الموسوعة الفقهية الكويتية

ظِئْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظِّئْرُ - بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا - الْمُرْضِعَةُ لِغَيْرِ وَلَدِهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى زَوْجِهَا أَيْضًا، وَالْجَمْعُ أَظْؤُرٌ وَآظَارٌ، يُقَال: ظَأَرَتِ الْمَرْأَةُ اتَّخَذَتْ وَلَدًا تُرْضِعُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَضَانَةُ:
2 - الْحَضَانَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ حَضَنَ، وَمِنْهُ حَضَنَ الطَّائِرُ بَيْضَهُ إِذَا ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ تَحْتَ جَنَاحَيْهِ، وَحَضَنَتِ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا إِذَا جَعَلَتْهُ فِي حِضْنِهَا أَوْ رَبَّتْهُ (3) .
وَفِي الشَّرْعِ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَحِفْظُهُ وَجَعْلُهُ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب، ولسان العرب والمعجم الوسيط مادة (ظئر) .
(2) تكملة فتح القدير 7 / 183، ونهاية المحتاج 5 / 292، ومغني المحتاج 2 / 345.
(3) مختار الصحاح، ولسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة (حضن) .

(29/150)


فِي سَرِيرِهِ وَرَبْطُهُ وَدُهْنُهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (1) .
وَسُمِّيَتِ التَّرْبِيَةُ حَضَانَةً تَجَوُّزًا مِنْ حَضَانَةِ الطَّيْرِ لِبَيْضِهِ وَفِرَاخِهِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالظِّئْرِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (2) فَقَدْ نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجُنَاحَ فِي الاِسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَرْضَعَ لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ (3) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّ الطِّفْل فِي الْعَادَةِ إِنَّمَا يَعِيشُ بِالرَّضَاعِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ رَضَاعُهُ مِنْ أُمِّهِ فَجَازَ ذَلِكَ كَالإِْجَارَةِ فِي سَائِرِ الْمَنَافِعِ (4) .
4 - وَلِعَقْدِ الظِّئْرِ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَهِيَ:
أَوَّلاً: الْعِلْمُ بِمُدَّةِ الرَّضَاعَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) المغني 5 / 496، وكشاف القناع 5 / 495، والقليوبي وعميرة 3 / 77، وابن عابدين 2 / 632.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع لولده إبراهيم. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1808) من حديث أنس بن مالك.
(4) تكملة فتح القدير 7 / 185، والبدائع 4 / 209، والمبسوط 15 / 119، والبحر الرائق 8 / 25، وتبيين الحقائق 5 / 127، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 13، والفروق للقرافي 4 / 54، ومغني المحتاج 2 / 345 والمغني 5 / 450، والشرح الكبير مع المغني 6 / 10 - 15.

(29/151)


يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الأُْجْرَةِ إِلاَّ بِهِ.
ثَانِيًا: مَعْرِفَةُ الصَّبِيِّ بِالْمُشَاهَدَةِ؛ لأَِنَّ الرَّضَاعَ يَخْتَلِفُ بِكِبَرِ الصَّبِيِّ وَصِغَرِهِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُعْرَفُ كَذَلِكَ بِالْوَصْفِ.
ثَالِثًا: مَوْضِعُ الرَّضَاعِ، لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ، فَيَشُقُّ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهِ، وَالإِْرْضَاعُ فِيهِ أَشَدُّ وُثُوقًا بِتَمَامِهِ، وَيَسْهُل عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا.
رَابِعًا: مَعْرِفَةُ الْعِوَضِ (1) .

الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي إِجَارَةِ الظِّئْرِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ الْمَنَافِعُ وَهِيَ خِدْمَةُ الصَّبِيِّ وَالْقِيَامُ بِهِ وَاللَّبَنُ تَابِعٌ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، وَلأَِنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ فَلاَ يُعْقَدُ عَلَيْهِ فِي الإِْجَارَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّبَنُ وَالْخِدْمَةُ تَابِعَةٌ، فَلَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لاَ تَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ وَكَمَا لَوْ خَدَمَتْهُ بِدُونِ الرَّضَاعِ لَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَيْنًا فَإِنَّ الْعَقْدَ مُرَخَّصٌ فِيهِ فِي الإِْجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ لِحِفْظِ الآْدَمِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الأَْئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَال: " وَالأَْصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ لأَِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَا
__________
(1) البحر الرائق 8 / 25، والقليوبي وعميرة 3 / 77، والشرح الكبير مع المغني 6 / 14، والدسوقي 4 / 13.

(29/151)


سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ تَبَعٌ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ فَمَنْفَعَةُ كُل عُضْوٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَصِحُّ الإِْجَارَةُ لِحَضَانَةِ الْوَلَدِ وَإِرْضَاعِهِ مَعًا، وَتَصِحُّ لأَِحَدِهِمَا، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَسْتَتْبِعُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي الإِْجَارَةِ، لأَِنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ يَجُوزُ إِفْرَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَنَافِعِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لِلْعَادَةِ بِتَلاَزُمِهِمَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة ف 116 - 117) .

أُجْرَةُ الظِّئْرِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِي الْعِوَضِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ الأَْجِيرُ أَوِ الظِّئْرُ نَفَقَةً مَعْلُومَةً مَوْصُوفَةً كَمَا يُوصَف فِي السَّلَمِ بِالاِتِّفَاقِ (2) .
أَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَ الظِّئْرَ أَوِ الأَْجِيرَ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، أَوْ جَعَل لَهُ أَجْرًا وَشَرَطَ لَهُ طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ:
__________
(1) شرح العناية على الهداية 7 / 183، والمبسوط 15 / 118، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق 8 / 24، 26، والقليوبي وعميرة 3 / 77، ونهاية المحتاج 5 / 292، ومغني المحتاج 2 / 345، والشرح الكبير مع المغني 6 / 14 - 15 والدسوقي 4 / 10.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 185، والدسوقي 4 / 13، والمغني 5 / 450، ومغني المحتاج 2 / 345.

(29/152)


فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بِجَوَازِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَلأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الآْظَارِ وَعَدَمِ الْمُمَاكَسَةِ مَعَهُنَّ وَإِعْطَائِهِنَّ مَا يَشْتَهِينَ شَفَقَةً عَلَى الأَْوْلاَدِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ اخْتِلاَفًا مُتَبَايِنًا فَيَكُونُ مَجْهُولاً، وَالأَْجْرُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا (1) .
وَعَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْكُل وَتَشْرَبَ مَا يَدِرُّ لَبَنَهَا وَيَصْلُحُ بِهِ، وَلِلْمُكْتَرِي مُطَالَبَتُهَا بِذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّمْكِينِ مِنَ الرَّضَاعِ وَفِي تَرْكِهِ إِضْرَارٌ بِالصَّبِيِّ (2) .

فَسْخُ إِجَارَةِ الظِّئْرِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى فَسْخِ إِجَارَةِ الظِّئْرِ إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لاَ يَرْضِعُ لَبَنَهَا أَوْ يَقْذِفُهُ، أَوْ يَتَقَيَّؤُهُ أَوْ تَكُونُ الظِّئْرُ سَارِقَةً أَوْ فَاجِرَةً أَوْ أَرَادَ أَهْل الرَّضِيعِ السَّفَرَ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ أَعْذَارٌ، وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِلَبَنِهَا، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ لاَ يَحْصُل مَتَى كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ،
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 432، والبدائع 4 / 209، وحاشية الدسوقي 4 / 13 - 14 والمدونة 4 / 442، والاختيار 2 / 59، وتكملة فتح القدير 7 / 187، والبحر الرائق 8 / 25، والقليوبي وعميرة 3 / 77، والشرح الكبير مع المغني 6 / 14.

(29/152)


وَكَذَلِكَ تُفْسَخُ الإِْجَارَةُ إِذَا مَرِضَتْ أَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ أَوِ الظِّئْرُ أَوِ انْقَطَعَ اللَّبَنُ.
وَإِنْ صَامَتِ الظِّئْرُ فَتَغَيَّرَ لَبَنُهَا بِالصَّوْمِ أَوْ نَقَصَ خُيِّرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَيْنَ فَسْخِ الإِْجَارَةِ وَإِمْضَائِهَا، وَإِنْ قَصَدَتِ الظِّئْرُ الإِْضْرَارَ بِالرَّضِيعِ بِصَوْمِهَا أَثِمَتْ وَكَانَ لِلْحَاكِمِ إِلْزَامُهَا بِالْفِطْرِ بِطَلَبِ الْمُسْتَأْجِرِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِجَارَة ف 116 - 119) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 2 / 59، والفتاوى الهندية 4 / 432، ومواهب الجليل 5 / 411، وحاشية الدسوقي 4 / 13، والقليوبي وعميرة 3 / 77، وكشاف القناع 2 / 313، ومطالب أولي النهى 2 / 183.

(29/153)


ظَاهِرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الظَّاهِرُ فَاعِلٌ مِنَ الظُّهُورِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْوُضُوحُ وَالاِنْكِشَافُ (1) . يُقَال: ظَهَرَ الشَّيْءُ ظُهُورًا: بَرَزَ بَعْدَ الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ قِيل: ظَهَرَ لِي رَأْيٌ: إِذَا عَلِمْتَ مَا لَمْ تَكُنْ عَلِمْتَهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الظَّاهِرُ اسْمٌ لِكَلاَمٍ ظَهَرَ الْمُرَادُ بِهِ لِلسَّامِعِ بِصِيغَتِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّل، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مِنْ أَهْل اللِّسَانِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الإِْطْلاَقِ.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (4) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إِحْلاَل الْبَيْعِ (5) .
وَقِيل: الظَّاهِرُ مَا دَل عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، وشرح المنار للنسفى 1 / 141.
(2) المصباح المنير مادة (ظهر) .
(3) سورة النساء / 3.
(4) سورة البقرة / 275.
(5) أصول البزدوي بهامش كشف الأسرار 1 / 46.

(29/153)


الأَْصْلِيِّ أَوِ الْعُرْفِيِّ، وَيُحْتَمَل غَيْرُهُ احْتِمَالاً مَرْجُوحًا، كَالأَْسَدِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ الأَْسَدَ، فَإِنَّهُ رَاجِحٌ فِي الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ، مُحْتَمَلٌ وَمَرْجُوحٌ فِي الرَّجُل الشُّجَاعِ؛ لأَِنَّهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ، وَالأَْوَّل الْحَقِيقِيُّ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ (1) .
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ فِي الظَّاهِرِ أَنْ لاَ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَقْصُودًا بِالسَّوْقِ أَصْلاً فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّصِّ (2) ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ عَدَمَ هَذَا الاِشْتِرَاطِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَفِيُّ:
2 - الْخَفِيُّ مُقَابِل الظَّاهِرِ، وَهُوَ: مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِعَارِضٍ فِي غَيْرِ الصِّيغَةِ، لاَ يُنَال إِلاَّ بِالطَّلَبِ وَالتَّأَمُّل، كَآيَةِ السَّرِقَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ (4) .

ب - النَّصُّ:
3 - النَّصُّ هُوَ: اللَّفْظُ الدَّال فِي مَحَل النُّطْقِ
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 46، 47، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 1 / 236، 2 / 52.
(2) مسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 19، كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 46، 47 والتلويح مع التوضيح 1 / 408.
(3) كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 46، 47.
(4) التعريفات 8 للجرجاني.

(29/154)


يُفِيدُ مَعْنًى لاَ يُحْتَمَل غَيْرُهُ، كَزَيْدٍ فَإِنَّهُ مُفِيدٌ لِلذَّاتِ الْمُشَخِّصَةِ، مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ لِغَيْرِهَا. وَالنَّصُّ هُوَ: مَا زَادَ وُضُوحًا عَلَى الظَّاهِرِ بِمَعْنًى مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، لاَ فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ، وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (1) فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي الإِْطْلاَقِ، نَصٌّ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ، لأَِنَّهُ سِيقَ الْكَلاَمُ لِلْعَدَدِ وَقُصِدَ بِهِ، فَازْدَادَ ظُهُورًا عَلَى الأَْوَّل (2) .

ج - الْمُفَسَّرُ:
4 - الْمُفَسَّرُ هُوَ: الْمَكْشُوفُ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ الْكَلاَمُ لَهُ، وَازْدَادَ وُضُوحًا عَلَى النَّصِّ، عَلَى وَجْهٍ لاَ يَبْقَى مَعَهُ احْتِمَال التَّأْوِيل وَالتَّخْصِيصِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (3) فَالْمَلاَئِكَةُ اسْمٌ ظَاهِرٌ عَامٌّ، وَلَكِنْ يَحْتَمِل الْخُصُوصَ، فَلَمَّا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (كُلُّهُمْ) انْقَطَعَ هَذَا الاِحْتِمَال، لَكِنَّهُ بَقِيَ احْتِمَال الْجَمْعِ وَالتَّفَرُّقِ، فَانْقَطَعَ احْتِمَال تَأْوِيل التَّفْرِقَةِ بِقَوْلِهِ: {أَجْمَعُونَ} (4) .
__________
(1) سورة النساء / 3.
(2) أصول البزدوي على هامش كشف الأسرار 1 / 47، وشرح المنار 1 / 142، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 1 / 239.
(3) سورة الحجر / 30.
(4) شرح المنار للنسفي 1 / 143، والتوضيح مع التلويح 1 / 409، 410، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 49، 50.

(29/154)


د - الْمُحْكَمُ:
5 - الْمُحْكَمُ هُوَ: مَا أُحْكِمَ الْمُرَادُ بِهِ عَنِ احْتِمَال النَّسْخِ وَالتَّبْدِيل، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِنَاءٌ مُحْكَمٌ، أَيْ مُتْقِنٌ مَأْمُونُ الاِنْتِقَاضِ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) .
وَمِثَال الْمُحْكَمِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) وَكَذَا سَائِرُ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّهَا لاَ تَحْتَمِل النَّسْخَ أَبَدًا (3) .

الْعَلاَقَةُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ:
6 - لِلْعُلَمَاءِ فِي بَيَانِ الْعَلاَقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ اتِّجَاهَانِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الظَّاهِرِ ظُهُورُ الْمُرَادِ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَسُوقًا لَهُ أَمْ لاَ، وَفِي النَّصِّ كَوْنُهُ مَسُوقًا لِلْمُرَادِ، سَوَاءٌ احْتَمَل التَّخْصِيصَ وَالتَّأْوِيل أَمْ لاَ، وَفِي الْمُفَسَّرِ عَدَمُ احْتِمَال التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيل، سَوَاءٌ احْتَمَل النَّسْخَ أَمْ لاَ، وَفِي الْمُحْكَمِ عَدَمُ احْتِمَال شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) سورة آل عمران / 7.
(2) سورة الأنعام / 101.
(3) التوضيح والتلويح 1 / 410 وكشف الأسرار عن أصول البزدوي 1 / 51، وشرح المنار للنسفي ومعه نور الأنوار على المنار 1 / 143.

