفْظِ خَفِيٌّ،
فَأُقِيمَ تَمْيِيزُ الْبُلُوغِ مَقَامَهُ "، وَعَلَّل عَبْدُ الْعَزِيزِ
الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ تُعَلَّقُ بِالسَّبَبِ
الظَّاهِرِ الدَّال عَلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَتَدُورُ عِبَارَاتُهُمْ بَيْنَ
التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرِّضَا أَصْلٌ أَوْ أَسَاسٌ أَوْ شَرْطٌ
لِلْعُقُودِ كُلِّهَا، فَعَلَى ضَوْءِ مَا صَرَّحُوا بِهِ إِذَا لَمْ
يَتَحَقَّقِ الرِّضَا لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا
أَمْ غَيْرَ مَالِيٍّ، يَقُول الدُّسُوقِيُّ وَالْخَرَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا:
إِنَّ الْمَطْلُوبَ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا،
وَإِنَّ انْتِقَال الْمِلْكِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الرِّضَا " وَيَقُول
الزَّنْجَانِيُّ الشَّافِعِيُّ: الأَْصْل الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ
الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ. . اتِّبَاعُ التَّرَاضِي. . ".
__________
(1) خزانة الفقه، وعيون المسائل، بتحقيق صلاح الدين الناهي - ط. بغداد سنة
1966 (1 / 405 - 406) ، والتحرير مع شرحه تيسير التحرير 2 / 306، وكشف
الأسرار 4 / 354، والتلويح 389، وشرح المنار ص 978، ومجامع الحقائق ص 298،
والدر المختار 3 / 15.
(22/234)
وَيُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ
التَّرَاضِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُكْرَهْ
بِحَقٍّ، كَالَّذِي يُكْرِهُهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِوَفَاءِ
دَيْنِهِ (1) .
14 - هَذَا، وَإِنَّ الرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ؛
لأَِنَّهُ مَيْل النَّفْسِ فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ
الصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ
بِمَا يَدُل عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ (2) .
عُيُوبُ الرِّضَا:
14 م - إِنَّ " الرِّضَا " بِمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ إِنَّمَا
يَتَحَقَّقُ إِذَا وُجِدَ الْقَصْدُ إِلَى آثَارِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّهُ
إِنَّمَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ الشَّرْعِيَّةُ إِذَا سَلِمَ مِنْ
كُل عَيْبٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ "
الرِّضَا " سَلِيمًا أَيْ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا طَلِيقًا لاَ يَشُوبُهُ
ضَغْطٌ وَلاَ إِكْرَاهٌ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ بِمَصْلَحَةِ أَحَدٍ كَرِضَا
الْمَرِيضِ، أَوِ الدَّائِنِ الْمُفْلِسِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاعِيًا فَلاَ
يَحُول دُونَ إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ جَهْلٌ، أَوْ تَدْلِيسٌ وَتَغْرِيرٌ،
أَوِ اسْتِغْلاَلٌ، أَوْ غَلَطٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَعُوقُ
إِدْرَاكَهُ.
فَمِنْ عُيُوبِ الرِّضَا الإِْكْرَاهُ وَالْجَهْل وَالْغَلَطُ،
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 2 - 3، وشرح الخرشي 5 / 4، وشرح تحفة
الحكام للفاسي 1 / 278، تخريج الفروع ص (62) ، والروضة 8 / 53 - 62، وكشاف
القناع 3 / 149 - 150
(2) مغني المحتاج 2 / 3، أسنى المطالب 2 / 3، الدسوقي 3 / 3.
(22/234)
وَالتَّدْلِيسُ وَالتَّغْرِيرُ،
وَالاِسْتِغْلاَل وَكَوْنُ الرِّضَا مُقَيَّدًا بِرِضَا شَخْصٍ آخَرَ،
يَقُول الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَيَخْتَل الْقَصْدُ
بِخَمْسَةِ أَسْبَابٍ: سَبْقِ اللِّسَانِ، وَالْهَزْل، وَالْجَهْل،
وَالإِْكْرَاهِ، وَاخْتِلاَل الْعَقْل ".
فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى
إِذَا لَمْ يَتَوَفَّرْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الرِّضَا فَإِنَّ الْعَقْدَ
فِي بَعْضِ الأَْحْوَال يَكُونُ فَاسِدًا، أَوْ بَاطِلاً - عَلَى خِلاَفٍ
فِيهِمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ - وَيَكُونُ فِي بَعْضِ
الأَْحْوَال غَيْرَ لاَزِمٍ، أَيْ يَكُونُ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ
كِلَيْهِمَا حَقُّ الْخِيَارِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ
بَعْضَهَا يُؤَثِّرُ فِي الرِّضَا تَأْثِيرًا مُبَاشِرًا، فَيَكُونُ
الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلاً - كَمَا فِي
الإِْكْرَاهِ، وَبَعْضَهَا يُؤَثِّرُ فِي إِلْزَامِيَّةِ الرِّضَا،
فَيَكُونُ الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ، بَل
يَكُونُ لِعَاقِدٍ حَقُّ الْخِيَارِ، مِثْل التَّدْلِيسِ، وَالتَّغْرِيرِ،
وَالاِسْتِغْلاَل وَنَحْوِهَا، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذِهِ
الشُّرُوطَ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرِّضَا كَكَوْنِهِ لَمْ
يَقَعْ تَحْتَ إِكْرَاهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلُزُومِهِ،
كَكَوْنِهِ لَمْ يَشُبْهُ غَلَطٌ أَوِ اسْتِغْلاَلٌ، أَوْ تَدْلِيسٌ -
عَلَى تَفْصِيلٍ كَبِيرٍ وَخِلاَفٍ (1) .
وَنُحِيل لأَِحْكَامِ هَذِهِ الْمَسَائِل إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا
الْخَاصَّةِ فِي الْمَوْسُوعَةِ.
__________
(1) الوسيط، مخطوطة دار الكتب رقم 206 فقه شافعي جـ 3 ورقة (147) ، والروضة
8 / 53 - 62
(22/235)
وَسَائِل التَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا:
15 - إِنَّ الرِّضَا فِي حَقِيقَتِهِ - كَمَا سَبَقَ - هُوَ الْقَصْدُ،
وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَيْسَ لَنَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْ
خِلاَل وَسَائِل تُعَبِّرُ عَنْهُ، وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْفِعْل - أَيِ
الْبَذْل - وَالْكِتَابَةُ، وَالإِْشَارَةُ، وَالسُّكُوتُ فِي مَعْرِضِ
الْبَيَانِ. يَقُول الْبَيْضَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ضَرُورَةَ وُجُودِ
الرِّضَا حَقِيقَةً: لَكِنَّهُ لَمَّا خَفِيَ نِيطَ بِاللَّفْظِ الدَّال
عَلَيْهِ صَرِيحًا (1) " وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلاَلَةً
عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الآْخَرِ
شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ
عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ
الأَْلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الأَْحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا
فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةِ فِعْلٍ، أَوْ قَوْلٍ، وَلاَ عَلَى
مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ
يُرِدْ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، بَل تَجَاوَزَ
لِلأُْمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل، أَوْ
تُكَلِّمْ بِهِ (2) . فَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَصْدُ وَالدَّلاَلَةُ
الْقَوْلِيَّةُ، أَوِ الْفِعْلِيَّةُ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ، هَذِهِ
__________
(1) الغاية القصوى 1 / 457، روى مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان 1 / 116 أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت أنفسها ما
لم تعمل به، أو تتكلم ".
(2) ورد ذلك من حديث أبي هريرة مرفوعًا: " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست
به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 160 - ط
السلفية) ، وأخرجه مسلم بلفظ مقارب (1 / 116 - ط الحلبي) .
(22/235)
قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مِنْ
مُقْتَضَيَاتِ عَدْل اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّ خَوَاطِرَ
الْقُلُوبِ وَإِرَادَةَ النُّفُوسِ لاَ تَدْخُل تَحْتَ الاِخْتِيَارِ (1)
".
وَسَنُوجِزُ الْقَوْل فِي دَلاَلَةِ هَذِهِ الْوَسَائِل:
16 - دَلاَلَةُ اللَّفْظِ عَلَى الرِّضَا، حَيْثُ هُوَ الْوَسِيلَةُ
الأُْولَى وَالأَْفْضَل فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا، وَلاَ خِلاَفَ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخِلاَفُ فِيهِ مُنْصَبًّا
عَلَى بَعْضِ الصِّيَغِ، كَصِيَغِ الاِسْتِفْهَامِ، أَوِ الْكِنَايَةِ،
أَوِ الْمُضَارِعِ، حَيْثُ وَقَفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ مُلاَحَظَةِ
نَوْعِيَّةِ الدَّلاَلَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ لاَ يَكُونَ
فِيهَا احْتِمَالٌ، فِي حِينِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ -
مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ - ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ
دَلاَلَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي ذَلِكَ
هُوَ الْعُرْفُ، كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ أَيْضًا لَهَا دَوْرٌ فِي جَعْل
اللَّفْظِ دَالًّا عَلَى الْمَقْصُودِ (2) . وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَاسِعٌ
يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد) .
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 105 - 106
(2) يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير 2 / 345، وحاشية ابن عابدين 3 / 15،
والفتاوى الهندية 3 / 4، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 3، وشرح المحلي مع
حاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 152، ونهاية المحتاج 3 / 376، وكشاف القناع 3 /
147، الإنصاف 5 / 353، والاختيارات الفقهية ص (121) ، والتعبير عن الإرادة
للدكتور وحيد الدين سوار ط. النهضة المصرية، ومبدأ الرضا في العقود دراسة
مقارنة ط. دار البشائر الإسلامية.
(22/236)
17 - دَلاَلَةُ الْفِعْل عَلَى الرِّضَا
(الْبَذْل) أَيْ عَرْضُ الشَّخْصِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ
الآْخَرُ فَيَدْفَعُ قِيمَتَهُ، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالْمُعَاطَاةِ،
أَيْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، أَوِ الْقَوْل مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْعَرْضِ مِنَ
الآْخَرِ، أَيِ الإِْعْطَاءِ مِنْ أَحَدٍ دُونَ قَوْلٍ، وَالْجَانِبُ
الثَّانِي يُعَبِّرُ عَنِ الرِّضَا بِالْقَوْل، أَوِ الْكِتَابَةِ، أَوْ
نَحْوِهِمَا.
وَقَدْ ثَارَ الْخِلاَفُ فِي مَدَى دَلاَلَتِهِ عَلَى الرِّضَا عَلَى
ثَلاَثَةِ آرَاءٍ مُوجَزُهَا:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: عَدَمُ صَلاَحِيَةِ الْفِعْل (الْبَذْل)
لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا فِي الْعُقُودِ، هَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ
فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: صَلاَحِيَتُهُ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الرِّضَا،
وَإِنْشَاءِ الْعَقْدِ بِهِ مُطْلَقًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ -
مَا عَدَا الْكَرْخِيَّ - وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - مَا عَدَا
الْقَاضِيَ - وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ
الْبَغَوِيُّ وَالنَّوَوِيُّ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَؤُلاَءِ قَيَّدُوا
ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: صَلاَحِيَتُهُ فِي الأَْشْيَاءِ الرَّخِيصَةِ،
وَعَدَمُ صَلاَحِيَتِهِ فِي الْغَالِيَةِ وَالنَّفِيسَةِ، وَهَذَا رَأْيُ
الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 77، وبدائع الصنائع 6 / 2985، والدسوقي على الشرح
الكبير 3 / 3، وشرح الخرشي 5 / 5، والمغني 3 / 561، والإنصاف 4 / 263، وفتح
العزيز 8 / 99، والمجموع 9 / 162 - 163، مجمع الأنهر 2 / 5، والبحر الرائق
5 / 291، وإحياء علوم الدين 2 / 69، والغاية القصوى 1 / 457، والمحلى 9 /
294
(22/236)
دَلاَلَةُ الْكِتَابَةِ عَلَى الرِّضَا:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ فِي دَلاَلَتِهِ عَلَى الرِّضَا
سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ أَمِ الْغَائِبِينَ، وَاسْتَثْنَوُا
النِّكَاحَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صَلاَحِيَةِ الْكِتَابَةِ
لإِِنْشَاءِ الْعُقُودِ إِلاَّ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْكَلاَمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ فِيمَا
بَيْنَ الْغَائِبِينَ دُونَ الْحَاضِرِينَ (1) .
