الموسوعة
الفقهية الكويتية صِرَافَةٌ
انْظُرْ: صَرْفٌ
صُرَدٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
صَرَعٌ
انْظُرْ: جُنُونٌ
(26/347)
صَرْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّرْفُ فِي اللُّغَةِ: يَأْتِي بِمَعَانٍ، مِنْهَا: رَدُّ الشَّيْءِ
عَنِ الْوَجْهِ، يُقَال: صَرَفَهُ يَصْرِفُهُ صَرْفًا إِذَا رَدَّهُ
وَصَرَفْتُ الرَّجُل عَنِّي فَانْصَرَفَ. وَمِنْهَا: الإِْنْفَاقُ،
كَقَوْلِكَ: صَرَفْتُ الْمَال، أَيْ: أَنْفَقْتُهُ. وَمِنْهَا الْبَيْعُ،
كَمَا تَقُول: صَرَفْتُ الذَّهَبَ بِالدَّرَاهِمِ، أَيْ: بِعْتُهُ. وَاسْمُ
الْفَاعِل مِنْ هَذَا صَيْرَفِيٌّ، وَصَيْرَفٌ، وَصَرَّافٌ
لِلْمُبَالَغَةِ. وَمِنْهَا الْفَضْل وَالزِّيَادَةُ.
قَال ابْنُ فَارِسٍ: الصَّرْفُ: فَضْل الدِّرْهَمِ فِي الْجَوْدَةِ عَلَى
الدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارِ عَلَى الدِّينَارِ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، بِأَنَّهُ بَيْعُ
الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، جِنْسًا بِجِنْسٍ، أَوْ بِغَيْرِ جِنْسٍ، فَيَشْمَل
بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، كَمَا يَشْمَل
بَيْعَ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّمَنِ مَا خُلِقَ
لِلثَّمَنِيَّةِ، فَيَدْخُل فِيهِ بَيْعُ الْمَصُوغِ بِالْمَصُوغِ أَوْ
بِالنَّقْدِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب في المادة.
(2) ابن عابدين 4 / 334، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 215،
والهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 258، ومغني المحتاج 2 / 25، والمغني
لابن قدامة 4 / 41، وشرح منتهى الإرادات 2 / 201.
(26/348)
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: سُمِّيَ
بِالصَّرْفِ لِلْحَاجَةِ إِلَى النَّقْل فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إِلَى
يَدٍ، أَوْ لأَِنَّهُ لاَ يُطْلَبُ مِنْهُ إِلاَّ الزِّيَادَةُ، إِذْ لاَ
يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ، وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَيْعُ النَّقْدِ بِنَقْدٍ
مُغَايِرٍ لِنَوْعِهِ، كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، أَمَّا بَيْعُ
النَّقْدِ بِنَقْدٍ مِثْلِهِ، كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، أَوْ بَيْعِ
الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، فَسَمَّوْهُ بِاسْمٍ آخَرَ حَيْثُ قَالُوا: إِنِ
اتَّحَدَ جِنْسُ الْعِوَضَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِالْوَزْنِ فَهُوَ
الْمُرَاطَلَةُ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَدَدِ فَهُوَ الْمُبَادَلَةُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - الْبَيْعُ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال
بِالتَّرَاضِي، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ (3) أَوْ: عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ، كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ (4) أَوْ:
هُوَ مُعَاوَضَةٌ مَالِيَّةٌ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى
التَّأْبِيدِ، كَمَا عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ (5) ،
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 258، 259.
(2) الدسوقي 3 / 2، والحطاب 4 / 226، وانظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير
3 / 63.
(3) فتح القدير مع الهداية 5 / 445.
(4) الشرح الصغير للدردير 3 / 12.
(5) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 152.
(26/348)
أَوْ: هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال
تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ (1) .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَل الْبَيْعُ الصَّرْفَ، وَالسَّلَمَ،
وَالْمُقَايَضَةَ، وَالْبَيْعَ الْمُطْلَقَ. فَالصَّرْفُ قِسْمٌ مِنَ
الْبَيْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى. أَمَّا الْبَيْعُ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ
فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ،
أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرُ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ (2) . وَبِهَذَا الْمَعْنَى
يَكُونُ الْبَيْعُ قَسِيمًا لِلصَّرْفِ، وَبِمَا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ
أَشْهَرُ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ سُمِّيَ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ (3)
ب - الرِّبَا:
3 - الرِّبَا لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ
مَشْرُوطٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ (4) ،
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّرْفَ إِذَا اخْتَلَّتْ شُرُوطُهُ
يَدْخُلُهُ الرِّبَا.
ج - السَّلَمُ:
4 - السَّلَمُ هُوَ: بَيْعُ شَيْءٍ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ (5) .
__________
(1) المغني والشرح الكبير 4 / 2، كشاف القناع 3 / 146.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) مجلة الأحكام العدلية م (120) .
(4) تنوير الأبصار على هامش ابن عابدين 4 / 176، 177.
(5) مجلة الأحكام العدلية م (123) .
(26/349)
د - الْمُقَايَضَةُ:
5 - الْمُقَايَضَةُ هِيَ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، أَيْ: مُبَادَلَةُ
مَالٍ بِمَالٍ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ الصَّرْفِ:
6 - بَيْعُ الأَْثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَيِ: الصَّرْفُ جَائِزٌ إِذَا
تَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ الآْتِيَةُ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ
أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَأَحَل
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وَقَدْ وَرَدَ فِي
مَشْرُوعِيَّتِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مِنْهَا مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ
الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ،
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ
سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (3) أَيْ: بِيعُوا
الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ
الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ، لاَ فِي
الصُّورَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَيِّدُهَا
وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (4) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (123) .
(2) سورة البقرة - الآية (275) .
(3) الهداية مع الفتح 6 / 258، 260، والبدائع 5 / 215، والمغني 4 / 30
وحديث: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة ". أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط. الحلبي)
.
(4) العناية على هامش الهداية 6 / 260. وحديث: " جيدها ورديئها سواء ". قال
الزيلعي في نصب الراية (4 / 37 - ط المجلس العلمي) : " غريب " يعني أنه لا
أصل له، ثم قال: ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد الذي سيأتي.
(26/349)
بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ،
وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ
بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (1) .
وَحَيْثُ إِنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ بَيْعُ الأَْثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ،
وَلاَ يُقْصَدُ بِهِ إِلاَّ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْل دُونَ الاِنْتِفَاعِ
بِعَيْنِ الْبَدَل فِي الْغَالِبِ، وَالرِّبَا كَذَلِكَ فِيهِ زِيَادَةٌ
وَفَضْلٌ، وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لِجَوَازِ الصَّرْفِ شُرُوطًا تُمَيِّزُ
الرِّبَا عَنِ الصَّرْفِ، وَتَمْنَعُ النَّاسَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي
الرِّبَا.
شُرُوطُ الصَّرْفِ:
أَوَّلاً - تَقَابُضُ الْبَدَلَيْنِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصَّرْفِ
تَقَابُضُ الْبَدَلَيْنِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل
افْتِرَاقِهِمَا. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ
عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إِذَا
__________
(1) قال ابن الهمام: الشف بالكسر من الأضداد، يقال للنقصان والزيادة،
والمراد هنا لا تزيدوا بعضها على بعض (فتح القدير 6 / 260) . وحديث: " لا
تبيعوا الذهب بالذهب ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 380 - ط السلفية) ومسلم
(3 / 1208 - ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(26/350)
افْتَرَقَا قَبْل أَنْ يَتَقَابَضَا، أَنَّ
الصَّرْفَ فَاسِدٌ (1) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا
بِيَدٍ (3) وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا (4) ، وَنَهَى أَنْ يُبَاعَ
غَائِبٌ بِنَاجِزٍ (5) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ (6) .
8 - وَالاِفْتِرَاقُ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّرْفِ هُوَ افْتِرَاقُ
الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا، فَيَأْخُذُ هَذَا فِي
جِهَةٍ، وَهَذَا فِي جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ يَذْهَبُ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى
الآْخَرُ، حَتَّى لَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 215، فتح القدير على الهداية 6 /
259، والقوانين الفقهية ص 251، جواهر الإكليل 2 / 10، ومغني المحتاج 2 /
25، والمغني لابن قدامة 4 / 41، وكشاف القناع 3 / 266.
(2) حديث: " الذهب بالذهب. . . " تقدم تخريجه فـ 6.
(3) حديث: " بيعوا. . . " أخرجه الترمذي (3532 ط الحلبي) من حديث عبادة بن
الصامت وأصله في مسلم.
(4) حديث: " نهى عن بيع الذهب بالورق دينا ". أخرجه أحمد (4 / 368 - ط.
الميمنية) من حديث البراء بن عازب، وإسناده صحيح.
(5) حديث: " نهى أن يباع غائب بناجز ". تقدم فـ 6.
(6) حيث: " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 347
- ط السلفية) من حديث عمر بن الخطاب.
(26/350)
كَانَا فِي مَجْلِسِهِمَا لَمْ يَبْرَحَا
عَنْهُ لَمْ يَكُونَا مُفْتَرِقَيْنِ وَإِنْ طَال مَجْلِسُهُمَا،
لاِنْعِدَامِ الاِفْتِرَاقِ بِالأَْبْدَانِ، وَكَذَا إِذَا قَامَا عَنْ
مَجْلِسِهِمَا فَذَهَبَا مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى مَنْزِل
أَحَدِهِمَا أَوْ إِلَى الصَّرَّافِ فَتَقَابَضَا عِنْدَهُ، وَلَمْ
يُفَارِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، جَازَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛
لأَِنَّ الْمَجْلِسَ هُنَا كَمَجْلِسِ الْخِيَارِ، كَمَا حَرَّرَهُ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1)
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ صُوَرًا أُخْرَى أَيْضًا لاَ تُعْتَبَرُ
افْتِرَاقًا بِالأَْبْدَانِ، فَيَصِحُّ فِيهَا الصَّرْفُ كَمَا إِذَا نَامَ
الْعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى
أَحَدِهِمَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ (2) وَلاَ بُدَّ فِي التَّقَابُضِ مِنَ
الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، فَلاَ تَكْفِي الْحَوَالَةُ وَإِنْ حَصَل
الْقَبْضُ بِهَا فِي الْمَجْلِسِ (3) .
9 - وَهَذَا الشَّرْطُ أَيِ: التَّقَابُضُ مُعْتَبَرٌ فِي جَمِيعِ
أَنْوَاعِ الصَّرْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْعَ الْجِنْسِ بِجِنْسِهِ،
كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ
جِنْسِهِ كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ مَنَعُوا التَّأْخِيرَ فِي الصَّرْفِ
__________
(1) البدائع 5 / 215، فتح القدير 6 / 259، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 9،
ومغني المحتاج 2 / 24، وكشاف القناع 3 / 266.
(2) البدائع 5 / 215.
(3) القوانين الفقهية ص 251، ومغني المحتاج 2 / 22.
(4) البدائع 5 / 216.
(26/351)
مُطْلَقًا، وَقَالُوا: يَحْرُمُ صَرْفُ
مُؤَخَّرٍ إِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ طَوِيلاً، كَمَا يَحْرُمُ إِنْ كَانَ
قَرِيبًا مِنْ كِلاَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعَ فُرْقَةِ
بَدَنٍ.
وَيُمْنَعُ التَّأْخِيرُ عِنْدَهُمْ وَلَوْ كَانَ غَلَبَةً، كَأَنْ يَحُول
بَيْنَهُمَا عَدُوٌّ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: إِنْ تَفَرَّقَا قَبْل التَّقَابُضِ غَلَبَةً
فَقَوْلاَنِ: الإِْبْطَال وَالتَّصْحِيحُ (1) أَمَّا التَّأْخِيرُ
الْيَسِيرُ بِدُونِ فُرْقَةِ بَدَنٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: مَذْهَبُ
الْمُدَوَّنَةِ كَرَاهَتُهُ، وَمَذْهَبُ الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ
جَوَازُهُ (2) .
قَال الدَّرْدِيرُ: وَأَمَّا دُخُول الصَّيْرَفِيِّ حَانُوتَهُ لِتَقْلِيبِ
الدَّرَاهِمِ فَقِيل: بِالْكَرَاهَةِ، وَقِيل: بِالْجَوَازِ. وَكَذَلِكَ
دُخُولُهُ الْحَانُوتَ لِيُخْرِجَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ (3) .
وَفِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل لِلْحَطَّابِ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل
يَصْرِفُ مِنَ الصَّرَّافِ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، وَيَقُول لَهُ: اذْهَبْ
بِهَا فَزِنْهَا عِنْدَ الصَّرَّافِ، وَأَرِهِ وُجُوهَهَا وَهُوَ قَرِيبٌ
مِنْهُ فَقَال: أَمَّا الشَّيْءُ الْقَرِيبُ فَأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ
بِهِ بَأْسٌ، وَهُوَ يُشْبِهُ عِنْدِي مَا لَوْ قَامَا إِلَيْهِ جَمِيعًا.
وَنُقِل عَنِ ابْنِ رُشْدٍ: أَسْتَخِفُّ ذَلِكَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 10، والشرح الصغير 3 / 49، والقوانين الفقهية ص 250.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10.
(3) الشرح الصغير 3 / 49.
(26/351)
لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ، إِذْ غَالِبُ
النَّاسِ لاَ يُمَيِّزُونَ النُّقُودَ؛ وَلأَِنَّ التَّقَابُضَ قَدْ حَصَل
بَيْنَهُمَا قَبْل ذَلِكَ (1) . فَلَمْ يَكُونَا بِفِعْلِهِمَا هَذَا
مُخَالِفَيْنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ (2) وَلَوْ كَانَ هَذَا
الْمِقْدَارُ لاَ يُسَامَحُ فِيهِ فِي الصَّرْفِ لَوَقَعَ النَّاسُ
بِذَلِكَ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {وَمَا جَعَل
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) .
الْوَكَالَةُ بِالْقَبْضِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ
بِالْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ، فَلَوْ وَكَّل الْمُتَصَارِفَانِ مَنْ يَقْبِضُ
لَهُمَا، أَوْ وَكَّل أَحَدُهُمَا مَنْ يَقْبِضُ لَهُ، فَتَقَابَضَ
الْوَكِيلاَنِ، أَوْ تَقَابَضَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ وَوَكِيل
الآْخَرِ قَبْل تَفَرُّقِ الْمُوَكَّلَيْنِ، أَوْ قَبْل تَفَرُّقِ
الْمُوَكَّل وَالْعَاقِدِ الثَّانِي الَّذِي لَمْ يُوَكِّل جَازَ
الْعَقْدُ، وَصَحَّ الْقَبْضُ؛ لأَِنَّ قَبْضَ الْوَكِيل كَقَبْضِ
مُوَكِّلِهِ. وَإِنِ افْتَرَقَ الْمُوَكَّلاَنِ، أَوِ الْمُوَكَّل
وَالْعَاقِدُ الثَّانِي قَبْل الْقَبْضِ، بَطَل الصَّرْفُ، افْتَرَقَ
الْوَكِيلاَنِ أَوْ لاَ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الاِفْتِرَاقِ الْمُخِل
لِلصَّرْفِ هُوَ افْتِرَاقُ الْعَاقِدَيْنِ لاَ الْوَكِيلَيْنِ (4)
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 303.
(2) حديث: " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ". تقدم تخريجه ف 6.
(3) سورة الحج (78) .
(4) البدائع 5 / 516، الاختيار 2 / 39، ومغني المحتاج 2 / 22، وكشاف القناع
3 / 266.
(26/352)
فَإِذَا عَقَدَ وَوَكَّل غَيْرَهُ فِي
الْقَبْضِ، وَقَبَضَ الْوَكِيل بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ
الْعَقْدِ صَحَّ. وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ (1)) .
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ
إِنْ وَكَّل غَيْرَهُ فِي الْقَبْضِ بَطَل الصَّرْفُ، وَلَوْ قَبَضَ
بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ؛ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ التَّأْخِيرِ (2) .
قَبْضُ بَعْضِ الْعِوَضَيْنِ:
11 - إِذَا حَصَل التَّقَابُضُ فِي بَعْضِ الثَّمَنِ دُونَ بَعْضِهِ
وَافْتَرَقَا بَطَل الصَّرْفُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا حَصَل فِيهِ التَّقَابُضُ، وَلَهُمْ
فِيهِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: صِحَّةُ الْعَقْدِ فِيمَا قُبِضَ وَبُطْلاَنُهُ فِيمَا لَمْ
يُقْبَضْ. وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: بُطْلاَنُ الْعَقْدِ فِي الْكُل، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر مواهب الجليل 4 / 303 وما بعدها، جواهر الإكليل
2 / 10، والشرح الصغير 3 / 49، والقوانين الفقهية ص 251، والمغني 4 / 60.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10، والشرح الصغير 3 / 49، والقوانين الفقهية ص 251.
(3) فتح القدير مع الهداية 6 / 267، الاختيار للموصلي 2 / 41، وتبيين
الحقائق للزيلعي 4 / 138، ومواهب الجليل للحطاب 4 / 306، وبداية المجتهد 2
/ 173، وحاشية القليوبي مع عميرة 2 / 167، ونهاية المحتاج 3 / 412، وكشاف
القناع على متن الإقناع 3 / 266، والمغني لابن قدامة 4 / 60.
(26/352)
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْمْثِلَةِ
وَالْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا:
12 - أ - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ: لَوْ بَاعَ إِنَاءَ فِضَّةٍ،
وَقَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهِ، وَافْتَرَقَا، صَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَالإِْنَاءُ
مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَبَطَل فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ
بِفِضَّةٍ أَمْ بِذَهَبٍ؛ لأَِنَّهُ صَرْفٌ وَهُوَ يَبْطُل بِالاِفْتِرَاقِ
قَبْل الْقَبْضِ، فَيَتَقَدَّرُ الْفَسَادُ بِقَدْرِ مَا لَمْ يُقْبَضْ،
وَلاَ يَشِيعُ لأَِنَّهُ طَارِئٌ.
وَلاَ يَكُونُ هَذَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ
مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، لاَ مِنْ جِهَةِ
الْعَاقِدِ، كَمَا حَرَّرَهُ الزَّيْلَعِيُّ. وَقَال الْبَابَرْتِيُّ فِي
تَعْلِيلِهِ: تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْل تَمَامِهَا لاَ يَجُوزُ،
وَهَاهُنَا الصَّفْقَةُ تَامَّةٌ، فَلاَ يَكُونُ مَانِعًا (1) .
13 - ب - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنِ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا
الصَّرْفُ عَلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ فُسِخَ، وَإِنْ عَقَدَا
عَلَى الْمُنَاجَزَةِ ثُمَّ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ
مِنْهُ انْتُقِضَ الصَّرْفُ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّظِرَةُ
بِاتِّفَاقٍ. فَإِنْ كَانَتِ النَّظِرَةُ فِي أَقَل مِنْ صَرْفِ دِينَارٍ
انْتُقِضَ صَرْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 267، والزيلعي 4 / 138.
(26/353)
كَانَ أَكْثَرَ مِنْ صَرْفِ دِينَارٍ
انْتُقِضَ صَرْفُ دِينَارَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرَ مِنْ
دِينَارَيْنِ انْتُقِضَ صَرْفُ ثَلاَثَةِ دَنَانِيرَ، وَهَكَذَا أَبَدًا،
وَمَا وَقَعَ فِيهِ التَّنَاجُزُ عَلَى اخْتِلاَفٍ كَمَا ذَكَرَهُ
الْحَطَّابُ (1) .
وَمِثْلُهُ ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ، ثُمَّ قَال: وَمَبْنَى
الْخِلاَفِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ يُخَالِطُهَا حَرَامٌ وَحَلاَلٌ،
هَل تَبْطُل الصَّفْقَةُ كُلُّهَا أَوِ الْحَرَامُ مِنْهَا فَقَطْ (2) ؟
14 - ج - وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ (3) أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى دِينَارًا
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَقْبَضَ لِلْبَائِعِ مِنْهَا
خَمْسَةً وَتَفَرَّقَا بَعْدَ قَبْضِ الْخَمْسِ فَقَطْ لَمْ يَبْطُل فِيمَا
قَابَلَهَا. وَيَبْطُل فِي بَاقِي الْمَبِيعِ. وَلَوِ اسْتَقْرَضَ مِنَ
الْبَائِعِ خَمْسَةً غَيْرَهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَأَعَادَهَا لَهُ فِي
الْمَجْلِسِ جَازَ. بِخِلاَفِ مَا لَوِ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ تِلْكَ
الْخَمْسَةَ فَأَعَادَهَا لَهُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَبْطُل فِيهِمَا عَلَى
الْمُعْتَمَدِ (4) .
15 - د - وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ قَبَضَ
الْبَعْضَ فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْل تَقَابُضِ
الْبَاقِي بَطَل الْعَقْدُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ فَقَطْ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ
(5) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 4 / 306.
(2) بداية المجتهد 2 / 173.
(3) القليوبي 2 / 167، ونهاية المحتاج 3 / 412.
(4) المرجعين السابقين مع تقديم وتأخير في العبارة.
(5) كشاف القناع 3 / 267.
(26/353)
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ: لَوْ
صَارَفَ رَجُلاً دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ
خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْل قَبْضِ الْعَشَرَةِ
كُلِّهَا. فَإِنْ قَبَضَ الْخَمْسَةَ وَافْتَرَقَا بَطَل الصَّرْفُ فِي
نِصْفِ الدِّينَارِ. وَهَل يَبْطُل فِي مَا يُقَابِل الْخَمْسَةَ
الْمَقْبُوضَةَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ
(1) .
ثَانِيًا - الْخُلُوُّ عَنِ الْخِيَارِ:
16 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ) أَنَّ الصَّرْفَ لاَ يَصِحُّ مَعَ
خِيَارِ الشَّرْطِ. فَإِنْ شُرِطَ الْخِيَارُ فِيهِ لِكِلاَ الْعَاقِدَيْنِ
أَوْ لأَِحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ، لأَِنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا
الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّةٍ، أَوْ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ (2)
وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ،
فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ. قَال ابْنُ
الْهُمَامِ، لاَ يَصِحُّ فِي الصَّرْفِ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ
يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ أَوْ تَمَامَهُ، وَذَلِكَ يُخِل بِالْقَبْضِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 60.
(2) اختلف الفقهاء في القبض: هل هو شرط صحة العقد، أو شرط البقاء على
الصحة؟ فقيل: هو شرط الصحة، فعلى هذا ينبغي أن يشترط القبض مقرونا بالعقد
إلا أن حالهما قبل الافتراق جعلت كحالة العقد تيسيرا، فإذا وجد القبض فيه
يجعل كأنه وجد حالة العقد، وقيل: هو شرط الب ونهاية المحتاج 3 / 412، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 200) .
(26/354)
الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ الْقَبْضُ الَّذِي
يَحْصُل بِهِ التَّعْيِينُ. لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا
أَسْقَطَ الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ يَعُودُ الْعَقْدُ إِلَى الْجَوَازِ،
لاِرْتِفَاعِهِ قَبْل تَقَرُّرِهِ خِلاَفًا لِزُفَرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَبْطُل الصَّرْفُ بِتَخَايُرٍ، أَيْ:
بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِيهِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي
الْبَيْعِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ بِالتَّفَرُّقِ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، بِخِلاَفِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ
وَالْعَيْبِ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الْمِلْكَ فَلاَ يَمْنَعُ تَمَامَ
الْقَبْضِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: لاَ يُتَصَوَّرُ فِي
النَّقْدِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ، لأَِنَّ الْعَقْدَ
يَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِهَا لاَ عَيْنِهَا، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ هَذَا
الدِّينَارَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، لِصَاحِبِ الدِّينَارِ أَنْ يَدْفَعَ
غَيْرَهُ. وَكَذَا لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ (3) .
ثَالِثًا - الْخُلُوُّ عَنِ اشْتِرَاطِ الأَْجَل:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي
الصَّرْفِ إِدْخَال الأَْجَل لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ
__________
(1) البدائع 5 / 219، وفتح القدير مع الهداية 6 / 258، 263، وجواهر الإكليل
2 / 14، والحطاب 4 / 308، ومغني المحتاج 2 / 24.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 201.
(3) فتح القدير على الهداية 6 / 258، والمراجع السابقة، وانظر إرشاد السالك
مع أسهل المدارك 2 / 234، والمدونة 4 / 189، والجمل 3 / 103، والبدائع 5 /
219، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 8.
(26/354)
لأَِحَدِهِمَا فَإِنِ اشْتَرَطَاهُ
لَهُمَا، أَوْ لأَِحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ؛ لأَِنَّ قَبْضَ
الْبَدَلَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قَبْل الاِفْتِرَاقِ، وَالأَْجَل يُفَوِّتُ
الْقَبْضَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ شَرْعًا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِنِ اشْتُرِطَ الأَْجَل ثُمَّ أَبْطَل
صَاحِبُ الأَْجَل أَجَلَهُ قَبْل الاِفْتِرَاقِ، فَنَقَدَ مَا عَلَيْهِ
ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ، يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا
عِنْدَهُمْ، خِلاَفًا لِزُفَرَ (2) .
رَابِعًا - التَّمَاثُل:
18 - وَهَذَا الشَّرْطُ خَاصٌّ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الصَّرْفِ، وَهُوَ
بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِجِنْسِهِ.
فَإِذَا بِيعَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ،
يَجِبُ فِيهِ التَّمَاثُل فِي الْوَزْنِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي
الْجَوْدَةِ، وَالصِّيَاغَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ مِنْ
جِنْسٍ آخَرَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا. زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ
اعْتِبَارَ بِهِ عَدَدًا. وَالشَّرْطُ التَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ، لاَ
بِحَسَبِ نَفْسِ الأَْمْرِ فَقَطْ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمَا التَّسَاوِيَ،
وَكَانَ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ مُتَحَقِّقًا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ إِذَا
ظَهَرَ فِي الْمَجْلِسِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 219، ومغني المحتاج 2 / 24، وكشاف القناع للبهوتي 3 / 264.
(2) البدائع 5 / 219، قال الكاساني: وهاتان الشريطتان: (شرط الخلو عن
الخيار والأجل) فريعتان لشريطة القبض، إلا أن إحداهما تؤثر في نفس القبض
والأخرى في صحته.
(3) ابن عابدين 4 / 234، والقوانين الفقهية ص 251، وجواهر الإكليل 2 / 10،
ومغني المحتاج 2 / 24، والمغني لابن قدامة 4 / 39.
(26/355)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ
مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً
بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا
مِنْهُمَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (1)
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي أَنْوَاعِ الصَّرْفِ.
أَنْوَاعُ الصَّرْفِ:
19 - مِنَ الأَْمْثِلَةِ وَالصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي
بَابِ الصَّرْفِ وَالأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِكُل صُورَةٍ،
يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الصَّرْفِ إِلَى الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل - بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ: (الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ) بِجِنْسِهِ
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ
أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ
فِي الْمِقْدَارِ وَالْوَزْنِ، فَيَحْرُمُ بَيْعُ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ
تَفَاضُلاً، كَمَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ نَسَاءً (2) وَقَدْ وَرَدَ
فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا
__________
(1) حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب. . .) تقدم تخريجه ف 6.
(2) فتح القدير مع الهداية 6 / 259، 260، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 134
وما بعدها، والاختيار للموصلي 2 / 40، والشرح الصغير للدردير 3 / 47، 48،
وبداية المجتهد 2 / 170 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 22 - 24، والمغني
لابن قدامة 4 / 3 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 251، 252.
(26/355)
مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ. . .
مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ (1) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ
مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلاَ
تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا
بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (2) وَرَوَى
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ
بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ (3) وَمِنْهَا
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ
وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ
رِبًا (4) .
21 - وَلاَ اعْتِبَارَ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الذَّهَبِ
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ". تقدم بمعناه ف 6.
(2) الشِِف بالكسر من الأضداد: يقال للنقصان والزيادة، والمراد هنا لا
تزيدوا بعضها على بعض (فتح القدير 6 / 260) . وحديث " لا تبيعوا الذهب
بالذهب إلا مثلا بمثل. . . " تقدم ف 6.
(3) حديث: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين ". أخرجه
مسلم (3 / 1209 - ط. الحلبي) .
(4) حديث: " الذهب بالذهب وزنا بوزن ". أخرجه مسلم (3 / 1212 - ط. الحلبي)
.
(26/356)
وَالْفِضَّةِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (1)
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدَانِ عَلَى عِلْمٍ
بِمِقْدَارِ الْعِوَضَيْنِ، وَبِالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَجُوزُ
عِنْدَهُمْ بَيْعُ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً، بِأَنْ لَمْ يَعْلَمِ
الْعَاقِدَانِ كَمِّيَّةَ الْعِوَضَيْنِ، وَإِنْ كَانَا فِي نَفْسِ
الأَْمْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ قَالُوا: وَجَهْل التَّسَاوِي حَالَةَ الْعَقْدِ
كَعِلْمِ التَّفَاضُل فِي مَنْعِ الصِّحَّةِ (2) إِلاَّ أَنَّ
الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنْ بَاعَهَا مُجَازَفَةً ثُمَّ وَزْنًا فِي
الْمَجْلِسِ فَظَهَرَا مُتَسَاوِيَيْنِ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ سَاعَاتِ
الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَصَارَ كَالْعِلْمِ فِي ابْتِدَائِهِ،
بِخِلاَفِ مَا لَوْ ظَهَرَ التَّسَاوِي بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، فَإِنَّهُ
لاَ يَجُوزُ خِلاَفًا لِزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَقُول:
الشَّرْطُ التَّسَاوِي، وَقَدْ ثَبَتَ، وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِهِ
زِيَادَةٌ بِلاَ دَلِيلٍ (3) .
22 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ
بِالصِّيَاغَةِ وَالصِّنَاعَةِ أَيْضًا، فَيَدْخُل فِي إِطْلاَقِ
الْمُسَاوَاةِ الْمَصُوغُ بِالْمَصُوغِ، وَالتِّبْرُ بِالآْنِيَةِ،
فَعَيْنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتِبْرُهُمَا، وَمَضْرُوبُهُمَا،
وَغَيْرُ الْمَضْرُوبِ مِنْهُمَا،
__________
(1) حديث: " جيدها ورديئها سواء " تقدم ف 6.
(2) فتح القدير 6 / 260، الاختيار 2 / 40، والقوانين الفقهية ص 254، وجوار
الإكليل 2 / 10، وروضة الطالبين 3 / 385، وكشاف القناع 3 / 253.
(3) فتح القدير 6 / 260، والاختيار 2 / 10.
(26/356)
وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا، وَالْمَكْسُورُ
كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا مَعَ التَّمَاثُل فِي
الْمِقْدَارِ، وَتَحْرِيمُهُ مَعَ التَّفَاضُل، حَتَّى لَوْ بَاعَ آنِيَةَ
فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، أَوْ آنِيَةَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَحَدُهُمَا أَثْقَل مِنَ
الآْخَرِ لاَ يَجُوزُ، مَعَ تَفْصِيلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَأْتِي
بَيَانُهُ (1) وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا،
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا (2) وَمَا رَوَاهُ أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِنَاءٍ كِسْرَوَانِيٍّ قَدْ
أُحْكِمَتْ صِيَاغَتُهُ، فَبَعَثَنِي بِهِ لأَِبِيعَهُ، فَأُعْطِيتُ
وَزْنَهُ وَزِيَادَةً، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَال: أَمَّا
الزِّيَادَةُ فَلاَ (3) .
هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَحُكِيَ
عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ
بِالْمُكَسَّرَةِ، وَلأَِنَّ لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً،
__________
(1) فتح القدير 6 / 259 - 260، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 43،
ومغني المحتاج 2 / 22 - 25، وكشاف القناع 3 / 52.
(2) فتح القدير 6 / 147، 260، ومغني المحتاج 2 / 42، والمغني لابن قدامة 4
/ 10، 11. وحديث: " الذهب بالذهب تبرها وعينها ". أخرجه أبو داود (3 / 644
- تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (7 / 277 ط. المكتبة التجارية) من حديث
عبادة بن الصامت، وإسناده صحيح.
(3) المراجع السابقة.
(26/357)
بِدَلِيل حَالَةِ الإِْتْلاَفِ فَيَصِيرُ
كَأَنَّهُ ضَمُّ قِيمَةِ الصِّنَاعَةِ إِلَى الذَّهَبِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَال لِصَائِغٍ: صُغْ لِي خَاتَمًا وَزْنُهُ
دِرْهَمٌ، وَأُعْطِيكَ مِثْل وَزْنِهِ وَأُجْرَتَكَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ
ذَلِكَ بِبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَلِلصَّائِغِ أَخْذُ
الدِّرْهَمَيْنِ أَحَدُهُمَا مُقَابَلَةَ الْخَاتَمِ وَالثَّانِي أُجْرَةً
لَهُ (1) وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْبُهُوتِيُّ (2) .
وَقَدْ تَفَرَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ بَيْعِ النَّقْدِ
بِجِنْسِهِ الْمُرَاطَلَةَ أَوِ الْمُبَادَلَةَ، فَبَيْعُ الْعَيْنِ
بِالْعَيْنِ عِنْدَهُمْ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: إِمَّا مُرَاطَلَةٌ، إِمَّا
مُبَادَلَةٌ، وَإِمَّا صَرْفٌ. فَالْمُرَاطَلَةُ بَيْعُ النَّقْدِ
بِمِثْلِهِ وَزْنًا. وَالْمُبَادَلَةُ بَيْعُ النَّقْدِ بِمِثْلِهِ
عَدَدًا. وَالصَّرْفُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ بَيْعُ
أَحَدِهِمَا بِفُلُوسٍ (3) .
وَقَدْ صَرَّحُوا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ بِحُرْمَةِ التَّفَاضُل فِي
بَيْعِ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا مُطْلَقًا.
قَال الدَّرْدِيرُ: حَرُمَ فِي عَيْنٍ رِبَا فَضْلٍ أَيْ: زِيَادَةٍ وَلَوْ
مُنَاجَزَةً إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَلاَ يَجُوزُ دِرْهَمٌ
بِدِرْهَمَيْنِ، وَلاَ دِينَارٌ بِدِينَارَيْنِ (4) وَفِي رِسَالَةِ ابْنِ
أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ: وَمِنَ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ
بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 10، 11.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 199.
(3) الفواكه الدواني 2 / 112.
(4) الشرح الصغير للدردير 3 / 47.
(26/357)
مُتَفَاضِلاً، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ (1) وَقَال خَلِيلٌ: وَحَرُمَ فِي نَقْدٍ وَطَعَامٍ رِبَا
فَضْلٍ وَنَسَاءٍ (2) .
وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَدُل عَلَى حُرْمَةِ الْمُفَاضَلَةِ فِي
بَيْعِ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا مُطْلَقًا، وَلَوْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ،
لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الزِّيَادَةَ الْيَسِيرَةَ فِي ثَلاَثِ مَسَائِل،
كَمَا حَرَّرَهُ النَّفْرَاوِيُّ وَغَيْرُهُ:
23 - الأُْولَى - الْمُبَادَلَةُ: وَهِيَ بَيْنَ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا
عَدَدًا، حَيْثُ قَالُوا: تَجُوزُ الْمُبَادَلَةُ فِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ بِمِثْلِهِمَا إِنْ تَسَاوَيَا عَدَدًا وَوَزْنًا، وَجَازَتِ
الزِّيَادَةُ فِي مُبَادَلَةِ الْقَلِيل مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ
بِشُرُوطٍ:
أ - أَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ دُونَ
الْبَيْعِ.
ب - أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي وَقَعَتِ
الْمُبَادَلَةُ فِيهَا مَعْدُودَةً، أَيْ: يُتَعَامَل بِهَا عَدَدًا لاَ
وَزْنًا.
ج - أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ الْمُبَدَّلَةُ
قَلِيلَةً دُونَ سَبْعَةٍ.
د - أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْوَزْنِ لاَ
فِي الْعَدَدِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بِوَاحِدٍ، لاَ وَاحِدًا
بِاثْنَيْنِ.
هـ - أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي كُل دِينَارٍ أَوْ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 111.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10.
(26/358)
دِرْهَمٍ السُّدُسَ فَأَقَل. قَال
الصَّاوِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ، وَابْنُ الْحَاجِبِ،
وَابْنُ جَمَاعَةَ لَكِنْ قَال فِي الْعُبَابِ: أَكْثَرُ الشُّيُوخِ لاَ
يَذْكُرُونَ هَذَا الشَّرْطَ، وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ (السُّدُسِ) فِي
الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ يَحْتَمِل لِلتَّمْثِيل وَالشَّرْطِيَّةِ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ (1) .
و أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ: يَقْصِدُ الْمَعْرُوفَ،
لاَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُغَالَبَةِ (2) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ بُدَّ فِي جَوَازِ الْمُبَادَلَةِ مِنْ كَوْنِ
الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ مَسْكُوكَةً. وَهَل يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ
السِّكَّةِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ؟ قَوْلاَنِ: وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ
اشْتِرَاطِ اتِّحَادِهِمَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَا يُتَعَامَل بِهِ
عَدَدًا مِنْ غَيْرِ الْمَسْكُوكِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْكُوكِ.
وَاعْتَمَدَهُ الصَّاوِيُّ (3) .
24 - الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُسَافِرُ تَكُونُ مَعَهُ الْعَيْنُ
غَيْرَ مَسْكُوكَةٍ، وَلاَ تَرُوجُ مَعَهُ فِي الْمَحَل الَّذِي يُسَافِرُ
إِلَيْهِ، فَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا لِلسَّكَّاكِ لِيَدْفَعَ لَهُ
بَدَلَهَا مَسْكُوكًا - وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُ أُجْرَةِ
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 64، والدسوقي 3 / 41.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 41، والشرح الصغير للدردير 3 / 63،
64، والفواكه الدواني 2 / 111.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 41، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 /
64.
(26/358)
السِّكَّةِ وَإِنْ لَزِمَ عَلَيْهِ
الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّ الأُْجْرَةَ زِيَادَةٌ، وَعَلَى كَوْنِهَا عَرْضًا
تُفْرَضُ مَعَ الْعَيْنِ عَيْنًا. وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ؛
لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُسَافِرِ مِنَ السَّفَرِ عِنْدَ تَأْخِيرِهِ
لِضَرْبِهَا (1) .
25 - الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّخْصُ يَكُونُ مَعَهُ الدِّرْهَمُ
الْفِضَّةُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَحْوِ الْغِذَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَدْفَعَهُ لِنَحْوِ الزَّيَّاتِ وَيَأْخُذَ بِبَعْضِهِ طَعَامًا،
وَبِالنِّصْفِ الآْخَرِ فِضَّةً، حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ
الْبَيْعِ، أَوْ عِوَضِ كِرَاءٍ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل، لِوُجُوبِ
تَعْجِيل الْجَمِيعِ، وَكَوْنِ الْمَدْفُوعِ دِرْهَمًا فَأَقَل لاَ
أَكْثَرَ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَدْفُوعُ مَسْكُوكَيْنِ،
وَأَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُل بِالْمَدْفُوعِ وَالْمَأْخُوذِ وَلَوْ لَمْ
تَتَّحِدِ السِّكَّةُ، وَأَنْ يَتَّحِدَا فِي الرَّوَاجِ، وَأَنْ
يُتَعَجَّل الدِّرْهَمُ وَمُقَابِلُهُ مِنْ عَيْنٍ وَمَا مَعَهَا (2)
وَهَذَا فِي الْمُبَادَلَةِ.
26 - أَمَّا الْمُرَاطَلَةُ - وَهِيَ بَيْعُ عَيْنٍ بِمِثْلِهِ أَيْ:
ذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَزْنًا بِصَنْجَةٍ أَوْ
كِفَّتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا التَّسَاوِي، وَلاَ تُغْتَفَرُ فِيهَا
الزِّيَادَةُ وَلَوْ قَلِيلاً (3) .
27 - وَتَجُوزُ الْمُرَاطَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ أَحَدُ
النَّقْدَيْنِ كُلُّهُ أَجْوَدَ مِنْ جَمِيعِ مُقَابِلِهِ، كَدَنَانِيرَ
مَغْرِبِيَّةٍ تُرَاطَل بِدَنَانِيرَ مِصْرِيَّةٍ أَوْ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 111.
(2) الفواكه الدواني 2 / 111، 112.
(3) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 64، 65.
(26/359)
إِسْكَنْدَرِيَّةٍ، وَالْفَرْضُ أَنَّ
الْمَغْرِبِيَّةَ أَجْوَدُ مِنَ الْمِصْرِيَّةِ، وَهِيَ أَجْوَدُ مِنَ
الإِْسْكَنْدَرِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ بَعْضُهُ أَجْوَدَ وَالْبَعْضُ
الآْخَرُ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ الآْخَرِ فِي الْجَوْدَةِ، لاَ أَنْ يَكُونَ
بَعْضُ أَحَدِهِمَا أَدْنَى مِنَ الآْخَرِ، وَبَعْضُهُ أَجْوَدَ مِنْهُ،
كَسَكَنْدَرِيَّةٍ وَمَغْرِبِيَّةٍ تُرَاطَل بِمِصْرِيَّةٍ، فَلاَ يَجُوزُ
لِدَوَرَانِ الْفَضْل بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي - بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ
بِالآْخَرِ مُتَفَاضِلاً فِي الْوَزْنِ وَالْعَدَدِ، أَوْ مُتَسَاوِيًا،
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ جُزَافًا،
بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا قَدْرَ
وَوَزْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ، وَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ
بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ
شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) .
لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ أَيْضًا
التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ، لِحُرْمَةِ رِبَا
النَّسَاءِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّرْفِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 65، والشرح الكبير 3 / 42، 43.
(2) حديث: " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ". أورده
الزيلعي في نصب الراية (4 / 4 ط. المجلس العلمي) وقال " غريب بهذا اللفظ "،
ثم أحال إلى حديث عبادة بن الصامت والذي تقدم.
(26/359)
وَهَاءَ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: مَعْنَى
قَوْلِهِ: (رِبًا) أَيْ: حَرَامٌ (1) وَاسْتَثْنَى حَالَةَ التَّقَابُضِ
مِنَ الْحَرَامِ بِحَصْرِ الْحِل فِيهَا، فَيَنْتَفِي الْحِل فِي كُل
حَالَةٍ غَيْرِهَا، فَيَدْخُل فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى حَالَةُ
التَّفَاضُل وَالتَّسَاوِي وَالْمُجَازَفَةِ، فَيَحِل كُل ذَلِكَ (2) .
وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ
بِالصَّرْفِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا
أَوْ كِلَيْهِمَا شَيْءٌ آخَرُ:
29 - إِذَا بَاعَ نَقْدًا بِنَقْدِ غَيْرِ جِنْسِهِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا
أَوْ كِلَيْهِمَا مَتَاعٌ، كَأَنْ بَاعَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَثَوْبٍ، أَوْ
سَيْفًا مُحَلًّى بِذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، أَوْ بِهَا وَمَعَهَا مَتَاعٌ آخَرُ،
وَحَصَل التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ الْعَقْدُ، مُجَازَفَةً كَانَ
أَوْ مُتَفَاضِلاً أَوْ مُتَسَاوِيًا؛ لأَِنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي
فِي الْحَقِيقَةِ، لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسَيْنِ، فَيَجُوزُ فِيهِ
التَّفَاضُل وَالْمُجَازَفَةُ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل
الاِفْتِرَاقِ.
30 - أَمَّا إِذَا بَاعَ نَقْدًا مَعَ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ،
كَفِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَمَعَهَا شَيْءٌ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 235، والشرح الصغير للدردير 3 / 48، ومغني
المحتاج 2 / 204، وكشاف القناع 3 / 254، والمغني لابن قدامة 4 / 11، 39،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 199.
(2) فتح القدير 6 / 262، 263.
(26/360)
كَدِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ وَمُدِّ
عَجْوَةٍ، أَوْ كَسَيْفٍ مُحَلًّى بِالذَّهَبِ أَوْ فِضَّةٍ بِثَمَنِ
جِنْسِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ بَيْعُ نَقْدٍ بِجِنْسِهِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا
شَيْءٌ آخَرُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مُدٍّ وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ
بَيْعُ دِرْهَمٍ وَثَوْبٍ. كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مُحَلًّى
بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ كَسَيْفٍ أَوْ مُصْحَفٍ بِجِنْسِ حِلْيَتِهِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ بِمَسْأَلَةِ: (مُدُّ عَجْوَةٍ) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ قَال: أُتِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرِ
بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ وَهُوَ مِنَ الْغَنَائِمِ تُبَاعُ،
فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ
الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَال لَهُمْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا
بِوَزْنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا جَمَعَ
عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْجِنْسِ وَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ أَحَدُهُمَا
عَلَى الآْخَرِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الآْخَرِ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا
اخْتَلَفَتِ الْقِيمَةُ اخْتَلَفَ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعِوَضِ
فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْمُفَاضَلَةِ
__________
(1) حديث فضالة بن عبيد: " الذهب بالذهب وزنا بوزن ". أخرجه مسلم (3 / 1211
- ط الحلبي) والرواية الأولى لأبي داود (3 / 647 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(26/360)
أَوِ الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يَجُوزُ
بَيْعُ نَقْدٍ مَعَ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَزِيدَ
الثَّمَنُ (أَيِ النَّقْدُ الْمُفْرَدُ) عَلَى النَّقْدِ الْمَضْمُومِ
إِلَيْهِ. وَإِلاَّ بِأَنْ تَسَاوَى النَّقْدَانِ، أَوْ كَانَ النَّقْدُ
الْمُفْرَدُ أَقَل بَطَل الْبَيْعُ، لِتَحَقُّقِ التَّفَاضُل الْمُحَرَّمِ.
وَكَذَا إِذَا لَمْ يُدْرَ الْحَال؛ لاِحْتِمَال الْمُفَاضَلَةِ وَالرِّبَا
(2) .
فَمَنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحِلْيَةِ،
وَكَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ الْحِلْيَةِ جَازَ، وَذَلِكَ لِمُقَابَلَةِ
الْحِلْيَةِ بِمِثْلِهَا ذَهَبًا كَانَتْ أَمْ فِضَّةً.
وَالزِّيَادَةُ بِالنَّصْل وَالْحَمَائِل وَالْجَفْنِ. وَالْعَقْدُ إِذَا
أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يُحْمَل عَلَى الْفَسَادِ. وَإِنْ
بَاعَهُ بِأَقَل مِنْ قَدْرِ الْحِلْيَةِ أَوْ مِثْلِهِ لاَ يَجُوزُ؛
لأَِنَّهُ رِبًا. وَلأَِنَّهُ قَبَضَ قَدْرَ الْحِلْيَةِ قَبْل
الاِفْتِرَاقِ؛ لأَِنَّهُ صَرْفٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ
فِي الْمَجْلِسِ (3) .
وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالْحِلْيَةُ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ فَقَبَضَ مِنْهَا عَشَرَةً فَهِيَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ
وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا، حَمْلاً لِتَصَرُّفِهِ عَلَى الصِّحَّةِ.
وَكَذَا إِذَا قَال خُذْهَا مِنْ ثَمَنِهِمَا؛ لأَِنَّ قَصْدَهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 39 - 41، ومغني المحتاج 2 / 28، 29.
(2) فتح القدير مع الهداية 6 / 266.
(3) الاختيار 2 / 40، 41 وابن عابدين 4 / 236، 237.
(26/361)
الصِّحَّةُ، وَقَدْ يُرَادُ بِالاِثْنَيْنِ
أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجَانُ} (1) فَإِنِ افْتَرَقَا لاَ عَنْ قَبْضٍ بَطَل الْبَيْعُ
فِيهِمَا إِنْ كَانَتِ الْحِلْيَةُ لاَ تَتَخَلَّصُ إِلاَّ بِضَرَرٍ
كَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ
فِي السَّيْفِ وَبَطَل فِي الْحِلْيَةِ (2) .
31 - وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ
تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَأَحَدُهُمَا أَقَل
وَمَعَ أَقَلِّهِمَا شَيْءٌ آخَرُ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَاقِيَ الذَّهَبِ
فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَيَجُوزُ
مَعَ الْكَرَاهَةِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَالتُّرَابِ فَلاَ يَجُوزُ
الْبَيْعُ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا، إِذِ الزِّيَادَةُ لاَ يُقَابِلُهَا
عِوَضٌ (3) .
32 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْمُحَلَّى
الْمَنْعُ؛ لأَِنَّ فِي بَيْعِهِ بِصِنْفِهِ بَيْعَ ذَهَبٍ وَعَرَضٍ
بِذَهَبٍ، أَوْ بَيْعَ فِضَّةٍ وَعَرَضٍ بِفِضَّةٍ لَكِنْ رُخِّصَ فِيهِ
لِلضَّرُورَةِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ وَهِيَ:
1 - أَنْ تَكُونَ تَحْلِيَتُهُ مُبَاحًا، كَسَيْفٍ وَمُصْحَفٍ.
__________
(1) سورة الرحمن الآية (22) .
(2) الاختيار 2 / 40، 41، وفتح القدير 6 / 266، وابن عابدين 4 / 237.
(3) الهداية مع الفتح 6 / 272.
(26/361)
2 - وَأَنْ تَكُونَ الْحِلْيَةُ قَدْ
سُمِّرَتْ عَلَى الْمُحَلَّى بِأَنْ يَكُونَ فِي نَزْعِهَا فَسَادٌ أَوْ
غُرْمُ دَرَاهِمَ.
3 - وَأَنْ تَكُونَ الْحِلْيَةُ قَدْرَ الثُّلُثِ فَأَقَل؛ لأَِنَّهُ
تَبَعٌ (1) ، وَهَل يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْوَزْنِ؟
خِلاَفٌ. وَالْمُعْتَمَدُ الأَْوَّل. فَإِنْ بِيعَ سَيْفٌ مُحَلًّى
بِذَهَبٍ بِسَبْعِينَ دِينَارًا ذَهَبًا، وَكَانَ وَزْنُ حِلْيَتِهِ
عِشْرِينَ وَلِصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي ثَلاَثِينَ، وَقِيمَةُ النَّصْل
وَحْدَهُ أَرْبَعُونَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الأَْوَّل وَجَازَ الثَّانِي (2) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي تَعْلِيل قَوْل الإِْمَامِ مَالِكٍ: صِحَّةَ بَيْعِ
الْمُحَلَّى إِنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الثُّلُثُ
فَأَقَل، إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ قَلِيلَةً لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فِي
الْبَيْعِ. وَصَارَتْ كَأَنَّهَا هِبَةٌ (3) .
النَّوْعُ الرَّابِعُ - بَيْعُ جُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
بِجُمْلَةٍ مِنْهَا:
33 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ
جُمْلَةً مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدَرَاهِمَ أَوْ
بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بَطَل
الْعَقْدُ.
__________
(1) الدسوقي 3 / 40، والقوانين الفقهية ص 252، وبداية المجتهد 2 / 172.
(2) نفس المراجع.
(3) بداية المجتهد 2 / 172.
(26/362)
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعَ مَسْأَلَةِ: (مُدِّ
عَجْوَةٍ) ، وَقَالُوا فِي عِلَّةِ بُطْلاَنِهِ إِنَّ اشْتِمَال أَحَدِ
طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
تَوْزِيعُ مَا فِي الآْخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَهَذَا
يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ. وَالْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ حَقِيقَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي
بَابِ الرِّبَا (1) قَالُوا: إِنَّ التَّوْزِيعَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ،
كَمَا فِي بَيْعِ شِقْصٍ مَشْفُوعٍ وَسَيْفٍ بِأَلْفٍ. وَقِيمَةُ الشِّقْصِ
مِائَةٌ وَالسَّيْفِ خَمْسُونَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ
بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ، وَلَوْلاَ التَّوْزِيعُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ (2) .
قَال السُّبْكِيُّ: وَلاَ يُتْرَكُ التَّوْزِيعُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى
بُطْلاَنِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضًى حُمِل
عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَدَّى إِلَى فَسَادِ الْعَقْدِ أَوْ إِلَى صَلاَحِهِ،
كَمَا إِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى
الْعَقْدِ مُقَابَلَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِلثَّمَنِ حُمِل عَلَيْهِ وَإِنْ
أَدَّى إِلَى فَسَادِهِ، وَلَمْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ أَحَدَ
الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةٌ وَالآْخَرَ ثَمَنٌ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 28، والمغني لابن قدامة 4 / 39، 41.
(2) المرجعين السابقين وتكملة المجموع للسبكي 10 / 329، وقد ذكر مسألة بيع
الجملة من الدراهم والدنانير بجملة منهما نصا، بخلاف سائر كتب الشافعية حيث
لم توجد فيها مسألة بالنص، وإن كانت مفهومة من قاعدة (مد عجوة) .
(3) تكملة المجموع 10 / 239.
(26/362)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ
جَوَازِ صَرْفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مِنْ جَانِبٍ بِمِثْلِهِمَا مِنْ جَانِبٍ
آخَرَ. فَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ
بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بِاحْتِمَال
رَغْبَةِ أَحَدِهِمَا فِي دِينَارِ الآْخَرِ، فَيُقَابِلُهُ بِدِينَارِهِ
وَبَعْضِ دِرْهَمِهِ، وَيَصِيرُ بَاقِي دِرْهَمِهِ فِي مُقَابَلَةِ
دِرْهَمِ الآْخَرِ. قَالُوا: إِنَّ قَاعِدَةَ الْمَذْهَبِ سَدُّ
الذَّرَائِعِ فَالْفَضْل الْمُتَوَهَّمُ كَالْمُحَقَّقِ، وَتَوَهُّمُ
الرِّبَا كَتَحَقُّقِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ
النَّقْدَيْنِ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ نَوْعِهِ (1) .
34 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، صَحَّ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ
وَدِينَارٍ بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ، وَيُجْعَل كُل جِنْسٍ مُقَابَلاً
بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ
بِدِينَارَيْنِ، وَبَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِينَارٍ، وَهُمَا جِنْسَانِ
مُخْتَلِفَانِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِيهِمَا، فَيَصِحُّ
الْعَقْدُ.
وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ إِنَّ فِي صَرْفِ
الْجِنْسِ إِلَى خِلاَفِهِ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ، وَإِلَى جِنْسِهِ
فَسَادَهُ، وَلاَ مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ، فَحَمْل
الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي
مُطْلَقَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمُقَيَّدٍ، لاَ
مُقَابَلَةُ الْكُل بِالْكُل بِطَرِيقِ الشُّيُوعِ، وَلاَ مُقَابَلَةُ
الْفَرْدِ مِنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 10، والشرح الصغير 3 / 48، 49، والدسوقي 3 / 39.
(26/363)
جِنْسِهِ وَلاَ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهِ
فَيُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّدِ الْمُصَحِّحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَل
بِالإِْطْلاَقِ (1) .
قَال فِي الْهِدَايَةِ: إِنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْمِل
الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ، كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ
وَإِنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ، فَيُحْمَل عَلَيْهِ
تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ (2) .
وَقَال الْمَوْصِلِيُّ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُمَا قَصَدَا الصِّلَةَ
ظَاهِرًا، فَيُحْمَل عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِقَصْدِهِمَا وَدَفْعًا
لِحَاجَتِهِمَا (3) .
35 - وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا إِذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ؛ لأَِنَّ
شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُل وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا،
إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ حَال الْبَائِعِ إِرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ
الْمُقَابَلَةِ حَمْلاً عَلَى الصَّلاَحِ، وَهُوَ الإِْقْدَامُ عَلَى
الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ
بِالدِّينَارِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَلاَ
يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا (4) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار للموصلي 2 / 40، وفتح القدير مع الهداية 6 /
368، 369، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 138، 139، والبناية على الهداية
للعيني 6 / 700 وما بعدها.
(2) الهداية مع الفتح 6 / 269.
(3) الاختيار 2 / 40.
(4) الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 271.
(26/363)
النَّوْعُ الْخَامِسُ - الصَّرْفُ عَلَى
الذِّمَّةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ:
لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ عِدَّةُ صُوَرٍ:
36 - الأُْولَى: أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ فِي
مَجْلِسٍ، ثُمَّ اسْتَقْرَضْتَ أَنْتَ دِينَارًا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ إِلَى
جَانِبِكَ، وَاسْتَقْرَضَ هُوَ الدَّرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ إِلَى جَانِبِهِ،
فَدَفَعْتَ إِلَيْهِ الدِّينَارَ وَقَبَضْتَ الدَّرَاهِمَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى
أَنَّهُ: صَحَّ الصَّرْفُ إِذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ لأَِنَّ
الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْعَقْدِ (1)
.
وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الصَّرْفُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ نَقْدُ أَحَدِهِمَا
حَاضِرًا وَاسْتَقْرَضَ الآْخَرُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَسَلَّفَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ
تَسَلُّفَهُمَا مَظِنَّةُ الطُّول الْمُخِل بِالتَّقَابُضِ، وَإِنْ
تَسَلَّفَ أَحَدُهُمَا وَطَال فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَطُل جَازَ عِنْدَ
ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَمْ يُجِزْهُ أَشْهَبُ. قَال الْحَطَّابُ:
وَلُقِّبَتِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ عَلَى الذِّمَّةِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 235، ومغني المحتاج 2 / 23، 25، والمغني لابن
قدامة 4 / 51، 52.
(2) ابن عابدين 4 / 235، ومغني المحتاج 2 / 23 - 25، والمغني لابن قدامة 4
/ 51، 52.
(3) مواهب الجليل للحطاب 4 / 309، الموافق عليه 4 / 310.
(26/364)
37 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ
يَكُونَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ ذَهَبٌ وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ
دَرَاهِمُ مَثَلاً، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا. وَلُقِّبَتْ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا
النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ الْجَوَازِ بِأَنَّهُ بَيْعُ
دَيْنٍ بِدَيْنٍ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
بِالإِْجْمَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَفُسِّرَ
بِبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (1) .
38 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: صَحَّ بَيْعُ مَنْ عَلَيْهِ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ دَيْنٌ بِدِينَارٍ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ، أَيْ مِنْ دَائِنِهِ،
فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ
الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ،
وَدَفَعَ الدِّينَارَ إِلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ. وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ
بَيْنَ الْعَشْرَتَيْنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى
مُوَافَقَةٍ أُخْرَى.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ جَعَل ثَمَنَهُ دَرَاهِمَ لاَ يَجِبُ
قَبْضُهَا، وَلاَ تَعَيُّنُهَا بِالْقَبْضِ؛ لأَِنَّ التَّعْيِينَ
لِلاِحْتِرَازِ عَنِ الرِّبَا، أَيْ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلاَ
__________
(1) الروضة 3 / 516، ومغني المحتاج 2 / 25، والمغني لابن قدامة 4 / 53، 54،
وكشاف القناع 3 / 270. وحديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ " أخرجه البيهقي
(5 / 290 - ط. دار المعارف العثمانية) وضعفه ابن حجر في بلوغ المرام (ص193
- ط عبد المجيد حنفي) .
(26/364)
رِبَا فِي دَيْنٍ سَقَطَ، وَإِنَّمَا
الرِّبَا فِي دَيْنٍ يَقَعُ الْخَطَرُ فِي عَاقِبَتِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا بَاعَ الْمَدِينُ الدِّينَارَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ أَيْ:
بِغَيْرِ ذِكْرِ: (دَيْنٍ عَلَيْهِ) وَدَفَعَ الْبَائِعُ الدِّينَارَ
لِلْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا تَوَافَقَا عَلَى مُقَاصَّةِ
الْعَشَرَةِ بِالْعَشَرَةِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ، لِكَوْنِهِ
تَصَرُّفًا فِي بَدَل الصَّرْفِ قَبْل قَبْضِهِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ
أَنَّهُ بِالتَّقَابُضِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ الأَْوَّل وَانْعَقَدَ صَرْفٌ
آخَرُ مُضَافٌ إِلَى الدَّيْنِ (2) .
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّيْنَانِ
مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْوَصْفِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ
أَوْ أَحَدُهُمَا حَالًّا وَالآْخَرُ مُؤَجَّلاً أَوْ أَحَدُهُمَا غَلَّةً
(3) وَالآْخَرُ صَحِيحًا فَلاَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إِلاَّ إِذَا
تَقَاصَّا أَيِ: اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ
عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَتَقَاصَّا،
كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمَ وَلِلْمَدْيُونِ مِائَةُ
دِينَارٍ عَلَيْهِ تَصِيرُ الدَّرَاهِمُ قِصَاصًا بِمِائَةٍ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 239، والهداية مع الفتح وحاشية العناية 6 / 262،
والزيلعي 4 / 140.
(2) نفس المراجع.
(3) الغلة هي: الدارهم أو الدنانير المقطعة - انظر تبيين الحقائق 4 / 139.
(26/365)
قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ، وَيَبْقَى
لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ عَلَى صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ مَا بَقِيَ مِنْهَا
(1) .