(29/155)


وَعَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ الأَْرْبَعَةُ الأَْقْسَامِ مُتَمَايِزَةٌ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، مُتَدَاخِلَةٌ بِحَسَبِ الْوُجُودِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الأُْصُول إِلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ أَقْسَامٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الظَّاهِرِ عَدَمُ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِلْمَعْنَى الَّذِي يُجْعَل ظَاهِرًا فِيهِ، وَفِي النَّصِّ احْتِمَال التَّخْصِيصِ أَوِ التَّأْوِيل، وَفِي الْمُفَسَّرِ احْتِمَال النَّسْخِ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
7 - حُكْمُ الظَّاهِرِ هُوَ وُجُوبُ الْعَمَل بِاَلَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى سَبِيل الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ حَتَّى صَحَّ إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالظَّاهِرِ، لأَِنَّهُ وَاضِحُ الْمُرَادِ بِالصِّيغَةِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْمَجَازِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ غَيْرُ نَاشِئٍ مِنْ دَلِيلٍ، فَلاَ يُعْتَبَرُ (3) .
لَكِنْ إِذَا تَعَارَضَ الظَّاهِرُ مَعَ النَّصِّ أَوْ الْمُفَسَّرِ أَوِ الْمُحْكَمِ يُتْرَكُ الْعَمَل بِالظَّاهِرِ، وَيُؤْخَذُ بِمَا هُوَ أَقْوَى وَأَوْضَحُ مِنْهُ، يَقُول
__________
(1) التلويح على التوضيح 1 / 408، 409، ومسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 19.
(2) انظر المرجعين السابقين، وكشف الأسرار شرح المنار للنسفي 1 / 142 - 145، وكشف الأسرار لأصول البزدوي 46، 47.
(3) نور الأنوار مع كشف الأسرار شرح المنار 1 / 141، 142.

(29/155)


التَّفْتَازَانِيُّ: الْكُل يُوجِبُ الْحُكْمَ، أَيْ يُثْبِتُهُ قَطْعًا وَيَقِينًا، إِلاَّ أَنَّهُ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَيُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمُفَسَّرُ عَلَيْهِمَا، وَالْمُحْكَمُ عَلَى الْكُل؛ لأَِنَّ الْعَمَل بِالأَْوْضَحِ وَالأَْقْوَى أَوْلَى وَأَحْرَى (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

ظَبْيٌ

انْظُرْ: أَطْعِمَة.

ظُفُرٌ

انْظُرْ: أَظْفَار.
__________
(1) التوضيح مع التلويح 1 / 411 - 412.

(29/156)


ظَفَرٌ بِالْحَقِّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظَّفَرُ بِفَتْحِ الظَّاءِ فِي اللُّغَةِ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ، وَقَال اللَّيْثُ: الظَّفَرُ الْفَوْزُ بِمَا طَلَبْتَ وَالْفَلْحُ عَلَى مَنْ خَاصَمْتَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الظَّفَرِ بِالْحَقِّ فِي اللُّغَةِ فَوْزُ الإِْنْسَانِ بِحَقٍّ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: وَيُقَال لِمَنْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ غَرِيمِهِ فَازَ بِمَا أَخَذَ، أَيْ سُلِّمَ لَهُ وَاخْتَصَّ بِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِيفَاءُ:
2 - الاِسْتِيفَاءُ مَصْدَرُ اسْتَوْفَى، وَهُوَ أَخْذُ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ كَامِلاً (2) .
وَقَدْ يَكُونُ بِرِضَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، كَمَا قَدْ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى حُكْمٍ قَضَائِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ.
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس، المصباح المنير، مختار الصحاح.
(2) الموسوعة الفقهية 4 / 146.

(29/156)


ب - الاِسْتِيلاَءُ:
3 - الاِسْتِيلاَءُ لُغَةً وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْغَلَبَةُ عَلَيْهِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
وَيَخْتَلِفُ عَنِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالأَْعْيَانِ الْمَادِّيَّةِ، وَالظَّفَرُ يَقَعُ عَلَى الْحُقُوقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَحَلُّهَا عَيْنًا أَمْ لاَ، كَمَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ بِحَقٍّ، بَيْنَمَا الظَّفَرُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِحَقٍّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِاخْتِلاَفِ الْحُقُوقِ، فَيَحْرُمُ فِي بَعْضِهَا، وَيَجُوزُ فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا.

أَوَّلاً: مَا يَحْرُمُ فِيهِ الظَّفَرُ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - فِي الْمَوَاضِعِ التَّالِيَةِ:

أ - تَحْصِيل الْعُقُوبَاتِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأَْصْل فِي اسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَاتِ مِنْ قِصَاصٍ وَحُدُودٍ وَتَعْزِيرٍ أَنْ يَكُونَ عَنْ طَرِيقِ الْقَضَاءِ (3) لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الموسوعة الفقهية 4 / 157.
(3) البحر الرائق 7 / 192، منح الجليل 4 / 321، المنهاج وشرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 334، قواعد الأحكام 2 / 197، 198، تحفة المحتاج وحاشية الشرواني وحاشية العبادي 10 / 286، حاشية الباجوري 2 / 400، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 279.

(29/157)


عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، حَيْثُ إِنَّهَا تُوقَعُ عَلَى النَّفْسِ، وَالْفَائِتُ فِيهَا لاَ يُسْتَدْرَكُ، فَوَجَبَ الاِحْتِيَاطُ فِي إِثْبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا (1) ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، لِيَنْظُرَ فِيهَا وَفِي أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا، وَالاِحْتِيَاطُ فِيهَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْحَقِّ، الَّذِي يَنْقَادُ فِي الْغَالِبِ لِعَاطِفَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِ مِنَ الْوَسَائِل اللاَّزِمَةِ لِلتَّحَرِّي مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِمَا وُضِعَ تَحْتَ يَدَيْهِ مِمَّا يُمْكِنُهُ مِنْ تَقَصِّي الْوَاقِعِ وَكَشْفِ الْحَقَائِقِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ جُعِل لِلنَّاسِ اسْتِيفَاءُ مَا لَهُمْ مِنْ عُقُوبَاتٍ لَكَانَ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَعَدِّي بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ادِّعَاؤُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسْتَوْفُونَ حُقُوقَهُمْ، فَيَكُونُ هَذَا سَبَبًا فِي تَحْرِيكِ الْفِتْنَةِ (2) ، وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ لاَ يَنْضَبِطُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الإِْمَامِ، سَوَاءٌ فِي شِدَّةِ إِيلاَمِهَا كَالْجَلْدِ، أَوْ فِي قَدْرِهَا كَالتَّعْزِيرِ (3) .
وَاسْتَثْنَى فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ مِمَّا تَقَدَّمَ حَالَةَ عَجْزِ صَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْعُقُوبَةِ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِوَاسِطَةِ الْحَاكِمِ، بِسَبَبِ الْبُعْدِ عَنْهُ، فَأَجَازُوا
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 286، مغني المحتاج 4 / 461.
(2) منح الجليل 4 / 321، قواعد الأحكام 2 / 198.
(3) قواعد الأحكام 2 / 198.

(29/157)


لِمَنْ وَجَبَ لَهُ تَعْزِيرٌ أَوْ حَدُّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٌ وَكَانَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ السُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لِلضَّرُورَةِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ يُحْتَمَل ضَيَاعُهُ إِذَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ صَاحِبُهُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ، وَنَقَل الشِّرْوَانِيُّ عَنِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ - أَيْ بِالْقَوَدِ - بِحَيْثُ لاَ يَرَى، فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُمْنَعَ مِنْهُ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِهِ (1) .
وَكَذَلِكَ قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ لِلْمَشْتُومِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الشَّاتِمِ بِمِثْل قَوْلِهِ، وَالأَْفْضَل لَهُ أَنْ لاَ يَفْعَل (2) ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تُقَابَل بِمِثْلِهَا، وَإِلَى مِثْل هَذَا ذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3) .
حَيْثُ قَال: الاِعْتِدَاءُ هُوَ التَّجَاوُزُ، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (4) أَيْ: يَتَجَاوَزُ، وَمَنْ ظَلَمَكَ فَخُذْ حَقَّكَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِكَ، وَمَنْ شَتَمَكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْل قَوْلِهِ، وَلاَ تَتَعَدَّ إِلَى أَبَوَيْهِ، وَلاَ إِلَى ابْنِهِ أَوْ قَرِيبِهِ، وَلَيْسَ لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ
__________
(1) حاشية الشرواني وحاشية العبادي على تحفة المحتاج 10 / 286.
(2) البحر الرائق 7 / 192.
(3) سورة البقرة / 194.
(4) سورة الطلاق / 1.

(29/158)


كَذَبَ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لاَ تُقَابَل بِالْمَعْصِيَةِ (1) .
وَلَكِنْ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: لاَ يَجُوزُ لِمَنْ ضُرِبَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنْ يَضْرِبَ مَنْ ضَرَبَهُ، وَلَوْ فَعَل يُعَزَّرُ الاِثْنَانِ، وَيَبْدَأُ بِإِقَامَةِ التَّعْزِيرِ عَلَى الْبَادِئِ، لأَِنَّهُ أَظْلَمُ، وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِ أَسْبَقُ (2) .

ب - تَحْصِيل الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ وَاللِّعَانِ وَالإِْيلاَءِ وَالطَّلاَقِ بِالإِْعْسَارِ وَالإِْضْرَارِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ خَطِيرَةٌ، فَيَجِبُ الاِحْتِيَاطُ فِي إِثْبَاتِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الاِجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي فِي تَحْقِيقِ أَسْبَابِهَا، وَكُل ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْحَاكِمُ (3) .

ج - مَا يُؤَدِّي تَحْصِيلُهُ مِنَ الْحُقُوقِ إِلَى فِتْنَةٍ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ فِتْنَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ تَزِيدُ عَلَى مَفْسَدَةِ ضَيَاعِ الْحَقِّ، كَفَسَادِ عُضْوٍ أَوْ عِرْضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَفِرَ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ أَوِ
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 338.
(2) البحر الرائق 7 / 192.
(3) تهذيب الفروق 4 / 123، 124، شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 334.

(29/158)


الْمُشْتَرَاةِ أَوِ الْمَوْرُوثَةِ وَخَافَ مِنْ أَخْذِهَا بِنَفْسِهِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى السَّرِقَةِ فَلاَ يَأْخُذُهَا إِلاَّ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ (1) .
وَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِرْعَابُ الْمُسْلِمِ وَتَرْوِيعُهُ، فَلاَ يَجُوزُ لِمُسْتَحِقِّ الْعَيْنِ أَخْذُهَا إِذَا كَانَتْ مُودَعَةً عِنْدَ آخَرَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَرْوِيعِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ بِظَنِّ ضَيَاعِ الْوَدِيعَةِ (2) .

د - تَحْصِيل الدَّيْنِ الْمَبْذُول:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَحْصِيل الدُّيُونِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إِذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بَاذِلاً لَهُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَائِهِ (3) ،، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.

ثَانِيًا - مَا يُشْرَعُ فِيهِ الظَّفَرُ بِالْحَقِّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ الظَّفَرُ بِالْحَقِّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَضَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ التَّالِيَةِ:
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321، الوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي 2 / 260، تحفة المحتاج 10 / 288، حاشية الباجوري 2 / 400، كشاف القناع 6 / 357.
(2) تحفة المحتاج 10 / 288، مغني المحتاج 4 / 462 ط. الحلبي.
(3) مغني المحتاج 4 / 462.

(29/159)


أ - تَحْصِيل الأَْعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ:
8 - يَجُوزُ تَحْصِيل الأَْعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، حَيْثُ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ اسْتِرْدَادَهَا مِنَ الْغَاصِبِ قَهْرًا (1) ، وَمِثْل ذَلِكَ كُل عَيْنٍ مُسْتَحَقَّةٍ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَخْذُهَا دُونَ قَضَاءٍ، فَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ سِلْعَتِهِ الَّتِي اشْتَرَاهَا أَوْ وَرِثَهَا أَوْ أَوْصَى بِهَا لَهُ فَلَهُ أَخْذُهَا وَلاَ يُشْتَرَطُ الرَّفْعُ إِلَى الْحَاكِمِ (2) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَوْ غَابَ بَعْدَ السَّنَةِ وَلَمْ يُسَلِّمِ الْمِفْتَاحَ إِلَى الْمُؤَجِّرِ، فَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِفْتَاحًا آخَرَ وَيَفْتَحَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَيَسْكُنَ فِيهَا أَوْ يُؤَجِّرَهَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَأَمَّا الْمَتَاعُ فَيُرَحِّلُهُ فِي نَاحِيَةٍ إِلَى حِينِ حُضُورِ صَاحِبِهِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْفَتْحُ عَلَى إِذْنِ الْقَاضِي (3) .
كَمَا ذَكَرَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ لِلشَّخْصِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 290، وتهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321، الوجيز للغزالي 2 / 260، المنهاج وشرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 335، تحفة المحتاج 10 / 287، 288، مغني المحتاج 4 / 462، حاشية الباجوري 2 / 400، كشاف القناع 4 / 211، غاية المنتهى 3 / 463.
(2) البحر الرائق 7 / 192، قرة عيون الأخيار 1 / 380، تهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321، المنهاج وشرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 335، تحفة المحتاج 10 / 287، 288.
(3) البحر الرائق 7 / 192.

(29/159)


تَحْصِيل مَنَافِعِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، فَجَعَلُوا لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ أَخْذُ الأَْعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ مَنَافِعُهُمْ بِهَا مِنْ أَجْل تَحْصِيل هَذِهِ الْمَنَافِعِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ دَعْوَى وَلاَ قَضَاءٌ (1) .
وَيُشْتَرَطُ فِي تَحْصِيل الأَْعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَنْ لاَ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَحْرِيكِ فِتْنَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ ضَيَاعِ الْحَقِّ، وَأَضَافَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ شَرْطًا آخَرَ لِذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَقٌّ لِشَخْصٍ آخَرَ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَشْتَرِيَ شَخْصٌ عَيْنًا مِنْ آخَرَ كَانَ قَدْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا فَلَيْسَ لَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَأْخُذَهَا قَهْرًا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِ الْبَائِعِ بِهَا (2) .
وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا الشَّرْطَ، فَأَجَازَ أَخْذَهَا، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِشَخْصٍ آخَرَ (3) .

ب - تَحْصِيل نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَْوْلاَدِ:
9 - يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِي أَوْلاَدَهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ وَلاَ
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 287، مغني المحتاج 4 / 462، حاشية الباجوري 2 / 400.
(2) شرح المحلي وحاشية القليوبي وحاشية عميرة 4 / 335، مغني المحتاج 4 / 460.
(3) تحفة المحتاج 10 / 287، 288.

(29/160)


إِذْنِ الْحَاكِمِ (1) ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لاَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَل عَلَيَّ فِي ذَلِكَ جُنَاحٌ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ (2) فَجَعَل لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقَّ فِي أَخْذِ نَفَقَتِهَا وَنَفَقَةِ وَلَدِهَا مِنْ مَال زَوْجِهَا (3) .

ثَالِثًا - مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الظَّفَرِ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الظَّفَرِ بِالْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي الذِّمَّةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ.
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 125، شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 7، 8، المهذب 2 / 319، المغني 9 / 237، القواعد لابن رجب ص 17، 31، 32، كشاف القناع 4 / 211، غاية المنتهى 3 / 463.
(2) حديث: " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 405) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة واللفظ لمسلم.
(3) صحيح البخاري مع فتح الباري 13 / 146، صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 7، سنن أبي دود مع معالم السنن 3 / 166، سنن النسائي 8 / 246، 247، السنن الكبرى 10 / 141، إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 4 / 164.