دَلاَلَةُ الإِْشَارَةِ عَلَى الرِّضَا:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْعَاجِزِ عَنِ
النُّطْقِ الْمَفْهُومَةَ هِيَ كَالْكَلاَمِ، وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ لاَ تَصْلُحُ إِيجَابًا أَوْ قَبُولاً فِي
النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي إِشَارَةِ النَّاطِقِ فِي غَيْرِ
النِّكَاحِ فَهَل تُقْبَل دَلِيلاً عَلَيْهِ أَوْ لاَ؟ .
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ - مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ صَلاَحِيَةِ الإِْشَارَةِ وَحْدَهَا
لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّاطِقِ.
- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْشَارَةَ كَاللَّفْظِ فِي
غَيْرِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 79، والفتاوى الهندية 3 / 9، وابن عابدين 4 / 512،
والروضة 8 / 39، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 334
(22/237)
النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ
بِالرِّضَا فَمَا دَامَ قَدْ ظَهَرَ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ فَلاَ بُدَّ أَنْ
يُقْبَل، إِذْ لاَ دَلِيل عَلَى تَخْصِيصِ لَفْظٍ خَاصٍّ لَهُ (1) .
دَلاَلَةُ السُّكُوتِ عَلَى الرِّضَا:
20 - لاَ شَكَّ أَنَّ السُّكُوتَ السَّلْبِيَّ لاَ يَكُونُ دَلِيلاً عَلَى
الرِّضَا أَوْ عَدَمِهِ، وَلِذَلِكَ تَقْضِي الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ
عَلَى أَنَّهُ: " لاَ يُسْنَدُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ، وَلَكِنَّ السُّكُوتَ فِي
مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ (2) " وَذَلِكَ إِذَا صَاحَبَتْهُ قَرَائِنُ
وَظُرُوفٌ بِحَيْثُ خَلَعَتْ عَلَيْهِ ثَوْبَ الدَّلاَلَةِ عَلَى الرِّضَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ دَلِيلٌ عَلَى
الرِّضَا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ، حَيْثُ قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى
تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ: وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَال: أَنْ
تَسْكُتَ (3) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى الثَّيِّبُ أَحَقُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 814، وفتح القدير 3 / 42، وبلغة السالك 2 / 166،
والمجموع 9 / 171، والأشباه للسيوطي ص 338، والمنثور للزركشي 1 / 4،
والمغني 7 / 239، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 343، وشرح الخرشي 5 /
5.
(2) مسائل السكوت للعلامة إبراهيم بن عمر، مخطوطة الأوقاف برقم (3529) ،
ورقة (1) والأشباه والنظائر للسيوطي ص (158) ، والمنثور 2 / 205.
(3) حديث: " لا تنكح البكر حتى تستأذن " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 191 - ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 1036 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(22/237)
بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ
يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا (1) .
__________
(1) حديث: " الثيب أحق بنفسها من وليها " أخرجه مسلم (2 / 1037 ط. الحلبي)
.
(22/238)
رَضَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّضَاعُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا - فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ
رَضَعَ أُمَّهُ يَرْضِعُهَا بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ رَضْعًا وَرَضَاعًا
وَرَضَاعَةً أَيِ امْتَصَّ ثَدْيَهَا أَوْ ضَرْعَهَا وَشَرِبَ لَبَنَهُ.
وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَهِيَ مُرْضِعٌ وَمُرْضِعَةٌ، وَهُوَ رَضِيعٌ.
وَالرَّضَاعُ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِوُصُول لَبَنِ امْرَأَةٍ أَوْ مَا
حَصَل مِنْ لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشُرُوطٍ تَأْتِي (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَضَانَةُ:
2 - هِيَ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِضْنِ وَهُوَ
الْجَنْبُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِضَمِّ الْحَاضِنَةِ الْمَحْضُونَ إِلَى
جَنْبِهَا (2) .
__________
(1) المعجم الوسيط والمصباح وابن عابدين 2 / 403، نهاية المحتاج 7 / 172،
أسنى المطالب 3 / 415، وهناك تعريفات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى.
(2) المصباح المنير.
(22/238)
وَشَرْعًا: حِفْظُ مَنْ لاَ يَسْتَقِل
بِأُمُورِهِ وَتَرْبِيَتُهُ بِمَا يُصْلِحُهُ (1) .
وَالْحَاضِنَةُ قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمُرْضِعَةَ، وَقَدْ تَكُونُ
غَيْرَهَا.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الرَّضَاعِ:
3 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (2) } وَقَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ (3) } .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: حُكْمُ الإِْرْضَاعِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ إِرْضَاعُ
الطِّفْل مَا دَامَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَفِي سِنِّ الرَّضَاعِ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَى الأَْبِ اسْتِرْضَاعُ وَلَدِهِ، وَلاَ
يَجِبُ عَلَى الأُْمِّ الإِْرْضَاعُ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ إِجْبَارُهَا
عَلَيْهِ، دَنِيئَةً كَانَتْ أَمْ شَرِيفَةً، فِي عِصْمَةِ الأَْبِ كَانَتْ
أَمْ بَائِنَةً مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 643، ونهاية المحتاج 7 / 187.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) المغني 7 / 627، نهاية المحتاج 7 / 222، أسنى المطالب 3 / 445، ابن
عابدين 2 / 675، حاشية الدسوقي 2 / 525.
(22/239)
بِأَنْ لَمْ يَجِدِ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ
لَهُ غَيْرَهَا، أَوْ لَمْ يَقْبَل الطِّفْل ثَدْيَ غَيْرِهَا، أَوْ لَمْ
يَكُنْ لِلأَْبِ وَلاَ لِلطِّفْل مَالٌ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ،
وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى الأُْمِّ إِرْضَاعُ
الطِّفْل اللِّبَأَ وَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهَا، وَاللِّبَأُ مَا يَنْزِل
بَعْدَ الْوِلاَدَةِ مِنَ اللَّبَنِ؛ لأَِنَّ الطِّفْل لاَ يَسْتَغْنِي
عَنْهُ غَالِبًا، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ مُدَّةِ بَقَائِهِ لأَِهْل
الْخِبْرَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الأُْمِّ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الاِسْتِرْضَاعِ عَلَى الأَْبِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (3)
} .
وَإِنِ اخْتَلَفَا فَقَدْ تَعَاسَرَا، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ
إِجْبَارَ الأُْمِّ عَلَى الرَّضَاعِ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ
لِحَقِّ الْوَلَدِ، أَوْ لِحَقِّ الزَّوْجِ، أَوْ لَهُمَا: لاَ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الزَّوْجِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِجْبَارَهَا
عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَلاَ عَلَى خِدْمَةِ نَفْسِهِ
فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الْوَلَدِ؛
لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَقِّهِ لَلَزِمَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَلَمْ
يَقُلْهُ أَحَدٌ؛ وَلأَِنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَلْزَمُ الْوَالِدَ
لِوَلَدِهِ، فَلَزِمَ الأَْبَ عَلَى الْخُصُوصِ كَالنَّفَقَةِ، أَوْ كَمَا
بَعْدَ الْفُرْقَةِ.
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 445، نهاية المحتاج 7 / 221 - 222
(2) المصادر السابقة.
(3) سورة الطلاق / 6.
(22/239)
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا؛
لأَِنَّ مَا لاَ مُنَاسَبَةَ فِيهِ لاَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِانْضِمَامِ
بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمَا لَثَبَتَ الْحُكْمُ
بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلاَدَهُنَّ (1) } مَحْمُولٌ عَلَى حَال الاِتِّفَاقِ وَعَدَمِ
التَّعَاسُرِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ الرَّضَاعُ عَلَى الأُْمِّ بِلاَ أُجْرَةٍ
إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا، وَكَانَتْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ،
وَلَوْ حُكْمًا كَالرَّجْعِيَّةِ، أَمَّا الْبَائِنُ مِنَ الأَْبِ،
وَالشَّرِيفَةُ الَّتِي لاَ يُرْضِعُ مِثْلُهَا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا
الرَّضَاعُ، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتِ الأُْمُّ لِذَلِكَ بِأَنْ لَمْ
يُوجَدْ غَيْرُهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلاَدَهُنَّ} .
وَقَالُوا: اسْتَثْنَى الَّتِي لاَ يُرْضِعُ مِثْلُهَا مِنْ عُمُومِ
الآْيَةِ لأَِصْلٍ مِنْ أُصُول الْفِقْهِ وَهُوَ: الْعَمَل
بِالْمَصْلَحَةِ، وَلأَِنَّ الْعُرْفَ عَدَمُ تَكْلِيفِهَا بِالرَّضَاعِ
فَهُوَ كَالشَّرْطِ (3) .
حَقُّ الأُْمِّ فِي الرَّضَاعِ:
5 - إِنْ رَغِبَتِ الأُْمُّ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا أُجِيبَتْ وُجُوبًا.
سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُطَلَّقَةً، أَمْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) المغني 7 / 627.
(3) الفواكه الدواني 2 / 100، حاشية الدسوقي 2 / 525.
(22/240)
قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا (1) } .
وَالْمَنْعُ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مُضَارَّةٌ لَهَا؛ وَلأَِنَّهَا
أَحْنَى عَلَى الْوَلَدِ وَأَشْفَقُ، وَلَبَنُهَا أَمْرَأُ وَأَنْسَبُ لَهُ
غَالِبًا. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ
الإِْرْضَاعِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا
أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
(2) .
حَقُّ الأُْمِّ فِي أُجْرَةِ الرَّضَاعِ:
6 - لِلأُْمِّ طَلَبُ أُجْرَةِ الْمِثْل بِالإِْرْضَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ
فِي عِصْمَةِ الأَْبِ أَمْ خَلِيَّةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (3) } وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ أَوْ فِي
عِدَّتِهِ فَلَيْسَ لَهَا طَلَبُ الأُْجْرَةِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرَّضَاعَ دِيَانَةً مُقَيَّدًا بِإِيجَابِ رِزْقِهَا
عَلَى الأَْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (5) } ، وَهُوَ قَائِمٌ
بِرِزْقِهَا حَالَةَ بَقَائِهَا فِي عِصْمَتِهِ أَوْ فِي عِدَّتِهِ،
بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِي عِصْمَتِهِ وَلاَ فِي عِدَّتِهِ،
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) المغني 7 / 627، نهاية المحتاج 7 / 222، أسنى المطالب 3 / 45، حاشية
الدسوقي 2 / 526، ابن عابدين 2 / 657 - 676
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) المصادر السابقة.
(5) سورة البقرة / 233.
(22/240)
فَتَقُومُ الأُْجْرَةُ مَقَامَ الرِّزْقِ؛
وَلأَِنَّ إِلْزَامَ الْبَائِنِ بِالإِْرْضَاعِ مَجَّانًا مَعَ انْقِطَاعِ
نَفَقَتِهَا عَنِ الأَْبِ مُضَارَّةٌ لَهَا، فَسَاغَ لَهَا أَخْذُ
الأُْجْرَةِ بِالرَّضَاعِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ (1) . وَقَال تَعَالَى:
{لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا (2) } فَإِنْ طَلَبَتِ الأُْمُّ
أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل وَوَجَدَ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ لَهُ
مَجَّانًا أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْل جَازَ لَهُ انْتِزَاعُهُ مِنْهَا،
لأَِنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا بِطَلَبِهَا مَا لَيْسَ لَهَا، فَدَخَلَتْ
فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ
أُخْرَى (3) } .
وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ لَهُ بِأَقَل مِمَّا طَلَبَتْهُ
الأُْمُّ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا فِي الرَّضَاعِ؛ لأَِنَّهَا تَسَاوَتْ
مَعَ غَيْرِهَا فِي الأُْجْرَةِ فَصَارَتْ أَحَقَّ بِهَا، كَمَا لَوْ
طَلَبَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أُجْرَةَ الْمِثْل (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الأُْمُّ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا
وَكَانَتْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ فَلَيْسَ لَهَا طَلَبُ الأُْجْرَةِ
بِالإِْرْضَاعِ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَهُ عَلَيْهَا فَلاَ تَسْتَحِقُّ
بِوَاجِبٍ أُجْرَةً. أَمَّا الشَّرِيفَةُ الَّتِي لاَ يُرْضِعُ مِثْلُهَا،
وَالْمُطَلَّقَةُ مِنَ الأَْبِ، فَلَهَا طَلَبُ الأُْجْرَةِ، وَإِنْ
تَعَيَّنَتْ لِلرَّضَاعِ أَوْ وَجَدَ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ لَهُ مَجَّانًا
(5) .
__________
(1) المصادر السابقة وابن عابدين 2 / 675.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) أسنى المطالب 3 / 455، المغني 7 / 627، ابن عابدين 2 / 675.
(5) حاشية الدسوقي 2 / 526، الفواكه الدواني 2 / 101.