39 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ وَقَالُوا:
إِنْ وَقَعَ صَرْفُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ فَإِنْ تَأَجَّل الدَّيْنَانِ
عَلَيْهِمَا، بِأَنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ دَنَانِيرُ
مُؤَجَّلَةٌ وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ
الأَْجَلاَنِ أَمِ اخْتَلَفَا، وَتَصَارَفَا قَبْل حُلُولِهِمَا بِأَنْ
أَسْقَطَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَهُ عَلَى الآْخَرِ فِي نَظِيرِ
إِسْقَاطِ الآْخَرِ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ
يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ (2) . كَذَلِكَ لاَ
يَجُوزُ إِنْ تَأَجَّل مِنْ أَحَدِهِمَا وَحَل الآْخَرُ. قَال الأَْبِيُّ
فِي وَجْهِ عَدَمِ الْجَوَازِ: إِنَّ الْحَقَّ فِي أَجَل دَيْنِ النَّقْدِ
لِلْمَدِينِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَخْذُهُ قَبْل أَجَلِهِ
بِغَيْرِ رِضَا الْمَدِينِ. فَإِنْ تَأَجَّلاَ فَقَدِ اشْتَرَى كُلٌّ
مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ لاَ يَسْتَحِقَّهُ حَتَّى يَحِل
أَجَلُهُ، فَيَقْضِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُ كُلٍّ
مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ بِالصَّرْفِ عَنْ عَقْدِهِ بِمُدَّةِ الأَْجَل،
وَإِنْ تَأَجَّل مِنْ أَحَدِهِمَا فَقَدِ اشْتَرَى الْمَدِينُ الْمُؤَجِّل
مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ إِلاَّ بَعْدَ
مُضِيِّ أَجَلِهِ، فَيَقْضِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ
عَنْ صَرْفِهِ بِمُدَّةِ الأَْجَل (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 239، 240.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10، 11 وبداية المجتهد 2 / 174.
(3) جواهر الإكليل 2 / 10، 11، الحطاب 4 / 310، والشرح الكبير 3 / 50، 51.
(26/365)
هَذَا فِي الصَّرْفِ الَّذِي يَكُونُ
عِنْدَهُمْ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مِنْ نَوْعَيْنِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.
وَنَظِيرُهُ مَا قَالُوهُ فِي الْمُقَاصَّةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ
دَيْنَيْنِ مُتَّحِدَيِ النَّوْعِ وَالصِّنْفِ (1)
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الْمُقَاصَّةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.
40 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ
الآْخَرِ، بِأَنْ كَانَ لَكَ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ
دَنَانِيرَ، أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ
بِسِعْرِ يَوْمِهَا.
وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، بِشَرْطِ قَبْضِ الْبَدَل فِي
الْمَجْلِسِ. وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ
حَفْصَةَ، فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إِنِّي
أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ
الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، وَآخُذُ
هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ
يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (2) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 76، 77، والقوانين الفقهية ص 287، وبداية المجتهد 2
/ 174، 175.
(2) حديث ابن عمر: إني أبيع الأبل بالبقيع. . . أخرجه أبو داود (3 / 651 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) ونقل البيهقي عن شعبة أنه أعله بالوقف على ابن عمر،
كذا في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(26/366)
وَهَذَا يَدُل عَلَى جَوَازِ
الاِسْتِبْدَال عَنِ الثَّمَنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيمَا إِنْ كَانَ
الْمَقْضِيُّ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلاً.
وَقَال الْقَاضِي وَهَذَا يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ،
وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَمَشْهُورُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لأَِنَّ مَا فِي
الذِّمَّةِ لاَ يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ، فَكَانَ الْقَبْضُ نَاجِزًا فِي
أَحَدِهِمَا، وَالنَّاجِزُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ. وَالآْخَرُ
الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ ثَابِتٌ فِي
الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، فَكَأَنَّهُ رَضِيَ بِتَعْجِيل
الْمُؤَجَّل. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إِذَا قَضَاهُ
بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَلَمْ يَجْعَل لِلْمَقْضِيِّ فَضْلاً لأَِجْل
تَأْجِيل مَا فِي الذِّمَّةِ (2) .
النَّوْعُ السَّادِسُ: صَرْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
الْمَغْشُوشَةِ:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ
بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ إِنْ رَاجَتْ نَظَرًا
لِلْعُرْفِ: أَمَّا إِذَا بِيعَتْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُصَارَفَةً فَقَدْ
فَصَّلُوا صُوَرَهَا وَأَحْكَامَهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 244، وحاشية القليوبي 2 / 214، وروضة الطالبين 3 / 515،
ومغني المحتاج 2 / 70، والمغني لابن قدامة 4 / 54، 55.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 54 وما بعدها، وانظر المراجع السابقة.
(26/366)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا غَلَبَ
ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
الْخَالِصَيْنِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ النُّقُودَ لاَ تَخْلُو عَنْ قَلِيل
غِشٍّ لِلاِنْطِبَاعِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْخَالِصِ بِهِ، وَلاَ بَيْعُ
بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا.
وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغِشُّ مِنْهُمَا فَفِي حُكْمِ الْعُرُوضِ
اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ؛ فَصَحَّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ
الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَغْشُوشِ؛ لِيَكُونَ قَدْرُهُ
بِمِثْلِهِ وَالزَّائِدِ بِالْغِشِّ. وَيَجُوزُ كَذَلِكَ صَرْفُهُ
بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَزْنًا وَعَدَدًا بِصَرْفِ الْجِنْسِ
لِخِلاَفِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ فِضَّةً كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى
غِشِّ الآْخَرِ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ؛
لأَِنَّهُ صَرْفٌ فِي الْبَعْضِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي - الْغِشِّ أَيْضًا -؛ لأَِنَّهُ لاَ
تَمْيِيزَ إِلاَّ بِضَرَرٍ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْخَالِصُ مِثْل الْمَغْشُوشِ، أَوْ أَقَل مِنْهُ، أَوْ لاَ
يُدْرَى فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ لِلرِّبَا فِي الأَْوَّلَيْنِ،
وَلاِحْتِمَالِهِ فِي الثَّالِثِ، وَلِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا حُكْمُ
الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ، أَيِ: الْغَالِبُ الْغِشِّ لاَ يَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ إِنْ رَاجَ، لِثَمَنِيَّتِهِ حِينَئِذٍ، لأَِنَّهُ
بِالاِصْطِلاَحِ صَارَ أَثْمَانًا، فَمَا دَامَ ذَلِكَ
__________
(1) الدر المختار مع حاشية رد المحتار 4 / 240، وبدائع الصنائع في ترتيب
الشرائع 5 / 220.
(26/367)
الاِصْطِلاَحُ مَوْجُودًا لاَ تَبْطُل
الثَّمَنِيَّةُ. وَإِنْ لَمْ يَرُجْ تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ
كَالسِّلْعَةِ، لأَِنَّهَا فِي الأَْصْل سِلْعَةٌ وَإِنَّمَا صَارَتْ
أَثْمَانًا بِالاِصْطِلاَحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا
رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا (1) .
قَالُوا: وَصَحَّ الْمُبَايَعَةُ وَالاِسْتِقْرَاضُ بِمَا يَرُوجُ مِنَ
الْغَالِبِ الْغِشُّ وَزْنًا وَعَدَدًا، أَوْ بِهِمَا عَمَلاً بِالْعُرْفِ.
أَمَّا الْمُتَسَاوِي غِشُّهُ وَفِضَّتُهُ، أَوْ ذَهَبُهُ فَكَغَالِبِ
الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ فِي التَّبَايُعِ وَالاِسْتِقْرَاضِ، فَلَمْ
يَجُزْ إِلاَّ الْوَزْنُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ إِلاَّ
إِذَا أَشَارَ إِلَيْهِمَا، فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَدْرِهَا وَوَصْفِهَا.
أَمَّا فِي الصَّرْفِ فَحُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ أَوِ
الذَّهَبِ حُكْمُ مَا غَلَبَ غِشُّهُ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ
بِصَرْفِ الْجِنْسِ إِلَى خِلاَفِ جِنْسِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ مَا فِي
كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْغِشِّ إِلَى مَا فِي الآْخَرِ مِنَ الْفِضَّةِ (2)
.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ جَوَازُ التَّفَاضُل - هُنَا أَيْضًا -
لَكِنْ قَال الزَّيْلَعِيُّ نَقْلاً عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِنْ كَانَ
نِصْفُهَا صُفْرًا وَنِصْفُهَا فِضَّةً لاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل،
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ فِيمَا إِذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ فِضَّتَهَا لَمَّا لَمْ تَصِرْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 240، 241، والبدائع 5 / 220.
(2) المرجعين السابقين، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 141، 142، وفتح القدير
مع الهداية 6 / 274، 275.
(26/367)
مَغْلُوبَةً جُعِلَتْ كَأَنَّ كُلَّهَا
فِضَّةٌ فِي حَقِّ الصَّرْفِ احْتِيَاطًا (1) .
42 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى جَوَازِ بَيْعِ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ،
كَدَنَانِيرَ فِيهَا فِضَّةٌ أَوْ نُحَاسٌ، أَوْ دَرَاهِمَ فِيهَا نُحَاسٌ
بِمَغْشُوشٍ مِثْلِهِ مُرَاطَلَةً أَوْ مُبَادَلَةً. قَال الْحَطَّابُ:
ظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ ابْنِ
رُشْدٍ. وَجَازَ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِخَالِصٍ مِنَ الْغِشِّ عَلَى
الْقَوْل الرَّاجِحِ مِنْ كَلاَمِ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ خِلاَفُهُ، أَيْ: مَنْعُ بَيْعِ
النَّقْدِ الْمَغْشُوشِ بِالنَّقْدِ الْخَالِصِ مِنَ الْغِشِّ، وَنَقَل
الأَْبِيُّ عَنِ التَّوْضِيحِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلاَفِ: أَنَّهُمْ
إِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الْمَغْشُوشِ الَّذِي لاَ يَجْرِي بَيْنَ
النَّاسِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ
بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ (2) .
وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ: أَنْ يُبَاعَ لِمَنْ
يَكْسِرُهُ لِيُصَيِّغَهُ حُلِيًّا، أَوْ لاَ يَغُشَّ بِهِ بِأَنْ
يَدَّخِرَهُ لِعَاقِبَةٍ مَثَلاً.
وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ لِمَنْ لاَ يُؤْمَنُ غِشُّهُ بِهِ: كَالصَّيَارِفَةِ،
وَفَسْخُ بَيْعِهِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَغُشُّ بِهِ إِنْ كَانَ
قَائِمًا وَقُدِّرَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَفُوتَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) مواهب الجليل للحطاب 4 / 335، وجواهر الإكليل 2 / 16.
(26/368)
الْمَغْشُوشُ (1) .
43 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي
الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، قَلِيلاً كَانَ أَمْ كَثِيرًا؛
لأَِنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْوَزْنِ وَيَمْنَعُ التَّمَاثُل (2) . فَلاَ
تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ، وَلاَ فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ
بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ (3) قَال السُّبْكِيُّ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ
الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ، وَإِنْ قَل الْغِشُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ
الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ بَاقِيَةٌ أَمْ لاَ، لاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الأَْصْحَابِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ
بَاقِيَةٌ فَبَيْعُ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ هُوَ بَيْعُ فِضَّةٍ
بِفِضَّةٍ وَشَيْءٍ، فَصَارَ كَمَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ) .
وَلأَِنَّ الْفِضَّةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ غَيْرُ
مُتَمَيِّزَةٍ؛ فَأَشْبَهَ بَيْعَ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَاللَّبَنِ
الْمَشُوبِ بِالْمَاءِ (4) .
وَأَمَّا الْمَغْشُوشَةُ بِغِشٍّ لاَ قِيمَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ فَلِلْجَهْل
بِالْمُمَاثَلَةِ، أَوْ تَحَقُّقِ الْمُفَاضَلَةِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا
بِالْخَالِصَةِ، وَلاَ بِالْمَغْشُوشَةِ مِثْلِهَا (5) .
وَنَقَل السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبِ التُّحْفَةِ فِي
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 16، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 65، 66.
(2) تكملة المجموع للسبكي 10 / 398.
(3) المهذب 1 / 281.
(4) تكملة المجموع 1 / 408، 409.
(5) تكملة المجموع 10 / 409، والمهذب 1 / 281، ومغني المحتاج 2 / 17.
(26/368)
الْمَغْشُوشَةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ
أَخْذُهَا وَإِمْسَاكُهَا إِذَا كَانَ النَّقْدُ الَّذِي فِي أَيْدِي
النَّاسِ خَالِصًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَغْرِيرَ النَّاسِ فَلَوْ
كَانَ جِنْسُ النَّقْدِ مَغْشُوشًا فَلاَ كَرَاهَةَ.
قَال السُّبْكِيُّ: وَأَفَادَ الرُّويَانِيُّ - أَيْضًا - أَنَّ الْغِشَّ
لَوْ كَانَ قَلِيلاً مُسْتَهْلَكًا بِحَيْثُ لاَ يَأْخُذُ حَظًّا مِنَ
الْوَرِقِ فَلاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِبْطَال الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ وُجُودَهُ
كَعَدَمِهِ. وَقَدْ قِيل: يَتَعَذَّرُ طَبْعُ الْفِضَّةِ إِذَا لَمْ
يُخَالِطْهَا خَلْطٌ مِنْ جَوْهَرٍ آخَرَ. . قُلْتُ: وَذَلِكَ صَحِيحٌ،
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْبِلاَدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ (زَمَانِ
السُّبْكِيِّ) ضُرِبَتِ الْفِضَّةُ خَالِصَةً فَتَشَقَّقَتْ، فَجُعِل
فِيهَا فِي كُل أَلْفِ دِرْهَمٍ مِثْقَالاً مِنْ ذَهَبٍ فَانْصَلَحَتْ،
لَكِنَّ مِثْل هَذَا إِذَا بِيعَ لاَ يَظْهَرُ فِي الْمِيزَانِ مَا مَعَهُ
مِنَ الْغِشِّ (1) .
وَكُل مَا ذُكِرَ فِي الْفِضَّةِ يَأْتِي فِي الذَّهَبِ حَرْفًا بِحَرْفٍ
(2) .
44 - وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فِي بَيْعِ الأَْثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ
بِمِثْلِهَا بَيْنَ مَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ
الْمِقْدَارِ وَمَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ غَيْرَ مُتَسَاوٍ أَوْ غَيْرَ
مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَقَالُوا بِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ
بِمِثْلِهِ فِي الأَْوَّل وَعَدَمِ جَوَازِهِ فِي الثَّانِي.
قَال الْبُهُوتِيُّ: الأَْثْمَانُ الْمَغْشُوشَةُ إِذَا بِيعَتْ
__________
(1) تكملة المجموع للسبكي 10 / 409، 410، 411.
(2) نفس المرجع.
(26/369)
بِغَيْرِهَا، أَيْ: بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ
مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ، لِلْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل، وَإِنْ بَاعَ
دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا مَغْشُوشًا بِمِثْلِهِ، وَالْغِشُّ فِي الثَّمَنِ
وَالْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتٌ، أَوْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ لَمْ
يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْجَهْل بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل.
وَإِنْ عُلِمَ التَّسَاوِي فِي الذَّهَبِ الَّذِي فِي الدِّينَارِ،
وَعُلِمَ تَسَاوِي الْغِشِّ الَّذِي فِيهِمَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا
بِالآْخَرِ، لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الذَّهَبُ، وَفِي
غَيْرِهِ، أَيِ: الْغِشِّ وَلَيْسَتْ مِنْ مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ) ،
لِكَوْنِ الْغِشِّ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَكَأَنَّهُ لاَ قِيمَةَ لَهُ
كَالْمِلْحِ فِي الْخُبْزِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي أَعْيَانِهَا،
فَعَلَى هَذَا إِذَا تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا
بِمَا قَبَضَهُ غِشًّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْل: أَنْ يَجِدَ
الدَّرَاهِمَ رَصَاصًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ مِثْل: كَوْنِ الْفِضَّةِ
سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً، أَوْ سِكَّتِهَا غَيْرَ سِكَّةِ السُّلْطَانِ
فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ
وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 261، 262.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 48 - 51.
(26/369)
النَّوْعُ السَّابِعُ - الصَّرْفُ
بِالْفُلُوسِ:
45 - الْفُلُوسُ هِيَ النُّحَاسُ، أَوِ الْحَدِيدُ الْمَضْرُوبُ الَّذِي
يُتَعَامَل بِهَا. فَهِيَ الْمَسْكُوكُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
(1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْفُلُوسِ، لأَِنَّهَا
أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً يَجِبُ
تَعْيِينُهَا، لأَِنَّهَا عُرُوضٌ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لَمْ يَجِبْ
لأَِنَّهَا مِنَ الأَْثْمَانِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا صُرِفَتِ الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ
بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَسَاءً، أَوْ صُرِفَتِ الْفُلُوسُ
بِالْفُلُوسِ تَفَاضُلاً. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل:
46 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ - عَدَا مُحَمَّدٍ -
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ
وَابْنِ عَقِيلٍ وَالشِّيرَازِيِّ وَصَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِمْ
إِلَى: أَنَّهُ لاَ رِبَا فِي فُلُوسٍ يُتَعَامَل بِهَا عَدَدًا وَلَوْ
كَانَتْ نَافِقَةً؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْكَيْل وَالْوَزْنِ، وَعَدَمُ
النَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ (3) ؛
وَلأَِنَّ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
الثَّمَنِيَّةُ الْغَالِبَةُ الَّتِي
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 16.
(2) الدسوقي 3 / 45، ومغني المحتاج 2 / 17، وشرح منتهى الإرادات 2 / 194.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 194، وكشاف القناع 3 / 252، والفروع 4 / 148،
150.
(26/370)
يُعَبَّرُ عَنْهَا - أَيْضًا -
بِجَوْهَرِيَّةِ الأَْثْمَانِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْفُلُوسِ وَإِنْ
رَاجَتْ، كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْفُلُوسَ مِنَ الْعُرُوضِ وَإِنْ كَانَتْ
نَافِقَةً (2) . وَوَجَّهَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا
هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنُ
الْمُتَّفِقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمُجَانَسَةُ وَإِنْ وُجِدَتْ
هَاهُنَا فَلَمْ يُوجَدِ الْقَدْرُ لأَِنَّ الْفُلُوسَ تُبَاعُ بِالْعَدَدِ
(3) ، وَهَذَا إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِأَعْيَانِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
مُتَفَاضِلاً، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ، وَجَوْزَةٍ
بِجَوْزَتَيْنِ، وَسِكِّينٍ بِسِكِّينَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ
يَدًا بِيَدٍ (4) .
هَذَا، وَقَدْ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: يَجُوزُ
بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا دَيْنًا؛
لأَِنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلاَحِهِمَا، إِذْ
لاَ وِلاَيَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا، فَتَبْطُل بِاصْطِلاَحِهِمَا، وَإِذَا
بَطَلَتِ الثَّمَنِيَّةُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 22، ومغني المحتاج 2 / 25، والجمل 3 / 45.
(2) أسنى المطالب 2 / 22، والقليوبي مع شرح المنهاج 3 / 52، ومغني المحتاج
2 / 25.
(3) البدائع 5 / 185.
(4) الهداية مع الفتح 6 / 162، والمراجع السابقة.
(26/370)
تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَلاَ يَعُودُ
وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الاِصْطِلاَحِ عَلَى الْعَدِّ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ
بِاصْطِلاَحِ الْكُل فَلاَ تَبْطُل بِاصْطِلاَحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ
أَثْمَانًا لاَ تَتَعَيَّنُ؛ فَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَا بِغَيْرِ
أَعْيَانِهِمَا كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ (1) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: صُوَرُ بَيْعِ الْفَلْسِ بِجِنْسِهِ أَرْبَعٌ:
الأُْولَى: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ
أَعْيَانِهِمَا فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ
مُتَسَاوِيَةٌ - قَطْعًا - لاِصْطِلاَحِ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ
الْجَوْدَةِ مِنْهَا، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا فَضْلاً خَالِيًا مَشْرُوطًا
فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ
عَيْنِهِمَا فَلاَ يَجُوزُ - أَيْضًا - وَإِلاَّ أَمْسَكَ الْبَائِعُ
الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَقَبَضَهُ بِعَيْنِهِ مِنْهُ مَعَ فَلْسٍ آخَرَ،
لاِسْتِحْقَاقِهِ فَلْسَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ عَيْنُ
مَالِهِ، وَيَبْقَى الْفَلْسُ الآْخَرُ خَالِيًا عَنِ الْعِوَضِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِفَلْسٍ بِغَيْرِ
عَيْنِهِ فَلاَ يَجُوزُ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ جَازَ لَقَبَضَ
الْمُشْتَرِي الْفَلْسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ أَحَدَهُمَا مَكَانَ مَا
اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ؛ فَيَبْقَى الآْخَرُ فَضْلاً بِلاَ عِوَضٍ اسْتُحِقَّ
بِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهَذَا
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 162.
(26/371)
إِذَا رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْل
قَبْضِ الثَّمَنِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ
بِعَيْنِهِمَا، فَيَجُوزُ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
47 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ رِوَايَةٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، جَزَمَ بِهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلاَفِهِ،
وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَلاَ نَسَاءً، وَلاَ
بَيْعُهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ نَسَاءً (2) .
فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: أَرَأَيْتَ إِنِ اشْتَرَيْتَ خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ
ذَهَبٍ أَوْ تِبْرِ ذَهَبٍ بِفُلُوسٍ فَافْتَرَقْنَا قَبْل أَنْ
نَتَقَابَضَ؟ قَال: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ مَالِكًا قَال: لاَ يَجُوزُ فَلْسٌ
بِفَلْسَيْنِ وَلاَ تَجُوزُ الْفُلُوسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ
بِالدَّنَانِيرِ نَظِرَةً (3) .
وَنَقَل ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُمَا
كَرِهَا الْفُلُوسَ بِالْفُلُوسِ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ أَوْ نَظِرَةٌ،
وَقَالاَ: إِنَّهَا صَارَتْ سِكَّةً مِثْل سِكَّةِ الدَّنَانِيرِ
وَالدَّرَاهِمِ (4) وَحَمَل بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ
(5) .
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 6 / 162، 163.
(2) المدونة الكبرى 3 / 395، 396، فتح القدير مع الهداية 6 / 162، 163،
وكشاف القناع 3 / 252، والفروع وتصحيحها 4 / 147، 151.
(3) المدونة 3 / 395، 396.
(4) نفس المرجع.
(5) إرشاد السالك مع شرحه أسهل المدارك 2 / 233.
(26/371)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْل
مُحَمَّدٍ بِعَدَمِ الْجَوَازِ - أَيْضًا - بِأَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ
فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلاً، كَالدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ، وَدَلاَلَةُ الْوَصْفِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُقَدَّرُ بِهِ
مَالِيَّةُ الأَْعْيَانِ، وَمَالِيَّةُ الأَْعْيَانِ كَمَا تُقَدَّرُ
بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تُقَدَّرُ بِالْفُلُوسِ - أَيْضًا -
فَكَانَتْ أَثْمَانًا، وَالثَّمَنُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ (عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ) فَالْتُحِقَ التَّعْيِينُ فِيهِمَا بِالْعَدَمِ. فَلاَ
يَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ
بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا. وَلأَِنَّهَا إِذَا كَانَتْ أَثْمَانًا
فَالْوَاحِدُ يُقَابِل الْوَاحِدَ، فَبَقِيَ الآْخَرُ فَضْل مَالٍ لاَ
يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ
الرِّبَا، كَمَا حَرَّرَهُ الْكَاسَانِيُّ (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الأَْظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ
الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الأَْثْمَانِ،
وَتُجْعَل مِعْيَارًا لأَِمْوَال النَّاسِ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي
لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْل
فِي مُعَامَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ (2) .
هَذَا، وَتَفْصِيل التَّعَامُل بِالْفُلُوسِ وَأَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ
(فُلُوسٌ (3)) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 185.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 468، 469.
(3) أما الأوراق النقدية (البنكنوت) فلم يبحثها المتقدمون من الفقهاء، لعدم
وجودها في زمانهم، وقد كتبت فيها رسائل جديدة أشملها (الورق النقدي) للشيخ
عبد الله بن سليمان بن منيع، بحث فيها التاريخ وحقيقة الورق النقدي، ثم
قيمته وحكمه مستنبطا مما كتبه الفقهاء في النقود وأحكام الفلوس، واستنتج أن
الورق النقدي ثمن قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة في جريان
الربا والصرف ونحوهما (اللجنة)
(26/372)
ظُهُورُ عَيْبٍ أَوْ نَقْصٍ فِي بَدَل
الصَّرْفِ:
48 - لَقَدْ سَبَقَ الْقَوْل: بِأَنَّ الصَّرْفَ لاَ يَقْبَل خِيَارَ
الشَّرْطِ لأَِنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ أَوْ تَمَامَهُ،
وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ.
أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلاَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي
الصَّرْفِ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً
فَفِقْدَانُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ.
هَذَا، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا
يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ بَدَل الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ
بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ فِي الْمَجْلِسِ
أَوْ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ،
وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا
أَوْ كَاسِدَةً، أَوْ وَجَدَهَا رَائِجَةً فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ
الْبَعْضِ - وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ التِّجَارَةِ - فَرَدَّهَا فِي
الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَل
مَكَانَهُ مُضِيَّ الصَّرْفِ.
وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ بَطَل الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، لِحُصُول الاِفْتِرَاقِ لاَ عَنْ قَبْضٍ، وَعِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لاَ يَبْطُل إِذَا
(26/372)
اسْتَبْدَل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ (1) .
وَإِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهِ فَرَدَّ الْمَعِيبَ فِي
الْمَرْدُودِ انْتُقِضَ الصَّرْفُ فِي الْمَرْدُودِ، وَبَقِيَ فِي
غَيْرِهِ؛ لاِرْتِفَاعِ الْقَبْضِ فِيهِ فَقَطْ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعِبَارَةٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَتَفْصِيلٍ حَيْثُ قَالُوا:
إِنْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا عَيْبًا فِي دَرَاهِمِهِ، أَوْ دَنَانِيرِهِ مِنْ
نَقْصٍ أَوْ غِشٍّ، أَوْ غَيْرِ فِضَّةٍ وَلاَ ذَهَبٍ كَرَصَاصٍ وَنُحَاسٍ،
فَإِنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ وَلاَ طُولٍ جَازَ
لَهُ الرِّضَا وَصَحَّ الصَّرْفُ وَطَلَبَ الإِْتْمَامَ فِي النَّاقِصِ
أَوِ الْبَدَل فِي الْغِشِّ وَالرَّصَاصِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ مَنْ أَبَاهُ
إِنْ لَمْ تُعَيَّنِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَةٍ، أَوْ طُولٍ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ
رَضِيَ بِغَيْرِ النَّقْصِ صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِلاَّ نُقِضَ، وَأَخَذَ
كُلٌّ مِنْهُمَا مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى الْعَيْنِ عَلَى
أَنَّهَا فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا
نُحَاسًا بَطَل الْعَقْدُ؛ لأَِنَّهُ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مَا عُقِدَ
عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ نُحَاسًا، أَوْ نَحْوَهُ صَحَّ الْعَقْدُ
فِي الْبَاقِي دُونَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 219، 220.
(2) ابن عابدين 4 / 236.
(3) الشرح الصغير للدردير 3 / 58، 59، وجواهر الإكليل 2 / 13.
(26/373)
بِالْقِسْطِ، وَلِصَاحِبِ الْبَاقِي
الْخِيَارُ بَيْنَ الإِْجَازَةِ وَالْفَسْخِ. وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ
بَعْضُهُ مَعِيبًا تَخَيَّرَ وَلَمْ يَسْتَبْدِل؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ
عَلَى عَيْنِهِ فَلاَ يَتَجَاوَزُهُ الْحَقُّ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
وَإِنْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا
أَوْ كِلاَهُمَا نُحَاسًا قَبْل التَّفَرُّقِ اسْتَبْدَل بِهِ. وَإِنْ
خَرَجَ نُحَاسًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَل الْعَقْدُ لِعَدَمِ
التَّقَابُضِ. وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعِيبًا اسْتَبْدَل
فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، وَإِنْ فَارَقَ مَجْلِسَ الْعَقْدِ. وَهَذَا
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَْثْمَانَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُمْ
(2) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ حَيْثُ قَالُوا: إِنْ ظَهَرَ
عَيْبٌ فِي جَمِيعِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَلَوْ يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ
جِنْسِهِ كَنُحَاسٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْمَسِّ فِي الذَّهَبِ بَطَل
الْعَقْدُ؛ لأَِنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ. وَإِنْ ظَهَرَ فِي
بَعْضِهِ بَطَل الْعَقْدُ فِيهِ فَقَطْ (3) ، وَهَذَا إِذَا كَانَ
الصَّرْفُ عَيْنًا بِعَيْنٍ، بِأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ
بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِمَا وَهُمَا حَاضِرَانِ.
وَالْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (4)
.
أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْل: كَوْنِ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 76، والمهذب 1 / 279.
(2) نفس المراجع.
(3) كشاف القناع 3 / 267، 268، والمس نوع من النحاس.
(4) المغني 4 / 47، 48.
(26/373)
الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً،
فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ
وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرَّدِّ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَل؛ لأَِنَّ
الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ غَيْرَهُ أَخَذَ مَا
لَمْ يَشْتَرِ (1) .
وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ
دِينَارًا مِصْرِيًّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَصِحُّ، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ
تَعْيِينِهِمَا بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِذَا تَقَابَضَا
فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا قَبْل التَّفَرُّقِ فَلَهُ
الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَل، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ
مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مُطْلَقٍ لاَ عَيْبَ
فِيهِ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ
رَضِيَهُ بِعَيْبِهِ وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ، وَإِنْ أَخَذَ
الأَْرْشَ فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ
لإِِفْضَائِهِ إِلَى التَّفَاضُل فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمَاثُل.
وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ (2) .
تَعَيُّنُ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فِي الصَّرْفِ:
49 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى: أَنَّ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ
الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ فِيمَا عَيَّنَاهُ، وَيَتَعَيَّنُ عِوَضًا فِيهِ،
فَلاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ كَمَا فِي سَائِرِ
__________
(1) نفس المرجع.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 51، 52.
(26/374)
الأَْعْوَاضِ، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا
بَطَل الْعَقْدُ، وَهَذَا لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِوَضٌ فِي
عَقْدٍ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الأَْعْوَاضِ؛ وَلأَِنَّ
لِلْمُتَبَايِعَيْنِ غَرَضًا فِي التَّعْيِينِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَثَرٌ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى ذَهَبًا بِوَرِقٍ بِعَيْنِهِمَا
فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا مِنْ جِنْسِهِ فَلَهُ
الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يَقْبَل، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَل
كَمَا سَبَقَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ
الأَْثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَيْ: إِنَّ
الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لاَ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَلَوْ
تَبَايَعَا دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ جَازَ أَنْ يُمْسِكَا مَا أَشَارَا
إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَيُؤَدِّيَا بَدَلَهُ قَبْل الاِفْتِرَاقِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الثَّمَنَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ
كَمَا نُقِل عَنِ الْفَرَّاءِ، فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلتَّعْيِينِ
بِالإِْشَارَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ إِطْلاَقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
فِي الصَّرْفِ بِغَيْرِ الإِْشَارَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ إِبْدَالُهَا، وَلاَ يَبْطُل الْعَقْدُ
بِخُرُوجِهَا مَغْصُوبَةً (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 258، جواهر الإكليل 5 / 13، ومواهب الجليل للحطاب 4 /
278، والمهذب 1 / 266، والمغني لابن قدامة 4 / 50 وكشاف القناع 3 / 270.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 244، والفتاوى الهندية 3 / 12، وفتح القدير 5 /
468، والمغني لابن قدامة 4 / 50.
(26/374)
صَرُورَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّرُورَةُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَبِتَخْفِيفِ الرَّاءِ: مَنْ لَمْ
يَحُجَّ (1) . وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الشَّخْصُ
الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، كَمَا نَصَّ
عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَهُوَ أَعَمُّ
مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ لأَِنَّهُ يَشْمَل مَنْ لَمْ يَحُجَّ
أَصْلاً، وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ عَنْ نَفْسِهِ نَفْلاً أَوْ
نَذْرًا (2) .
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ (3) ،
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ.
قَال النَّوَوِيُّ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ صَرَّ بِنَفْسِهِ عَنْ
إِخْرَاجِهَا فِي الْحَجِّ (4) وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ
مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَسْمِيَةَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً؛ لِمَا رَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) القاموس، ولسان العرب.
(2) ابن عابدين 2 / 241.
(3) كفاية الطالب 2 / 27.
(4) المجموع 7 / 117.
(27/5)
لاَ صَرُورَةَ فِي الإِْسْلاَمِ (1) قَال
النَّوَوِيُّ: أَيْ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ فِي الإِْسْلاَمِ بِلاَ حَجٍّ،
وَلاَ يَحِل لِمُسْتَطِيعٍ تَرْكُهُ (2) ، فَكَرَاهَةُ تَسْمِيَةِ مَنْ
لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً، وَاسْتِدْلاَلُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ
نَظَرٌ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ
(3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ الْحَجِّ: أَنَّ الْحَجَّ مِنَ
الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ مَعًا؛ فَيَقْبَل
النِّيَابَةَ فِي الْجُمْلَةِ. ثُمَّ فَصَّلُوا بَيْنَ حَجِّ الْفَرْضِ
وَحَجِّ النَّفْل، وَبَيَّنُوا شُرُوطَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ، كَمَا
بَيَّنُوا شُرُوطَ الآْمِرِ وَالْمَأْمُورِ أَيِ النَّائِبِ، وَهَل يَصِحُّ
الْحَجُّ عَنَ الْغَيْرِ مِنْ قِبَل مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ
حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِصَرُورَةٍ أَمْ لاَ؟ وَهَل
يَصِحُّ أَخْذُ الأُْجْرَةِ فِي ذَلِكَ؟ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: نِيَابَةُ الصَّرُورَةِ فِي حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ:
3 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ النَّائِبِ
فِي حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ
__________
(1) حديث: " لا صرورة في الإسلام ". أخرجه أبو داود (2 / 349 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) وفي إسناده راو ضعيف ذكر تضعيفه الذهبي في الميزان (3 / 312 -
ط. الحلبي) .
(2) المجموع للنووي 7 / 113، 117، وكشاف القناع 2 / 522، مطالب أولي النهى
2 / 449.
(3) المجموع 7 / 119.
(27/5)
عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ،
فَلَيْسَ لِلصَّرُورَةِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَل وَقَعَ
إحْرَامُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ لِنَفْسِهِ (1) لِمَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ،
قَال: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَال: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَال: حَجَجْتَ
عَنْ نَفْسِكَ؟ قَال: لاَ: قَال: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ
شُبْرُمَةَ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ لاَ
عَنِ الْغَيْرِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ
عَلَيْهِ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقَعِ
الْحَجُّ عَنْهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَحُجَّ (3) قَال النَّوَوِيُّ:
وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالأَْوْزَاعِيُّ
وَإِسْحَاقُ (4) .
وَفِي الْمُغْنِي: قَال أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَقَعُ الْحَجُّ
بَاطِلاً، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُ وَلاَ عَنْ غَيْرِهِ، وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (5) -.
__________
(1) المجموع للنووي 7 / 117، 118، والمغني ابن قدامة 3 / 245، 246.
(2) حديث: " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ". أخرجه أبو داود (2 / 403 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في المجموع (7 / 117 - ط المنيرية) .
(3) المغني 3 / 246.
(4) المجموع 7 / 117 - 118.
(5) المغني 3 / 245.
(27/6)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي
النَّائِبِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِحُّ حَجُّ
الصَّرُورَةِ، لَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ
حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ خُرُوجًا عَنِ الْخِلاَفِ، فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ
حَجُّ الصَّرُورَةِ.
وَهَل الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ أَمْ تَنْزِيهِيَّةٌ؟ اخْتَلَفَتْ
عِبَارَاتُهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ
النَّظَرُ: أَنَّ حَجَّ الصَّرُورَةِ عَنْ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ بَعْدَ
تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ
وَالصِّحَّةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ؛ لأَِنَّهُ تَضْيِيقٌ
عَلَيْهِ فِي أَوَّل سِنِي الإِْمْكَانِ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَكَذَا
لَوْ تَنَفَّل لِنَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ
لَيْسَ لِعَيْنِ الْحَجِّ الْمَفْعُول، بَل لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْفَوَاتُ
إِذِ الْمَوْتُ فِي سَنَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ. ثُمَّ نُقِل عَنِ الْبَحْرِ
قَوْلُهُ: وَالْحَقُّ أَنَّهَا تَنْزِيهِيَّةٌ عَلَى الآْمِرِ
لِقَوْلِهِمْ: وَالأَْفْضَل. . إِلَخْ، تَحْرِيمِيَّةٌ عَلَى الصَّرُورَةِ،
أَيِ الْمَأْمُورِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَجِّ، وَلَمْ
يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ. اهـ. ثُمَّ قَال:
وَهَذَا لاَ يُنَافِي كَلاَمَ الْفَتْحِ؛ لأَِنَّهُ فِي الْمَأْمُورِ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ حَجِّ الصَّرُورَةِ بِإِطْلاَقِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: حُجِّي
عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 241، وفتح القدير 2 / 320، 321.
(27/6)
أَبِيكِ (1) مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا
عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْل ذَلِكَ. قَال فِي الْفَتْحِ: وَتَرْكُ
الاِسْتِفْصَال فِي وَقَائِعِ الأَْحْوَال يَنْزِل مَنْزِلَةَ عُمُومِ
الْخِطَابِ؛ فَيُفِيدُ جَوَازَهُ عَنِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا. وَحَدِيثُ
شُبْرُمَةَ يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَقْدِيمِ حَجَّةِ نَفْسِهِ؛ وَبِذَلِكَ
يَحْصُل الْجَمْعُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ مَنَعُوا اسْتِنَابَةَ صَحِيحٍ مُسْتَطِيعٍ
فِي فَرْضٍ لِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَوْ حَجَّةٍ مَنْذُورَةٍ. قَال
الْحَطَّابُ: لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ،
وَتُفْسَخُ إِذَا عُثِرَ عَلَيْهَا (3) . أَمَّا الصَّرُورَةُ: فَيُكْرَهُ
عِنْدَهُمْ حَجُّهُ عَنِ الْغَيْرِ.
ثَانِيًا - حُكْمُ الأُْجْرَةِ فِي حَجِّ الصَّرُورَةِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: بِعَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ لِمَنْ
يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً عَلَى أَنْ يَحُجَّ
عَنْهُ بِكَذَا لَمْ يَجُزْ حَجُّهُ، وَإِنَّمَا يَقُول: أَمَرْتُكَ أَنْ
تَحُجَّ عَنِّي بِلاَ ذِكْرِ إِجَارَةٍ، وَلَهُ نَفَقَةُ الْمِثْل.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكِفَايَةِ: أَنَّهُ
__________
(1) حديث " حجي عن أبيك ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 378 - ط. السلفية)
ومسلم (2 / 974 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) فتح القدير 2 / 321.
(3) جواهر الإكليل 1 / 166.
(27/7)
يَقَعُ الْحَجُّ مِنَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ
فِي رِوَايَةِ الأَْصْل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَعَدَمُ جَوَازِ الأُْجْرَةِ فِي الْحَجِّ هُوَ الرِّوَايَةُ
الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ - أَيْضًا (2) - قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي
الصَّرُورَةِ الَّذِي يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ: عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ
مِنَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقَعَ الْحَجُّ عَنْهُ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: لأَِنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ عَنِ الْعِبَادَةِ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ أَهْل الْخَيْرِ (4) وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ:
(حَجٌّ ف 120) .
قَال الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ - يَعْنِي
لِلصَّرُورَةِ - لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا فَعَلَهُ (5) .
__________
(1) ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 240، وانظر في الموسوعة الفقهية
(مصطلح: حج. ف: 120 الاستئجار على الحج) .
(2) المغني 3 / 331.
(3) المغني 3 / 346.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 18، وجواهر الإكليل 1 / 166.
(5) شرح أسنى المطالب على روض الطالب 1 / 457.
(27/7)
صَرِيحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّرِيحُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي خَلَصَ مِنْ تَعَلُّقَاتِ
غَيْرِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ صَرُحَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ صَرَاحَةً
وَصُرُوحَةً، وَالْعَرَبِيُّ الصَّرِيحُ: هُوَ خَالِصُ النَّسَبِ،
وَالْجَمْعُ صُرَحَاءُ.
وَيُطْلَقُ الصَّرِيحُ - أَيْضًا - عَلَى كُل خَالِصٍ، وَمِنْهُ: الْقَوْل
الصَّرِيحُ: وَهُوَ الَّذِي لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارٍ أَوْ
تَأْوِيلٍ. وَصَرَّحَ بِمَا فِي نَفْسِهِ بِالتَّشْدِيدِ: أَخْلَصَهُ
لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، أَوْ أَذْهَبَ عَنْهُ احْتِمَالاَتِ الْمَجَازِ
وَالتَّأْوِيل (1) .
وَأَمَّا الصَّرِيحُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهُوَ كَمَا فِي التَّعْرِيفَاتِ:
اسْمٌ لِكَلاَمٍ مَكْشُوفٍ الْمُرَادُ بِهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ
الاِسْتِعْمَال حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا (2) .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَنَّ الصَّرِيحَ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ
بِهِ ظُهُورًا بَيِّنًا بِكَثْرَةِ الاِسْتِعْمَال.
__________
(1) المصباح والقاموس والصحاح مادة (صرح) .
(2) التعريفات للجرجاني / 174 ط. الأولى.
(27/8)
وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّ
الصَّرِيحَ. مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنَى، بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ
حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا (1) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: أَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ اللَّفْظُ
الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى لاَ يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ،
وَيُقَابِلُهُ: الْكِنَايَةُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكِنَايَةُ:
2 - الْكِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُسْتَدَل بِهِ
عَلَى الْمُكَنَّى عَنْهُ كَالرَّفَثِ وَالْغَائِطِ، وَهِيَ اسْمٌ
مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَّيْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا مِنْ بَابِ رَمَى (3) .
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهِيَ كَمَا فِي
التَّعْرِيفَاتِ لِلْجُرْجَانِيِّ: كَلاَمٌ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ
بِالاِسْتِعْمَال وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا فِي اللُّغَةِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ أَمِ الْمَجَازَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ
فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ بِهِ
لِتَوَارُدِ الاِحْتِمَالاَتِ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ الصَّرِيحِ (4) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَبَيْنَ الصَّرِيحِ: أَنَّ
__________
(1) فتح القدير والعناية بهامشه 3 / 44 - 45 ط الأميرية.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 293 ط. الأولى، المنثور 2 / 306 ط. الأولى.
(3) المصباح مادة (كنى) .
(4) فتح القدير والعناية بهامشه 3 / 87 - 88 ط. الأميرية.
(27/8)
الصَّرِيحَ يُدْرَكُ الْمُرَادُ مِنْهُ
بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهِ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، بِخِلاَفِ
الْكِنَايَةِ؛ فَإِنَّ السَّامِعَ يَتَرَدَّدُ فِيهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى
النِّيَّةِ.
التَّعْرِيضُ:
3 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ عَرَضْتُ لَهُ وَعَرَّضْتُ بِهِ
تَعْرِيضًا: إِذَا قُلْتَ قَوْلاً وَأَنْتَ تَعْنِيهِ. فَالتَّعْرِيضُ
خِلاَفُ التَّصْرِيحِ مِنَ الْقَوْل، كَمَا إِذَا سَأَلْتَ رَجُلاً: هَل
رَأَيْتَ فُلاَنًا - وَقَدْ رَآهُ؛ وَيَكْرَهُ أَنْ يَكْذِبَ - فَيَقُول:
إِنَّ فُلاَنًا لَيُرَى؛ فَيَجْعَل كَلاَمَهُ مِعْرَاضًا فِرَارًا مِنَ
الْكَذِبِ (1) .
وَذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي
الْكَلاَمِ مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ
(2) .
مَنْشَأُ الصَّرِيحِ:
4 - مَأْخَذُ الصَّرِيحِ: هَل هُوَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ أَوْ شُهْرَةُ
الاِسْتِعْمَال؟
قَال السُّيُوطِيُّ: فِيهِ خِلاَفٌ.
وَقَال السُّبْكِيُّ: الَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهَا مَرَاتِبُ. أَحَدُهَا:
مَا تَكَرَّرَ قُرْآنًا وَسُنَّةً، مَعَ الشِّيَاعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ
وَالْعَامَّةِ؛ فَهُوَ صَرِيحٌ - قَطْعًا - كَلَفْظِ الطَّلاَقِ.
__________
(1) المصباح مادة (عرض) .
(2) التعريفات للجرجاني / 85 (ط. الأولى)
(27/9)
الثَّانِيَةُ: الْمُتَكَرِّرُ غَيْرُ
الشَّائِعِ، كَلَفْظِ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ، فِيهِ خِلاَفٌ.
الثَّالِثَةُ: الْوَارِدُ غَيْرُ الشَّائِعِ، كَالاِفْتِدَاءِ، وَفِيهِ
خِلاَفٌ أَيْضًا.
الرَّابِعَةُ: وُرُودُهُ دُونَ وُرُودِ الثَّالِثَةِ، وَلَكِنَّهُ شَائِعٌ
عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ كَالْخُلْعِ وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ
صَرِيحٌ.
الْخَامِسَةُ: مَا لَمْ يَرِدْ، وَلَمْ يَشِعْ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ،
وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، مِثْل: حَلاَل اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ،
وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ:
5 - الْقَاعِدَةُ الأُْولَى: الصَّرِيحُ فِيهِ مَعْنَى التَّعَبُّدِ.
وَذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ؛ وَلِكَوْنِ
الصَّرِيحِ فِيهِ مَعْنَى التَّعَبُّدِ فَقَدْ حَصَرُوهُ فِي مَوَاضِعَ:
كَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عَمَّ فِي نَاحِيَةٍ
اسْتِعْمَال الطَّلاَقِ فِي إِرَادَةِ التَّخَلُّصِ عَنِ الْوَثَاقِ
وَنَحْوِهِ، فَخَاطَبَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلاَقِ، وَقَال: أَرَدْتُ بِهِ
ذَلِكَ - أَيِ التَّخَلُّصَ عَنِ الْوَثَاقِ - لَمْ يُقْبَل؛ لأَِنَّ
الاِصْطِلاَحَ الْخَاصَّ لاَ يَرْفَعُ الْعَامَّ (2) .
6 - الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّرِيحُ يَصِيرُ كِنَايَةً
بِالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي / 293 (ط. الأولى) .
(2) المنثور للزركشي 2 / 308 (ط. الأولى) .
(27/9)
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ -
أَيْضًا - الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَال
لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ، أَوْ فَارَقْتُكِ بِالْجِسْمِ،
أَوْ سَرَّحْتُكِ مِنَ الْيَدِ، أَوْ إِلَى السُّوقِ لَمْ تَطْلُقْ؛
فَإِنَّ أَوَّل اللَّفْظِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ، وَهُوَ يُضَاهِي
الاِسْتِثْنَاءَ كَمَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَمِمَّا يُعَارِضُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ - كَمَا ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي
الْمَنْثُورِ - قَوْلُهُمْ: إِنَّ السُّؤَال لاَ يُلْحِقُ الْكِنَايَةَ
بِالصَّرِيحِ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا لَوْ قَالَتْ
لَهُ زَوْجَتُهُ - وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ: طَلِّقْنِي، فَقَال: طَلُقَتْ
فَاطِمَةُ، ثُمَّ قَال: نَوَيْتُ فَاطِمَةَ أُخْرَى طَلُقَتْ، وَلاَ
يُقْبَل لِدَلاَلَةِ الْحَال، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال ابْتِدَاءً:
طَلُقَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ قَال: نَوَيْتُ أُخْرَى (1) .
7 - الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: الصَّرِيحُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ،
وَالْكِنَايَةُ لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ: -
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ،
وَالسُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: الصَّرِيحُ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ: أَيْ نِيَّةِ الإِْيقَاعِ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ
مَوْضُوعٌ لَهُ فَاسْتَغْنَى عَنِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا قَصْدُ اللَّفْظِ
فَيُشْتَرَطُ لِتَخْرُجَ مَسْأَلَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ.
وَمِنْ هَاهُنَا: يَفْتَرِقُ الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ،
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 308 - 309 ط. الأولى.
(27/10)
فَالصَّرِيحُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرٌ
وَاحِدٌ وَهُوَ قَصْدُ اللَّفْظِ، وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا
أَمْرَانِ: قَصْدُ اللَّفْظِ، وَنِيَّةُ الإِْيقَاعِ وَيَنْبَغِي أَنْ
يُقَال: أَنْ يَقْصِدَ حُرُوفَ الطَّلاَقِ لِلْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ،
لِيُخْرِجَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِمُ الصَّرِيحُ: لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ
كَمَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: قَصْدُ الْمُكْرَهِ إِيقَاعَ
الطَّلاَقِ، فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَقَعُ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ سَاقِطٌ بِالإِْكْرَاهِ،
وَالنِّيَّةُ لاَ تَعْمَل وَحْدَهَا. وَالأَْصَحُّ: يَقَعُ لِقَصْدِهِ
بِلَفْظِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَصَرِيحُ لَفْظِ الطَّلاَقِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ كِنَايَةٌ
إِنْ نَوَى وَقَعَ، وَإِلاَّ فَلاَ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ:
الْكِنَايَةُ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مَا إِذَا قِيل لَهُ: طَلَّقْتَ؟
فَقَال: نَعَمْ. فَقِيل: يَلْزَمُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلاَقًا. وَقِيل:
يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ (1) .
8 - الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: الصَّرَائِحُ تَعْمَل بِنَفْسِهَا مِنْ
غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ بِلاَ خِلاَفٍ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ
الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَسْأَلَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَهِيَ: مَا إِذَا قِيل لِلْكَافِرِ: قُل: أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَهَا حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ،
وَإِنْ قَالَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا
يُحْكَمُ
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 310. الأولى، الأشباه والنظائر للسيوطي / 293 -
294 ط. الأولى.
(27/10)
بِإِسْلاَمِهِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ
احْتِمَال قَصْدِ الْحِكَايَةِ (1) .
9 - الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: كُل تَرْجَمَةٍ (عِنْوَانٍ) نُصِبَتْ عَلَى
بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ فَالْمُشْتَقُّ مِنْهَا صَرِيحٌ بِلاَ
خِلاَفٍ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي
الْمَنْثُورِ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا
الْوُضُوءُ عَلَى وَجْهٍ - وَالأَْصَحُّ فِيهِ الصِّحَّةُ - وَالتَّيَمُّمُ
فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، بَل لاَ
بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَرْضِ. وَالشَّرِكَةُ: فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي فِيهَا
مُجَرَّدُ: اشْتَرَكْنَا.
وَالْخُلْعُ: فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ صَرِيحًا إِلاَّ بِذِكْرِ الْمَال (2)
.
10 - الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: الصَّرِيحُ فِي بَابِهِ إِذَا وَجَدَ
نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ لاَ يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ، وَمَعْنَى
وَجَدَ نَفَاذًا: أَيْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ صَرِيحًا.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ،
وَذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: الطَّلاَقُ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ
فَسْخًا أَوْ ظِهَارًا بِالنِّيَّةِ وَبِالْعَكْسِ. أَيْ: أَنَّ الظِّهَارَ
لاَ يَكُونُ طَلاَقًا أَوْ فَسْخًا
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 310 ط. الأولى.
(2) المنثور للزركشي 2 / 310 - 311 ط. الأولى. والأشباه والنظائر للسيوطي /
296 ط. الأولى.
(27/11)
بِالنِّيَّةِ - أَيْضًا -؛ لأَِنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا صَرِيحٌ فِي بَابِهِ، وَوَجَدَ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ؛ فَلاَ
يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ. وَمِنْ فُرُوعِهَا - أَيْضًا - مَا لَوْ
قَال فِي الإِْجَارَةِ: بِعْتُكَ مَنْفَعَتَهَا لَمْ تَصِحَّ؛ لأَِنَّ
الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الأَْعْيَانِ فَلاَ يُسْتَعْمَل فِي
الْمَنَافِعِ، كَمَا لاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ،
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرٌ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ
فِي قَوَاعِدِهِ، وَذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ - أَيْضًا - فِي الأَْشْبَاهِ
نَقْلاً عَنِ الزَّرْكَشِيِّ وَاعْتَرَضَ عَلَى بَعْضِهَا وَقَال: إِنَّهَا
لاَ تُسْتَثْنَى؛ لأَِنَّ الصَّرِيحَ فِيهَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي
مَوْضُوعِهِ.
وَمِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ مَا يَأْتِي: -
الأُْولَى: إِذَا جَعَلْنَا الْخُلْعَ صَرِيحًا فِي الْفَسْخِ، فَفِي
كَوْنِهِ كِنَايَةً فِي الطَّلاَقِ يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ إِذَا
نَوَيَاهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا مِنْ حَيْثُ النَّقْل يَكُونُ طَلاَقًا.
الثَّانِيَةُ: لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى
الطَّلاَقَ وَقَعَ، مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ صَرِيحٌ فِي إِيجَابِ
الْكَفَّارَةِ.
الثَّالِثَةُ: لَوْ قَال: بِعْتُكِ نَفْسَكِ بِكَذَا. وَقَالَتْ:
اشْتَرَيْتُ فَكِنَايَةُ خُلْعٍ. وَقَال السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ:
إِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لاَ تُسْتَثْنَى؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ فِيهَا لَمْ
يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ.
(27/11)
الرَّابِعَةُ: لَوْ قَال: مَالِي طَالِقٌ،
فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الصَّدَقَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَإِنْ نَوَى
صَدَقَةَ مَالِهِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْصِدَ
قُرْبَةً.
وَعَلَى هَذَا: فَهَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ، أَوْ
يَتَخَيَّرَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ؟
وَجْهَانِ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: أَنَّ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ لاَ تُسْتَثْنَى - أَيْضًا - لأَِنَّ الصَّرِيحَ فِيهَا لَمْ
يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ.
الْخَامِسَةُ: أَتَى بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ وَقَال: أَرَدْتُ التَّوْكِيل:
قُبِل عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ.
السَّادِسَةُ: لَوْ رَاجَعَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، أَوِ التَّزْوِيجِ
فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ تَنْفُذُ بِالنِّيَّةِ لإِِشْعَارِهِ
بِالْمَعْنَى.
السَّابِعَةُ: إِذَا قَال مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْفَسْخُ: فَسَخْتُ نِكَاحَكِ
وَأَطْلَقَ، أَوْ نَوَاهُ حَصَل الْفَسْخُ. وَإِنْ نَوَى بِالْفَسْخِ
الطَّلاَقَ طَلُقَتْ فِي الأَْصَحِّ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَسْخُ
كِنَايَةً فِي الطَّلاَقِ.
الثَّامِنَةُ: قَال: أَعَرْتُكَ حِمَارِي لِتُعِيرَنِي فَرَسَكَ
فَإِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ
الإِْعَارَةَ كِنَايَةٌ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَالْفَسَادُ إِنَّمَا
جَاءَ مِنِ اشْتِرَاطِ الْعَارِيَّةِ فِي الْعَقْدِ (1) .
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 311 - 313 ط. الأولى والأشباه والنظائر للسيوطي
295 - 296 ط. الأولى.
(27/12)
الصَّرِيحُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ:
11 - قَال السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّرِيحَ
وَقَعَ فِي الأَْبْوَابِ كُلِّهَا، وَكَذَا الْكِنَايَةُ، إِلاَّ فِي
الْخِطْبَةِ. فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا كِنَايَةً بَل ذَكَرُوا
التَّعْرِيضَ، وَلاَ فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْكِنَايَةَ
لِلاِتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالْكِنَايَةِ،
وَوَقَعَ الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ وَالتَّعْرِيضُ جَمِيعًا فِي الْقَذْفِ
(1) .
أ - الْبَيْعُ:
12 - صَرِيحُ الْبَيْعِ فِي الإِْيجَابِ: بِعْتُكَ. وَفِي الْقَبُول:
اشْتَرَيْتُ وَقَبِلْتُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِكُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ. كَمَا
اتَّفَقُوا - أَيْضًا - عَلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمَاضِي،
وَفِي انْعِقَادِهِ بِغَيْرِ لَفْظِ الْمَاضِي، وَبِالْفِعْل خِلاَفٌ (2)
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ ف - 10 - 21 - 22) .
ب - الْوَقْفُ:
13 - مِنْ صَرِيحِ لَفْظِ الْوَقْفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي / 297 (ط. الأولى) .
(2) الهداية وفتح القدير 5 / 74 - 75 (ط. الأولى) . الاختيار 2 / 4 (ط.
المعرفة) ، جواهر الإكليل 2 / 2 (ط. المعرفة) ، حاشية الدسوقي علي الشرح
الكبير 3 / 4 (ط. الفكر) ، الأشباه والنظائر للسيوطي / 297 - 298 (ط.
الأولى) ، حاشية القليوبي 2 / 152 - 153. (ط حلبي) ، كشاف القناع 3 / 146 -
147 (ط. النصر) .
(27/12)
قَوْل الشَّخْصِ: وَقَفْتُ، أَوْ
سَبَّلْتُ، أَوْ حَبَسْتُ كَذَا عَلَى كَذَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ
ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الاِسْتِعْمَال بَيْنَ النَّاسِ لِهَذَا الْمَعْنَى
وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ بِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا
وَسَبَّلْتَ ثَمَرَتَهَا (1) فَصَارَتْ هَذِهِ الأَْلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ
كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلاَقِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ مِنْ كِنَايَاتِ
الْوَقْفِ، كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: تَصَدَّقْتُ، أَوْ
حَرَّمْتُ، أَوْ أَبَّدْتُ هَذَا الْمَال عَلَى فُلاَنٍ إِذَا قَيَّدَ
بِلَفْظَةٍ أُخْرَى، كَأَنْ يَقُول: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً،
أَوْ مُحَبَّسَةً، أَوْ مُسَبَّلَةً، أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ مُؤَبَّدَةً،
أَوْ إِذَا وَصَفَ الصَّدَقَةَ بِصِفَاتِ الْوَقْفِ، كَأَنْ يَقُول:
تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً لاَ تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ تَكُونُ
هَذِهِ الصَّدَقَةُ وَقْفًا صَرِيحًا بِهَذَا الْقَيْدِ أَوِ الْوَصْفِ،
أَمَّا إِذَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِهَذَا الْقَيْدِ، وَلَمْ يَصِفْهَا
بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ كِنَايَةً، فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ
إِلَى النِّيَّةِ.
وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الْوَقْفِ
__________
(1) حديث: ' إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها '. أخرجه البخاري (الفتح 5 /
399 - ط السلفية) بلفظ: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " وأخرجه النسائي
(6 / 232 ط. المكتبة التجارية) بلفظ: " احبس أصلها وسبل ثمرتها ".
(27/13)
يَنْقَسِمُ إِلَى: صَرِيحٍ بِنَفْسِهِ،
وَصَرِيحٍ مَعَ غَيْرِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ غَرِيبٌ لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ
إِلاَّ قَلِيلاً كَمَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ نَقْلاً عَنِ
السُّبْكِيُّ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
ج - الْهِبَةُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْل الْمَالِكِ لِلْمَوْهُوبِ
لَهُ: وَهَبْتُكَ، أَوْ مَنَحْتُكَ، أَوْ أَعْطَيْتُكَ أَوْ مَلَّكْتُكَ،
أَوْ جَعَلْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ: هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْهِبَةِ.
وَأَمَّا إِذَا قَال: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ حَمَلْتُكَ عَلَى
هَذِهِ الدَّابَّةِ فَكِنَايَةٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْهِبَةِ (2) .
د - الْخِطْبَةُ:
15 - هِيَ: الْتِمَاسُ نِكَاحِ امْرَأَةٍ
، وَتَكُونُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ أَوْ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْمُرَادُ
بِالصَّرِيحِ - هُنَا - التَّعْبِيرُ صَرَاحَةً عَمَّا فِي
__________
(1) البحر الرائق 5 / 205 - 206 (ط. الثانية) . جواهر الإكليل 2 / 207. (ط.
المعرفة) . حاشية الدسوقي 4 / 84 (ط. الفكر) . مغني المحتاج 2 / 382 (ط.
التراث) . روضة الطالبين 5 / 322 - 323 (ط. المكتب الإسلامي) . الأشباه
والنظائر للسيوطي / 299 - 300 (ط. الأولى) . المعني 5 / 602 (ط. الرياض) .
كشاف القناع 4 / 241 - 242 (ط. النصر) .
(2) البدائع 6 / 115 - 116 ط الجمالية، جواهر الإكليل 2 / 212 (ط. المعرفة)
. مغني المحتاج 2 / 397 (ط. التراث) . الإنصاف 7 / 118 (ط. التراث) .
(27/13)
النَّفْسِ، وَهُوَ بِخِلاَفِ التَّعْرِيضِ
الَّذِي هُوَ: لَفْظٌ اسْتُعْمِل فِي مَعْنَاهُ لِيَلُوحَ بِغَيْرِهِ.
فَمِنْ صَرِيحِ الْخِطْبَةِ أَنْ يَقُول: أُرِيدَ نِكَاحَكِ إِذَا
انْقَضَتْ عِدَّتُكِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، مَنْ يَجِدُ
مِثْلَكِ؟ أَنْتِ جَمِيلَةٌ، إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، لاَ تَبْقَيْنَ
أَيِّمًا، لَسْتِ بِمَرْغُوبٍ عَنْكِ، إِنَّ اللَّهَ سَائِقٌ إِلَيْكِ
خَيْرًا: فَكُلُّهُ تَعْرِيضٌ (1) .