(29/160)


فَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَحْصِيل الْحُقُوقِ بِغَيْرِ دَعْوَى وَلاَ حُكْمٍ فِي حَالاَتٍ مُعَيَّنَةٍ وَبِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ إِذْنِ الْحَاكِمِ فِي كُل مَرَّةٍ يُرِيدُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَلَهُمْ عَلَى هَذَا الأَْصْل اسْتِثْنَاءَاتٌ. وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ:

مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
11 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى آخَرَ، وَلَمْ يُوفِهِ إِيَّاهُ بِرِضَاهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ مِنْ مَال الْغَرِيمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَال مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَأَنْ يَكُونَ بِنَفْسِ صِفَتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ دَرَاهِمِ غَرِيمِهِ بِقَدْرِ حَقِّهِ إِنْ كَانَ حَقُّهُ دَنَانِيرَ، وَلاَ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ غَرِيمِهِ، وَلاَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَةً مِنْ مَنَافِعِهِ مُقَابِل تِلْكَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي لَهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّحِيحَ مُقَابِل الْمُنْكَسِرِ، بَل يَأْخُذُ مِثْل مَالِهِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ أَيْضًا (1) .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ رَأَى جَوَازَ أَخْذِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ اسْتِحْسَانًا.
__________
(1) البحر الرائق 7 / 192، قرة عيون الأخيار 1 / 380.

(29/161)


وَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ مِنَ الْمَدِينِ مُقِرًّا كَانَ أَوْ مُنْكِرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لِلدَّائِنِ بَيِّنَةٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَصَّل إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ بِنَحْوِ كَسْرِ الْبَابِ وَثَقْبِ الْجِدَارِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ تَكُونَ هُنَاكَ وَسِيلَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنْ لاَ يُمْكِنَ تَحْصِيل الْحَقِّ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ (1) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: إِذَا ظَفِرَ بِمَال مَدْيُونِ مَدْيُونِهِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ فِيهِمَا يَنْبَغِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ (2) .
ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الدَّائِنُ مِنْ مَال مَدِينِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ، وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا أَخَذَ ضَمَانَ الرَّهْنِ (3) .

مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ مُمْتَنِعًا عَنْ أَدَائِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال الْمَدِينِ قَدْرَ حَقِّهِ، إِذَا كَانَ هَذَا الْمَال مِنْ جِنْسِ حَقِّ الدَّائِنِ، وَكَذَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ (4) .
__________
(1) انظر المرجعين السابقين.
(2) البحر الرائق 7 / 192، قرة عيون الأخيار 1 / 380.
(3) انظر المرجعين السابقين.
(4) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 27، منح الجليل 4 / 321.

(29/161)


وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي الْمَذْهَبِ، مِنْهَا: أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال الْغَرِيمِ غَيْرَ جِنْسِ حَقِّهِ، وَمِنْهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِنْ مَال غَرِيمِهِ مِنَ الْجِنْسِ أَوْ غَيْرِهِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَال الْمَأْخُوذُ وَدِيعَةً عِنْدَ الآْخِذِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ (1) وَقَدْ ذُكِرَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل أَنَّ هَذَا الْقَوْل ضَعِيفٌ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ، وَأَنَّ الْمُعْتَمَدَ جَوَازُ أَخْذِ الْحَقِّ مِنَ الْوَدِيعَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ جَوَازَ أَخْذِ الْحَقِّ مِنْ مَال الْغَرِيمِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ لاَ يَقْدِرَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَكُونَ مَعَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مُنْكِرًا (3) .
وَأَضَافَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ: إِنَّ جَوَازَ أَخْذِ الْحَقِّ بِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْقَاضِي مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُجْمَعًا عَلَى ثُبُوتِهِ، وَأَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ بِحَيْثُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الاِجْتِهَادِ وَالتَّحْرِيرِ فِي تَحْقِيقِ سَبَبِهِ وَمِقْدَارِ مُسَبَّبِهِ، وَأَنْ لاَ يُؤَدِّيَ أَخْذُهُ إِلَى فِتْنَةٍ وَشَحْنَاءَ، وَأَنْ
__________
(1) حديث: " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ". أخرجه أبو داود (3 / 805) والترمذي (3 / 555) من حديث أبي هريرة وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(2) منح الجليل 4 / 321.
(3) تهذيب الفروق 4 / 123، منح الجليل 4 / 321.

(29/162)


لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى فَسَادِ عِرْضٍ أَوْ عُضْوٍ (1) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ بِمَا يَلِي:
أ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2) وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَنْكَرَهُ وَامْتَنَعَ عَنْ بَذْلِهِ فَقَدِ اعْتَدَى، فَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبِغَيْرِ حُكْمِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَذِنَ بِذَلِكَ.
ب - حَدِيثُ هِنْدٍ زَوْجَةِ أَبِي سُفْيَانَ، حَيْثُ أَجَازَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِي بَنِيهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَبِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ (3) ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَشْرِيعٌ عَامٌّ يُجِيزُ لِكُل ذِي حَقٍّ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ غَرِيمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ إِذَا امْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ أَدَائِهِ، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال مَا قَالَهُ لِهِنْدٍ عَلَى سَبِيل الْفُتْيَا وَالتَّشْرِيعِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيل الْقَضَاءِ (4) .
ج - قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصُرْ أَخَاكَ
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 123.
(2) سورة البقرة / 194.
(3) حديث هند زوجة أبي سفيان، تقدم تخريجه فـ 9.
(4) الأحكام للقرافي ص 27.

(29/162)


ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا (1) ، وَإِنَّ أَخْذَ الْحَقِّ مِنَ الظَّالِمِ نَصْرٌ لَهُ (2)
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الشَّخْصُ عَلَى غَيْرِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَالدَّيْنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ أَوْ لاَ، وَكَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى مُنْكِرٍ أَوْ عَلَى مُقِرٍّ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ الدَّائِنِ بَيِّنَةٌ أَوْ لاَ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي.

أَوَّلاً - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَيْنًا:
14 - قَال الشَّافِعِيَّةُ إِذَا اسْتَحَقَّ شَخْصٌ عَيْنًا تَحْتَ يَدٍ عَادِيَةٍ فَلَهُ أَوْ وَلِيِّهِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ - أَخْذُ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِلاَ رَفْعٍ لِلْقَاضِي وَبِلاَ عِلْمِ مَنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ لِلضَّرُورَةِ إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ أَخْذِهَا فِتْنَةً أَوْ ضَرَرًا، وَإِلاَّ رَفَعَ الأَْمْرَ إِلَى قَاضٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ إِلْزَامُ الْحُقُوقِ كَمُحْتَسِبٍ وَأَمِيرٍ لاَ سِيَّمَا إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ لاَ يَتَخَلَّصُ إِلاَّ عِنْدَهُ.
__________
(1) حديث: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 98) ومسلم 4 / 1998 من حديث أنس واللفظ للبخاري. وانظر موارد الظمآن ص 457، وحلية العلماء 3 / 94.
(2) تفسير القرطبي ص 730 طبعة الشعب.

(29/163)


ثَانِيًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ دَيْنًا عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ:
15 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ دَيْنًا حَالًّا عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ طَالَبَهُ بِهِ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ وَلاَ يَحِل أَخْذُ شَيْءٍ لِلْمَدِينِ لأَِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الدَّفْعِ مِنْ أَيِّ مَالٍ شَاءَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَخْذُ مَالٍ مُعَيَّنٍ لَهُ جَبْرًا عَنْهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَزِمَهُ رَدُّهُ، فَإِنْ تَلِفَ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ.

ثَالِثًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى مُنْكِرٍ وَلاَ بَيِّنَةَ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ دَيْنًا عَلَى مُنْكِرٍ لَهُ وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُسْتَحِقِّ لِلدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَال الْمَدِينِ أَوْ مِنْ مَال مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ إِنْ ظَفِرَ بِهِ اسْتِقْلاَلاً؛ لِعَجْزِهِ عَنْ أَخْذِهِ إِلاَّ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَخْذُ غَيْرِ جِنْسِهِ إِنْ فُقِدَ جِنْسُ حَقِّهِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي قَوْلٍ يَمْتَنِعُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمَلُّكِهِ.

رَابِعًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ:
17 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ دَيْنًا عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ مِنَ الأَْدَاءِ أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلِلدَّائِنِ

(29/163)


عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ اسْتِقْلاَلاً مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الدَّيْنِ إِنْ وَجَدَهُ وَمِنْ غَيْرِهِ إِنْ فَقَدَهُ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الصُّورَتَيْنِ.
وَقِيل يُرْفَعُ الأَْمْرُ فِيهِمَا إِلَى قَاضٍ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ تَخْلِيصُ الْحَقِّ بِالْمُطَالَبَةِ وَالتَّقَاضِي.

خَامِسًا - إِذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ دَيْنًا لِلَّهِ تَعَالَى:
18 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ دَيْنًا لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ إِذَا امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ أَدَائِهَا وَظَفِرَ الْمُسْتَحِقُّ بِجِنْسِهَا مِنْ مَال الْمَالِكِ فَلَيْسَ لَهُ الأَْخْذُ.

سَادِسًا - كَسْرُ الْبَابِ وَنَحْوِهِ لِلْوُصُول إِلَى الْمُسْتَحَقِّ:
19 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَازَ لِلْمُسْتَحِقِّ الأَْخْذُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِقَاضٍ فَلَهُ حِينَئِذٍ كَسْرُ بَابٍ وَنَقْبُ جِدَارٍ لاَ يَصِل إِلَى الْمُسْتَحَقِّ إِلاَّ بِهِ، لأَِنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ شَيْئًا اسْتَحَقَّ الْوُصُول إِلَيْهِ وَلاَ يَضْمَنُ مَا فَوَّتَهُ كَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الصَّائِل إِلاَّ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ فَأَتْلَفَهُ لاَ يَضْمَنُ، وَأَضَافُوا: مَحَل ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْحِرْزُ لِلدَّيْنِ، وَغَيْرُ مَرْهُونٍ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ وَأَلاَّ يَكُونَ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، وَأَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ الْكَسْرِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ لاَ يُوَكِّل غَيْرَهُ فَإِنْ فَعَل ضَمِنَ.

(29/164)


سَابِعًا - تَمَلُّكُ مَا يَظْفَرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْمُسْتَحِقُّ ظَفَرًا بِحَقِّهِ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ يَتَمَلَّكُهُ بَدَلاً عَنْ حَقِّهِ، أَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ أَعْلَى مِنْ صِفَتِهِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْحَاجَةِ، وَقِيل يَجِبُ رَفْعُهُ إِلَى قَاضٍ يَبِيعُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَصَرَّفُ فِي مَال غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَالُوا: الْمَأْخُوذُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ إِنْ تَلِفَ قَبْل تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَأْخُذُ الْمُسْتَحِقُّ فَوْقَ حَقِّهِ إِنْ أَمْكَنَهُ الاِقْتِصَارُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ ضَمِنَ الزَّائِدَ، لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ إِلاَّ بِمَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَخَذَهُ وَلاَ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ، ثُمَّ إِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ قَدْرِ حَقِّهِ فَقَطْ بَاعَ الْجَمِيعَ وَأَخَذَ مِنْ ثَمَنِهِ قَدْرَ حَقِّهِ وَرَدَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ عَلَى غَرِيمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ بَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَرَدَّ مَا زَادَ.

ثَامِنًا - الظَّفَرُ بِمَال غَرِيمِ الْغَرِيمِ:
21 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلْمُسْتَحِقِّ أَخْذُ مَال غَرِيمِ غَرِيمِهِ بِشُرُوطٍ هِيَ: أَلاَّ يَظْفَرَ بِمَال الْغَرِيمِ، وَأَنْ يَكُونَ غَرِيمُ الْغَرِيمِ جَاحِدًا أَوْ مُمْتَنِعًا، وَأَنْ يَعْلَمَ الْمُسْتَحِقُّ الْغَرِيمَ أَنَّهُ أَخَذَ

(29/164)


حَقَّهُ مِنْ مَال غَرِيمِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ غَرِيمَ الْغَرِيمِ (1) .

مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ بَاذِلٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ مَا يُعْطِيهِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْرَ حَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلإِْنْسَانِ غَرَضٌ فِي الْعَيْنِ، فَإِنْ أَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ فَصَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَكَانَ الثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تَقَاصَّا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ لأَِمْرٍ يُبِيحُ الْمَنْعَ كَالتَّأْجِيل وَالإِْعْسَارِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ عِوَضَهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَلاَ يَحْصُل التَّقَاصُّ هَاهُنَا لأَِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ فِي الْحَال، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلاَصِهِ بِالْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الأَْخْذُ أَيْضًا بِغَيْرِهِ، لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ وَكِيلِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 461 - 464.

(29/165)


ذَلِكَ لِكَوْنِهِ جَاحِدًا لَهُ وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لاَ يُجِيبُهُ إِلَى الْمُحَاكَمَةِ وَلاَ يُمْكِنُهُ إِجْبَارُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ، وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: جَعَل أَصْحَابُنَا الْمُحَدِّثُونَ لِجَوَازِ الأَْخْذِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ حِينَ قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ لَنَا جَوَازُ الأَْخْذِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَخَذَ بِقَدْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَحَرَّى وَاجْتَهَدَ فِي تَقْوِيمِهِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَنَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدِّ الأَْمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ (2) وَمَتَى أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَقَدْ خَانَهُ فَيَدْخُل فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (3) وَلأَِنَّهُ إِنْ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ تَرَاضٍ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ الْحَقِّ
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". تقدم فـ 9.
(2) حديث: " أد الأمانة إلى من ائتمنك. . . ". تقدم فـ (12) .
(3) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ". أخرجه أحمد (5 / 425) ، والبيهقي (6 / 100) من حديث أبي حميد الساعدي، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 46) : وحديث أبي حميد أصح ما في الباب.

(29/165)


بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَإِنَّ التَّعْيِينَ إِلَيْهِ (1) .
وَأَبَاحَ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَخْذَ الضَّيْفِ مِنْ مَال مَنْ نَزَل بِهِ وَلَمْ يُقِرَّهُ بِقَدْرِ قِرَاهُ، لِظُهُورِ سَبَبِ الأَْخْذِ، وَمَتَى ظَهَرَ السَّبَبُ لَمْ يُنْسَبِ الآْخِذُ إِلَى الْخِيَانَةِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قُلْنَا يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِل بِقَوْمٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَال لَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ (2) .
وَقَال طَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا ظَهَرَ السَّبَبُ لَمْ يَجُزِ الأَْخْذُ بِغَيْرِ إِذْنٍ لإِِمْكَانِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ وُصُول حَقِّهِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ بِدُونِ الأَْخْذِ خُفْيَةً (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 325 - 327.
(2) حديث: " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 532) ومسلم (3 / 1353) من حديث عقبة بن عامر.
(3) القواعد والفوائد الأصولية ص 309، والقواعد لابن رجب ص 31.