(22/241)
ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ الَّتِي
تَتَرَتَّبُ عَلَى الرَّضَاعِ:
7 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الرَّضَاعِ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ:
أ - تَحْرِيمُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ حَصَل الرَّضَاعُ فِي زَمَنِ إِسْلاَمِ
الْمَرْأَةِ أَوْ كُفْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (1) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
ب - ثُبُوتُ الْمَحْرَمِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِجَوَازِ النَّظَرِ،
وَالْخَلْوَةِ، وَعَدَمِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِاللَّمْسِ عِنْدَ مَنْ
يَرَى ذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا سَائِرُ أَحْكَامِ النَّسَبِ كَالْمِيرَاثِ، وَالنَّفَقَةِ،
وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَعَدَمِ الْقَطْعِ فِي
سَرِقَةِ الْمَال، وَعَدَمِ الْحَبْسِ لِدَيْنِ الْوَلَدِ، وَالْوِلاَيَةِ
عَلَى الْمَال أَوِ النَّفْسِ فَلاَ تَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ، وَهَذَا مَحَل
اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) .
الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ، وَدَلِيل التَّحْرِيمِ:
8 - لِلرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ ثَلاَثَةُ أَرْكَانٍ:
1 - الْمُرْضِعُ
2 - الرَّضِيعُ
3 - اللَّبَنُ.
__________
(1) حديث: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " أخرجه البخاري (الفتح 5 /
253 - ط السلفية) ، ومسلم (1072 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) أسنى المطالب 3 / 415، قليوبي 4 / 62، روضة الطالبين 9 / 3، المغني 7 /
535، كشاف القناع 5 / 442.
(22/241)
أَوَّلاً: الْمُرْضِعُ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُرْضِعِ الَّتِي يَنْتَشِرُ بِلَبَنِهَا
التَّحْرِيمُ:
1 - أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً، فَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِلَبَنِ
الرَّجُل لِنُدْرَتِهِ وَعَدَمِ صَلاَحِيَتِهِ غِذَاءً لِلطِّفْل، وَلاَ
بِلَبَنِ الْبَهِيمَةِ، فَلَوِ ارْتَضَعَ طِفْلاَنِ مِنْ بَهِيمَةٍ لَمْ
يَصِيرَا أَخَوَيْنِ؛ لأَِنَّ تَحْرِيمَ الأُْخُوَّةِ فَرْعٌ عَلَى
تَحْرِيمِ الأُْمُومَةِ، وَلاَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الأُْمُومَةِ بِهَذَا
الرَّضَاعِ فَالأُْخُوَّةُ أَوْلَى (1) .
2 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ تَكُونَ مُحْتَمِلَةً
لِلْوِلاَدَةِ بِأَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْحَيْضِ وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ،
فَلَوْ ظَهَرَ لَبَنُ الصَّغِيرَةِ دُونَ تِسْعِ سِنِينَ فَلاَ يُحَرِّمُ،
بِخِلاَفِ مَنْ بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ لَمْ
يُتَيَقَّنْ بُلُوغُهَا بِالْحَيْضِ فَاحْتِمَال الْبُلُوغِ قَائِمٌ،
وَالرَّضَاعُ تِلْوُ النَّسَبِ فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالاِحْتِمَال، وَلاَ
يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ فَيُحَرِّمُ عِنْدَهُمْ لَبَنُ
الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْوَطْءَ (2) .
التَّحْرِيمُ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:
10 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ
الْمَيِّتَةِ كَمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْحَيَّةِ؛ لأَِنَّهُ وُجِدَ
الاِرْتِضَاعُ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 3، والقليوبي 4 / 62، ونهاية المحتاج 7 / 172، وابن
عابدين 2 / 403، وحاشية الدسوقي 2 / 502.
(2) نهاية المحتاج 7 / 172، ابن عابدين 2 / 403، حاشية الدسوقي 2 / 502.
(22/242)
عَلَى وَجْهٍ يُنْبِتُ اللَّحْمَ
وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ مِنَ امْرَأَةٍ فَأَثْبَتَ التَّحْرِيمَ كَمَا لَوْ
كَانَتْ حَيَّةً؛ وَلأَِنَّهُ لاَ فَارِقَ بَيْنَ شُرْبِ لَبَنِهَا فِي
حَيَاتِهَا، وَشُرْبِهِ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِلاَّ الْحَيَاةَ أَوِ
النَّجَاسَةَ، وَهَذَا لاَ أَثَرَ لَهُ؛ لأَِنَّ اللَّبَنَ لاَ يَمُوتُ،
وَلاَ أَثَرَ لِلنَّجَاسَةِ أَيْضًا، كَمَا لَوْ حُلِبَ بِإِنَاءٍ نَجِسٍ؛
وَلأَِنَّهُ لَوْ حُلِبَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا فَشَرِبَهُ بَعْدَ
مَوْتِهَا تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بِالاِتِّفَاقِ؛ وَلأَِنَّ ثَدْيَهَا لاَ
يَزِيدُ عَلَى الإِْنَاءِ فِي عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ لاَ تَزِيدُ عَلَى
عَظْمِ الْمَيِّتَةِ فِي ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُرْضِعُ حَيَّةً
حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً عِنْدَ انْفِصَال اللَّبَنِ مِنْهَا، فَلاَ تَثْبُتُ
الْحُرْمَةُ بِلَبَنٍ انْفَصَل عَنْ مَيِّتَةٍ كَمَا لاَ تَثْبُتُ
الْمُصَاهَرَةُ بِوَطْئِهَا، وَلِضَعْفِ حُرْمَتِهِ بِمَوْتِهَا؛
وَلأَِنَّهُ مِنْ جُثَّةٍ مُنْفَكَّةٍ عَنِ الْحِل وَالْحَرَامِ،
كَالْبَهِيمَةِ، وَإِنِ انْفَصَل اللَّبَنُ فِي حَيَاتِهَا فَأَوْجَرَ
الطِّفْل بَعْدَ مَوْتِهَا حَرَّمَ بِالاِتِّفَاقِ (2) .
تَقَدُّمُ الْحَمْل عَلَى الرَّضَاعِ:
11 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ أَنْ
يَتَقَدَّمَ حَمْلٌ. فَيُحَرِّمُ لَبَنُ الْبِكْرِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ
وَلَمْ تَحْبَل قَطُّ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ
__________
(1) المغني 7 / 540 - 541، الفواكه الدواني 2 / 88، حاشية الدسوقي 2 / 502،
ابن عابدين 2 / 403.
(2) القليوبي 4 / 62، نهاية المحتاج 7 / 172، أسنى المطالب 3 / 415.
(22/242)
اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ (1) } ،
وَلأَِنَّهُ لَبَنُ امْرَأَةٍ فَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ (2) .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ أَنَّ لَبَنَ
الْبِكْرِ لاَ يَنْشُرُ التَّحْرِيمَ؛ لأَِنَّهُ نَادِرٌ لَمْ تَجْرِ
الْعَادَةُ بِهِ لِلتَّغْذِيَةِ (3) .
ثَانِيًا: اللَّبَنُ:
12 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى جَوْفِ الطِّفْل بِمَصٍّ مِنَ
الثَّدْيِ، أَوْ إِيجَارٍ مِنَ الْحَلْقِ، أَوْ إِسْعَاطٍ مِنَ الأَْنْفِ،
سَوَاءٌ كَانَ اللَّبَنُ صِرْفًا أَوْ مَشُوبًا بِمَائِعٍ لَمْ يَغْلِبْ
عَلَى اللَّبَنِ، بِأَنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا، بِأَنْ كَانَتْ
صِفَاتُهُ بَاقِيَةً.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِطُ نَجَسًا كَالْخَمْرِ وَأَنْ
يَكُونَ طَاهِرًا كَالْمَاءِ وَلَبَنِ الشَّاةِ (4) .
12 م - أَمَّا إِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّبَنَ الْمَغْلُوبَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي
التَّحْرِيمِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلأَْغْلَبِ، وَلأَِنَّ اسْمَ اللَّبَنِ
يَزُول بِغَلَبَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ (5) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) المصادر السابقة وكفاية الأخيار 2 / 85، نهاية المحتاج 7 / 172، الوجيز
2 / 105
(3) كشاف القناع 5 / 444، المغني 7 / 540.
(4) القليوبي 4 / 62 - 63، المغني 7 / 540 - 545، حاشية الدسوقي 2 / 502،
أسنى المطالب 3 / 514، ابن عابدين 2 / 402 - 408، كشاف القناع 5 / 444،
445، بدائع الصنائع 4 / 8.
(5) شرح الدسوقي 2 / 503، شرح الزرقاني 4 / 239، المغني 7 / 539، كشاف
القناع 5 / 447، ابن عابدين 2 / 409، بدائع الصنائع 4 / 9.
(22/243)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا، بِأَنْ لَمْ
يَبْقَ مِنْ صِفَاتِهِ شَيْءٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَشْرَبَ الطِّفْل الْجَمِيعَ
أَوْ يَشْرَبَ بَعْضَهُ، إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ اللَّبَنَ قَدْ وَصَل إِلَى
الْجَوْفِ بِأَنْ بَقِيَ مِنْهُ أَقَل مِنْ قَدْرِ اللَّبَنِ، وَأَنْ
يَكُونَ اللَّبَنُ مِقْدَارًا لَوِ انْفَرَدَ لأََثَّرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: اللَّبَنُ الْمَشُوبُ كَالْمَحْضِ فِي إِثْبَاتِ
التَّحْرِيمِ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْمَشُوبُ هُوَ الْمُخْتَلِطُ
بِغَيْرِهِ، وَالْمَحْضُ هُوَ الْخَالِصُ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُ سِوَاهُ،
سَوَاءٌ شِيبَ بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ
غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا، وَقَال أَبُو بَكْرٍ: قِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ
أَنَّهُ لاَ يُحَرِّمُ؛ لأَِنَّهُ وَجُورٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ حَامِدٍ
أَنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ الْغَالِبُ اللَّبَنَ حَرَّمَ وَإِلاَّ فَلاَ؛
لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلأَْغْلَبِ؛ وَلأَِنَّهُ يَزُول بِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا
الاِسْمُ وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَوَجْهُ
الأَْوَّل أَنَّ اللَّبَنَ الْمَغْلُوبَ مَتَى كَانَ لَوْنُهُ ظَاهِرًا
فَقَدْ حَصَل شُرْبُهُ وَيَحْصُل مِنْهُ إِنْبَاتُ اللَّحْمِ وَإِنْشَازُ
الْعَظْمِ فَحَرَّمَ، كَمَا لَوْ كَانَ غَالِبًا، وَهَذَا فِيمَا إِذَا
كَانَتْ صِفَاتُ اللَّبَنِ بَاقِيَةً.
فَأَمَّا إِنْ صُبَّ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لَمْ
يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَبَنٍ مَشُوبٍ وَلاَ
يَحْصُل بِهِ التَّغَذِّي وَلاَ إِنْبَاتُ اللَّحْمِ وَلاَ إِنْشَازُ
الْعَظْمِ فَلَيْسَ بِرَضَاعٍ وَلاَ فِي مَعْنَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ لاَ
يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 172 - 173، روضة الطالبين 9 / 4.
(22/243)
الْقَاضِي أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ
بِهِ أَيْضًا لأَِنَّ أَجْزَاءَ اللَّبَنِ حَصَلَتْ فِي بَطْنِهِ
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَوْنُهُ ظَاهِرًا (1) .
13 - كَمَا اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِاللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ
بِطَعَامٍ وَالْمُتَغَيِّرَةِ هَيْئَتُهُ بِأَنْ يَصِيرَ جُبْنًا أَوْ
مَخِيضًا، أَوْ إِقْطًا.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِهِ لِوُصُول
عَيْنِ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِ الطِّفْل، وَحُصُول التَّغْذِيَةِ بِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَأْثِيرَ لِلَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِطَعَامٍ
وَلاَ الْمُتَغَيِّرِ هَيْئَتُهُ، وَلاَ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ لأَِنَّ
اسْمَ الرَّضَاعِ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ (2) .
اشْتِرَاطُ تَعَدُّدِ الرَّضَعَاتِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ
فَصَاعِدًا يُحَرِّمْنَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهَا.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي
رِوَايَةٍ عَنْهُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى
أَنَّ قَلِيل الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ وَإِنْ كَانَ مَصَّةً
وَاحِدَةً، فَالشَّرْطُ فِي التَّحْرِيمِ أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى
جَوْفِ الطِّفْل مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ (3) } .
وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ التَّحْرِيمَ
بِاسْمِ الرَّضَاعِ، فَحَيْثُ وُجِدَ وُجِدَ حُكْمُهُ،
__________
(1) المغني 8 / 539، 540
(2) المصادر السابقة.