هـ - النِّكَاحُ:
16 - صَرِيحُهُ فِي الإِْيجَابِ لَفْظُ: التَّزْوِيجِ، وَالإِْنْكَاحِ.
وَفِي الْقَبُول: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ تَزْوِيجَهَا، أَوْ
تَزَوَّجْتُ، أَوْ نَكَحْتُ. ثُمَّ إِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ:
الإِْنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا إِجْمَاعًا وَهُمَا
اللَّذَانِ وَرَدَ بِهَا نَصُّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
{زَوَّجْنَاكَهَا} (2) . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) وَسَوَاءٌ اتَّفَقَا مِنَ
الْجَانِبَيْنِ، أَوِ اخْتَلَفَا مِثْل أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 619 (ط. المصرية) . تبيين الحقائق 3 / 36 (ط. الأميرية)
. حاشية الدسوقي 2 / 219 (ط. الفكر) ، الخرشي 3 / 171. (ط. بولاق) . جواهر
الإكليل 1 / 276 (ط. المعرفة) . - حاشية القليوبي 3 / 214 (ط. حلبي) ،
الأشباه والنظائر للسيوطي / 300 (ط الأولى) - كشاف القناع 5 / 18 (ط.
النصر) . المغني 6 / 608 - 609 (ط. الرياض) .
(2) سورة الأحزاب / 37.
(3) سورة النساء / 22.
(27/14)
يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي هَذِهِ،
فَيَقُول: قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ، وَفِي
انْعِقَادِهِ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْلْفَاظِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ وَالإِْجَارَةِ - وَهِيَ مِنْ أَلْفَاظِ
الْكِنَايَةِ، عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا خِلاَفٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ
فِي النِّكَاحِ (1) .
و الْخُلْعُ:
17 - أَلْفَاظُ الْخُلْعِ تَنْقَسِمُ إِلَى: صَرِيحٍ، وَكِنَايَةٍ،
فَالصَّرِيحُ لَفْظُ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةُ لِوُرُودِ الْمُفَادَاةِ
فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَتَفْصِيل الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ يُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ) .
ز - الطَّلاَقُ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلاَقِ هُوَ لَفْظُ
الطَّلاَقِ وَمُشْتَقَّاتُهُ، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ إِلَى اللُّغَاتِ
الأَْعْجَمِيَّةِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ وُضِعَ لِحَل قَيْدِ النِّكَاحِ
خِصِّيصًا، وَلاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالْخِرَقِيُّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لَفْظَيِ: الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ، وَمَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 267 (ط. المصرية) . تبيين الحقائق 2 / 96 (ط. الأميرية)
، جواهر الإكليل 1 / 277 (ط. المعرفة) - الخرشي 3 / 173 (ط بولاق) ، الجمل
على شرح المنهج 4 / 134 (ط. التراث) . الأشباه والنظائر للسيوطي / 300 (ط.
الأولى) . المغني 6 / 532 - (ط. الرياض) .
(27/14)
تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِنْ صَرِيحِ
الطَّلاَقِ لِوُرُودِهِمَا بِمَعْنَى الطَّلاَقِ فِي الْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ، فَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْفِرَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ
يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ
وَاسِعًا حَكِيمًا} (1) وَفِي قَوْلِهِ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
(2) وَوَرَدَ لَفْظُ السَّرَاحِ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى:
{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ} (4) .
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ يَرَى أَنَّ لَفْظَ الْفِرَاقِ، وَلَفْظَ
السَّرَاحِ لَيْسَا مِنْ صَرِيحِ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلاَنِ
فِي غَيْرِ الطَّلاَقِ كَثِيرًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا. . .} (5) .
وَلِذَلِكَ فَهُمَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ (6) .
__________
(1) سورة النساء / 130.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) سورة البقرة / 229.
(4) سورة البقرة / 231.
(5) سورة آل عمران / 103.
(6) البدائع 3 / 101 - 106 (ط. الجمالية) ، ابن العابدين 2 / 430 (ط.
المصرية) . جواهر الإكليل 1 / 345 (ط. المعرفة) ، حاشية الدسوقي 2 / 378
(ط. الفكر) ، روضة الطالبين 8 / 23 - 27 (ط. المكتب الإسلامي) . الأشباه
والنظائر للسيوطي / 302 (ط. الأولى) ، كشاف القناع 5 / 245 - 250 (ط.
النصر) ، الإنصاف 8 / 462 - 475 (ط. التراث) ، المغني 8 / 121 - 124 (ط
الرياض) .
(27/15)
ح - الظِّهَارُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى: أَنَّ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ فِي
الظِّهَارِ هُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُمِّي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ
اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} (1) . وَلِحَدِيثِ خَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ
الصَّامِتِ؛ حَيْثُ قَال لَهَا زَوْجُهَا أَوْسٌ: " أَنْتِ عَلَيَّ
كَظَهْرِ أُمِّي " (2) وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتِ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ
مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَذَلِكَ لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: جِسْمُكِ أَوْ
بَدَنُكِ أَوْ جُمْلَتُكِ أَوْ نَفْسُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
وَمِثْل ذَلِكَ: مَا لَوْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ
عَلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَالْجَدَّةِ وَالْعَمَّةِ
وَالْخَالَةِ وَالأُْخْتِ وَابْنَتِهَا وَبِنْتِ الأَْخِ فَإِنَّهُ يَكُونُ
- أَيْضًا - صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ، وَالْقَوْل
الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا لِلْعُدُول عَنِ
الْمَعْهُودِ، إِذِ اللَّفْظُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ
__________
(1) سورة المجادلة / 2.
(2) حديث خولة. امرأة أوس بن الصامت. أخرجه أحمد (6 / 410 - ط. الميمنية) .
والبيهقي (7 / 389 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده مقال. ولكن ذكر
البيهقي له طريقا آخر مرسلا ثم قال: وهو شاهد للموصول قبله.
(27/15)
بِالأُْمِّ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ
الْمَحَارِمِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (ظِهَارٌ) .
ط - الْقَذْفُ:
20 - امْتَازَتْ صِيغَةُ الْقَذْفِ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ
بِمَجِيءِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِيهَا، فَالْقَذْفُ
الصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صَرَاحَتِهِ مِنْ قِبَل الْعُلَمَاءِ هُوَ
أَنْ يَقُول لِرَجُلٍ: زَنَيْتَ، أَوْ يَا زَانِي، أَوْ لاِمْرَأَةٍ:
زَنَيْتِ، أَوْ يَا زَانِيَةَ فَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ لاَ تَحْتَمِل مَعْنًى
آخَرَ غَيْرَ الْقَذْفِ، وَمِثْل ذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُرَكَّبُ مِنَ
النُّونِ وَالْيَاءِ وَالْكَافِ، وَكَذَا كُل لَفْظٍ صَرِيحٍ فِي
الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ وَصْفُ
الْحُرْمَةِ، وَكَذَا نَفْيُ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ بِقَوْلِهِ: لَسْتَ
لأَِبِيكَ.
وَمِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ: الرَّمْيُ بِالإِْصَابَةِ
فِي الدُّبُرِ كَقَوْلِهِ: لُطْتَ، أَوْ لاَطَ بِكَ فُلاَنٌ، سَوَاءٌ
خُوطِبَ بِهِ رَجُلٌ أَوِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 575 (ط. المصرية) ، البدائع 3 / 233 (ط. الجمالية) ،
فتح القدير 3 / 226 - 229 (ط. الأميرية) . جواهر الإكليل 1 / 372 (ط.
الجمالية) - حاشية الدسوقي 2 / 442 (ط. الفكر) . روضة الطالبين 8 / 262 -
264 (ط. المكتب الإسلامي) . حاشية القليوبي 4 / 14 - 15 - (ط الحلبي) .
الأشباه والنظائر للسيوطي / 370 (ط. الأولى) كشاف القناع 5 / 368 - 370 (ط.
النصر) ، المغني 7 / 340 - 347 (ط. الرياض) .
(27/16)
امْرَأَةٌ. وَأَمَّا الرَّمْيُ بِإِتْيَانِ
الْبَهَائِمِ فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ قَذْفٌ
إِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَكَقَوْلِهِ لِلرَّجُل: يَا فَاجِرُ،
وَلِلْمَرْأَةِ: يَا خَبِيثَةُ.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ: فَكَقَوْلِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ،
وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ (قَذْفٌ) .
ك - النَّذْرُ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْل الشَّخْصِ:
لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ كَذَا مِنْ صَرِيحِ النَّذْرِ وَاخْتَلَفُوا فِي
قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا دُونَ ذِكْرِ لَفْظِ النَّذْرِ، فَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ صَرِيحِ النَّذْرِ أَيْضًا، وَيَرَى
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
__________
(1) البدائع 7 / 42 - 43 ط. الجمالية، ابن عابدين 3 / 168 - 171 (ط.
الأميرية) . فتح القدير 4 / 190 - 191 (ط. الأميرية) - الاختيار 4 / 93 -
94 (ط. الثانية) ، جواهر الإكليل 2 / 287 - 288 (ط. المعرفة) ، شرح
الزرقاني 8 / 86 - 87 (ط الفكر) ، القوانين الفقهية / 350 (ط الأولى) .
الأشباه والنظائر للسيوطي / 305 - 306 (ط. الأولى) ، حاشية القليوبي 4 / 28
- 29 (ط. حلبي) ، روضة الطالبين 8 / 311 - 312 (ط. المكتب الإسلامي) ،
حاشية الجمل على المنهج 4 / 425 - 426 (ط. التراث) ، الإنصاف 10 / 210 -
217 (ط. الأولى) ، كشاف القناع 6 / 109 - 112 (ط. النصر) ، المعني 8 / 221
- 222 (ط. الرياض) .
(27/16)
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ
بُدَّ مِنْ ذِكْرِ لَفْظِ النَّذْرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ النَّذْرُ
بِدُونِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (نَذْرٌ)
.
صَعِيدٌ
انْظُرْ: تَيَمُّم
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 125 (ط. المصرية) ، القوانين الفقهية / 73 (ط.
الأولى) ، روضة الطالبين 3 / 293 (ط. المكتب الإسلامي) . المغني 9 / 33 (ط.
الرياض) .
(27/17)
صَغَائِرُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّغَائِرُ لُغَةً: مِنْ صَغُرَ الشَّيْءُ فَهُوَ صَغِيرٌ وَجَمْعُهُ
صِغَارٌ، وَالصَّغِيرَةُ صِفَةٌ وَجَمْعُهَا صِغَارٌ أَيْضًا، وَلاَ
تُجْمَعُ عَلَى صَغَائِرَ إِلاَّ فِي الذُّنُوبِ وَالآْثَامِ.
أَمَّا اصْطِلاَحًا: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ
فَقَال بَعْضُهُمْ: الصَّغِيرَةُ - مِنَ الذُّنُوبِ - هِيَ كُل ذَنْبٍ لَمْ
يُخْتَمْ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال:
الصَّغِيرَةُ مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا، وَحَدِّ
الآْخِرَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الصَّغِيرَةُ هِيَ مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي
الدُّنْيَا وَلاَ وَعِيدٌ فِي الآْخِرَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الصَّغِيرَةُ هِيَ كُل مَا كُرِهَ كَرَاهَةَ
تَحْرِيمٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَبَائِرُ:
2 - الْكَبِيرَةُ فِي اللُّغَةِ: الإِْثْمُ وَجَمْعُهَا كَبَائِرُ.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط مادة (صغر) ، وحاشية ابن
عابدين 2 / 140، إحياء علوم الدين 4 / 18، 15.
(27/17)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَا كَانَ حَرَامًا مَحْضًا، شُرِعَتْ عَلَيْهِ
عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ، بِنَصٍّ قَاطِعٍ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. وَقِيل:
إِنَّهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ تَوَعَّدَ عَلَيْهَا
بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ، وَهَذَا أَمْثَل الأَْقْوَال
(1) .
اللَّمَمُ:
3 - وَاللَّمَمُ - بِفَتْحَتَيْنِ - مُقَارَبَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيل:
هِيَ الصَّغَائِرُ، أَوْ هِيَ فِعْل الرَّجُل الصَّغِيرَةِ ثُمَّ لاَ
يُعَاوِدُهَا، وَيُقَال: أَلَمَّ بِالذَّنْبِ فَعَلَهُ، وَأَلَمَّ
بِالشَّيْءِ قَرُبَ مِنْهُ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ (2) .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} (3) وَقَال بَعْضُهُمْ: اللَّمَمُ: هُوَ
مَا دُونَ الزِّنَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ؛ مِنَ الْقُبْلَةِ،
وَالنَّظْرَةِ.
وَقَال آخَرُونَ: اللَّمَمُ هُوَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ.
حُكْمُ الصَّغَائِرِ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ
وَصَغَائِرَ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني، المصباح المنير مادة (كبر) ، شرح عقيدة الطحاوية ص
418 (ط. المكتب الإسلامي) .
(2) المصباح، غريب القرآن مادة: (لمم) ، تفسير القرطبي 17 / 106.
(3) سورة النجم الآية: (32) .
(27/18)
فَقَال مُعْظَمُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ
وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ الصَّغَائِرَ تُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} (1)
وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (2)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ،
وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ:
مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ (3) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا كَبَائِرُ؛
وَإِنَّمَا يُقَال لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ
أَكْبَرُ مِنْهَا.
فَالْمُضَاجَعَةُ مَعَ الأَْجْنَبِيَّةِ كَبِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى
النَّظْرَةِ، صَغِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى الزِّنَى. وَقَطْعُ يَدِ
الْمُسْلِمِ كَبِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى ضَرْبِهِ، صَغِيرَةٌ
بِالإِْضَافَةِ إِلَى قَتْلِهِ، كَمَا صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِذَلِكَ فِي
الإِْحْيَاءِ.
وَقَالُوا: لاَ ذَنْبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ آخَرَ، بَل كُل
الذُّنُوبِ كَبِيرَةٌ، وَمُرْتَكِبُهَا فِي الْمَشِيئَةِ، غَيْرُ الْكُفْرِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ
__________
(1) سورة النساء الآية: (31) .
(2) سورة النجم الآية: (32) .
(3) حديث: " الصلوات الخمس والجمعة. . ". أخرجه مسلم 1 / 209 (ط الحلبي) من
حديث أبي هريرة.
(27/18)
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ وَإِنْ كَانَ
شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَال: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ (2) فَقَدْ جَاءَ
الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْيَسِيرِ كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ،
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الطَّيِّبُ وَأَبُو
إِسْحَاقَ الإِْسْفَرايِينِيُّ وَأَبُو الْمَعَالِي وَعَبْدُ الرَّحِيمِ
الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْوَاعًا مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ
مِنْهَا: النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ، وَالْقُبْلَةُ، وَالْغَمْزَةُ، وَلَمْسُ
الأَْجْنَبِيَّةِ.
وَمِنْهَا: هَجْرُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَكَثْرَةُ
الْخُصُومَاتِ إِلاَّ إِنْ رَاعَى فِيهَا حَقَّ الشَّرْعِ.
وَمِنْهَا: الإِْشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ
الْفُسَّاقِ إِينَاسًا لَهُمْ، وَالْغَيْبَةُ لِغَيْرِ أَهْل الْعِلْمِ
وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ (3) .
وَقَدْ تَعْظُمُ الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَتَصِيرُ
__________
(1) سورة النساء الآية: (48) .
(2) حديث: " من اقتطع حق امرئ مسلم. . " أخرجه مسلم 1 / 122 - (ط الحلبي) .
(3) مغني المحتاج 4 / 427، كشاف القناع 6 / 419، الطحاوي ص 371، مواهب
الجليل 6 / 151، دليل الفالحين 1 / 353، القرطبي 5 / 158، 17 / 106 إحياء
علوم الدين 4 / 15.
(27/19)
كَبِيرَةً لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:
مِنْهَا: الإِْصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَصْغِرَ الذَّنْبَ.
وَمِنْهَا: السُّرُورُ بِالصَّغِيرَةِ وَالْفَرَحُ وَالتَّبَجُّحُ بِهَا،
وَاعْتِدَادُ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ
كَوْنِهِ سَبَبَ الشَّقَاوَةِ (1) . وَالتَّفَاصِيل فِي: مُصْطَلَحِ
(كَبِيرَةٌ، وَشَهَادَةٌ، وَعَدَالَةٌ، وَمَعْصِيَةٌ) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 32، 33.
(27/19)
صِغَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّغَرُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ صَغُرَ صِغَرًا: قَل حَجْمُهُ
أَوْ سِنُّهُ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَالْجَمْعُ: صِغَارٌ. وَفِيهِ - أَيْضًا -
الأَْصْغَرُ اسْمُ تَفْضِيلٍ (1) .
وَالصِّغَرُ ضِدُّ الْكِبَرِ، وَالصُّغَارَةُ خِلاَفُ الْعِظَمِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ وَصْفٌ يَلْحَقُ بِالإِْنْسَانِ مُنْذُ مَوْلِدِهِ
إِلَى بُلُوغِهِ الْحُلُمَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّبَا:
2 - يُطْلَقُ الصِّبَا عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ مِنْهَا: الصِّغَرُ
وَالْحَدَاثَةُ، وَالصَّبِيُّ الصَّغِيرُ دُونَ الْغُلاَمِ، أَوْ مَنْ لَمْ
يُفْطَمْ بَعْدُ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الصَّبِيُّ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ
إِلَى أَنْ يُفْطَمَ (3) . وَعَلَى هَذَا فَالصِّبَا أَخَصُّ مِنِ
الصِّغَرِ.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، والمعجم الوسيط مادة (صغر)
.
(2) كشف الأسرار 4 / 1358.
(3) لسان العرب والمعجم الوسيط
(27/20)
التَّمْيِيزُ:
3 - هُوَ أَنْ يَصِيرَ لِلصَّغِيرِ وَعْيٌ وَإِدْرَاكٌ يَفْهَمُ بِهِ
الْخِطَابَ إِجْمَالاً (1) .
الْمُرَاهَقَةُ:
4 - الرَّهَقُ: جَهْلٌ فِي الإِْنْسَانِ وَخِفَّةٌ فِي عَقْلِهِ.
يُقَال: فِيهِ رَهَقٌ أَيْ حِدَّةٌ وَخِفَّةٌ.
وَرَاهَقَ الْغُلاَمُ: قَارَبَ الْحُلُمَ (2)
الرُّشْدُ:
5 - الرُّشْدُ: أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ حَدَّ التَّكْلِيفِ صَالِحًا فِي
دِينِهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ (3) .
مَرَاحِل الصِّغَرِ:
6 - تَنْقَسِمُ مَرَاحِل الصِّغَرِ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ:
(1) - مَرْحَلَةِ عَدَمِ التَّمْيِيزِ.
(2) - مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ:
الْمَرْحَلَةُ الأُْولَى: عَدَمُ التَّمْيِيزِ:
7 - تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مُنْذُ الْوِلاَدَةِ إِلَى
التَّمْيِيزِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ:
8 - تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مُنْذُ قُدْرَةِ الصَّغِيرِ عَلَى
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1358.
(2) لسان العرب، المعجم الوسيط مادة (رهق) .
(3) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (رشد) .
(27/20)
التَّمْيِيزِ بَيْنَ الأَْشْيَاءِ،
بِمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ لَهُ إِدْرَاكٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ النَّفْعِ
وَالضَّرَرِ.
وَيُلاَحَظُ: أَنَّ التَّمْيِيزَ لَيْسَ لَهُ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ يُعْرَفُ
بِهَا، وَلَكِنْ تَدُل عَلَى التَّمْيِيزِ أَمَارَاتُ التَّفَتُّحِ
وَالنُّضُوجِ، فَقَدْ يَصِل الطِّفْل إِلَى مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ فِي
سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ إِلَى مَا قَبْل الْبُلُوغِ،
وَتَنْتَهِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ بِالْبُلُوغِ (1) .
أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ:
تَنْقَسِمُ أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - أَهْلِيَّةِ وُجُوبٍ.
ب - أَهْلِيَّةِ أَدَاءً.
(أ) أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ:
9 - هِيَ صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ
لَهُ وَعَلَيْهِ، وَمَنَاطُهَا الإِْنْسَانِيَّةُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ
الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ (2) .
(ب) أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ:
10 - هِيَ صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْل عَنْهُ عَلَى
وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَمَنَاطُهَا التَّمْيِيزُ.
أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ،
__________
(1) نيل الأوطار 1 / 348، كشف الخفاء 2 / 284.
(2) كشف الأسرار 4 / 1357، 1358.
(27/21)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: مُصْطَلَحِ
(أَهْلِيَّةٌ) (1) .
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالصَّغِيرِ:
أَوَّلاً - التَّأْذِينُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ:
12 - يُسْتَحَبُّ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى،
وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى؛ لِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ
أَنَّهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ
(2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَذَان) .
ثَانِيًا: تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ:
13 - يُسْتَحَبُّ تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ، وَالتَّحْنِيكُ: هُوَ دَلْكُ
حَنَكِ الْمَوْلُودِ بِتَمْرَةٍ مَمْضُوغَةٍ، وَمِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي
اسْتَدَل بِهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّحْنِيكِ، مَا رَوَى
أَنَسٌ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ غُلاَمًا، قَال: فَقَال لِي أَبُو
طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُهُ بِهِ - وَأَرْسَل مَعِي بِتَمَرَاتٍ -
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا،
ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ
بِهِ وَسَمَّاهُ: عَبْدَ اللَّهِ (3) . انْظُرْ: (تَحْنِيك)
__________
(1) انظر الموسوعة 7 / 158 - 159 (أهلية) .
(2) حديث أبي رافع أنه قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في
أذن الحسين بن علي ". أخرجه الترمذي. 4 / 97 - ط الحلبي) وفي إسناده راو
ضعيف، ذكر الذهبي في ترجمته في الميزان: (2 / 254 - ط الحلبي) هذا الحديث
من مناكيره.
(3) حديث أنس: " أن أم سليم ولدت غلاما، قال: فقال لي أبو طلحة: احفظه. . .
. ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 587 - ط. السلفية) ومسلم (3 / 1690 - ط.
الحلبي)
(27/21)
ثَالِثًا - تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ:
14 - تُسْتَحَبُّ تَسْمِيَتُهُ بِاسْمٍ مُسْتَحَبٍّ، لِمَا رَوَاهُ
سَمُرَةُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَال: الْغُلاَمُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ
السَّابِعِ، وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ (1) انْظُرْ: (تَسْمِيَة) .
رَابِعًا - عَقِيقَةُ الْمَوْلُودِ:
15 - الْعَقِيقَةُ لُغَةً: مَعْنَاهَا الْقَطْعُ.
وَشَرْعًا: مَا يُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى
. وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلْمَانِ بْنِ
عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا،
وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَْذَى (2) .
وَلِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ عَنِ الْغُلاَمِ: شَاتَانِ
مُتَكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ (3) .
__________
(1) حديث: " الغلام مرتهن بعقيقته ". أخرجه الترمذي (4 / 101 - ط الحلبي)
وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث سلمان بن عامر الضبي: " مع الغلام عقيقة. .) . أخرجه البخاري
(الفتح 9 / 590 - ط السلفية) .
(3) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان
متكافئتان. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 97 - ط. الحلبي) قال: حديث حسن صحيح.
وقوله: متكافئتان أي: متساويتان في السن.
(27/22)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا.
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَجَمَاعَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ
الْعَقِيقَةَ نُسِخَتْ بِالأُْضْحِيَّةِ؛ فَمَنْ شَاءَ فَعَل، وَمَنْ شَاءَ
لَمْ يَفْعَل (1) .
خَامِسًا: الْخِتَانُ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال، وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ - إِلَى أَنَّ
الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ. انْظُرْ: (خِتَان) .
حُقُوقُ الصَّغِيرِ:
مِنْ حُقُوقِ الصَّغِيرِ مَا يَأْتِي:
17 - أ - أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ) .
ب - أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(نَفَقَةٌ) .
ج - تَعْلِيمُهُ وَتَأْدِيبُهُ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحَيْ: (تَعْلِيمٌ، وَتَأْدِيبٌ) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الصَّغِيرِ مَالِيًّا:
18 - يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مَا يَلِي: قِيمَةُ الْمُتْلَفَاتِ،
وَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 879، البدائع 5 / 69، وجواهر الإكليل 1 / 224،
والمهذب 1 / 248، وحلية العلماء 3 / 332.
(27/22)
وَالْعُشْرُ، وَالْخَرَاجُ، وَزَكَاةُ
الْمَال، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالأُْضْحِيَّةُ، عَلَى تَفْصِيلٍ
وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا، وَيُطَالَبُ
الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ بِتَنْفِيذِ هَذِهِ الاِلْتِزَامَاتِ مِنْ مَال
الصَّغِيرِ.
الْوِلاَيَةُ عَلَى الصَّغِيرِ:
19 - الْوِلاَيَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ بِالأَْمْرِ أَوْ عَلَيْهِ،
وَقِيل: هِيَ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ (1) .
وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوِلاَيَةَ:
هِيَ سُلْطَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَتَمَكَّنُ بِهَا صَاحِبُهَا مِنَ الْقِيَامِ
عَلَى شُؤُونِ الصِّغَارِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (2) .
وَتَبْدَأُ الْوِلاَيَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الصَّغِيرِ مُنْذُ
وِلاَدَتِهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا
، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوِلاَيَةَ تَكُونُ عَلَى الصَّغِيرِ
غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَعَلَى الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوِلاَيَةُ وَاجِبَةٌ لِمَصْلَحَةِ كُل قَاصِرٍ؛
سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ غَيْرَ صَغِيرٍ.
أَقْسَامُ الْوِلاَيَةِ:
تَنْقَسِمُ الْوِلاَيَةُ بِحَسَبِ السُّلْطَةِ الْمُخَوَّلَةِ لِلْوَلِيِّ
إِلَى قِسْمَيْنِ: وِلاَيَةٍ عَلَى النَّفْسِ، وَوِلاَيَةٍ عَلَى الْمَال.
__________
(1) لسان العرب.
(2) ابن عابدين 2 / 296، والبدائع 5 / 152 الدسوقي 3 / 292.
(27/23)
أ - الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ:
20 - يَقُومُ الْوَلِيُّ بِمُقْتَضَاهَا بِالإِْشْرَافِ عَلَى شُؤُونِ
الصَّغِيرِ الشَّخْصِيَّةِ، مِثْل: التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ
وَالتَّطْبِيبِ إِلَى آخِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ،
وَكَذَا تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ فَالتَّزْوِيجُ مِنْ بَابِ
الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ.
ب - الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال:
21 - يَقُومُ الْوَلِيُّ بِمُقْتَضَاهَا بِالإِْشْرَافِ عَلَى شُؤُونِ
الصَّغِيرِ الْمَالِيَّةِ: مِنْ إِنْفَاقٍ، وَإِبْرَامِ عُقُودٍ،
وَالْعَمَل عَلَى حِفْظِ مَالِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ وَتَنْمِيَتِهِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي تَقْسِيمِ الأَْوْلِيَاءِ
وَمَرَاتِبِهِمْ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَةٌ) .
تَأْدِيبُ الصِّغَارِ وَتَعْلِيمُهُمْ:
22 - يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُ الصِّغَارِ بِالآْدَابِ
الشَّرْعِيَّةِ؛ الَّتِي تَغْرِسُ فِي نَفْسِ الطِّفْل الأَْخْلاَقَ
الْكَرِيمَةَ وَالسُّلُوكَ الْقَوِيمَ، كَالأَْمْرِ بِأَدَاءِ الصَّلاَةِ
وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ فِي طَوْقِهِ: يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي:
(تَأْدِيبٌ، تَعْلِيمٌ) .
تَطْبِيبُ الصَّغِيرِ:
23 - لِلْوَلِيِّ عَلَى النَّفْسِ وِلاَيَةُ عِلاَجِ الصَّغِيرِ
__________
(1) البدائع 5 / 152، الشرح الكبير للدردير 3 / 292، نهاية المحتاج 3 /
355.
(27/23)
وَتَطْبِيبُهُ وَخِتَانُهُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ
الأَْشْيَاءَ مِنْ أَهَمِّ الأُْمُورِ اللاَّزِمَةِ لِلصِّغَارِ
لِتَعَلُّقِهَا بِصِحَّتِهِ وَيَتَحَقَّقُ هَذَا بِالإِْذْنِ لِلطَّبِيبِ
فِي تَقْدِيمِ الْعِلاَجِ اللاَّزِمِ لِلصِّغَارِ، وَالإِْذْنِ فِي
إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ لَهُمْ.
قَال الْفُقَهَاءُ: هَذَا خَاصٌّ بِالْوَلِيِّ عَلَى النَّفْسِ، وَلَيْسَ
لِلْوَلِيِّ عَلَى الْمَال ذَلِكَ، فَلَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ عَلَى الْمَال
لِلطَّبِيبِ بِإِجْرَاءِ عَمَلِيَّةٍ لِلصَّغِيرِ فَهَلَكَ، فَعَلَى
الْوَلِيِّ الدِّيَةُ لِتَعَدِّيهِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ
مُلِحَّةٌ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّةِ لإِِنْقَاذِ حَيَاةِ الصَّغِيرِ،
وَتَغَيَّبَ الْوَلِيُّ عَلَى النَّفْسِ فَلِلْوَلِيِّ عَلَى الْمَال
الإِْذْنُ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّةِ، أَوْ لأَِيِّ أَحَدٍ مِنْ عُمُومِ
الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ إِنْقَاذَ الآْدَمِيِّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ
(1) .
تَصَرُّفَاتُ الْوَلِيِّ الْمَالِيَّةُ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ وُجُوبًا
فِي مَال الصَّغِيرِ بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ} (2) وَقَال سُبْحَانَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى
قُل إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (3) كَمَا أَنَّهُمُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 355، المغني 8 / 327، ونهاية المحتاج 7 / 210.
(2) سورة الأنعام آية 152.
(3) سورة البقرة آية 220.
(27/24)
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ لاَ
يَأْكُل مِنْ مَال الْيَتِيمِ، وَلِلْفَقِيرِ أَنْ يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ
مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (1) .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَال
الْيَتِيمِ (2) إِذَا كَانَ فَقِيرًا؛ أَنَّهُ يَأْكُل مِنْهُ مَكَانَ
قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ (3)
. وَوَرَدَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي فَقِيرٌ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَلِيَ يَتِيمٌ؟
قَال: كُل مِنْ مَال يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلاَ مُبَاذِرٍ، وَلاَ
مُتَأَثِّلٍ، وَلاَ تَخْلِطْ مَالَكَ بِمَالِهِ (4) " وَفِي الْمَسْأَلَةِ
خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَةٌ) .
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ:
الطَّهَارَةُ:
25 - تَجِبُ الطَّهَارَةُ عَلَى كُل مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، أَمَّا الصَّغِيرُ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ
الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ الْوَلِيُّ بِهَا أَمْرَ تَأْدِيبٍ
وَتَعْلِيمٍ.
__________
(1) سورة النساء آية 6
(2) أسباب النزول للواحدي ص 106، الجامع لأحكام القرآن القرطبي 5 / 34.
(3) حديث نزول آية (ومن كان غنيا فليستعفف) أخرجه البخاري. الفتح 8 / 241 -
ط السلفية) ، وفي رواية له: " في والي اليتيم ".
(4) حديث: " كل من مال يتيمك غير مسرف ". أخرجه النسائي (6 / 256 - ط
المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمرو، وقوى ابن حجر إسناده في الفتح
(8 / 241 - ط السلفية) .
(27/24)
بَوْل الصَّغِيرِ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ إِذَا
أَكَلاَ الطَّعَامَ وَبَلَغَا عَامَيْنِ فَإِنَّ بَوْلَهُمَا نَجِسٌ
كَنَجَاسَةِ بَوْل الْكَبِيرِ؛ يَجِبُ غَسْل الثَّوْبِ إِذَا أَصَابَهُ
هَذَا الْبَوْل، وَالدَّلِيل عَلَى نَجَاسَةِ الْبَوْل مَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اسْتَنْزِهُوا مِنَ
الْبَوْل، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ (1) .
أَمَّا بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِذَا لَمْ يَأْكُلاَ الطَّعَامَ،
وَكَانَا فِي فَتْرَةِ الرَّضَاعَةِ؛ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي وُجُوبِ
التَّطَهُّرِ مِنْهُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ثَوْبَ
الْمُرْضِعَةِ أَوْ جَسَدَهَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطِ الطِّفْل؛ سَوَاءٌ
أَكَانَتْ أُمَّهُ أَمْ غَيْرَهَا، إِذَا كَانَتْ تَجْتَهِدُ فِي دَرْءِ
النَّجَاسَةِ عَنْهَا حَال
__________
(1) حديث: " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " أخرجه الدارقطني
(1 / 128 ط. شركة الطباعة الفنية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
والحاكم: (المستدرك 1 / 183) وقال ابن حجر: هو صحيح الإسناد، وأعله أبو
حاتم فقال: إن رفعه باطل (نيل الأوطار 1 / 114 نشر دار الجيل) ورواه
الدارقطني بلفظ مقارب من حديث أنس رضي الله عنه وقال: المحفوظ مرسل (سنن
الدارقطني 1 / 127) .
(27/25)
نُزُولِهَا، بِخِلاَفِ الْمُفَرِّطَةِ،
لَكِنْ يُنْدَبُ غَسْلُهُ إِنْ كَثُرَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ
بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ بَوْل
الصَّغِيرِ اكْتَفَى بِنَضْحِهِ بِالْمَاءِ، وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ
بَوْل الصَّغِيرَةِ وَجَبَ غَسْلُهُ (2) ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ
مِحْصَنٍ أَنَّهَا: أَتَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُل الطَّعَامَ، فَبَال
فِي حِجْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ
عَلَى ثَوْبِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلاً (3) وَلِحَدِيثِ: يُغْسَل مِنْ
بَوْل الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ (4) .
وَكُل مَا ذُكِرَ مِنَ اتِّفَاقٍ وَاخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ يَنْطَبِقُ تَمَامًا عَلَى قَيْءِ
الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ (5) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 140، بداية المجتهد 1 / 77، 82 الشرح الصغير 1 / 73.
مراقي الفلاح ص 25.
(2) مغني المحتاج 1 / 84، كشاف القناع 1 / 217، ونيل المآرب بشرح دليل
الطالب 1 / 98.
(3) حديث أم قيس بنت محصن أنها: " أتت بابن لها صغير. . " أخرجه مسلم (1 /
238 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام " أخرجه أبو داود (1 /
262 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 166 - ط دائرة المعارف العثمانية)
من حديث أبي السمح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(5) فتح القدير 1 / 140، بداية المجتهد 1 / 77، 82، الشرح الصغير 1 / 73،
مراقي الفلاح ص 25، مغني المحتاج 1 / 84، كشاف القناع 1 / 217، ونيل المآرب
بشرح دليل الطالب 1 / 98.
(27/25)
أَذَانُ الصَّبِيِّ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ أَذَانِ الصَّبِيِّ
غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُدْرِكُ مَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِي أَذَانِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَقَال الْمَالِكِيَّةُ:
لاَ يَصِحُّ أَذَانُهُ إِلاَّ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ فِي
إِخْبَارِهِ بِدُخُول الْوَقْتِ فَإِنْ أَذَّنَ الصَّغِيرُ بِلاَ
اعْتِمَادٍ عَلَى بَالِغٍ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِينَ إِعَادَةُ الآْذَانِ.
أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَيَصِحُّ أَذَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ
(1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (أَذَانٌ) .
صَلاَةُ الصَّغِيرِ:
28 - لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى الصَّبِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ
الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 362، 365، البدائع 1 / 149 - 151، بداية المجتهد
1 / 104 وما بعدها، القوانين الفقهية ص 47 وما بعدها، المجموعة 3 / 163،
مغني المحتاج 1 / 137، 139، المغني لابن قدامة 1 / 409 وما بعدها، كشاف
القناع 1 / 271 - 279.
(2) حديث " رفع القلم عن ثلاثة. . " أخرجه أبو داود (4 / 559 - تحقيق عزت
عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(27/26)
وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الصَّغِيرُ ذَكَرًا
كَانَ أَوْ أُنْثَى بِالصَّلاَةِ تَعْوِيدًا لَهُ، إِذَا بَلَغَ سَبْعَ
سِنِينَ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ؛ زَجْرًا لَهُ؛ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ
وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ
أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (1) .
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ:
29 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَلَقَدْ
تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الْكِبَارِ مِنِ الرِّجَال
وَالنِّسَاءِ وَكَيْفِيَّةِ سَتْرِهَا، كَمَا تَكَلَّمُوا عَنْ تَحْدِيدِ
عَوْرَةِ الصِّغَارِ مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ فِي الصَّلاَةِ
وَخَارِجِهَا.
وَلَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الصِّغَارِ
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَقْوَالِهِمْ مِنْ خِلاَل مَذَاهِبِهِمْ:
أَوَّلاً - الْحَنَفِيَّةُ (2) : لاَ عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ
يَبْلُغْ أَرْبَعَ سِنِينَ، فَيُبَاحُ النَّظَرُ إِلَى بَدَنِهِ وَمَسُّهُ،
أَمَّا مَنْ بَلَغَ أَرْبَعًا فَأَكْثَرَ، وَلَمْ يُشْتَهَ فَعَوْرَتُهُ
الْقُبُل وَالدُّبُرُ، ثُمَّ تَغْلُظُ عَوْرَتُهُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ.
أَيْ تُعْتَبَرُ عَوْرَتُهُ: الدُّبُرُ وَمَا
__________
(1) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين. . . " أخرجه أبو
داود (1 / 334 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه
النووي في رياض الصالحين (ص 171 - ط الرسالة) .
(2) رد المحتار 1 / 378
(27/26)
حَوْلَهُ مِنِ الأَْلْيَتَيْنِ، وَالْقُبُل
وَمَا حَوْلَهُ. وَبَعْدَ الْعَاشِرَةِ: تُعْتَبَرُ عَوْرَتُهُ مِنِ
السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ كَعَوْرَةِ الْبَالِغِ فِي الصَّلاَةِ
وَخَارِجِهَا، إِذَا كَانَ ذَكَرًا. وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى بَالِغَةً
فَجَسَدُهَا كُلُّهُ عَوْرَةٌ إِلاَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَبَاطِنَ
الْقَدَمَيْنِ.
ثَانِيًا - الْمَالِكِيَّةُ (1) : يُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ
الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى:
أ - فِي الصَّلاَةِ:
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ الْمَأْمُورِ بِالصَّلاَةِ، وَهُوَ بَعْدَ تَمَامِ
السَّبْعِ هِيَ: السَّوْأَتَانِ، وَالأَْلْيَتَانِ، وَالْعَانَةُ،
وَالْفَخِذُ، فَيُنْدَبُ لَهُ سَتْرُهَا كَحَالَةِ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ
مِنَ الْبَالِغِ.
وَعَوْرَةُ الصَّغِيرَةِ الْمَأْمُورَةِ بِالصَّلاَةِ: مَا بَيْنَ
السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيُنْدَبُ لَهَا سَتْرُهَا كَالسَّتْرِ
الْمَطْلُوبِ مِنَ الْبَالِغَةِ.
ب - خَارِجَ الصَّلاَةِ:
ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ فَأَقَل لاَ عَوْرَةَ لَهُ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ
النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ وَتَغْسِيلُهُ مَيِّتًا. وَابْنُ تِسْعٍ
إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ
بَدَنِهِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ تَغْسِيلُهُ، وَابْنُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ
سَنَةً فَأَكْثَرَ عَوْرَتُهُ كَعَوْرَةِ الرِّجَال.
وَبِنْتُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ لاَ عَوْرَةَ لَهَا
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 216
(27/27)
وَبِنْتُ ثَلاَثِ سِنِينَ إِلَى أَرْبَعٍ
لاَ عَوْرَةَ لَهَا فِي النَّظَرِ؛ فَيُنْظَرُ إِلَى بَدَنِهَا وَلَهَا
عَوْرَةٌ فِي الْمَسِّ، فَلَيْسَ لِلرَّجُل أَنْ يُغَسِّلَهَا،
وَالْمُشْتَهَاةُ بِنْتُ سَبْعِ سَنَوَاتٍ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل النَّظَرُ
إِلَى عَوْرَتِهَا، وَلاَ تَغْسِيلُهَا.
ثَالِثًا - الشَّافِعِيَّةُ (1) : عَوْرَةُ الصَّغِيرِ وَلَوْ غَيْرَ
مُمَيِّزٍ كَالرَّجُل (مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ) ، وَعَوْرَةُ
الصَّغِيرَةِ كَالْكَبِيرَةِ أَيْضًا فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا.
رَابِعًا - الْحَنَابِلَةُ (2) : لاَ عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ
يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ؛ فَيُبَاحُ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَمَسُّ جَمِيعِ
بَدَنِهِ. وَابْنُ سَبْعٍ إِلَى عَشْرٍ عَوْرَتُهُ الْفَرْجَانِ فَقَطْ؛
فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا، وَبِنْتُ سَبْعٍ إِلَى عَشْرٍ: عَوْرَتُهَا
فِي الصَّلاَةِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا
الاِسْتِتَارُ وَسَتْرُ الرَّأْسِ كَالْبَالِغَةِ احْتِيَاطًا، وَأَمَامَ
الأَْجَانِبِ: عَوْرَتُهَا جَمِيعُ بَدَنِهَا إِلاَّ الْوَجْهَ،
وَالرَّقَبَةَ، وَالرَّأْسَ، وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ،
وَالسَّاقَ، وَالْقَدَمَ. وَبِنْتُ عَشْرٍ كَالْكَبِيرَةِ تَمَامًا.
انْعِقَادُ الْجَمَاعَةِ وَالإِْمَامَةِ بِالصَّغِيرِ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ - فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - إِلَى انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامٍ
وَصَبِيٍّ فَرْضًا وَنَفْلاً؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَّ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 185 و 3 / 130.
(2) كشاف القناع 1 / 308 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 1 / 142.
(27/27)
ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ صَبِيٌّ فِي
التَّهَجُّدِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ
أَحْمَدَ: فَلاَ تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِصَغِيرٍ فِي فَرْضٍ (2) .
أَمَّا إِمَامَةُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي حُكْمِهَا. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (إِمَامَةٌ) .
غُسْل الْمَوْلُودِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ غُسْل الصَّغِيرِ إِنْ وُلِدَ
حَيًّا ثُمَّ مَاتَ. وَيُنْظَرُ: التَّفْصِيل فِي (تَغْسِيل الْمَيِّتِ،
اسْتِهْلاَلٌ) .
الزَّكَاةُ فِي مَال الصَّبِيِّ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
وُجُوبِهَا فِي مَال الصَّغِيرِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى وُجُوبِهَا فِي مَال الصَّغِيرِ إِذَا
كَانَ الْمَال زُرُوعًا وَثِمَارًا وَعَدَمِ وُجُوبِهَا فِي بَقِيَّةِ
أَمْوَالِهِ (3) .
صَوْمُ الصَّغِيرِ:
33 - لاَ يَجِبُ الصَّوْمُ إِلاَّ بِبُلُوغِ الصَّغِيرِ
__________
(1) حديث: " أم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس وهو صبي في التهجد "
أخرجه البخاري (الفتح 2 / 191 - ط السلفية) .
(2) الدر المختار 1 / 517، المجموع 4 / 93، كشاف القناع 1 / 532، الشرح
الكبير 1 / 321.
(3) العناية بهامش الفتح 1 / 481.
(27/28)
وَالصَّغِيرَةِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ
عِبَادَةٌ فِيهَا مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الصِّغَارِ، وَلَمْ
يُكَلَّفُوا بِأَدَائِهَا شَرْعًا لِعَدَمِ صَلاَحِيَتِهِمْ لِذَلِكَ؛
فَإِنْ صَامَ الصَّغِيرُ صَحَّ صَوْمُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ
يَأْمُرَهُ بِالصَّوْمِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَيَضْرِبَهُ إِذَا
بَلَغَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ لِكَيْ يَعْتَادَ عَلَى الصَّوْمِ؛ بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ الصَّغِيرُ يَتَحَمَّل أَدَاءَ الصَّوْمِ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَإِنْ
كَانَ لاَ يُطِيقُهُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّوْمِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (صَوْمٌ) .
حَجُّ الصَّبِيِّ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى
الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا إِلاَّ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ
وَيَقَعُ نَفْلاً، وَلاَ يُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. (يُنْظَرُ
التَّفْصِيل فِي حَجٌّ) .
يَمِينُ الصَّغِيرِ وَنَذْرُهُ:
35 - لاَ يَنْعَقِدُ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَلاَ نَذْرُهُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ
مُكَلَّفٍ؛ يَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ
وَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ. انْظُرْ: (أَيْمَان، وَنَذْر) .
اسْتِئْذَانُ الصَّغِيرِ:
36 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ
كَيْسَانَ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) إِلَى
وُجُوبِ أَمْرِ الصَّغِيرِ
(27/28)
الْمُمَيِّزِ بِالاِسْتِئْذَانِ قَبْل
الدُّخُول، فِي الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ
الْعَوْرَاتِ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَخَفُّفِ النَّاسِ فِيهَا مِنَ
الثِّيَابِ.
وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ
الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ فِي
الاِسْتِئْذَانِ عِنْدَ كُل خُرُوجٍ وَدُخُولٍ. وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ
يَكْثُرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ؛ فَهُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ. قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ
ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ
عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمُ الآْيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
وَذَهَبَ أَبُو قِلاَبَةَ إِلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ هَؤُلاَءِ فِي هَذِهِ
الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَكَانَ يَقُول: "
إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ (2) ".
__________
(1) سورة النور / 58، وانظر بدائع الصنائع 5 / 125، وأحكام ابن العربي 5 /
1385، والفواكه الدواني 2 / 426، وتفسير القرطبي 12 / 303، وتفسير الطبري
18 / 111.
(2) القرطبي 2 / 302.
(27/29)
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أ - وَقْتُ تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ أَمْوَالَهُ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ لِلصَّغِيرِ
أَمْوَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ رَاشِدًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ
دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِ عَلَى شَرْطَيْنِ: هُمَا الْبُلُوغُ، وَالرُّشْدُ
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (1) وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لاَ
يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا.
فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ فَإِمَّا أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا أَوْ غَيْرَ
رَشِيدٍ.
فَإِنْ بَلَغَ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِلْمَال دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: لاَ يُتْمَ بَعْدَ
احْتِلاَمٍ (2) . وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ
عِنْدَ الدَّفْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (3) .
وَلِلصَّغِيرَةِ أَحْكَامٌ مِنْ حَيْثُ وَقْتُ تَرْشِيدِهَا وَيُنْظَرُ
فِي: (حَجْرٌ، وَرُشْدٌ) .
__________
(1) سورة النساء آية 6
(2) حديث: " لا يتم بعد احتلام " أخرجه أبو داود (2943 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) من حديث على بن أبي طالب، وحسن إسناده النووي في رياض الصالحين (ص
760 - ط الرسالة) .
(3) سورة النساء / 6.
(27/29)
38 - وَإِنْ بَلَغَ الصَّغِيرُ غَيْرَ
رَشِيدٍ فَلاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بَل يُحْجَرُ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ السَّفَهِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ
قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً
مَعْرُوفًا} (1) .
إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: يَسْتَمِرُّ الْحَجْرُ عَلَى
الْبَالِغِ غَيْرِ الرَّشِيدِ إِلَى بُلُوغِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً
ثُمَّ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ وَلَوْ لَمْ يَرْشُدْ؛ لأَِنَّ فِي
الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِّ إِهْدَارًا لِكَرَامَتِهِ
الإِْنْسَانِيَّةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال
الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}
(2) وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ،
وَرُشْدٌ) .
ب - الإِْذْنُ لِلصَّغِيرِ بِالتِّجَارَةِ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِبَارِ الْمُمَيِّزِ فِي
التَّصَرُّفَاتِ؛ لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُهُ بِتَفْوِيضِ
التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ، فَإِنْ كَانَ
مِنْ أَوْلاَدِ التُّجَّارِ اخْتُبِرَ بِالْمُمَاكَسَةِ فِي الْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلاَدِ الزُّرَّاعِ اخْتُبِرَ
بِالزِّرَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلاَدِ أَصْحَابِ الْحِرَفِ
اخْتُبِرَ بِالْحِرْفَةِ، وَالْمَرْأَةُ تُخْتَبَرُ فِي شُؤُونِ الْبَيْتِ
مِنْ غَزْلٍ وَطَهْيِ
__________
(1) سورة النساء آية 5.
(2) سورة الأنعام آية 152.
(27/30)
طَعَامٍ وَصِيَانَتِهِ وَشِرَاءِ لَوَازِمِ
الْبَيْتِ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِذْنِ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ بِالتِّجَارَةِ وَفِي
أَثَرِ الإِْذْنِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ -
وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ - يَجُوزُ لِوَلِيِّ
الْمَال الإِْذْنُ لِلصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ إِذَا أَنِسَ مِنْهُ
الْخِبْرَةَ لِتَدْرِيبِهِ عَلَى طُرُقِ الْمَكَاسِبِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ لِتَعْلَمُوا
رُشْدَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الاِخْتِبَارُ بِتَفْوِيضِ
التَّصَرُّفِ إِلَيْهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ وَلأَِنَّ
الْمُمَيِّزَ عَاقِلٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَيَرْتَفِعُ حَجْرُهُ بِإِذْنِ
وَلِيِّهِ، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِهَذَا الإِْذْنِ فَلَوْ تَصَرَّفَ
بِلاَ إِذْنٍ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - فِي إِحْدَى
الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَنْفُذْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَفِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالإِْذْنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَدْ يَكُونُ
صَرِيحًا، مِثْل: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ دَلاَلَةً كَمَا
لَوْ رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ؛ لأَِنَّ سُكُوتَهُ دَلِيل
الرِّضَا، وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ لأََدَّى إِلَى الإِْضْرَارِ
بِمَنْ يُعَامِلُونَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -: لاَ يَثْبُتُ
الإِْذْنُ بِالدَّلاَلَةِ؛ لأَِنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمِلٌ لِلرِّضَا
وَلِعَدَمِ الرِّضَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الإِْذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛
وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ الْمَال وَيُمْتَحَنُ فِي
(27/30)
الْمُمَاكَسَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَقْدَ
عَقَدَ الْوَلِيُّ عَنْهُ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَاتِهِ وَعُقُودَهُ بَاطِلَةٌ
لِعَدَمِ تَوَافُرِ الْعَقْل الْكَافِي لِتَقْدِيرِ الْمَصْلَحَةِ فِي
مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ، فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْعُقَلاَءِ
قَبْل وُجُودِ مَظِنَّةِ كَمَال الْعَقْل (1) .
الْوَصِيَّةُ مِنَ الصَّغِيرِ:
40 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: - فِي أَرْجَحِ
الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ - عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ لِصِحَّةِ
الْوَصِيَّةِ، فَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ
الْمُمَيِّزِ؛ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛
لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا،
إِذْ هِيَ تَبَرُّعٌ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَال التِّجَارَةِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ وَهُوَ مَنْ أَتَمَّ
السَّابِعَةَ إِذَا كَانَتْ لِتَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ؛
لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ صَبِيٍّ مِنْ
غَسَّانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ أَوْصَى لأَِخْوَالِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ
ضَرَرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ؛ لأَِنَّ الْمَال
سَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْ
وَصِيَّتِهِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ؛
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 170، الدر المختار 5 / 108، 111، تبيين الحقائق 5 /
203 وما بعدها، البدائع 7 / 194 وما بعدها، الشرح الكبير 3 / 294، 303 وما
بعدها، الشرح الصغير 3 / 384، المغني 4 / 468 كشاف القناع 3 / 445.
(27/31)
وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَأَقَل
مِمَّا يُقَارِبُهَا، دُونَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، إِذَا عَقَل الْمُمَيِّزُ
الْقُرْبَةَ؛ لأَِنَّهَا تَصَرُّفٌ يُحَقِّقُ نَفْعًا لَهُ فِي الآْخِرَةِ
بِالثَّوَابِ، فَصَحَّ مِنْهُ كَالإِْسْلاَمِ وَالصَّلاَةِ (1) .
قَبُول الصَّغِيرِ لِلْوَصِيَّةِ:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إِنْ كَانَ
صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبُول أَوِ الرَّدِّ؛
لأَِنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ، وَإِنَّمَا يَقْبَل عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ
يَرُدُّ عَنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَاقِصِ الأَْهْلِيَّةِ - وَهُوَ الصَّبِيُّ
الْمُمَيِّزُ - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَهُ الْقَبُول؛ لأَِنَّ
الْوَصِيَّةَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُ كَالْهِبَةِ وَالاِسْتِحْقَاقِ فِي
الْوَقْفِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلاَ لِوَلِيِّهِ الرَّدُّ؛ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ
مَحْضٌ فَلاَ يَمْلِكُونَهُ.
وَقَال الْجُمْهُورُ: أَمْرُ الْقَبُول وَالرَّدِّ عَنْ نَاقِصِ
الأَْهْلِيَّةِ لِوَلِيِّهِ يَفْعَل مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ:
42 - لِلصَّغِيرِ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى الزَّوَاجُ قَبْل
الْبُلُوغِ، وَلَكِنْ لاَ يُبَاشِرُ عَقْدَ الزَّوَاجِ بِنَفْسِهِ، بَل
يَقُومُ وَلِيُّهُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ وَتَزْوِيجِهِ، فَإِنْ كَانَ
الْمُزَوَّجُ ذَكَرًا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ
__________
(1) البدائع 7 / 334 وما بعدها، تبيين الحقائق 6 / 185، القوانين الفقهية ص
405، شرح الرسالة 2 / 169، مغني المحتاج 3 / 39، كشاف القناع 4 / 371 وما
بعدها، وبداية المجتهد 2 / 328.
(27/31)
تَزْوِيجُهُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَإِنْ
كَانَتْ أُنْثَى زُوِّجَتْ مِنْ إِنْسَانٍ صَالِحٍ يُحَافِظُ عَلَيْهَا
وَيُدَبِّرُ شُؤُونَهَا (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نِكَاح) :
طَلاَقُ الصَّغِيرِ:
43 - الطَّلاَقُ رَفْعُ قَيْدِ الزَّوَاجِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
الْتِزَامَاتٌ مَالِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الصَّبِيِّ
مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ طَلاَقَ
مُمَيِّزٍ يَعْقِل الطَّلاَقَ وَلَوْ كَانَ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، بِأَنْ
يَعْلَمَ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِذَا
طَلَّقَهَا، وَيَصِحُّ تَوْكِيل الْمُمَيِّزِ فِي الطَّلاَقِ وَتَوَكُّلُهُ
فِيهِ؛ لأَِنَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ شَيْءٍ، صَحَّ أَنْ يُوَكَّل
وَأَنْ يَتَوَكَّل فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ
يُطَلِّقَ الْوَلِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ بِلاَ عِوَضٍ لأَِنَّ الطَّلاَقَ
ضَرَرٌ (2) .
عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ:
44 - الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل امْرَأَةٍ فَارَقَهَا زَوْجُهَا
بِطَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ، كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَلَمَّا كَانَ زَوَاجُ
الصَّغِيرَةِ جَائِزًا صَحَّ إِيقَاعُ الطَّلاَقِ عَلَيْهَا، فَإِذَا
طَلُقَتِ الصَّغِيرَةُ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا، وَتَعْتَدُّ
ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ
__________
(1) البدائع 2 / 232، الشرح الصغير 2 / 296، مغني المحتاج 3 / 169، كشاف
القناع 5 / 43، 44.
(2) فتح القدير 3 / 21، 38 - 40، الشرح الكبير 2 / 365، بداية المجتهد 2 /
81، 83، المهذب 2 / 77، كشاف القناع 5 / 262، 265.
(27/32)
مِنْ طَلاَقٍ. وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ:
أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ عِدَّةِ الصَّغِيرَاتِ فَنَزَل قَوْله تَعَالَى:
{وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (1) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} مَحْمُولٌ عَلَى
الصَّغِيرَاتِ فَتَكُونُ عِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، وَهَذَا
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ:
تَكُونُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى:
{وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَزْوَاجًا} لَفْظٌ عَامٌّ يَشْمَل الْكَبِيرَاتِ
وَالصَّغِيرَاتِ، فَتَكُونُ عِدَّةُ الصَّغِيرَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا. وَلِلصَّغِيرَةِ فِي الْعِدَّةِ حَقُّ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى
عَلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ (3) عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ
يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .
__________
(1) سورة الطلاق آية 4، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن نزول آية:
(واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) . أخرجه الحكام (2 / 493 - 493 - ط.
دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي بن كعب. وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) سورة البقرة آية 234.
(3) فتح القدير 4 / 139، المغني 9 / 90، 91 مغني المحتاج 3 / 386، 387،
حاشية الدسوقي 2 / 422، أحكام القرآن للجصاص 3 / 456 وما بعدها، أحكام
القرآن لابن العربي 4 / 1836، 1838.
(27/32)
قَضَاءُ الصَّغِيرِ:
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَوْلِيَةِ الصَّغِيرِ
الْقَضَاءَ، وَبِالتَّالِي لاَ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ (1) . انْظُرْ: (قَضَاء)
.
شَهَادَةُ الصَّغِيرِ:
46 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلاً بَالِغًا بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الطِّفْل؛ لأَِنَّهُ لاَ تَحْصُل
الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الصَّغِيرِ غَيْرِ
الْبَالِغِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى
الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (2) . وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) وَقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(4) وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ لاَ تُرْضَى شَهَادَتُهُ؛ وَلأَِنَّ الصَّغِيرَ
لاَ يَأْثَمُ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
بِشَاهِدٍ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَتَجُوزُ عِنْدَ
الإِْمَامِ مَالِكٍ فِي الْجِرَاحِ، وَفِي الْقَتْل؛ خِلاَفًا لِجُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ (5) .
__________
(1) البدائع 7 / 3، الدسوقي 4 / 129، مغني المحتاج 4 / 375، المغني 9 / 39.
(2) سورة البقرة آية 282
(3) سورة الطلاق 2
(4) سورة البقرة آية 282
(5) بداية المجتهد 2 / 451، 452، البدائع 6 / 267، المغني 9 / 194، مغني
المحتاج 4 / 427.
(27/33)
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْعُقُوبَاتِ:
47 - لَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ مَرَاحِل الصِّغَرِ إِلَى قِسْمَيْنِ
رَئِيسِيَّيْنِ:
الأَْوَّل: الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ وَهَذَا لاَ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ
عُقُوبَةٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ أَصْلاً؛ لاِنْعِدَامِ
مَسْئُولِيَّتِهِ.
الثَّانِي: الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ لاَ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ
وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ بِمَا يَتَنَاسَبُ
مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ؛ بِالتَّوْبِيخِ وَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُتْلِفِ
أَمَّا إِذَا ارْتَكَبَ الصَّغِيرُ فِعْلاً مِنْ شَأْنِهِ إِتْلاَفُ مَال
الْغَيْرِ، وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا
لَوْ قَتَل إِنْسَانًا خَطَأً وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، هَذَا هُوَ
الْمَبْدَأُ الْعَامُّ الَّذِي يُحَدِّدُ عَلاَقَةَ الصِّغَارِ
بِالْعُقُوبَاتِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ - دِيَةٌ -
قِصَاصٌ) .
حَقُّ الصَّغِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
48 - حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لأَِوْلِيَاءِ الْمَقْتُول
(وَرَثَتِهِ) وَالأَْوْلِيَاءُ قَدْ يَكُونُونَ جَمَاعَةً، أَوْ يَكُونُ
وَاحِدًا مُنْفَرِدًا، وَالْجَمَاعَةُ قَدْ يَكُونُونَ جَمِيعًا كِبَارًا،
أَوْ كِبَارًا وَصِغَارًا. وَالْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ قَدْ يَكُونُ
كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا.
أَوَّلاً - إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ صَغِيرًا مُنْفَرِدًا:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِهِ:
(27/33)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ
إِحْدَاهُمَا: يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ. وَالثَّانِيَةُ: يَسْتَوْفِي
الْقَاضِي الْقِصَاصَ نِيَابَةً عَنِ الصَّغِيرِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُنْتَظَرُ الْبُلُوغُ، وَلِوَلِيِّ
الصَّغِيرِ أَوْ وَصِيِّهِ النَّظَرُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي اسْتِيفَاءِ
الْقِصَاصِ أَوْ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ؛
لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ التَّفْوِيضُ إِلَى اخْتِيَارِ
الْمُسْتَحِقِّ؛ فَلاَ يَحْصُل الْمَقْصُودُ بِاسْتِيفَاءِ غَيْرِهِ مِنْ
وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ (1) .
ثَانِيًا - إِذَا كَانَ الصَّغِيرُ مُشْتَرَكًا مَعَ جَمَاعَةٍ كِبَارٍ:
فَلِلْكِبَارِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ،
وَلاَ يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقِصَاصِ
لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيل الْكَمَال وَالاِسْتِقْلاَل؛
وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لاَ يَتَجَزَّأُ؛ لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لاَ
يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ.
انْظُرْ: (قِصَاص) .
__________
(1) البدائع 7 / 243، المغني 7 / 739، الشرح الكبير 4 / 258، مغني المحتاج
4 / 40.