(29/166)


ظِلٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الظِّل فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الضِّحِّ (الشَّمْسُ أَوْ ضَوْءُهَا) ، قَال الْفَيُّومِيُّ: كُل مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ ظِلٌّ، مِثْلُهُ مَا فِي اللِّسَانِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الظِّل ضَوْءُ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا اسْتَتَرَتْ عَنْكَ بِحَاجِزٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ: الظِّل أَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ: أَنَا فِي ظِل فُلاَنٍ، وَظِل اللَّيْل: سَوَادُهُ، وَهُوَ يَشْمَل مَا قَبْل الزَّوَال وَمَا بَعْدَهُ (2) ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَيْءُ:
2 - الْفَيْءُ: هُوَ الرُّجُوعُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الظِّل مِنَ الزَّوَال إِلَى الْغُرُوبِ (4) ، وَيُقَال لِلْفَيْءِ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) مغني المحتاج 1 / 122.
(3) ابن عابدين على الدرالمختار 1 / 240.
(4) المصباح المنير، وابن عابدين 1 / 240، ومغني المحتاج 1 / 122.

(29/166)


التَّبَعُ، لأَِنَّهُ يَتْبَعُ الشَّمْسَ (1) .
وَيُفَرِّقُ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الظِّل وَالْفَيْءِ: بِأَنَّ كُل مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَزَالَتْ عَنْهُ فَهُوَ ظِلٌّ وَفَيْءٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ ظِلٌّ (2) ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْفُرُوقِ: بِأَنَّ الظِّل يَكُونُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَلاَ يَكُونُ الْفَيْءُ إِلاَّ بِالنَّهَارِ (3) .
وَقِيل: الظِّل بِالْغَدَاةِ، وَالْفَيْءُ بِالْعَشِيِّ (4) .
وَيُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الظِّل: يَشْمَل مَا قَبْل الزَّوَال وَمَا بَعْدَهُ، وَالْفَيْءُ: مُخْتَصٌّ بِمَا بَعْدَهُ (5)

ب - الزَّوَال:
3 - الزَّوَال لُغَةً: التَّنْحِيَةُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: هُوَ مَيْل الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ أَيْ وَسَطِهَا، وَيُعْرَفُ بَعْدَ تَوَقُّفِ الظِّل مِنْ الاِنْتِقَاصِ، وَإِذَا أَخَذَ الظِّل فِي الزِّيَادَةِ فَالشَّمْسُ قَدْ زَالَتْ (6) ، وَعَلَى هَذَا فَالزَّوَال سَبَبٌ لِطُول الظِّل وَالْفَيْءِ.
__________
(1) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري.
(2) المصباح المنير مادة (ظلل) .
(3) الفروق لأبي هلال العسكري.
(4) لسان العرب (ظلل) .
(5) ابن عابدين 1 / 240، ومغني المحتاج 1 / 122.
(6) ابن عابدين 1 / 238، وبداية المجتهد 1 / 48، ومغني المحتاج 1 / 121، والمغني لابن قدامة 1 / 371.

(29/167)


الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - الظِّل وَأَوْقَاتُ الصَّلاَةِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الظُّهْرِ يَدْخُل بِزَوَال الشَّمْسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ.
فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ هُوَ بُلُوغُ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ غَيْرُ ظِل الزَّوَال، وَهَذَا هُوَ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ أَيْضًا (1) .
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، سِوَى ظِل الزَّوَال، كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ يَدْخُل بِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الظِّل عِنْدَهُ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 8، 9) .

ثَانِيًا - التَّبَوُّل وَالتَّخَلِّي فِي الظِّل:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّبَوُّل وَالتَّخَلِّي فِي ظِلٍّ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ (3) ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ: الْبِرَازَ فِي
__________
(1) فتح القدير 1 / 192، وجواهر الإكليل 1 / 32، ومواهب الجليل 1 / 382، ومغني المحتاج 1 / 121، والمغني لابن قدامة 1 / 371 - 375.
(2) البدائع 1 / 123، والهداية مع فتح القدير 1 / 192.
(3) ابن عابدين 1 / 239، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 41، والمغني لابن قدامة 1 / 165.

(29/167)


الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّل (1) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا اللَّعَّانِينَ، قَالُوا وَمَا اللَّعَّانُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ (2) .
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ وَاسْتَظْهَرَ الدُّسُوقِيُّ التَّحْرِيمَ حَيْثُ قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَضَاءَ الْحَاجَةِ فِي الْمَوْرِدِ وَالطَّرِيقِ وَالظِّل وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حَرَامٌ (3) .
وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنْ كَلاَمِ النَّوَوِيِّ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي حُرْمَتُهُ لِلأَْخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلإِِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ (4) .
وَيُلْحَقُ بِالظِّل فِي الصَّيْفِ مَحَل الاِجْتِمَاعِ فِي الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (5) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلاِجْتِمَاعِ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ (6) .
__________
(1) حديث معاذ: " اتقوا الملاعن الثلاث. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 29) والحاكم (1 / 167) وصححه الحاكم ووافه الذهبي. والمورد: الطريق، وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: صدره، وقيل: ما برز منه.
(2) حديث: " اتقوا اللعانين؟ قالوا: وما اللعانان " أخرجه مسلم (1 / 226) من حديث أبي هريرة.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 107.
(4) مغني المحتاج 1 / 41.
(5) ابن عابدين 1 / 229، والدسوقي 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 41.
(6) ابن عابدين 1 / 229.

(29/168)


ثَالِثًا: اسْتِظْلاَل الْمُحْرِمِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ اسْتِظْلاَل الْمُحْرِمِ بِمَا لاَ يُلاَمِسُ الْوَجْهَ، كَبِنَاءٍ مِنْ حَائِطٍ وَسَقْفٍ وَقَبْوٍ وَخَيْمَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْمَحْمَل فَيَجُوزُ الاِسْتِظْلاَل بِظِلِّهِ الْخَارِجِ، كَمَا يُسْتَظَل بِالْحَائِطِ، نَازِلاً أَوْ سَائِرًا، سَوَاءٌ بِجَانِبِهِ أَوْ تَحْتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَجَوَازُ الاِسْتِظْلاَل بِمَا إِذَا كَانَ مَا يَتَظَلَّل بِهِ ثَابِتًا فِي أَصْلٍ تَابِعٍ لَهُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَدَلِيل الْجَوَازِ هُوَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَال فِي حَدِيثِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَل بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ. (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُظِل ثَابِتًا فِي أَصْلٍ يَتْبَعُهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام ف 63) .

رَابِعًا: الْجُلُوسُ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّل:
7 - يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الضِّحِّ وَالظِّل، لِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُجْلَسَ بَيْنَ الضِّحِّ
__________
(1) المغني 3 / 38، وابن عابدين 2 / 164، حاشية الدسوقي 2 / 56، 57 وحديث: " وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 889) من حديث جابر بن عبد الله.

(29/168)


وَالظِّل وَقَال: مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ (1) وَقَال ابْنُ مَنْصُورٍ لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الظِّل وَالشَّمْسِ؟ قَال: هَذَا مَكْرُوهٌ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَا؟ قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: صَحَّ النَّهْيُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَال سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَال: رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِي فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَوَّل إِلَى الظِّل.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ جَاءَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَامَ فِي الشَّمْسِ، فَأَمَرَ بِهِ فَحُوِّل إِلَى الظِّل (2) .
__________
(1) حديث: " نهى أن يجلس بين الضح والظل " أخرجه أحمد بن حنبل (3 / 413، 414) وحسن إسناده البوصيري في الزوائد (2 / 251) .
(2) الأداب الشرعية 3 / 160 طبعة أولى - المنار. وحديث قيس بن أبي حازم: " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي في الشمس. . . " عزاه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3 / 160) إلى سعيد بن منصور، ونقل عن إسحاق بن راهويه أنه قال: صح النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية قيس عن أبيه أنه جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب. أخرجه أبو داود (5 / 163) وجود إسناده ابن مفلح في الأداب الشرعية (3 / 160) .

(29/169)


ظُلْمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أَصْل الظُّلْمِ فِي اللُّغَةِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْجَوْرُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْمَيْل عَنِ الْقَصْدِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى سُمِّيَ كُل عَسْفٍ ظُلْمًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَغْيُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ: الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ وَالاِسْتِطَالَةُ عَلَى النَّاسِ. . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .

ب - الإِْكْرَاهُ:
3 - الإِْكْرَاهُ لُغَةً: مِنَ الْكُرْهِ - بِالضَّمِّ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وجمهرة اللغة مادة: (ظلم) .
(2) فتح القدير 5 / 433.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (بغى) والموسوعة الفقهية (بغاة) 8 / 130.

(29/169)


بِمَعْنَى الْقَهْرِ، أَوْ مِنَ الْكَرْهِ - بِالْفَتْحِ - بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ، وَأَكْرَهْتُهُ عَلَى الأَْمْرِ إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا (1) .
وَعَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ: بِأَنَّهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِكْرَاه ف 98) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالإِْكْرَاهِ: أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَكُونُ صُورَةً مِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الظُّلْمُ مُحَرَّمٌ، دَل عَلَى حُرْمَتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (3) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءٍ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} (4) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رُوِيَ عَنِ اللَّهِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الفروق لأبي هلال العسكري ص 192.
(3) سورة النساء / 168، 169.
(4) سورة هود / 113.

(29/170)


تَعَالَى أَنَّهُ قَال: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا. . (1) الْحَدِيثَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لأَِخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْل أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحَمَل عَلَيْهِ (2)
. وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، قَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الظُّلْمُ يَشْتَمِل عَلَى مَعْصِيَتَيْنِ: أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمُبَارَزَةُ الرَّبِّ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالْمَعْصِيَةُ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا، لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ غَالِبًا إِلاَّ بِالضَّعِيفِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى الاِنْتِصَارِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الظُّلْمُ عَنْ ظُلْمَةِ الْقَلْبِ؛ لأَِنَّهُ لَوِ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْهُدَى لاَعْتَبَرَ، فَإِذَا سَعَى الْمُتَّقُونَ بِنُورِهِمُ الَّذِي حَصَل لَهُمْ بِسَبَبِ التَّقْوَى اكْتَنَفَتْ ظُلُمَاتُ الظُّلْمِ الظَّالِمَ، حَيْثُ لاَ يُغْنِي عَنْهُ ظُلْمُهُ شَيْئًا (3) .
__________
(1) حديث: " قال الله: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. . . " أخرجه مسلم (4 / 1994) من حديث أبي ذر.
(2) حديث: " من كانت له مظلمة لأخيه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 101) من حديث أبي هريرة.
(3) فتح الباري 5 / 100.

(29/170)


أَثَرُ الظُّلْمِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اعْتِبَارِ الْخَوْفِ مِنَ الظَّالِمِ عُذْرًا مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِتَرْكِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لأَِنَّ الأَْمْنَ مِنَ الظَّالِمِ شَرْطٌ فِيهِمَا، فَكُل مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ مَال غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْهُ، أَوْ خَافَ عَلَى دِينِهِ كَخَوْفِهِ إِلْزَامَ قَتْل رَجُلٍ أَوْ ضَرْبِهِ، أَوْ أَنْ يُحْبَسَ بِحَقٍّ لاَ وَفَاءَ لَهُ عِنْدَهُ - لأَِنَّ حَبْسَ الْمُعْسِرِ ظُلْمٌ - فَكُل مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ يُعْذَرُ فِي تَخَلُّفِهِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَلاَ عُذْرَ لِمَنْ يُطَالَبُ بِحَقٍّ هُوَ ظَالِمٌ فِي مَنْعِهِ، بَل عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِلْجُمُعَةِ، وَعَلَيْهِ تَوْفِيَةُ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَلاَ عُذْرَ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ لِجِنَايَةٍ ارْتَكَبَهَا (1) .

أَخْذُ الْمَال ظُلْمًا مِنَ الْحَاجِّ:
6 - اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَمْنَ الطَّرِيقِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَاعْتَبَرَهُ آخَرُونَ شَرْطًا لِلأَْدَاءِ، لاَ شَرْطًا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ.
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَمْن ف 9، وَمُصْطَلَحِ حَجّ ف 21) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ دَفْعِ الرَّصَدِيِّ بِالْمَال،
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 275، حاشية ابن عابدين 1 / 548، الزرقاني شرح خليل 2 / 67، حاشية القليوبي وعميرة 1 / 227، 268، كشاف القناع 1 / 495، 496 و 2 / 23.

(29/171)


وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي تَحَقُّقِ شَرْطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَهُوَ " أَمْنُ الطَّرِيقِ "، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ تَرَصُّدَ الْحَاجِّ لأَِخْذِ مَالِهِ أَوِ التَّعَدِّي عَلَى نَفْسِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى دَفْعِ رِشْوَةٍ أَوْ مَكْسٍ أَوْ خِفَارَةٍ مِنَ الظُّلْمِ الْمَانِعِ مِنْ تَحَقُّقِ هَذَا الشَّرْطِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْوُجُوبِ إِذَا انْدَفَعَ شَرُّ الرَّصَدِيِّ بِدَفْعِ الرِّشْوَةِ أَوِ الْمَكْسِ أَوِ الْخِفَارَةِ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ وُجُوبُ أَدَاءِ الْحَجِّ إِذَا انْدَفَعَ الشَّرُّ بِدَفْعِ الرِّشْوَةِ، فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ شَرْطُ الأَْمْنِ، وَالإِْثْمُ عَلَى الآْخِذِ لاَ عَلَى الْمُعْطِي، لأَِنَّ الْمُعْطِيَ مُضْطَرٌّ لِلدَّفْعِ ضَرُورَةَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ لإِِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُسْتَثْنَى مِنْ شَرْطِ أَمْنِ الطَّرِيقِ الظَّالِمُ الَّذِي يَأْخُذُ الْمُكُوسَ عَلَى الْحُجَّاجِ، فَإِنَّ الْحَجَّ لاَ يَسْقُطُ وُجُوبُهُ بِأَخْذِ الْمَكْسِ بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَنْكُثَ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَكْسُ قَلِيلاً لاَ يُجْحِفُ.
وَوَجْهُ جَوَازِ الدَّفْعِ لِلْمَكَّاسِ: أَنَّ الرَّجُل

(29/171)


بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ عِرْضَهُ مِمَّنْ يَهْتِكُهُ بِمَالِهِ، وَقَالُوا: كُل مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ دَيْنَهُ مِمَّنْ يَمْنَعُهُ إِيَّاهُ وَلَوْ كَانَ ظَالِمًا، كَمَا لَوْ قَال الرَّجُل لآِخَرَ: لاَ أُمَكِّنُكَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ إِلاَّ بِجُعْلٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهُ.
وَحَاصِل مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ يَسْقُطُ بِأَخْذِ الظَّالِمِ مَالاً مِنَ الْحَاجِّ فِي صُورَتَيْنِ: الأُْولَى أَنْ يَأْخُذَ قَلِيلاً غَيْرَ مُجْحِفٍ، وَكَانَ يَنْكُثُ.
وَالثَّانِيَةُ. أَنْ يَأْخُذَ كَثِيرًا مُجْحِفًا، نَكَثَ أَمْ لَمْ يَنْكُثْ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ لاَ يَسْقُطُ إِذَا كَانَ مَنْ يَدْفَعُ الْمَال لِلرَّصَدِيِّ هُوَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ، وَذَلِكَ لِلْمِنَّةِ. كَمَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يُعْطِيَ مَالاً لِلرَّصَدِيِّ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَى طَرِيقِ الرَّصَدِيِّ، وَيُكْرَهُ لَهُ إِعْطَاءُ الْمَال لِلرَّصَدِيِّ، لأَِنَّهُ يُحَرِّضُهُ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا.
وَمَحَل الْكَرَاهَةِ إِذَا كَانَ قَبْل الإِْحْرَامِ، إِذْ لاَ حَاجَةَ لاِرْتِكَابِ الذُّل حِينَئِذٍ، أَمَّا بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَلاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهُ أَسْهَل مِنَ الْقِتَال أَوِ التَّحَلُّل.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَاجَّ يَلْزَمُهُ السَّعْيُ