(3) سورة النساء / 23.
(22/244)
وَوَرَدَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلآْيَةِ:
يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (1) حَيْثُ
أَطْلَقَ الرَّضَاعَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، وَلِحَدِيثِ كَيْفَ بِهَا
وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا (2) وَلَمْ يَسْتَفْصِل
عَنْ عَدَدِ الرَّضَعَاتِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَوْل الصَّحِيحِ
عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ مَا دُونَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ لاَ يُؤَثِّرُ فِي
التَّحْرِيمِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ،
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِيمَا
أُنْزِل مِنَ الْقُرْآنِ (عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ)
ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ (4) .
وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ نَسْخَ تِلاَوَةِ ذَلِكَ تَأَخَّرَ
جِدًّا حَتَّى إِنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَبَعْضُ النَّاسِ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ تِلاَوَتِهِ، فَلَمَّا
بَلَغَهُمْ نَسْخُ تِلاَوَتِهِ تَرَكُوهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ
يُتْلَى مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ،
__________
(1) حديث: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) حديث: " كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ " أخرجه البخاري (الفتح 9 /
152 - ط السلفية) من حديث عقبة بن الحارث.
(3) بدائع الصنائع 4 / 8، الفواكه الدواني 2 / 88، حاشية الدسوقي 2 / 502،
كشاف القناع 5 / 445 - 446، بداية المجتهد 2 / 31.
(4) حديث عائشة: " كان فيما أنزل من القرآن " أخرجه مسلم (2 / 1075 - ط
الحلبي) .
(22/244)
وَهُوَ مِنْ نَسْخِ التِّلاَوَةِ دُونَ
الْحُكْمِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ النَّسْخِ.
15 - وَلاَ يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ صِفَاتِ اللَّبَنِ وَطُرُقِ وُصُولِهِ
إِلَى الْمَعِدَةِ. فَإِنْ مَصَّهُ مِنَ الثَّدْيِ مَرَّةً، وَشَرِبَ مِنْ
إِنَاءٍ مَرَّةً، وَأَوْجَرَ مِنْ حَلْقِهِ مَرَّةً، وَأَكَلَهُ جُبْنًا
مَرَّةً بِحَيْثُ تَمَّ لَهُ خَمْسُ مَرَّاتٍ أَثَّرَ فِي التَّحْرِيمِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الرَّضَعَاتُ مُتَفَرِّقَاتٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى
اشْتِرَاطَ تَعَدُّدِ الرَّضَعَاتِ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي التَّعَدُّدِ وَالتَّفَرُّقِ هُوَ الْعُرْفُ إِذْ لاَ
ضَابِطَ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَلاَ فِي الشَّرْعِ.
وَالرُّجُوعُ فِي الرَّضْعَةِ وَالرَّضَعَاتِ إِلَى الْعُرْفِ، وَمَا
تَنْزِل عَلَيْهِ الأَْيْمَانُ فِي ذَلِكَ، وَمَتَى تَخَلَّل فَصْلٌ
طَوِيلٌ تَعَدَّدَ.
وَلَوِ ارْتَضَعَ ثُمَّ قَطَعَ إِعْرَاضًا، وَاشْتَغَل بِشَيْءٍ آخَرَ،
ثُمَّ عَادَ وَارْتَضَعَ، فَهُمَا رَضْعَتَانِ، وَلَوْ قَطَعَتِ
الْمُرْضِعَةُ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الإِْرْضَاعِ، فَهُمَا رَضْعَتَانِ
عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الصَّبِيُّ،
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلاَ
يَحْصُل التَّعَدُّدُ بِأَنْ يَلْفِظَ الثَّدْيَ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى
الْتِقَامِهِ فِي الْحَال، وَلاَ بِأَنْ يَتَحَوَّل مِنْ ثَدْيٍ إِلَى
ثَدْيٍ، أَوْ تَحَوُّلِهِ لِنَفَادِ مَا فِي الأَْوَّل، وَلاَ بِأَنْ
يَلْهُوَ عَنْ الاِمْتِصَاصِ، وَالثَّدْيُ فِي فَمِهِ، وَلاَ بِأَنْ
يَقْطَعَ التَّنَفُّسَ، وَلاَ بِأَنْ يَتَخَلَّل النَّوْمَةُ الْخَفِيفَةُ،
وَلاَ بِأَنْ تَقُومَ وَتَشْتَغِل بِشُغْلٍ خَفِيفٍ،
(22/245)
ثُمَّ تَعُودَ إِلَى الإِْرْضَاعِ، فَكُل
ذَلِكَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ (1) .
ثَالِثًا: الرَّضِيعُ:
أ - أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى الْمَعِدَةِ:
16 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى الْمَعِدَةِ بِارْتِضَاعٍ أَوْ
إِيجَارٍ أَوْ إِسْعَاطٍ وَإِنْ كَانَ الطِّفْل نَائِمًا؛ لأَِنَّ
الْمُؤَثِّرَ فِي التَّحْرِيمِ هُوَ حُصُول الْغِذَاءِ بِاللَّبَنِ
وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَسَدِّ الْمَجَاعَةِ
لِتَتَحَقَّقَ الْجُزْئِيَّةُ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِمَا وَصَل
إِلَى الْمَعِدَةِ.
أَمَّا الإِْقْطَارُ فِي الأُْذُنِ أَوِ الإِْحْلِيل، أَوِ الْحُقْنَةُ فِي
الدُّبُرِ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ (2) .
ب - أَلاَّ يَبْلُغَ الرَّضِيعُ حَوْلَيْنِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ ارْتِضَاعَ الطِّفْل
وَهُوَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ يُؤَثِّرُ فِي التَّحْرِيمِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَهُوَ الأَْصَحُّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ مُدَّةَ
الرَّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ فِي التَّحْرِيمِ حَوْلاَنِ، فَلاَ يُحَرِّمُ
بَعْدَ حَوْلَيْنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 417، نهاية المحتاج 7 / 176، سبل السلام 3 / 216،
القليوبي 4 / 63، المغني 7 / 535 - 536، كشاف القناع 5 / 445، روضة
الطالبين 9 / 7.
(2) روضة الطالبين 9 / 6، القليوبي 4 / 63، 64، بدائع الصنائع 4 / 19، أسنى
المطالب 3 / 416، المغني 7 / 513، كشاف القناع 5 / 445، حاشية الدسوقي 2 /
503) ، قال المالكية: يؤثر الحقنة في الدبر.
(22/245)
يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ (1) } ، وَقَالُوا:
جَعَل اللَّهُ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ تَمَامَ الرَّضَاعَةِ،
وَلَيْسَ وَرَاءَ تَمَامِ الرَّضَاعَةِ شَيْءٌ. وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ (2) } وَقَال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلاَثُونَ شَهْرًا (3) } وَأَقَل الْحَمْل سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَتَبْقَى
مُدَّةُ الْفِصَال حَوْلَيْنِ؛ وَلِحَدِيثِ: لاَ رَضَاعَ إِلاَّ مَا كَانَ
فِي الْحَوْلَيْنِ (4) . وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا لاَ
يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلاَّ مَا فَتَقَ الأَْمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ
وَكَانَ قَبْل الْفِطَامِ (5) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّ إِرْضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ ". وَاحْتَجُّوا
بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ
سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ يَدْخُل
عَلَيْكِ الْغُلاَمُ الأَْيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُل
عَلَيَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ؟ . قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ يَا رَسُول
اللَّهِ: إِنَّ سَالِمًا يَدْخُل عَلَيَّ
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) سورة لقمان / 14.
(3) سورة الأحقاف / 15.
(4) حديث: " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " أخرجه الدارقطني (4 / 17 - ط.
دار المحاسن) من حديث ابن عباس، وصوب الدارقطني وقفه.
(5) حديث: " لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء " أخرجه الترمذي (3 /
449 - ط الحلبي) من حديث أم سلمة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(22/246)
وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نَفْسِ أَبِي
حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُل عَلَيْكِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمَالِكٍ
فِي الْمُوَطَّأِ قَال: أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ (1) فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخَذَتْ بِهِ عَائِشَةُ، وَأَبَى غَيْرُهَا مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذْنَ
بِهِ، مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ عَنْهُ قَال: الرَّضَاعَةُ مِنَ
الْمَجَاعَةِ (2) لَكِنَّهَا رَأَتِ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ
رَضَاعَةً أَوْ تَغْذِيَةً. فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ الثَّانِيَ لَمْ
يُحَرِّمْ إِلاَّ مَا كَانَ قَبْل الْفِطَامِ،
وَهَذَا هُوَ إِرْضَاعُ عَامَّةِ النَّاسِ. وَأَمَّا الأَْوَّل فَيَجُوزُ
إِنِ احْتِيجَ إِلَى جَعْلِهِ ذَا مَحْرَمٍ.
وَقَدْ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ
مُتَوَجِّهٌ.
وَقَال: رَضَاعُ الْكَبِيرِ تَنْتَشِرُ بِهِ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ
الدُّخُول وَالْخَلْوَةِ إِذَا كَانَ قَدْ تَرَبَّى فِي الْبَيْتِ بِحَيْثُ
لاَ يَحْتَشِمُونَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ
وَعَطَاءٍ وَاللَّيْثِ (3) .
__________
(1) حديث: " أرضعيه حتى يدخل عليك " أخرجه مسلم (2 / 1077 - ط الحلبي) ،
ورواية مالك في الموطأ (2 / 605 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " الرضاعة من المجاعة " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 146 - ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 1078 - ط الحلبي) .
(3) بدائع الصنائع 4 / 6، وابن عابدين 2 / 403، والمغني 7 / 542، وكشاف
القناع 5 / 445، ونهاية المحتاج 7 / 166، 175، وأسنى المطالب 3 / 416،
والقليوبي 4 / 63، وحاشية الدسوقي 2 / 503، والفواكه الدواني 2 / 88،
ومجموع فتاوى ابن تيمية 34 / 60، والاختيارات 283، والإنصاف 9 / 334.
(22/246)
18 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ
فِي التَّحْرِيمِ أَنْ يَرْتَضِعَ فِي حَوْلَيْنِ أَوْ بِزِيَادَةِ شَهْرٍ
أَوْ شَهْرَيْنِ، وَأَلاَّ يُفْطَمَ قَبْل انْتِهَاءِ الْحَوْلَيْنِ
فِطَامًا يَسْتَغْنِي فِيهِ بِالطَّعَامِ عَنِ اللَّبَنِ، فَإِنْ فُطِمَ
وَاسْتَغْنَى بِالطَّعَامِ عَنِ اللَّبَنِ ثُمَّ رَضَعَ فِي الْحَوْلَيْنِ
فَلاَ يُحَرِّمُ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: مُدَّةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ حَوْلاَنِ
وَنِصْفٌ وَلاَ يُحَرِّمُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، سَوَاءٌ أَفُطِمَ فِي
أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ أَمْ لَمْ يُفْطَمْ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ (2) } قَال: فَأَثْبَتَ
سُبْحَانَهُ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ مُطْلَقًا عَنِ التَّعَرُّضِ
لِزَمَانِ الرَّضَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ زَمَانَ
مَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَالنِّصْفِ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَيُعْمَل
بِإِطْلاَقِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا (4) } أَيْ: وَمُدَّةُ كُلٍّ
مِنْهُمَا ثَلاَثُونَ شَهْرًا.
تَحْرِيمُ النِّكَاحِ بِالرَّضَاعِ:
1 - مَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّضِيعِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة النساء / 23.
(3) المراجع السابقة.
(4) سورة الأحقاف / 15.
(22/247)
الرَّضِيعِ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ
يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ مِنَ النَّسَبِ وَهُنَّ السَّبْعُ اللاَّتِي ذُكِرْنَ
فِي آيَةِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (1) } وَهُنَّ
الأُْمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ، وَالأَْخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالاَتُ
وَبَنَاتُ الأَْخِ وَبَنَاتُ الأُْخْتِ. وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الأُْمِّ
وَالأُْخْتِ مِنَ الرَّضَاعِ بِنَصِّ الْكِتَابِ قَال تَعَالَى:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ (2) } ، وَتَحْرِيمُ الْبِنْتِ بِالتَّبَعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ
إِذَا حُرِّمَتِ الأُْخْتُ فَالْبِنْتُ أَوْلَى.
أَمَّا سَائِرُ الْمَحَارِمِ فَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ بِالسُّنَّةِ
وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْرُمُ مِنَ
الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (3) . وَثَبَتَتِ
الْمَحْرَمِيَّةُ لأَِنَّهَا فَرْعٌ عَلَى التَّحْرِيمِ فَتُحَرَّمُ
الْمُرْضِعَةُ عَلَى الرَّضِيعِ؛ لأَِنَّهَا أُمُّهُ، وَآبَاؤُهَا
وَأُمَّهَاتُهَا مِنَ النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ.