(27/34)
صَغِيرٌ
انْظُرْ: صِغَر
صَفَا
انْظُرْ: سَعْي
(27/34)
صَفٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفُّ فِي اللُّغَةِ: السَّطْرُ الْمُسْتَقِيمُ مِنْ كُل شَيْءٍ،
وَالْقَوْمُ الْمُصْطَفُّونَ وَجَعْل الشَّيْءِ - كَالنَّاسِ
وَالأَْشْجَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (1) وَصَافَّ الْجَيْشُ
عَدُوَّهُ: قَاتَلَهُ صُفُوفًا، وَتَصَافَّ الْقَوْمُ: وَقَفُوا صُفُوفًا
مُتَقَابِلَةً (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّفِّ:
أَوَّلاً: تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
2 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ
فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ لاَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ
عَلَى الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَيَعْتَدِل الْقَائِمُونَ فِي الصَّفِّ عَلَى
سَمْتٍ وَاحِدٍ مَعَ
__________
(1) سورة الصف / 4.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (صف) .
(27/35)
التَّرَاصِّ، وَهُوَ تَلاَصُقُ الْمَنْكِبِ
بِالْمَنْكِبِ، وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ، وَالْكَعْبِ بِالْكَعْبِ حَتَّى
لاَ يَكُونَ فِي الصَّفِّ خَلَلٌ وَلاَ فُرْجَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ
لِلإِْمَامِ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ
الصَّلاَةِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ
إِقَامَةِ الصَّلاَةِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فَإِنَّ
إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ (3) وَلِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأَقْبَل عَلَيْنَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ فَقَال:
أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ
ظَهْرِي (4) .
__________
(1) حديث: " سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة " أخرجه مسلم من
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا (1 / 324ط. عيسي الحلبي) .
(2) ورواية: " فإن تسوية الصفوف من إتمام الصلاة " أخرجه مسلم من حديث أنس
بن مالك رضي الله عنه (فتح الباري 2 / 209ط. السلفية) .
(3) ورواية: " أقيموا الصف فإن إقامة الصف من حسن الصلاة " أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 209ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 1 / 324ط. الحلبي) من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
(4) حديث: " أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بواجهة
فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " أخرجه البخاري (فتح
الباري 2 / 208ط. السلفية) ، وجامع الأصول (5 / 607 نشر مكتبة الحلواني) .
(27/35)
وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ أَحَدُنَا
يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ (1)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - مِنْهُمُ ابْنُ حَجَرٍ وَبَعْضُ
الْمُحَدِّثِينَ - إِلَى وُجُوبِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ
اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ (2) فَإِنَّ وُرُودَ هَذَا الْوَعِيدِ دَلِيلٌ
عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ، وَالتَّفْرِيطُ فِيهَا حَرَامٌ؛ وَلأَِمْرِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ مَا
لَمْ يَصْرِفْهُ صَارِفٌ، وَلاَ صَارِفَ هُنَا.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَمَعَ الْقَوْل بِأَنَّ تَسْوِيَةَ
الصَّفِّ وَاجِبَةٌ فَصَلاَةُ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُسَوِّ صَحِيحَةٌ،
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ: أَنَّ أَنَسًا مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ لَمْ
يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ (3) .
__________
(1) ورواية: " وكان أحدنا يلزق منكبه بمكنب صاحبه وقدمه بقدمه " أخرجه
البخاري من حديث أنس رضي الله عنه (فتح الباري 2 / 211ط. السلفية) .
(2) حديث: " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 206 - 207 ط. السلفية) ومسلم 1 / 324 ط. عيسي الحلبي) من
حديث نعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(3) مغني المحتاج 1 / 248، البدائع 1 / 159، كشاف القناع 1 / 328، سبل
السلام 2 / 47، دليل الفالحين 2 / 563، نيل الأوطار 3 / 212، الفواكه
الدواني 1 / 246، فتح الباري 2 / 206.
(27/36)
3 - وَمِنْ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ إِكْمَال
الصَّفِّ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، وَأَنْ لاَ يُشْرَعَ فِي إِنْشَاءِ
الصَّفِّ الثَّانِي إِلاَّ بَعْدَ كَمَال الأَْوَّل، وَهَكَذَا. وَهَذَا
مَوْضِعُ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيَهُ، فَمَا
كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (1) وَقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَصَل صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ
وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ (2) .
وَعَلَيْهِ فَلاَ يَقِفُ فِي صَفٍّ وَأَمَامَهُ صَفٌّ آخَرُ نَاقِصٌ أَوْ
فِيهِ فُرْجَةٌ، بَل يَشُقُّ الصُّفُوفَ لِسَدِّ الْخَلَل أَوِ الْفُرْجَةِ
الْمَوْجُودَةِ فِي الصُّفُوفِ الَّتِي أَمَامَهُ؛ لِلأَْحَادِيثِ
السَّابِقَةِ (3) .
فَإِذَا حَضَرَ مَعَ الإِْمَامِ رَجُلاَنِ أَوْ أَكْثَرُ، أَوْ رَجُلٌ
وَصَبِيٌّ اصْطَفَّا خَلْفَهُ.
__________
(1) حديث: " أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف
المؤخر ". أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 435 ط إستانبول) والنسائي (سنن
النسائي 2 / 93 نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب) من حديث أنس رضي الله
عنه مرفوعا، وإسناده صحيح (شرح السنة للبغوي بتحقيق الأرناؤوط 3 / 374) .
(2) حديث: " من وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله " أخرجه أبو داود
(سنن أبو داود 1 / 433 ط. إستانبول) والنسائي (2 / 93 نشر مكتب المطبوعات
الإسلامية بحلب) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وإسناده حسن
(جامع الأصول 5 / 609 - 610 نشر مكتب الحلواني) .
(3) المصادر السابقة
(27/36)
وَلَوْ حَضَرَ مَعَهُ رَجُلاَنِ
وَامْرَأَةٌ اصْطَفَّ الرَّجُلاَنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا،
وَلَوِ اجْتَمَعَ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالصَّبِيَّاتُ
الْمُرَاهِقَاتُ وَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ وَقَفَ
الرِّجَال فِي صَفٍّ أَوْ صَفَّيْنِ أَوْ صُفُوفٍ مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ،
ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
يَقِفُ بَيْنَ كُل رَجُلَيْنِ صَبِيٌّ لِيَتَعَلَّمَ أَفْعَال الصَّلاَةِ.
ثُمَّ يَقِفُ النِّسَاءُ وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الصَّبِيَّاتِ
الْمُرَاهِقَاتِ يَقِفْنَ وَرَاءَ النِّسَاءِ الْكَبِيرَاتِ. وَيَتَقَدَّمُ
بِالنِّسْبَةِ لِهَؤُلاَءِ جَمِيعًا فِي الصُّفُوفِ الأُْوَل الأَْفْضَل
فَالأَْفْضَل لِمَا رَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَمْسَحُ
مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاَةِ وَيَقُول: اسْتَوُوا وَلاَ تَخْتَلِفُوا
فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ؛ لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الأَْحْلاَمِ
وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (1)
.
وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
مَالِكٍ الأَْشْعَرِيِّ قَال: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة
ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود رضي الله
عنه (صحيح مسلم 1 / 323 ط. عيسي الحلبي)
(27/37)
بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: فَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَفَّ الرِّجَال وَصَفَّ
خَلْفَهُمُ الْغِلْمَانَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ، فَذَكَرَ صَلاَتَهُ ثُمَّ
قَال: هَكَذَا صَلاَةُ. قَال عَبْدُ الأَْعْلَى - رَاوِي الْحَدِيثِ -: لاَ
أَحْسَبُهُ إِلاَّ قَال: صَلاَةُ أُمَّتِي (1) .
وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَ الإِْمَامِ إِلاَّ جَمْعٌ مِنَ النِّسَاءِ
صَفَّهُنَّ خَلْفَهُ، وَكَذَا الاِثْنَتَانِ وَالْوَاحِدَةُ. وَمِنْ أَدَبِ
الصَّفِّ أَنْ تُسَدَّ الْفُرَجُ وَالْخَلَل، وَأَنْ لاَ يُشْرَعَ فِي
صَفٍّ حَتَّى يَتِمَّ الأَْوَّل، وَأَنْ يُفْسَحَ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُول
الصَّفِّ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ سِعَةٌ، وَيَقِفُ الإِْمَامُ وَسَطَ
الصَّفِّ وَالْمُصَلُّونَ خَلْفَهُ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَسِّطُوا الإِْمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَل (3) " وَمُقَابِل
__________
(1) حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: " ألا أحدثكم بصلاة النبي صلي
الله عليه وسلم: قال: فأقام الصلاة وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى
بهم فذكر صلاته ثم قال: هكذا الصلاة، قال عبد الأعلى - راوي الحديث - لا
أحسبه إلا قال: صلاة أمتي " أخرجه أبو
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " وسطوا الأمام وسدوا الخلل " أخرجه أبو داود (سنن أبو داود 1 /
439 ط. إستانبول) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسكت عنه أبو داود
والمنذري (مختصر سنن أبو داود للمنذري 1 / 336 نشر دار المعرفة) قال في
المهذب: سنده لين قال المناوي: / وأصله قول عبد الحق: ليس إسناده بقوي ولا
مشهور. قال ابن القطان: لم يبين علته، وهي أن فيه يحيى بن بشير بن خلاد
وأمه وهما مجهولان. فيض القدير 6 / 3462 نشر المكتبة التجارية) .
(27/37)
الإِْمَامِ أَفْضَل مِنَ الْجَوَانِبِ،
وَجِهَةُ يَمِينِ الإِْمَامِ أَفْضَل مِنْ جِهَةِ يَسَارِهِ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ (1) .
فَضْل الصَّفِّ الأَْوَّل:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْضَل صُفُوفِ الرِّجَال -
سَوَاءٌ كَانُوا يُصَلُّونَ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ
الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ - هُوَ الصَّفُّ الأَْوَّل، ثُمَّ الَّذِي
يَلِيهِ، ثُمَّ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَكَذَا أَفْضَل صُفُوفِ
النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رِجَالٌ. أَمَّا النِّسَاءُ مَعَ
الرِّجَال فَأَفْضَل صُفُوفِهِنَّ آخِرُهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ
وَأَسْتَرُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ صُفُوفِ
الرِّجَال أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ
آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا (2) .
__________
(1) حديث: " إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف " أخرجه أبو داود
(سنن أبي داود 1 / 437 ط إستانبول) وابن ماجة (سنن ابن ماجة 1 / 321 ط عيسي
الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا وحسنه الحافظ ابن حجر (فتح
الباري 2 / 213 ط. السلفية، وجامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق
الأرناؤوط 5 / 615) .
(2) حديث: " خير صفوف الرجال أولها. . . " أخرجه مسلم. صحيح مسلم 1 / 326 -
ط. عيسي الحلبي وشرح السنة للبغوي بتحقيق الأرناؤوط 3 / 371 نشر المكتب
الإسلامي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(27/38)
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ
الأَْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ
لاَسْتَهَمُوا (1) .
5 - قَال الْعُلَمَاءُ: مِنْ فَوَائِدِ الْحَثِّ عَلَى الصَّفِّ الأَْوَّل
الْمُسَارَعَةُ إِلَى خَلاَصِ الذِّمَّةِ وَالسَّبْقُ لِدُخُول
الْمَسْجِدِ؛ وَالْفِرَارُ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْقُرْبُ
مِنَ الإِْمَامِ؛ وَاسْتِمَاعُ قِرَاءَتِهِ وَالتَّعَلُّمُ مِنْهُ
وَالْفَتْحُ عَلَيْهِ وَالتَّبْلِيغُ عَنْهُ وَمُشَاهَدَةُ أَحْوَالِهِ،
وَالسَّلاَمَةُ مِنَ اخْتِرَاقِ الْمَارَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَسَلاَمَةُ
الْبَال مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يَكُونُ أَمَامَهُ وَسَلاَمَةُ مَوْضِعِ
سُجُودِهِ مِنْ أَذْيَال الْمُصَلِّينَ؛ وَالتَّعَرُّضُ لِصَلاَةِ اللَّهِ
وَمَلاَئِكَتِهِ، وَدُعَاءُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَيْرُ ذَلِكَ.
6 - وَلَكِنِ الْعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الصَّفِّ
الأَْوَّل فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّفَّ الأَْوَّل
الْمَمْدُوحَ الَّذِي وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ بِفَضْلِهِ هُوَ الصَّفُّ
الَّذِي يَلِي الإِْمَامَ سَوَاءٌ تَخَلَّلَهُ مِنْبَرٌ أَوْ مَقْصُورَةٌ
أَوْ أَعْمِدَةٌ أَوْ نَحْوُهَا، وَسَوَاءٌ جَاءَ صَاحِبُهُ مُقَدَّمًا
أَوْ مُؤَخَّرًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ
يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةٌ (2)
وَلِقَوْلِهِ
__________
(1) حديث: " لو يعلم الناس ما في. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 /
139 ط. السلفية) ومسلم 1 / 325 ط. عيسي الحلبي) - واللفظ له - ومالك في
الموطأ (1 / 131 ط. عيسي الحلبي) .
(2) حديث: " لو يعلمون. . . . " أخرجه مسلم. 1 / 326 - ط. عيسي الحلبي 9 من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
(27/38)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَمَا رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا: تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي
وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لاَ يَزَال قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ
حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ
الصَّفَّ الأَْوَّل الْفَاضِل هُوَ أَوَّل صَفٍّ تَامٍّ يَلِي الإِْمَامَ
وَلاَ يَتَخَلَّلُهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ مَا فِيهِ خَلَلٌ
فَهُوَ نَاقِصٌ. قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَكَأَنَّ صَاحِبَ
هَذَا الْقَوْل لَحَظَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِل،
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ قَال: صَلَّيْنَا خَلْفَ
أَمِيرٍ مِنَ الأُْمَرَاءِ فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ
السَّارِيَتَيْنِ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا قَال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كُنَّا
نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الآْخَرِينَ وَمِنْهُمْ بِشْرُ
__________
(1) حديث: " تقدموا فائتموا بي. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 325 - ط.
عيسي الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) حديث عبد الحميد بن محمود قال: " صلينا خلف أمير من الأمراء. . . "
أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 436 ط. إستانبول) والنسائي (سنن النسائي
2 / 94 نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية) والترمذي 1 / 433 ط. دار الكتب
العلمية) قال: حديث حسن صحيح. ورواه أيضا الحاكم من طريق سفيان الثوري
وصححه هو الذهبي. المستدرك 1 / 210 نشر دار الكتاب العربي)
(27/39)
بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّفِّ الأَْوَّل هُوَ مَنْ سَبَقَ إِلَى
مَكَانِ الصَّلاَةِ وَجَاءَ أَوَّلاً وَإِنْ صَلَّى فِي آخِرِ الصُّفُوفِ،
وَاحْتَجُّوا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ أَوَّل
الْوَقْتِ وَلَمْ يَدْخُل فِي الصَّفِّ الأَْوَّل أَفْضَل مِمَّنْ جَاءَ
فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَزَاحَمَ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل. قَال ابْنُ
حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ - أَيْضًا -: وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْل
لاَحَظَ الْمَعْنَى فِي تَفْضِيل الصَّفِّ الأَْوَّل دُونَ مُرَاعَاةِ
لَفْظِهِ (1) .
الْفِرَارُ مِنَ الصَّفِّ فِي الْقِتَال مَعَ الْكُفَّارِ:
7 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ
الْجِهَادُ - وَهُوَ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ الْحُرُّ الْمُكَلَّفُ
الْمُسْتَطِيعُ - الاِنْصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ عِنْدَ الْتِقَاءِ صُفُوفِ
الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ؛ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ
ثَبَتَ قُتِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ}
(2) الآْيَةَ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المجموع للنووي 4 / 300، الفواكه الدواني 1 / 246، القوانين الفقهية ص
74، البدائع 1 / 159، دليل الفالحين 3 / 562، نيل الأوطار 3 / 215، مغني
المحتاج 1 / 346، فتح الباري 2 / 208، شرح السنة للبغوي 3 / 370، كشف
القناع 1 / 328، 487، والمغني 2 / 220 ط. الرياض
(2) سورة الأنفال / 15
(27/39)
عَدَّ التَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ مِنَ
السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ (1) .
وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيِ
الْمُسْلِمِينَ؛ بِأَنْ كَانُوا مِثْلَهُمْ أَوْ أَقَل لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} (2) ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمْ
مُحَارِبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ
بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
(3) فَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَنْ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ
الاِنْصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ (4) .
الصَّفُّ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
8 - قَال الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي الصَّلاَةِ
عَلَى الْجِنَازَةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ إِلَى
الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا (5) .
__________
(1) حديث التولي يوم الزحف. أخرجه البخاري. فتح الباري 12 / 181 ط.
السلفية) ومسلم (1 / 92 ط. عيسي الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
مرفوعا.
(2) سورة الأنفال / 66.
(3) سورة الأنفال / 16.
(4) ابن عابدين 3 / 221 جواهر الإكليل 1 / 254، مغني المحتاج 3 / 224، كشاف
القناع 6 / 37.
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي " أخرجه البخاري. فتح
الباري 3 / 116 ط. السلفية) ومسلم. 2 / 656 ط. عيسي الحلبي 9 من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
(27/40)
وَوَرَدَ أَنَّ أَبَا بَكَّارٍ الْحَكَمَ
بْنَ فَرُّوخَ قَال: صَلَّى بِنَا أَبُو الْمَلِيحِ عَلَى جِنَازَةٍ
فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ كَبَّرَ فَأَقْبَل عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَال:
أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَلْتَحْسُنْ شَفَاعَتُكُمْ (1) .
كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ تَنْقُصَ الصُّفُوفُ عَنْ ثَلاَثَةٍ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ
صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ
شُفِّعُوا فِيهِ (3) .
فَإِنْ كَانَ وَرَاءَ الإِْمَامِ أَرْبَعَةٌ جَعَلَهُمْ صَفَّيْنِ فِي كُل
صَفٍّ رَجُلَيْنِ، وَإِذَا كَانُوا سَبْعَةً أَقَامُوا ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ
يَتَقَدَّمُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِمَامًا وَثَلاَثَةٌ بَعْدَهُ وَاثْنَانِ
بَعْدَهُمْ وَوَاحِدٌ بَعْدَهُمَا؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَانُوا
سَبْعَةً فَجَعَل الصَّفَّ الأَْوَّل ثَلاَثَةً وَالثَّانِيَ اثْنَيْنِ
وَالثَّالِثَ وَاحِدًا (4) . إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ
__________
(1) أثر أبي بكار الحكم بن فروح. أخرجه النسائي (سنن النسائي 4 / 76 رقم
19993 نشر المكتبة الإسلامية بحلب) .
(2) حديث: " من صلى عليه ثلاث صفوف فقد أوجب " أخرجه الترمذي (سنن الترمذي
3 / 437 ط. دار الكتب العلمية) من حديث مالك بن هبيرة مرفوعا وقال: حديث
مالك بن هبيرة حديث حسن.
(3) حديث: " ما من ميت يصلي عليه أمة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 654 ط. عيسي
الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكانوا سبعة " لم
نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار، أورده ابن قدامة في المغني،
وعزاه إلى كتاب ابن عقيل نقلا عن عطاء بن أبي رباح وقال: لا أحسب هذا
الحديث صحيحا. . المغني 2 / 493 ط. الرياض)
(27/40)
أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ صَفًّا، كَمَا
كَرِهُوا إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً أَنْ يُجْعَلُوا ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ
بِحَيْثُ يَكُونُ كُل صَفٍّ رَجُلاً وَاحِدًا (1) .
أَمَّا مَسْأَلَةُ صَفِّ الْمَوْتَى إِذَا اجْتَمَعُوا فَيُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (جَنَائِزُ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 164، ومغني المحتاج 1 / 361، وكشاف القناع 1 /
111، والمغني لابن قدامة 2 / 492، 493
(27/41)
صِفَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّفَةُ لُغَةً: الْحِلْيَةُ، قَال اللَّيْثُ: الْوَصْفُ: وَصْفُكَ
الشَّيْءَ بِحِلْيَتِهِ وَنَعْتِهِ، وَاتَّصَفَ الشَّيْءُ: أَمْكَنَ
وَصْفُهُ (1) . وَالصِّفَةُ فِي اصْطِلاَحِ أَهْل النَّحْوِ: هِيَ الاِسْمُ
الدَّال عَلَى بَعْضِ أَحْوَال الذَّاتِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: طَوِيلٌ
وَقَصِيرٌ وَعَاقِلٌ وَأَحْمَقُ وَغَيْرُهَا، وَهِيَ الأَْمَارَةُ
اللاَّزِمَةُ لِذَاتِ الْمَوْصُوفِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهَا (2) .
وَالصِّفَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يَنْضَبِطَ الْمَوْصُوفُ
عَلَى وَجْهٍ فَلاَ يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إِلاَّ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ (3)
.
وَالصِّفَةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ
الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلاَ غَايَةٍ، وَلاَ
يُرِيدُونَ بِهَا النَّعْتَ فَقَطْ كَالنُّحَاةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ
تَمْثِيلُهُمْ بِمَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، مَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ
إِنَّمَا هُوَ بِالإِْضَافَةِ - فَقَطْ - وَقَدْ جَعَلُوهُ صِفَةً (4)
__________
(1) لسان العرب مادة (وصف)
(2) التعريفات ص 175 (ط دار الكتاب العربي) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 208، فتح القدير 1 / 192 ط. بولاق.
(4) البحر المحيط للزركشي 4 / 30. ط الأولي، وزارة الأوقاف الكويتية) .
(27/41)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَدْخُل الصِّفَةُ فِي شُرُوطِ بَيْعِ السَّلَمِ، وَفِي الْبَيْعِ
عَلَى الصِّفَةِ، فَيَثْبُتُ بِتَخَلُّفِهَا خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ.
وَمَنَاطُ الصِّفَةِ فِي الْفِقْهِ، أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً عَلَى
وَجْهٍ لاَ يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إِلاَّ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، فَإِنْ
كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ
فَلاَ يَجُوزُ الْعَمَل فِيهِ، بِسَبَبِ بَقَاءِ الْعَيْنِ مَجْهُولَةَ
الْقَدْرِ جَهَالَةً فَاحِشَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ،
وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا (1) ، وَلَيْسَ لِلصِّفَةِ مُقَابِلٌ فِي
الثَّمَنِ؛ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُل مِنْ غَيْرِ
ذِكْرٍ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الرَّدِّ أَوِ الأَْخْذِ بِجَمِيعِ
الثَّمَنِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَمٌ) (وَرِبًا) .
وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ (خِيَارُ فَوَاتِ الصِّفَةِ 20 159، وَأَيْضًا ف 10 ص
162) .
3 - وَفِي أُصُول الْفِقْهِ: يَدْخُل مَفْهُومُ الصِّفَةِ: وَهُوَ
تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ بِأَحَدِ الأَْوْصَافِ فِي نَحْوِ: فِي
سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَكَتَعْلِيقِ نَفَقَةِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى
الْحَمْل، وَشَرْطِ ثَمَرَةِ النَّخْل لِلْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ
مُؤَبَّرَةً (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 208، الخرشي 5 / 212، المهذب 1 / 304، كشاف القناع 3
/ 376.
(2) البحر المحيط 4 / 30 (ط. وزارة الأوقاف الكويتية) .
(27/42)
صَفْقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفْقَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصَّفْقِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ:
الضَّرْبُ الَّذِي يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
(2) .
وَتُطْلَقُ الصَّفْقَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ،
يُقَال: صَفَّقَ يَدَهُ بِالْبَيْعَةِ وَالْبَيْعِ:
وَعَلَى يَدِهِ صَفْقًا إِذَا ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ،
وَذَلِكَ عِنْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ، وَيُقَال: تَصَافَقَ الْقَوْمُ إِذَا
تَبَايَعُوا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
الصَّفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ رِبًا (3) . أَيْ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ
(4)
__________
(1) لسان العرب
(2) حديث: " التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء " أخرجه البخاري (الفتح 3 /
77 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 318 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث أبن مسعود: " صفقتان في صفقة
ربا ". أخرجه العقيلي في الضعفاء. 3 / 288 - ط. دار الكتب العلمية) مرفوعا
وموقوفا، ورجح الموقوف.
(4) حاشية الجمل 3 / 94، ومطالب أولي النهى 3 / 45، والتعريفات ص 133.
(27/42)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالصَّفْقَةِ:
2 - الْجَمْعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي صَفْقَةٍ ضَرْبَانِ:
(1) أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ
(2) أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ.
فَالأَْوَّل: إِنْ جَمَعَ فِي الصَّفْقَةِ بَيْنَ مَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمْعٌ، كَأَنْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ
أَوْ خَمْسِ نِسْوَةٍ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ بَطَل الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ؛
لِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْخَمْسِ،
فَالإِْبْطَال فِي وَاحِدَةٍ، وَالتَّصْحِيحُ فِي غَيْرِهَا لَيْسَ
بِأَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنْ جَمَعَ فِي
الصَّفْقَةِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِلْعَقْدِ،
بِأَنْ يَجْمَعَ عَيْنَيْنِ لَهُ قَابِلَتَيْنِ لِلْبَيْعِ فِي صَفْقَةٍ
وَاحِدَةٍ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا، ثُمَّ إِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ:
كَشَاةٍ وَثَوْبٍ، أَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ لَكِنَّهُمَا مُخْتَلِفَا
الْقِيمَةِ وَزَّعَ الثَّمَنَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ
كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ: كَشَاتَيْنِ مُتَّفِقَتَيِ الْقِيمَةِ وَزَّعَ
عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الأَْجْزَاءِ.
وَإِنْ جَمَعَ فِي الصَّفْقَةِ شَيْئَيْنِ غَيْرَ قَابِلَيْنِ لِلْعَقْدِ:
كَخَمْرٍ، وَمَيْتَةٍ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ (1) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 420، أسنى المطالب 2 / 42، ابن عابدين 4 / 103، كشاف
القناع 3 / 157، الشرح الصغير 3 / 22 - 23.
(27/43)
اشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى مَا يَجُوزُ
بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ:
3 - إِذَا اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ،
وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَإِنْ كَانَ لِمَا لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَقْدُ
قِيمَةٌ، كَأَنْ يَبِيعَ دَارَهُ وَدَارَ غَيْرِهِ صَحَّ الْعَقْدُ فِي
دَارِهِ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُسَمَّى، إِذَا وَزَّعَ عَلَى
قِيمَتَيْهِمَا، وَبَطَل فِي دَارِ غَيْرِهِ إِعْطَاءً لِكُل مِنْهُمَا
حُكْمُهُ؛ وَلأَِنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ،
فَالْعَدْل التَّصْحِيحُ فِي الصَّحِيحِ، وَقَصْرُ الْفَسَادِ عَلَى
الْفَاسِدِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ،
وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ بُطْلاَنُ
الصَّفْقَةِ كُلِّهَا (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ، بِأَنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى خَلٍّ
وَخَمْرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل فِيهِمَا إِنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّتِهِمْ.
أَمَّا إِذَا سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو
حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل فِيهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَيْتَةَ
وَالْخَمْرَ لَيْسَا بِمَالٍ، وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَانَ
الْقَبُول فِي الْمَيْتَةِ، وَالْخَمْرِ كَالْمَشْرُوطِ لِلْبَيْعِ
فِيهِمَا، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ.
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 42، فتح القدير، 6 / 89، مطالب أولي النهى 3 / 45.
القوانين الفقهية 172.
(27/43)
وَقَال الصَّاحِبَانِ: يَصِحُّ الْعَقْدُ
إِنْ سُمِّيَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ فِيهِمَا
فَيَصِحُّ فِي الْحَلاَل وَيَبْطُل فِي الْحَرَامِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَفْرِيقٌ، وَبَيْعٌ) .
وَإِنِ اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ:
كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، أَوْ بَيْعٍ وَسَلَمٍ، أَوْ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ، صَحَّ
كُلٌّ مِنْهُمَا؛ لِصِحَّتِهِ مُنْفَرِدًا فَلاَ يَضُرُّ الْجَمْعُ، وَلاَ
أَثَرَ لاِخْتِلاَفِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لاَ أَثَرَ لَهُ فِي
بَيْعِ مَشْفُوعٍ، وَغَيْرِ مَشْفُوعٍ.
وَصُورَةُ الإِْجَارَةِ، وَالْبَيْعِ أَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَا
الثَّوْبَ، وَآجَرْتُكَ دَارِي سَنَةً بِكَذَا. وَصُورَةُ النِّكَاحِ
وَالْبَيْعِ، أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، وَبِعْتُكَ دَارَهَا،
وَهِيَ فِي حِجْرِهِ؛ أَوْ رَشِيدَةٌ وَكَّلَتْهُ فِي بَيْعِ دَارِهَا
فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى قِيمَةِ
الْمَبِيعِ، وَمَهْرِ الْمِثْل (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْرِيقٌ، وَنِكَاحٌ، وَصَدَاقٌ) .
__________
(1) المراجع السابقة
(27/44)
صَفِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفِيُّ: مِنَ الصَّفْوِ، وَالصَّفَاءُ نَقِيضُ الْكَدَرِ،
وَهُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَاسْتَصْفَى الشَّيْءَ وَاصْطَفَاهُ:
اخْتَارَهُ.
قَال أَبُو عُبَيْدَة: الصَّفِيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ: مَا اخْتَارَهُ
الرَّئِيسُ مِنَ الْمَغْنَمِ وَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ:
مِنْ فَرَسٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّفِيَّةُ - أَيْضًا -
وَجَمْعُهُ صَفَايَا (1) . وَمِنْهُ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَنَمَةَ
يُخَاطِبُ بِسْطَامٍ بْنَ قَيْسٍ:
لَكَ الْمِرْبَاعُ فِيهَا وَالصَّفَايَا
وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُول
وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ صَفِيَّةُ
مِنَ الصَّفِيِّ تَعْنِي صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ كَانَتْ مِنْ غَنِيمَةِ
خَيْبَرَ (2) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير - مادة (صفا) .
(2) حديث عائشة: " كانت صفية من الصّفيّ
" أخرجه أبو داود (3 / 398 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 128 - ط دائرة
المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(27/44)
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
فَالصَّفِيُّ: شَيْءٌ يُخْتَارُ مِنَ الْمَغْنَمِ قَبْل الْقِسْمَةِ:
كَالْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الصَّفِيَّ كَانَ لِرَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَلَيْسَ لِلَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِ، وَلاَ يُعْلَمُ مُخَالِفٌ لِهَذَا، إِلاَّ أَبُو ثَوْرٍ
فَإِنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ الصَّفِيُّ ثَابِتًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِلإِْمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى نَحْوِ
مَا كَانَ يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَجْعَلُهُ مَجْعَل سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ أَبَا ثَوْرٍ إِلَى
هَذَا الْقَوْل (1) .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ: إِنَّكُمْ
إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُول اللَّهِ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ،
وَأَدَّيْتُمُ الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَسَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفِيَّ أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ (2) ".
وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا
__________
(1) ابن عابدين 3 / 237، جواهر الإكليل 1 / 274 / 13، المغني لابن قدامة 6
/ 409.
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي بني زهير بن أقيش أخرجه أبو
داود (3 / 400 - ط عزت عبيد دعاس) .
(27/45)
قَالَتْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ
الصَّفِيِّ.
3 - وَأَمَّا انْقِطَاعُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ - قَبْل أَبِي ثَوْرٍ
وَبَعْدَهُ - وَكَوْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ، وَلاَ ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلاَ
يُجْمِعُونَ عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (1) .
صَقْرٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة، صَيْد
__________
(1) المغني 6 / 409.
(27/45)
صَكٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الضَّرْبُ الشَّدِيدُ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ،
يُقَال: صَكَّهُ صَكًّا: إِذَا ضَرَبَهُ فِي قَفَاهُ وَوَجْهِهِ بِيَدِهِ
مَبْسُوطَةً. وَقِيل: الضَّرْبُ عَامَّةً بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ
الْمُعَامَلاَتُ، وَالأَْقَارِيرُ وَوَقَائِعُ الدَّعْوَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّجِل:
2 - السِّجِل: هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْكِتَابُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ
مَا تَضَمَّنَ حُكْمَ الْقَاضِي (3) .
الْمَحْضَرُ:
3 - الْمَحْضَرُ: هُوَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مَا جَرَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ
مِنْ إِقْرَارٍ، وَإِنْكَارٍ وَإِقَامَةِ بَيِّنَةٍ، وَنُكُولٍ عَنْ
يَمِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى، عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ
الاِشْتِبَاهَ بِلاَ حُكْمٍ (4) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير.
(2) المصباح المنير، كشاف القناع 6 / 367، نهاية المحتاج 8 / 258، الفتاوى
الهندية 6 / 160 وما بعده.
(3) نهاية المحتاج 8 / 258، كشاف القناع 6 / 367.
(4) المصادر السابقة، وحاشية ابن عابدين 4 / 304.
(27/46)
الدِّيوَانُ:
4 - الدِّيوَانُ: هُوَ مَجْمَعُ الصُّحُفِ، وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي
يُحْفَظُ فِيهَا السِّجِلاَّتُ وَالْمَحَاضِرُ، وَغَيْرُهَا، وَيُطْلَقُ
عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَسْمَاءُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ
وَأَصْحَابُ الْعَطِيَّةِ (1) .
الْوَثِيقَةُ:
5 - الْوَثِيقَةُ: هِيَ فِي اللُّغَةِ: الإِْحْكَامُ فِي الأَْمْرِ
وَالأَْخْذُ بِالثِّقَةِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: مَا يَشْمَل الصَّكَّ، وَالْمَحْضَرَ،
وَالسِّجِل، وَالرَّهْنَ، وَكُل مَا يَتَوَثَّقُ بِهِ الإِْنْسَانُ فِي
حَقِّهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكِتَابَةِ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ:
6 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ كِتَابَةَ الصُّكُوكِ، وَالسِّجِلاَّتِ
مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فِي كُل تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ، وَغَيْرِهِ:
كَطَلاَقٍ وَإِقْرَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ
لِتَمْهِيدِ إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عِنْدَ التَّنَازُعِ؛ وَلِمَا لَهَا مِنْ
أَثَرٍ ظَاهِرٍ فِي التَّذَكُّرِ لِلْوَقَائِعِ، وَفِيهَا حِفْظُ
الْحُقُوقِ عَنِ الضَّيَاعِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 304، ولسان العرب، يطلق
الديوان الآن على مكان جمع الصحف أو غيرها وهو من إطلاق الحال على
المحل.
(2) لسان العرب، القاموس المحيط.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 308.
(4) نهاية المحتاج 8 / 321، المنهج على حاشية الجمل 5 / 398، روضة الطالبين
11 / 276.
(27/46)
وُجُوبُ كِتَابَةِ الصُّكُوكِ
وَالسِّجِلاَّتِ عَلَى الْقَاضِي:
7 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي عَيْنًا كَتْبُ
الصُّكُوكِ، وَالسِّجِلاَّتِ؛ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَال الْحَقِّ إِلَى
أَهْلِهِ، وَهَذَا يَحْصُل بِالشُّهُودِ لاَ بِالصُّكُوكِ وَكِتَابَةِ
السِّجِلاَّتِ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الأَْئِمَّةِ كَانُوا يَحْكُمُونَ، وَلاَ يَكْتُبُونَ
الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلاَّتِ، وَلَكِنَّهُ إِنْ سَأَل أَحَدُ
الْخَصْمَيْنِ كِتَابَةَ الصَّكِّ، أَوِ السِّجِل لِيَحْتَجَّ بِهِ عِنْدَ
الْحَاجَةِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي إِجَابَتُهُ إِنْ أَحْضَرَ قِرْطَاسًا
أَوْ كَانَ هُنَاكَ قِرْطَاسٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
وَهَذَا رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي كِتَابَةُ الصَّكِّ
وَالسِّجِل إِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي كِتَابَتِهِ
وَأَتَى بِكَاغِدٍ، أَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَال كَاغِدٌ مُعَدٌّ
لِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلطَّالِبِ، فَلَزِمَهُ كِتَابَتُهُ،
كَعَامِل الزَّكَاةِ، إِذَا طَلَبَ الْمُزَكِّي مِنْهُ كِتَابَةَ صَكٍّ
مِنْهُ؛ لِئَلاَّ يُطَالِبَهُ عَامِلٌ آخَرُ،
وَكَمُعَشِّرِ تِجَارَةِ أَهْل حَرْبٍ أَوْ ذِمَّةٍ فِي دَارِ
الإِْسْلاَمِ، طَلَبُوا مِنْهُ كِتَابَةَ صَكٍّ بِأَدَاءِ الْعُشْرِ؛
لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ بَرَاءَةُ ذِمَّةٍ إِذَا مَرَّ
__________
(1) المصادر السابقة، معين الحكام ص 95، تبصرة الحكام 2 / 191.
(27/47)
بِهِمْ مُعَشِّرٌ آخَرُ (1) .
أَخْذُ الأُْجْرَةِ بِالْكِتَابَةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى
كَتْبِ الصُّكُوكِ، وَجَمِيعِ الْوَثَائِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} (2) . وَقَالُوا: إِنَّ مَنِ اسْتُبِيحَ
عَمَلُهُ، وَكَدُّ خَاطِرِهِ كُلَّمَا احْتَاجَ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ،
فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ، وَيَسْتَغْرِقُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ
غَيْرِ عِوَضٍ، وَفِي ذَلِكَ غَايَةُ الضَّرَرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
أُجْرَةُ الْكَاتِبِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَلَيْسَ لِلْقَاضِي مَنْعُ
الْفُقَهَاءِ مِنْ كِتَابَةِ الْعُقُودِ، وَالْحُجَجِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ
بِأُمُورِ الشَّرْعِ فِيمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، إِذَا كَانَ
الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِأُمُورِ الشَّرْعِ، وَشُرُوطِ انْعِقَادِ
الْعُقُودِ. وَإِذَا مَنَعَ الْقَاضِي ذَلِكَ لِتَصِيرَ إِلَيْهِ هَذِهِ
الأُْمُورُ كَانَ هَذَا مِنَ الْمَكْسِ.
وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يُرِيدُ مَنْعَ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛
لِئَلاَّ يَعْقِدَ عَقْدًا فَاسِدًا فَالطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ
يَفْعَل كَمَا كَانَ يَفْعَل الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَهُوَ تَعْزِيرُ
مَنْ عَقَدَ عَقْدًا فَاسِدًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَ الأُْجْرَةَ،
وَيُعَيِّنَ الْعَمَل، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى شَيْءٍ، وَجَاءَ الْعَمَل
عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فَهِيَ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ،
__________
(1) كشاف القناع 6 / 267، مطالب أولي النهى 6 / 544.
(2) سورة البقرة / 282.
(27/47)
وَيَجُوزُ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَأْخُذَ مَا
اتُّفِقَ عَلَيْهِ. مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، مَا لَمْ يَكُنِ
الْمَكْتُوبُ لَهُ مُضْطَرًّا إِلَى قَبُول مَا يَطْلُبُهُ الْكَاتِبُ؛
لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ فِي الْمَوْضِعِ، أَوْ قَصْرِ الْكِتَابَةِ
عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، عَلَى الْكَاتِبِ أَلاَّ يَرْفَعَ
الأُْجْرَةَ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، لِمَا عَلِمَ مِنْ
ضَرُورَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ؛
لأَِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ (1) .
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْكَاتِبِ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَال، أَوْ لَمْ
يَكُنْ شَيْءٌ فِي بَيْتِ الْمَال، وَإِلاَّ فَرِزْقُهُ فِي بَيْتِ
الْمَال؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
ثَمَنُ أَوْرَاقِ الصَّكِّ وَالسِّجِل:
9 - ثَمَنُ أَوْرَاقِ الصَّكِّ وَالسِّجِل مِنْ بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ
ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ
الْمَال شَيْءٌ، أَوِ احْتِيجَ لِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّمَنُ
عَلَى مَنْ سَأَل الْكِتَابَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّأْنِ كَمُدَّعٍ،
وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ كِتَابَةَ مَا جَرَى فِي خُصُومَتِهِ،
وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُعْلِمُهُ الْقَاضِي
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكْتُبْ فَقَدْ يَنْسَى شَهَادَةَ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 367، مطالب أولي النهى 6 / 544، معين الحكام 94، تبصرة
الحكام 1 / 191، نهاية المحتاج 8 / 251، أسنى المطالب 4 / 296.
(27/48)
الشُّهُودِ، وَالْحُكْمَ (1) .
اسْتِنَادُ الْقَاضِي إِلَى الْخَطِّ فِي حُكْمِهِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي
الاِسْتِنَادُ فِي حُكْمِهِ إِلَى خَطِّ الصَّكِّ، أَوِ السِّجِل
الْمُجَرَّدِ، فَإِذَا وَجَدَ وَرَقَةً فِيهَا حُكْمُهُ وَطُلِبَ مِنْهُ
إِمْضَاؤُهُ، أَوْ تَنْفِيذُهُ، فَإِنْ تَذَّكَّرَهُ أَمْضَاهُ،
وَنَفَّذَهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْوَاقِعَةَ، مُفَصَّلَةً فَلاَ
يَعْمَل بِهِ، حَتَّى يَتَذَكَّرَ الْوَقَائِعَ مُفَصَّلَةً (2) . وَلاَ
يَكْفِيهِ مَعْرِفَتُهُ أَنَّ هَذَا خَطُّهُ - فَقَطْ - حَتَّى يَتَذَكَّرَ
الْوَاقِعَةَ. وَإِنْ كَانَ السِّجِل فِي حِفْظِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ،
لاِحْتِمَال التَّزْوِيرِ، وَمُشَابَهَةِ الْخَطِّ لِلْخَطِّ؛ وَلأَِنَّ
قَضَاءَهُ: فِعْلُهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْعِلْمِ هُوَ الأَْصْل فِي
فِعْل الإِْنْسَانِ؛ لِهَذَا يَأْخُذُ عِنْدَ الشَّكِّ فِي عَدَدِ
الرَّكَعَاتِ بِالْعِلْمِ (3) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدُ فِي
رِوَايَةٍ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِنْ كَانَ السِّجِل
تَحْتَ يَدِهِ فِي خَرِيطَةٍ وَالْخَرِيطَةُ مَخْتُومَةٌ بِخَتْمِهِ،
إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَتَذَكَّرُ الْوَاقِعَةَ عَمِل بِهِ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 251. أسنى المطالب 4 / 269، مطالب أولي النهى 6 /
544، المغني 9 / 76.
(2) أسنى المطالب 4 / 308، حاشية الجمل 5 / 351، نهاية المحتاج 4 / 308،
الفتاوى الهندية 3 / 340، مطالب أولي النهى 6 / 532، المغني 9 / 76.
(3) المصادر السابقة
(4) المصادر السابقة
(27/48)
شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى السِّجِل عَلَى
أَنَّهُ حُكْمُهُ:
11 - إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّكَّ مِنْ
عَمَلِهِ وَالسِّجِل حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ هُوَ الْوَاقِعَةَ
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى: أَنَّ الشَّهَادَةَ
لَمْ تُؤَثِّرْ، فَلاَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ؛ لأَِنَّ
حُكْمَهُ فِعْلُهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْعِلْمِ هُوَ الأَْصْل فِي فِعْل
الإِْنْسَانِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
مِنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ أَنَّ
هَذَا حُكْمَهُ، قَبِل شَهَادَتَهُمَا، وَأَمْضَاهُ مُعْتَمِدًا عَلَى
شَهَادَتِهِمَا لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِمْضَائِهِ؛ وَلأَِنَّهُمَا إِذَا
شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قَبِلَهُمَا؛ فَأَوْلَى إِنْ شَهِدَا
بِحُكْمِهِ (2) .
الشَّهَادَةُ عَلَى مَضْمُونِ الصَّكِّ، وَالسِّجِل:
12 - لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى مَضْمُونِ صَكٍّ اسْتِنَادًا
عَلَى خَطِّهِ، مَا لَمْ يَتَذَكَّرِ الْوَاقِعَةَ كَالْقَاضِي، وَإِنْ
كَانَ الصَّكُّ فِي حِفْظِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، وَيَأْتِي - هُنَا أَيْضًا -
الْخِلاَفُ فِي مَا سَبَقَ فِي صَكِّ الْقَاضِي.
الْعَمَل بِالصَّكِّ وَحْدَهُ:
13 - اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِنَادِ
لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ عَلَى الصَّكِّ الْمُجَرَّدِ: مَا جَرَى الْعُرْفُ
بِقَبُولِهِ بِمُجَرَّدِ كِتَابَتِهِ، كَالْبَرَاءَاتِ
__________
(1) المصادر السابقة
(2) المصادر السابقة
(27/49)
السُّلْطَانِيَّةِ لأَِصْحَابِ
الْوَظَائِفِ وَنَحْوِهَا كَمَنْشُورِ الْقَاضِي، وَالْوَالِي، وَعَامَّةِ
الأَْوَامِرِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَدَفَاتِرِ الْبَيَّاعِينَ،
وَالسَّمَاسِرَةِ، وَالصَّرَّافِينَ، وَصُكُوكِ الْوَقْفِ الَّتِي
تَقَادَمَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ، وَذَلِكَ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ بِقَبُول كُتُبِ الْبَيَّاعِينَ وَالصَّرَّافِينَ،
وَالسَّمَاسِرَةِ وَأَوَامِرِ السُّلْطَانِ بِمُجَرَّدِ كِتَابَتِهِ،
وَنُدْرَةِ إِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَتَعَذُّرِ
إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَى صُكُوكِ الأَْوْقَافِ إِذَا تَقَادَمَ عَلَيْهَا
الزَّمَنُ؛ وَلِضَرُورَةِ إِحْيَاءِ الأَْوْقَافِ (1) .
كِتَابَةُ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ:
14 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ الصَّكَّ لاَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا
إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً
مُعَنْوَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَبِينَةً كَالْكِتَابَةِ عَلَى
الْهَوَاءِ وَالرَّقْمِ عَلَى الْمَاءِ فَلاَ يُعْتَبَرُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كِتَاب) .
صَكَّاءُ
انْظُرْ: أُضْحِيَّة
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 308 - 352 - 353.
(2) ابن عابدين 2 / 428، اللجنه تنوه أن ما جاء في هذا البحث هو من قبيل
الإجراءات التي يراعي فيه تغير العرف ومتطلبات الزمن، وأنه يمكن استخدام
الوسائل الحديثة التي تحفظ بها الحقوق بمثل ما تحفظ في الصكوك أو أكثر ومما
ينبغي مراعاته الدور الذي أصبح للكتابة الآن والضمانات المستحدثة
(27/49)
صَلاَحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَحُ: ضِدُّ الْفَسَادِ، وَرَجُلٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ
قَوْمٍ صُلَحَاءَ وَمُصْلِحٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأُمُورِهِ، وَقَدْ
أَصْلَحَهُ اللَّهُ، وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ بَعْدَ فَسَادِهِ: أَقَامَهُ (1)
.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - صَلاَحُ الإِْنْسَانِ:
2 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّالِحُ مَا كَانَ مَسْتُورًا وَلَمْ يَكُنْ
مَهْتُوكًا، وَلاَ صَاحِبَ رِيبَةٍ، وَكَانَ مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ،
سَلِيمَ النَّاحِيَةِ، قَلِيل الشَّرِّ، لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ هُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ
بِسُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ فَلاَ يَرْتَكِبُ
كَبِيرَةً وَلاَ يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرَةٍ (2) .
ب - بُدُوُّ صَلاَحِ الثِّمَارِ:
3 - وَهُوَ ظُهُورُ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ فِيمَا لاَ
يَتَلَوَّنُ، وَفِي غَيْرِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ أَوِ
__________
(1) لسان العرب مادة (صلح) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 440، وكشاف القناع 6 / 418 - 419.
(27/50)
السَّوَادِ. وَأَمَّا فِي نَحْوِ
الْقِثَّاءِ فَهُوَ أَنْ يُجْنَى غَالِبًا لِلأَْكْل، وَفِي الزَّرْعِ
اشْتِدَادُهُ بِأَنْ يَتَهَيَّأَ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَفِي
الْوَرْدِ انْفِتَاحُهُ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَدْخُل مُصْطَلَحُ صَلاَحٍ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا فِي
الشَّهَادَةِ، وَقَبُول شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الَّتِي مِنْ شُرُوطِهَا
الْعَدَالَةُ؛ وَالصَّلاَحُ مِنْ صِفَاتِهَا، وَفِي الْوَقْفِ
وَالْوَصِيَّةِ حَيْثُ يَتِمُّ التَّقْيِيدُ بِصَلاَحِ الرَّجُل.
وَيَدْخُل فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا (ر: بَيْعُ
الثِّمَارِ: الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ 9 21) .
وَفِي زَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَخَرْصِهَا إِذَا بَدَا
صَلاَحُهَا. (ر: خَرْصُ الثِّمَارِ: الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ ج 19 ص
99 ف 3) .
وَوَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ (2) (ر: وَقْتُ
وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ: الْمَوْسُوعَةُ
الْفِقْهِيَّةُ ج 23 ص 283 ف 106) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى كُل مَوْضُوعٍ مِنَ الْمَوَاضِيعِ
السَّالِفَةِ فِي مُصْطَلَحِهِ.
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهاج 3 / 204.
(2) مواهب الجليل 6 / 150، الفتاوى الهندية 3 / 450، شرح منتهي الإرادات 3
/ 546، مغني المحتاج 4 / 427 وشرح أدب القاضي للخصاف تأليف ابن مازه
البخاري 3 / 8 فقرة: 545، مختصرة المزني 5 / 256، الأم 7 / 48.
(27/50)
صَلاَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَصَل عَلَيْهِمْ (1) } أَيِ ادْعُ لَهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَل،
وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ (2) أَيْ لِيَدْعُ لأَِرْبَابِ
الطَّعَامِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْجُمْهُورُ: هِيَ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ
مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّكْبِيرِ مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّسْلِيمِ مَعَ النِّيَّةِ
بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ اسْمٌ لِهَذِهِ الأَْفْعَال الْمَعْلُومَةِ
مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (3) .
مَكَانَةُ الصَّلاَةِ فِي الإِْسْلاَمِ:
2 - لِلصَّلاَةِ مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الإِْسْلاَمِ. فَهِيَ
__________
(1) سورة التوبة / 103.
(2) حديث: " إذا دعي أحدكم فليجب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1054 - ط الحلبي)
من حديث أبي هريرة.
(3) فتح القدير 1 / 191 دار إحياء التراث العربي، مواهب الجليل 1 / 377،
دار الفكر 1978م مغني المحتاج 1 / 120، كشاف القناع 1 / 221.
(27/51)
آكَدُ الْفُرُوضِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ
وَأَفْضَلُهَا، وَأَحَدُ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ. قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى
خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُول اللَّهِ. وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ،
وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) وَقَدْ نَسَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارِكَهَا إِلَى الْكُفْرِ فَقَال: إِنَّ بَيْنَ
الرَّجُل وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ (2) وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ شَقِيقِ الْعُقَيْلِيِّ قَال: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَْعْمَال
تَرْكَهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاَةِ. فَالصَّلاَةُ عَمُودُ الدِّينِ الَّذِي
لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِهِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: رَأْسُ الأَْمْرِ الإِْسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ،
وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ (3) وَهِيَ أَوَّل مَا
يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّل مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الصَّلاَةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَنَجَحَ،
وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ
__________
(1) حديث: " بني الإسلام على خمس. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 45 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر واللفظ المذكور
للبخاري.
(2) حديث: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ". أخرجه مسلم (1 /
88 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة. . . ". أخرجه الترمذي (5 /
12 - ط الحلبي) من حديث معاذ ابن جبل وقال: حديث حسن صحيح.
(27/51)
خَابَ وَخَسِرَ (1) كَمَا أَنَّهَا آخِرُ
وَصِيَّةٍ وَصَّى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُمَّتَهُ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (2) وَهِيَ آخِرُ مَا
يُفْقَدُ مِنَ الدِّينِ، فَإِنْ ضَاعَتْ ضَاعَ الدِّينُ كُلُّهُ. قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُنْقَضَنَّ عُرَى
الإِْسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ
تَشَبَّثَ النَّاسُ بِاَلَّتِي تَلِيهَا. فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا
الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ (3)
كَمَا أَنَّهَا الْعِبَادَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي لاَ تَنْفَكُّ عَنِ
الْمُكَلَّفِ، وَتَبْقَى مُلاَزِمَةً لَهُ طُول حَيَاتِهِ لاَ تَسْقُطُ
عَنْهُ بِحَالٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا وَالْحَثِّ عَلَى إِقَامَتِهَا،
وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَمُرَاعَاةِ حُدُودِهَا آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ
كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ (4) .
فَرْضُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا:
3 - أَصْل وُجُوبِ الصَّلاَةِ كَانَ فِي مَكَّةَ فِي أَوَّل
__________
(1) حديث: " أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة. . . ". أخرجه الترمذي (2
/ 270 - (ط. الأولى) . الحلبي) من حديث أبي هريرة وحسنه.
(2) حديث: " الصلاة وما ملكت أيمانكم ". أخرجه ابن ماجه (2 / 900 - 901 -
(ط. الأولى) . . الحلبي) من حديث أنس ابن مالك وحسنه البوصيري في مصباح
الزجاجة (2 / 95 - (ط. دار الجنان) .
(3) حديث: " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة. . . ". أخرجه أحمد (5 / 215 - ط
الميمنية) من حديث أبي أمامة ووأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 218 - ط
القدسي) قال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح.
(4) مواهب الجليل 1 / 380، كشاف القناع 1 / 221.
(27/52)
الإِْسْلاَمِ؛ لِوُجُودِ الآْيَاتِ
الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي بِدَايَةِ الرِّسَالَةِ تَحُثُّ
عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالصُّورَةِ الْمَعْهُودَةِ فَإِنَّهَا
فُرِضَتْ لَيْلَةَ الإِْسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ
فِي تَحْدِيدِ زَمَنِهِ. 4 - وَقَدْ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ
الْقُرْآنِ. {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ (1) } ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ
الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (2) } أَيْ
فَرْضًا مُؤَقَّتًا. وقَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى (3) } وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلاَةِ يَنْصَرِفُ
إِلَى الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُؤَدَّى فِي كُل
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْل (4) } يَجْمَعُ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسَ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْفَجْرِ تُؤَدَّى فِي أَحَدِ طَرَفَيِ
النَّهَارِ، وَصَلاَةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُؤَدَّيَانِ فِي الطَّرَفِ
الآْخَرِ، إِذِ النَّهَارُ قِسْمَانِ غَدَاةٌ وَعَشِيٌّ، وَالْغَدَاةُ
اسْمٌ لأَِوَّل النَّهَارِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال، وَمَا بَعْدَهُ
الْعَشِيُّ، فَدَخَل فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ثَلاَثُ صَلَوَاتٍ وَدَخَل
فِي قَوْلِهِ:
__________
(1) سورة البقرة / 110.
(2) سورة النساء / 103.
(3) سورة البقرة / 238.
(4) سورة هود / 114.
(27/52)
{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْل} الْمَغْرِبُ
وَالْعِشَاءُ، لأَِنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْل وَهِيَ
سَاعَاتُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلَى غَسَقِ اللَّيْل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا (1) } قِيل: دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَغَسَقُ اللَّيْل
أَوَّل ظُلْمَتِهِ، فَيَدْخُل فِيهِ صَلاَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ،
وَقَوْلُهُ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أَيْ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَهُوَ
صَلاَةُ الْفَجْرِ. فَثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ ثَلاَثِ صَلَوَاتٍ بِهَذِهِ
الآْيَةِ وَفَرْضِيَّةُ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ثَبَتَتْ
بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَقِيل: دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا فَيَدْخُل فِيهَا صَلاَةُ
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفَرْضِيَّةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثَبَتَتْ
بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ،
وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا
أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ (2) ، وَقَدِ انْعَقَدَ
إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
وَتَكْفِيرِ مُنْكِرِهَا (3)
__________
(1) سورة الإسراء / 78.
(2) حديث: " اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم. . . ". أخرجه أحمد (5 / 262 - ط.
الميمنية) والحاكم (1 / 9 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي أمامة،
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، والسياق لأحمد.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 234، بدائع الصناع 1 / 89 وما بعدها، دار الكتاب
العربي 1982م.، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 211 دار المعرفة، مغني
المحتاج 1 / 121، كشاف القناع 1 / 222.
(27/53)
حُكْمُ تَارِكِ الصَّلاَةِ:
5 - لِتَارِكِ الصَّلاَةِ حَالَتَانِ: إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا جُحُودًا
لِفَرْضِيَّتِهَا، أَوْ تَهَاوُنًا وَكَسَلاً لاَ جُحُودًا.
فَأَمَّا الْحَالَةُ الأُْولَى: فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
تَارِكَ الصَّلاَةِ جُحُودًا لِفَرْضِيَّتِهَا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ
يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل كُفْرًا كَجَاحِدِ كُل مَعْلُومٍ
مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ جَحَدَ رُكْنًا
أَوْ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ
أَنْكَرَهَا جَاهِلاً لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ نَحْوِهِ
فَلَيْسَ مُرْتَدًّا، بَل يَعْرِفُ الْوُجُوبَ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ
صَارَ مُرْتَدًّا.
وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا -
وَهِيَ: تَرْكُ الصَّلاَةِ تَهَاوُنًا وَكَسَلاً لاَ جُحُودًا - فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل حَدًّا أَيْ
أَنَّ حُكْمَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمُ الْمُسْلِمِ فَيُغَسَّل،
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ
حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُول اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِنْ
فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ
بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى
(27/53)
اللَّهِ (1) وَلأَِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ
بِقَتْل الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (2) } وَقَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى
الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا
اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ
يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ
اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ
(3) فَلَوْ كَفَرَ لَمْ يَدْخُل تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. وَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلاَةِ تَكَاسُلاً عَمْدًا فَاسِقٌ
لاَ يُقْتَل بَل يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلاَةِ تَكَاسُلاً
يُدْعَى إِلَى فِعْلِهَا وَيُقَال لَهُ: إِنْ صَلَّيْتَ وَإِلاَّ
قَتَلْنَاكَ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ وَجَبَ قَتْلُهُ وَلاَ يُقْتَل حَتَّى
يُحْبَسَ ثَلاَثًا وَيُدْعَى فِي وَقْتِ كُل صَلاَةٍ، فَإِنْ صَلَّى
وَإِلاَّ قُتِل حَدًّا، وَقِيل كُفْرًا، أَيْ لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى
عَلَيْهِ وَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنْ لاَ يُرَقُّ
وَلاَ يُسْبَى لَهُ أَهْلٌ وَلاَ وَلَدٌ كَسَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ. لِمَا
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 75 - ط
السلفية) ومسلم (1 / 53 - ط الحلبي 9 من حديث ابن عمر.
(2) سورة التوبة آية / 5.
(3) حديث: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد. . . ". أخرجه أبو داود (2 /
130 - 131 (تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبادة بن الصامت، وصححه ابن عبد
البر كما في فيض القدير للمناوي (3 / 453 - ط المكتبة التجارية) .
(27/54)
رَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ بَيْنَ الرَّجُل وَبَيْنَ
الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ (1) وَرَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ
كَفَرَ (2) وَرَوَى عُبَادَةُ مَرْفُوعًا مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ (3) وَكُل شَيْءٍ ذَهَبَ
آخِرُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلأَِنَّهُ يَدْخُل بِفِعْلِهَا فِي
الإِْسْلاَمِ، فَيَخْرُجُ بِتَرْكِهَا مِنْهُ كَالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَال
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لاَ حَظَّ فِي الإِْسْلاَمِ لِمَنْ تَرَكَ
الصَّلاَةَ، وَكَذَا عِنْدَهُمْ لَوْ تَرَكَ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا
مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلاَ
يُقْتَل بِتَرْكِ صَلاَةٍ فَائِتَةٍ.
كَمَا اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْقَتْل فِي مَحَلِّهِ.
فَمَحَلُّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ بَقَاءُ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا
مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَاحِدٌ فَقَطْ.
قَال مَالِكٌ: إِنْ قَال: أُصَلِّي وَلَمْ يَفْعَل قُتِل بِقَدْرِ رَكْعَةٍ
قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصُّبْحِ، وَغُرُوبِهَا لِلْعَصْرِ، وَطُلُوعِ
الْفَجْرِ لِلْعِشَاءِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضَانِ مُشْتَرَكَانِ
أُخِّرَ
__________
(1) حديث: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ". تقدم تخريحه ف2.
(2) حديث بريدة: " من تركها فقد كفر. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 14 - ط
الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث عبادة: " من ترك الصلاة متعمدا فقد خرج من الملة ". أورده المنذري
في الترغيب (1 / 379 - ط الحلبي) وعزاه إلى الطبراني وقال: بإسناده لا بأس
به.