(29/172)


لِلْحَجِّ وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الظَّالِمِ عَنْ نَفْسِهِ بِالرِّشْوَةِ أَوِ الْمَكْسِ أَوِ الْخِفَارَةِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ يَسِيرَةً لاَ تُجْحِفُ بِمَالِهِ؛ لأَِنَّهَا غَرَامَةٌ يَقِفُ إِمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ بَذْلِهَا، كَثَمَنِ الْمَاءِ وَعَلَفِ الْبَهَائِمِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ غَدْرَ الْمَبْذُول لَهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ مُتَّفِقٌ مَعَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الإِْجْحَافِ وَعَدَمِ النَّكْثِ وَالْغَدْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الرَّصَدِيِّ الظَّالِمِ مَالاً، وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الْحَجِّ وَالسَّعْيِ إِلَيْهِ إِذَا اضْطُرَّ الْحَاجُّ لِدَفْعِ الرِّشْوَةِ لِمَنْعِ الظُّلْمِ عَنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِفَقْدِهِ شَرْطَ الأَْمْنِ، وَحَتَّى لاَ تَكُونَ الطَّاعَةُ سَبَبًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَيَأْثَمُ بِالدَّفْعِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِالإِْعْطَاءِ، وَلأَِنَّ مَا يُعْطِيهِ خُسْرَانٌ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، فَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْل وَأُجْرَتِهِ.
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَثِيرُ الرِّشْوَةِ وَيَسِيرُهَا (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 144، وبدائع الصنائع 3 / 213، وفتح القدير 2 / 328، ومواهب الجليل 2 / 495، وحاشية الدسوقي 2 / 6، ونهاية المحتاج 3 / 240 - 242، وحاشية القليوبي وعميرة 2 / 88، والمغني 3 / 218، والإنصاف 3 / 407، وكشاف القناع 2 / 392.

(29/172)


الظُّلْمُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْمَبِيتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ الْقَضَاءِ إِذَا جَارَ الزَّوْجُ فَلَمْ يَقْسِمْ لإِِحْدَى زَوْجَاتِهِ، أَوْ قَسَمَ إِحْدَاهُنَّ أَكْثَرَ مِنَ الأُْخْرَى.
وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .

أَخْذُ الظَّالِمِ الْوَدِيعَةَ قَهْرًا:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا أَخَذَ الْوَدِيعَةَ قَهْرًا مِنَ الْمُودَعِ فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (ضَمَان، غَصْب، وَدِيعَة) .

الاِمْتِنَاعُ عَنْ دَفْعِ مَالٍ فُرِضَ ظُلْمًا:
9 - لَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ نَصًّا صَرِيحًا فِي الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا فَرَضَ عَلَى النَّاسِ مَالاً ظُلْمًا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ.
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: يَجِبُ عَلَى كُل مَنْ أَطَاقَ أَنْ يُقَاتِل مَعَ الإِْمَامِ، إِلاَّ إِنْ أَبْدَى مَنْ يُقَاتِلُهُمُ الإِْمَامُ مَا يُجَوِّزُ لَهُمُ الْقِتَال، كَأَنْ ظَلَمَهُمْ أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُمْ ظُلْمًا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يُعِينُوهُمْ حَتَّى يُنْصِفَهُمْ وَيَرْجِعَ عَنْ

(29/173)


جَوْرِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الْحَال مُشْتَبَهًا أَنَّهُ ظُلْمٌ، مِثْل تَحْمِيل بَعْضِ الْجِبَايَاتِ الَّتِي لِلإِْمَامِ أَخْذُهَا وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَعَمَّ مِنْهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا كَلَّفَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ النَّاسَ بِمَالٍ ظُلْمًا فَامْتَنَعُوا عَنْ إِعْطَائِهِ، فَاسْتَظْهَرَ الْبُنَانِيِّ مِنْهُمْ أَنَّ تَعْرِيفَ ابْنِ عَرَفَةَ لِلْبَغْيِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ بُغَاةٌ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ قِتَالُهُمْ لأَِنَّهُ جَائِرٌ.
أَمَّا تَعْرِيفُ خَلِيلٍ لِلْبُغَاةِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ بُغَاةٍ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَمْنَعُوا حَقًّا وَلاَ أَرَادُوا خَلْعَهُ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ ظُلْمًا لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ، فَلاَ يُعْتَبَرُ امْتِنَاعُهُمْ عَنْ دَفْعِهِ بَغْيًا، لَكِنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ دَفْعِهِ فِيمَا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِهِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِمَّا طَلَبَهُ، فَإِنَّ الإِْمَامَ إِذَا أَكْرَهَ أَحَدًا مِنَ الرَّعِيَّةِ عَلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ - مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، أَوْ عِنْدَ الْمَأْمُورِ فَقَطْ - فَلاَ لَوْمَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَقَل امْتَنَعَتِ الْمُخَالَفَةُ. وَيَدُل عَلَى وُجُوبِ الدَّفْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ: سَيَأْتِيكُمْ رَكِيبٌ مُبْغِضُونَ، فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا
__________
(1) فتح القدير 4 / 411.
(2) الزرقاني شرح مختصر خليل مع حاشية البناني 8 / 60.

(29/173)


بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلأَِنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ، وَلِيَدْعُوا لَكُمْ (1) فَدَل عَلَى وُجُوبِ الدَّفْعِ، وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِمْ، وَكَفِّ أَلْسِنَتِنَا عَنْهُمْ (2) .

عَزْل الْحَاكِمِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ لاَ يُعْزَل بِالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) ف 12، 23 وَمُصْطَلَحِ: (عَزْل) .

أَثَرُ الْقَتْل ظُلْمًا فِي شَهَادَةِ الْمَقْتُول:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمَقْتُول بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَمِنْ صُوَرِ الْقَتْل ظُلْمًا: قَتِيل اللُّصُوصِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، أَوْ مَنْ قُتِل مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دَمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْل الذِّمَّةِ، أَوْ مَنْ قُتِل دُونَ مَظْلَمَةٍ، أَوْ مَاتَ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حُبِسَ ظُلْمًا.
__________
(1) حديث: " سيأتيكم ركيب مبغضون. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 245) من حديث جابر بن عتيك، وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (1 / 366) تضعيف أحد رواته.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب 2 / 398 ط. البابي الحلبي. الباب الحلبي.

(29/174)


وَاخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهِ شَهِيدَ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، أَوْ شَهِيدَ الآْخِرَةِ فَقَطْ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِل ظُلْمًا يُعْتَبَرُ شَهِيدَ الآْخِرَةِ فَقَطْ، لَهُ حُكْمُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِلَى أَنَّ مَنْ قُتِل ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ يُلْحَقُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فِي أَنَّهُ لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِقَوْل سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُول مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2)
وَلأَِنَّهُمْ مَقْتُولُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَشْبَهُوا مَنْ قَتَلَهُمُ الْكُفَّارُ (3) .

أَثَرُ الْقَتْل ظُلْمًا فِي إِيجَابِ الْقِصَاصِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْل الْمُؤْمِنِ ظُلْمًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 608، 611، مواهب الجليل 2 / 247، 248، المدونة 1 / 184، كشاف القناع 2 / 100، الإنصاف 2 / 501، 502، 503، مغني المحتاج 1 / 350.
(2) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 128 - 129) والترمذي (4 / 30) من حديث سعيد بن زيد واللفظ للترمذي، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(3) كشاف القناع 2 / 100، والإنصاف 1 / 501، 502، 503.

(29/174)


مِنَ الْكَبَائِرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ ظُلْمًا عُدْوَانًا مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الظُّلْمِ: الْقَتْل بِحَقٍّ أَوْ بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ.
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول مَعْصُومًا مَحْقُونَ الدَّمِ لِيَتَحَقَّقَ الظُّلْمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا} (1) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْقَتْل، وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا شُرِعَ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ وَزَجْرًا عَنْ إِتْلاَفِ الْبُنْيَةِ الْمَطْلُوبِ بَقَاؤُهَا، فَلاَ يَجِبُ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ بِقَتْل حَرْبِيٍّ، وَلاَ مُرْتَدٍّ قَبْل التَّوْبَةِ، وَلاَ بِقَتْل زَانٍ مُحْصَنٍ، وَلاَ مُحَارِبٍ قَاطِعِ طَرِيقٍ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ وَلاَ تَارِكِ الصَّلاَةِ بَعْدَ أَمْرِ الإِْمَامِ لَهُ بِهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قِصَاص) .

نِسْبَةُ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَأَثَرُهَا فِي الرِّدَّةِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الظُّلْمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ فَلَوْ قَال شَخْصٌ لِغَيْرِهِ: لاَ تَتْرُكِ الصَّلاَةَ فَإِنَّ
__________
(1) سورة الإسراء / 33.
(2) نهاية المحتاج 7 / 235، حاشية الجمل 5 / 502، كشاف القناع 5 / 521، تفسير القرطبي 10 / 254، حاشية الدسوقي 4 / 237، الخرشي على خليل 8 / 5، البحرالرائق 8 / 327، حاشية ابن عابدين 5 / 342.

(29/175)


اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُكَ فَقَال: لَوْ آخَذَنِي اللَّهُ بِهَا مَعَ مَا بِي مِنَ الْمَرَضِ وَالشِّدَّةِ ظَلَمَنِي، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 14) .

الْغِيبَةُ لِلشَّكْوَى مِنْ الظُّلْمِ:
14 - لاَ تُبَاحُ الْغِيبَةُ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمِنْ بَيْنِهَا التَّظَلُّمُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَيَقُول: ظَلَمَنِي فُلاَنٌ، أَوْ فَعَل بِي كَذَا.
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْل إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (1) .
وَمِنْ بَيْنِ الضَّرُورَاتِ الْمُبِيحَةِ لِلْغِيبَةِ الاِسْتِفْتَاءُ، بِأَنْ يَقُول لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي فُلاَنٌ بِكَذَا وَكَذَا فَمَا طَرِيقُ الْخَلاَصِ؟ وَالأَْسْلَمُ أَنْ يَقُول: مَا قَوْلُكَ فِي رَجُلٍ ظَلَمَهُ أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنَّ التَّصْرِيحَ مُبَاحٌ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لأَِنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مَعَ تَعْيِينِهِ مَا لاَ يُدْرِكُ مَعَ إِبْهَامِهِ (2) ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي
__________
(1) سورة النساء / 148.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 262، 263، روضة الطالبين 7 / 23.

(29/175)


مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ؛ فَقَال: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غِيبَة) .

الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ:
15 - لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَلَمُ ظُلْمِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ شَتَمَهُ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ بِالْكُفْرِ لأَِنَّهُ فَوْقَ مَا يُوجِبُهُ أَلَمُ الظُّلْمِ، وَلَوْ كَذَبَ ظَالِمٌ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ، بَل يَدْعُو اللَّهَ فِيمَنْ يَفْتَرِي عَلَيْهِ نَظِيرُ افْتِرَائِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ فَلاَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينُهُ، بَل يَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِ فِيمَنْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ، هَذَا مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ، وَالتَّوَرُّعُ عَنْهُ أَفْضَل، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: الدُّعَاءُ قِصَاصٌ وَمَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَمَا صَبَرَ يُرِيدُ أَنَّهُ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ (3) .
وَذَهَبَ الْعَلاَّمَةُ ابْنُ قَاسِمٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 507) ومسلم (3 / 1338) من حديث عائشة.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 98.
(3) حديث: " من دعا على من ظلمه فقد انتصر " أخرجه الترمذي (5 / 554) من حديث عائشة، وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (4 / 234) تضعيف أحد رواته.

(29/176)


إِلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دُعَاء 18) .

وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ:
16 - وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ هِيَ إِحْدَى وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ وَرَدِّهَا إِلَى أَصْحَابِهَا.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ هُوَ قَوَدُ الْمُتَظَالِمِينَ إِلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعِينَ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ (2) .
فَمَدَارُ الأَْمْرِ فِي الْعَمَل بِهَذِهِ الْوِلاَيَةِ قَائِمٌ عَلَى قُوَّةِ السُّلْطَانِ وَمَنْعَتُهُ، وَلِذَا يُشْتَرَطُ فِي النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ: أَنْ يَكُونَ جَلِيل الْقَدْرِ مُهَابًا، نَافِذَ الأَْمْرِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيل الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ، لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إِلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَثَبْتِ الْقُضَاةِ، وَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ مِمَّنْ يَمْلِكُ الأُْمُورَ الْعَامَّةَ كَالْوُزَرَاءِ وَالأُْمَرَاءِ لَمْ يَحْتَجِ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَامُّ احْتَاجَ إِلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ.
يَقُول ابْنُ خَلْدُونٍ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْوَظِيفَةِ: النَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ وَظِيفَةٌ مُمْتَزِجَةٌ مِنْ سَطْوَةِ
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 122.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 77.

(29/176)


السَّلْطَنَةِ وَنَصَفَةِ الْقَضَاءِ، وَتَحْتَاجُ إِلَى عُلُوِّ يَدٍ وَعَظِيمِ رَهْبَةٍ تَقْمَعُ الظَّالِمَ مِنَ الْخَصْمَيْنِ وَتَزْجُرُ الْمُعْتَدِيَ، وَكَأَنَّهُ يُمْضِي مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ أَوْ غَيْرُهُمْ عَنْ إِمْضَائِهِ (1) .
وَقَدْ تَوَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِي الشِّرْبِ الَّذِي تَنَازَعَ فِيهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ (2) .
وَإِنَّمَا قَال لَهُ هَذَا أَدَبًا لَهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَيْهِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (وِلاَيَةُ الْمَظَالِمِ) .

تَكْرِيمُ الظَّالِمِ وَإِعَانَتُهُ:
17 - يُقْصَدُ بِذَلِكَ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَدُل عَلَى تَكْرِيمِ الظَّالِمِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، كَإِجَابَةِ
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 222.
(2) حديث: " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 39) ومسلم (4 / 1829 - 1830) من حديث عروة بن الزبير، واللفظ لمسلم.
(3) الأحكام السلطانية ص 77، 80 - 83، المنهج المسلوك في سياسة الملوك ص 562 - 572، بدائع السلك في الملك 1 / 232 - 239.

(29/177)


دَعْوَتِهِ، وَتَقْبِيل يَدِهِ، وَدَفْعِ رِشْوَةٍ لَهُ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا: (دَعْوَة ف 27، تَقْبِيل ف 8، رِشْوَة ف 7 إِعَانَة ف 11، رِدْء ف 4 - 7) .