فَإِنْ كَانَ أُنْثَى حَرُمَ عَلَى الأَْجْدَادِ نِكَاحُهَا أَوْ ذَكَرًا
حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْجَدَّاتِ. وَفُرُوعُ الْمُرْضِعَةِ مِنَ
الرَّضَاعِ كَفُرُوعِهَا مِنَ النَّسَبِ، فَأَوْلاَدُهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ
رَضَاعٍ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ صَاحِبِ اللَّبَنِ
أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ مَنْ تَقَدَّمَتْ وِلاَدَتُهُ عَلَيْهِ
وَمَنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لأَِنَّهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) سورة النساء / 23.
(3) حديث: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " تقدم تخريجه ف / 7.
(22/247)
{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (1) }
فَقَدْ أَثْبَتَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحُرْمَةَ وَالأُْخُوَّةَ بَيْنَ
بَنَاتِ الْمُرْضِعَةِ وَبَيْنَ الرَّضِيعِ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ
بَيْنَ أُخْتٍ وَأُخْتٍ، وَكَذَا بَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ
أَبْنَائِهَا، وَإِنْ سَفَلْنَ (2) .
2 - الْمُرْضِعَةُ:
20 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ أَبْنَاءُ رَضِيعِهَا وَأَبْنَاءُ
أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أُصُولُهُ
كَأَبِيهِ، وَجَدِّهِ، وَلاَ حَوَاشِيهِ كَإِخْوَتِهِ وَأَعْمَامِهِ
وَأَخْوَالِهِ، فَيَجُوزُ لِهَؤُلاَءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمُرْضِعَةَ
أَوْ بَنَاتِهَا أَوْ أَخَوَاتِهَا، فَالرَّضَاعَةُ لاَ تَنْشُرُ
الْحُرْمَةَ إِلَى أُصُول الرَّضِيعِ وَحَوَاشِيهِ (3) .
3 - الْفَحْل صَاحِبُ اللَّبَنِ:
21 - إِنَّ صَاحِبَ اللَّبَنِ - وَهُوَ زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي نَزَل
لَهَا مِنْهُ اللَّبَنُ - وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ "
لَبَنُ الْفَحْل " يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، فَيَحْرُمُ عَلَى صَاحِبِ
اللَّبَنِ مَنْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَتُهُ؛ لأَِنَّهَا ابْنَتُهُ مِنَ
الرَّضَاعِ، وَتَحْرُمُ عَلَى أَبْنَائِهِ الَّذِينَ مِنْ غَيْرِ
الْمُرْضِعَةِ، لأَِنَّهُمْ إِخْوَتُهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَبْنَاءُ
بَنَاتِهِ
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) بدائع الصنائع 4 / 3 - 4، القليوبي 3 / 240 - 241، أسنى المطالب 3 /
149 - 418، حاشية الدسوقي 2 / 503، المغني 6 / 571، كشاف القناع 5 / 70.
(3) المصادر السابقة.
(22/248)
مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ؛ لأَِنَّهُمْ
أَبْنَاءُ إِخْوَتِهَا لأَِبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ كُلٌّ
مِنْ زَوْجَتَيْهِ طِفْلاً أَجْنَبِيًّا عَنِ الآْخَرِ فَقَدْ صَارَا
أَخَوَيْنِ لأَِبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَيَحْرُمُ التَّنَاكُحُ بَيْنَهُمَا
إِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أُنْثَى؛ لأَِنَّ بَيْنَهُمَا أُخُوَّةً لأَِبٍ
مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَتَحْرُمُ الرَّضِيعَةُ عَلَى آبَاءِ زَوْجِ
الْمُرْضِعَةِ؛ لأَِنَّهُمْ أَجْدَادُهَا مِنْ قِبَل الأَْبِ مِنَ
الرَّضَاعَةِ، وَعَلَى إِخْوَتِهِ؛ لأَِنَّهُمْ أَعْمَامُهَا مِنَ
الرَّضَاعَةِ، وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتُ الرَّضِيعِ فَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ،
وَلاَ حُرْمَةَ بَيْنَ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَأُمَّهَاتِ الرَّضِيعِ
وَأَخَوَاتِهِ مِنَ النَّسَبِ (1) .
22 - وَدَلِيل نَشْرِ الْحُرْمَةِ مِنْ صَاحِبِ اللَّبَنِ: مَا رَوَتْهُ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي
الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَ أَنْ نَزَل الْحِجَابُ، فَقُلْتُ:
وَاللَّهِ لاَ آذَنُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ
أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ. فَدَخَل
عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا
رَسُول اللَّهِ إِنَّ الرَّجُل لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ
أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، فَقَال: ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ
تَرِبَتْ يَمِينُكِ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 443، المغني 6 / 572، 7 / 541، بدائع الصنائع 4 / 3 -
4، أسنى المطالب 3 / 418، روضة الطالبين 9 / 15، بداية المجتهد 2 / 33،
حاشية الدسوقي 2 / 502 - 503
(2) حديث عائشة قالت: " إن أفلح أخا أبي القعيس " أخرجه البخاري الفتح (9 /
338 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1069 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(22/248)
وَقَال عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ
(1) وَسُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ
امْرَأَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالأُْخْرَى غُلاَمًا
هَل يَتَزَوَّجُ الْغُلاَمُ الْجَارِيَةَ؟ قَال: لاَ، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ
(2) .
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْل سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَيُرْوَى
عَدَمُ التَّحْرِيمِ بِهِ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ (3) .
ثُبُوتُ الأُْبُوَّةِ وَلَوْ بَعْدَ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ:
23 - تَثْبُتُ الأُْبُوَّةُ بِاللَّبَنِ وَلَوْ بَعْدَ الطَّلاَقِ أَوِ
الْمَوْتِ، قَصُرَ الزَّمَانُ أَوْ طَال.
فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَلَهَا لَبَنٌ
فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلاً قَبْل أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَالرَّضِيعُ ابْنُ
الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمَيِّتِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَلاَ تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ
__________
(1) قول عائشة - رضي الله عنها -: " حرموا من الرضاعة. . . . " أخرجه
البخاري (الفتح 9 / 160 - ط السلفية) .
(2) روضة الطالبين 9 / 15 - 16، أسنى المطالب 3 / 418، المغني 7 / 541 0
542، بدائع الصنائع 4 / 3، ابن عابدين 2 / 411، حاشية الدسوقي 2 / 504 -
505، الفواكه الدواني 2 / 89.
(3) المغني 6 / 572.
(22/249)
اللَّبَنِ إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ أَوْ
طَلاَقِهِ، سَوَاءٌ ارْتَضَعَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، قَصُرَتِ
الْمُدَّةُ أَمْ طَالَتْ، انْقَطَعَ اللَّبَنُ أَمْ لَمْ يَنْقَطِعْ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مَا يُحَال اللَّبَنُ عَلَيْهِ، فَهُوَ
بِاسْتِمْرَارِهِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ (1) .
فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا وَوَلَدَتْ مِنْهُ
فَاللَّبَنُ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ انْقَطَعَ وَعَادَ
أَمْ لَمْ يَنْقَطِعْ؛ لأَِنَّ اللَّبَنَ تَبَعٌ لِلْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ
لِلثَّانِي. وَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنَ الثَّانِي، وَبَقِيَ لَبَنُ الأَْوَّل
بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ فَهُوَ لِلأَْوَّل سَوَاءٌ حَبِلَتْ
مِنَ الثَّانِي أَمْ لَمْ تَحْبَل؛ لأَِنَّ اللَّبَنَ كَانَ لِلأَْوَّل
وَلَمْ يَجِدَّ مَا يَجْعَلُهُ مِنَ الثَّانِي فَبَقِيَ لِلأَْوَّل.
وَإِنْ حَبِلَتْ مِنَ الثَّانِي وَزَادَ اللَّبَنُ بِالْحَمْل فَاخْتَلَفَ
فِيهِ الْفُقَهَاءُ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل
الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ لِلأَْوَّل مَا لَمْ تَلِدْ. وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ اللَّبَنَ لَهُمَا؛ لأَِنَّ زِيَادَةَ اللَّبَنِ
عِنْدَ حُدُوثِ الْحَمْل ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنَ الثَّانِي. وَبَقَاءُ
لَبَنِ الأَْوَّل يَقْتَضِي كَوْنَ أَصْلِهِ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُضَافَ
إِلَيْهِمَا (2) .
ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِلَبَنِ مَنْ زَنَى:
24 - إِنْ وَلَدَتْ مِنَ الزِّنَى فَنَزَل لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ
صَبِيًّا، صَارَ الرَّضِيعُ ابْنًا لَهَا بِاتِّفَاقِ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 18، أسنى المطالب 3 / 418، بدائع الصنائع / 10،
المغني 7 / 547 - 548
(2) المصادر السابقة.
(22/249)
الْفُقَهَاءِ (1) ؛ لأَِنَّهُ رَضَعَ
لَبَنَهَا حَقِيقَةً وَالْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا،
وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَبَيْنَ
الرَّجُل الَّذِي ثَابَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَبَيْنَ صَاحِبِ
اللَّبَنِ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ لَبَنَ حَمْلٍ يَنْتَسِبُ إِلَى
الْوَاطِئِ بِأَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ.
أَمَّا إِنْ نَزَل اللَّبَنُ بِحَمْلٍ مِنَ الزِّنَى فَلاَ تَثْبُتُ
الْحُرْمَةُ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَالْفَحْل الزَّانِي؛ لأَِنَّهُ لَبَنٌ
غَيْرُ مُحْتَرَمٍ؛ وَلأَِنَّ التَّحْرِيمَ بَيْنَهُمَا فَرْعٌ لِحُرْمَةِ
الأُْبُوَّةِ، فَلَمَّا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَةُ الأُْبُوَّةِ لَمْ يَثْبُتْ
مَا هُوَ فَرْعٌ لَهَا وَهُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ لَبَنَ
الْفَحْل يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَإِنْ نَزَل بِزِنًى، وَقَالُوا:؛
لأَِنَّهُ مَعْنًى يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَاسْتَوَى فِي ذَلِكَ مُبَاحُهُ
وَمَحْظُورُهُ كَالْوَطْءِ. فَإِنَّ الْوَاطِئَ حَصَل مِنْهُ وَلَدٌ
وَلَبَنٌ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلَدَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْوَاطِئِ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ؛ وَلأَِنَّهُ رَضَاعٌ يَنْشُرُ
الْحُرْمَةَ إِلَى الْمُرْضِعَةِ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 16، أسنى المطالب 3 / 418، المغني 7 / 544، بدائع
الصنائع 4 / 4.
(2) روضة الطالبين 9 / 16، أسنى المطالب 3 / 418، المغني 7 / 544، بدائع
الصنائع 4 / 4، ابن عابدين 2 / 411، كشاف القناع 5 / 444.
(22/250)
فَيَنْشُرُهَا إِلَى الْوَاطِئِ (1) .
لَبَنُ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ:
25 - إِذَا نَفَى زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ وَلَدَهَا بِلِعَانٍ، فَأَرْضَعَتْ
مَعَهُ صَغِيرَةً بِلَبَنِهِ لَمْ تَثْبُتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الزَّوْجِ
وَبَيْنَ الرَّضِيعِ؛ لاِنْتِفَاءِ نِسْبَةِ اللَّبَنِ إِلَيْهِ
بِانْتِفَاءِ الْوَلَدِ عَنْهُ.
وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ الرَّضَاعِ انْتَفَى الرَّضِيعُ عَنْهُ أَيْضًا.
كَمَا انْتَفَى الْوَلَدُ.
وَإِنِ اسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ بَعْدَ اللِّعَانِ لَحِقَ الرَّضِيعُ،
فَالأَْصْل أَنَّ كُل مَنْ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ لاَ يَثْبُتُ مِنْهُ
الرَّضَاعُ، وَمَنْ لاَ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ لاَ يَثْبُتُ مِنْهُ
الرَّضَاعُ (2) .
الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّضَاعِ:
26 - أ - تَحْرُمُ أُمُّ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ
مَهْمَا عَلَوْنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُنَاكَ دُخُولٌ بِالزَّوْجَةِ أَمْ
لَمْ يَكُنْ.
ب - زَوْجَةُ الأَْبِ وَالْجَدِّ مِنَ الرَّضَاعِ، وَإِنْ عَلاَ، سَوَاءٌ
دَخَل الأَْبُ وَالْجَدُّ بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل، كَمَا يَحْرُمُ
عَلَيْهِ زَوْجَةُ أَبِيهِ مِنَ النَّسَبِ.