(27/54)
لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الظُّهْرَيْنِ،
وَلأَِرْبَعٍ فِي الْعِشَاءَيْنِ. وَهَذَا فِي الْحَضَرِ، أَمَّا فِي
السَّفَرِ فَيُؤَخَّرُ لِثَلاَثٍ فِي الظُّهْرَيْنِ وَأَرْبَعٍ فِي
الْعِشَاءَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحَل الْقَتْل هُوَ إِخْرَاجُهَا
عَنْ وَقْتِهَا الضَّرُورِيِّ فِيمَا لَهُ وَقْتُ ضَرُورَةٍ - بِأَنْ
يَجْمَعَ مَعَ الثَّانِيَةِ فِي وَقْتِهَا - فَلاَ يُقْتَل بِتَرْكِ
الظُّهْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلاَ بِتَرْكِ الْمَغْرِبِ حَتَّى
يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَيُقْتَل فِي الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَفِي
الْعَصْرِ بِغُرُوبِهَا، وَفِي الْعِشَاءِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ،
فَيُطَالَبُ بِأَدَائِهَا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَيُتَوَعَّدُ بِالْقَتْل
إِنْ أَخَّرَهَا عَنِ الْوَقْتِ، فَإِنْ أَخَّرَ وَخَرَجَ الْوَقْتُ
اسْتَوْجَبَ الْقَتْل، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُقْتَل بَعْدَ
الاِسْتِتَابَةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الْمُرْتَدِّ.
وَالاِسْتِتَابَةُ تَكُونُ فِي الْحَال؛ لأَِنَّ تَأْخِيرَهَا يُفَوِّتُ
صَلَوَاتٍ، وَقِيل: يُمْهَل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَالْقَوْلاَنِ فِي
النَّدْبِ، وَقِيل فِي الْوُجُوبِ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 235، الفتاوى الهندية 1 / 50، حاشية الدسوقي 1 /
189 - 190، ومواهب الجليل 1 / 420، مغني المحتاج 1 / 327، أسنى المطالب 1 /
366، كشاف القناع 1 / 227.
(27/55)
شُرُوطُ الصَّلاَةِ:
تَقْسِيمَاتُ الشُّرُوطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: -
6 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ شُرُوطَ
الصَّلاَةِ إِلَى: شُرُوطِ وُجُوبٍ، وَشُرُوطِ صِحَّةٍ، وَزَادَ
الْمَالِكِيَّةُ قِسْمًا ثَالِثًا هُوَ: شُرُوطُ وُجُوبٍ وَصِحَّةٍ مَعًا.
شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّلاَةِ:
الإِْسْلاَمُ:
7 - تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَلاَ
تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ؛ لأَِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
حَال كُفْرِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ
يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ، وَاللاَّزِمُ مُنْتَفٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى
هَذَا أَنَّا لاَ نَأْمُرُ الْكَافِرَ بِالصَّلاَةِ فِي كُفْرِهِ وَلاَ
بِقَضَائِهَا إِذَا أَسْلَمَ؛ لأَِنَّهُ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي
عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُ
فَلَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنَ
التَّنْفِيرِ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَلِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قُل
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (1)
} قَال الشَّيْخُ الْعَدَوِيُّ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ
غَيْرُ مُكَلَّفِينَ. وَعَلَى الْقَوْل بِتَكْلِيفِهِمْ وَهُوَ
الْمُعْتَمَدُ فَهُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ
تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ وُجُوبَ مُطَالَبَةٍ بِهَا
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(27/55)
فِي الدُّنْيَا؛ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا
مِنْهُ، لَكِنْ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا فِي الآْخِرَةِ زِيَادَةً عَلَى
كُفْرِهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِهَا بِالإِْسْلاَمِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: - إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْمُرْتَدِّ
فَلاَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ إِذَا رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ
بِالرِّدَّةِ يَصِيرُ كَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ زَمَنَ الرِّدَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى
الإِْسْلاَمِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّهُ الْتَزَمَهَا
بِالإِْسْلاَمِ فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْجُحُودِ كَحَقِّ الآْدَمِيِّ
(2) .
الْعَقْل:
8 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ
عَاقِلاً، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمَجْنُونِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (3) .
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ
عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 234، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 211 دار
المعرفة، مغني المحتاج 1 / 130، كشاف القناع 1 / 222، 223.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 494، ومواهب الجليل 6 / 283 (دار الفكر 1978م)
وحاشية الجمل 1 / 287 شرح روض الطالب 1 / 121، مغني المحتاج 1 / 130، كشاف
القناع 1 / 223.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 234، حاشية الدسوقي 1 / 201، شرح روض الطالب 1 /
121، كشاف القناع 1 / 222.
(27/56)
الْمُبْتَلَى وَفِي رِوَايَةٍ:
الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَغَطَّى عَقْلُهُ أَوْ سُتِرَ بِمَرَضٍ أَوْ
إِغْمَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ مُبَاحٍ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَوَال
الْعَقْل بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِصُنْعِ الْعَبْدِ. فَإِنْ كَانَ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَأَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَلَوْ بِفَزَعٍ
مِنْ سَبُعٍ أَوْ آدَمِيٍّ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ فَتْرَةُ الإِْغْمَاءِ
يَوْمًا وَلَيْلَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْخَمْسِ، وَإِنْ
زَادَتْ عَنْ ذَلِكَ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلْحَرَجِ، وَلَوْ أَفَاقَ
فِي زَمَنِ السَّادِسَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ إِفَاقَتُهُ فِي وَقْتٍ
مَعْلُومٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَ إِنْ كَانَ أَقَل مِنْ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْل أَنْ يَخِفَّ عَنْهُ الْمَرَضُ عِنْدَ الصُّبْحِ
مَثَلاً فَيُفِيقَ قَلِيلاً ثُمَّ يُعَاوِدَهُ فَيُغْمَى عَلَيْهِ،
فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الإِْفَاقَةُ، وَيَبْطُل مَا قَبْلَهَا مِنْ حُكْمِ
الإِْغْمَاءِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لإِِفَاقَتِهِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ لَكِنَّهُ يُفِيقُ بَغْتَةً
فَيَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ الأَْصِحَّاءِ ثُمَّ يُغْمَى عَلَيْهِ فَلاَ
عِبْرَةَ بِهَذِهِ الإِْفَاقَةِ.
وَإِنْ كَانَ زَوَال الْعَقْل بِصُنْعِ الآْدَمِيِّ كَمَا لَوْ زَال
عَقْلُهُ بِبَنْجٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ دَوَاءٍ لَزِمَهُ قَضَاءُ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 558 - تحقيق
عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث
عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ولفظ " المعتوه " عند الحاكم.
(27/56)
مَا فَاتَهُ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ،
وَقَال مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ،
لأَِنَّهُ مُبَاحٌ فَصَارَ كَالْمَرِيضِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ شُرْبُ الْبَنْجِ لأَِجْل
الدَّوَاءِ، أَمَّا لَوْ شَرِبَهُ لِلسُّكْرِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً
بِصُنْعِهِ كَالْخَمْرِ. وَمِثْل ذَلِكَ النَّوْمُ فَإِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ
الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْتَدُّ يَوْمًا وَلَيْلَةً غَالِبًا، فَلاَ
حَرَجَ فِي الْقَضَاءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ
زَال عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ إِذَا زَال
الْعُذْرُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ رَكْعَةً
بَعْدَ تَقْدِيرِ تَحْصِيل الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ أَوِ
التُّرَابِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْبَاقِي لاَ يَسَعُ رَكْعَةً سَقَطَتْ
عَنْهُ الصَّلاَةُ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ زَال عَقْلُهُ بِسُكْرٍ
حَرَامٍ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ مُطْلَقًا، وَكَذَا
النَّائِمُ وَالسَّاهِي تَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ، فَمَتَى تَنَبَّهَ
السَّاهِي أَوِ اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ
عَلَى كُل حَالٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَاقِي يَسَعُ رَكْعَةً مَعَ فِعْل مَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطُّهْرِ أَمْ لاَ، بَل وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى مَنْ زَال عَقْلُهُ
بِالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ الْعَتَهِ أَوِ السُّكْرِ بِلاَ
تَعَدٍّ فِي الْجَمِيعِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ
ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
(27/57)
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى
يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ.
فَوَرَدَ النَّصُّ فِي الْمَجْنُونِ، وَقِيسَ عَلَيْهِ مَنْ زَال عَقْلُهُ
بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ، وَسَوَاءٌ قَل زَمَنُ ذَلِكَ أَوْ طَال. إِلاَّ
إِذَا زَالَتْ هَذِهِ الأَْسْبَابُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ
الضَّرُورِيِّ قَدْرُ زَمَنِ تَكْبِيرَةٍ فَأَكْثَرَ؛ لأَِنَّ الْقَدْرَ
الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الإِْيجَابُ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا
دُونَهَا، وَلاَ تَلْزَمُهُ بِإِدْرَاكِ دُونَ تَكْبِيرَةٍ. وَهَذَا
بِخِلاَفِ السُّكْرِ أَوِ الْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ الْمُتَعَدَّى بِهِ
إِذَا أَفَاقَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ
الصَّلَوَاتِ زَمَنَ ذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ.
قَالُوا: وَأَمَّا النَّاسِي لِلصَّلاَةِ أَوِ النَّائِمُ عَنْهَا
وَالْجَاهِل لِوُجُوبِهَا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الأَْدَاءُ؛ لِعَدَمِ
تَكْلِيفِهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ، لِحَدِيثِ: مَنْ نَسِيَ
صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا
ذَكَرَهَا (1) وَيُقَاسُ عَلَى النَّاسِي وَالنَّائِمِ: الْجَاهِل إِذَا
كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ.
وَقَصَرَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمَجْنُونِ
الَّذِي لاَ يُفِيقُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
مَرْفُوعًا: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها. . . ". أخرجه المسلم (1 / 477 - ط
الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(27/57)
الْمَعْتُوهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ
الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ
أَشْبَهَ الطِّفْل، وَمِثْلُهُ الأَْبْلَهُ الَّذِي لاَ يُفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ تَغَطَّى عَقْلُهُ بِمَرَضٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ
مُبَاحٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ
يُسْقِطُ الصَّوْمَ، فَكَذَا الصَّلاَةُ؛ وَلأَِنَّ عَمَّارًا - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - " غُشِيَ عَلَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَال: هَل
صَلَّيْتَ؟ فَقَالُوا: مَا صَلَّيْتُ مُنْذُ ثَلاَثٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ
وَصَلَّى تِلْكَ الثَّلاَثَ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَمُرَةَ
بْنِ جُنْدُبٍ نَحْوُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ
كَالإِْجْمَاعِ؛ وَلأَِنَّ مُدَّةَ الإِْغْمَاءِ لاَ تَطُول - غَالِبًا -
وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلاَيَةُ، وَكَذَا مَنْ تَغَطَّى عَقْلُهُ
بِمُحَرَّمٍ - كَمُسْكِرٍ - فَيَقْضِي؛ لأَِنَّ سُكْرَهُ مَعْصِيَةٌ فَلاَ
يُنَاسِبُ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْهُ.
وَكَذَا تَجِبُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ عَلَى النَّائِمِ: بِمَعْنَى يَجِبُ
عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا إِذَا اسْتَيْقَظَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ
يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (1) وَلَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ حَال
نَوْمِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا كَالْمَجْنُونِ، وَمِثْلُهُ
السَّاهِي (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه قبل قليل.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 512، وحاشية الدسوقي 1 / 184، شرح روض الطالب 1 /
122، مغني المحتاج 1 / 131، كشاف القناع 1 / 222.
(27/58)
الْبُلُوغُ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ مِنْ
شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ، فَلاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى الصَّبِيِّ
حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِلْخَبَرِ الآْتِي؛ وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ،
فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَالْحَجِّ، لَكِنْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَهُ
بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَيَضْرِبَهُ عَلَى تَرْكِهَا
إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ،
وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ
فِي الْمَضَاجِعِ (1) .
وَقَدْ حَمَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - الأَْمْرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَحَمَلَهُ
الْمَالِكِيَّةُ عَلَى النَّدْبِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الضَّرْبَ يَكُونُ بِالْيَدِ لاَ
بِغَيْرِهَا كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَأَنْ لاَ يُجَاوِزَ الثَّلاَثَ،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمِرْدَاسٍ
الْمُعَلِّمِ: إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَإِنَّكَ إِذَا
ضَرَبْتَ فَوْقَ الثَّلاَثِ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ (2)
__________
(1) حديث: " مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين. . ". أخرجه أبو داود
(1 / 324 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171 -
ط. الرسالة) .
(2) حديث: " إياك أن تضرب فوق ثلاثة. . . ". أورده ابن عابدين في رد
المحتار (1 / 235 - ط بولاق) نقلا عن أحكام الصغار للإستروشني ولم يعزه إلي
أي مصدر حديثي.
(27/58)
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ
جَوَازُهُ بِغَيْرِ الْيَدِ، قَال الشَّيْخُ الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ يُحَدُّ
بِعَدَدٍ كَثَلاَثَةِ أَسْوَاطٍ بَل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ حَال
الصِّبْيَانِ.
وَمَحَل الضَّرْبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ،
قَالُوا: الضَّرْبُ يَكُونُ مُؤْلِمًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ إِنْ ظَنَّ
إِفَادَتَهُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ
الأَْمْرِ بِهَا يَكُونُ بَعْدَ اسْتِكْمَال السَّبْعِ وَالأَْمْرَ
بِالضَّرْبِ يَكُونُ بَعْدَ الْعَشْرِ بِأَنْ يَكُونَ الأَْمْرُ فِي أَوَّل
الثَّامِنَةِ وَبِالضَّرْبِ فِي أَوَّل الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ الأَْمْرُ عِنْدَ الدُّخُول فِي السَّبْعِ
وَالضَّرْبُ عِنْدَ الدُّخُول فِي الْعَشْرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُضْرَبُ فِي أَثْنَاءِ الْعَشْرِ، وَلَوْ عَقِبَ
اسْتِكْمَال التِّسْعِ. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَصَحَّحَهُ
الإِْسْنَوِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَيَنْبَغِي
اعْتِمَادُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا الأَْمْرُ
بِهَا فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ السَّبْعِ (1) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلاَةِ:
أ - الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:
10 - وَهِيَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ عَنِ
النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 234، 235، حاشية الدسوقي 1 / 186، مغني المحتاج 1
/ 131، شرح روض الطالب 1 / 121، كشاف القناع 1 / 225.
(27/59)
فَطَهِّرْ (1) (2) } وَإِذَا وَجَبَ
تَطْهِيرُ الثَّوْبِ فَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ أَوْلَى، وَلِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل، فَإِنَّ
عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ (3) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا
أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (4) فَثَبَتَ الأَْمْرُ
بِاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ، وَالأَْمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ،
وَالنَّهْيُ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
وَأَمَّا طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلاَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ
طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
(5) } وقَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فَهِيَ تَدُل بِدَلاَلَةِ
النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ كَمَا اسْتَدَل بِهَا عَلَى
وُجُوبِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ كَمَا سَبَقَ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ
وَمَعَاطِنِ الإِْبِل وَقَوَارِعِ الطَّرِيقِ وَالْحَمَّامِ
وَالْمَقْبَرَةِ. . . إِلَخْ (6)
__________
(1) سورة المدثر / 4.
(2) سورة المدثر / 4.
(3) أخرجه الدارقطني. 1 / 127 - ط دار المحاسن) من حديث أنس ابن مالك،
واختلف في وصله وإرساله وذكره ابن أبي حاتم في علل الحديث (1 / 26 - ط
السلفية) بطريق رجح فيه وصله.
(4) حديث: / " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح
1 / 409 - ط السلفية) ومسلم (1 / 262 - ط. الحلبي) من حديث عائشة بألفاظ
متقاربة.
(5) سورة البقرة / 125.
(6) حديث: " نهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة ". أخرجه الترمذي (2 / 178
- ط الحلبي) من حديث ابن عمر، وقال الترمذي: إسناده ليس بذلك القوي.
(27/59)
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي
الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ كَوْنُهُمَا مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ (1) .
ب - الطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ:
11 - وَهِيَ طَهَارَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَنِ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةُ
جَمِيعِ الأَْعْضَاءِ عَنِ الْجَنَابَةِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا (2) } وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (3) وَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُورُ،
وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (4) ،
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ
جَنَابَةٌ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ (5)
وَالإِْنْقَاءُ هُوَ التَّطْهِيرُ (6) . وَتَفْصِيل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 270، بدائع الصنائع 1 / 114، 115، حاشية الدسوقي
1 / 200، مغني المحتاج 1 / 188، وكشاف القناع 1 / 288.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور. . . ". أخرجه مسلم (1 / 204 - ط
الحلبي) من حديث ابن عمر.
(4) حديث: " مفتاح الصلاة الطهور. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي)
من حديث علي بن أبي طالب.
(5) حديث: " تحت كل شعره جنابة. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 178 - ط الحلبي)
من حديث أبي هريرة وأشار الترمذي إلي تضعيفه.
(6) بدائع الصنائع 1 / 114 دار الكتاب العربي 1982م حاشية ابن عابدين 1 /
296 دار التراث العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 201، دار الفكر، مغني المحتاج 1
/ 187، كشاف القناع 1 / 248.
(27/60)
ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: (طَهَارَة،
وَوُضُوء، وَغُسْل) .
ج - سَتْرُ الْعَوْرَةِ:
12 - لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ (1) } قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
-: الْمُرَادُ بِهِ الثِّيَابُ فِي الصَّلاَةِ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل
اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (2) ؛ وَلأَِنَّ سَتْرَ
الْعَوْرَةِ حَال الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ
التَّعْظِيمِ (3) .
د - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ:
13 - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (4) } وَقَال ابْنُ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي
صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
__________
(1) سورة الأعراف / 31.
(2) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". أخرجه أبو داود. 1 / 421
- تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (2 / 215 ط. الحلبي) من حديث عائشة،
واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حديث حسن.
(3) بدائع الصنائع 1 / 116، حاشية ابن عابدين 1 / 270، حاشية الدسوقي 1 /
211، مغني المحتاج 1 / 184، كشاف القناع 1 / 263، تفسير القرطبي 7 / 189،
ط. دار الكتب المصرية 196م.
(4) سورة البقرة / 144.
(27/60)
أُنْزِل عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ،
وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَ
وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال) .
هـ - الْعِلْمُ بِدُخُول الْوَقْتِ:
14 - لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلَى غَسَقِ اللَّيْل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا (2) } وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَمَّنِي جِبْرِيل عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي
الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى
الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ
حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ
حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ
وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ. وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ
الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ
بِالأَْمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ
مِثْلَيْهِ، ثُمَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 117، حاشية ابن عابدين 1 / 286، حاشية الدسوقي 1 /
222، مغني المحتاج 1 / 184، كشاف القناع 1 / 302. وحديث ابن عمر: " بينما
الناس بقباء في صلاة الصبح. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 506 - ط
السلفية) ومسلم. 1 / 375 - ط. الحلبي) .
(2) سورة الإسراء / 78.
(27/61)
صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل،
ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ
صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ
جِبْرِيل وَقَال: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ
قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) . وَقَدِ
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِدُخُول
الْوَقْتِ غَلَبَةُ الظَّنِّ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
تَقْسِيمُ أَقْوَال وَأَفْعَال الصَّلاَةِ:
15 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَقْوَال الصَّلاَةِ
وَأَفْعَالَهَا إِلَى أَرْكَانٍ، وَوَاجِبَاتٍ، وَسُنَنٍ. فَالأَْرْكَانُ
هِيَ الَّتِي لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا بِلاَ عُذْرٍ، وَتَرْكُهَا
يُوجِبُ الْبُطْلاَنَ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا.
وَالْوَاجِبَاتُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ مَا لاَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ
بِتَرْكِهِ، وَتُعَادُ وُجُوبًا إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بِلاَ عُذْرٍ، أَوْ
سَهْوًا وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ. فَتَرْكُ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ
الإِْعَادَةَ، وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا
يَكُنْ آثِمًا فَاسِقًا، وَيَسْتَحِقُّ تَارِكُ الْوَاجِبِ الْعِقَابَ
__________
(1) حديث: " أمَّني جبريل عند البيت مرتين. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 279
- 280 ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 247، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 117، حاشية
الدسوقي 1 / 181، مغني المحتاج 1 / 184، كشاف القناع 1 / 257.
(27/61)
بِتَرْكِهِ وَلَكِنْ لاَ يَكْفُرُ
جَاحِدُهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَالَةِ تَرْكِ
الْوَاجِبِ سَهْوًا، حَيْثُ إِنَّ تَرْكَهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً يُوجِبُ
سُجُودَ السَّهْوِ عِنْدَهُمْ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي حَالَةِ التَّرْكِ
عَمْدًا حَيْثُ إِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ بُطْلاَنَ
الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ.
وَالسُّنَنُ، وَهِيَ الَّتِي لاَ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْبُطْلاَنَ وَلَوْ
عَمْدًا
قَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ: هِيَ الَّتِي لاَ يُوجِبُ تَرْكُهَا
فَسَادًا وَلاَ سُجُودًا لِلسَّهْوِ، بَل يُوجِبُ تَرْكُهَا عَمْدًا
إِسَاءَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ عَامِدٍ فَلاَ إِسَاءَةَ أَيْضًا،
وَتُنْدَبُ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ.
وَالإِْسَاءَةُ هُنَا أَفْحَشُ مِنَ الْكَرَاهَةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ
لَوْ تَرَكَ السُّنَّةَ اسْتِخْفَافًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. وَيَأْثَمُ لَوْ
تَرَكَ السُّنَّةَ بِلاَ عُذْرٍ عَلَى سَبِيل الإِْصْرَارِ، وَقَال
مُحَمَّدٌ: فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ الْقِتَال، وَأَبُو
يُوسُفَ بِالتَّأْدِيبِ
، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُبَاحُ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ عِنْدَ تَرْكِ
السُّنَّةِ سَهْوًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ وَلاَ اسْتِحْبَابٍ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا هُوَ الآْدَابُ، وَهُوَ فِي
الصَّلاَةِ: مَا فَعَلَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى
الثَّلاَثِ فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
كَمَا قَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ السُّنَنَ إِلَى ضَرْبَيْنِ:
(27/62)
سُنَنِ أَقْوَالٍ، وَسُنَنِ أَفْعَالٍ
وَتُسَمَّى هَيْئَاتٌ (1) .
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَقْوَال وَأَفْعَال
الصَّلاَةِ إِلَى أَرْكَانٍ وَسُنَنٍ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَضَائِل (الْمَنْدُوبَاتِ) .
وَالسُّنَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَبْعَاضٌ: وَهِيَ
السُّنَنُ الْمَجْبُورَةُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا
أَوْ سَهْوًا، سُمِّيَتْ أَبْعَاضًا لِتَأَكُّدِ شَأْنِهَا بِالْجَبْرِ
تَشْبِيهًا بِالْبَعْضِ حَقِيقَةً.
وَهَيْئَاتٌ: وَهِيَ السُّنَنُ الَّتِي لاَ تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ
(2) .
أَرْكَانُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ هِيَ:
أ - النِّيَّةُ:
16 - النِّيَّةُ وَهِيَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْل الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا بِحَالٍ،
وَالأَْصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (3) } وَقَوْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، وما بعدها، كشاف القناع 1 / 385 وما بعدها،
مطالب أولي النهى 1 / 493 وما بعدها.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 231 وما بعدها، كفاية الطالب الرباني مع حاشية
العدوي 1 / 225 دار المعرفة، مغني المحتاج 1 / 148، شرح روض الطالب 1 /
140.
(3) سورة البينة / 5.
(27/62)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ
مَا نَوَى (1) . وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي
الصَّلاَةِ (2) . وَلاَ بُدَّ فِي النِّيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ
الْفَرْضِيَّةِ وَنَوْعِيَّةِ الصَّلاَةِ، هَل هِيَ ظُهْرٌ أَمْ عَصْرٌ؟
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّةٌ) .
ب - تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ:
17 - وَدَلِيل فَرْضِيَّتِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ
(3) وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ
فَكَبِّرْ (4) وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ
قَال: مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ،
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (5)
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط
السلفية) من حديث عمر بن الخطاب.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 233 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 148، كشاف القناع 1
/ 313.
(3) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة
بالتكبير ". أخرجه مسلم (1 / 357 - ط الحلبي) .
(4) حديث المسيء صلاته: " إذا قمت إلي الصلاة فكبر ". أخرجه البخاري (الفتح
2 / 277 ط السلفية 9 ومسلم (1 / 298 ط الحلبي) .
(5) حديث علي رضي الله عنه يرفعه قال: " مفتاح الصلاة الطهور. . . ". تقدم
ف 11. وحاشية الدسوقي 1 / 231، مغني المحتاج 1 / 150، كشاف القناع 1 / 330.
(27/63)
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ 13
217) .
ج - الْقِيَامُ لِلْقَادِرِ فِي الْفَرْضِ:
18 - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (1) } وَلِخَبَرِ
الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ،
فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ؟
فَقَال: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ
تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى ذَلِكَ،
وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ الْقِيَامُ فِي فَرْضِ
الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِمُعِينٍ بِأُجْرَةٍ فَاضِلَةٍ عَنْ
مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ يَعُولُهُ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ.
وَيُقَسِّمُ الْمَالِكِيَّةُ رُكْنَ الْقِيَامِ إِلَى رُكْنَيْنِ:
الْقِيَامِ لِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَالْقِيَامِ لِقِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ. قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْقِيَامُ
اسْتِقْلاَلاً، فَلاَ يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فِي
الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلاَ
قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ، بِحَيْثُ لَوْ أُزِيل الْعِمَادُ
لَسَقَطَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: شَرْطُهُ نَصْبُ فَقَارِهِ لِلْقَادِرِ عَلَى
ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَفَ مُنْحَنِيًا أَوْ مَائِلاً بِحَيْثُ لاَ يُسَمَّى
قَائِمًا لَمْ يَصِحَّ، وَالاِنْحِنَاءُ
__________
(1) سورة البقرة آية 238.
(2) حديث عمران: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 587 - ط السلفية) .
(27/63)
السَّالِبُ لِلاِسْمِ: أَنْ يَصِيرَ إِلَى
الرُّكُوعِ أَقْرَب.
قَالُوا: لَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ كَجِدَارٍ أَجْزَأَهُ مَعَ
الْكَرَاهَةِ. وَكَذَا لَوْ تَحَامَل عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ مَا
اسْتَنَدَ إِلَيْهِ لَسَقَطَ؛ لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ
بِحَيْثُ يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ إِنْ شَاءَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ لَمْ يَصِحَّ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى قَائِمًا بَل مُعَلِّقًا نَفْسَهُ. وَلَوْ
أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ مُتَّكِئًا عَلَى شَيْءٍ أَوِ الْقِيَامُ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ مَيْسُورُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حَدُّ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا،
وَرُكْنُهُ الاِنْتِصَابُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَفِيمَا بَعْدَهَا بِقَدْرِ
قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ (1) .
وَرُكْنُ الْقِيَامِ خَاصٌّ بِالْفَرْضِ مِنَ الصَّلَوَاتِ دُونَ
النَّوَافِل؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ
أَجْرِ الْقَائِمِ (2) وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ تَطَوُّعٌ ف 16 (12
157) وَأَمَّا بَقِيَّةُ تَفْصِيلاَتِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ فَتَأْتِي
فِي مُصْطَلَحِ (قِيَامٌ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 231، مغني المحتاج 1 / 153، كشاف القناع 1 / 385.
(2) حديث: " من صلى قائما فهو أفضل ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 586 - ط
السلفية 9 من حديث عمران بن حصين.
(27/64)
د - قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ:
19 - وَهِيَ رُكْنٌ فِي كُل رَكْعَةٍ مِنْ كُل صَلاَةٍ فَرْضًا أَوْ
نَفْلاً جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يَقْرَأُ
الرَّجُل فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2) وَلِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (3) .
وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَرْضٌ فِي صَلاَةِ الإِْمَامِ وَالْفَذِّ دُونَ
الْمَأْمُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ بِفَرْضِيَّتِهَا فِي الْجَمِيعِ (4) .
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ) .
هـ - الرُّكُوعُ:
20 - وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ، وَسَنَدُهُ
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا (5) } .
__________
(1) حديث: " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب ". أخرجه البخاري (الفتح 2
/ 237 - ط السلفية) ومسلم (1 / 295 - ط. الحلبي) . من حديث عبادة من
الصامت.
(2) حديث: " لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب ". أخرج هذه
الرواية الدارقطني (1 / 322 - ط شركة الطباعة الفنية) ونقل ابن حجر في
التلخيص (1 / 231 - ط شركة الطباعة الفنية) أنه صححها.
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111
- ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 236، مغني المحتاج 1 / 156، شرح روض الطالب 1 / 149،
كشاف القناع 1 / 389، مطالب أولي النهى 1 / 494.
(5) سورة الحج / 77.
(27/64)
وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ، وَهُوَ
مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَخَل الْمَسْجِدَ فَدَخَل رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ
فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلاَم ثُمَّ
قَال: ارْجِعْ فَصَل، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل. فَعَل ذَلِكَ ثَلاَثًا.
ثُمَّ قَال: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ،
فَعَلِّمْنِي. فَقَال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ
اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِل قَائِمًا، ثُمَّ
اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَل ذَلِكَ
فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا (1) . فَدَل عَلَى أَنَّ الأَْفْعَال الْمُسَمَّاةَ
فِي الْحَدِيثِ لاَ تَسْقُطُ بِحَالٍ، فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ لَسَقَطَتْ
عَنِ الأَْعْرَابِيِّ لِجَهْلِهِ بِهَا (2)
وَتَفْصِيل مَبَاحِثِ الرُّكُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ) .
و الاِعْتِدَال:
21 - هُوَ الْقِيَامُ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ
الرُّكُوعِ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ؛
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل
رجل فصلي. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 277 - ط السلفية) ومسلم. 1 / 298
- ط. الحلبي) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 239، مغني المحتاج 1 / 163، كشاف القناع 1 / 386.
(27/65)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسِيءِ صَلاَتَهُ ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِل
قَائِمًا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاوَمَ
عَلَيْهِ. لِقَوْل أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى
يَعُودَ كُل فَقَارٍ مَكَانَهُ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي.
وَيَدْخُل فِي رُكْنِ الاِعْتِدَال الرَّفْعُ مِنْهُ لاِسْتِلْزَامِهِ
لَهُ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَهُمَا
فَعَدُّوا كُلًّا مِنْهُمَا رُكْنًا. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَتَبْطُل
الصَّلاَةُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا إِنْ
تَرَكَهُ سَهْوًا فَيَرْجِعُ مُحْدَوْدِبًا حَتَّى يَصِل لِحَالَةِ
الرُّكُوعِ ثُمَّ يَرْفَعُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ إِلاَّ
الْمَأْمُومَ فَلاَ يَسْجُدُ لِحَمْل الإِْمَامِ لِسَهْوِهِ، فَإِنْ لَمْ
يَرْجِعْ مُحْدَوْدِبًا وَرَجَعَ قَائِمًا لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ
مُرَاعَاةً لِقَوْل ابْنِ حَبِيبٍ: إِنَّ تَارِكَ الرَّفْعِ مِنَ
الرُّكُوعِ سَهْوًا يَرْجِعُ قَائِمًا لاَ مُحْدَوْدِبًا كَتَارِكِ
الرُّكُوعِ.
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَفْيِ رُكْنِيَّةِ
الاِعْتِدَال، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ. قَالُوا: فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهِ سَهْوًا،
وَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا قَطْعًا؛ لأَِنَّهُ سُنَّةٌ
شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا.
قَال الدُّسُوقِيُّ: قَال شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَدَوِيُّ - هَذَا
هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ
__________
(1) حديث أبي حميد الساعدي: " فإذا رفع رأسه استوى. . ". أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 30 5 - ط السلفية) .
(27/65)
كَلاَمِ الْحَطَّابِ، وَحَدُّ الاِعْتِدَال
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ لاَ يَكُونَ مُنْحَنِيًا، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، قَالُوا: وَالْكَمَال مِنْهُ
الاِسْتِقَامَةُ حَتَّى يَعُودَ كُل عُضْوٍ إِلَى مَحَلِّهِ، وَعَلَى هَذَا
فَلاَ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ مُنْحَنِيًا يَسِيرًا حَال اعْتِدَالِهِ
وَاطْمِئْنَانِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ لاَ تُخْرِجُهُ عَنْ
كَوْنِهِ قَائِمًا، وَسَبَقَ حَدُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رُكْنِ
الْقِيَامِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ
الطُّمَأْنِينَةِ فِي الاِعْتِدَال.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي الاِعْتِدَال: أَنْ
تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْل رُكُوعِهِ، بِحَيْثُ
يَنْفَصِل ارْتِفَاعُهُ عَنْ عَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ غَيْرَ
الاِعْتِدَال، فَلَوْ رَفَعَ فَزِعًا مِنْ شَيْءٍ كَحَيَّةٍ لَمْ يُحْسَبْ
رَفْعُهُ اعْتِدَالاً لِوُجُودِ الصَّارِفِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لاَ
يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ شَيْئًا آخَرَ (1) .
ز - السُّجُودُ:
22 - مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ السُّجُودُ فِي كُل رَكْعَةٍ مَرَّتَيْنِ.
وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا (2) } وَلِحَدِيثِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 165، شرح روض الطالب 1 / 157،
كشاف القناع 1 / 387، مطالب أولي النهى 1 / 466، 495.
(2) سورة الحج / 77.
(27/66)
الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا (1) ، وَحَدَّ الْمَالِكِيَّةُ السُّجُودَ بِأَنَّهُ
مَسُّ الأَْرْضِ، أَوْ مَا اتَّصَل بِهَا مِنْ ثَابِتٍ بِالْجَبْهَةِ،
فَلاَ يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى نَحْوِ السَّرِيرِ الْمُعَلَّقِ،
وَيَتَحَقَّقُ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ بِوَضْعِ أَيْسَرِ جُزْءٍ مِنَ
الْجَبْهَةِ بِالأَْرْضِ أَوْ مَا اتَّصَل بِهَا، وَيُشْتَرَطُ
اسْتِقْرَارُهَا عَلَى مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَصِحُّ عَلَى تِبْنٍ
أَوْ قُطْنٍ. وَأَمَّا وَضْعُ الأَْنْفِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنْ
تُعَادُ الصَّلاَةُ لِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فِي الظُّهْرَيْنِ
لِلاِصْفِرَارِ، وَفِي غَيْرِهِمَا لِلطُّلُوعِ مُرَاعَاةً لِلْقَوْل
بِوُجُوبِهِ. وَوَضْعُ بَقِيَّةِ الأَْعْضَاءِ - الْيَدَيْنِ
وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ - فَهُوَ سُنَّةٌ. قَال الدُّسُوقِيُّ.
قَال فِي التَّوْضِيحِ:
وَكَوْنُ السُّجُودِ عَلَيْهَا سُنَّةً لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمَذْهَبِ.
غَايَتُهُ أَنَّ ابْنَ الْقَصَّارِ قَال: الَّذِي يَقْوَى فِي نَفْسِي
أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَقِيل:
إِنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ
ارْتِفَاعِ الْعَجِيزَةِ عَنِ الرَّأْسِ بَل يُنْدَبُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَقَل السُّجُودِ يَتَحَقَّقُ
بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مَكْشُوفَةَ مُصَلاَّهُ؛ لِحَدِيثِ
خَبَّابِ بْنِ الأَْرَتِّ قَال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ فِي
__________
(1) حديث: المسيء صلاته " ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ". تقدم ف 20.
(27/66)
جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا
(1) أَيْ لَمْ يُزِل شَكْوَانَا.
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ
الْجَبْهَةِ لأََرْشَدَهُمْ إِلَى سَتْرِهَا، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ
كَشْفُهَا دُونَ بَقِيَّةِ الأَْعْضَاءِ لِسُهُولَتِهِ فِيهَا دُونَ
الْبَقِيَّةِ؛ وَلِحُصُول مَقْصُودِ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ
التَّوَاضُعِ بِكَشْفِهَا. وَيَجِبُ - أَيْضًا - وَضْعُ جُزْءٍ مِنَ
الرُّكْبَتَيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ
الْقَدَمَيْنِ عَلَى مُصَلاَّهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أُمِرْتُ أَنْ
أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ
إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ
الْقَدَمَيْنِ (2) وَلاَ يَجِبُ كَشْفُ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ، بَل يُكْرَهُ
كَشْفُ الرُّكْبَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ.
وَقِيل: يَجِبُ كَشْفُ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَل وُجُوبِ الْوَضْعِ إِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ وَضْعُ شَيْءٍ
مِنْهَا، وَإِلاَّ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ، فَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنَ
الزَّنْدِ لَمْ يَجِبْ وَضْعُهُ؛ لِفَوْتِ مَحَل الْفَرْضِ.
__________
(1) حديث خباب بن الأرت: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه البيهقي " 2 / 105 - ط. دائرة المعارف العثمانية " وأصله في مسلم (1
/ 433 - ط الحلبي) .
(2) " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 297 -
ط السلفية) ومسلم (1 / 354 - الحلبي) من حديث ابن عباس.
(27/67)
وَيَجِبُ - أَيْضًا - أَنْ يَنَال مَحَل
سُجُودِهِ ثِقَل رَأْسِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ (1) قَالُوا: وَمَعْنَى
الثِّقَل أَنْ يَتَحَامَل بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ تَحْتَهُ قُطْنٌ أَوْ
حَشِيشٌ لاَنْكَبَسَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي يَدِهِ لَوْ فُرِضَتْ تَحْتَ
ذَلِكَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّحَامُل فِي غَيْرِ الْجَبْهَةِ مِنَ
الأَْعْضَاءِ.
وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ لاَ يَهْوِيَ لِغَيْرِ السُّجُودِ، فَلَوْ سَقَطَ
لِوَجْهِهِ مِنَ الاِعْتِدَال وَجَبَ الْعَوْدُ إِلَى الاِعْتِدَال
لِيُهْوِيَ مِنْهُ؛ لاِنْتِفَاءِ الْهُوِيِّ فِي السُّقُوطِ. وَإِنْ سَقَطَ
مِنَ الْهَوِيِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ بَل يُحْسَبُ ذَلِكَ سُجُودًا.
وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَرْتَفِعَ أَسَافِلُهُ - عَجِيزَتُهُ وَمَا
حَوْلَهَا - عَلَى أَعَالِيهِ لِخَبَرِ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي (2) فَلاَ يَكْتَفِي بِرَفْعِ أَعَالِيهِ عَلَى أَسَافِلِهِ وَلاَ
بِتَسَاوِيهِمَا، لِعَدَمِ اسْمِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ أَكَبَّ وَمَدَّ
رِجْلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ لاَ يُمْكِنُهُ السُّجُودُ
إِلاَّ كَذَلِكَ فَيَصِحُّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى وِسَادَةٍ
بِتَنْكِيسٍ لَزِمَهُ؛ لِحُصُول هَيْئَةِ السُّجُودِ بِذَلِكَ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ بِلاَ تَنْكِيسٍ.
وَإِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَثَلاً وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ
__________
(1) حديث: " إذا سجدت فأمكن جبهتك. . . ". أخرجه أحمد (1 / 287 - ط
الميمنية) من حديث ابن عباس. وإسناده حسن.
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 19.
(27/67)
ارْتِفَاعِ ذَلِكَ لِمَيَلاَنِهَا صَلَّى
عَلَى حَالِهِ وَلَزِمَهُ الإِْعَادَةُ؛ لأَِنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الأَْعْضَاءِ
السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الأَْنْفِ، وَالْيَدَيْنِ،
وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، رُكْنٌ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِحَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ،
وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ
آرَابٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ (1) .
ثُمَّ إِنَّهُ يُجْزِئُ بَعْضُ كُل عُضْوٍ فِي السُّجُودِ عَلَيْهِ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ فِي الْحَدِيثِ الْكُل، وَلَوْ كَانَ سُجُودُهُ
عَلَى ظَهْرِ كَفٍّ، وَظَهْرِ قَدَمٍ، وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدَيْنِ،
وَلاَ يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَوَضْعِ جَبْهَتِهِ
عَلَى يَدَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَدَاخُل أَعْضَاءِ السُّجُودِ.
وَمَتَى عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ السُّجُودِ بِجَبْهَتِهِ سَقَطَ عَنْهُ
لُزُومُ بَاقِي الأَْعْضَاءِ؛ لأَِنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الأَْصْل فِي
السُّجُودِ، وَغَيْرُهَا تَبَعٌ لَهَا، فَإِذَا سَقَطَ الأَْصْل سَقَطَ
التَّبَعُ، وَدَلِيل التَّبَعِيَّةِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -
__________
(1) حديث: " إذا سجد العبد سجد معه سبع آراب. . . ". أخرجه مسلم (1 / 355 -
ط الحلبي) من حديث العباس ابن عبد المطلب.
(27/68)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ،
فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ
فَلْيَرْفَعْهُمَا (1) وَبَاقِي الأَْعْضَاءِ مِثْلُهُمَا فِي ذَلِكَ
لِعَدَمِ الْفَارِقِ، وَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ بِالْجَبْهَةِ
فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا الْبَاقِي مِنَ الأَْعْضَاءِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ
لاَ يُجْزِئُ السُّجُودُ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْلاَءِ الأَْسَافِل إِنْ خَرَجَ
عَنْ صِفَةِ السُّجُودِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعَدُّ سَاجِدًا، وَأَمَّا
الاِسْتِعْلاَءُ الْيَسِيرُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ - بِأَنْ عَلاَ مَوْضِعُ
رَأْسِهِ عَلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ بِلاَ حَاجَةٍ يَسِيرًا - وَيُكْرَهُ
الْكَثِيرُ (2) .
ح - الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
23 - مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ أَمِ النَّفْل؛ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: ثُمَّ ارْفَعْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا (3) وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ
جَالِسًا (4) .
__________
(1) حديث: " إن اليدين تسجدان، كما يسجد الوجه. . . ". أخرجه أبو داود (1 /
553 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 226 - ط دائرة المعارف العثمانية)
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 239، شرح روض الطالب 1 / 160، مغني المحتاج 1 / 169،
كشاف القناع 1 / 351، مطالب أولي النهى 1 / 449.
(3) الحديث تخريجه فقرة (20) .
(4) حديث عائشة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة لم
يسجد حتى يستوي جالسا. . ". أخرجه مسلم (1 / 385 - ط الحلبي) .
(27/68)
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
قَبْل هَذَا الرُّكْنِ رُكْنًا آخَرَ وَهُوَ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ.
وَمَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ الاِعْتِدَال مِنَ
الرُّكُوعِ يَجْرِي - أَيْضًا - فِي الاِعْتِدَال مِنَ السُّجُودِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ
يَدَيْهِ عَنِ الأَْرْضِ حَال الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ
بِرَفْعِهِ غَيْرَ الْجُلُوسِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ. فَلَوْ رَفَعَ
فَزَعًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَكْفِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السُّجُودِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَالُوا: وَيُشْتَرَطُ فِي
نَحْوِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَرَفْعٍ مِنْهُمَا: أَنْ لاَ يَقْصِدَ غَيْرَهُ،
فَلَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ، أَوْ رَفَعَ خَوْفًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ
يُجْزِئْهُ، كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَهُ؛ اكْتِفَاءً بِنِيَّةِ
الصَّلاَةِ الْمُسْتَصْحِبِ حُكْمَهَا.
قَال الشَّيْخُ الرَّحِيبَانِيُّ: بَل لاَ بُدَّ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ
وُجُوبًا (1) .
ط - الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ:
24 - وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
لِمُدَاوَمَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ،
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 240 وما بعدها، مغني المحتاج 1 / 171، كشاف القناع 1
/ 353، 387، مطالب أولي النهى 1 / 497.
(27/69)
صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (1)
وَلأَِنَّ التَّشَهُّدَ فَرْضٌ وَالْجُلُوسُ لَهُ مَحَلُّهُ فَيَتْبَعُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الْجُلُوسُ
لِلسَّلاَمِ فَقَطْ. فَالْجُزْءُ الأَْخِيرُ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي
يُوقِعُ فِيهِ السَّلاَمَ فَرْضٌ، وَمَا قَبْلَهُ سُنَّةٌ، وَعَلَيْهِ
فَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَاعْتَدَل جَالِسًا وَسَلَّمَ
كَانَ ذَلِكَ الْجُلُوسُ هُوَ الْوَاجِبَ، وَفَاتَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَوْ
جَلَسَ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالْفَرْضِ
وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ اسْتَقَل قَائِمًا
وَسَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ تَارِكًا لِلْفَرْضِ (2) .
ى - التَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ:
25 - وَيَقُول بِرُكْنِيَّتِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ
فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُل: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ (3) . . .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: {
كُنَّا نَقُول فِي الصَّلاَةِ قَبْل أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ:
السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل. فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لاَ تَقُولُوا هَذَا. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، وَلَكِنْ
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 19.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 240، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 388،
مطالب أولي النهى 1 / 499.
(3) حديث: " إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل. . . ". أخرجه البخاري (الفتح
11 / 131 ط. السلفية) من حديث ابن مسعود.
(27/69)
قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ (1) . . .
الْحَدِيثَ، وَقَال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ
إِلاَّ بِتَشَهُّدٍ.
وَأَقَل التَّشَهُّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.
سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. وَهُوَ
أَقَلُّهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَيْضًا - بِدُونِ لَفْظِ: "
وَبَرَكَاتُهُ ". مَعَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ " وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول
اللَّهِ " " وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " لاِتِّفَاقِ
الرِّوَايَاتِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالتَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ
بِرُكْنٍ (2) .
ك - الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ:
26 - هِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا (3) } ، وَلِحَدِيثِ: قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ
عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل
عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل
إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض التشهد. . . ".
أخرجه النسائي (3 / 40 - ط دار المحاسن) وصححه الدارقطني إسناده.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 243، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 388،
مطالب أولي النهى 1 / 499.
(3) سورة الأحزاب / 56.
(27/70)
حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ
إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) .
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
نَفْسِهِ فِي الْوِتْرِ (2) . وَقَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي (3) .
وَأَقَل الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ) قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَنَحْوُهُ
كَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ عَلَى
النَّبِيِّ أَوْ عَلَيْهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ
تَكُونَ الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَلَوْ صَلَّى
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل التَّشَهُّدِ
لَمْ تُجْزِئْهُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يَعُدُّ الصَّلاَةَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكْنًا مُسْتَقِلًّا،
وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ (4) .
ل - السَّلاَمُ:
27 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
__________
(1) حديث: " قد علمنا كيف نسلم عليك. . ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 152 -
ط السلفية) ومسلم (1 / 305 - ط. الحلبي) من حديث كعب بن عجرة، واللفظ
للبخاري.
(2) حديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه في الوتر. . . ". أخرجه
النسائي (3 / 248 - ط المكتبة التجارية) وأعله ابن حجر بالانقطاع في سنده،
كذا في التلخيص الحبير (1 / 248 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 19.
(4) مغني المحتاج 1 / 172، شرح روض الطالب 1 / 165، حاشية الجمل 1 / 381
وما بعدها، كشاف القناع 1 / 388، مطالب أولي النهى 1 / 499.
(27/70)
رُكْنِيَّتِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا
التَّسْلِيمُ (1) وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ
بِالتَّسْلِيمِ (2) .
وَلَفْظُهُ الْمُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ "
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ".
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَلاَ يُجْزِئُ سَلاَمُ اللَّهِ، أَوْ سَلاَمِي،
أَوْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، وَلاَ بُدَّ - أَيْضًا - مِنْ تَأَخُّرِ "
عَلَيْكُمْ " وَأَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ تَقَدُّمَ " عَلَيْكُمْ " فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ
" عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ " مَعَ الْكَرَاهَةِ. قَالُوا: وَلاَ يُجْزِئُ
السَّلاَمُ عَلَيْهِمْ، وَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ
لِلْغَائِبِ، وَلاَ عَلَيْكَ وَلاَ عَلَيْكُمَا، وَلاَ سَلاَمِي
عَلَيْكُمْ، وَلاَ سَلاَمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ
مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَلاَ تُجْزِئُ -
أَيْضًا - سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صِيغَتَهُ الْمُجْزِئَةَ:
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَقُل " وَرَحْمَةُ
اللَّهِ " فِي غَيْرِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُ. وَقَال: {
__________
(1) حديث: " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ". أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط
الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب.
(2) حديث عائشة: " كان يختم الصلاة بالتسليم ". أخرجه مسلم (1 / 358 - ط
الحلبي) .
(27/71)
صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
وَهُوَ سَلاَمٌ فِي صَلاَةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ فَلَمْ
يُجْزِئْهُ بِدُونِهَا كَالسَّلاَمِ فِي التَّشَهُّدِ. فَإِنْ نَكَّرَ
السَّلاَمَ، كَقَوْلِهِ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ عَرَّفَهُ بِغَيْرِ
اللاَّمِ، كَسَلاَمِي، أَوْ سَلاَمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ نَكَّسَهُ
فَقَال عَلَيْكُمْ سَلاَمٌ أَوْ عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ، أَوْ قَال:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
وَمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ يُغَيِّرُ
السَّلاَمَ الْوَارِدَ، وَيُخِل بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الاِسْتِغْرَاقَ.
وَالْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ.
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّلاَمِ
الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلاَةِ، فَلاَ تَجِبُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ مِنَ
الصَّلاَةِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلأَِنَّ النِّيَّةَ
السَّابِقَةَ مُنْسَحِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصَّلاَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُجَدِّدَ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ
الصَّلاَةِ بِالسَّلاَمِ لأَِجْل أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ جِنْسِهِ
كَافْتِقَارِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ إِلَيْهَا لِتَمَيُّزِهَا عَنْ
غَيْرِهَا، فَلَوْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ،
قَال سَنَدٌ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
الثَّانِي: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ فَقَطْ؛
لاِنْسِحَابِ النِّيَّةِ الأُْولَى. قَال
(27/71)
ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ: هُوَ
الْمَشْهُورُ، وَكَلاَمُ ابْنِ عَرَفَةَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ (1)
.
م - الطُّمَأْنِينَةُ:
28 - هِيَ: اسْتِقْرَارُ الأَْعْضَاءِ زَمَنًا مَا. قَال الشَّافِعِيَّةُ:
أَقَلُّهَا أَنْ تَسْتَقِرَّ الأَْعْضَاءُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُول السُّكُونِ وَإِنْ قَل. وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي
الْمَذْهَبِ.
وَالثَّانِي: بِقَدْرِ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ. وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ:
إِذَا نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ، أَوِ
التَّحْمِيدَ فِي اعْتِدَالِهِ، أَوْ سُؤَال الْمَغْفِرَةِ فِي جُلُوسِهِ،
أَوْ عَجَزَ عَنْهُ لِعُجْمَةٍ أَوْ خَرَسٍ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ
وَقُلْنَا هُوَ سُنَّةٌ وَاطْمَأَنَّ قَدْرًا لاَ يَتَّسِعُ لَهُ،
فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الأَْوَّل، وَلاَ تَصِحُّ عَلَى
الثَّانِي.
وَهِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّحَ ابْنُ
الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَرْضِيَّتَهَا.
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِذَا
قَال زَرُّوقٌ: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى
الْمَشْهُورِ. وَقِيل: إِنَّهَا فَضِيلَةٌ،
وَدَلِيل رُكْنِيَّةِ الطُّمَأْنِينَةِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ
الْمُتَقَدِّمُ. وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً لاَ يُتِمُّ
الرُّكُوعَ وَلاَ السُّجُودَ فَقَال لَهُ:
مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 361.
(27/72)
الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَهِيَ رُكْنٌ فِي
جَمِيعِ الأَْرْكَانِ (2) .
ن - تَرْتِيبُ الأَْرْكَانِ:
29 - لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُصَلِّيهَا مُرَتَّبَةً، مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (3) وَعَلَّمَهَا
لِلْمُسِيءِ صَلاَتَهُ مُرَتَّبَةً " بِثُمَّ " وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ
تَبْطُل بِالْحَدَثِ كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا رُكْنًا كَغَيْرِهِ.
وَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي الْفَرَائِضِ فِي أَنْفُسِهَا فَقَطْ. وَأَمَّا
تَرْتِيبُ السُّنَنِ فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ مَعَ الْفَرَائِضِ فَلَيْسَ
بِوَاجِبٍ (4) .
أَرْكَانُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أَرْكَانُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةٌ:
أ - الْقِيَامُ:
30 - وَهُوَ رُكْنٌ فِي فَرْضٍ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَيَشْمَل التَّامَّ
مِنْهُ وَهُوَ: الاِنْتِصَابُ مَعَ الاِعْتِدَال، وَغَيْرَ التَّامِّ
وَهُوَ: الاِنْحِنَاءُ الْقَلِيل بِحَيْثُ لاَ تَنَال يَدَاهُ
رُكْبَتَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَ الْعَاجِزِ عَنْهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا،
وَالْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ هُوَ: كَمَا لَوْ حَصَل لَهُ بِهِ أَلَمٌ
شَدِيدٌ، أَوْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ
__________
(1) حديث حذيفة: أنه رأي رجلا لا يتم ركوعه: أخرجه البخاري (الفتح 2 / 274،
275 ط السلفية) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 164، كشاف القناع 1 / 387،
الإنصاف 2 / 113.
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 18.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 158، كشاف القناع 1 / 389.
(27/72)
أَوْ جُرْحِهِ إِذَا قَامَ، أَوْ يَسْلُسُ
بَوْلُهُ، أَوْ يَبْدُو رُبُعُ عَوْرَتِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنِ
الْقِرَاءَةِ أَصْلاً - أَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ
إِذَا قَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ قُدْرَتِهِ،
وَالْبَاقِي قَاعِدًا، أَوْ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَتَحَتَّمُ
الْقُعُودُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ
حُكْمًا إِذْ لَوْ قَامَ لَزِمَ فَوْتُ الطَّهَارَةِ أَوِ السَّتْرِ أَوِ
الْقِرَاءَةِ أَوِ الصَّوْمِ بِلاَ خُلْفٍ.
ب - الْقِرَاءَةُ:
31 - وَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَمَحَلُّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْفَرْضِ وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ
النَّفْل وَالْوِتْرِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ
ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ. فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى
الْمَفْرُوضِ بِالآْيَةِ التَّامَّةِ طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ (1) } وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ نَظَرَ
(2) } وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (3) } .
وَفِي رِوَايَةٍ: الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَل هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا
يَتَنَاوَلُهُ الاِسْمُ سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ
أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْرُ الْفَرْضِ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ
وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلاَثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو
يُوسُفَ.
__________
(1) سورة الرحمن / 64.
(2) سورة المدثر / 21.
(3) سورة المدثر / 22.
(27/73)
وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا
مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (1) } فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ،
وَيَقُولاَنِ: مُطْلَقُ الْكَلاَمِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ،
وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ
يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً، أَوْ ثَلاَثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ
يَحْتَجُّ بِالآْيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ
قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ مَا
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَسَى أَنْ لاَ يَتَيَسَّرَ إِلاَّ هَذَا
الْقَدْرُ.
وَقَدْ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ سَوَاءٌ
كَانَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لاَ يُحْسِنُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ لاَ يَجُوزُ،
وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَإِلَى قَوْلِهِمَا رَجَعَ أَبُو
حَنِيفَةَ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ
الْفَاتِحَةِ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
ج - الرُّكُوعُ:
32 - وَأَقَلُّهُ طَأْطَأَةُ الرَّأْسِ مَعَ انْحِنَاءِ الظَّهْرِ؛
لأَِنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ
قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا} ، وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: هُوَ
بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ نَال رُكْبَتَيْهِ.
د - السُّجُودُ:
33 - وَيَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَإِنْ قَل، وَوَضْعُ
أَكْثَرِهَا وَاجِبٌ لِلْمُوَاظَبَةِ، كَمَا
__________
(1) سورة المزمل / 20.
(27/73)
يَجِبُ وَضْعُ الأَْنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ،
وَفِي وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ:
الأُْولَى: فَرْضِيَّةُ وَضْعِهِمَا.
وَالثَّانِيَةُ: فَرْضِيَّةُ إِحْدَاهُمَا. وَالثَّالِثَةُ: عَدَمُ
الْفَرْضِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُ سُنَّةٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ
الْمَشْهُورَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ اعْتِمَادُ الْفَرْضِيَّةِ،
وَالأَْرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيل وَالْقَوَاعِدُ عَدَمُ
الْفَرْضِيَّةِ، وَلِذَا قَال فِي الْعِنَايَةِ وَالدُّرَرِ: إِنَّهُ
الْحَقُّ، ثُمَّ الأَْوْجَهُ حَمْل عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى
الْوُجُوبِ.
هـ - الْقَعْدَةُ الأَْخِيرَةُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ:
34 - وَهِيَ مَحَل خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ. فَقَال بَعْضُهُمْ: هِيَ رُكْنٌ
أَصْلِيٌّ. وَقَال بَعْضُهُمْ:
إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لاَ فَرْضٌ، لَكِنِ الْوَاجِبُ - هُنَا - فِي قُوَّةِ
الْفَرْضِ فِي الْعَمَل كَالْوِتْرِ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا فَرْضٌ
وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَل هِيَ شَرْطٌ لِلتَّحْلِيل.
و الْخُرُوجُ بِصُنْعِهِ:
35 - أَيْ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي - فِعْلُهُ الاِخْتِيَارِيُّ - بِأَيِّ
وَجْهٍ كَانَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاجِبُ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ
السَّلاَمِ وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا الْخُرُوجُ بِغَيْرِهِ كَأَنْ يَضْحَكَ
قَهْقَهَةً، أَوْ يُحْدِثَ عَمْدًا، أَوْ يَتَكَلَّمَ، أَوْ يَذْهَبَ،
وَاحْتُرِزَ (بِصُنْعِهِ) عَمَّا لَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا كَأَنْ سَبَقَهُ
الْحَدَثُ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 298، 325، والزيلعي 1 / 125، بدائع الصنائع 1 /
105، وما بعدها، فتح القدير 1 / 238 وما بعدها، الفتاوى الهندية 1 / 69.
(27/74)
36 - قَال الْحَصْكَفِيُّ شَارِحُ
تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: وَبَقِيَ مِنَ الْفُرُوضِ: تَمْيِيزُ
الْمَفْرُوضِ، وَتَرْتِيبُ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ
عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الأَْخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ،
وَإِتْمَامُ الصَّلاَةِ، وَالاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ،
وَمُتَابَعَتُهُ لإِِمَامِهِ فِي الْفُرُوضِ، وَصِحَّةُ صَلاَةِ إِمَامِهِ
فِي رَأْيِهِ، وَعَدَمُ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِ فِي
الْجِهَةِ، وَعَدَمُ تَذَكُّرِ فَائِتَةٍ، وَعَدَمُ مُحَاذَاةِ امْرَأَةٍ
بِشَرْطِهِمَا، وَتَعْدِيل الأَْرْكَانِ عِنْدَ الثَّانِي (وَهُوَ أَبُو
يُوسُفَ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ تَمْيِيزِ الْمَفْرُوضِ، فَفَسَّرَهُ
بَعْضُهُمْ: بِأَنْ يُمَيِّزَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ عَنِ الأُْولَى،
بِأَنْ يَرْفَعَ وَلَوْ قَلِيلاً أَوْ يَكُونَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَب،
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمْيِيزِ تَمْيِيزُ مَا
فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَمَّا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ، حَتَّى
لَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَرْضِيَّةَ الْخَمْسِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ
يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا لاَ يُجْزِيهِ.
وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْبَعْضَ فَرْضٌ وَالْبَعْضَ سُنَّةٌ وَنَوَى
الْفَرْضَ فِي الْكُل، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَنَوَى صَلاَةَ الإِْمَامِ
عِنْدَ اقْتِدَائِهِ فِي الْفَرْضِ جَازَ، وَلَوْ عَلِمَ الْفَرْضَ دُونَ
مَا فِيهِ مِنْ فَرَائِض وَسُنَنٍ جَازَتْ صَلاَتُهُ أَيْضًا؛ فَلَيْسَ
الْمُرَادُ الْمَفْرُوضَ مِنْ أَجْزَاءِ كُل صَلاَةٍ، أَيْ كَأَنْ يَعْلَمَ
أَنَّ الْقِرَاءَةَ
(27/74)
فِيهَا فَرْضٌ وَأَنَّ التَّسْبِيحَ
سُنَّةٌ وَهَكَذَا. وَالْمُرَادُ بِتَرْتِيبِ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ،
وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الأَْخِيرِ عَلَى مَا
قَبْلَهُ، تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ قَامَ لَمْ
يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ، فَإِنْ رَكَعَ ثَانِيًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ؛
لِوُجُودِ التَّرْتِيبِ الْمَفْرُوضِ، وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ
لِتَقْدِيمِهِ الرُّكُوعَ الْمَفْرُوضَ، وَكَذَا تَقْدِيمُ الرُّكُوعِ
عَلَى السُّجُودِ، وَأَمَّا الْقُعُودُ الأَْخِيرُ فَيُفْتَرَضُ إِيقَاعُهُ
بَعْدَ جَمِيعِ الأَْرْكَانِ، حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَهُ سَجْدَةً
صُلْبِيَّةً سَجَدَهَا وَأَعَادَ الْقُعُودَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ
تَذَكَّرَ رُكُوعًا قَضَاهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ السُّجُودِ، أَوْ
قِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً صَلَّى رَكْعَةً.