(29/177)


ظَنٌّ

التَّعْرِيفُ:
1 - الظَّنُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ظَنَّ، مِنْ بَابِ قَتَل وَهُوَ خِلاَفُ الْيَقِينِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} (1) وَمِنْهُ الْمَظِنَّةُ بِكَسْرِ الظَّاءِ لِلْمَعْلَمِ وَهُوَ حَيْثُ يُعْلَمُ الشَّيْءُ، وَالْجَمْعُ الْمَظَانُّ، قَال ابْنُ فَارِسٍ مَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ، وَالظِّنَّةُ بِالْكَسْرِ: التُّهْمَةُ (2) .
وَالظَّنُّ فِي الاِصْطِلاَحِ - كَمَا عَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ - هُوَ: الاِعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَال النَّقِيضِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، وَقِيل: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرُّجْحَانِ (3) ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: أَنَّ الظَّنَّ مِنَ الأَْضْدَادِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ يَقِينًا وَيَكُونُ شَكًّا، كَالرَّجَاءِ يَكُونُ أَمْنًا
__________
(1) سورة البقرة / 46.
(2) الصحاح واللسان والمصباح.
(3) التعريفات للجرجاني.

(29/178)


وَخَوْفًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَبِيل الشَّكِّ؛ لأَِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا (1) .
وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ (2) .
وَنَقَل أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ الزَّرْكَشِيَّ أَوْرَدَ ضَابِطَيْنِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الظَّنِّ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَالظَّنِّ الْوَارِدِ فِيهِ بِمَعْنَى الشَّكِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ، وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فَهُوَ الشَّكُّ.
الثَّانِي: أَنَّ كُل ظَنٍّ يَتَّصِل بِهِ (أَنْ) الْمُخَفَّفَةُ فَهُوَ شَكٌّ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {بَل ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُول وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} (3) وَكُل ظَنٍّ يَتَّصِل بِهِ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةُ فَهُوَ يَقِينٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّكُّ:
2 - الشَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الاِرْتِيَابُ.
__________
(1) الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 174 ط. دمشق، الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 124 ط. دار الفكر.
(2) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 104.
(3) سورة الفتح / 12.
(4) سورة الحاقة / 20، الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 165 ط. دمشق.

(29/178)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلاَ تَرْجِيحٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ: أَنَّ الشَّكَّ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لاَ يَمِيل الْقَلْبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُطْرَحِ الآْخَرُ فَهُوَ ظَنٌّ، فَإِذَا طَرَحَهُ فَهُوَ غَالِبُ الظَّنِّ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ (1) .

ب - الْوَهْمُ:
3 - الْوَهْمُ فِي اللُّغَةِ: سَبْقُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ مَعَ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ إِدْرَاكُ الطَّرَفِ الْمَرْجُوحِ، أَيْ مَا يُقَابِل الظَّنَّ (2) .

ج - الْيَقِينُ:
4 - الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ الْحَاصِل عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ، وَلِهَذَا لاَ يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهُوَ: جَزْمُ الْقَلْبِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ (3) .
__________
(1) التعريفات للجرجاني / 113 ط، حلبي.
(2) شرح البدخشي 1 / 25 ط. صبيح.
(3) شرح المجلة للأتاسي 1 / 18.

(29/179)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الظَّنُّ عَلَى أَضْرُبٍ: مَحْظُورٌ، وَمَأْمُورٌ بِهِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَمُبَاحٌ.
فَأَمَّا الْمَحْظُورُ. فَمِنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ وَوَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ يَقُول: لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ (2) .
وَمِنَ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ، فَعَنْ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ سَكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حديث جابر: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن. . . " أخرجه مسلم (4 / 2206) .
(2) حديث " حسن الظن من حسن العبادة ". أخرجه أحمد (2 / 407) وأبو داود (5 / 266) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده راو قال عنه الذهبي في الميزان (2 / 234) : نكرة.

(29/179)


عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِْنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا أَوْ قَال: شَيْئًا (1)
ثُمَّ إِنَّ كُل ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِعِلْمِهِ، وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيل عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتْبَعِ الدَّلِيل وَحَصَل عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ، فَالاِقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مِنْ قَبُول شَهَادَةِ الْعُدُول، وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ، فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تُعُبِّدْنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ.
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَهُوَ: حُسْنُ الظَّنِّ بِالأَْخِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الظَّنِّ مَنْدُوبًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ احْتِمَالٌ أَنْ لاَ يَظُنَّ بِهِ
__________
(1) حديث صفية: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 336، 337) ومسلم (4 / 1712)

(29/180)


شَيْئًا فَكَانَ مَنْدُوبًا.
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ، فَمِنْهُ: ظَنُّ الشَّاكِّ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَل عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ، فَإِنْ عَمِل بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ عَدَل عَنْهُ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا (1) .
وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَحَرَامٍ وَمُبَاحٍ، فَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى، وَبِكُلٍّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُبَاحُ الظَّنُّ بِمَنِ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَةِ الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ فَلاَ يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ دَل عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَظُنَّ النَّاسُ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا، وَمَنْ دَخَل مَدْخَل السُّوءِ اتُّهِمَ، وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا بِهِ السُّوءَ، مِنَ الظَّنِّ الْجَائِزِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَظُنُّ الشَّاهِدَانِ فِي التَّقْوِيمِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَمَا يَحْصُل بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الأَْحْكَامِ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 499 - 500.
(2) نهاية المحتاج للرملي 2 / 429 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية الرملي على أسنى المطالب 1 / 296 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 1 / 321 ط. الحلبي.

(29/180)


الْحُكْمُ بِالظَّنِّ:
6 - ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ لِلظَّنِّ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ تُعْرَفُ وَتَقْوَى بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الأَْدِلَّةِ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَقَعَ فِي النَّفْسِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةٍ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ضِدِّهِ، فَهَذَا هُوَ الشَّكُّ، فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} (1) ، وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ (2) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَل بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الأَْحْكَامُ غَالِبًا، بَل الْمُرَادُ تَحْقِيقُ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِل الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لاَ يُمْكِنُ دَفْعُهَا، وَمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ لاَ يُكَلَّفُ بِهِ (3) ، وَيُؤَيِّدُهُ
__________
(1) سورة الحجرات / 12، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16 / 323 ط. المصرية.
(2) حديث: " إياكم والظن فإن الظن أكذبُ الحديث ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 484) ومسلم (4 / 1985) من حديث أبي هريرة.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (16 / 118 - 119) .

(29/181)


حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا (1) .

عَدَمُ اعْتِبَارِ الظَّنِّ إِذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ:
7 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ: لاَ عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الظَّنَّ الَّذِي يَظْهَرُ خَطَؤُهُ لاَ أَثَرَ لَهُ وَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ (2) .
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ ظَنَّ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ثُمَّ عَاشَ وَفَعَلَهُ فَأَدَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ (3) .
وَمِنْ فُرُوعِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَل الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا، وَظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ ضَاقَ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ بَطَل الْفَجْرُ، فَإِذَا بَطَل يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يُعِيدُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
__________
(1) حديث: " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 548، 549) ومسلم (1 / 116) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم
(2) المنثور 2 / 353 ط. الأولى، الأشباه والنظائر لابن نجيم وحاشية الحموي 1 / 193 ط. العامرة، والأشباه والنظائر للسيوطي 157 ط. العلمية.
(3) أسنى المطالب 1 / 118، 119 ط المكتبة الإسلامية، نهاية المحتاج 1 / 356 ط. المكتبة الإسلامية، الأشباه والنظائر للسيوطي 157 ط. العلمية، جواهر الإكليل 1 / 23 ط. الحلبي.

(29/181)


سَعَةٌ يُعِيدُ الْفَجْرَ فَقَطْ (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِل:
مِنْهَا: لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ عَمَلاً بِظَنِّهِ.
وَمِنْهَا: مَا لَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ رَكْبًا فَظَنَّ أَنَّ مَعَهُمْ مَاءً بَطَل تَيَمُّمُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ، لِتَوَجُّهِ الطَّلَبِ عَلَيْهِ (2) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا يُتَعَبَّدُ فِيهِ بِالنَّصِّ قَطْعًا، كَالْمُجْتَهِدِ الْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ لاَ يَجْتَهِدُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ لاَ يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ فِيمَا لَمْ يُتَعَبَّدْ فِيهِ بِالنَّصِّ، كَالاِجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مِنَ الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ فِي الأَْصَحِّ، وَلَوِ اجْتَهَدَ فِي دُخُول الْوَقْتِ جَازَتِ الصَّلاَةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ عِلْمِهِ فِي الأَْصَحِّ (3) .

أَثَرُ الظَّنِّ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، حاشية الحموي 1 / 193 ط. العامرة.
(2) المنثور 2 / 354 ط. الأولى، والأشباه والنظائر للسيوطي 157 ط. العلمية.
(3) المنثور 2 / 354 - 355 ط. الأولى.

(29/182)


إِلَى أَنَّ التَّعَارُضَ لاَ يَقَعُ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ نَقْلِيَّيْنِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لاَ يَجُوزُ فِي الأَْدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّعَارُضِ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ قُوَّةً، وَيَثْبُتُ التَّعَارُضُ فِي دَلِيلَيْنِ قَطْعِيَّيْنِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

اسْتِعْمَال الْمَاءِ الْمَظْنُونِ نَجَاسَتُهُ:
9 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ ظَنَّ نَجَاسَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا جَازَ وُضُوءُهُ (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ وَنَحْوُهَا، وَتَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي غَيَّرَهُ مِمَّا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ وَالطَّاهِرِيَّةَ لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَرَاحِيضِ وَرَخَاوَةِ أَرْضِهَا فَإِنَّهُ يَضُرُّ، وَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ مُغَيِّرَهُ مِمَّا لاَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ فَالْمَاءُ طَهُورٌ (4) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيل إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، وَشَكَّ هَل هُوَ قُلَّتَانِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) إرشاد الفحول ص 274، 275 الحلبي، وشرح البدخشي 3 / 156، 157 صبيح.
(2) تيسير التحرير 3 / 136، 137 ط. صبيح.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم، حاشية الحموي 1 / 193 ط. العامرة.
(4) الدسوقي على الشرح 1 / 35 ط. دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 6 ط. الحلبي.

(29/182)


فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي وَآخَرُونَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لِتَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ، وَلإِِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ احْتِمَالاَنِ، وَالْمُخْتَارُ بَل الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل طَهَارَتُهُ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ مُنَجِّسِهِ (أَيْ فِي تَنَجُّسِ الْمَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ) وَلاَ يَلْزَمُ مِنَ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الَّذِي ظُنَّ نَجَاسَتُهُ مَكْرُوهٌ، بِخِلاَفِ مَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ فَلاَ يُكْرَهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة) .

الظَّنُّ فِي دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ:
10 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَكَّ فِي دُخُول وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا فِي الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ. . وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَذَانُ الْوَاحِدِ لَوْ عَدْلاً، وَإِلاَّ تَحَرَّى، وَبَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ الْمُصَلِّي هَل دَخَل وَقْتُ الصَّلاَةِ أَوْ لاَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؟ أَوْ ظَنَّ دُخُولَهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدُّخُول وَتَوَهَّمَ الدُّخُول، سَوَاءٌ حَصَل لَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 19 ط. المكتب الإسلامي، وحاشية الجمل على شرح المنهج للقاضي زكريا الأنصاري 1 / 39.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 31 ط. المكتب الإسلامي.
(3) ابن عابدين 1 / 247.

(29/183)


مَا ذُكِرَ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ أَوْ طَرَأَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُول فِيهَا فَإِنَّ صَلاَتَهُ لاَ تُجْزِيهِ، لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، سَوَاءٌ تَبَيَّنَ بَعْدَ فَرَاغِ الصَّلاَةِ أَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَهُ أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ بِدُخُول الْوَقْتِ قَوِيًّا، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الإِْرْشَادِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ لِغَيْمٍ أَوْ حَبْسٍ فِي مُظْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اجْتَهَدَ، مُسْتَدِلًّا بِالدَّرْسِ وَالأَْعْمَال وَالأَْوْرَادِ وَشَبَهِهَا، وَحَيْثُ لَزِمَ الاِجْتِهَادُ فَصَلَّى بِلاَ اجْتِهَادٍ وَجَبَتِ الإِْعَادَةُ وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلاَلَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ صَبَرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ دُخُول الْوَقْتِ، وَالاِحْتِيَاطُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ خَرَجَ الْوَقْتُ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ لَمْ يُصَل حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلاَتِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ (3) .
__________
(1) الدسوقي على الشرح 1 / 181 ط. دار الفكر.
(2) روضة الطالبين 1 / 185 ط. المكتب الإسلامي.
(3) كشاف القناع 1 / 257 ط. عالم الكتب.

(29/183)


وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْوَقْتِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ نَظَرًا لِلأَْصْل، إِذِ الأَْصْل بَقَاءُ الْوَقْتِ.

الأَْخْذُ بِالظَّنِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ:
11 - مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ رَأْيُهُ بَعْدَ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِالاِجْتِهَادِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِالاِجْتِهَادِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ أَهْل قُبَاءَ كَانُوا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، فَأُخْبِرُوا بِتَحْوِيل الْقِبْلَةِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ (1) وَيَلْزَمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَال تَغَيُّرِ ظَنِّهِ الاِسْتِدَارَةُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَمَكَثَ قَدْرَ رُكْنٍ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ (2) .
وَتَبْطُل الصَّلاَةُ إِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ وَخَالَفَهَا بِصَلاَتِهِ لِغَيْرِهَا عَامِدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ لَمْ يُصَادِفِ الْقِبْلَةَ فِي الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، بَل وَإِنْ
__________
(1) حديث: " أن أهل قباء كانوا متوجهين إلى بيت المقدس في صلاة الفجر. . " أخرجه مسلم (1 / 275) من حديث ابن عمر.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 291 ط. المصرية.

(29/184)


صَادَفَهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إِلَيْهَا، فَيُعِيدُهَا أَبَدًا، لِدُخُولِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَتَعَمُّدِهِ إِيَّاهُ (1) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ لِلْمُجْتَهِدِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ أَعْرَض عَنْهُ وَاعْتَمَدَ الْجِهَةَ الَّتِي يَعْلَمُهَا أَوْ يَظُنُّهَا الآْنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ، بَل ظَنَّ أَنَّ الصَّوَابَ جِهَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ دَلِيل الاِجْتِهَادِ الثَّانِي عِنْدَهُ أَوْضَحَ مِنَ الأَْوَّل الآْنَ اعْتَمَدَ الثَّانِيَ، وَإِنْ كَانَ الأَْوَّل أَوْضَحَ اعْتَمَدَهُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَقِيل: يُصَلِّي إِلَى الْجِهَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِنْ تَيَقَّنَهُ وَجَبَتِ الإِْعَادَةُ عَلَى الأَْظْهَرِ، سَوَاءٌ تَيَقَّنَ الصَّوَابَ أَيْضًا أَمْ لاَ، وَقِيل: الْقَوْلاَنِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأَ وَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الصَّوَابَ فَلاَ إِعَادَةَ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ بَل ظَنَّهُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِاجْتِهَادَاتٍ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَى الصَّحِيحِ،
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 14 ط الحلبي.