__________
(1) المصادر السابقة وحاشية الدسوقي 2 / 504 - 505، الفواكه الدواني 2 /
89، شرح فتح القدير 3 / 313 - ط إحياء التراث العربي بيروت، حاشية ابن
عابدين 2 / 411 - 412
(2) المصادر السابقة.
(22/250)
ج - زَوْجَةُ الاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ
وَابْنِ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَإِنْ نَزَلُوا، سَوَاءٌ دَخَل
الاِبْنُ وَنَحْوُهُ بِالزَّوْجَةِ أَمْ لَمْ يَدْخُل، كَمَا يَحْرُمُ
عَلَيْهِ زَوْجَةُ أَوْلاَدِهِ مِنَ النَّسَبِ.
د - بِنْتُ الزَّوْجَةِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَبَنَاتُ أَوْلاَدِهَا مَهْمَا
نَزَلْنَ، إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَدْخُولاً بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
دَخَل بِهَا، فَلاَ تُحَرَّمُ فُرُوعُهَا مِنَ الرَّضَاعِ عَلَى الزَّوْجِ،
كَمَا فِي النَّسَبِ.
هـ - يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَأُخْتِهَا، أَوْ عَمَّتِهَا،
أَوْ خَالَتِهَا مِنَ الرَّضَاعِ (1) .
الرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ:
27 - الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ يَقْطَعُهُ
كَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ؛ لأَِنَّ أَدِلَّةَ التَّحْرِيمِ لَمْ
تُفَرِّقْ بَيْنَ رَضَاعٍ مُقَارَنٍ وَبَيْنَ طَارِئٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدْ
يَقْتَضِي الرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ مَعَ الْقَطْعِ حُرْمَةً
مُؤَبَّدَةً، وَقَدْ لاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ
زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ
بِنْتُهَا (كَأُمِّهِ مِنَ النَّسَبِ، أَوِ الرَّضَاعِ، أَوْ جَدَّتِهِ،
أَوْ بِنْتِهِ، أَوْ حَفِيدَتِهِ، أَوْ زَوْجَةِ أَبِيهِ، أَوْ زَوْجَةِ
ابْنِهِ، أَوْ زَوْجَةِ أَخِيهِ بِلِبَانِهِمْ) رَضَاعًا مُحَرَّمًا
انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً؛
لأَِنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ، أَوْ عَمَّتَهُ، أَوْ خَالَتَهُ، أَوْ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 24، أسنى المطالب 3 / 420 - 421، حاشية الدسوقي 2 /
505، بدائع الصنائع 4 / 13، المغني 6 / 581.
(22/251)
حَفِيدَتَهُ، أَوْ بِنْتَ ابْنِهِ، أَوِ
ابْنَةَ أَخِيهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ غَيْرِ الأَْبِ، وَالاِبْنِ، وَالأَْخِ
فَلاَ يُؤَثِّرُ؛ لأَِنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَكُونَ رَبِيبَةً لَهُمْ
وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ عَلَيْهِمْ (1) .
وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةٌ لَهُ أُخْرَى فَسَدَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ
الْمُرْضِعَةِ فِي الْحَال، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ أُمَّ زَوْجَتِهِ، وَالأُْمُّ تُحَرَّمُ
بِنِكَاحِ الْبِنْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ (2) }
وَلَمْ يُشْتَرَطِ الدُّخُول بِهَا، أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ
أَرْضَعَتْهَا بِلَبَنِ الزَّوْجِ أَوْ دَخَل بِالْمُرْضِعَةِ انْفَسَخَ
النِّكَاحُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ بِنْتَهُ
بِالرَّضَاعِ، أَوْ رَبِيبَةً دَخَل بِأُمِّهَا.
أَمَّا إِنْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَدْخُل بِالْمُرْضِعَةِ،
فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا رَبِيبَةٌ لَمْ يَدْخُل بِأُمِّهَا. وَاللَّهُ
يَقُول: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ (3) } وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛
لأَِنَّ اجْتِمَاعَ الأُْمِّ وَالْبِنْتِ فِي نِكَاحٍ مُمْتَنِعٌ (4) .
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 419، بدائع الصنائع 4 / 10 - 11، روضة الطالبين 9 /
20، كشاف القناع 5 / 448، المغني 7 / 551، حاشية الدسوقي 2 / 505، شرح
الزرقاني 4 / 241.
(2) سورة النساء / 23.
(3) سورة النساء / 23.
(4) أسنى المطالب 3 / 421، روضة الطالبين 9 / 26، بدائع الصنائع 4 / 11،
ابن عابدين 2 / 410، حاشية الدسوقي 1 / 505، المغني 7 / 549، كشاف القناع 5
/ 447.
(22/251)
وَفِي هَذَا الْمَوْضُوعِ تَفْرِيعَاتٌ
تُنْظَرُ فِي الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ فِي بَابِ الرَّضَاعِ.
مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ:
28 - يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.
الإِْقْرَارُ بِالرَّضَاعِ:
29 - إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً ثُمَّ قَال: هِيَ أُخْتِي أَوِ
ابْنَتِي مِنَ الرَّضَاعِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ.
فَإِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلاَ مَهْرَ
لَهَا، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَلَهَا نِصْفُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: هُوَ أَخِي مِنَ
الرَّضَاعَةِ فَأَكْذَبَهَا وَلَمْ تَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَهِيَ
زَوْجَتُهُ فِي الْحُكْمِ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ الإِْقْرَارُ مُمْكِنًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا،
بِأَنْ يَقُول: فُلاَنَةُ بِنْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ أَكْبَرُ
مِنْهُ سِنًّا فَهُوَ لَغْوٌ (1) .
الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ:
30 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ
الإِْقْرَارُ، فَرَجَعَ عَنْهُ الْمُقِرُّ أَوْ رَجَعَا لَمْ يُقْبَل
قَضَاءً،
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 424، بدائع الصنائع 4 / 14، المغني 7 / 560، نهاية
المحتاج 7 / 182، ابن عابدين 2 / 412، شرح الزرقاني 4 / 242، الخرشي 4 /
180.
(22/252)
وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ
فَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ. فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ
الأَْمْرَ كَمَا قَال فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلاَ نِكَاحَ
بَيْنَهُمَا، وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ،
وَقَوْلُهُ كَذِبٌ لاَ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُحَرِّمَ
حَقِيقَةً الرَّضَاعُ لاَ الْقَوْل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ عَلَى الإِْقْرَارِ بِأَنْ قَال: هُوَ
حَقٌّ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَال: أَخْطَأْتُ أَوْ وَهِمْتُ، لَمْ
يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقُبِل رُجُوعُهُ.
وَإِنِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا مُحَرِّمًا
فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْقُطُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى؛ لأَِنَّهُمَا
اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ مِنْ أَصْلِهِ، فَفَسَدَ
الْمُسَمَّى وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْل إِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً
بِالتَّحْرِيمِ وَدَخَل بِهَا؛ لأَِنَّهَا كَالْمَوْطُوءَةِ بِالشُّبْهَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ
فَلاَ شَيْءَ لَهَا؛ لأَِنَّهَا بَغِيٌّ مُطَاوِعَةٌ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ
غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا؛ لاِتِّفَاقِهِمَا عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ
أَصْلِهِ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا، فَلاَ مُوجِبَ لِلْمَهْرِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَهَا رُبُعُ دِينَارٍ ذَهَبًا فَقَطْ. وَإِنْ
أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرَّضَاعِ وَأَنْكَرَتْ هِيَ، حُكِمَ بِبُطْلاَنِ
النِّكَاحِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَزِمَهُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ
صَحِيحًا أَوْ مَهْرُ الْمِثْل إِنْ كَانَ فَاسِدًا إِنْ كَانَتْ
مَدْخُولاً بِهَا، وَنِصْفُ الْمُسَمَّى أَوْ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْل إِنْ
كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ
عَلَيْهَا فِي إِسْقَاطِ حُقُوقِهَا، فَلَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ فِيمَا هُوَ
حَقٌّ لَهُ وَهُوَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَفُسِخَ نِكَاحُهُ، وَلَمْ
(22/252)
يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ
الْمَهْرِ (1) .
هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَلَهُ تَحْلِيفُهَا قَبْل الدُّخُول،
وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْل أَقَل مِنَ الْمُسَمَّى،
فَإِنْ نَكَلَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الزَّوْجُ، وَلاَ
شَيْءَ لَهَا قَبْل الدُّخُول، وَلاَ يَجِبُ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ
الْمِثْل بَعْدَ الدُّخُول (2) .
إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالرَّضَاعِ:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنِ ادَّعَتِ
الرَّضَاعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَلاَ
بَيِّنَةَ لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهَا، وَإِنْ
كَانَ قَبْل الدُّخُول فَلاَ مَهْرَ لَهَا؛ لأَِنَّهَا تُقِرُّ بِأَنَّهَا
لاَ تَسْتَحِقُّهُ.
فَإِنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَخْذُهُ مِنْهَا؛
لأَِنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول
فَأَقَرَّتْ بِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهَا أُخْتُهُ،
وَبِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَمُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْوَطْءِ فَلاَ مَهْرَ
لَهَا؛ لأَِنَّهَا أَقَرَّتْ بِأَنَّهَا زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ، وَإِنْ
أَنْكَرَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ
بِشُبْهَةٍ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهَا
عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ (3) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) روضة الطالبين 9 / 34، نهاية المحتاج 7 / 183 - 184، أسنى المطالب 3 /
424 - 425
(3) المغني 7 / 561 - 562، ابن عابدين 2 / 412، الخرشي 4 / 181.
(22/253)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَقَرَّتِ
الزَّوْجَةُ بِالرَّضَاعِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ
زُوِّجَتْ مِنْهُ بِرِضَاهَا، بِأَنْ عَيَّنَتْهُ فِي إِذْنِهَا
لِتَضَمُّنِهِ إِقْرَارَهَا بِحِلِّهَا لَهُ، فَلَمْ يُقْبَل مِنْهَا
نَقِيضُهُ، وَتَسْتَمِرُّ الزَّوْجِيَّةُ ظَاهِرًا بَعْدَ حَلِفِ الزَّوْجِ
عَلَى نَفْيِ الرَّضَاعِ. وَإِنْ لَمْ تُزَوَّجْ بِرِضَاهَا بَل زُوِّجَتْ
إِجْبَارًا، أَوْ أَذِنَتْ بِغَيْرِ تَعْيِينِ الزَّوْجِ، فَالأَْصَحُّ
عِنْدَهُمْ تَصْدِيقُهَا بِيَمِينِهَا مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا
مُخْتَارَةً لاِحْتِمَال صِحَّةِ مَا تَدَّعِيهِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا
مَا يُنَافِيهِ، فَأَشْبَهَ إِقْرَارَهَا قَبْل النِّكَاحِ، وَلَهَا مَهْرُ
مِثْلِهَا إِنْ وَطِئَ وَلَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِالْحُكْمِ مُخْتَارَةً
فِي التَّمْكِينِ، لاَ الْمُسَمَّى لإِِقْرَارِهَا بِنَفْيِ
اسْتِحْقَاقِهَا. فَإِنْ قَبَضَتْهُ لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْهَا لِزَعْمِهِ
أَنَّهُ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا أَوْ كَانَتْ عَالِمَةً
بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارَةً فِي التَّمْكِينِ فَلاَ شَيْءَ لَهَا؛
لأَِنَّهَا بَغِيٌّ مُطَاوِعَةٌ. وَالْمُنْكِرُ لِلرَّضَاعِ يَحْلِفُ عَلَى
نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لأَِنَّهُ يَنْفِي فِعْل الْغَيْرِ، وَمُدَّعِيهِ
يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ (1) .
نِصَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِصَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْعُدُول،
رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلاَ يُقْبَل أَقَل مِنْ ذَلِكَ،
وَلاَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ.