37 - وَمِنَ الْفَرَائِضِ - أَيْضًا - إِتْمَامُ الصَّلاَةِ،
وَالاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ؛ لأَِنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ
لِلصَّلاَةِ يُوجِبُ ذَلِكَ، إِذْ لاَ وُجُودَ لِلصَّلاَةِ بِدُونِ
إِتْمَامِهَا وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الأَْمْرَيْنِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالإِْتْمَامِ
عَدَمُ الْقَطْعِ. وَبِالاِنْتِقَال الاِنْتِقَال عَنَ الرُّكْنِ
لِلإِْتْيَانِ بِرُكْنٍ بَعْدَهُ إِذْ لاَ يَتَحَقَّقُ مَا بَعْدَهُ إِلاَّ
بِذَلِكَ، وَأَمَّا الاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ بِلاَ فَاصِلٍ
بَيْنَهُمَا فَوَاجِبٌ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ رَكَعَ يَجِبُ عَلَيْهِ
سُجُودُ السَّهْوِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِل مِنَ الْفَرْضِ وَهُوَ
الرُّكُوعُ إِلَى السُّجُودِ، بَل
(27/75)
أَدْخَل بَيْنَهُمَا أَجْنَبِيًّا، وَهُوَ
الرُّكُوعُ الثَّانِي.
وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة) .
وَكَذَا تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ فِي
الصَّلاَةِ عُمُومًا غَيْرَ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، أَمَّا فِي الْجِنَازَةِ
فَهِيَ رُكْنٌ اتِّفَاقًا (1) . تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ) ف 3 (13 218) .
وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ:
قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَقُل بِوَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ سِوَى
الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ تَخْتَلِفُ عَنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
أ - وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
38 - قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ. وَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ
لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى قَوْله تَعَالَى
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (2) } وَالزِّيَادَةُ وَإِنْ
كَانَتْ لاَ تَجُوزُ لَكِنْ يَجِبُ الْعَمَل بِهَا.
وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا. وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ
الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 277، 297، 302.
(2) سورة المزمل / 20.
(27/75)
مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ (1)
وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا لَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا
لِجَهْلِهِ بِالأَْحْكَامِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2) مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ.
ثُمَّ إِنَّ كُل آيَةٍ مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ
بِتَرْكِهَا. وَهَذَا عَلَى قَوْل الإِْمَامِ الْقَائِل إِنَّهَا وَاجِبَةٌ
بِتَمَامِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: فَالْوَاجِبُ أَكْثَرُهَا،
فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ أَكْثَرِهَا لاَ أَقَلِّهَا. قَال
الْحَصْكَفِيُّ: وَهُوَ - أَيْ قَوْل الإِْمَامِ - أَوْلَى، وَعَلَيْهِ
فَكُل آيَةٍ وَاجِبَةٌ.
39 - ضَمُّ أَقْصَرِ سُورَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ - كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ -
أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ قِصَارٍ نَحْوَ قَوْله
تَعَالَى: {ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ
وَاسْتَكْبَرَ (3) } أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ تَعْدِل ثَلاَثَ آيَاتٍ قِصَارٍ،
وَقَدَّرُوهَا بِثَلاَثِينَ حَرْفًا.
وَمَحَل هَذَا الضَّمِّ فِي الأُْولَيَيْنِ مِنَ الْفَرْضِ، وَجَمِيعِ
رَكَعَاتِ النَّفْل وَالْوِتْرِ.
40 - وَيَجِبُ تَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ فِي الأُْولَيَيْنِ عَيْنًا
__________
(1) حديث: " إذا قمت إلي الصلاة فأسبغ الوضوء. . ". . أخرجه مسلم. 1 / 298
- ط الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". تقدم. ف 19.
(3) سورة المدثر / 21 - 23.
(27/76)
مِنَ الْفَرْضِ مِنَ الثُّلاَثِيَّةِ
وَالرُّبَاعِيَّةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي
الْمَذْهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتُونُ، وَهُوَ الْمُصَحَّحُ. وَقِيل:
إِنَّ مَحَل الْقِرَاءَةِ رَكْعَتَانِ مِنَ الْفَرْضِ غَيْرُ عَيْنٍ،
وَكَوْنُهُمَا فِي الأُْولَيَيْنِ أَفْضَل. وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ
فِي وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ إِذَا تَرَكَهَا فِي الأُْولَيَيْنِ أَوْ
فِي إِحْدَاهُمَا سَهْوًا لِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ سَهْوًا عَنْ مَحَلِّهِ،
وَعَلَى الْقَوْل بِالسُّنِّيَّةِ لاَ يَجِبُ.
41 - وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُل السُّورَةِ، حَتَّى
قَالُوا: لَوْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ السُّورَةِ سَاهِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ
يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ السُّورَةَ وَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ،
وَقَيَّدَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِأَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ مَا
يَتَأَدَّى بِهِ رُكْنٌ. وَهُوَ مَا مَال إِلَيْهِ ابْنُ عَابِدِينَ قَال:
لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ تَأْخِيرُ الاِبْتِدَاءِ
بِالْفَاتِحَةِ، وَالتَّأْخِيرُ الْيَسِيرُ وَهُوَ مَا دُونَ رُكْنٍ
مَعْفُوٍّ عَنْهُ.
وَكَذَا يَجِبُ تَرْكُ تَكْرِيرِهَا قَبْل سُورَةِ الأُْولَيَيْنِ، فَلَوْ
قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ مِنَ الأُْولَيَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَجَبَ سُجُودُ
السَّهْوِ؛ لِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ السُّورَةُ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ
قَرَأَ أَكْثَرَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا. أَمَّا لَوْ قَرَأَهَا قَبْل
السُّورَةِ مَرَّةً وَبَعْدَهَا مَرَّةً فَلاَ تَجِبُ؛ لِعَدَمِ
التَّأْخِيرِ؛ لأَِنَّ الرُّكُوعَ لَيْسَ وَاجِبًا بِإِثْرِ السُّورَةِ،
فَإِنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ سُوَرٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ شَيْءٌ.
(27/76)
وَلاَ يَجِبُ تَرْكُ التَّكْرَارِ فِي
الأُْخْرَيَيْنِ؛ لأَِنَّ الاِقْتِصَارَ عَلَى مَرَّةٍ فِي الأُْخْرَيَيْنِ
لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى لاَ يَلْزَمَهُ - سُجُودُ السَّهْوِ بِتَكْرَارِ
الْفَاتِحَةِ فِيهَا سَهْوًا، وَلَوْ تَعَمَّدَهُ لاَ يُكْرَهُ مَا لَمْ
يُؤَدِّ إِلَى التَّطْوِيل عَلَى الْجَمَاعَةِ، أَوْ إِطَالَةِ الرَّكْعَةِ
عَلَى مَا قَبْلَهَا.
42 - رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَفِيمَا
يَتَكَرَّرُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ وَاجِبًا: أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ قَبْل
الْقِرَاءَةِ صَحَّ رُكُوعُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
فِي الرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ مُتَرَتِّبًا عَلَى قِرَاءَةٍ فِي كُل
رَكْعَةٍ، بِخِلاَفِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَثَلاً
فَإِنَّهُ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْل الرُّكُوعِ لَمْ يَصِحَّ
سُجُودُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لأَِنَّ أَصْل السُّجُودِ يُشْتَرَطُ
تَرَتُّبُهُ عَلَى الرُّكُوعِ فِي كُل رَكْعَةٍ كَتَرَتُّبِ الرُّكُوعِ
عَلَى الْقِيَامِ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ لَمْ تُفْرَضْ فِي
جَمِيعِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ بَل فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهُ بِلاَ تَعْيِينٍ.
أَمَّا الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فِي
كُل رَكْعَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ: السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ
مِنْ كُل رَكْعَةٍ وَعَدَدُ الرَّكَعَاتِ. أَمَّا السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ
مِنْ كُل رَكْعَةٍ: فَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا
وَاجِبٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا
فِيمَا بَعْدَهَا مِنْ قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فَإِنَّهُ
يَقْضِيهَا، وَلاَ يَقْضِي مَا فَعَلَهُ قَبْل قَضَائِهَا مِمَّا هُوَ
بَعْدَ رَكْعَتِهَا مِنْ قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ
(27/77)
سُجُودٍ، بَل يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ
فَقَطْ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي لُزُومِ قَضَاءِ مَا إِذَا تَذَكَّرَهَا
فَقَضَاهَا فِيهِ، كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ
أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهُ
يَسْجُدُهَا، وَهَل يُعِيدُ الرُّكُوعَ أَوِ السُّجُودَ الْمُتَذَكَّرَ
فِيهِ؟ .
فَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لاَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ بَل تُسْتَحَبُّ
مُعَلِّلاً بِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَيْنَ مَا يَتَكَرَّرُ
مِنَ الأَْفْعَال، وَفِي الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ يُعِيدُهُ وَإِلاَّ
فَسَدَتْ صَلاَتُهُ؛ مُعَلِّلاً بِأَنَّهُ ارْتُفِضَ بِالْعَوْدِ إِلَى مَا
قَبْلَهُ مِنَ الأَْرْكَانِ، لأَِنَّهُ قَبْل الرَّفْعِ مِنْهُ يَقْبَل
الرَّفْضَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَذَكَّرَ السَّجْدَةَ بَعْدَمَا رَفَعَ
مِنَ الرُّكُوعِ؛ لأَِنَّهُ بَعْدَمَا تَمَّ بِالرَّفْعِ لاَ يَقْبَل
الرَّفْضَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْهِدَايَةِ، وَلَوْ
نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى قَضَاهَا وَلَوْ بَعْدَ
السَّلاَمِ قَبْل إِتْيَانِهِ بِمُفْسِدٍ، لَكِنَّهُ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ
يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ؛ لِبُطْلاَنِ التَّشَهُّدِ
وَالْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ بِالْعَوْدِ إِلَى السَّجْدَةِ؛
لاِشْتِرَاطِهَا التَّرْتِيبَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالتَّرْتِيبِ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا لِلاِحْتِرَازِ عَمَّا قَبْلَهَا مِنْ رَكْعَتِهَا،
فَإِنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ رَكْعَةٍ
وَاحِدَةٍ شَرْطٌ.
وَأَمَّا الرَّكَعَاتُ فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا وَاجِبٌ إِلاَّ
لِضَرُورَةِ الاِقْتِدَاءِ حَيْثُ يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ، فَإِنَّ
الْمَسْبُوقَ يُصَلِّي آخِرَ الرَّكَعَاتِ قَبْل أَوَّلِهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَإِنْ قُلْتَ وُجُوبُ
(27/77)
الشَّيْءِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أَمْكَنَ
ضِدُّهُ، وَعَدَمُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ
فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ كُل رَكْعَةٍ أَتَى بِهَا أَوَّلاً فَهِيَ الأُْولَى،
وَثَانِيًا فَهِيَ الثَّانِيَةُ وَهَكَذَا. فَإِنَّهُ يُمْكِنُ ذَلِكَ
لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الاِعْتِبَارِيَّةِ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا
أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ إِذَا وُجِدَ مَعَهَا مَا يَقْتَضِيهَا، فَإِذَا
صَلَّى مِنَ الْفَرْضِ الرُّبَاعِيِّ رَكْعَتَيْنِ، وَقَصَدَ أَنْ
يَجْعَلَهُمَا الأَْخِيرَتَيْنِ فَهُوَ لَغْوٌ، إِلاَّ إِذَا حَقَّقَ
قَصْدَهُ بِأَنْ تَرَكَ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ، وَقَرَأَ فِيمَا
بَعْدَهُمَا فَحِينَئِذٍ يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ
وُجُوبُ الإِْعَادَةِ وَالإِْثْمِ؛ لِوُجُودِ مَا يَقْتَضِي تِلْكَ
الأَْحْكَامَ وَلِهَذَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ صَلاَةَ الْمَسْبُوقِ غَيْرَ
مُرَتَّبَةٍ مِنْ حَيْثُ الأَْقْوَال، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ عَكْسَ
التَّرْتِيبِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَل مَا يُبْتَنَى عَلَى ذَلِكَ
مِنْ قِرَاءَةٍ وَجَهْرٍ.
كَذَلِكَ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالتَّرْتِيبِ بِأَنْ يَفْعَل مَا يَقْتَضِيَهُ
بِأَنْ يَقْرَأَ أَوَّلاً وَيَجْهَرَ أَوْ يُسِرَّ، وَإِذَا خَالَفَ
يَكُونُ قَدْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ حُكْمًا.
تَعْدِيل الأَْرْكَانِ:
43 - وَهُوَ: تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَأَدْنَاهُ قَدْرُ تَسْبِيحَةٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ
فِي تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شُرِعَ لِتَكْمِيل رُكْنٍ
فَيَكُونُ وَاجِبًا كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. وَفِي تَخْرِيجِ
الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِتَكْمِيل الأَْرْكَانِ
وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ
(27/78)
لِذَاتِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أَخَفَّ الصَّلاَةَ: صَل فَإِنَّكَ لَمْ
تُصَل (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: إِنَّهَا لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى
يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل: فَيَغْسِل
وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ
وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل
وَيَحْمَدَهُ، ثُمَّ يَقْرَأَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ
وَتَيَسَّرَ، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ ثُمَّ يَقُول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَال:
ثُمَّ يُكَبِّرَ فَيَسْجُدَ فَيُمَكِّنَ وَجْهَهُ - أَوْ جَبْهَتَهُ - مِنَ
الأَْرْضِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ، ثُمَّ يُكَبِّرَ
فَيَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدِهِ، وَيُقِيمَ صُلْبَهُ فَوَصْفُ
الصَّلاَةِ هَكَذَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ حَتَّى تَفْرُغَ لاَ تَتِمُّ
صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَل ذَلِكَ (2) .
وَاسْتَدَل عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَ: {ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا (3) } حَيْثُ أَمَرَ بِالرُّكُوعِ، وَهُوَ: الاِنْحِنَاءُ
لُغَةً، وَبِالسُّجُودِ، وَهُوَ:
__________
(1) حديث: " صل فإنك لا تصل ". تقدم ف 20.
(2) حديث رفاعة بن رافع: " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الصلاة ".
أخرجه أبو داود (1 / 537 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) سورة الحج / 77.
(27/78)
الاِنْخِفَاضُ لُغَةً، فَتَتَعَلَّقُ
الرُّكْنِيَّةُ بِالأَْدْنَى مِنْهُمَا.
وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ صَلاَةً. فَقَال لَهُ: إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ
فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ، وَإِنِ انْتَقَصْتَ مِنْهُ شَيْئًا انْتَقَصْتَ
مِنْ صَلاَتِكَ (1) وَلاَ حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي - أَيْضًا -
لأَِنَّ فِيهِ وَضْعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَالثَّنَاءَ
وَالتَّسْمِيعَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ فَرْضًا بِالإِْجْمَاعِ.
وَكَذَا تَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ، وَكَذَا نَفْسُ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالْجُلُوسِ
بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ
وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ حَتَّى قَال: إِنَّهُ الصَّوَابُ؛
لِلْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِلأَْمْرِ فِي حَدِيثِ
الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ، وَلِمَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ مِنْ لُزُومِ سُجُودِ
السَّهْوِ بِتَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ سَاهِيًا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْحَاصِل أَنَّ الأَْصَحَّ رِوَايَةً
وَدِرَايَةً وُجُوبُ تَعْدِيل الأَْرْكَانِ، وَأَمَّا الْقَوْمَةُ
وَالْجِلْسَةُ وَتَعْدِيلُهَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ
السُّنِّيَّةُ، وَرُوِيَ وُجُوبُهَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلأَْدِلَّةِ
وَعَلَيْهِ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ بِفَرْضِيَّةِ الْكُل،
__________
(1) حديث: " إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك ". هو شطر من رواية أخري للحديث
السابق أخرجه الترمذي (3 / 102 - ط الحلبي) وحسن إسنادها.
(27/79)
وَاخْتَارَهُ فِي الْمَجْمَعِ
وَالْعَيْنِيُّ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلاَثَةِ.
وَقَال فِي الْفَيْضِ: إِنَّهُ الأَْحْوَطُ.
44 - الْقُعُودُ الأَْوَّل: يَجِبُ الْقُعُودُ الأَْوَّل قَدْرَ
التَّشَهُّدِ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ وَالثَّلاَثِ، وَلَوْ
فِي النَّفْل فِي الأَْصَحِّ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ فِي افْتِرَاضِهِ
قَعْدَةَ كُل شَفْعٍ نَفْلاً، وَلِلطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ أَنَّهَا
فِي غَيْرِ النَّفْل سُنَّةٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال فِي الْبَدَائِعِ:
وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ السُّنَّةِ، إِمَّا
لأَِنَّ وُجُوبَهُ عُرِفَ بِهَا، أَوْ لأَِنَّ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى
الْوَاجِبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْخِلاَفِ.
45 - التَّشَهُّدَانِ: أَيْ تَشَهُّدُ الْقَعْدَةِ الأُْولَى وَتَشَهُّدُ
الأَْخِيرَةِ، وَيَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِ بَعْضِهِ؛ لأَِنَّهُ
ذِكْرٌ وَاحِدٌ مَنْظُومٌ فَتَرْكُ بَعْضِهِ كَتَرْكِ كُلِّهِ، وَأَفْضَل
صِيَغِ التَّشَهُّدِ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَسَتَأْتِي فِي سُنَنِ الصَّلاَةِ.
46 - السَّلاَمُ: وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهِ وَعَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ
بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال لَهُ حِينَ عَلَّمَهُ
التَّشَهُّدَ: إِذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ
صَلاَتَكَ (1) .
__________
(1) حديث: " إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك ". أخرجه أبو داود (1
/ 593 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (2 / 172 - ط. دائرة المعارف
العثمانية) وأورده الزيلعي في نصب الراية (1 / 424 - ط المجلس العلمي
بالهند) وذكر الخلاف فيه على إثبات كونه موقوفا على ابن مسعود.
(27/79)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَحْدَث الرَّجُل وَقَدْ جَلَسَ فِي
آخِرِ صَلاَتِهِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: إِذَا قَعَدَ
قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَث فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ وَأَمَّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِير،
وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (2) فَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ لاَ يُفِيدُ
الْفَرْضِيَّةَ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا
يُفِيدُ الْوُجُوبَ. ثُمَّ إِنَّهُ يَجِبُ مَرَّتَيْنِ، وَالْوَاجِبُ
مِنْهُ لَفْظُ " السَّلاَمُ " فَقَطْ دُونَ " عَلَيْكُمْ ".
47 - إِتْيَانُ كُل فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ فِي مَحَلِّهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ
عَنْ مَحَلِّهِ سَهْوًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَمِثَال تَأْخِيرِ الْفَرْضِ:
مَا لَوْ أَتَمَّ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ مَكَثَ مُتَفَكِّرًا سَهْوًا ثُمَّ
رَكَعَ.
وَمِثَال تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ: مَا لَوْ تَذَكَّرَ السُّورَةَ
__________
(1) حديث: " إذا أحدث الرجل وقد جلس آخر صلاته. . . ". أخرجه الترمذي (2 /
261 - ط دار الحلبي) وقال: هذا حديث إسناده ليس بذلك القوي، وقد اضطربوا في
إسناده.
(2) حديث: " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ". تقدم تخريجه ف 27.
(27/80)
وَهُوَ رَاكِعٌ فَضَمَّهَا قَائِمًا
وَأَعَادَ الرُّكُوعَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَكَذَا يَجِبُ تَرْكُ تَكْرِيرِ
الرُّكُوعِ وَتَثْلِيثِ السُّجُودِ - لأَِنَّ فِي زِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ
سُجُودٍ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي كُل رَكْعَةٍ
رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ فَقَطْ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ
تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا تَرْكُ وَاجِبٍ آخَرَ،
وَهُوَ إِتْيَانُ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لأَِنَّ تَكْرِيرَ
الرُّكُوعِ فِيهِ تَأْخِيرُ السُّجُودِ عَنْ مَحَلِّهِ وَتَثْلِيثُ
السُّجُودِ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ أَوِ الْقَعْدَةِ، وَكَذَا
الْقَعْدَةُ فِي آخِرِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَوِ الثَّالِثَةِ فَيَجِبُ
تَرْكُهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهَا - أَيْضًا - تَأْخِيرُ الْقِيَامِ
إِلَى الثَّانِيَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ عَنْ مَحَلِّهِ.
وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْقَعْدَةُ طَوِيلَةً، أَمَّا الْجِلْسَةُ
الْخَفِيفَةُ الَّتِي اسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيَّةُ فَتَرْكُهَا غَيْرُ
وَاجِبٍ، بَل هُوَ الأَْفْضَل.
وَهَكَذَا كُل زِيَادَةٍ بَيْنَ فَرْضَيْنِ أَوْ بَيْنَ فَرْضٍ وَوَاجِبٍ
يَكُونُ فِيهَا تَرْكُ وَاجِبٍ بِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَيَلْزَمُ
مِنْهَا تَرْكُ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْفَرْضِ الثَّانِي عَنْ
مَحَلِّهِ. وَيَدْخُل فِي الزِّيَادَةِ السُّكُوتُ، حَتَّى لَوْ شَكَّ
فَتَفَكَّرَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ تَرْكَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ
لِغَيْرِهِ، وَهُوَ إِتْيَانُ كُل وَاجِبٍ أَوْ فَرْضٍ فِي مَحَلِّهِ،
فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَاجِبَ
(27/80)
لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَرْكِ هَذِهِ
الْمَذْكُورَاتِ، فَكَانَ تَرْكُهَا وَاجِبًا لِغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ
يَلْزَمُ مِنَ الإِْخْلاَل بِهَذَا الْوَاجِبِ الإِْخْلاَل بِذَاكَ
الْوَاجِبِ فَهُوَ نَظِيرُ عَدِّهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ الاِنْتِقَال مِنْ
رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ فَإِنَّهُ فَرْضٌ لِغَيْرِهِ.
وَبَقِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ: قِرَاءَةُ قُنُوتِ الْوِتْرِ،
وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ، وَالْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ فِيمَا يُجْهَرُ
فِيهِ وَيُسَرُّ (1) .
وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
ب - وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
48 - تَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَال فِي مَحَلِّهَا: وَمَحَلُّهَا مَا بَيْنَ
بَدْءِ الاِنْتِقَال وَانْتِهَائِهِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى
الأَْشْعَرِيِّ: فَإِذَا كَبَّرَ يَعْنِي الإِْمَامَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا
وَارْكَعُوا. . .، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ، فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا (2)
وَهَذَا أَمْرٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَوْ شَرَعَ الْمُصَلِّي
فِي التَّكْبِيرِ قَبْل انْتِقَالِهِ كَأَنْ يُكَبِّرَ لِلرُّكُوعِ أَوِ
السُّجُودِ قَبْل هُوِيِّهِ إِلَيْهِ، أَوْ كَمَّلَهُ بَعْدَ انْتِهَائِهِ
بِأَنْ كَبَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ وَهُوَ سَاجِدٌ بَعْدَ انْتِهَاءِ
هُوِيِّهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ التَّكْبِيرُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 306 وما بعدها، تبيين الحقائق 1 / 105 وما بعدها
دار المعرفة مصورة من الطبعة الأميرية 1313هـ، فتح القدير 1 / 241 دار
إحياء التراث العربي.
(2) حديث أبي موسي: " فإذا كبر (يعني الإمام) وركع فكبروا واركعوا ". أخرجه
مسلم (1 / 303، 304 - ط. الحلبي) .
(27/81)
يَأْتِ بِهِ فِي مَحَلِّهِ.
وَإِنْ شَرَعَ فِيهِ قَبْلَهُ أَوْ كَمَّلَهُ بَعْدَهُ فَوَقَعَ بَعْضُهُ
خَارِجًا مِنْهُ فَهُوَ كَتَرْكِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُكْمِلْهُ فِي
مَحَلِّهِ فَأَشْبَهَ مَنْ تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهُ رَاكِعًا أَوْ أَخَذَ فِي
التَّشَهُّدِ قَبْل قُعُودِهِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُعْفَى
عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ التَّحَرُّزَ يَعْسُرُ، وَالسَّهْوُ بِهِ يَكْثُرُ
فَفِي الإِْبْطَال بِهِ وَالسُّجُودِ لَهُ مَشَقَّةٌ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَةُ رُكُوعِ مَسْبُوقٍ أَدْرَكَ
إِمَامَهُ رَاكِعًا، فَكَبَّرَ لِلإِْحْرَامِ ثُمَّ رَكَعَ مَعَهُ فَإِنَّ
تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ رُكْنٌ، وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ هُنَا سُنَّةٌ
لِلاِجْتِزَاءِ عَنْهَا بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ. قَالُوا: وَإِنْ نَوَى
تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ
صَلاَتُهُ.
49 - التَّسْمِيعُ: وَهُوَ قَوْل: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) ،
وَهُوَ وَاجِبٌ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ الْمَأْمُومِ؛ لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول ذَلِكَ (1) . {
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبُرَيْدَةَ يَا
بُرَيْدَةُ، إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُل: سَمِعَ
اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ (2) وَيَجِبُ
أَنْ
__________
(1) حديث: " أنه كان يقول سمع الله لمن حمده ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
282 - ط السلفية) ومسلم (1 / 294 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " يا بريدة إذا رفعت رأسك في الركوع. . . ". أخرج الدارقطني (1 /
339 - ط شركة الطباعة الفنية) وضعف إسناده السيوطي في " دفع التشنيع " (ص
27 - ط دار العروبة) .
(27/81)
يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً، فَلَوْ قَال:
مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنَّهُ يَحْمَدُ فَقَطْ فِي حَال رَفْعِهِ مِنَ
الرُّكُوعِ وَلاَ يُسْمِعْ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا
قَال يَعْنِي الإِْمَامَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا:
رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ (1) . 50 - التَّحْمِيدُ: وَهُوَ قَوْل: "
رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ
وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
الْمُتَقَدِّمِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَقُول: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ بِلاَ
وَاوٍ. وَبِالْوَاوِ أَفْضَل، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُول: " اللَّهُمَّ
رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " بِلاَ وَاوٍ. وَأَفْضَل مِنْهُ مَعَ الْوَاوِ،
فَيَقُول: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ".
51 - التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ: وَهُوَ قَوْل: " سُبْحَانَ رَبِّي
الْعَظِيمِ " وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِمَا رَوَى
حُذَيْفَةُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَانَ يَقُول فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ.
وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الأَْعْلَى (2) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. . ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 290 - ط السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط. الحلبي) .
(2) حديث حذيفة: " أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في
ركوعه: سبحان ربي العظيم. " أخرجه الترمذي (2 / 48 - ط الحلبي) وقال: "
حديث حسن صحيح ".
(27/82)
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: لَمَّا
نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ. فَلَمَّا
نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} قَال: اجْعَلُوهَا فِي
سُجُودِكُمْ (1) .
52 - التَّسْبِيحُ فِي السُّجُودِ: وَهُوَ قَوْل: " سُبْحَانَ رَبِّيَ
الأَْعْلَى "، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ
وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
53 - قَوْل: " رَبِّ اغْفِرْ لِي " فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
وَهُوَ وَاجِبٌ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ
وَالْمُنْفَرِدِ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ
لِي (2) قَالُوا: وَإِنْ قَال: " رَبِّ اغْفِرْ لَنَا " أَوِ " اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لَنَا " فَلاَ بَأْسَ.
__________
(1) حديث عقبة ابن عامر: لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) . أخرجه أبو داود
(1 / 542 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 225 - ط دائرة المعارف
العثمانية) وقال الذهبي في أحد رواته: إياس ليس بالمعروف. وقال مرة أخري:
ليس بالقوي. كما في التهذيب لابن حجر (1 / 389 - ط دائرة المعارف
العثمانية) .
(2) حديث حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقول: بين السجدتين. .
. ". أخرجه أبو داود (1 / 544 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(27/82)
54 - التَّشَهُّدُ الأَْوَّل: لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَدَاوَمَ عَلَى
فِعْلِهِ وَأَمَرَ بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ حِينَ نَسِيَهُ. قَالُوا:
وَهَذَا هُوَ الأَْصْل الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ،
لِسُقُوطِهَا بِالسَّهْوِ وَانْجِبَارِهَا بِالسُّجُودِ، وَالْمُجْزِئُ
مِنَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ
أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى
عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ) فَمَنْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ
صَلاَتُهُ، لِلاِتِّفَاقِ عَلَيْهِ فِي كُل الأَْحَادِيثِ.
55 - الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الأَْوَّل: وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ
مَنْ قَامَ إِمَامُهُ سَهْوًا وَلَمْ يُنَبَّهْ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ
حِينَئِذٍ التَّشَهُّدُ الأَْوَّل، وَيُتَابِعُ إِمَامَهُ وُجُوبًا (1) .
أَنْوَاعُ السُّنَنِ فِي الصَّلاَةِ:
56 - قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ - سُنَنَ الصَّلاَةِ بِاعْتِبَارِ تَأَكُّدِهَا
وَعَدَمِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهَا إِلَى نَوْعَيْنِ:
فَقَسَّمَهَا الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: سُنَنٍ وَآدَابٍ، وَالْمَقْصُودُ
بِالسُّنَنِ: هِيَ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ الَّتِي
__________
(1) كشاف القناع 1 / 347 وما بعدها، مطالب أولي النهى1 / 502.
(27/83)
وَاظَبَ عَلَيْهَا الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ
بَعْدِهِ، وَتَرْكُهَا يُوجِبُ الإِْسَاءَةَ، وَالإِْثْمَ إِذَا أَصَرَّ
عَلَى التَّرْكِ.
وَالآْدَابُ: وَهِيَ السُّنَنُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ، وَتَرْكُهَا لاَ
يُوجِبُ إِسَاءَةً وَلاَ عِتَابًا لَكِنْ فِعْلُهَا أَفْضَل.
كَمَا قَسَّمَهَا الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: سُنَنٍ وَمَنْدُوبَاتٍ.
فَالسُّنَنُ: هِيَ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ.
وَالْمَنْدُوبَاتُ: هِيَ السُّنَنُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ وَيُسَمُّونَهَا
- أَيْضًا - نَوَافِل وَفَضَائِل وَمُسْتَحَبَّاتٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَنْقَسِمُ إِلَى: أَبْعَاضٍ، وَهَيْئَاتٍ.
فَالأَْبْعَاضُ: هِيَ السُّنَنُ الْمَجْبُورَةُ بِسُجُودِ السَّهْوِ،
سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَسُمِّيَتْ أَبْعَاضًا
لِتَأَكُّدِ شَأْنِهَا بِالْجَبْرِ تَشْبِيهًا بِالْبَعْضِ حَقِيقَةً،
وَالْهَيْئَاتُ: هِيَ السُّنَنُ الَّتِي لاَ تُجْبَرُ.
وَلَمْ يُقَسِّمْهَا الْحَنَابِلَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ وَإِنَّمَا
قَسَّمُوهَا بِاعْتِبَارِ الْقَوْل وَالْفِعْل، فَهِيَ تَنْقَسِمُ
عِنْدَهُمْ إِلَى: سُنَنِ أَقْوَالٍ، وَسُنَنِ أَفْعَالٍ وَهَيْئَاتٍ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 318، حاشية الدسوقي 1 / 242، 247، حاشية العدوي
على شرح الرسالة 1 / 225، مغني المحتاج 1 / 148، شرح روض الطالب 1 / 140،
كشاف القناع 1 / 390، 385.
(27/83)
سُنَنُ الصَّلاَةِ:
(أ) رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ:
57 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي عِنْدَ
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ
عُمَرَ: أَنَّ رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ
يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ (1) .
وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الرَّفْعِ.
58 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ
أُذُنَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ،
وَبِرُءُوسِ الأَْصَابِعِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ، وَيَسْتَقْبِل بِبُطُونِ
كَفَّيْهِ الْقِبْلَةَ، وَيَنْشُرَ أَصَابِعَهُ وَيَرْفَعَهُمَا، فَإِذَا
اسْتَقَرَّتَا فِي مَوْضِعِ مُحَاذَاةِ الإِْبْهَامَيْنِ شَحْمَتَيِ
الأُْذُنَيْنِ يُكَبِّرُ؛ فَالرَّفْعُ يَكُونُ قَبْل التَّكْبِيرِ.
وَهَذَا فِي الرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا
حِذَاءَ الْمَنْكِبَيْنِ، قَالُوا: وَلاَ يُطَأْطِئُ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ
عِنْدَ التَّكْبِيرِ؛ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ.
وَلَوْ رَفَعَ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُمُّ أَصَابِعَهُ كُل
الضَّمِّ، وَلاَ يُفَرِّجُ كُل التَّفْرِيجِ بَل يَتْرُكُهَا عَلَى مَا
كَانَتْ عَلَيْهِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ حَتَّى
فَرَغَ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو
منكبيه إذا افتتح الصلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 218 - ط السلفية) .
(27/84)
مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَأْتِ بِهِ،
وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرِ رَفَعَ، وَإِنْ لَمْ
يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا قَدْرَ
مَا يُمْكِنُ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى
رَفَعَهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إِلاَّ بِزِيَادَةٍ عَلَى
الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا.
كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوِ اعْتَادَ الْمُصَلِّي تَرْكَ رَفْعِ
الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ،
وَإِثْمُهُ لاَ لِنَفْسِ التَّرْكِ، بَل؛ لأَِنَّهُ اسْتِخْفَافٌ وَعَدَمُ
مُبَالاَةٍ بِسُنَّةٍ وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ عُمُرِهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
الاِسْتِخْفَافُ بِمَعْنَى التَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ، لاَ
بِمَعْنَى الاِسْتِهَانَةِ وَالاِحْتِقَارِ، وَإِلاَّ كَانَ كُفْرًا.
59 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ
عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الإِْحْرَامِ، فَيُكْرَهُ رَفْعُهُمَا قَبْل
التَّكْبِيرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالرَّفْعُ يَكُونُ بِحَيْثُ تَكُونُ ظُهُورُ
يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبُطُونُهُمَا إِلَى الأَْرْضِ وَبِحَيْثُ
يَنْتَهِي رَفْعُهُمَا إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَقِيل: انْتِهَاؤُهَا إِلَى الصَّدْرِ، وَقِيل: يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ
الأُْذُنَيْنِ، وَهُمَا مُقَابِلاَنِ لِلْمَشْهُورِ.
وَتُسَمَّى صِفَةُ هَذَا الرَّفْعِ عِنْدَهُمْ صِفَةَ الرَّاهِبِ - وَهِيَ
الْمَذْهَبُ - وَمُقَابِلُهُ صِفَتَانِ: صِفَةُ الرَّاغِبِ: وَهِيَ بِأَنْ
يَجْعَل بُطُونَ يَدَيْهِ لِلسَّمَاءِ، وَصِفَةُ النَّابِذِ: وَهِيَ أَنْ
يُحَاذِيَ بِكَفَّيْهِ مَنْكِبَيْهِ قَائِمَتَيْنِ وَرُءُوسَ
أَصَابِعِهِمَا مِمَّا
(27/84)
يَلِيَ السَّمَاءَ عَلَى صُورَةِ
النَّابِذِ لِلشَّيْءِ.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْيَدَيْنِ تَكُونُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ فِي
الرَّفْعِ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ حَذْوَ الصَّدْرِ مَا فِي حَدِيثِ
وَائِل بْنِ حُجْرٍ قَال: رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صُدُورِهِمْ
فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ (2) وَالدَّلِيل عَلَى كَوْنِهَا حَذْوَ
الأُْذُنَيْنِ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى بِهِمَا
أُذُنَيْهِ (3) وَهَذَا فِي رَفْعِ الرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَدُونَ
ذَلِكَ إِجْمَاعًا عِنْدَهُمْ، قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ كَشْفُهُمَا عِنْدَ
الإِْحْرَامِ وَإِرْسَالُهُمَا بِوَقَارٍ فَلاَ يَدْفَعُ بِهِمَا
أَمَامَهُ.
وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْفَضَائِل عَلَى
الْمُعْتَمَدِ وَلَيْسَ مِنَ السُّنَنِ.
60 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ الرَّفْعُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ؛
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه. . . ".
تقدم ف (56) .
(2) حديث وائل بن حجر: " رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعوا
أيديهم إلي صدورهم ". أخرجه بمعناه أبو داود (1 / 466 - تحقيق عزت عبيد
دعاس) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه ".
أخرجه مسلم (1 / 292 - ط الحلبي) .
(27/85)
-: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا
افْتَتَحَ الصَّلاَةَ (1) قَالُوا: وَمَعْنَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ: أَنْ
تُحَاذِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أَعْلَى أُذُنَيْهِ، وَإِبْهَامَاهُ
شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، وَرَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ، وَقَال الأَْذْرَعِيُّ:
بَل مَعْنَاهُ كَوْنُ رُءُوسِ أَصَابِعِهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، فَإِنْ
لَمْ يُمْكِنِ الرَّفْعُ إِلاَّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوعِ أَوْ
نَقْصٍ مِنْهُ أَتَى بِالْمُمْكِنِ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ
الإِْتْيَانُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ أَتَى
بِالْمَأْمُورِ وَزِيَادَةٍ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ إِحْدَى يَدَيْهِ رَفَعَ الأُْخْرَى،
وَأَقْطَعُ الْكَفَّيْنِ يَرْفَعُ سَاعِدَيْهِ، وَأَقْطَعُ الْمِرْفَقَيْنِ
يَرْفَعُ عَضُدَيْهِ تَشْبِيهًا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَزَمَنُ الرَّفْعِ
يَكُونُ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ فِي الأَْصَحِّ لِلاِتِّبَاعِ كَمَا
فِي الصَّحِيحَيْنِ، سَوَاءٌ انْتَهَى التَّكْبِيرُ مَعَ الْحَطِّ أَوْ
لاَ.
وَفِي وَجْهٍ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْل التَّكْبِيرِ وَيُكَبِّرُ مَعَ
ابْتِدَاءِ الإِْرْسَال وَيُنْهِيهِ مَعَ انْتِهَائِهِ، وَقِيل: يَرْفَعُ
غَيْرَ مُكَبِّرٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ مُرْتَفِعَتَانِ، فَإِذَا
فَرَغَ أَرْسَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ.
وَإِنْ تَرَكَ الرَّفْعَ حَتَّى شَرَعَ فِي التَّكْبِيرِ أَتَى بِهِ فِي
أَثْنَائِهِ لاَ بَعْدَهُ لِزَوَال سَبَبِهِ.
61 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ حَذْوَ
مَنْكِبَيْهِ بِرُءُوسِهِمَا، وَيَسْتَقْبِل بِبُطُونِهِمَا
__________
(1) حديث ابن عمر رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع
يديه حذو منكبيه. . . ". تقدم ف (57) .
(27/85)
الْقِبْلَةَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ
لِلْمُصَلِّي عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ رَفْعِهِمَا، أَوْ رَفَعَ
إِحْدَاهُمَا إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى
يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ (1) وَتَكُونُ الْيَدَانِ
حَال الرَّفْعِ مَمْدُودَتَيِ الأَْصَابِعِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل فِي الصَّلاَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَدًّا (2)
مَضْمُومَةً؛ لأَِنَّ الأَْصَابِعَ إِذَا ضُمَّتْ تَمْتَدُّ، وَيَكُونُ
ابْتِدَاءُ الرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ
انْتِهَائِهِ؛ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ: رَأَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ
(3) وَلأَِنَّ الرَّفْعَ لِلتَّكْبِيرِ فَكَانَ مَعَهُ، وَإِذَا عَجَزَ
عَنْ رَفْعِ إِحْدَاهُمَا رَفَعَ الْيَدَ الأُْخْرَى. وَلِلْمُصَلِّي أَنْ
يَرْفَعَهُمَا أَقَل مِنْ حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ
لِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ لِحَدِيثِ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا. . . ". تقدم تخريجه
ف (57) .
(2) حديث أبي هريرة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة
يرفع يديه مدا ". أخرجه أبو داود (1 / 479 - تحقيق عزت عبيد دعاس)
والترمذي. 2 / 6 - ط. الحلبي) وحسنه.
(3) حديث وائل بن حجر: " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع
التكبير ". أخرجه أبو داود (1 / 465 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(4) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 13 / 251 - ط السلفية) ومسلم (2 / 975 - ط. الحلبي) من حديث أبي
هريرة.
(27/86)
وَيَسْقُطُ نَدْبُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ
فَرَاغِ التَّكْبِيرِ كُلِّهِ؛ لأَِنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا، وَإِنْ
نَسِيَهُ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَائِهِ
أَتَى بِهِ فِيمَا بَقِيَ لِبَقَاءِ مَحَل الاِسْتِحْبَابِ. وَالأَْفْضَل
أَنْ تَكُونَ يَدَاهُ مَكْشُوفَتَيْنِ؛ لأَِنَّ كَشْفَهُمَا أَدَل عَلَى
الْمَقْصُودِ، وَأَظْهَرُ فِي الْخُضُوعِ (1) .
(ب) الْقَبْضُ (وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى) :
62 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ الْقَبْضَ، وَهُوَ:
وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُنْدَبُ الإِْرْسَال
وَكَرَاهَةُ الْقَبْضِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ. وَجَوَّزُوهُ فِي النَّفْل
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْسَال) ف 4 (3 94) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ، وَمَكَانِ
وَضْعِ الْيَدَيْنِ.
كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ:
63 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ بَيْنَ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الرَّجُل يَأْخُذُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 319، الفتاوى الهندية 1 / 73، حاشية الدسوقي 1 /
247، الفواكه الدواني 1 / 205، حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 227، مغني
المحتاج 1 / 152، كشاف القناع 1 / 333.
(27/86)
بِيَدِهِ الْيُمْنَى رُسْغَ الْيُسْرَى
بِحَيْثُ يُحَلِّقُ الْخِنْصَرُ وَالإِْبْهَامُ عَلَى الرُّسْغِ وَيَبْسُطُ
الأَْصَابِعَ الثَّلاَثَ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: يُحَلِّقُ إِبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنَصْرِهِ
وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ عَلَى مِعْصَمِهِ، وَأَمَّا
الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَضَعُ الْكَفَّ عَلَى الْكَفِّ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْبِضُ
بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِ الْيُسْرَى، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَقْبِضُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِ
الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَبَعْضِ السَّاعِدِ، وَيَبْسُطُ أَصَابِعَهَا فِي
عَرْضِ الْمَفْصِل أَوْ يَنْشُرُهَا صَوْبَ السَّاعِدِ؛ لِمَا رَوَى وَائِل
بْنُ حُجْرٍ قَال: قُلْتُ لأََنْظُرَنَّ إِلَى صَلاَةِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ
وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ
وَالسَّاعِدِ (2) .
مَكَانُ الْوَضْعِ:
64 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَكَانَ وَضْعِ
الْيَدَيْنِ تَحْتَ السُّرَّةِ، فَيُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَضَعَهُمَا
تَحْتَ سُرَّتِهِ، لِقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع اليمنى على اليسرى ". أخرجه
مسلم (1 / 103 - ط الحلبي) من حديث وائل ابن حجر.
(2) حديث وائل بن حجر: " قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ". أخرجه أبو داود (1 / 456 - 466 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(27/87)
-: مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى
الْكَفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ (1) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَمَعْنَى وَضْعِ كَفِّهِ الأَْيْمَنِ عَلَى كُوعِهِ
الأَْيْسَرِ وَجَعْلُهَا تَحْتَ سُرَّتِهِ أَنَّ فَاعِل ذَلِكَ ذُو ذُلٍّ
بَيْنَ يَدَيْ ذِي عِزٍّ، وَنَقَلُوا نَصَّ الإِْمَامِ أَحْمَدَ عَلَى
كَرَاهَةِ جَعْل يَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ. لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ خَصُّوا
هَذَا بِالرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى صَدْرِهَا
عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ وَضْعُ الْيَدَيْنِ تَحْتَ
الصَّدْرِ وَفَوْقَ السُّرَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي
الْقَبْضِ فِي النَّفْل، لِحَدِيثِ وَائِل بْنِ حُجْرٍ: صَلَّيْتُ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى
عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ (2) قَالُوا: أَيْ آخِرُهُ
فَتَكُونُ الْيَدُ تَحْتَهُ بِقَرِينَةِ رِوَايَةِ (تَحْتَ صَدْرِهِ) ،
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِهِمَا تَحْتَ صَدْرِهِ: أَنْ يَكُونَ فَوْقَ
أَشْرَفِ الأَْعْضَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ، فَإِنَّهُ تَحْتَ الصَّدْرِ.
قَال الإِْمَامُ: وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ
__________
(1) قول علي: " من السنة وضع الكف على الكف تحت السرة ". أخرجه أبو داود (1
/ 480 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال الزيلعي: في نصب الراية (1 / 314 - ط
المجلس العلمي بالهند) : قال البيهقي في المعرفة: لا يثبت إسناده، تفرد به
عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك
(2) حديث وائل: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى علي
اليسرى على صدره ". أخرجه ابن خزيمة (1 / 243 - ط المكتب الإسلامي) وفي
إسناده ضعف، ولكن له طرق أخر يتقوى بها.
(27/87)
تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ، فَإِنْ
أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ بِهِمَا فَلاَ بَأْسَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
فِي الأُْمِّ (1) .
(ج) دُعَاءُ الاِسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذُ وَالْبَسْمَلَةُ:
65 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ دُعَاءَ
الاِسْتِفْتَاحِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ. لِحَدِيثِ عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ قَال:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى
جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ (2) ، وَلِمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ لِلصَّلاَةِ قَال:
وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ حَنِيفًا
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 320، 327، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 /
250، بلغة السالك 1 / 246 ط. عيسي الحلبي مغني المحتاج 1 / 181، شرح روض
الطالب 1 / 145، والمجموعة 3 / 310 المكتبة السلفية المدينة المنورة كشاف
القناع 1 / 333، 391.
(2) حديث عائشة: كان إذا استفتح الصلاة قال: (سبحانك اللهم وبحمدك) . أخرجه
أبو داود (1 / 491 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ثم أشار إلي إعلاله. ولكن له طرق
أخري يتقوى بها ذكرها ابن حجر في التلخيص الحبير (1 / 229 - ط. شركة
الطباعة الفنية) .
(27/88)
أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ.
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي
جَمِيعًا، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي
لأَِحْسَنِ الأَْخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَِحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ.
وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ
أَنْتَ. لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ،
وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ
وَتَعَالَيْتَ وَأَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ (1) . وَقَدْ وَرَدَ
فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ صِيَغٌ كَثِيرَةٌ فِي دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ
غَيْرَ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ؛
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِالْحَمْدِ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) وَحَدِيثِ: " الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ "
وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِفْتَاحٌ (3) .
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ فِي مُصْطَلَحِ:
اسْتِفْتَاحٌ (4 211) .
__________
(1) حديث علي ابن أبي طالب: أنه إذا قام للصلاة قال: " وجهت وجهي للذي فطر
السموات والأرض ". أخرجه مسلم (1 / 534 - 535 - ط الحلبي) .
(2) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر
يفتتحون الصلاة. . . ". أورده ابن عبد البر في كتابه الإنصاف (2 / 163 -
ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) وذكر تضعيف أحد رواته.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 328، حاشية الدسوقي 1 / 252، مغني المحتاج 1 /
155، كشاف القناع 1 / 344، المجموعة 3 / 315.
(27/88)
أَمَّا التَّعَوُّذُ بَعْدَ دُعَاءِ
الاِسْتِفْتَاحِ وَقَبْل الْقِرَاءَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (1) } .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَتِهِ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْل
(2) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: اسْتِعَاذَةٌ ف 18 وَمَا بَعْدَهَا (4
11) .
أَمَّا الْبَسْمَلَةُ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: بَسْمَلَةٌ ف 5 (8 86) .
(د) قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ:
66 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ
شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي يَحْصُل بِهَا أَصْل
السُّنَّةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى حُصُول السُّنَّةِ بِقِرَاءَةِ
مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَلَوْ آيَةً - سَوَاءٌ كَانَتْ طَوِيلَةً
أَمْ قَصِيرَةً كَ {مُدْهَامَّتَانِ} - كَمَا تَحْصُل السُّنَّةُ
بِقِرَاءَةِ بَعْضِ آيَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا مَعْنًى تَامٌّ فِي كُل
رَكْعَةٍ بِانْفِرَادِهَا، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً
كَامِلَةً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُصُول
__________
(1) سورة النحل / 98.
(2) ابن عابدين 1 / 328، الدسوقي 1 / 251، مغني المحتاج 1 / 156، كشاف
القناع 1 / 335.
(27/89)
السُّنَّةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَاسْتَحَبَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ أَنْ تَكُونَ الآْيَةُ طَوِيلَةً:
كَآيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ لِتُشْبِهَ بَعْضَ السُّوَرِ
الْقِصَارِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ إِجْزَاءِ آيَةٍ لاَ تَسْتَقِل
بِمَعْنًى أَوْ حُكْمٍ نَحْوَ {ثُمَّ نَظَرَ} ، أَوْ {مُدْهَامَّتَانِ} .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالأَْوْلَى أَنْ تَكُونَ ثَلاَثَ آيَاتٍ لِتَكُونَ
قَدْرَ أَقْصَرِ سُورَةٍ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ السُّورَةَ
الْكَامِلَةَ أَفْضَل، وَأَنَّهُ لاَ تُجْزِئُهُ السُّورَةُ مَا لَوْ
قَرَأَهَا قَبْل الْفَاتِحَةِ؛ لِعَدَمِ وُقُوعِهَا مَوْقِعَهَا، وَصَرَّحَ
الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ تَكْرَارُ الْفَاتِحَةِ عَنَ
السُّورَةِ؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ؛ وَلأَِنَّ
الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لاَ يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ وَنَفْلٌ فِي مَحَلٍّ
وَاحِدٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يُحْسِنُ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ
وَأَعَادَهَا فَإِنَّهُ يُتَّجَهُ - كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ -
الإِْجْزَاءُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي
أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ بِطِوَال الْمُفَصَّل. لِحَدِيثِ
جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وَنَحْوِهَا،
وَكَانَتْ صَلاَتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا (1) .
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الظُّهْرِ فَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ
__________
(1) حديث جابر بن سمرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ
" ق ". أخرجه مسلم (1 / 33 - ط الحلبي) .
(27/89)
لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ فِي الظُّهْرِ
بِطِوَال الْمُفَصَّل؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
الأُْولَيَيْنِ فِي كُل رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلاَثِينَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي
الظُّهْرِ تَكُونُ دُونَ قِرَاءَةِ الْفَجْرِ قَلِيلاً.
قَال الدُّسُوقِيُّ: يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ أَطْوَل طِوَال
الْمُفَصَّل، وَفِي الظُّهْرِ مِنْ أَقْصَرِ طِوَال الْمُفَصَّل.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ مِنْ
أَوْسَاطِ الْمُفَصَّل؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي
مُوسَى " أَنِ اقْرَأْ فِي الصُّبْحِ بِطِوَال الْمُفَصَّل، وَاقْرَأْ فِي
الظُّهْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل، وَاقْرَأْ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ
الْمُفَصَّل.
وَأَمَّا صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَقْرَأُ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّل.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ
الْمُفَصَّل وَفِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِهِ؛ لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ
يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ
أَشْبَهَ صَلاَةً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
فُلاَنٍ. قَال سُلَيْمَانُ: كَانَ يُطِيل
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة
الظهر ". أخرجه مسلم (1 / 334 / ط الحلبي) .
(27/90)
الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فِي
الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الأُْخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ،
وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّل، وَيَقْرَأُ فِي
الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَال
الْمُفَصَّل (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي بَيَانِ الْمُفَصَّل طِوَالِهِ وَأَوْسَاطِهِ وَقِصَارِهِ
(2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُورَةٌ، وَقِرَاءَةٌ)
مَحَل الْقِرَاءَةِ:
67 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَل الْقِرَاءَةِ الْمَسْنُونَةِ
هُوَ الرَّكْعَتَانِ الأُْولَيَانِ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ؛ لِحَدِيثِ
أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
الأُْولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَسُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الآْيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (3) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنَّمَا تُسَنُّ السُّورَةُ فِي
__________
(1) حديث: أبي هريرة: " ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله
عليه وسلم. . ". أخرجه النسائي (2 / 167 - ط المكتبة التجارية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 362، تبيين الحقائق 1 / 129، حاشية الدسوقي 1 /
242، 247، مغني المحتاج 1 / 161، شرح روض الطالب 1 / 154، المجموعة 3 /
382، كشاف القناع 1 / 342، مطالب أولي النهى 1 / 435.
(3) حديث أبي قتادة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين
الأوليين. . ". أخرجه مسلم (1 / 333 - ط الحلبي) .
(27/90)
الْفَرْضِ الْوَقْتِيِّ الْمُتَّسِعِ
وَقْتَهُ، أَمَّا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ يَخْشَى خُرُوجَهُ
بِقِرَاءَتِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ مُحَافَظَةً
عَلَى الْوَقْتِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل مَحَل الْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ النَّفْل فِي
مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ التَّطَوُّعِ) وَقِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ فِي (صَلاَةُ
الْجَمَاعَةِ) .
كَمَا يُسَنُّ تَطْوِيل الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَلَى
الثَّانِيَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ -
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تُسَنُّ إِطَالَةُ
الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي صَلاَةِ
الْفَجْرِ فَقَطْ دُونَ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَلاَ
تُسَنُّ إِطَالَتُهَا (1) .
(هـ) التَّأْمِينُ:
68 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ بَعْدَ قِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا قَال
الإِْمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}
فَقُولُوا آمِينَ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْل الْمَلاَئِكَةِ
غُفِرَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 364، تبيين الحقائق 1 / 130، حاشية الدسوقي 1 / 247،
مغني المحتاج 1 / 182.
(2) حديث أبي هريرة: " إذا قال الإمام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) .
فقولوا آمين. . . ". أخرجه البخاري، (الفتح2 / 266 - ط السلفية) .
(27/91)
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَأْتِي بِالتَّأْمِينِ بَعْدَ
سَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ لِيَتَمَيَّزَ عَنَ الْقِرَاءَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا
لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا هِيَ طَابَعُ الدُّعَاءِ.
وَقَالُوا: لاَ يَفُوتُ التَّأْمِينُ إِلاَّ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ،
فَإِنْ تَرَكَ الْمُصَلِّي التَّأْمِينَ حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ
السُّورَةِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا،
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِفَوَاتِهِ بِالرُّكُوعِ.
ثُمَّ إِنَّ التَّأْمِينَ سُنَّةٌ لِلْمُصَلِّي - عُمُومًا - سَوَاءٌ كَانَ
إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ
مِنْ ذَلِكَ الإِْمَامَ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لاَ
يُنْدَبُ لَهُ التَّأْمِينُ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ إِنْ لَمْ يَسْمَعْ
إِمَامَهُ يَقُول: {وَلاَ الضَّالِّينَ} وَإِنْ سَمِعَ مَا قَبْلَهُ،
وَنَصُّوا عَلَى كَرَاهَتِهِ حِينَئِذٍ وَلاَ يَتَحَرَّى عَلَى
الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ تَحَرَّى لِرُبَّمَا أَوْقَعَهُ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ، وَلَرُبَّمَا صَادَفَ آيَةَ عَذَابٍ، وَمُقَابِلُهُ
يَتَحَرَّى، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبْدُوسٍ.
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَأْتِيَ
الْمُصَلِّي بِالتَّأْمِينِ سِرًّا سَوَاءٌ كَانَ إِمَامًا أَمْ مَأْمُومًا
أَمْ مُنْفَرِدًا؛ فَالإِْتْيَانُ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ، وَالإِْسْرَارُ
بِهَا سُنَّةٌ أُخْرَى، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَعَلَى هَذَا فَتَحْصُل
سُنِّيَّةُ الإِْتْيَانِ بِهَا وَلَوْ مَعَ الْجَهْرِ بِهَا.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، وَالأَْصْل فِيهِ الإِْخْفَاءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ
(27/91)
وَالْمَأْمُومَ وَالْمُنْفَرِدَ
يَجْهَرُونَ بِالتَّأْمِينِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ وَيُسِرُّونَ
بِهِ فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ.
وَصَرَّحُوا: بِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الإِْمَامُ التَّأْمِينَ، أَوْ
أَسَرَّهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَتَى بِهِ الْمَأْمُومُ لِيُذَكِّرَهُ
فَيَأْتِيَ بِهِ (1) .
(و) تَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَال:
69 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال سُنَّةٌ مِنْ
سُنَنِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ: " الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ " فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ
بِتَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ وَأَمَرَهُ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال مِنَ
الْوَاجِبَاتِ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَكْبِيرٌ) .
(ز) هَيْئَةُ الرُّكُوعِ الْمَسْنُونَةُ:
70 - أَقَل الْوَاجِبِ فِي الرُّكُوعِ: أَنْ يَنْحَنِيَ قَدْرَ بُلُوغِ
رَاحَتَيْهِ رُكْبَتَيْهِ، وَكَمَال السُّنَّةِ فِيهِ: أَنْ يُسَوِّيَ
ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَعَجُزَهُ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَفَخِذَيْهِ،
وَيَأْخُذَ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ مُعْتَمِدًا بِالْيَدَيْنِ عَلَى
الرُّكْبَتَيْنِ، مُفَرِّقًا أَصَابِعَهُ، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ
جَنْبَيْهِ.
لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ رَكَعَ فَجَافَى يَدَيْهِ،
وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 320، 331، الخرشي على خليل 1 / 282، حاشية
الدسوقي 1 / 248، مغني المحتاج 1 / 160، كشاف القناع 1 / 339.
(27/92)
أَصَابِعِهِ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ
وَقَال: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُصَلِّي (1) .
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلْصَاقَ الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَصُّوا
هَذِهِ الْهَيْئَةَ بِالرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَنْحَنِي فِي
الرُّكُوعِ يَسِيرًا، وَلاَ تُفَرِّجُ، وَلَكِنْ تَضُمُّ وَتَضَعُ
يَدَيْهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَضْعًا، وَتَحْنِي رُكْبَتَيْهَا، وَلاَ
تُجَافِي عَضُدَيْهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا.
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) ، وَسَبَقَ تَفْصِيل هَيْئَاتِ
الرُّكُوعِ وَأَذْكَارِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ) .
(ح) التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ:
71 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى سُنِّيَّةِ التَّسْمِيعِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ
الرُّكُوعِ، وَالتَّحْمِيدِ عِنْدَ الاِسْتِوَاءِ قَائِمًا.
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّسْمِيعُ فَقَطْ، أَمَّا
التَّحْمِيدُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى
وُجُوبِ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي
وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُصَلِّي الَّذِي يُسَنُّ
لَهُ التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حديث عقبه بن عمرو " أنه ركع فجافى يديه. . . ". أخرجه أحمد (4 / 120 -
ط الميمنية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 332، حاشية الدسوقي 1 / 239، مغني المحتاج 1 /
164، كشاف القناع 1 / 346.
(27/92)
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ
يُسَمِّعُ فَقَطْ، وَالْمَأْمُومَ يَحْمَدُ فَقَطْ، وَالْمُنْفَرِدُ
يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَحْمَدُ الإِْمَامُ وَلاَ يُسَمِّعُ
الْمَأْمُومُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا
قَال الإِْمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا
لَكَ الْحَمْدُ (1) فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ
بَيْنَهُمَا، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَالإِْمَامُ مُخَاطَبٌ بِسُنَّةٍ فَقَطْ،
وَالْمَأْمُومُ مُخَاطَبٌ بِمَنْدُوبٍ فَقَطْ، وَالْفَذُّ مُخَاطَبٌ
بِسُنَّةٍ وَمَنْدُوبٍ وَخَالَفَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، فَذَهَبَا
إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا
(2) ؛ وَلأَِنَّهُ حَرَّضَ غَيْرَهُ فَلاَ يَنْسَى نَفْسَهُ قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: الْمُتُونُ عَلَى قَوْل الإِْمَامِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ أَفْضَل صِيَغِ التَّحْمِيدِ:
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: ثُمَّ
اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده. . ". أخرجه
البخاري (الفتح 2 / 290 - ط السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط الحلبي) .
(2) حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين التسميع
والتحميد ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 272 - ط السلفية) ومسلم (1 / 294 -
ط. الحلبي) .
(27/93)
الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
وَصِيغَةُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ هِيَ مَا اخْتَارَهُ
الإِْمَامُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ:
اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَعِنْدَهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ:
رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَرَابِعَةٌ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ سُنَّةٌ
لِلْجَمِيعِ: الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَصَرَّحُوا
بِأَنَّ أَفْضَل صِيَغِ التَّحْمِيدِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ لِوُرُودِ
السُّنَّةِ بِهِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَكِنْ قَال فِي الأُْمِّ: رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ أَحَبُّ إِلَيَّ، أَيْ لأَِنَّهُ جَمَعَ مَعْنَيَيْنِ:
الدُّعَاءَ وَالاِعْتِرَافَ. أَيْ رَبَّنَا اسْتَجِبْ لَنَا، وَلَكَ
الْحَمْدُ عَلَى هِدَايَتِكَ إِيَّانَا.
قَالُوا: وَلَوْ قَال: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ كَفَى فِي
تَأْدِيَةِ أَصْل السُّنَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى،
لَكِنَّ التَّرْتِيبَ أَفْضَل.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ
وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ الْمَأْمُومِ، وَالتَّحْمِيدَ وَاجِبٌ عَلَى
الْجَمِيعِ - إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ - وَأَفْضَل صِيَغِ
التَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا لَكَ
الْحَمْدُ. قَالُوا: وَإِنْ شَاءَ قَال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ
الْحَمْدُ، وَأَفْضَل مِنْهُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ،
وَلَوْ قَال: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ
(27/93)
سَمِعَ لَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، لِتَغْيِيرِ
الْمَعْنَى (1) .