(29/184)


وَعَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ يَجِبُ إِعَادَةُ الأَْرْبَعِ، وَقِيل: يَجِبُ إِعَادَةُ غَيْرِ الأَْخِيرَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَظْهَرَ الصَّوَابُ مُقْتَرِنًا بِظُهُورِ الْخَطَأِ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ مُتَيَقَّنًا فَيَبْنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَيَقُّنِ الْخَطَأِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بَل مَظْنُونًا فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَلاَ إِعَادَةَ كَالصَّلَوَاتِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الدَّلِيل الثَّانِي أَوْضَحَ مِنَ الأَْوَّل، فَإِنِ اسْتَوَيَا تَمَّمَ صَلاَتَهُ إِلَى الْجِهَةِ الأُْولَى وَلاَ إِعَادَةَ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لاَ يَظْهَرَ الصَّوَابُ مَعَ الْخَطَأِ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوَابِ بِالاِجْتِهَادِ عَلَى الْقُرْبِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْقُرْبِ، فَهَل يَنْحَرِفُ وَيَبْنِي أَمْ يَسْتَأْنِفُ؟ فِيهِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الضَّرْبِ الأَْوَّل، وَالأَْوْلَى الاِسْتِئْنَافُ، قَال النَّوَوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى مَحَارِيبِهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ مَحَارِيبُ لَزِمَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 219، 220 ط. المكتب الإسلامي.

(29/185)


السُّؤَال عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِأَدِلَّتِهَا فَفَرْضُهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ إِنْ وَجَدَهُ، وَلاَ يَجْتَهِدُ قِيَاسًا عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا وَجَدَ النَّصَّ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَجَدَهُ يُخْبِرُهُ عَنْ ظَنٍّ فَفَرْضُهُ تَقْلِيدُهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا وَضَاقَ الْوَقْتُ وَإِلاَّ لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَل بِاجْتِهَادِهِ.
وَإِنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ - وَكَانَ عَالِمًا بِأَدَاتِهَا - فَفَرْضُهُ الاِجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَتِهَا لأَِنَّ مَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَجَبَ الاِسْتِدْلاَل عَلَيْهِ عِنْدَ خَفَائِهِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ جِهَةٌ أَنَّهَا الْقِبْلَةُ صَلَّى إِلَيْهَا لِتَعَيُّنِهَا قِبْلَةً لَهُ، إِقَامَةً لِلظَّنِّ مَقَامَ الْيَقِينِ لِتَعَذُّرِهِ، فَإِنْ تَرَكَهَا - أَيِ الْجِهَةَ الَّتِي غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ - وَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا أَعَادَ مَا صَلاَّهُ إِلَى غَيْرِهَا وَإِنْ أَصَابَ لأَِنَّهُ تَرَكَ فَرْضَهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْقِبْلَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ - لِغَيْمٍ وَنَحْوِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَطْمُورًا أَوْ كَانَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الاِجْتِهَادِ كَرَمَدٍ وَنَحْوِهِ أَوْ تَعَادَلَتْ عِنْدَهُ الأَْمَارَاتُ - صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ بِلاَ إِعَادَةٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَال ف 28، وَاشْتِبَاه ف 20) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 307 ط. النصر.

(29/185)


الاِقْتِدَاءُ بِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اقْتَدَى بِإِمَامٍ لاَ يَدْرِي أَمُسَافِرٌ هُوَ أَمْ مُقِيمٌ؟ لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِحَال الإِْمَامِ شَرْطُ الأَْدَاءِ بِجَمَاعَةٍ (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا دَخَل مُصَلٍّ عَلَى قَوْمٍ ظَنَّ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ فَظَهَرَ خِلاَفُهُ، أَعَادَ أَبَدًا إِنْ كَانَ الدَّاخِل مُسَافِرًا، لِمُخَالَفَةِ إِمَامِهِ نِيَّةً وَفِعْلاً إِنْ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ خَالَفَهُ نِيَّةً، وَفَعَل خِلاَفَ مَا دَخَل عَلَيْهِ، وَتَبْطُل صَلاَتُهُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ، لِحُصُول الشَّكِّ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ يُوجِبُ الْبُطْلاَنَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّاخِل مُقِيمًا فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلاَتَهُ، وَلاَ يَضُرُّهُ كَوْنُهُمْ عَلَى خِلاَفِ ظَنِّهِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلإِْمَامِ نِيَّةً وَفِعْلاً كَعَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَظُنَّهُمْ مُقِيمِينَ فَيَنْوِيَ الإِْتْمَامَ فَيَظْهَرَ أَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ قَصَرَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِهِ لِنِيَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ أَتَمَّ فَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصِّحَّةَ كَاقْتِدَاءِ مُقِيمٍ بِمُسَافِرٍ.
وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَمَّا دَخَل عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْمُخَالَفَةُ لَمْ يُغْتَفَرْ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 402 ط. بولاق، حاشية ابن عابدين 1 / 390 ط. المصرية.

(29/186)


الْمُقِيمِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ فَاغْتُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِل مُقِيمًا صَحَّتْ وَلاَ إِعَادَةَ، لأَِنَّهُ مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَنَوَى الْقَصْرَ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَال الْمُسَافِرِ أَنْ يَنْوِيَهُ فَبَانَ مُقِيمًا أَتَمَّ لِتَقْصِيرِهِ فِي ظَنِّهِ إِذْ شِعَارُ الإِْقَامَةِ ظَاهِرٌ، أَوِ اقْتَدَى نَاوِيًا الْقَصْرَ بِمَنْ جَهِل سَفَرَهُ - أَيْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ أَتَمَّ - وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا قَاصِرًا، لِتَقْصِيرِهِ فِي ذَلِكَ، لِظُهُورِ شِعَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالأَْصْل الإِْتْمَامُ، وَقِيل: يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا بَانَ كَمَا ذُكِرَ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مَعَ مَنْ يَظُنُّهُ مُقِيمًا أَوْ شَكَّ فِيهِ لَزِمَهُ الإِْتْمَامُ وَإِنْ قَصَرَ إِمَامُهُ اعْتِبَارًا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ لِدَلِيلٍ فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ وَيَتْبَعَ إِمَامَهُ، فَيَقْصُرَ بِقَصْرِهِ وَيُتِمَّ بِإِتْمَامِهِ، وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامُهُ قَبْل عِلْمِهِ بِحَالِهِ فَلَهُ الْقَصْرُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ (3) .

ظَنُّ الْخَوْفِ الْمُرَخَّصِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
13 - لَوْ رَأَى الْمُسْلِمُونَ سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا
__________
(1) الدسوقي على الشرح 1 / 367 ط. دار الفكر، مواهب الجليل 2 / 152 ط. النجاح.
(2) حاشية القليوبي 1 / 262 - 263 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 2 / 255 ط. المكتبة الإسلامية.
(3) الكافي 1 / 198، 199 ط. المكتب الإسلامي.

(29/186)


فَصَلَّوْا صَلاَةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلاَفُ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ لَيْسَ شَرْطًا فِي أَدَاءِ صَلاَةِ الْخَوْفِ، بَل الشَّرْطُ حُضُورُ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ فَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا صَلَّوْهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ كَمَا ظَنُّوا جَازَتْ لِتَبَيُّنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ خِلاَفُهُ لَمْ تَجُزْ إِلاَّ إِنْ ظَهَرَ بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ مِنْ نَوْبَتِهَا فِي الصَّلاَةِ قَبْل أَنْ تَتَجَاوَزَ الصُّفُوفَ، فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا اسْتِحْسَانًا، كَمَنِ انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ الْحَدَثِ يَتَوَقَّفُ الْفَسَادُ إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ عَلَى مُجَاوَزَةِ الصُّفُوفِ (1) .
وَيَكْفِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ الإِْعَادَةِ مُجَرَّدُ الْخَوْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحَقَّقًا أَمْ مَظْنُونًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ، لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلاَةِ، كَسَوَادٍ ظُنَّ بِرُؤْيَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ أَنَّهُ عَدُوٌّ فَصَلَّوْا صَلاَةَ الْتِحَامٍ أَوْ صَلاَةَ قَسْمٍ ثُمَّ ظَهَرَ خِلاَفُ ذَلِكَ فَلاَ إِعَادَةَ، وَالظَّنُّ الْبَيِّنُ خَطَؤُهُ لاَ عِبْرَةَ بِهِ إِذَا أَدَّى إِلَى تَعْطِيل حُكْمٍ، لاَ إِلَى تَغَيُّرِ كَيْفِيَّةٍ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْمُتَيَمِّمِ الْخَائِفِ مِنْ لِصٍّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ خِلاَفُهُ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ؛ لأَِنَّهُ أَخَل بِشَرْطٍ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 441 ط. الأميرية، تبيين الحقائق 1 / 233 ط. الأميرية.
(2) الخرشي 2 / 97 ط. بولاق الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 394 ط. دار الفكر، جواهر الإكليل 1 / 101 ط. الحلبي.

(29/187)


وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا لِسَوَادٍ ظَنُّوهُ عَدُوًّا فَبَانَ بِخِلاَفِ ظَنِّهِمْ كَإِبِلٍ أَوْ شَجَرٍ قَضَوْا فِي الأَْظْهَرِ، لِتَرْكِهِمْ فُرُوضًا مِنَ الصَّلاَةِ بِظَنِّهِمْ الَّذِي تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، وَالثَّانِي: لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ لِوُجُودِ الْخَوْفِ عِنْدَ الصَّلاَةِ وَقَدْ قَال تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (1) وَسَوَاءٌ فِي جَرَيَانِ الْقَوْلَيْنِ أَكَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، اسْتَنَدَ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ أَمْ لاَ، وَقِيل: إِنْ كَانُوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُمْ إِلَى إِخْبَارٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ قَطْعًا (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّهُ عَدُوًّا فَصَلَّى صَلاَةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ الْعُبُورَ أَعَادَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ، فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ (3) .

ظَنُّ الصَّائِمِ غُرُوبَ الشَّمْسِ أَوْ طُلُوعَ الْفَجْرِ:
14 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ
__________
(1) سورة البقرة / 239.
(2) روضة الطالبين 2 / 63 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 1 / 301 ط. الحلبي.
(3) الكافي 1 / 212 ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 2 / 20 ط. النصر، مطالب أولي النهى 1 / 572 ط. المكتب الإسلامي.

(29/187)


يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُل (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَوْم) .

الظَّنُّ فِي الْمَسْرُوقِ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ:
15 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ ظَنَّ السَّارِقِ فِي تَعْيِينِ نَوْعِ مَا سَرَقَهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْقَطْعِ، فَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا، أَوْ سَرَقَ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَظُنُّهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنَ الْحِرْزِ أَنَّهَا فُلُوسٌ لاَ تُسَاوِي قِيمَتُهَا النِّصَابَ قُطِعَ وَلاَ يُعْذَرُ بِظَنِّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الشَّكُّ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ فِي كَوْنِهِ هَل يَبْلُغُ نِصَابًا أَوْ لاَ لاَ يُوجِبُ الْقَطْعَ (2) .

ظَنُّ الْمُكْرَهِ سُقُوطَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ:
16 - قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلاً عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى طَلَلٍ عَلِمَ الآْمِرُ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، وَظَنَّهُ الْمَأْمُورُ حَجَرًا أَوْ صَيْدًا، أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى سُتْرَةٍ وَرَاءَهَا إِنْسَانٌ وَعَلِمَهُ الآْمِرُ دُونَ الْمَأْمُورِ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الآْمِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ، فَإِنْ آل الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا تَجِبُ كُلُّهَا
__________
(1) فتح القدير 2 / 93 ط. الأميرية، والكافي 1 / 355 ط. المكتب الإسلامي.
(2) جواهر الإكليل 2 / 290 ط. الحلبي، حاشية القليوبي 4 / 186 ط. الحلبي، الكافي 4 / 176 ط. المكتب الإسلامي.

(29/188)


عَلَى الآْمِرِ وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ، نِصْفُهَا (1) .

لاَ أَثَرَ لِلظَّنِّ فِي الأُْمُورِ الثَّابِتَةِ بِيَقِينٍ:
17 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لاَ يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل الَّذِي يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ فَقَال: لاَ يَنْفَتِل أَوْ لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدُ رِيحًا (2) .
وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةً أَوْ حَدَثًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ فَإِنَّهُ يَعْمَل بِيَقِينِهِ.
وَمِنْهَا: مَا لَوْ نَسِيَ صَلاَةً مِنَ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَمْسُ، لاِشْتِغَال ذِمَّتِهِ بِكُلٍّ مِنْهَا يَقِينًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بِالشَّكِّ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ مُسْتَيْقَنٌ، فَإِذَا شَكَّ هَل طَلَّقَ أَمْ لاَ؟ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَهَل طَلَّقَ ثِنْتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً.
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 136 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي وعميرة 4 / 102 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 7 / 246 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية الشرواني 8 / 390 ط. الحلبي.
(2) حديث: عباد بن تميم عن عمه، " أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 237) ومسلم (1 / 276) . واللفظ للبخاري.

(29/188)


وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَفْقُودَ لاَ يُقْسَمُ مَالُهُ وَلاَ تُنْكَحُ زَوْجَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ أَمْثَالُهُ فِيهَا؛ لأَِنَّ بَقَاءَ الْحَيَاةِ مُتَيَقَّنٌ، فَلاَ نَرْفَعُهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ (1) .

أَثَرُ الظَّنِّ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ:
18 - إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، فَبَانَ خَطَؤُهُ: اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الإِْجْزَاءُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ.
وَالآْخَرُ: لاَ يُجْزِئُهُ، وَفِي الاِسْتِرْدَادِ قَوْلاَنِ. يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (خَطَأ ف 11) .

أَثَرُ الظَّنِّ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
19 - لَوْ وَقَفَ الْحَجِيجُ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ، فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خَطَأ ف 42) .
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 135، 136، 137 ط. الأولى، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 53 ط. العلمية، حاشية الحموي على ابن نجيم 1 / 89 العامرة.

(29/189)


ظِهَارٌ

التَّعْرِيفُ
1 - الظِّهَارُ بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الظَّهْرِ؛ لأَِنَّ صُورَتَهُ الأَْصْلِيَّةَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَإِنَّمَا خَصُّوا الظَّهْرَ - دُونَ الْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَغَيْرِهِمَا - لأَِنَّ الظَّهْرَ مِنَ الدَّابَّةِ مَوْضِعُ الرُّكُوبِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ تَشْبِيهُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ، أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا، أَوْ جُزْءًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، كَالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ (2) .
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إِنَّمَا خُصَّ بِاسْمِ الظِّهَارِ تَغْلِيبًا لِلظَّهْرِ، لأَِنَّهُ كَانَ الأَْصْل فِي اسْتِعْمَالِهِمْ.
__________
(1) المصباح المنير، مادة (ظهر) .
(2) مغني المحتاج 3 / 353، وفتح القدير على الهداية 3 / 225، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 439، كشاف القناع 5 / 368.