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 183 - 184، روضة الطالبين 9 / 34 - 35، أسنى المطالب
3 / 424 - 425
(22/253)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: " لاَ يُقْبَل عَلَى الرَّضَاعِ أَقَل مِنْ شَاهِدَيْنِ
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَظْهَرِ النَّكِيرُ
مِنْ أَحَدٍ، فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَلأَِنَّ هَذَا مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال فِي الْجُمْلَةِ،
فَلاَ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الاِنْفِرَادِ؛ لأَِنَّ
قَبُول شَهَادَتِهِنَّ بِانْفِرَادِهِنَّ فِي أُصُول الشَّرْعِ
لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ اطِّلاَعِ الرِّجَال عَلَى
الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِذَا جَازَ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ
لَمْ تَتَحَقَّقِ الضَّرُورَةُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ
رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُطْلَقًا قَبْل الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ. وَيُعْمَل
قَبْل الْعَقْدِ فِي غَيْرِ الرَّشِيدِ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ،
وَلَوْ أُمًّا، وَأَوْلَى بِإِقْرَارِهِمَا مَعًا، فَيُفْسَخُ إِذَا
وَقَعَ، وَلاَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُمَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا بَعْدَ
الْعَقْدِ فَيُقْبَل شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، أَوْ شَهَادَةُ
امْرَأَتَيْنِ إِنْ فَشَا ذَلِكَ قَبْل الْعَقْدِ، وَلاَ يُقْبَل شَهَادَةُ
امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ فَشَا ذَلِكَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ،
وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا لاَ
يَطَّلِعُ الرِّجَال عَلَيْهِ إِلاَّ نَادِرًا، وَلاَ يَثْبُتُ بِدُونِ
أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ
الْمَرْضِيَّةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُقْبَةَ قَال: تَزَوَّجْتُ
أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ
فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ
(22/254)
لَهُ ذَلِكَ فَقَال: كَيْفَ بِهَا وَقَدْ
زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا (1) . وَهُوَ يَدُل عَلَى الاِكْتِفَاءِ
بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.
أَمَّا الإِْقْرَارُ بِالرَّضَاعِ فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ
رَجُلَيْنِ عَلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي: بَابُ
الشَّهَادَةِ ".
قَبُول شَهَادَةِ أُمَّيِ الزَّوْجَيْنِ بِالرَّضَاعِ:
33 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ أُمَّيِ الزَّوْجَيْنِ
عَلَى الرَّضَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَقْبُولَةٌ كَالأَْجْنَبِيَّتَيْنِ
لِضَعْفِ التُّهْمَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ فِيمَنْ يَشْهَدُ بِالرَّضَاعِ أُمُّ
الْمَرْأَةِ أَوْ بِنْتُهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُدَّعِيًا،
وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا.
وَكَذَا لَوْ شَهِدَتْ الأُْمُّ أَوْ الْبِنْتُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ
دَعْوَى عَلَى سَبِيل الْحِسْبَةِ، وَإِنِ احْتَمَل كَوْنَ الزَّوْجَةِ
مُدَّعِيَةً؛ لأَِنَّ الرَّضَاعَ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُدَّعِيَةً فَلاَ تُقْبَل لِلتُّهْمَةِ
__________
(1) حديث: " كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما " تقدم تخريجه فقرة / 15.
(2) روضة الطالبين 9 / 34 - 36، والمغني 7 / 558 - 559، الخرشي 4 / 182،
بدائع الصنائع 4 / 14، ابن عابدين 2 / 413، شرح الزرقاني 4 / 243، الدسوقي
2 / 507، الشرح الصغير 2 / 727، نهاية المحتاج 7 / 158، 183 - 184
(22/254)
لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عَدَمُ قَبُول
شَهَادَةِ الأَْصْل لِفَرْعِهِ، وَتُقْبَل عَلَيْهِ (1) .
شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ:
34 - تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا عَلَى فِعْل نَفْسِهَا
لِحَدِيثِ عُقْبَةَ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ لاَ يَحْصُل بِهِ لَهَا نَفْعٌ
مَقْصُودٌ، وَلاَ تَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهَا فِيهِ
كَفِعْل غَيْرِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: تُقْبَل مَعَ غَيْرِهَا، وَلاَ
تُقْبَل وَحْدَهَا، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِقَبُول شَهَادَتِهَا
فِيمَنْ يَشْهَدُ أَنْ لاَ تَطْلُبَ أُجْرَةً، فَإِنْ طَلَبَتْ أُجْرَةَ
الرَّضَاعِ فَلاَ تُقْبَل لِلتُّهْمَةِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل
الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ إِلاَّ مُفَصَّلَةً، فَلاَ يَكْفِي قَوْل
الشَّاهِدِ: بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ " بَل يَجِبُ ذِكْرُ وَقْتِ الإِْرْضَاعِ
وَعَدَدِ الرَّضَعَاتِ، كَأَنْ يَقُول: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ارْتَضَعَ
مِنْ هَذِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ خَلَصَ اللَّبَنُ فِيهِنَّ
إِلَى جَوْفِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْل الْحَوْلَيْنِ لاِخْتِلاَفِ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 303، روضة الطالبين 9 / 36، الخرشي 4 / 182، الفواكه
الدواني 2 / 90
(2) نهاية المحتاج 7 / 185، روضة الطالبين 9 / 36، المغني 7 / 559، الخرشي
4 / 243.
(3) نهاية المحتاج 7 / 185، المغني 7 / 559، روضة الطالبين 9 / 37 - 38
(22/255)
رَضَاعُ الْكُفَّارِ:
35 - إِنِ ارْتَضَعَ مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيَّةٍ رَضَاعًا مُحَرِّمًا
حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا وَفُرُوعُهَا كُلُّهُنَّ وَأُصُولُهَا
كَالْمُسْلِمَةِ؛ لأَِنَّ النُّصُوصَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ
وَكَافِرَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَلاَ تَأْبَى ذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى (1) .
الاِرْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْفُجُورِ:
36 - قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُكْرَهُ الاِرْتِضَاعُ بِلَبَنِ
الْفُجُورِ وَلَبَنِ الْمُشْرِكَاتِ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى
شَبَهِ الْمُرْضِعَةِ فِي الْفُجُورِ، وَيَجْعَلُهَا أُمًّا لِوَلَدِهِ
فَيَتَعَيَّرُ بِهَا، وَيَتَضَرَّرُ طَبْعًا وَتَعَيُّرًا، وَالاِرْتِضَاعُ
مِنَ الْمُشْرِكَةِ يَجْعَلُهَا أُمًّا لَهَا حُرْمَةُ الأُْمِّ مَعَ
شِرْكِهَا، وَرُبَّمَا مَال إِلَيْهَا الْمُرْتَضِعُ وَأَحَبَّ دِينَهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنَّهُمَا قَالاَ: اللَّبَنُ يَشْتَبِهُ، فَلاَ تَسْتَقِ مِنْ
يَهُودِيَّةٍ، وَلاَ نَصْرَانِيَّةٍ وَلاَ زَانِيَةٍ، وَيُكْرَهُ بِلَبَنِ
الْحَمْقَاءِ كَيْ لاَ يُشْبِهَهَا الطِّفْل فِي الْحُمْقِ (2) .
صِلَةُ الْمُرْضِعَةِ وَذَوِيهَا:
37 - لِلْمُرْضِعَةِ حَقٌّ عَلَى مَنْ أَرْضَعَتْهُ وَلَوْ كَانَ
الإِْرْضَاعُ بِأَجْرٍ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ حَجَّاجٍ
الأَْسْلَمِيِّ، قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا يُذْهِبُ
__________
(1) الخرشي 4 / 182، والمغني 7 / 562 - 563
(2) المغني 7 / 563.
(22/255)
عَنِّي مَذَمَّةَ الرَّضَاعَةِ؟ قَال:
الْغُرَّةُ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ. (1)
قَال الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ يُسْقِطُ عَنِّي حَقَّ
الرَّضَاعِ حَتَّى أَكُونَ بِأَدَائِهِ مُؤَدِّيًا حَقَّ الْمُرْضِعَةِ
بِكَمَالِهِ؟ وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَرْضَخُوا
لِلظِّئْرِ بِشَيْءٍ سِوَى الأُْجْرَةِ عِنْدَ الْفِصَال، وَهُوَ
الْمَسْئُول عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَال الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ: يَقُول: إِنَّهَا قَدْ خَدَمَتْكَ
وَأَنْتَ طِفْلٌ، وَحَضَنَتْكَ وَأَنْتَ صَغِيرٌ، فَكَافِئْهَا بِخَادِمٍ
يَخْدُمُهَا وَيَكْفِيهَا الْمِهْنَةَ، قَضَاءً لِذِمَامِهَا (أَيْ
لِحَقِّهَا) وَجَزَاءً لَهَا عَلَى إِحْسَانِهَا.
وَقَدِ اسْتَدَل بِالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَطِيَّةِ
لِلْمُرْضِعَةِ عِنْدَ الْفِطَامِ، وَأَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً؛
لأَِنَّهَا كَانَتْ أَغْلَى الأَْمْوَال وَلِذَا سُمِّيَتْ (غُرَّةً) (2) .
كَمَا يَدُل عَلَى ذَلِكَ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى أَبُو الطُّفَيْل قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ. قَال أَبُو
الطُّفَيْل: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ أَحْمِل عَظْمَ الْجَزُورِ إِذْ
أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَتَّى دَنَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ،
__________
(1) حديث حجاج الأسلمي: " ما يذهب عني مذمة الرضاعة؟ ". أخرجه أبو داود (2
553 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 450 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن
صحيح "
(2) عون المعبود 6 / 69، وسنن أبي داود 2 / 553.
(22/256)
فَقُلْتُ: مَنْ هِيَ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ
أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ. (1)
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَل
أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ
عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ
جَانِبِهِ الآْخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَل أَخُوهُ مِنَ
الرَّضَاعَةِ، فَقَامَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ (2) .
__________
(1) حديث أبي الطفيل: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحما بالجعرانة
". أخرجه أبو داود (5 353 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده جهالة كما
في التهذيب للمزي (5 116 - ط الرسالة) .
(2) حديث عمر بن السائب: " أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
جالسًا يومًا. . . " أخرجه أبو داود (5 / 354 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، قال
المنذري: " هذا معضل، عمر بن السائب يروي عن التابعين، كذا في مختصر السنن
(8 / 39 - نشر دار المعرفة) .
(22/256)
رَضْخ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّضْخُ فِي اللُّغَةِ الْعَطَاءُ الْقَلِيل، يُقَال: رَضَخْتُ لَهُ
رَضْخًا وَرَضِيخًا؛ أَيْ أَعْطَيْتُهُ شَيْئًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ.
وَالأَْصْل فِيهِ الرَّضْخُ بِمَعْنَى الْكَسْرِ.
وَالْمَال الْمُعْطَى يُسَمَّى: رَضْخًا، تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ
فَعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرَّضْخُ عَطِيَّةٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ يَجْتَهِدُ
الإِْمَامُ فِي قَدْرِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّهْمُ:
2 - السَّهْمُ هُوَ النَّصِيبُ الْمُحْكَمُ، وَالْجَمْعُ أَسْهُمٌ،
وَسِهَامٌ بِالْكَسْرِ، وَسُهَامٌ بِالضَّمِّ، يُقَال: أَسْهَمْتُ لَهُ:
أَعْطَيْتُهُ سَهْمًا (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) نهاية المحتاج 6 / 150، القليوبي 3 / 195، والزرقاني 3 / 130.
(3) المصباح المنير.
(22/257)
وَاصْطِلاَحًا: نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ
لِلْمُحَارِبِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالصِّلَةُ بَيْنَ السَّهْمِ
وَالرَّضْخِ هِيَ أَنَّ السَّهْمَ مُقَدَّرٌ وَالرَّضْخَ دُونَ السَّهْمِ
بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ.
ب - التَّنْفِيل:
3 - التَّنْفِيل فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّفَل وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: زِيَادَةُ مَالٍ عَلَى أَسْهُمِ الْغَنِيمَةِ يَشْتَرِطُهُ
الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لِمَنْ يَقُومُ بِمَا فِيهِ نِكَايَةً فِي
الْعَدُوِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرَّضْخِ وَالتَّنْفِيل، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
جُزْءٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
ج - السَّلَبُ:
4 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: كُل شَيْءٍ عَلَى الإِْنْسَانِ مِنَ اللِّبَاسِ
وَغَيْرِهِ: وَيُقَال: سَلَبْتُهُ أَسْلُبُهُ سَلَبًا: إِذَا أَخَذْتَ
سَلَبَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الْقَرَنَيْنِ فِي الْحَرْبِ
مِنْ قَرَنِهِ، مِمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَعَهُ، مِنْ ثِيَابٍ وَسِلاَحٍ
وَدَابَّةٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ السَّلَبِ وَالرَّضْخِ، هِيَ أَنَّ السَّلَبِ فِيهِ
زِيَادَةٌ عَلَى السَّهْمِ، وَالرَّضْخَ عَطِيَّةٌ دُونَ السَّهْمِ.
__________
(1) لسان العرب، حاشية ابن عابدين 3 / 238، وروضة الطالبين 6 / 368،
والمغني 8 / 378.