الأَْذْكَارُ الْوَارِدَةُ فِي الاِسْتِوَاءِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ
الرُّكُوعِ:
72 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ
لِلْمُصَلِّي بَعْدَ التَّحْمِيدِ أَنْ يَقُول: " مِلْءَ السَّمَاوَاتِ
وَمِلْءَ الأَْرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " لِمَا رَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَال: سَمِعَ
اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ
السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الأَْرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ
(2) .
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ: " أَهْل الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَال
الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ
مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ "؛
لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ. قَال
اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ
وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْل الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ.
أَحَقُّ مَا قَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 334، تبيين الحقائق 1 / 115، حاشية الدسوقي 1 /
243، فواكه الدواني 1 / 209، مغني المحتاج 1 / 165، شرح روض الطالب 1 /
158، كشاف القناع 1 / 348، 390، مطالب أولي النهى 1 / 446.
(2) حديث عبد الله بن أبي أوفى: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع
ظهره من الركوع. . . ". أخرجه مسلم (1 / 346 - ط الحلبي)
(27/94)
الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ -
اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ،
وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُول غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا
وَرَدَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول، وَفِي لَفْظٍ:
يَدْعُو إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ
مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَْرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ
بَعْدُ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ
الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا
يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ زِيَادَةِ: حَمْدًا كَثِيرًا
طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ (3) . لِحَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَال:
كُنَّا نُصَلِّي يَوْمًا وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَال: سَمِعَ اللَّهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ، قَال رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ
حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال:
مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَال: أَنَا، قَال: لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً
وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّل (4) .
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع
رأسه من الركوع. . . ". أخرجه مسلم (1 / 347 - ط الحلبي) .
(2) حديث عبد الله ابن أبي أوفى أخرجه مسلم (1 / 346 - 347 - ط. الحلبي) .
(3) مغني المحتاج 1 / 166، كشاف القناع 1 / 348.
(4) حديث رفاعة بن أبي رافع: " كنا نصلي يوما وراء النبي صلى الله عليه
وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 284 - ط السلفية) .
(27/94)
ح م) رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ
وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَالْقِيَامُ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ:
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ
الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ
الأَْوَّل لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ
الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ؛ لِمَا
رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي
الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ
يَفْعَل ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَفْعَل ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ (1) . وَعَنِ الْحَسَنِ: " أَنَّ أَصْحَابَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
(2) ".
وَكَانَ عُمَرُ " إِذَا رَأَى رَجُلاً لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَصَّبَهُ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ.
قَال الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ سَبْعَةَ عَشْرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ
يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَدَمُ الرَّفْعِ.
وَقَال السُّيُوطِيُّ: الرَّفْعُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث ابن عمر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة
رفع يديه ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 219 - ط السلفية) .
(2) قول الحسن: " أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك ".
أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين. ص 80 - ط إدارة العلوم الأثرية -
باكستان) .
(27/95)
مِنْ رِوَايَةِ خَمْسِينَ صَحَابِيًّا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ
عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ
رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَل فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ،
وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَال سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ
يَدَيْهِ. وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ هِيَ عَدَمُ الرَّفْعِ.
قَال فِي الإِْنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ
الأَْصْحَابِ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ
رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلاَّ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَلاَ
يُشْرَعُ رَفْعُهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ أَوِ الرَّفْعِ مِنْهُ، أَوِ
الْقِيَامِ لِلثَّالِثَةِ. لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، ثُمَّ لَمْ
يَرْفَعْهُمَا حَتَّى انْصَرَفَ (2) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال:
خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال:
__________
(1) حديث: " أن ابن عمر كان إذا دخل الصلاة كبر ورفع يديه ". أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 222 - ط السلفية) .
(2) حديث البراء: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين افتتح
الصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 479 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ثم قال:
هذا الحديث ليس بصحيح.
(27/95)
مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ
كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْل شُمْسٍ، اسْكُنُوا فِي الصَّلاَةِ (1) وَقَال
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَلاَ
أُصَلِّي بِكُمْ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَلَّى وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ فِي أَوَّل مَرَّةٍ (2) .
(ط) كَيْفِيَّةُ الْهُوِيِّ لِلسُّجُودِ وَالنُّهُوضِ مِنْهُ:
74 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ الْهُوِيِّ إِلَى
السُّجُودِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي رُكْبَتَيْهِ أَوَّلاً، ثُمَّ
يَدَيْهِ، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ؛ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْل يَدَيْهِ، وَإِذَا
نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْل رُكْبَتَيْهِ (3) قَال التِّرْمِذِيُّ:
وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ.
وَلأَِنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ أَرْفَقُ بِالْمُصَلِّي. وَأَحْسَنُ
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " مالي أراكم رافعي أيديكم ". أخرجه مسلم (1 / 122
- ط الحلبي) .
(2) تبيين الحقائق 1 / 120 وحاشية الدسوقي 1 / 247 ومغني المحتاج 1 / 164
والشرقاوي على التحرير 1 / 198، 209 كشاف القناع 1 / 346، 363 وحديث عبد
الله بن مسعود: " ألا أصلي بكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه الترمذي (2 / 40 - ط الحلبي) وضعفه غير واحد كما في " التلخيص الحبير
" لابن حجر (1 / 222 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث وائل بن حجر: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع ركبتيه
قبل يديه. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 56 - ط. الحلبي) والدارقطني (1 / 345
- ط شركة الطباعة الفنية) وأشار الدارقطني إلي إعلاله.
(27/96)
فِي الشَّكْل وَرَأْيِ الْعَيْنِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَضَعُ جَبْهَتَهُ ثُمَّ
أَنْفَهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ. وَعِنْدَ
النُّهُوضِ مِنَ السُّجُودِ يُسَنُّ الْعَكْسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْفَعَ جَبْهَتَهُ أَوَّلاً ثُمَّ
يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ لِحَدِيثِ وَائِل بْنِ حُجْرٍ الْمُتَقَدِّمِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ؛ لِكِبَرٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سِمَنٍ وَنَحْوِهِ،
فَيَعْتَمِدُ بِالأَْرْضِ، لِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ عَلِيٍّ قَال:
مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ إِذَا نَهَضَ أَنْ لاَ
يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا
كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي
قِيَامِهِ مِنَ السُّجُودِ عَلَى يَدَيْهِ، مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى
الأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ خُشُوعًا وَتَوَاضُعًا، وَأَعْوَنُ
لِلْمُصَلِّي، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَدْبِ تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ
الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ، وَتَأْخِيرِهِمَا عِنْدَ الْقِيَامِ، لِمَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلاَ
يَبْرُكُ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْل
رُكْبَتَيْهِ (1) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا سجد أحدكم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 525 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال النووي في المجموعة (3 / 421 - ط. المنيرية) :
إسناده جيد.
(27/96)
قَالُوا: وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ
لاَ يُقَدِّمُ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ هَوِيِّهِ لِلسُّجُودِ كَمَا
يُقَدِّمُهُمَا الْبَعِيرُ عِنْدَ بُرُوكِهِ، وَلاَ يُؤَخِّرُهُمَا فِي
الْقِيَامِ كَمَا يُؤَخِّرُهُمَا الْبَعِيرُ فِي قِيَامِهِ (1) .
(ى) هَيْئَةُ السُّجُودِ الْمَسْنُونَةُ:
75 - كَيْفِيَّةُ السُّجُودِ الْمَسْنُونَةُ: أَنْ يَسْجُدَ الْمُصَلِّي
عَلَى الأَْعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الأَْنْفِ،
وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ - مُمَكِّنًا جَبْهَتَهُ
وَأَنْفَهُ مِنَ الأَْرْضِ، وَيَنْشُرَ أَصَابِع يَدَيْهِ مَضْمُومَةً
لِلْقِبْلَةِ، وَيُفَرِّقَ رُكْبَتَيْهِ، وَيَرْفَعَ بَطْنَهُ عَنْ
فَخِذَيْهِ، وَفَخِذَيْهِ عَنْ سَاقَيْهِ، وَيُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ
جَنْبَيْهِ، وَيَسْتَقْبِل بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى الأَْرْكَانِ (2)
.
(ك) التَّشَهُّدُ الأَْوَّل وَقُعُودُهُ:
76 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ
التَّشَهُّدِ الأَْوَّل وَقُعُودِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ
مِنَ الظُّهْرِ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ كَبَّرَ وَهُوَ
جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْل السَّلاَمِ ثُمَّ سَلَّمَ (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 335، حاشية الدسوقي 1 / 250، تبيين الحقائق 1 /
116، مغني المحتاج 1 / 170، كشاف القناع 1 / 350.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 339 وحاشية الدسوقي 1 / 249 ومغني المحتاج 1 /
170 وكشاف القناع 1 / 335.
(3) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس
". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 92 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 339 - ط. الحلبي)
.
(27/97)
فَدَل عَدَمُ تَدَارُكِهِمَا عَلَى عَدَمِ
وُجُوبِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِهِمَا كَمَا سَبَقَ
فِي وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ (1) .
(ل) صِيغَةُ التَّشَهُّدِ:
77 - سَبَقَ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ؛ فَهُوَ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رُكْنٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَاجِبٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا - أَيْضًا - فِي
صِيغَتِهِ الْمَسْنُونَةِ. (ر: تَشَهُّدٌ) .
(م) الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
التَّشَهُّدِ (الصَّلاَةُ الإِْبْرَاهِيمِيَّةُ)
78 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ
الأَْخِيرِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فِي أَنَّ
الْمَشْهُورَ: هَل هِيَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ؟
وَأَفْضَل صِيَغِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آل
إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 312، حاشية الدسوقي 1 / 243، مغني المحتاج 1 /
172، كشاف القناع 1 / 347.
(27/97)
إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ فِي
الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَهِيَ - أَيْضًا - أَفْضَل صِيَغِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
لَكِنْ بِحَذْفِ (إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) الأُْولَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ
الأَْخِيرِ رُكْنٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَقَدْ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ بِصِيغَةِ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (1)
، وَهِيَ أَفْضَل الصِّيَغِ عِنْدَهُمْ. وَلَكِنْ يَتَحَقَّقُ رُكْنُ
الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْل:
(اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِبْدَال آلٍ بِأَهْلٍ؛ لأَِنَّ أَهْل
الرَّجُل أَقَارِبُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، وَآلَهُ أَتْبَاعُهُ عَلَى دِينِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَل الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ: اللَّهُمَّ
صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَالسُّنَّةُ:
اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ
عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى
__________
(1) حديث كعب بن عجرة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه
البخاري (الفتح 11 / 152 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 305 - ط الحلبي) بلفظ: "
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك
فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. كما صليت على
آل إبراهيم: إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد. كم
(27/98)
آل إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل
إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ بِكُل هَذِهِ الصِّيَغِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ تَسْوِيدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيدٌ ف 7 " 11 346 ") .
(ن) الدُّعَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ:
79 - يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ أَنْ يَدْعُوَ
بِمَا شَاءَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُل: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ -
إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ، أَوْ مَا
أَحَبَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ
أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ
ثُمَّ لِيَتَخَيَّرَ بَعْدُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ (2) وَهُوَ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْدُوبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَدْعُو بِالأَْدْعِيَةِ
الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْوِي
الْقِرَاءَةَ إِذَا دَعَا بِأَدْعِيَةِ الْقُرْآنِ لِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 344، حاشية الدسوقي 1 / 251، مغني المحتاج 1 /
174، كشاف القناع 1 / 388، مطالب أولي النهى 1 / 459، 499.
(2)) حديث: " إذا قعد أحدكم في الصلاة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 301 - 302 -
ط. الحلبي) حديث ابن مسعود، ورواية البخاري في صحيحه (2 / 320 - ط.
السلفية) .
(27/98)
الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَالتَّشَهُّدِ. وَلاَ يَدْعُو بِمَا يُشْبِهُ كَلاَمَ النَّاسِ.
وَالأَْفْضَل الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِرَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو
بِهِ فِي صَلاَتِي فَقَال: قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ.
فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (1)
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ
التَّشَهُّدِ الآْخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، مِنْ
عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا
وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّال (2) .
(س) كَيْفِيَّةُ الْجُلُوسِ:
80 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ الْمَسْنُونَةِ فِي
الصَّلاَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ، فَالرَّجُل يُسَنُّ لَهُ الاِفْتِرَاشُ، وَالْمَرْأَةُ
يُسَنُّ لَهَا التَّوَرُّكُ.
__________
(1) حديث: قل: " اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا. . ". أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 317 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2078 - ط. الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 350 وتبيين الحقائق 1 / 123 وحاشية الدسوقي 1 / 251،
252 ومغني المحتاج 1 / 176 وكشاف القناع 1 / 360 وحديث: " إذا فرغ أحدكم من
التشهد ". أخرجه مسلم (1 / 412 - ط. الحلبي) .
(27/99)
لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّشَهُّدِ
الأَْوَّل أَوِ الأَْخِيرِ، أَوِ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ الْمَسْنُونَةَ
فِي جَمِيعِ جِلْسَاتِ الصَّلاَةِ هِيَ التَّوَرُّكُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ
الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ
التَّوَرُّكُ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَالاِفْتِرَاشُ فِي بَقِيَّةِ
جِلْسَاتِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ
عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي
الرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأُْخْرَى،
وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ
أَفْضَى بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إِلَى الأَْرْضِ، وَأَخْرَجَ قَدَمَيْهِ
مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ (1) .
وَالْحِكْمَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الأَْخِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ
بَقِيَّةِ الْجِلْسَاتِ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ مُسْتَوْفِزٌ فِيهَا
لِلْحَرَكَةِ، بِخِلاَفِهِ فِي الأَْخِيرِ، وَالْحَرَكَةُ عَنْ
الاِفْتِرَاشِ أَهْوَنُ.
وَالاِفْتِرَاشُ: أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى قَائِمَةً عَلَى
أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَوَجِّهَةً نَحْوَ
الْقِبْلَةِ، وَيَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى
__________
(1) حديث أبي حميد: " كان إذا جلس في الركعتين. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 2 / 350 - ط. السلفية) والرواية الثانية أخرجها أبو داود (1 - 590 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(27/99)
بِحَيْثُ يَلِي ظَهْرُهَا الأَْرْضَ،
جَالِسًا عَلَى بَطْنِهَا.
وَالتَّوَرُّكُ: كَالاِفْتِرَاشِ. لَكِنْ يُخْرِجُ يُسْرَاهُ مِنْ جِهَةِ
يَمِينِهِ، وَيُلْصِقُ وَرِكَهُ بِالأَْرْضِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ تَوَرُّك (14 - 148) وَمُصْطَلَحَ: جُلُوس ف 11 - 13
(15 - 267) .
(ع) جِلْسَةُ الاِسْتِرَاحَةِ:
81 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ السَّجْدَةِ
الثَّانِيَةِ جِلْسَةٌ لِلاِسْتِرَاحَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ يَقُومُ مِنْهَا؛
لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ
قَبْل أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى كَرَاهَةِ فِعْلِهَا تَنْزِيهًا لِمَنْ لَيْسَ
بِهِ عُذْرٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ:
جُلُوسٌ ف 12 (15 266) .
(ف) كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ:
82 - يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ أَنْ يَضَعَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 312، 341، 344، الفتاوى الهندية 1 / 7، حاشية
الدسوقي 1 / 249، العدوي على الرسالة 1 / 237، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف
القناع 1 / 356، 363.
(2) حديث مالك بن الحويرث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع
رأسه ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 163 - ط. السلفية) .
(27/100)
يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ
الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى بِحَيْثُ
تُسَاوِي رُءُوسُ أَصَابِعِهِ رُكْبَتَيْهِ، وَتَكُونُ أَصَابِعُهُ
مَنْشُورَةً إِلَى الْقِبْلَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مُفَرَّجَةً قَلِيلاً، وَقَال الْحَنَابِلَةُ:
مَضْمُومَةً (1) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ
يُشِيرَ بِسَبَّابَتِهِ أَثْنَاءَ التَّشَهُّدِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي
كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْيَدِ وَالإِْشَارَةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَيْسَ
لَنَا سِوَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ بَسْطُ الأَْصَابِعِ
بِدُونِ إِشَارَةٍ.
الثَّانِي: بَسْطُ الأَْصَابِعِ إِلَى حِينِ الشَّهَادَةِ فَيَعْقِدُ
عِنْدَهَا وَيَرْفَعُ السَّبَّابَةَ عِنْدَ النَّفْيِ وَيَضَعَهَا عِنْدَ
الإِْثْبَاتِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُصَلِّي أَصَابِع يَدِهِ
الْيُمْنَى وَيَضَعَهَا عَلَى طَرَفِ رُكْبَتِهِ إِلاَّ الْمُسَبِّحَةَ
فَيُرْسِلَهَا، وَيَقْبِضَ الإِْبْهَامَ بِجَنْبِهَا بِحَيْثُ يَكُونُ
تَحْتَهَا عَلَى حَرْفِ رَاحَتِهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ
الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى
وَعَقَدَ ثَلاَثَةً وَخَمْسِينَ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 341، 340، مغني المحتاج 1 / 171، كشاف القناع 1 /
354.
(2) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قعد وضع يده اليسرى
على ركبته اليسرى ". أخرجه مسلم (1 / 408 - ط الحلبي) .
(27/100)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُحَلِّقُ بَيْنَ
الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ حَدَّ مِرْفَقِهِ
الأَْيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلاَثِينَ، وَحَلَّقَ
وَاحِدَةً، أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ بِالسَّبَّابَةِ (1) .
وَمَحَل الرَّفْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلاَّ
اللَّهَ، فَيَرْفَعُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ ذَلِكَ لِلاِتِّبَاعِ كَمَا فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَيُمِيلُهَا قَلِيلاً كَمَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ
وَغَيْرُهُ. وَيُقِيمُهَا وَلاَ يَضَعُهَا.
وَيُسَنُّ - أَيْضًا - أَنْ يَكُونَ رَفْعُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ نَاوِيًا
بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ وَالإِْخْلاَصَ، وَفِي تَحْرِيكِهَا عِنْدَهُمْ
رِوَايَتَانِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشِيرُ بِسَبَّابَتِهِ مِرَارًا، كُل مَرَّةٍ
عِنْدَ ذِكْرِ لَفْظِ (اللَّهِ) تَنْبِيهًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلاَ
يُحَرِّكُهَا لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَلاَ
يُشِيرُ بِغَيْرِ سَبَّابَةِ الْيُمْنَى وَلَوْ عُدِمَتْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِكَرَاهَةِ الإِْشَارَةِ بِسَبَّابَةِ الْيُسْرَى
وَلَوْ مِنْ مَقْطُوعِ الْيُمْنَى. وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ الإِْشَارَةَ
بِالسَّبَّابَةِ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.
__________
(1) حديث وائل بن حجر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع حد مرفقه الأيمن
على فخذه اليمنى. . . . ". أخرجه أحمد (6 / 319 - ط الميمنية) ، وأبو داود
(1 / 587 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، واللفظ لأحمد، وإسناده حسن.
(27/101)
وَيُنْدَبُ تَحْرِيكُ السَّبَّابَةِ
يَمِينًا وَشِمَالاً دَائِمًا - لاَ لأَِعْلَى وَلاَ لأَِسْفَل - فِي
جَمِيعِ التَّشَهُّدِ. وَأَمَّا الْيُسْرَى فَيَبْسُطُهَا مَقْرُونَةَ
الأَْصَابِعِ عَلَى فَخِذِهِ (1) .
سُنَنُ السَّلاَمِ:
83 - سَبَقَ فِي أَرْكَانِ الصَّلاَةِ أَنَّ السَّلاَمَ رُكْنٌ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ
الْفُقَهَاءُ لِلسَّلاَمِ سُنَنًا مِنْهَا:
أَنْ يُسَلِّمَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عَنْ يَمِينِهِ وَمَرَّةً عَنْ
يَسَارِهِ، وَيُسَلِّمَ عَنْ يَمِينِهِ أَوَّلاً، بِحَيْثُ يُرَى بَيَاضُ
خَدِّهِ الأَْيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ ثَانِيًا، بِحَيْثُ يُرَى بَيَاضُ
خَدِّهِ الأَْيْسَرِ، يَرَاهُ مَنْ خَلْفَهُ.
وَقَدْ قَال الْحَنَابِلَةُ: بِفَرْضِيَّةِ التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: بِوُجُوبِهِمَا، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِتَسْلِيمَةٍ
وَاحِدَةٍ.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ "
مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ كُل صِيغَةٍ
تُخَالِفُ هَذِهِ الصِّيغَةَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ " وَبَرَكَاتُهُ "
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُسَنُّ زِيَادَةُ " وَبَرَكَاتُهُ ".
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْوْلَى تَرْكُهُ، لِحَدِيثِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 342، حاشية الدسوقي 1 / 251، شرح روض الطالب 1 /
165، مغني المحتاج 1 / 173، كشاف القناع 1 / 361.
(27/101)
ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ. السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى
يُرَى بَيَاضُ خَدَّيْهِ (1) وَلِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ - قَال: كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، حَتَّى
أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ (2) وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
بِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ السَّلاَمَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، ثُمَّ
يَلْتَفِتُ وَيُتِمُّ سَلاَمَهُ بِتَمَامِ الْتِفَاتِهِ (3) .
الْقُنُوتُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ:
84 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ فِي صَلاَةِ
الْفَجْرِ. انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْفَجْرِ:
قُنُوت) .
مَكْرُوهَاتُ الصَّلاَةِ:
85 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن
يساره. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 606 - 607 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ،
والترمذي (2 / 89 - ط. الحلبي) وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث سعد بن أبي وقاص: " كنت أرى النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن
يمينه. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 409 - ط. الحلبي) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 352 وما بعدها، حاشية العدوي على الرسالة 1 /
245، مغني المحتاج 1 / 177، كشاف القناع 1 / 361.
(27/102)
بِكَرَاهَةِ السَّدْل فِي الصَّلاَةِ؛
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّدْل فِي الصَّلاَةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ
الرَّجُل فَاهُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ السَّدْل. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ
إِرْسَال الثَّوْبِ بِلاَ لُبْسٍ مُعْتَادٍ، وَفَسَّرَهُ الْكَرْخِيُّ
بِأَنْ يَجْعَل ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَيُرْسِل
أَطْرَافَهُ مِنْ جَانِبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَرَاوِيل،
فَكَرَاهَتُهُ لاِحْتِمَال كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَالْكَرَاهَةُ
تَحْرِيمِيَّةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: السَّدْل: هُوَ أَنْ يُرْسِل الثَّوْبَ حَتَّى
يُصِيبَ الأَْرْضَ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: السَّدْل: هُوَ أَنْ يَطْرَحَ ثَوْبًا عَلَى
كَتِفَيْهِ، وَلاَ يَرُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْكَتِفِ الأُْخْرَى.
وَقِيل: وَضْعُ الرِّدَاءِ عَلَى رَأْسِهِ وَإِرْسَالُهُ مِنْ وَرَائِهِ
عَلَى ظَهْرِهِ.
كَمَا يُكْرَهُ اشْتِمَال الصَّمَّاءِ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنِ اشْتِمَال الصَّمَّاءِ،
وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُل فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ
مِنْهُ شَيْءٌ (2)
__________
(1) حديث: " نهى عن السدل في الصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 423 - ط
دائرة تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 253 - دائرة المعارف العثمانية)
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث أبي سعيد: نهى عن اشتمال الصماء. أخرجه البخاري (الفتح 1 / 476 -
477 - ط. السلفية) .
(27/102)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَحَل
الْكَرَاهَةِ إِنْ كَانَ مَعَهَا سَتْرٌ كَإِزَارِ تَحْتَهَا وَإِلاَّ
مُنِعَتْ لِحُصُول كَشْفِ الْعَوْرَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(اشْتِمَال الصَّمَّاءِ) .
86 - وَيُكْرَهُ التَّلَثُّمُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُل فَاهُ فِي الصَّلاَةِ (1) قَال
الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَا يَصِل لآِخِرِ الشَّفَةِ السُّفْلَى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ تَغْطِيَةُ الْفَمِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ:
التَّلَثُّمُ عَلَى الْفَمِ وَالأَْنْفِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي
هَذَا. كَمَا يُكْرَهُ كَفُّ الْكُمِّ وَالثَّوْبِ وَالْعَبَثُ فِيهِ،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ
أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلاَ أَكُفَّ ثَوْبًا وَلاَ شَعْرًا
(2) .
87 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ صَلاَةِ حَاسِرِ رَأْسِهِ
تَكَاسُلاً، وَأَجَازُوهُ لِلتَّذَلُّل. قَالُوا: وَإِنْ سَقَطَتْ
قَلَنْسُوَتُهُ فَالأَْفْضَل إِعَادَتُهَا إِلاَّ إِذَا احْتَاجَتْ
لِتَكْوِيرٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ.
وَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا: الصَّلاَةُ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ
__________
(1) حديث: " نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة ". تقدم في الفقرة السابقة.
(2) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 354 ط.
الحلبي) من حديث ابن عباس مرفوعًا.
(27/103)
وَمِهْنَةٍ، إِنْ كَانَ لَهُ غَيْرُهَا (1)
.
كَمَا يُكْرَهُ الاِعْتِجَارُ، وَهُوَ: شَدُّ الرَّأْسِ بِالْمِنْدِيل،
أَوْ تَكْوِيرُ عِمَامَتِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَتَرْكُ وَسَطِهَا مَكْشُوفًا؛
لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الاِعْتِجَارِ
فِي الصَّلاَةِ (2) . وَقِيل: الاِعْتِجَارُ: أَنْ يَنْتَقِبَ
بِعِمَامَتِهِ فَيُغَطِّيَ أَنْفَهُ (3) .
88 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الاِقْتِصَارِ عَلَى
الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَحْرِيمًا أَنْ يَنْقُصَ شَيْئًا مِنَ
الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى كَرَاهَةِ تَنْكِيسِ السُّوَرِ - أَيْ أَنْ
يَقْرَأَ فِي الثَّانِيَةِ سُورَةً أَعْلَى مِمَّا قَرَأَ فِي الأُْولَى -
لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
أَنَّهُ سُئِل عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا فَقَال: " ذَلِكَ
مَنْكُوسُ الْقَلْبِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْ
وَاجِبَاتِ التِّلاَوَةِ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 429، وما بعدها، حاشية الدسوقي 1 / 218، المجموع
3 / 17، 176، 179، مغني المحتاج 1 / 200، كشاف القناع 1 / 275.
(2) حديث: " نهى عن الاعتجار في الصلاة ". أورده الطحطاوي في مراقي الفلاح
(ص 192 - ط. الميمنية) ، ولم يعزه إلى أي مصدر حديثي، ولم نهتد إلى مَن
أخرجه.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 192.
(27/103)
لِلصِّغَارِ تَسْهِيلاً لِضَرُورَةِ
التَّعْلِيمِ. وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَنْ قَرَأَ
فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بِسُورَةِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي
الثَّانِيَةِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ. لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ خَصُّوا
ذَلِكَ بِمَنْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلاَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ الْحَال
وَالْمُرْتَحِل (1) أَيِ الْخَاتِمُ وَالْمُفْتَتِحُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَنْكِيسَ السُّوَرِ خِلاَفُ
الأَْوْلَى، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ الآْيَاتِ
الْمُتَلاَصِقَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ الْكَلِمَاتِ، وَأَنَّهُ
يُبْطِل الصَّلاَةَ. أَمَّا تَنْكِيسُ الآْيَاتِ فَقِيل: مَكْرُوهٌ، وَقَال
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: تَرْتِيبُ الآْيَاتِ وَاجِبٌ؛ لأَِنَّ
تَرْتِيبَهَا بِالنَّصِّ إِجْمَاعًا، وَتَرْتِيبُ السُّوَرِ
بِالاِجْتِهَادِ لاَ بِالنَّصِّ فِي قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ جَمْعُ سُورَتَيْنِ
فَأَكْثَرَ فِي رَكْعَةٍ، وَلَوْ فِي فَرْضٍ (2) .
رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ كَانَ
يَؤُمُّهُمْ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَبْل كُل
__________
(1) حديث: " خير الناس الحال والمرتحل. . . ". ورد بلفظ: " أحب العمل إلى
الله الحال المرتحل ". أخرجه الترمذي (5 / 198 - ط الحلبي) من حديث زرارة
بن أوفى، وقال: إسناده ليس بالقوي.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 367، حاشية الدسوقي 1 / 242، شرح روض الطالب 1 /
155، كشاف القناع 1 / 344.
(27/104)
سُورَةٍ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ثُمَّ
يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ؟
فَقَال: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَال: حُبُّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ
الْجَنَّةَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ
سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةِ وَاحِدَةٍ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ بَيْنَ
السُّورَتَيْنِ سُوَرٌ أَوْ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَمَحَل الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمَا - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ -
صَلاَةُ الْفَرْضِ. أَمَّا فِي صَلاَةِ النَّفْل فَجَائِزٌ مِنْ غَيْرِ
كَرَاهَةٍ. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَأْمُومَ إِذَا
خَشِيَ مِنْ سُكُوتِهِ تَفَكُّرًا مَكْرُوهًا، فَلاَ كَرَاهَةَ فِي حَقِّهِ
إِذَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ
الْتِزَامُ سُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ. لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُلاَزَمَةِ
الأَْنْصَارِيِّ عَلَى {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قَال الْحَنَابِلَةُ:
مَعَ اعْتِقَادِهِ جَوَازَ غَيْرِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ تَعْيِينِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَيَّدَ الطَّحَاوِيُّ الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا رَأَى ذَلِكَ حَتْمًا
لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ، أَمَّا لَوْ قَرَأَهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ أَوْ
تَبَرُّكًا بِقِرَاءَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلاَ
كَرَاهَةَ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهَا أَحْيَانًا لِئَلاَّ
يَظُنَّ الْجَاهِل أَنَّ غَيْرَهَا لاَ يَجُوزُ، وَمَال إِلَى
__________
(1) حديث أنس: (أن رجلا كان يؤمهم. . .) . أخرجه الترمذي (5 / 169 - 179 ط.
الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(27/104)
هَذَا الْقَيْدِ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَلاَ يُكْرَهُ - أَيْضًا - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَكْرَارُ سُورَةٍ فِي
رَكْعَتَيْنِ، لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالأَْعْرَافِ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا (1) .
كَمَا لاَ يُكْرَهُ تَفْرِيقُهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَقْسِمُ الْبَقَرَةَ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَنْبَغِي تَفْرِيقُ السُّورَةِ، وَلَوْ فَعَل
لاَ بَأْسَ بِهِ، وَلاَ يُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيل: يُكْرَهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَكْرِيرِ السُّورَةِ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ (3) . (ر: قِرَاءَةٌ)
89 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى كَرَاهَةِ تَغْمِيضِ
الْعَيْنَيْنِ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ يُغْمِضُ
عَيْنَيْهِ (4) .
__________
(1) حديث زيد بن ثابت: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب
بالأعراف ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 246 - ط السلفية) .
(2) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم البقرة في
الركعتين ". أورده ابن قدامة في المغني (1 / 410 - ط مكتبة القاهرة) وعزاه
إلى الخلال.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 365، حاشية الدسوقي 1 / 242، وبلغة السالك 1 /
246، الفتاوى الهندية 1 / 78، كشاف القناع 1 / 374.
(4) حديث: " إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه ". أخرجه الطبراني في
المعجم الكبير (11 / 34 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس،
وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد 2 / 83 - ط. اقدسي) وقال: فيه ليث بن أبي
سليم وهو مدلس وقد عنعنه.
(27/105)
وَاحْتَجَّ لَهُ - أَيْضًا - بِأَنَّهُ
فِعْل الْيَهُودِ، وَمَظِنَّةُ النَّوْمِ. وَعَلَّل فِي الْبَدَائِعِ:
بِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَ بِبَصَرِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ
وَفِي التَّغْمِيضِ تَرْكُهَا. وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
تَنْزِيهِيَّةٌ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ التَّغْمِيضَ لِكَمَال الْخُشُوعِ، بِأَنْ
خَافَ فَوْتَ الْخُشُوعِ بِسَبَبِ رُؤْيَةِ مَا يُفَرِّقُ الْخَاطِرَ فَلاَ
يُكْرَهُ حِينَئِذٍ، بَل قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الأَْوْلَى. قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمَحَل كَرَاهَةِ التَّغْمِيضِ مَا لَمْ يَخَفِ
النَّظَرَ لِمُحَرَّمٍ، أَوْ يَكُونُ فَتْحُ بَصَرِهِ يُشَوِّشُهُ،
وَإِلاَّ فَلاَ يُكْرَهُ التَّغْمِيضُ حِينَئِذٍ.
وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ - أَيْ تَغْمِيضُ
الْعَيْنَيْنِ - إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ
غَيْرِهِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا كُرِهَ (1) .
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ
لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَال أَقْوَامٍ
يَرْفَعُونَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 434، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 /
181، شرح روض الطالب 1 / 169، كشاف القناع 1 / 370.
(27/105)
أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي
صَلاَتِهِمْ. فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَال: لَيَنْتَهُنَّ
عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ (1) .
قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالْوَجْهُ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْعَامِدِ الْعَالِمِ
بِالنَّهْيِ الْمُسْتَحْضِرِ لَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا
صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ - فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ (2) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَلاَ يُكْرَهُ رَفْعُ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ
حَال التَّجَشِّي إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ لِئَلاَّ يُؤْذِيَ مَنْ
حَوْلَهُ بِالرَّائِحَةِ (3) .
وَيُكْرَهُ - أَيْضًا - النَّظَرُ إِلَى مَا يُلْهِي عَنِ الصَّلاَةِ،
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ،
فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: اذْهَبُوا
بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي
__________
(1) حديث: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم. . . . ".
أخرجه البخاري (الفتح 2 / 233 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 321 - ط. الحلبي)
.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء. . ".
أخرجه الحاكم (2 / 393 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة،
وصوب الذهبي إرساله.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 194، 195، مجمع الأنهر 1 / 124، مغني
المحتاج 1 / 201، كشاف القناع 1 / 370.
(27/106)
جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ
أَبِي جَهْمٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي (1) ؛
وَلأَِنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ إِكْمَال الصَّلاَةِ (2) .
90 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّخَصُّرِ - وَهُوَ أَنْ
يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ فِي الْقِيَامِ - لِقَوْل أَبِي
هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مُتَخَصِّرًا (3) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْخَصْرُ: هُوَ مَوْضِعُ الْحِزَامِ مِنْ جَنْبِهِ،
وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لأَِنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تُنَافِي هَيْئَةَ
الصَّلاَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ
تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الصَّلاَةِ لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ
وَالْحَاجَةِ (4) .
91 - كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ مَا كَانَ مِنَ
الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ كَفَرْقَعَةِ الأَْصَابِعِ وَتَشْبِيكِهَا لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُفَقِّعْ أَصَابِعَكَ
وَأَنْتَ تُصَلِّي (5) . وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا تَوَضَّأَ
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام. .
. . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 482 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 391 - ط.
الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 1 / 201، كشاف القناع 1 / 370.
(3) حديث: " نهى أن يصلي الرجل متخصرًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 88 - ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 387 - ط. الحلبي) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 432، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 /
202، كشاف القناع 1 / 372.
(5) حديث: " لا تُفَقِّع أصابعك وأنت تصلي ". أخرجه ابن ماجه (1 / 310 - ط.
الحلبي) ، من حديث علي بن أبي طالب. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 /
190 - ط. دار الجنان) : هذا إسناد فيه الحارث بن عبد الله الأعور، وهو
ضعيف. وقد اتهمه بعضهم.
(27/106)
أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى
الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ فَلاَ يَقُل هَكَذَا،
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ
تَحْرِيمِيَّةً لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ (2) .
92 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - أَيْضًا - عَلَى كَرَاهَةِ الْعَبَثِ
بِاللِّحْيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ جَسَدِهِ؛ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَعْبَثُ فِي
الصَّلاَةِ، فَقَال: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ (3)
.
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ لِحَاجَةٍ: كَحَكِّ بَدَنِهِ لِشَيْءٍ
أَكَلَهُ وَأَضَرَّهُ، وَسَلْتِ عِرْقٍ يُؤْذِيهِ وَيَشْغَل قَلْبَهُ،
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَمَل يَسِيرًا.
93 - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ أَوْ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا توضأ في بيته ثم أتى المسجد ". أخرجه الحاكم (1
/ 206 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 431، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 /
202، كشاف القناع 1 / 372.
(3) حديث: " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ". عزاه السيوطي في الجامع (فيض
القدير 5 / 319 - ط. المكتبة التجارية) إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول
ونقل المناوي عن العراقي أن في إسناده راويًا اتفق على تضعيفه.
(27/107)
طَرَفُ عِمَامَتِهِ كُرِهَ لَهُ
تَسْوِيَتُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ (1) .
94 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِكَرَاهَةِ تَقْلِيبِ الْحَصَى وَمَسِّهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى
الصَّلاَةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَلاَ يَمْسَحِ الْحَصَى (2)
كَمَا يُكْرَهُ مَسْحُ الْحَصَى وَنَحْوِهِ حَيْثُ يَسْجُدُ؛ لِحَدِيثِ
مُعَيْقِيبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي
الرَّجُل يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً
فَوَاحِدَةً (3) .
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ الْكَرَاهَةَ بِعَدَمِ الْعُذْرِ.
وَرَخَّصَ الْحَنَفِيَّةُ تَسْوِيَةَ الْحَصَى مَرَّةً لِلسُّجُودِ
التَّامِّ، بِأَنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ تَمْكِينُ جَبْهَتِهِ عَلَى وَجْهِ
السُّنَّةِ إِلاَّ بِذَلِكَ.
قَالُوا: وَتَرْكُهَا أَوْلَى. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لاَ
يُمْكِنُهُ وَضْعُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْجَبْهَةِ إِلاَّ بِهِ
تَعَيَّنَ وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فِي
الصَّلاَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِثُبُوتِ النَّهْيِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 430، حاشية الدسوقي 1 / 255، مغني المحتاج 1 /
181، كشاف القناع 1 / 372.
(2) حديث: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه. . . . ". أخرجه
ابن ماجه (1 / 328 - ط. الحلبي) ، والحميدي (1 / 71 - ط. عالمي برس) وعند
الحميدي ذكر لجهالة الراوي عن أبي ذر.
(3) حديث معيقيب: " إن كنت فاعلا فواحدة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 79 -
ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 387 - ط الحلبي) .
(27/107)
عَنْهُ؛ وَلِمُنَافَاتِهِ لِهَيْئَةِ
الْخُشُوعِ (1) .
95 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ عَدِّ الآْيِ وَالسُّوَرِ،
وَالتَّسْبِيحِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ أَوْ بِسُبْحَةٍ يُمْسِكُهَا فِي
الصَّلاَةِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَتْ نَفْلاً. قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنِ
الصَّاحِبَيْنِ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا أَنَّهُ لاَ
بَأْسَ بِهِ.
وَقِيل: الْخِلاَفُ فِي الْفَرَائِضِ وَلاَ كَرَاهَةَ فِي النَّوَافِل
اتِّفَاقًا. وَقِيل: فِي النَّوَافِل وَلاَ خِلاَفَ فِي الْكَرَاهَةِ فِي
الْفَرَائِضِ. وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَهُمْ تَنْزِيهِيَّةٌ وَعَلَّلُوهَا
بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ عَدِّ الآْيِ وَالتَّسْبِيحِ
بِأَصَابِعِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعْقِدُ الآْيَ بِأَصَابِعِهِ (3) . وَعَدُّ التَّسْبِيحِ فِي
مَعْنَى عَدِّ الآْيِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي عَدِّ التَّسْبِيحِ
لأَِنَّهُ يَتَوَالَى لِقِصَرِهِ، فَيَتَوَالَى حِسَابُهُ فَيَكْثُرُ
الْعَمَل بِخِلاَفِ عَدِّ الآْيِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 431، مغني المحتاج 1 / 201، كشاف القناع 1 / 372،
373.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 437.
(3) حديث أنس: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد الآي بأصابعه ". أورده
البهوتي في كشاف القناع (1 / 376 - ط. عالم الكتب) وعزاه إلى محمد بن خلف.
(4) كشاف القناع 1 / 376.
(27/108)
96 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَرَوُّحِهِ - جَلْبُ
نَسِيمِ الرِّيحِ - بِمِرْوَحَةٍ وَنَحْوِهَا، لأَِنَّهُ مِنَ الْعَبَثِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَغَمٍّ شَدِيدٍ فَلاَ يُكْرَهُ مَا
لَمْ يُكْثِرْ مِنَ التَّرَوُّحِ، فَيُبْطِل الصَّلاَةَ إِنْ تَوَالَى.
وَفِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ التَّتَارْخَانِيَّةِ يُكْرَهُ أَنْ يَذُبَّ
بِيَدِهِ الذُّبَابَ أَوِ الْبَعُوضَ إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِعَمَلٍ
قَلِيلٍ (1) .
97 - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الْقِيَامِ عَلَى رِجْلٍ
وَاحِدَةٍ، لأَِنَّهُ تَكَلُّفٌ يُنَافِي الْخُشُوعَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ
لِعُذْرٍ كَوَجَعِ الأُْخْرَى فَلاَ كَرَاهَةَ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الرِّجْل عَنِ
الأَْرْضِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَطُول الْقِيَامِ، كَمَا يُكْرَهُ
عِنْدَهُمْ وَضْعُ قَدَمٍ عَلَى أُخْرَى لأَِنَّهُ مِنَ الْعَبَثِ،
وَيُكْرَهُ أَيْضًا إِقْرَانُهُمَا. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى
كَرَاهَةِ كَثْرَةِ الْمُرَاوَحَةِ بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَامَ
أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسْكِنْ أَطْرَافَهُ، وَلاَ يَتَمَيَّل
كَمَا يَتَمَيَّل الْيَهُودُ (2) . قَال فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَطُل قِيَامُهُ، أَمَّا قِلَّةُ
الْمُرَاوَحَةِ فَتُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 194، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 /
372.
(2) حديث: " إذا قام أحدكم لصلاته فليسكن أطرافه ". أخرجه ابن عدي في
الكامل في الضعفاء (2 / 620 - ط. دار الفكر) في ترجمته راو وذكر جمعًا من
العلماء قد ضعفوه.
(27/108)
وَلاَ تُكْرَهُ (1) . لِمَا رَوَى
الأَْثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَادَةَ قَال: رَأَى عَبْدُ اللَّهِ رَجُلاً
يُصَلِّي صَافًّا بَيْنَ قَدَمَيْهِ فَقَال: لَوْ رَاوَحَ هَذَا بَيْنَ
قَدَمَيْهِ كَانَ أَفْضَل، وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَلَوْ
رَاوَحَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَعْجَبَ.
98 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الإِْقْعَاءِ فِي جِلْسَاتِ
الصَّلاَةِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِقْعَاء) .
99 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الاِلْتِفَاتِ فِي
الصَّلاَةِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -
قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الاِلْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَال: هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ
الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ (2) . وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ
بِعَدَمِ الْحَاجَةِ أَوِ الْعُذْرِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ:
كَخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِحَدِيثِ سَهْل بْنِ
الْحَنْظَلِيَّةِ قَال: ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ - يَعْنِي صَلاَةَ الصُّبْحِ
- فَجَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ. قَال: وَكَانَ أَرْسَل فَارِسًا إِلَى
الشِّعْبِ يَحْرُسُ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 / 372.
(2) حديث عائشة: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ".
أخرجه البخاري (الفتح 2 / 434 - ط. السلفية) .
(3) حديث سهل بن الحنظلية: " ثوب بالصلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 563 -
تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 83 - 84 - ط دائرة المعارف العثمانية)
، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(27/109)
وَعَلَيْهِ يُحْمَل مَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: كَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ يَمِينًا وَشِمَالاً، وَلاَ
يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الاِلْتِفَافُ بِالْوَجْهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ
مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَبِالْبَصَرِ - أَيْ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيل
الْوَجْهِ أَصْلاً - مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا. وَعَنِ الزَّيْلَعِيِّ
وَالْبَاقَانِيِّ: أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُلاَحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلاَتِهِ بِمُوقِ عَيْنَيْهِ،
أَمَّا الاِلْتِفَاتُ بِالصَّدْرِ فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لِلصَّلاَةِ
وَسَيَأْتِي.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الاِلْتِفَاتُ مَكْرُوهٌ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ،
وَلَوْ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ، وَلاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ مَا بَقِيَتْ
رِجْلاَهُ لِلْقِبْلَةِ، وَبَعْضُهُ أَخَفُّ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ بَعْضٍ،
فَالاِلْتِفَاتُ بِالْخَدِّ أَخَفُّ مِنْ لَيِّ الْعُنُقِ، وَلَيُّ
الْعُنُقِ أَخَفُّ مِنْ لَيِّ الصَّدْرِ، وَالصَّدْرُ أَخَفُّ مِنْ لَيِّ
الْبَدَنِ كُلِّهِ،
__________
(1) حديث ابن عباس: " كان صلى الله عليه وسلم يلتفت في صلاة يمينًا وشمالا
". أخرجه النسائي (3 / 9 - ط. المكتبة التجارية) ، والحاكم (1 / 236 - 237
- ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(27/109)
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ
الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِعَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ لَوِ
الْتَفَتَ بِصَدْرِهِ وَوَجْهِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يَسْتَدِرْ
بِجُمْلَتِهِ.
وَقَال الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِحُرْمَةِ الاِلْتِفَاتِ
بِالْوَجْهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يَزَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل مُقْبِلاً عَلَى
الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ. فَإِذَا الْتَفَتَ
انْصَرَفَ عَنْهُ (1) .
قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ مَعَ
عِلْمِهِ بِالْخَبَرِ حَرُمَ، بَل تَبْطُل إِنْ فَعَلَهُ لَعِبًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ اللَّمْحِ بِالْعَيْنِ دُونَ
الاِلْتِفَاتِ فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ؛ لِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ
شَيْبَانَ قَال: خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ.
فَلَمَحَ بِمُؤَخَّرِ عَيْنِهِ رَجُلاً لاَ يُقِيمُ صَلاَتَهُ - يَعْنِي
صُلْبَهُ - فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ لاَ صَلاَةَ
لِمَنْ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا يزال الله مقبلا على العبد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 560
- تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي ذر، وأشار المنذري إلى إعلاله بجهالة
راو فيه (مختصر السنن 1 / 1 / 429 - نشر دار المعرفة) .
(2) حديث: " يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه ". أخرجه ابن ماجه
(1 / 282 - ط. الحلبي) ، وقال البوصيري: " مصباح الزجاجة (1 / 178 - ط. دار
الجنان) : إسناده صحيح.
(27/110)
أَمَّا إِنْ حَوَّل صَدْرَهُ عَنِ
الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ تَبْطُل صَلاَتُهُ (1) .
100 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ مَعَ
مُدَافَعَةِ الأَْخْبَثَيْنِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ هُوَ يُدَافِعُ
الأَْخْبَثَيْنِ (2) . وَيُسَمَّى مُدَافِعُ الْبَوْل حَاقِنًا،
وَمُدَافِعُ الْغَائِطِ حَاقِبًا.
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِذَلِكَ مَنْ تَاقَتْ
نَفْسُهُ إِلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. قَالُوا:
فَيَبْدَأُ بِالْخَلاَءِ لِيُزِيل مَا يُدَافِعُهُ مِنْ بَوْلٍ أَوْ
غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ، وَيَبْدَأُ - أَيْضًا - بِمَا تَاقَ إِلَيْهِ مِنْ
طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَلَوْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، لِمَا رَوَى
الْبُخَارِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ
الصَّلاَةُ، فَلاَ يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ
قِرَاءَةَ الإِْمَامِ (3) .
إِلاَّ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ فَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ عَلَى هَذِهِ
الْحَال، بَل يَجِبُ فِعْلُهَا قَبْل خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي جَمِيعِ
الأَْحْوَال.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 432، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 /
201، كشاف القناع 1 / 369.
(2) حديث: " لا صلاة بحضرة طعام ". أخرجه مسلم (1 / 393 - ط. الحلبي) .
(3) حديث ابن عمر: " أنه كان يوضع له الطعام ". أخرجه البخاري (الفتح 2 /
159 - ط. السلفية) .
(27/110)
بِالاِبْتِدَاءِ، بَل تُكْرَهُ صَلاَةُ
الْحَاقِنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ قَبْل شُرُوعِهِ أَوْ بَعْدَهُ.
قَالُوا: فَإِنْ شَغَلَهُ قَطَعَهَا إِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْوَقْتِ،
وَإِنْ أَتَمَّهَا أَثِمَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ
أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَقْنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ (1) .
وَيَقْطَعُهَا - أَيْضًا - وَلَوْ خَشِيَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، وَلاَ
يَجِدُ جَمَاعَةً أُخْرَى؛ لأَِنَّ تَرْكَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى
مِنَ الإِْتْيَانِ بِالْكَرَاهَةِ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ
إِذَا وَصَل الْحَقْنُ إِلَى حَدٍّ لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ الإِْتْيَانُ
بِالْفَرْضِ أَصْلاً، أَوْ يَأْتِي بِهِ مَعَهُ لَكِنْ بِمَشَقَّةٍ،
فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ.
قَال الْعَدَوِيُّ: أَوْ أَتَى بِهِ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ،
بِأَنْ يَضُمَّ وِرْكَيْهِ أَوْ فَخِذَيْهِ، وَمَحَل الْبُطْلاَنِ إِذَا
دَامَ ذَلِكَ الْحَقْنُ، وَأَمَّا إِنْ حَصَل ثُمَّ زَال فَلاَ إِعَادَةَ
(2) .
(ر: حَاقِنٌ) .
101 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى كَرَاهَةِ السُّجُودِ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ
مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَقَيَّدُوا
__________
(1) حديث: " لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن حتى
يتخفف ". أخرجه أبو داود (1 / 70 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي
هريرة، وقال الزيلعي: فيه رجل فيه جهالة كذا في نصب الراية (2 / 102 - ط.
المجلس العلمي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 431، حاشية الدسوقي 1 / 288، الخرشي على خليل 1 /
329، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 / 371.
(27/111)
الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ السُّجُودُ
عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ بِدُونِ عُذْرٍ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ
مَرَضٍ. قَال الْبُهُوتِيُّ: لِيَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ وَيَأْتِي
بِالْعَزِيمَةِ. وَدَلِيل ذَلِكَ مَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ
أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ
فَسَجَدَ عَلَيْهِ (1) .
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَشَرَطَ
الْحَنَفِيَّةُ لِصِحَّةِ السُّجُودِ عَلَى الْمُكَوَّرِ كَوْنَ الْكَوْرِ
الَّذِي يَسْجُدُ عَلَيْهِ عَلَى الْجَبْهَةِ أَوْ بَعْضِهَا، أَمَّا إِذَا
كَانَ عَلَى الرَّأْسِ - فَقَطْ - وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ تُصِبْ
جَبْهَتُهُ الأَْرْضَ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ سُجُودُهُ؛ لِعَدَمِ
السُّجُودِ عَلَى مَحَلِّهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ كَوْرُ الْعِمَامَةِ فَوْقَ
الْجَبْهَةِ وَمَنَعَتْ لُصُوقَ الْجَبْهَةِ بِالأَْرْضِ فَبَاطِلَةٌ،
وَإِنْ كَانَ الْكَوْرُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاقَتَيْنِ أَعَادَ فِي
الْوَقْتِ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَوْرِ الْعِمَامَةِ كُل
مَا اتَّصَل بِالْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ كَطَرَفِ
كُمِّهِ وَمَلْبُوسِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى كُمِّهِ وَفَاضِل
ثَوْبِهِ لَوْ كَانَ الْمَكَانُ الْمَبْسُوطُ عَلَيْهِ ذَلِكَ
__________
(1) حديث أنس: " كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر ".
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 492 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 433 - ط. الحلبي)
.
(27/111)
طَاهِرًا، وَإِلاَّ لاَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَال دُونَ الْجَبْهَةِ
حَائِلٌ مُتَّصِلٌ بِهِ كَكَوْرِ عِمَامَتِهِ، أَوْ طَرَفِ كُمِّهِ،
وَهُمَا يَتَحَرَّكَانِ بِحَرَكَتِهِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، أَوْ
غَيْرِهِمَا لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ؛ لِمَا رَوَى
خَبَّابُ بْنُ الأَْرَتِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال:
شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ
الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا، وَفِي
رِوَايَةٍ قَال: فَمَا أَشْكَانَا، وَقَال: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ
فَصَلُّوا (1) . وَإِنْ سَجَدَ عَلَى ذَيْلِهِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ طَرَفِ
عِمَامَتِهِ، وَهُوَ طَوِيلٌ لاَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ فَوَجْهَانِ:
الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الطَّرَفَ فِي
مَعْنَى الْمُنْفَصِل، وَالثَّانِي: لاَ تَصِحُّ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ
عَلَى ذَلِكَ الطَّرَفِ نَجَاسَةٌ، فَإِنَّهُ لاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ وَإِنْ
كَانَ لاَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنْ سَجَدَ عَلَى
كَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ كُمِّهِ وَنَحْوِهِمَا مُتَعَمِّدًا عَالِمًا
بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَمْ تَبْطُل،
لَكِنْ يَجِبُ إِعَادَةُ السُّجُودِ (2) .
__________
(1) حديث خباب بن الأرت: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر
الرمضاء. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 433 - ط. الحلبي) ، والبيهقي (1 / 438 -
439 ط. دائرة المعارف العثمانية) ، والرواية الثانية للبيهقي.
(2) حاشية ابن عابدين (1 / 336) ، حاشية الدسوقي 1 / 253، المجموع 3 / 423،
كشاف القناع 1 / 352.
(27/112)
وَهُنَاكَ مَكْرُوهَاتٌ كَثِيرَةٌ
لِلسُّجُودِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُود) .
102 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ
يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلاً لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ. قَال الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ: كَرِهَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ
يَسْتَقْبِل الرَّجُل وَهُوَ يُصَلِّي. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي إِلَى رَجُلٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ
(1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَرَاهَةٌ تَحْرِيمِيَّةٌ،
وَيَكُونُ الأَْمْرُ بِالإِْعَادَةِ لإِِزَالَةِ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّهُ
الْحُكْمُ فِي كُل صَلاَةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلَيْسَ
لِلْفَسَادِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَال: إِنْ كَانَ جَاهِلاً عَلَّمْتُهُ، وَإِنْ كَانَ
عَالِمًا أَدَّبْتُهُ.
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ إِلَى مُتَحَدِّثٍ؛ لأَِنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ
حُضُورِ قَلْبِهِ فِي الصَّلاَةِ، لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَيَّدُوا
الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا خِيفَ الْغَلَطُ بِحَدِيثِهِ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: النَّائِمَ، فَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ إِلَيْهِ
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
__________
(1) حديث علي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي إلى رجل. . . .
". أخرجه البزار (كشف الأستار 1 / 281 - ط. الرسالة) ، وأورده الهيثمي في
مجمع الزوائد (2 / 62 - ط. القدسي) وقال: " فيه عبد الأعلى الثعلبي، وهو
ضعيف ".
(27/112)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُصَلُّوا خَلْفَ النَّائِمِ وَلاَ الْمُتَحَدِّثِ (1)
.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا
رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ
أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ (2) . وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ
نَائِمَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ
الصَّلاَةُ إِلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ
ذَلِكَ الْكَافِرَ.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً
أَوْ كَافِرًا فَالْكَرَاهَةُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلاً غَيْرَ كَافِرٍ جَازَ
مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً مَحْرَمًا فَقَوْلاَنِ:
وَالرَّاجِحُ الْجَوَازُ (3) .
103 - وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ اسْتِقْبَال
شَيْءٍ مِنَ النَّارِ فِي الصَّلاَةِ - وَلَوْ سِرَاجًا أَوْ قِنْدِيلاً
أَوْ شَمْعَةً مُوقَدَةً - لأَِنَّ فِيهِ
__________
(1) حديث ابن عباس: " لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث ". أخرجه أبو داود
(1 / 445 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعل إسناده الخطابي في معالم السنن
(بهامش المختصر للمنذري 1 / 342 - نشر دار المعرفة) .
(2) حديث عائشة: " كان يصلي وأنا راقدة معترضة بينه وبين القبلة. . . ".
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 587 - ط. السلفية) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 433، 435، 438، حاشية الدسوقي 1 / 246، المجموع 3
/ 251، كشاف القناع 1 / 371، 382.
(27/113)
تَشْبِيهًا بِعَبَدَةِ النَّارِ، وَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ اسْتِقْبَال هَذِهِ الأَْشْيَاءِ،
قَالُوا: لأَِنَّ الْمَجُوسَ تَعْبُدُ الْجَمْرَ لاَ النَّارَ
الْمُوقَدَةَ، وَلِذَا قَالُوا بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ إِلَى تَنُّورٍ أَوْ
كَانُونٍ فِيهِ جَمْرٌ.
104 - كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ، أَوْ
يُعَلَّقَ فِيهَا شَيْءٌ، لأَِنَّهُ يَشْغَل الْمُصَلِّيَ.
وَيُكْرَهُ - أَيْضًا - تَزْوِيقُ الْمَسْجِدِ. قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ:
كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْقِبْلَةِ شَيْئًا، قَال
الْبُهُوتِيُّ: حَتَّى الْمُصْحَفَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ جَعْل الْمُصْحَفِ فِي
قِبْلَتِهِ لِيُصَلِّيَ إِلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا مَكَانُهُ
الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ (1) .
الأَْمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا:
105 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تُكْرَهُ
الصَّلاَةُ فِيهَا، وَإِلَيْكَ تَفْصِيل أَقْوَالِهِمْ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِي
الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ،
وَالْكَنِيسَةِ، وَعَطَنِ الإِْبِل، وَالْمَقْبَرَةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ:
فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ
وَفِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 438، والطحطاوي على مراقي الفلاح 198، 199، حاشية
الدسوقي 1 / 246، 255.
(27/113)
الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الإِْبِل
وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ (1) .
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: قَارِعَةُ الطَّرِيقِ هِيَ أَعْلاَهُ،
وَقِيل: صَدْرُهُ، وَقِيل: مَا بَرَزَ مِنْهُ، وَالْكُل مُتَقَارِبٌ،
وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الطَّرِيقِ، وَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنِ
الصَّلاَةِ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ هِيَ لِشَغْلِهِ حَقَّ الْعَامَّةِ،
وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ؛ وَلِشَغْل الْبَال عَنِ الْخُشُوعِ
فَيَشْتَغِل بِالْخَلْقِ عَنِ الْحَقِّ.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي
الْبُنْيَانِ دُونَ الْبَرِّيَّةِ.
وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ - أَيْضًا - فِي مَعَاطِنِ الإِْبِل وَلَوْ
طَاهِرَةً. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا
فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِْبِل (2) .
وَالْمُرَادُ بِالْمَعَاطِنِ - هُنَا - مَبَارِكُهَا مُطْلَقًا. قَال
الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَلاَ تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ بِالْعَطَنِ،
بَل مَأْوَاهَا وَمَقِيلُهَا وَمَبَارِكُهَا، بَل مَوَاضِعُهَا كُلُّهَا
كَذَلِكَ. وَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ لِلْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ، وَسُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَال: صَلُّوا فِيهَا
فَإِنَّهَا
__________
(1) حديث ابن عمر: " نهى أن يصلي في سبعة مواطن ". أخرجه الترمذي (2 / 178
- ط. الحلبي) . وقال: " إسناده ليس بذاك القوي ".
(2) حديث: " صلوا في مرابض الغنم ". أخرجه الترمذي (2 / 181 - ط. الحلبي)
من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(27/114)
خُلِقَتْ بَرَكَةً (1) . وَأَلْحَقُوا
مَرَابِضَ الْبَقَرِ بِمَرَابِضِ الْغَنَمِ فَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ
فِيهَا، قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمَاكِنَ
الْمَوَاشِي مُطْلَقًا إِنْ تَنَجَّسَتْ لَمْ تَصِحَّ الصَّلاَةُ فِيهَا
بِلاَ حَائِلٍ، وَتَصِحُّ بِالْحَائِل مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي حُكْمِ
الصَّلاَةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَمَعْطِنِ الإِْبِل، فَكَرِهُوا الصَّلاَةَ
فِيهِمَا. وَأَلْحَقُوا بِالْكَنِيسَةِ كُل مُتَعَبَّدٍ لِلْكُفَّارِ
كَالْبِيعَةِ وَبَيْتِ النَّارِ، وَخَصُّوا كَرَاهَةَ الصَّلاَةِ فِي
الْكَنِيسَةِ بِمَا إِذَا دَخَلَهَا مُخْتَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ عَامِرَةً
أَمْ دَارِسَةً، أَمَّا إِنْ دَخَلَهَا مُضْطَرًّا فَلاَ كَرَاهَةَ،
عَامِرَةً كَانَتْ أَمْ دَارِسَةً. وَقَالُوا بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ فِي
الْوَقْتِ إِذَا نَزَلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَصَلَّى عَلَى أَرْضِهَا أَوْ
عَلَى فَرْشِهَا.
وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي مَعْطِنِ الإِْبِل وَلَوْ مَعَ أَمْنِ
النَّجَاسَةِ. وَعِنْدَهُمْ فِي إِعَادَةِ الصَّلاَةِ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ
يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ مُطْلَقًا عَامِدًا كَانَ أَوْ جَاهِلاً أَوْ
نَاسِيًا، وَقَوْلٌ يُعِيدُ النَّاسِي فِي الْوَقْتِ، وَالْعَامِدُ
وَالْجَاهِل بِالْحُكْمِ أَبَدًا نَدْبًا. وَأَجَازُوا الصَّلاَةَ بِلاَ
كَرَاهَةٍ بِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ مِنْ غَيْرِ فَرْشٍ يُصَلَّى
عَلَيْهِ، وَبِالْمَقْبَرَةِ بِلاَ حَائِلٍ وَلَوْ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَوْ
__________
(1) حديث: " أنه سئل عن الصلاة في مرابض الغنم ". أخرجه أبو داود (1 / 331
- 332 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، من حديث البراء بن عازب، وإسناده صحيح.
(27/114)
لِمُشْرِكٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ
الْمَقْبَرَةُ عَامِرَةً أَمْ دَارِسَةً مَنْبُوشَةً، وَبِالْمَزْبَلَةِ
وَالْمَجْزَرَةِ وَالْحَال أَنَّهُ لَمْ يُصَل عَلَى الزِّبْل أَوِ
الدَّمِ، بَل فِي مَحَلٍّ لاَ زِبْل فِيهِ، أَوْ لاَ دَمَ فِيهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَفْرِشَ شَيْئًا طَاهِرًا يُصَلِّي عَلَيْهِ.
وَبِالْمَحَجَّةِ (وَسَطِ الطَّرِيقِ) وَبِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ
(جَانِبِهِ) . وَقَيَّدُوا جَوَازَ الصَّلاَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ
وَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَحَجَّةِ بِأَمْنِ النَّجَاسَةِ.
أَمَّا مَرْبِضُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَدَائِمًا مَأْمُونُ النَّجَاسَةِ؛
لأَِنَّ بَوْلَهَا وَرَجِيعَهَا طَاهِرَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى أُمِنَتْ
هَذِهِ الأَْمَاكِنُ مِنَ النَّجَسِ - بِأَنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ
طَهَارَتَهَا - كَانَتِ الصَّلاَةُ جَائِزَةً وَلاَ إِعَادَةَ أَصْلاً
وَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا أَوْ ظُنَّتْ فَلاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ
فِيهَا، وَإِذَا صَلَّى أَعَادَ أَبَدًا. وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا
وَطَهَارَتِهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ، بِنَاءً عَلَى
تَرْجِيحِ الأَْصْل عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ. وَقَال ابْنُ
حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً تَرْجِيحًا
لِلْغَالِبِ عَلَى الأَْصْل. وَهَذَا فِي غَيْرِ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ
إِذَا صَلَّى فِيهَا لِضِيقِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الصَّلاَةَ فِيهَا
حِينَئِذٍ جَائِزَةٌ. وَلاَ إِعَادَةَ مَعَ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ
وَعَدَمِهَا.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُل ذَلِكَ فَقَالُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ
الصَّلاَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا:
لاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ،
(27/115)
فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ (1) .
وَالْمَقْبَرَةُ ثَلاَثَةُ قُبُورٍ فَصَاعِدًا، فَلاَ يُعْتَبَرُ قَبْرٌ
وَلاَ قَبْرَانِ مَقْبَرَةٌ.
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي الْحَمَّامِ، دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ
وَأَتُونِهِ (مُوقِدِ النَّارِ) وَكُل مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ الْبَابُ
وَيَدْخُل فِي الْبِيَعِ، لِشُمُول الاِسْمِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، لِحَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: الأَْرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ
وَالْمَقْبَرَةَ (2) . وَمِثْلُهُ الْحُشُّ - وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِقَضَاءِ
الْحَاجَةِ - وَلَوْ مَعَ طَهَارَتِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ.
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ عِنْدَهُمْ فِي أَعْطَانِ الإِْبِل - وَهِيَ مَا
تُقِيمُ فِيهِ وَتَأْوِي إِلَيْهِ -؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلُّوا فِي
مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلاَ تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الإِْبِل وَلاَ تَدْخُل
فِي النَّهْيِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا الإِْبِل لِعَلَفِهَا،
أَوْ وُرُودِهَا الْمَاءَ، وَمَوَاضِعِ نُزُولِهَا فِي سَيْرِهَا، لِعَدَمِ
تَنَاوُل اسْمِ الأَْعْطَانِ لَهَا.
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ - أَيْضًا - فِي الْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ
وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ سَالِكٌ أَوْ لاَ؛ لِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ.
__________
(1) حديث: " لا تتخذوا القبور مساجد ". أخرجه مسلم (1 / 378 - ط. الحلبي)
من حديث جندب بن جنادة.
(2) حديث أبي سعيد: " الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ". أخرجه أبو
داود (1 / 330 - العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(27/115)
وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ
بِلاَ كَرَاهَةٍ بِطَرِيقِ الْبُيُوتِ الْقَلِيلَةِ، وَبِمَا عَلاَ عَنْ
جَادَّةِ الطَّرِيقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً.
قَال الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهِ بِلاَ كَرَاهَةٍ؛
لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَجَّةٍ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُل مَكَان لاَ تَصِحُّ
الصَّلاَةُ فِيهِ، فَكَذَا لاَ تَصِحُّ عَلَى سَطْحِهِ؛ لأَِنَّ الْهَوَاءَ
تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، دَلِيلٌ أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنَ اللُّبْثِ
عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل دَارًا
يَحْنَثُ بِدُخُول سَطْحِهَا. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ عُذْرٍ:
كَأَنْ حُبِسَ بِحَمَّامٍ، أَوْ حُشٍّ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي تِلْكَ
الأَْمَاكِنِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ
صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ. لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ
أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَلَمْ تَصِحَّ،
كَصَلاَةِ الْحَائِضِ (1) .
106 - وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاوُبَ. .، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ
مِنْهُ الشَّيْطَانُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 196، 197، حاشية الدسوقي 1 / 188،
189، ومغني المحتاج 1 / 203، وكشاف القناع 1 / 293.
(27/116)
عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل
(1) . وَلأَِنَّهُ مِنَ التَّكَاسُل وَالاِمْتِلاَءِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ غَلَبَهُ فَلْيَكْظِمْ مَا
اسْتَطَاعَ وَلَوْ بِأَخْذِ شَفَتِهِ بِسِنِّهِ، وَبِوَضْعِ يَدِهِ أَوْ
كُمِّهِ عَلَى فَمِهِ.
وَيُكْرَهُ - أَيْضًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَضْعُ شَيْءٍ فِي فَمِهِ لاَ يَمْنَعُهُ مِنَ
الْقِرَاءَةِ؛ لأَِنَّهُ يَشْغَل بَالَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ
يَكُونَ هَذَا الشَّيْءُ لاَ يَذُوبُ، فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ كَالسُّكَّرِ
يَكُونُ فِي فِيهِ، فَإِنَّهُ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ إِذَا ابْتَلَعَ
ذَوْبَهُ.
وَيُكْرَهُ - كَذَلِكَ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
النَّفْخُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِهِ حَرْفَانِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِ
حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ (2) . قَالُوا: لأَِنَّهُ عَبَثٌ، كَمَا
صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الْبَصْقِ فِي الصَّلاَةِ قِبَل وَجْهِهِ أَوْ عَنْ
يَمِينِهِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ
فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلاَ عَنْ
يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ شَمُّ طِيبٍ
قَصْدًا، كَأَنْ يُدَلِّكَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ
__________
(1) حديث: " إن الله يحب العطاس. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 611 -
ط. السلفية) والرواية الثانية لمسلم (4 / 2293 - ط. الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 1 / 195.
(3) حديث أنس: " إذا كان أحدكم في الصلاة. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3
/ 84 - ط. السلفية) .
(27/116)
بِطِيبٍ، أَوْ يَضَعُ ذَا رَائِحَةٍ
طَيِّبَةٍ عِنْدَ أَنْفِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِيَسْتَنْشِقَهُ؛
لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْل الصَّلاَةِ، أَمَّا لَوْ دَخَلَتِ
الرَّائِحَةُ أَنْفَهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ كَرَاهَةَ. قَال
الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا إِذَا أَمْسَكَهُ بِيَدِهِ وَشَمَّهُ فَالظَّاهِرُ
الْفَسَادُ؛ لأَِنَّ مَنْ رَآهُ يَجْزِمُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ،
وَأَفَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُنْيَةِ: أَنَّهَا لاَ تَفْسُدُ بِذَلِكَ
أَيْ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَل كَثِيرًا (1) .
مُبْطِلاَتُ الصَّلاَةِ:
أ - الْكَلاَمُ:
107 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِالْكَلاَمِ؛
لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
قَال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُل صَاحِبَهُ
وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاَةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلاَمِ (2)
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - قَال: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ:
وَاثُكْل أُمِّيَاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 194، 195، وحاشية الدسوقي 1 / 255،
مغني المحتاج 1 / 201، 202، كشاف القناع 1 / 370، وما بعدها 381.
(2) حديث زيد بن أرقم: " كنا نتكلم في الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 383 - ط.
الحلبي) .
(27/117)
يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى
أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ،
فَلَمَّا صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ
أَحْسَنُ تَعْلِيمًا مِنْهُ. فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي
وَلاَ شَتَمَنِي، قَال: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا
شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الْكَلاَمَ الْمُبْطِل لِلصَّلاَةِ مَا
انْتَظَمَ مِنْهُ حَرْفَانِ فَصَاعِدًا؛ لأَِنَّ الْحَرْفَيْنِ يَكُونَانِ
كَلِمَةً كَأَبٍ وَأَخٍ، وَكَذَلِكَ الأَْفْعَال وَالْحُرُوفُ، وَلاَ
تَنْتَظِمُ كَلِمَةٌ فِي أَقَل مِنْ حَرْفَيْنِ، قَال الْخَطِيبُ
الشِّرْبِينِيُّ: الْحَرْفَانِ مِنْ جِنْسِ الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّ أَقَل مَا
يُبْنَى عَلَيْهِ الْكَلاَمُ حَرْفَانِ لِلاِبْتِدَاءِ وَالْوَقْفِ، أَوْ
حَرْفٌ مُفْهِمٌ نَحْوَ " قِ " مِنَ الْوِقَايَةِ، وَ " عِ " مِنَ
الْوَعْيِ وَ " فِ " مِنَ الْوَفَاءِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ مَدَّةً
بَعْدَ حَرْفٍ وَإِنْ لَمْ يُفْهِمْ نَحْوَ " آ " لأَِنَّ الْمَمْدُودَ فِي
الْحَقِيقَةِ حَرْفَانِ وَهَذَا عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَمُقَابِل
الأَْصَحِّ أَنَّهَا لاَ تَبْطُل؛ لأَِنَّ الْمُدَّةَ قَدْ تَتَّفِقُ
لإِِشْبَاعِ الْحَرَكَةِ وَلاَ تُعَدُّ حَرْفًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلاَمَ الْمُبْطِل لِلصَّلاَةِ
هُوَ حَرْفٌ أَوْ صَوْتٌ سَاذِجٌ، سَوَاءٌ
__________
(1) حديث معاوية بن الحكم: " بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 381 - 382 ط. الحلبي) .
(27/117)
صَدَرَ مِنَ الْمُصَلِّي بِالاِخْتِيَارِ
أَمْ بِالإِْكْرَاهِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ هَذَا الصَّوْتُ
كَإِنْقَاذِ أَعْمَى أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ
الْكَلاَمَ لإِِصْلاَحِ الصَّلاَةِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ
كَثِيرًا، وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الْكَلاَمَ حَالَةَ السَّهْوِ إِذَا كَانَ
كَثِيرًا فَإِنَّهُ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ أَيْضًا.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْكَلاَمِ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي نَاسِيًا أَوْ نَائِمًا أَوْ جَاهِلاً،
أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا، فَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِكَلاَمِ هَؤُلاَءِ
جَمِيعًا. قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) . فَمَحْمُولٌ
عَلَى رَفْعِ الإِْثْمِ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ السَّلاَمَ سَاهِيًا لِلتَّحْلِيل قَبْل
إِتْمَامِهَا عَلَى ظَنِّ إِكْمَالِهَا فَلاَ يَفْسِدُ، وَأَمَّا إِنْ
كَانَ عَمْدًا فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ. وَكَذَا نَصُّوا عَلَى بُطْلاَنِ
الصَّلاَةِ بِالسَّلاَمِ عَلَى إِنْسَانٍ لِلتَّحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ
يَقُل: عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كَانَ سَاهِيًا. وَبِرَدِّ السَّلاَمِ
بِلِسَانِهِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِكَلاَمِ
النَّاسِي، وَالْجَاهِل بِالتَّحْرِيمِ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ
بِالإِْسْلاَمِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ،
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط.
الحلبي) ، والحاكم (2 / 198 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن
عباس، واللفظ لابن ماجه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(27/118)
وَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ، إِنْ كَانَ
الْكَلاَمُ يَسِيرًا عُرْفًا، فَيُعْذَرُ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِلنَّاسِي
بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال:
صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ
أَوِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى خَشَبَةَ
الْمَسْجِدِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَال لَهُ ذُو
الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُول اللَّهِ؟
فَقَال لأَِصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا:
نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ (1)
.
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّهُ تَكَلَّمَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي
الصَّلاَةِ، وَهُمْ تَكَلَّمُوا مُجَوِّزِينَ النَّسْخَ ثُمَّ بَنَى هُوَ
وَهُمْ عَلَيْهَا.
وَلاَ يُعْذَرُ فِي كَثِيرِ الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّهُ يَقْطَعُ نَظْمَ
الصَّلاَةِ وَهَيْئَتَهَا، وَالْقَلِيل يُحْتَمَل لِقِلَّتِهِ وَلأَِنَّ
السَّبْقَ وَالنِّسْيَانَ فِي كَثِيرٍ نَادِرٍ.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَرْجِعُ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ إِلَى
الْعُرْفِ عَلَى الأَْصَحِّ.
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْكَلاَمِ فَإِنَّهُ تَبْطُل صَلاَتُهُ عَلَى
الأَْظْهَرِ وَلَوْ كَانَ كَلاَمُهُ يَسِيرًا، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ لاَ
تَبْطُل كَالنَّاسِي. وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَلاَمُهُ كَثِيرًا فَتَبْطُل
بِهِ جَزْمًا.
__________
(1) حديث أبي هريرة: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو
العصر فسلم من ركعتين ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 565، 3 / 96 ط. السلفية)
.
(27/118)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلاَنِ
الصَّلاَةِ بِكَلاَمِ السَّاهِي وَالْمُكْرَهِ، وَبِالْكَلاَمِ
لِمَصْلَحَةِ الصَّلاَةِ، وَالْكَلاَمِ لِتَحْذِيرٍ نَحْوَ ضَرِيرٍ.
وَلاَ تَبْطُل عِنْدَهُمْ بِكَلاَمِ النَّائِمِ إِذَا كَانَ النَّوْمُ
يَسِيرًا، فَإِذَا نَامَ الْمُصَلِّي قَائِمًا أَوْ جَالِسًا، فَتَكَلَّمَ
فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَكَذَا إِذَا سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى لِسَانِهِ
حَال الْقِرَاءَةِ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ فَأَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْ
غَيْرِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ تَكَلَّمَ ظَانًّا أَنَّ صَلاَتَهُ تَمَّتْ،
فَإِنْ كَانَ سَلاَمًا لَمْ تَبْطُل الصَّلاَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ،
أَمَّا إِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَكْمُل بِهِ الصَّلاَةُ أَوْ
شَيْءٍ مِنْ شَأْنِ الصَّلاَةِ مِثْل كَلاَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا الْيَدَيْنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ (2) .
ب - الْخِطَابُ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ:
108 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ صَلاَةِ مَنْ خَاطَبَ أَحَدًا
بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، كَقَوْلِهِ لِمَنِ اسْمُهُ
يَحْيَى أَوْ مُوسَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَوْ {مَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ، أَوْ لِمَنْ بِالْبَابِ {وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا} . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 413، حاشية الدسوقي 1 / 289، مغني المحتاج 1 /
195، 196، مطالب أولي النهى 1 / 520، 538.
(2) المغني 2 / 46، 47.
(27/119)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ -
إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِكُل مَا قُصِدَ بِهِ الْخِطَابُ مِنَ
الْقُرْآنِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَفْسُدُ وَإِنْ
لَمْ يَكُنِ الْمُخَاطَبُ مُسَمًّى بِهَذَا الاِسْمِ إِذَا قَصَدَ
خِطَابَهُ. وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ بِالْخِطَابِ
بِالْقُرْآنِ بِمَا إِنْ قَصَدَ بِهِ التَّفْهِيمَ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ.
وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَاسْتُؤْذِنَ
عَلَيْهِ فَقَطَعَهَا إِلَى آيَةِ {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمَنِينَ} ،
أَمَّا إِنْ قَصَدَ التَّفْهِيمَ بِهِ بِمَحَلِّهِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ
الصَّلاَةُ كَأَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَهُوَ يَقْرَأُ {إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ:
{ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمَنِينَ} لِقَصْدِ الإِْذْنِ فِي الدُّخُول، أَوْ
يَبْتَدِئُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَقَيَّدَ
الشَّافِعِيَّةُ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ بِالْخِطَابِ بِالْقُرْآنِ بِمَا
إِذَا قَصَدَ التَّفْهِيمَ فَقَطْ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ
فِيهِمَا يُشْبِهُ كَلاَمَ الآْدَمِيِّينَ فَلاَ يَكُونُ قُرْآنًا إِلاَّ
بِالْقَصْدِ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ مَعَ التَّفْهِيمِ الْقِرَاءَةَ لَمْ
تَبْطُل الصَّلاَةُ؛ لأَِنَّهُ قُرْآنٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَصَدَ
الْقُرْآنَ وَحْدَهُ؛ وَلأَِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
- كَانَ يُصَلِّي فَدَخَل رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَال: لاَ حُكْمَ
إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَلاَ عَلِيٌّ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ} .
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيل يَجْرِي فِي
الْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ بِالْقُرْآنِ، وَالْجَهْرِ
(27/119)
بِالتَّكْبِيرِ أَوِ التَّسْمِيعِ،
فَإِنَّهُ إِنْ قَصَدَ الرَّدَّ مَعَ الْقِرَاءَةِ أَوْ الْقِرَاءَةَ -
فَقَطْ - أَوْ قَصَدَ التَّكْبِيرَ أَوِ التَّسْمِيعَ - فَقَطْ - مَعَ
الإِْعْلاَمِ لَمْ تَبْطُل وَإِلاَّ بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلاَمِ
بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يُوهِمُ خِلاَفَ ذَلِكَ. وَذَهَبَ
الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ خَاطَبَ بِشَيْءٍ مِنَ
الْقُرْآنِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلاَّل عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَال:
اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ
يُصَلِّي فَقَال {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ}
فَقُلْنَا: كَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَال: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمَنِينَ} ، وَلأَِنَّهُ قُرْآنٌ فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلاَةُ،
كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّنْبِيهَ. وَقَال الْقَاضِي: إِذَا قَصَدَ
بِالْحَمْدِ الذِّكْرَ أَوِ الْقُرْآنَ لَمْ تَبْطُل، وَإِنْ قَصَدَ
خِطَابَ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ، وَإِنْ قَصَدَهُمَا فَوَجْهَانِ، فَأَمَّا إِنْ
أَتَى بِمَا لاَ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ
لِرَجُلٍ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا إِبْرَاهِيمُ وَنَحْوَهُ فَسَدَتْ
صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا كَلاَمُ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ
كَلاَمِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَمَعَ
بَيْنَ كَلِمَاتٍ مُفَرَّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَال: يَا إِبْرَاهِيمُ
خُذِ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ.
كَمَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ
بِكُل مَا قُصِدَ بِهِ الْجَوَابُ مِنَ الذِّكْرِ
(27/120)
وَالثَّنَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ،
كَأَنْ قِيل. أَمَعَ اللَّهِ إِلَهٌ؟ فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
أَوْ مَا مَالُكَ؟ فَقَال: الْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرُ، وَأَمَّا
إِنْ كَانَ الْجَوَابُ بِمَا لَيْسَ بِثَنَاءٍ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ
اتِّفَاقًا، كَأَنْ قِيل: مَا مَالُكَ؟ فَقَال: الإِْبِل وَالْبَقَرُ
وَالْعَبِيدُ مَثَلاً؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِثَنَاءٍ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ
أُخْبِرَ بِخَبَرِ سُوءٍ فَاسْتَرْجَعَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا
تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ،
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ ثَنَاءً
أَوْ قُرْآنًا لاَ يَتَغَيَّرُ بِالنِّيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَتَغَيَّرُ،
وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ: أَنَّهُ لَوْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَال:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلاَفِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ تَشْمِيتَ
الْعَاطِسِ فِي الصَّلاَةِ لِغَيْرِهِ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ. فَلَوْ عَطَسَ
شَخْصٌ فَقَال لَهُ الْمُصَلِّي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ،
لأَِنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلاَمِهِمْ،
بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَال الْعَاطِسُ أَوِ السَّامِعُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا
إِلاَّ إِذَا أَرَادَ التَّعْلِيمَ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَفْسُدُ، وَأَمَّا
إِذَا عَطَسَ فَشَمَّتَ نَفْسَهُ فَقَال: يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَا نَفْسِي
لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لِغَيْرِهِ
لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ كَمَا إِذَا قَال: يَرْحَمُنِي
اللَّهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَبْطُل
(27/120)
الصَّلاَةُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ
إِلاَّ أَنْ يُخَاطِبَ كَقَوْلِهِ لِعَاطِسٍ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذِّكْرُ لاَ خِطَابَ فِيهِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ
الصَّلاَةُ، كَمَا لَوْ عَطَسَ فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَوْ سَمِعَ مَا
يَغُمُّهُ فَقَال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَوْ
رَأَى مَا يُعْجِبُهُ فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ قِيل لَهُ: وُلِدَ
لَكَ غُلاَمٌ فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ
بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ؛ لِلاِخْتِلاَفِ فِي إِبْطَالِهِ الصَّلاَةَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ،
وَالاِسْتِرْجَاعِ مِنْ مُصِيبَةٍ أُخْبِرَ بِهَا وَنَحْوِهِ إِلاَّ
أَنَّهُ يُنْدَبُ تَرْكُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّسْبِيحِ
وَالتَّهْلِيل وَالْحَوْقَلَةِ بِقَصْدِ التَّفْهِيمِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ
مِنَ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِذَلِكَ (1) .
ج - التَّأَوُّهُ وَالأَْنِينُ وَالتَّأْفِيفُ وَالْبُكَاءُ وَالنَّفْخُ
وَالتَّنَحْنُحُ:
109 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْنِينَ
(وَهُوَ قَوْل: أُهْ بِالْقَصْرِ) وَالتَّأَوُّهَ (وَهُوَ قَوْل: آهٍ
بِالْمَدِّ) وَالْبُكَاءَ وَنَحْوَهُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 416، فتح القدير 1 / 347، حاشية الدسوقي 1 / 283،
285، مغني المحتاج 1 / 196، كشاف القناع 1 / 196، مطالب أولي النهى 1 /
537.
(27/121)
الصَّلاَةُ. وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ
الْمَرِيضَ الَّذِي لاَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ
بِالأَْنِينِ وَالتَّأَوُّهِ وَالتَّأْفِيفِ وَالْبُكَاءِ، وَإِنْ حَصَل
حُرُوفٌ لِلضَّرُورَةِ.
قَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ الأَْنِينُ مِنْ وَجَعٍ، مِمَّا يُمْكِنُ
الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ
يُمْكِنُ لاَ يَقْطَعُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِنْ كَانَ الْمَرَضُ خَفِيفًا
يَقْطَعُ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْقُعُودُ إِلاَّ
بِالأَْنِينِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا
إِذَا لَمْ يَتَكَلَّفْ إِخْرَاجَ حُرُوفٍ زَائِدَةٍ، كَمَا اسْتَثْنَى
الْحَنَفِيَّةُ الْبُكَاءَ مِنْ خَوْفِ الآْخِرَةِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلاَةُ، لِدَلاَلَتِهِ عَلَى
الْخُشُوعِ. فَلَوْ أَعْجَبَتْهُ قِرَاءَةُ الإِْمَامِ فَجَعَل يَبْكِي
وَيَقُول: بَلَى أَوْ نَعَمْ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْكَافِي: لأَِنَّ الأَْنِينَ وَنَحْوَهُ إِذَا
كَانَ بِذِكْرِهِمَا صَارَ كَأَنَّهُ قَال: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لاَ
تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ صَارَ
كَأَنَّهُ يَقُول: أَنَا مُصَابٌ فَعَزُّونِي وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ
تَفْسُدُ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبُكَاءُ مِنْ
خَوْفِ الآْخِرَةِ أَمْ لاَ فِي بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الأَْنِينِ لأَِجْل وَجَعٍ
غَلَبَهُ، وَالْبُكَاءِ لأَِجْل الْخُشُوعِ، سَوَاءٌ كَانَ
(27/121)
قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ لَمْ
يَكُنِ الأَْنِينُ وَالْبُكَاءُ مِنْ غَلَبَةٍ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ
وَسَهْوِهِ، قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا قَل
أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِل إِنْ كَانَ كَثِيرًا وَيَسْجُدُ لَهُ
إِنْ قَل. قَال الدَّرْدِيرُ: وَهَذَا فِي الْبُكَاءِ الْمَمْدُودِ وَهُوَ
مَا كَانَ بِصَوْتٍ، وَأَمَّا الْمَقْصُورُ، وَهُوَ مَا كَانَ بِلاَ صَوْتٍ
فَلاَ يَضُرُّ وَلَوِ اخْتِيَارًا مَا لَمْ يَكْثُرْ.
وَمِثْل الْمَالِكِيَّةِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فَصَرَّحُوا بِعَدَمِ
بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛
لِكَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ غَلَبَهُ
نَحْوُ سُعَالٍ وَعُطَاسٍ وَتَثَاؤُبٍ وَبُكَاءٍ، وَلَوْ بَانَ مِنْهُ
حَرْفَانِ، قَال مُهَنَّا: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
فَتَثَاءَبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَسَمِعْتُ لِتَثَاؤُبِهِ: هَاهْ، هَاهْ.
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ
مِنْ أَحْكَامِ الْكَلاَمِ. تَقُول: تَثَاءَبْتُ، عَلَى تَفَاعَلْتُ، وَلاَ
تَقُل: تَثَاوَبْتُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِدْعَاءُ بُكَاءٍ
وَضَحِكٍ لِئَلاَّ يَظْهَرَ حَرْفَانِ فَتَبْطُل صَلاَتُهُ.
110 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ (هُوَ أَنْ يَقُول أَحْ
بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ) لِغَيْرِ عُذْرٍ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ إِنْ ظَهَرَ
حَرْفَانِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ نَشَأَ مِنْ طَبْعِهِ، أَوْ غَلَبَهُ
فَلاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ. قَال
(27/122)
الْحَنَفِيَّةُ: وَمِثْلُهُ مَا لَوْ
فَعَلَهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَتَحْسِينِ الصَّوْتِ؛ لأَِنَّهُ يَفْعَلُهُ
لإِِصْلاَحِ الْقِرَاءَةِ، وَمِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ مَا لَوْ فَعَلَهُ
لِيَهْتَدِيَ إِمَامُهُ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ لِلإِْعْلاَمِ أَنَّهُ فِي
الصَّلاَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْقِيَاسُ الْفَسَادُ فِي الْكُل
إِلاَّ فِي الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّهُ كَلاَمٌ، وَالْكَلاَمُ مُفْسِدٌ عَلَى كُل حَالٍ،
وَكَأَنَّهُمْ عَدَلُوا بِذَلِكَ عَنِ الْقِيَاسِ وَصَحَّحُوا عَدَمَ
الْفَسَادِ بِهِ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ نَصٍّ،
وَلَعَلَّهُ مَا فِي الْحِلْيَةِ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كَانَ لِي مِنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْخَلاَنِ: مَدْخَلٌ بِاللَّيْل
وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي
يَتَنَحْنَحُ لِي (1) .
وَبِمِثْل هَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا النَّحْنَحَةَ
لِحَاجَةٍ وَلَوْ بَانَ حَرْفَانِ. قَال الْمَرُّوذِيُّ: كُنْتُ آتِي أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ فَيَتَنَحْنَحُ فِي صَلاَتِهِ لأَِعْلَمَ أَنَّهُ يُصَلِّي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْذَرُ مِنَ
التَّنَحْنُحِ وَغَيْرِهِ: كَالسُّعَال وَالْعُطَاسِ الْيَسِيرِ عُرْفًا
لِلْغَلَبَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ لِعَدَمِ
__________
(1) حديث علي بن أبي طالب - " كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
مدخلان ". أخرجه ابن ماجه (2 / 122 - ط. الحلبي) وفي إسناده انقطاع بين علي
وبين الراوي عنه، كذا في تحفة الأشراف للمزي (7 / 416 - ط. الدار القيمة) .
(27/122)
التَّقْصِيرِ، وَكَذَا التَّنَحْنُحُ
لِتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْرْكَانِ
الْقَوْلِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا كَثُرَ التَّنَحْنُحُ
وَنَحْوُهُ لِلْغَلَبَةِ كَأَنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ مِنْ ذَلِكَ
وَكَثُرَ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل، وَصَوَّبَ الإِْسْنَوِيُّ عَدَمَ
الْبُطْلاَنِ فِي التَّنَحْنُحِ وَالسُّعَال وَالْعُطَاسِ لِلْغَلَبَةِ
وَإِنْ كَثُرَتْ إِذْ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَل
الأَْوَّل مَا إِذَا لَمْ يَصِرِ السُّعَال وَنَحْوُهُ مَرَضًا مُلاَزِمًا
لَهُ، أَمَّا إِذَا صَارَ السُّعَال وَنَحْوُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ
يَضُرُّ كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوُهُ بَل أَوْلَى. وَلاَ يُعْذَرُ
لَوْ تَنَحْنَحَ لِلْجَهْرِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا؛ لأَِنَّ الْجَهْرَ
سُنَّةٌ، لاَ ضَرُورَةَ إِلَى التَّنَحْنُحِ لَهُ. وَفِي مَعْنَى الْجَهْرِ
سَائِرُ السُّنَنِ.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ جَهِل بُطْلاَنَهَا بِالتَّنَحْنُحِ
مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ الْكَلاَمِ فَمَعْذُورٌ لِخَفَاءِ حُكْمِهِ
عَلَى الْعَوَامِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ لِحَاجَةٍ لاَ يُبْطِل
الصَّلاَةَ، وَلاَ سُجُودَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، وَأَمَّا
التَّنَحْنُحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، بَل عَبَثًا فَفِيهِ خِلاَفٌ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ - أَيْضًا - وَلاَ
سُجُودَ فِيهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ الأَْبْهَرِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَخَلِيلٌ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِمَالِكٍ: أَنَّهُ كَالْكَلاَمِ، فَيُفَرَّقُ
(27/123)
بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ. وَفَسَّرَ
ابْنُ عَاشِرٍ الْحَاجَةَ بِضَرُورَةِ الطَّبْعِ، وَقَيَّدُوا عَدَمَ
بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالتَّنَحْنُحِ لِغَيْرِ الْحَاجَةِ بِمَا إِذَا قَل
وَإِلاَّ أَبْطَل؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ
الصَّلاَةِ.
111 - وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِتَعَمُّدِ
النَّفْخِ بِالْفَمِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ حَرْفٌ. قَال
الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً، ظَهَرَ مَعَهُ
حَرْفٌ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُ كَالْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقِيل: إِنَّهُ لاَ يُبْطِل مُطْلَقًا.
وَقِيل: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفٌ أَبْطَل وَإِلاَّ فَلاَ. أَمَّا
النَّفْخُ بِالأَْنْفِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ مَا لَمْ يَكْثُرْ
أَوْ يَقْصِدُ عَبَثًا. قَال الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ كَانَ عَبَثًا جَرَى
عَلَى الأَْفْعَال الْكَثِيرَةِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ
الصَّلاَةِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ بِالنَّفْخِ فِيمَا إِذَا
بَانَ حَرْفَانِ لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا - " مَنْ نَفَخَ فِي صَلاَتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ وَرُوِيَ
نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) -.
د - الضَّحِكُ:
112 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالضَّحِكِ إِنْ كَانَ
قَهْقَهَةً، وَلَوْ لَمْ تَبِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 415، حاشية الدسوقي 1 / 281، وما بعدها، 284،
289، مغني المحتاج 1 / 196، مطالب أولي النهى 1 / 520، 521.
(27/123)
حُرُوفٌ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الصَّلاَةَ وَلاَ تَنْقُضُ
الْوُضُوءَ (1) وَلأَِنَّهُ تَعَمَّدَ فِيهَا مَا يُنَافِيهَا، أَشْبَهَ
خِطَابَ الآْدَمِيِّ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَسَوَاءٌ قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ، وَسَوَاءٌ
وَقَعَتْ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا - لِكَوْنِهِ فِي الصَّلاَةِ - أَوْ
غَلَبَةً، كَأَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ فِي صَلاَتِهِ أَوْ الاِسْتِمَاعَ
لِمَا يُضْحِكُ فَيَغْلِبُهُ الضَّحِكُ فِيهَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَالْقَهْقَهَةُ اصْطِلاَحًا:
مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ بَدَتْ أَسْنَانُهُ أَوْ لاَ،
وَإِنْ عَرِيَ عَنْ ظُهُورِ الْقَافِ وَالْهَاءِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَمَا
صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالضَّحِكِ دُونَ قَهْقَهَةٍ، وَهُوَ
مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَهُ فَقَطْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ بِالضَّحِكِ حَرْفَانِ
بَطَلَتِ الصَّلاَةُ وَإِلاَّ فَلاَ (2) ، وَأَمَّا التَّبَسُّمُ فَلاَ
تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَبَسَّمَ فِيهَا فَلَمَّا سَلَّمَ
__________
(1) حديث جابر: " القهقهة تنقض الصلاة ". أورده الدارقطني (1 / 172 - شركة
الطباعة) بلفظ مقارب، وصوب وقفه على جابر بن عبد الله.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 97، حاشية الدسوقي 1 / 286، مغني المحتاج 1 /
195، مطالب أولي النهى 1 / 520، 538.
(27/124)
قَال: مَرَّ بِي مِيكَائِيل فَضَحِكَ لِي
فَتَبَسَّمْتُ لَهُ (1) .
هـ - الأَْكْل وَالشُّرْبُ:
113 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالأَْكْل
وَالشُّرْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ
سِمْسِمَةً نَاسِيًا. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ بَيْنَ
أَسْنَانِهِ وَكَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ بِهِ
الصَّلاَةُ إِذَا ابْتَلَعَهُ، وَصَرَّحُوا بِفَسَادِ الصَّلاَةِ
بِالْمَضْغِ إِنْ كَثُرَ، وَتَقْدِيرُهُ بِالثَّلاَثِ الْمُتَوَالِيَاتِ.
وَكَذَا تَفْسُدُ بِالسُّكَّرِ إِذَا كَانَ فِي فِيهِ يَبْتَلِعُ ذَوْبَهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُفْسِدَ: إِمَّا الْمَضْغُ، أَوْ وُصُول
عَيْنِ الْمَأْكُول إِلَى الْجَوْفِ بِخِلاَفِ الطَّعْمِ. قَال فِي
الْبَحْرِ عَنِ الْخُلاَصَةِ: وَلَوْ أَكَل شَيْئًا مِنَ الْحَلاَوَةِ
وَابْتَلَعَ عَيْنَهَا فَدَخَل فِي الصَّلاَةِ فَوَجَدَ حَلاَوَتَهَا فِي
فِيهِ وَابْتَلَعَهَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، وَلَوْ أَدْخَل الْفَايْنَذَ
أَوِ السُّكَّرَ فِي فِيهِ، وَلَمْ يَمْضُغْهُ، لَكِنْ يُصَلِّي
وَالْحَلاَوَةُ تَصِل إِلَى جَوْفِهِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ عَمْدِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة ". أخرجه
الدارقطني (1 / 75 شركة الطباعة الفنية) من حديث جابر بن عبد الله بن دياب،
وأخرجه كذلك الطبراني في المعجم الكبير مختصرًا (2 / 205 ط. وزارة الأوقاف
العراقية) وأورده الهيثمي في المجمع (2 / 82 ط. القدسي) ، وقال: فيه الوازع
وهو ضعيف.
(27/124)
وَسَهْوِهِ، فَإِنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ
الْمُصَلِّي عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا إِنْ أَكَل
أَوْ شَرِبَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَانْجَبَرَ بِسُجُودِ
السَّهْوِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالأَْكْل وَلَوْ
كَانَ قَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ؛ لِشِدَّةِ مُنَافَاتِهِ
لِلصَّلاَةِ مَعَ نُدْرَتِهِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ: النَّاسِيَ
أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ، وَالْجَاهِل بِالتَّحْرِيمِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ
بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ
فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ بِالأَْكْل إِلاَّ إِذَا كَثُرَ عُرْفًا، وَلاَ
تَبْطُل مَا لَوْ جَرَى رِيقُهُ بِبَاقِي طَعَامٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ
وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ.
وَصَرَّحُوا: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِفَمِهِ سُكَّرَةٌ فَذَابَتْ فَبَلَعَ
ذَوْبَهَا عَمْدًا، مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ تَقْصِيرِهِ فِي
التَّعَلُّمِ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل. كَمَا صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ
الصَّلاَةِ بِالْمَضْغِ إِنْ كَثُرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِل إِلَى جَوْفِهِ
شَيْءٌ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَل،
فَصَلاَةُ الْفَرْضِ تَبْطُل بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ عَمْدًا، قَل الأَْكْل
أَوِ الشُّرْبُ أَوْ كَثُرَ، لأَِنَّهُ يُنَافِي الصَّلاَةَ. وَأَمَّا
صَلاَةُ النَّفْل فَلاَ تَبْطُل بِالأَْكْل وَالشَّرَابِ إِلاَّ إِذَا
كَثُرَ عُرْفًا لِقَطْعِ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ الأَْرْكَانِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَهَذَا رِوَايَةٌ، وَعَنْهُ أَنَّ
(27/125)
النَّفَل كَالْفَرْضِ، قَال فِي
الْمُبْدِعِ وَبِهِ قَال أَكْثَرُهُمْ؛ لأَِنَّ مَا أَبْطَل الْفَرْضَ
أَبْطَل النَّفَل، كَسَائِرِ الْمُبْطِلاَتِ.
وَكُل مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا كَانَ الأَْكْل وَالشُّرْبُ عَمْدًا، فَإِنْ
كَانَ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً فَإِنَّهُ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ فَرْضًا
كَانَتْ أَوْ نَفْلاً إِذَا كَانَ يَسِيرًا؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ
وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَلأَِنَّ تَرْكَهُمَا
عِمَادُ الصَّوْمِ، وَرُكْنُهُ الأَْصْلِيُّ، فَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي
حَالَةِ السَّهْوِ فِي الصِّيَامِ فَالصَّلاَةُ أَوْلَى.
قَالُوا: وَلاَ بَأْسَ بِبَلْعِ مَا بَقِيَ فِي فِيهِ مِنْ بَقَايَا
الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ، أَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِنْ
بَقَايَا الطَّعَامِ بِلاَ مَضْغٍ مِمَّا يَجْرِي بِهِ رِيقُهُ وَهُوَ
الْيَسِيرُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُسَمَّى أَكْلاً، وَأَمَّا مَا لاَ
يَجْرِي بِهِ رِيقُهُ بَل يَجْرِي بِنَفْسِهِ - وَهُوَ مَا لَهُ جِرْمٌ -
فَإِنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِبَلْعِهِ لِعَدَمِ مَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ.
قَال الْمَجْدُ: إِذَا اقْتَلَعَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ مَا لَهُ جِرْمٌ
وَابْتَلَعَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَنَا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ بَلْعَ
مَا ذَابَ بِفِيهِ مِنْ سُكَّرٍ وَنَحْوِهِ كَالأَْكْل (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 418، حاشية الدسوقي 1 / 289، مواهب الجليل 2 /
36، الخرشي على خليل 1 / 330، نهاية المحتاج 2 / 52، ومغني المحتاج 1 /
200، شرح روض الطالب 1 / 185، كشاف القناع 1 / 398.
(27/125)
و - الْعَمَل الْكَثِيرُ:
114 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْعَمَل
الْكَثِيرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى
أَنَّ الْعَمَل الْكَثِيرَ الَّذِي تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ هُوَ مَا لاَ
يَشُكُّ النَّاظِرُ فِي فَاعِلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلاَةِ. قَالُوا:
فَإِنْ شَكَّ أَنَّهُ فِيهَا أَمْ لاَ فَقَلِيلٌ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَهُمْ، وَقَيَّدُوا الْعَمَل الْكَثِيرَ أَلاَّ يَكُونَ
لإِِصْلاَحِهَا لِيَخْرُجَ بِهِ الْوُضُوءُ وَالْمَشْيُ لِسَبْقِ الْحَدَثِ
فَإِنَّهُمَا لاَ يُفْسِدَانِهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ: وَلاَ فِعْل لِعُذْرٍ
احْتِرَازًا عَنْ قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ عَلَى
قَوْلٍ، إِلاَّ أَنْ يُقَال: إِنَّهُ لإِِصْلاَحِهَا؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ
قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِهَا.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ،
فَالْعَمَل الْكَثِيرُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يُخَيَّل لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ
لَيْسَ فِي صَلاَةٍ، وَالسَّهْوُ فِي ذَلِكَ كَالْعَمْدِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي
مَعْرِفَةِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ هُوَ الْعُرْفُ، فَمَا يَعُدُّهُ
النَّاسُ قَلِيلاً فَقَلِيلٌ، وَمَا يَعُدُّونَهُ كَثِيرًا فَكَثِيرٌ، قَال
الشَّافِعِيَّةُ: فَالْخُطْوَتَانِ المُتَوَّسِّطَتان، وَالضَّرْبَتَانِ،
وَنَحْوِهِمَا قَلِيلٌ، وَالثَّلاَثُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ كَثِيرٌ
إِنْ تَوَالَتْ. سَوَاءٌ أَكَانَتْ
(27/126)
مِنْ جِنْسِ الْخُطُوَاتِ، أَمْ أَجْنَاسٌ:
كَخُطْوَةٍ، وَضَرْبَةٍ، وَخَلْعِ نَعْلٍ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ
الْخُطُوَاتُ الثَّلاَثُ بِقَدْرِ خُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ لاَ.
وَصَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْفَعْلَةِ الْفَاحِشَةِ؛
كَالْوَثْبَةِ الْفَاحِشَةِ لِمُنَافَاتِهَا لِلصَّلاَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ
فَالأَْفْعَال الْعَمْدِيَّةُ عِنْدَهُمْ تُبْطِل الصَّلاَةَ وَلَوْ
كَانَتْ قَلِيلَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ أَفْعَال الصَّلاَةِ
أَمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا. أَمَّا السَّهْوُ فَإِنْ كَانَتِ الأَْفْعَال
مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاَةِ فَتَبْطُل بِكَثِيرِهَا؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ
لاَ تَدْعُو إِلَيْهَا، أَمَّا إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا
كَصَلاَةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَلاَ تَضُرُّ وَلَوْ كَثُرَتْ. أَمَّا إِذَا
كَانَتِ الأَْفْعَال مِنْ جِنْسِهَا - كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ
سَهْوًا - فَلاَ تَبْطُل (1) ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَمْ يُعِدْهَا
(2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَتَقَدَّرُ الْيَسِيرُ بِثَلاَثٍ وَلاَ
لِغَيْرِهَا مِنَ الْعَدَدِ، بَل الْيَسِيرُ مَا عَدَّهُ الْعُرْفُ
يَسِيرًا؛ لأَِنَّهُ لاَ تَوْقِيفَ فِيهِ فَيُرْجَعُ لِلْعُرْفِ
كَالْقَبْضِ وَالْحِرْزِ. فَإِنْ طَال عُرْفًا مَا فَعَل فِيهَا، وَكَانَ
ذَلِكَ الْفِعْل مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا غَيْرَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 419، بلغة السالك 1 / 126 ط. مصطفى الحلبي 1952،
مغني المحتاج 1 / 198، كشاف القناع 1 / 377، مطالب أولي النهى 1 / 539.
(2) حديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا وسجد للسهو. . . ". أخرجه
البخاري (الفتح 3 / 94 - ط. السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود.
(27/126)
مُتَفَرِّقٍ أَبْطَلَهَا عَمْدًا كَانَ
أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً مَا لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ
ضَرُورَةً، كَحَالَةِ خَوْفٍ، وَهَرَبٍ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ كَسَيْلٍ
لَمْ تَبْطُل، وَعَدَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الضَّرُورَةِ الْحِكَّةَ
الَّتِي لاَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْعَمَل الْمُتَفَرِّقُ فَلاَ
يُبْطِل الصَّلاَةَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ إِذَا قَامَ حَمَل
أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا (1) وَصَلَّى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَتَكَرَّرَ صُعُودُهُ وَنُزُولُهُ عَنْهُ (2) .
ز - تَخَلُّفُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ:
115 - لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً
شُرُوطَهَا. فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا:
كَالطَّهَارَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ بَطَلَتْ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَأَ
مَا يُنَافِيهَا كَمَا لَوْ نَزَلَتْ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ
يُصَلِّي، أَوْ تَذَكَّرَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ
طَهَارَةٍ. . . وَالتَّفْصِيل كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً: تَخَلُّفُ شَرْطِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ:
116 - إِذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ، أَوْ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت زينب في الصلاة ".
أخرجه البخاري (الفتح 1 / 590 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 386 - ط. الحلبي)
من حديث أبي قتادة واللفظ لمسلم.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم: " صلى على المنبر. . . . ". أخرجه
البخاري (الفتح 1 / 486 - ط. السلفية) من حديث سهل بن سعد.
(27/127)
كَانَ مُحْدِثًا قَبْل الصَّلاَةِ
وَتَذَكَّرَ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ صَلاَتَهُ لاَ تَصِحُّ؛ لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَدَث) ف 23 (17 124) (وَرُعَاف) ف 5 (22 265) .
ثَانِيًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ الطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَاسَةِ:
117 - طَهَارَةُ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ شَرْطٌ
لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ.
وَسَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي فِقْرَةِ (10) .
صَلاَةُ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ:
118 - الطَّهُورَانِ هُمَا: الْمَاءُ وَالصَّعِيدُ، وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ فَاقِدِهِمَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ -
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ فَقَطْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلاَةِ عَلَى فَاقِدِ
الطَّهُورَيْنِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (فَاقِدُ
الطَّهُورَيْنِ) .
صَلاَةُ الْعَاجِزِ عَنْ ثَوْبٍ طَاهِرٍ وَمَكَانٍ طَاهِرٍ:
119 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صَلاَةِ الْعَاجِزِ عَنْ ثَوْبٍ طَاهِرٍ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ
__________
(1) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور ". أخرجه مسلم (1 / 204 - ط. الحلبي) .
(27/127)
يُصَلِّيَ بِالثَّوْبِ النَّجَسِ أَوْ
عَارِيًا مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَالصَّلاَةُ بِالثَّوْبِ النَّجَسِ
حِينَئِذٍ أَفْضَل؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ
الصَّلاَةِ حَالَةَ الاِخْتِيَارِ. فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ.
وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ تُجْزِئُهُ الصَّلاَةُ إِلاَّ فِي الثَّوْبِ
النَّجَسِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَوَازِ مِنَ
الصَّلاَةِ عُرْيَانًا، فَإِنَّ الْقَلِيل مِنَ النَّجَاسَةِ لاَ يَمْنَعُ
الْجَوَازَ، وَكَذَلِكَ الْكَثِيرُ فِي قَوْل بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. قَال
عَطَاءٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ سَبْعُونَ
قَطْرَةً مِنْ دَمٍ جَازَتْ صَلاَتُهُ. وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ بِجَوَازِ
الصَّلاَةِ عُرْيَانًا فِي حَال الاِخْتِيَارِ. قَال فِي الأَْسْرَارِ:
وَقَوْل مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَفْضَل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ
ثَوْبٍ طَاهِرٍ يُصَلِّي فِي ثَوْبِهِ النَّجَسِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
يُعِيدُ الصَّلاَةَ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهُ أَوْ مَا يُطَهِّرُ بِهِ
أَبَدًا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ. وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا
وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ (1) .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَاجِزِ عَنْ مَكَان طَاهِرٍ،
كَأَنْ يُحْبَسَ فِي مَكَان نَجَسٍ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ -
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 377، فتح القدير 1 / 229، حاشية الدسوقي 1 / 217،
المجموع 3 / 142، الإنصاف 1 / 460.
(27/128)
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ وَلاَ يَتْرُكَ
الصَّلاَةَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا
أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) . قَال
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَيَجِبُ أَنْ يَتَجَافَى عَنِ
النَّجَاسَةِ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَغَيْرِهِمَا الْقَدْرَ
الْمُمْكِنَ، وَيَجِبُ أَنْ يَنْحَنِيَ لِلسُّجُودِ إِلَى الْقَدْرِ
الَّذِي لَوْ زَادَ عَلَيْهِ لاَقَى النَّجَاسَةَ. زَادَ الْحَنَابِلَةُ:
أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى قَدَمَيْهِ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ
يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِوُجُوبِ الإِْعَادَةِ
عَلَيْهِ أَبَدًا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا سَجَدَ عَلَيْهِ
وَإِلاَّ فَيُومِئُ قَائِمًا (2) .
ثَالِثًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ:
120 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ، فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ إِلاَّ بِسَتْرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ صَلاَةِ مَنْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ فِيهَا
قَصْدًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ انْكَشَفَتْ بِلاَ قَصْدٍ مَتَى
تَبْطُل صَلاَتُهُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ
تَبْطُل لَوِ
__________
(1) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (الفتح
13 / 251 - ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 975 ط. الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 168، جواهر الإكليل 1 / 11، المجموع 3 / 154،
الإنصاف 1 / 460، 462.
(27/128)
انْكَشَفَ رُبُعُ عُضْوٍ قَدْرُ أَدَاءِ
رُكْنٍ بِلاَ صُنْعِهِ.
وَيَدْخُل فِي أَدَاءِ الرُّكْنِ سُنَّتُهُ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْل أَبِي
يُوسُفَ. وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ أَدَاءَ الرُّكْنِ حَقِيقَةً.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالأَْوَّل الْمُخْتَارُ لِلاِحْتِيَاطِ.
وَعَلَيْهِ لَوِ انْكَشَفَ رُبُعُ عُضْوٍ - أَقَل مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ -
فَلاَ يَفْسُدُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
لأَِنَّ الاِنْكِشَافَ الْكَثِيرَ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيل عَفْوٌ
كَالاِنْكِشَافِ الْقَلِيل فِي الزَّمَنِ الْكَثِيرِ. وَأَمَّا إِذَا
أَدَّى مَعَ الاِنْكِشَافِ رُكْنًا فَإِنَّهَا تَفْسُدُ بِاتِّفَاقِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الاِنْكِشَافِ الْحَادِثِ فِي
أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ. أَمَّا الْمُقَارِنُ لاِبْتِدَائِهَا فَإِنَّهُ
يَمْنَعُ انْعِقَادَهَا مُطْلَقًا اتِّفَاقًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
الْمَكْشُوفُ رُبُعَ الْعُضْوِ.
وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْبُطْلاَنَ
بِقُيُودٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مُطْلَقَ الاِنْكِشَافِ يُبْطِل الصَّلاَةَ.
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنِ انْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَةِ الْمُصَلِّي
لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ سَوَاءٌ أَكَثُرَ الْمُنْكَشِفُ أَمْ قَل، وَلَوْ
كَانَ أَدْنَى جُزْءٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَسْتُرْهَا فِي الْحَال.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ انْكِشَافُ يَسِيرٍ
مِنَ الْعَوْرَةِ بِلاَ قَصْدٍ، وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الاِنْكِشَافِ
طَوِيلاً لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ
(27/129)
الْجَرْمِيِّ قَال: انْطَلَقَ أَبِي
وَافِدًا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَعَلَّمَهُمُ الصَّلاَةَ، فَقَال: يَؤُمُّكُمْ
أَقْرَؤُكُمْ، وَكُنْتُ أَقْرَأَهُمْ لِمَا كُنْتُ أَحْفَظُ،
فَقَدَّمُونِي، فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي صَغِيرَةٌ
صَفْرَاءُ، فَكُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ انْكَشَفَتْ عَنِّي. فَقَالَتِ
امْرَأَةٌ مِنَ النِّسَاءِ: وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ قَارِئِكُمْ.
فَاشْتَرُوا لِي قَمِيصًا عُمَانِيًّا فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ بَعْدَ
الإِْسْلاَمِ فَرَحِي بِهِ (1) وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلاَ أَحَدٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ.
وَالْيَسِيرُ هُوَ الَّذِي لاَ يَفْحُشُ فِي النَّظَرِ عُرْفًا. قَال
الْبُهُوتِيُّ: وَيَخْتَلِفُ الْفُحْشُ بِحَسَبِ الْمُنْكَشِفِ، فَيَفْحُشُ
مِنَ السَّوْأَةِ مَا لاَ يَفْحُشُ مِنْ غَيْرِهَا. وَكَذَا لاَ تَبْطُل
الصَّلاَةُ إِنِ انْكَشَفَ مِنَ الْعَوْرَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فِي زَمَنٍ
قَصِيرٍ، فَلَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ ثَوْبَهُ عَنْ عَوْرَتِهِ، فَبَدَا
مِنْهَا مَا لَمْ يَعْفُ عَنْهُ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَكَذَا لَوْ
بَدَتِ الْعَوْرَةُ كُلُّهَا فَأَعَادَ الثَّوْبَ سَرِيعًا بِلاَ عَمَلٍ
كَثِيرٍ فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل، لِقِصَرِ مُدَّتِهِ أَشْبَهَ الْيَسِيرَ
فِي الزَّمَنِ الطَّوِيل. وَكَذَا تَبْطُل لَوْ فَحُشَ وَطَال الزَّمَنُ،
وَلَوْ بِلاَ قَصْدٍ (2) .
__________
(1) حديث عمرو بن سلمة: " انطلق أبي وافدًا ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 22
- 23 ط. السلفية) ، وأبو داود (1 / 394 - تحقيق عزت عبيد دعاس) واللفظ لأبي
داود.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 273، والكافي 1 / 238 - ط. مكتبة الرياض 1978 م،
مواهب الجليل 1 / 398، المجموع 3 / 166، ومغني المحتاج 1 / 188، كشاف
القناع 1 / 269.
(27/129)
صَلاَةُ الْعَاجِزِ عَنْ سَاتِرٍ
لِلْعَوْرَةِ:
121 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَسْقُطُ عَمَّنْ
عَدِمَ السَّاتِرَ لِلْعَوْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ صَلاَتِهِ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا
فَالأَْفْضَل أَنْ يُومِئَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: " أَنَّ قَوْمًا
انْكَسَرَتْ بِهِمْ مَرْكَبُهُمْ، فَخَرَجُوا عُرَاةً. قَال: يُصَلُّونَ
جُلُوسًا، يُومِئُونَ إِيمَاءً بِرُءُوسِهِمْ فَإِنْ رَكَعَ وَسَجَدَ جَازَ
لَهُ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكُونُ قُعُودُهُ كَمَا فِي
الصَّلاَةِ فَيَفْتَرِشُ الرَّجُل وَتَتَوَرَّكُ الْمَرْأَةُ، وَعِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ يَتَضَامُّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقِيمَ إِحْدَى فَخِذَيْهِ
عَلَى الأُْخْرَى؛ لأَِنَّهُ أَقَل كَشْفًا.
وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا فَإِنَّهُ يُومِئُ كَذَلِكَ بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ السَّتْرَ أَهَمُّ مِنْ
أَدَاءِ الأَْرْكَانِ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا،
وَالأَْرْكَانُ فَرَائِضُ الصَّلاَةِ لاَ غَيْرُ، وَقَدْ أَتَى
بِبَدَلِهَا، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا صَلَّى قَائِمًا لَزِمَهُ أَنْ
يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ بِالأَْرْضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي
قَائِمًا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ. وَتَجِبُ عَلَيْهِ
الإِْعَادَةُ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال
(27/130)
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ
إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ عَادِمُ السِّتْرِ
إِلاَّ ثَوْبَ حَرِيرٍ، أَوْ ثَوْبًا نَجِسًا وَجَبَ عَلَيْهِ لُبْسُهُ،
وَلاَ يُصَلِّي عَارِيًا؛ لأَِنَّ فَرْضَ السَّتْرِ أَقْوَى مِنْ مَنْعِ
لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالنَّجِسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيُعِيدُ فِي
الْوَقْتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ. لاَ يُعِيدُ
إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي لُبْسِهِ فِي
بَعْضِ الأَْحْوَال كَالْحِكَّةِ وَالْبَرْدِ، وَيُعِيدُ إِذَا صَلَّى فِي
ثَوْبٍ نَجِسٍ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الثَّوْبِ الْحَرِيرِ وَالثَّوْبِ
النَّجِسِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَلِّي إِلاَّ ثَوْبًا نَجِسًا،
وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَسْلِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَارِيًا وَلاَ
يَلْبَسُهُ، وَإِذَا وَجَدَ حَرِيرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ
فِيهِ؛ لأَِنَّهُ طَاهِرٌ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ
فِي غَيْرِ مَحَل الضَّرُورَةِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ إِذَا
صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّطَيُّنِ إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلاَّ
الطِّينَ، كَمَا أَنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً فِيمَا إِذَا لَمْ
يَجِدْ إِلاَّ مَا يَسْتُرُ بِهِ أَحَدَ فَرْجَيْهِ أَيُّهُمَا يَسْتُرُ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَة) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 275، حاشية الدسوقي 1 / 216، الكافي 1 / 239،
المجموع 3 / 142، 182، كشاف القناع 1 / 270، 272.
(27/130)
رَابِعًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ الْوَقْتِ:
122 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ صَلَّى قَبْل دُخُول
الْوَقْتِ فَإِنَّ صَلاَتَهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يُصَلِّيَ إِذَا دَخَل الْوَقْتُ. أَمَّا لَوْ خَرَجَ وَقْتُ الصَّلاَةِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ
وَلاَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا، وَتَكُونُ صَلاَتُهُ
حِينَئِذٍ قَضَاءً. مَعَ تَرَتُّبِ الإِْثْمِ عَلَيْهِ لَوْ تَرَكَ
الصَّلاَةَ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا عَمْدًا.
وَقَدْ أَجَازَ الشَّارِعُ أَدَاءَ الصَّلاَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا فِي
حَالاَتٍ مُعَيَّنَةٍ: كَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَالْمَرَضِ،
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ لَوْ وَقَعَ بَعْضُهَا فِي الْوَقْتِ
وَبَعْضُهَا خَارِجَهُ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ دَخَل فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ
أَوِ الْعَصْرِ أَوْ غَيْرِهَا وَخَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا هَل
تَبْطُل صَلاَتُهُ أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ -
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ
صَلاَتَهُ صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ صَلَّى فِي الْوَقْتِ رَكْعَةً أَوْ أَقَل
أَوْ أَكْثَرَ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ، هَل تَكُونُ أَدَاءً أَمْ
قَضَاءً؟ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ
أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ
أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ
(27/131)
تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ
الْعَصْرَ (1) وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِيمَا تَقَدَّمَ
فِيمَا سِوَى صَلاَةِ الصُّبْحِ وَحْدَهَا فَإِنَّهَا لاَ تُدْرَكُ
عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ؛
وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ
الْكَامِل وَلِذَا عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ (2) .
خَامِسًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ الاِسْتِقْبَال:
123 - سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: اسْتِقْبَال ف 10، 11 (4 63)
.
ح - تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
124 - تَرْكُ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا، أَوْ
سَهْوًا، أَوْ جَهْلاً، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ كُلٍّ. أَمَّا تَرْكُهُ
عَمْدًا: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ رُكْنًا
مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ عَمْدًا فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل وَلاَ
تَصِحُّ مِنْهُ. وَأَمَّا تَرْكُهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً فَقَدِ اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ
تَدَارُكُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَفْسُدُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: تُلْغَى
الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ مِنْهَا الرُّكْنَ فَقَطْ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ
الرُّكْنُ الْمَتْرُوكُ غَيْرَ
__________
(1) حديث: " من أدرك من الصبح ركعة. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 56 - ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 424 - ط. الحلبي) .
(2) الموسوعة مصطلح أداء ف 8، مراقي الفلاح 1 / 180، حاشية الدسوقي 1 /
182، الخرشي على خليل 1 / 219، المجموع 3 / 47، كشاف القناع 1 / 257.
(27/131)
النِّيَّةِ وَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَإِنْ كَانَا هُمَا اسْتَأْنَفَ
الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُصَلٍّ (1) . (ر: سُجُودُ السَّهْوِ) . |