(2) لسان العرب، نهاية المحتاج 6 / 144 - 148
(22/257)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّضْخَ حَقٌّ وَاجِبٌ
يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْضُوخُ لَهُ لِعَمَلٍ قَامَ بِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ
لِلْقِتَال.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ
ثَابِتٍ. وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَيَجْتَهِدُ الإِْمَامُ فِي
مِقْدَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ مَنْ يَرْضَخُ لَهُمْ، وَأَنْ
يُفَاضِل بَيْنَهُمْ حَسَبَ نَفْعِهِمْ فِي الْقِتَال، فَيُرَجِّحُ
الْمُقَاتِل عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ قِتَالُهُ أَكْثَرُ، وَالْفَارِسُ
عَلَى الرَّاجِل، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَسْقِي
الْعِطَاشَ عَلَى الَّتِي تَحْفَظُ الرِّحَال (1) .
أَصْحَابُ الرَّضْخِ:
6 - أَصْحَابُ الرَّضْخِ كُل مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِتَال إِلاَّ فِي
حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَقَامَ بِعَمَلٍ مُفِيدٍ فِي الْقِتَال،
كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ
لَيْسَ مِنْ أَهْل الْجِهَادِ (2) ، وَوَجَبَ إِعْطَاؤُهُمْ لِلآْثَارِ
الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
كَخَبَرِ عُمَيْرٍ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ: قَال: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ
سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 370، وأسنى المطالب 3 / 93، وكشاف القناع 3 / 86،
والمغني 8 / 415، والاختيار للموصلي 4 / 130، وابن عابدين 3 / 235.
(2) المراجع السابقة.
(22/258)
بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. (1)
وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ فَيُدَاوِينَ الْمَرْضَى، وَيَحْذِينَ مِنَ
الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ بِسَهْمٍ (2)
وَكَانَ الصِّبْيَانُ يَحْذُونَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلاَ يُسْهَمُ لَهُمْ
إِذَا حَضَرُوا الْحَرْبَ؛ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْجِهَادِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُرْضَخُ لأَِحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ، وَلاَ
يُسْهَمُ لَهُمْ وَإِنْ قَاتَلُوا، إِلاَّ الصِّبْيَانُ فَإِنَّهُمْ
يُسْهَمُ لَهُمْ إِذَا قَاتَلُوا (3) .
وَالذِّمِّيُّ إِنْ حَضَرَ الْقِتَال بِإِذْنِ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ
يُرْضَخُ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلاَ يُسْهَمُ
لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْجِهَادِ
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَحْمَدَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
يُسْهَمُ لَهُ كَالْمُسْلِمِ، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالُوا: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ فِي
حَرْبِهِ فَأَسْهَمَ لَهُمْ. (4)
__________
(1) حديث عمير مولى آبي اللحم قال: " شهدت خيبر. . . . " أخرجه الترمذي (4
/ 126 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ". والخرثي أردأ الأمتعة (لسان
العرب) .
(2) خبر ابن عباس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء " أخرجه
الترمذي (4 / 126 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حاشية الدسوقي 2 / 192، والزرقاني 3 / 130.
(4) المغني 8 / 414، والمصادر السابقة. ومرسل الزهري أخرجه الترمذي (4 /
128 ط الحلبي) بلفظ: " أن النبي أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه " وإسناده
ضعيف لإرساله.
(22/258)
الرَّضْخُ لِلدَّوَابِّ:
7 - لاَ يُسْهَمُ لِغَيْرِ الْفَرَسِ مِنَ الدَّوَابِّ، كَالْبَعِيرِ،
وَالْحِمَارِ، وَالْفِيل وَالْبَغْل؛ لأَِنَّ هَذِهِ الدَّوَابَّ لاَ
تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ صَلاَحِيَةَ الْخَيْل لَهُمَا، وَلَكِنْ
يُرْضَخُ لَهَا فَيُرْضَخُ لِرَاكِبِهَا، بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ سَهْمَ
الرَّاجِل (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (غَنِيمَة) .
مَحَل الرَّضْخِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الرَّضْخِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ:
إِنَّهُ يُرْضَخُ مِنْ أَصْل الْغَنِيمَةِ قَبْل إِخْرَاجِ الْخُمُسِ،
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ
اسْتُحِقَّ بِالْمُعَاوَنَةِ فِي تَحْصِيل الْغَنِيمَةِ فَأَشْبَهَ
أُجْرَةَ النَّقَّالِينَ وَالْحَافِظِينَ لَهَا.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ مِنْ أَرْبَعَةِ
الأَْخْمَاسِ. وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَهُوَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْخُمُسِ (2) .
وَانْظُرْ: (غَنِيمَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 383، ونهاية المحتاج 6 / 149، والمغني 8 / 408، وابن
عابدين 3 / 135.
(2) ابن عابدين 3 / 235، وروضة الطالبين 6 / 371، والمغني 8 / 415،
والدسوقي 2 / 192، والزرقاني 3 / 130.
(22/259)
مِقْدَارُ الرَّضْخِ:
9 - هُوَ مَا دُونَ قِيمَةِ السَّهْمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَوْكُولٌ تَقْدِيرُ قِيمَتِهِ لِلإِْمَامِ (1) .
زَمَنُ الرَّضْخِ:
10 - هُوَ تَبَعٌ لِزَمَنِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ إِنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ
أَوْ بَعْدَ الرُّجُوعِ؛ لِلْخِلاَفِ الْوَارِدِ فِي قِسْمَتِهَا (ر:
غَنِيمَة) .
رِطْلٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرُ
__________
(1) الاختيار للموصلي 4 / 130، حاشية الدسوقي 2 / 192، القليوبي وعميرة 3 /
195، الفروع لابن مفلح 6 / 233.
(22/259)
رُطُوبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّطُوبَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ رَطُبَ، تَقُول رَطُبَ الشَّيْءُ
بِالضَّمِّ إِذَا نَدِيَ، وَهُوَ خِلاَفُ الْيَابِسِ الْجَافِّ،
وَالرُّطُوبَةُ بِمَعْنَى الْبَلَل وَالنَّدَاوَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الرُّطُوبَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ
الرُّطُوبَةِ وَالْبَلَل. قَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ:. . . لَوْ قَطَعَ
بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ قَبْل غَسْلِهِ
فَمَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ لِمُلاَقَاةِ الْبَلَل
لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لاَ بَلَل فِيهِ
كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ بِهِ يَابِسًا؛
لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - رُطُوبَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " رطب ".
(2) كشاف القناع 1 / 184، 185
(22/260)
وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ
الْمَذْيِ وَالْعَرَقِ (1) .
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَتِهَا، وَمِنْ
ثَمَّ فَإِنَّ رُطُوبَةَ الْوَلَدِ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ طَاهِرَةٌ.
وَمَحَل الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَمٌ،
وَلَمْ يُخَالِطْ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مَذْيٌ أَوْ مَنِيٌّ مِنَ الرَّجُل،
أَوِ الْمَرْأَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
إِلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى نَجَاسَةِ
رُطُوبَةِ الْفَرْجِ تَنْجِيسُ ذَكَرِ الْوَاطِئِ أَوْ مَا يَدْخُل مِنْ
خِرْقَةٍ أَوْ أُصْبُعٍ.
وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
طَاهِرَةٍ قَطْعًا، وَهِيَ مَا تَكُونُ فِي الْمَحَل الَّذِي يَظْهَرُ
عِنْدَ جُلُوسِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْغُسْل
وَالاِسْتِنْجَاءِ، وَنَجِسَةٍ قَطْعًا وَهِيَ الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ
مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ، وَهُوَ مَا وَرَاءَ ذَكَرِ الْمُجَامِعِ،
وَطَاهِرَةٍ عَلَى الأَْصَحِّ وَهِيَ مَا يَصِلُهُ ذَكَرُ الْمُجَامِعِ (2)
. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (فَرْج) .
ب - رُطُوبَةُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ:
3 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 229.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 223، حاشية الدسوقي 1 / 57، مواهب الجليل 1 /
105) ، نهاية المحتاج 1 / 246، 247، تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 1 /
315، 316، المطبعة الأميرية - الطبعة الأولى، مغني المحتاج 1 / 81، كشاف
القناع 1 / 195، الفروع 1 / 248.
(22/260)
الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ نَصَّ
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ السَّخْلَةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ
أُمِّهَا وَكَذَا الْبَيْضَةُ، فَلاَ يَتَنَجَّسُ بِهَا الثَّوْبُ وَلاَ
الْمَاءُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ، وَإِنْ كَرِهُوا التَّوَضُّؤَ بِهِ
لِلاِخْتِلاَفِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُطُوبَةُ الْفَرْجِ طَاهِرَةٌ مِنْ كُل
حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْحَيَوَانِ
بِالْمُبَاحِ الأَْكْل فَقَطْ، وَقَيَّدُوهُ بِقَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَلاَّ يَتَغَذَّى عَلَى نَجَسٍ، وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ
يَحِيضُ كَالإِْبِل، وَإِلاَّ كَانَتْ نَجِسَةً عَقِبَ حَيْضِهِ، وَأَمَّا
بَعْدَهُ فَطَاهِرَةٌ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (فَرْج،
نَجَاسَة) .
ج - مُلاَقِي رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي
الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُلاَقِيَ رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ لاَ يَنْجُسُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا لُفَّ طَاهِرٌ جَافٌّ فِي نَجَسٍ مُبْتَلٍّ
وَاكْتَسَبَ الطَّاهِرُ مِنْهُ الرُّطُوبَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ
الْمَشَايِخُ فَقِيل: يَتَنَجَّسُ الطَّاهِرُ، وَاخْتَارَ الْحَلْوَانِيُّ
أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ بِحَيْثُ لاَ يَسِيل مِنْهُ
شَيْءٌ وَلاَ يَتَقَاطَرُ لَوْ عُصِرَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَاشْتَرَطَ
بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ النَّجِسُ الرَّطْبُ هُوَ
الَّذِي لاَ يَتَقَاطَرُ بِعَصْرِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 231، حاشية الدسوقي 1 / 57، مواهب الجليل 1 /
105، نهاية المحتاج 1 / 246، 247، تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 1 / 315،
316، المطبعة الأميرية الطبعة الأولى، مغني المحتاج 1 / 81.
(22/261)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ مُلاَقِي رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَة) .
د - مَسَائِل فِي الاِسْتِجْمَارِ:
5 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ جَافًّا
لاَ رُطُوبَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ غَيْرَ الْجَافِّ لاَ يَحْصُل بِهِ
الإِْنْقَاءُ (2) .
كَمَا شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِجَوَازِ
الاِسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ أَلاَّ يَجِفَّ الْغَائِطُ بِأَنْ يَكُونَ
رَطْبًا، فَإِنْ جَفَّ تَعَيَّنَ الْمَاءُ وَلاَ يُجْزِيهِ الْحَجَرُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِنْجَاء) .
هـ - الْمَنِيُّ الرَّطْبُ:
6 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَنِيِّ الرَّطْبِ عَنِ الْمَنِيِّ الْيَابِسِ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحَل الْمَنِيِّ الْيَابِسِ يَطْهُرُ
بِفَرْكِهِ، وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرِهِ، فَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَلاَ
بُدَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 231، والطحطاوي على مراقي الفلاح 85 المطبعة
الأميرية الطبعة الثالثة، وحاشية الدسوقي 1 / 80، ومواهب الجليل 1 / 165،
والقليوبي وعميرة 1 / 181، والإنصاف 1 / 319 ط. مطبعة السنة المحمدية
الطبعة الأولى، وكشاف القناع 1 / 184.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 227، حاشية الدسوقي 1 / 113، حاشية الجمل 1 / 94،
كشاف القناع 1 / 69.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 224، مغني المحتاج 1 / 44، كشاف القناع 1 / 67.
(22/261)
مِنْ غَسْلِهِ وَلاَ يُجْزِئُ الْفَرْكُ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ إِلاَّ بِالْغَسْل
فِيمَا لاَ يَفْسُدُ بِالْغَسْل. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ غَسْل
الْمَنِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ رَطْبًا أَوْ جَافًّا. وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ يُسَنُّ غَسْلُهُ رَطْبًا وَفَرْكُهُ جَافًّا؛ لِقَوْل
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْمَنِيِّ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي
أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ (1) عِلْمًا بِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ
وَالْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ خِلاَفًا
لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِطَهَارَتِهِ (2)
.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَة، وَمَنِيّ) .
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " لقد رأيتني أفركه من ثوب. . . . " أخرجه
مسلم (1 / 238 - ط الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 207، 208، القوانين الفقهية 40 ط دار الكتاب
العربي، نهاية المحتاج 1 / 244 ط مصطفى البابي الحلبي) ، المبدع في شرح
المقنع 1 / 254 ط المكتب الإسلامي.
(22/262)
|