(29/189)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّلاَقُ:
2 - الطَّلاَقُ لُغَةً: حَل الْقَيْدِ وَالإِْطْلاَقُ، وَشَرْعًا: حَل عُقْدَةِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الطَّلاَقِ، وَنَحْوِهِ (1) .
وَكَانَ الظِّهَارُ طَلاَقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَاءَ الإِْسْلاَمُ بِأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.

ب - الإِْيلاَءُ
3 - الإِْيلاَءُ لُغَةً: الْحَلِفُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَمْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ.
وَشَرْعًا: أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا أَلاَّ يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ (2) .
وَكَانَ الإِْيلاَءُ طَلاَقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ، وَخَصَّهُ بِأَحْكَامٍ غَيْرِ أَحْكَامِ الظِّهَارِ.

مَشْرُوعِيَّةُ أَحْكَامِ الظِّهَارِ:
4 - كَانَ النَّاسُ قَبْل الإِْسْلاَمِ إِذَا غَضِبَ الرَّجُل عَلَى زَوْجَتِهِ لأَِمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ آلَى مِنْهَا، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 279.
(2) مغني المحتاج 3 / 343، والموسوعة الفقهية جـ 7 ص 221.

(29/190)


كَظَهْرِ أُمِّي، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لاَ تَحِل لَهُ بِحَالٍ، وَتَبْقَى كَالْمُعَلَّقَةِ، لاَ هِيَ بِالْمُتَزَوِّجَةِ وَلاَ بِالْمُطَلَّقَةِ.
وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي صَدْرِ الإِْسْلاَمِ حَتَّى غَضِبَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى زَوْجَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا صَنَعَ زَوْجُهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ أَوْسًا تَزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ مَرْغُوبٌ فِي، فَلَمَّا كَبِرَتْ سِنِّي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي جَعَلَنِي عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي مِنْهُ أَوْلاَدًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَاكِ إِلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَجْدِي. فَنَزَل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْل الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

(29/190)


مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الظِّهَارُ مُحَرَّمٌ، وَلاَ يُعْتَبَرُ طَلاَقًا، وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْل وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (2) .
وَلِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْتَكِي فَأَنْزَل اللَّهُ أَوَّل سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ (3) .
__________
(1) سورة المجادلة 1 - 4. وحديث: (غضب أوس بن الصامت على زوجته خولة بنت ثعلبة. .) . أخرجه ابن ماجه (1 / 666) والحاكم (2 / 481) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 220) : وأصله في البخاري.
(2) سورة المجادلة آية 2، ومغني المحتاج 3 / 357، وبدائع الصنائع 3 / 223.
(3) تقدم تخريج الحديث فقرة / 4.

(29/191)


التَّوْقِيتُ وَالتَّأْبِيدُ فِي الظِّهَارِ:
6 - الظِّهَارُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا، مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَلاَ يَذْكُرُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً كَأُسْبُوعٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا، فَإِذَا قَال لَهَا ذَلِكَ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِذَا عَزَمَ عَلَى قُرْبَانِهَا فِيهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ زَال الظِّهَارُ وَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِلاَ كَفَّارَةٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِلاَّ مُؤَبَّدًا، فَإِنْ ذَكَرَ الْوَقْتَ فِيهِ كَانَ ذِكْرُهُ لَغْوًا، فَإِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي هَذَا الشَّهْرَ كَانَ الظِّهَارُ مُؤَبَّدًا، وَلاَ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّهْرِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَعَلَى هَذَا تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَبَعْدَهُ، وَلاَ تَحِل لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثِ: إِنَّ التَّوْقِيتَ فِي الظِّهَارِ لاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارًا (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 235، والمغني لابن قدامة 7 / 349، ومغني المحتاج 3 / 357.
(2) شرح الخرشي على مختصر خليل 3 / 24، وانظر المراجع السابقة.

(29/191)


قَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنَّهُ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الشَّهْرِ فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ (1) ، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ كَانَ الظِّهَارُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُؤَبَّدًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحُكْمَ، وَلأَِنَّ الظِّهَارَ شَبِيهٌ بِالْيَمِينِ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ يَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْيَمِينُ يَصِحُّ فِيهِ التَّأْبِيدُ وَالتَّوْقِيتُ، فَيَكُونُ الظِّهَارُ مِثْلَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ (2) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ الظِّهَارَ يُشْبِهُ الطَّلاَقَ مِنْ نَاحِيَةٍ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، وَالطَّلاَقُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا، وَلَوْ أُقِّتَ بِوَقْتٍ كَانَ التَّوْقِيتُ لَغْوًا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ (3) .
وَاسْتَدَل مَنْ قَال: إِنَّ التَّأْقِيتَ فِي الظِّهَارِ لاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارًا بِأَنَّهُ لَمْ يُؤَبِّدِ التَّحْرِيمَ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ لاَ تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ (4) .
__________
(1) حديث سلمة بن صخر " أنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ. . . " أخرجه أحمد (4 / 37) وأبو داود (2 / 660 - 662) والترمذي (3 / 493) وقال الترمذي: هذا حديث حسن. .
(2) المغني لابن قدامة 7 / 349، وإحكام القرآن لأبي بكر الجصاص 3 / 517.
(3) شرح الخرشي على مختصر خليل 3 / 243.
(4) مغني المحتاج 3 / 357.

(29/192)


أَرْكَانُ الظِّهَارِ:
7 - رُكْنُ الظِّهَارِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - اللَّفْظُ الدَّال عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّعْبِيرُ الْمُشْتَمِل عَلَى تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الزَّوْجِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا كَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَالظِّهَارُ لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِالتَّعْبِيرِ الْمُنْشِئِ لَهُ عِنْدَهُمْ.
وَأَرْكَانُ الظِّهَارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعَةٌ هِيَ.
1 - مُشَبِّهٌ وَهُوَ الزَّوْجُ الْمُظَاهِرُ.
2 - مُشَبَّهٌ وَهُوَ الزَّوْجَةُ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا.
3 - مُشَبَّهٌ بِهِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ.
4 - الصِّيغَةُ (1) .

شُرُوطُ الظِّهَارِ:
يُشْتَرَطُ فِي الظِّهَارِ مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل
8 - أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مُوَجَّهًا إِلَى الزَّوْجَةِ كُلِّهَا أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ التَّشْبِيهُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمَرْأَةِ كُلِّهَا صَحَّ الظِّهَارُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
أَمَّا إِنْ كَانَ التَّشْبِيهُ مُوَجَّهًا إِلَى جُزْءٍ مِنَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 440، روضة الطالبين 8 / 261، كشاف القناع 5 / 369.

(29/192)


الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الشَّائِعَةِ كَالنِّصْفِ وَالرُّبْعِ، أَوْ كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْكُل مَجَازًا فَالظِّهَارُ يَكُونُ صَحِيحًا.
وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُشَبَّهُ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْكُل مَجَازًا مِثْل الْيَدِ وَالرِّجْل وَنَحْوِهِمَا فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يَصِحُّ الظِّهَارُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ الْمُشَبَّهُ جُزْءًا حَقِيقَةً كَالْيَدِ وَالرِّجْل، أَوْ كَانَ جُزْءًا حُكْمًا كَالشَّعْرِ وَالرِّيقِ وَالْكَلاَمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِذَا كَانَ الْجُزْءُ الْمُشَبَّهُ كَالْيَدِ وَالرِّجْل، وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِذَا كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الثَّابِتَةِ كَالدَّمْعِ وَالرِّيقِ وَالْكَلاَمِ (1) .

الشَّرْطُ الثَّانِي:
9 - أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى الزَّوْجِ.
وَالْمَرْأَةُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَى الرَّجُل إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا، وَإِمَّا يَكُونُ مُؤَقَّتًا.
فَإِنْ شَبَّهَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل التَّأْبِيدِ بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الظِّهَارِ، بِأَنْ
__________
(1) البدائع 3 / 233، 234، والمغني لابن قدامة 7 / 342، وشرح الخرشي 3 / 243، 246، ومغني المحتاج 3 / 353.

(29/193)


قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ ظِهَارٌ.
أَمَّا إِذَا شَبَّهَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل التَّأْقِيتِ، كَأُخْتِ الزَّوْجَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ تَشْبِيهَ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل التَّأْقِيتِ لَغْوٌ وَلَيْسَ بِظِهَارٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ كِنَايَةَ ظِهَارٍ، إِنْ نَوَى بِهِ ظِهَارًا وَقَعَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا ذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَوْرَدَهَا ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا (1) .
10 - وَإِذَا شَبَّهَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِعُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنِ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعُضْوُ هُوَ ظَهْرُ الأُْمِّ مِثْل أَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ بِهِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ أَنْ يَقُول: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَفِي حَدِيثِ خَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 233 - 234، وحاشية الدسوقي 2 / 442 - 443، والخرشي 4 / 106، مغني المحتاج 3 / 354، المغني لابن قدامة 7 / 341، وكشاف القناع 5 / 369.

(29/193)


فَأَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ (1) ، وَمِثْل الأُْمِّ فِي هَذَا الْجَدَّةُ؛ لأَِنَّهَا أُمٌّ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ الْمُشَبَّهُ بِهِ " ظَهْرَ " غَيْرِ الأُْمِّ وَالْجَدَّةِ، مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، كَأُخْتِهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ نَسَبًا أَوْ رَضَاعًا، وَزَوْجَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، فَالظِّهَارُ يَكُونُ صَحِيحًا.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْعُضْوُ الْمُشَبَّهُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الظَّهْرُ فَالتَّشَبُّهُ بِهِ يَكُونُ ظِهَارًا إِذَا كَانَ مِنَ الأَْعْضَاءِ الَّتِي يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِثْل الْبَطْنِ وَالْفَخِذِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الأَْعْضَاءِ الَّتِي يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهَا كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ فَلاَ يَكُونُ ظِهَارًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ إِذَا كَانَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ لاَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّشْبِيهِ بِهِ مَعْنَى الظِّهَارِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: التَّشْبِيهُ بِغَيْرِ الظَّهْرِ يَكُونُ ظِهَارًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ جُزْءًا حَقِيقَةً كَالرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْل أَمْ كَانَ جُزْءًا حُكْمًا كَالشَّعْرِ وَالرِّيقِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ، فَلَوْ قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَشَعْرِ أُمِّي أَوْ كَرِيقِهَا كَانَ ظِهَارًا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْجْزَاءَ وَإِنْ كَانَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهَا إِلاَّ أَنَّهَا لاَ يَحِل التَّلَذُّذُ
__________
(1) حديث خولة تقدم تخريجه فـ / 4.
(2) بدائع الصنائع 3 / 231.

(29/194)


أَوْ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا، وَالتَّلَذُّذُ أَوْ الاِسْتِمْتَاعُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ، فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ بِجُزْءٍ مِنْهَا ظِهَارًا، مِثْل التَّشْبِيهِ بِالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شَبَّبَهَا بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الأُْمِّ - غَيْرِ الظَّهْرِ - فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَذْكُرُ فِي مَعْرِضِ الْكَرَامَةِ وَالإِْعْزَازِ، كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالصَّدْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَالشَّعْرِ، فَقَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا - وَهُوَ الْجَدِيدُ - أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ الإِْعْزَازِ وَالإِْكْرَامِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَعَيْنِ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ وَقَعَ ظِهَارًا قَطْعًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ التَّشْبِيهَ بِجُزْءٍ غَيْرِ الظَّهْرِ يَكُونُ ظِهَارًا مَتَى كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ الثَّابِتَةِ كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالرَّأْسِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مِنَ الأَْجْزَاءِ غَيْرِ الثَّابِتَةِ كَالرِّيقِ وَالْعَرَقِ وَالدَّمْعِ وَالْكَلاَمِ أَوْ كَالشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالظُّفُرِ فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الأَْعْضَاءِ الثَّابِتَةِ، وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَكَذَلِكَ الظِّهَارَ (3) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 90، والخرشي 4 / 103، روضة الطالبين 8 / 263، ومغني المحتاج 3 / 353.
(2) روضة الطالبين 8 / 263.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 346.

(29/194)


الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
11 - أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مُشْتَمِلاً عَلَى مَعْنَى التَّحْرِيمِ.
فَإِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي مَثَلاً، يَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ إِتْيَانِ زَوْجَتِهِ كَتَحْرِيمِ إِتْيَانِ أُمِّهِ، أَوْ تَحْرِيمَ التَّلَذُّذِ وَالاِسْتِمْتَاعِ بِهَا كَتَحْرِيمِ التَّلَذُّذِ بِالأُْمِّ وَالاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ ظِهَارًا.
وَإِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ لاَ يَشْتَمِل عَلَى التَّحْرِيمِ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ زَوْجَتَانِ، فَشَبَّهَ إِحْدَاهُمَا بِظَهْرِ الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَتَيْنِ يَحِل لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا، فَلاَ يَكُونُ تَشْبِيهُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالأُْخْرَى مُتَضَمِّنًا لِلتَّحْرِيمِ حَتَّى يَكُونَ ظِهَارًا. وَكَذَا إِذَا قَالَتِ الزَّوْجَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ: أَنَا عَلَيْكَ كَظَهْرِ أُمِّكَ فَهُوَ لَغْوٌ، لأَِنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ إِلَيْهَا.

12 - وَإِنْ شَبَّهَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ مِنْ غَيْرِ النِّسَاءِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْخَمْرِ أَوِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، فَإِنْ قَال: قَصَدْتُ الطَّلاَقَ كَانَ طَلاَقًا بَائِنًا، وَإِنْ قَال: قَصَدْتُ التَّحْرِيمَ أَوْ: لَمْ أَقْصِدْ شَيْئًا أَصْلاً كَانَ إِيلاَءً (1) .
__________
(1) البدائع 3 / 170، 232، وفتح القدير على الهداية 3 / 225، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 887، 888.

(29/195)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَكُل شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْكِتَابُ تَطْلُقُ عَلَيْهِ طَلاَقًا بَائِنًا وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ نَافِعٍ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قَال رَبِيعَةُ: مَنْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْل كُل شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْكِتَابُ، فَهُوَ مُظَاهِرٌ، وَعِنْدَهُمْ يَلْزَمُ الظِّهَارُ بِأَيِّ كَلاَمٍ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ، نَحْوُ: كُلِي، أَوِ اشْرَبِي، أَوِ اسْقِنِي، أَوِ اخْرُجِي (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ: كَأَنْ يَقُول: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ، أَوِ الدَّمِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ ظِهَارٌ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّهُ تَشْبِيهٌ بِمَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلاِسْتِمَاعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال: أَنْتِ عَلَيَّ كَمَال زَيْدٍ، وَهَل فِيهِ كَفَّارَةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِيهِ كَفَّارَةٌ، لأَِنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ مَالُهُ، وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ: إِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ كَانَ طَلاَقًا، وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ نَوَى يَمِينًا كَانَ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 168، المدونة 3 / 50 - 51.

(29/195)


شَيْئًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: هُوَ ظِهَارٌ، وَالأُْخْرَى: هُوَ يَمِينٌ (1) .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
13 - أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الظِّهَارِ دَالَّةً عَلَى إِرَادَتِهِ:
الظِّهَارُ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ هُوَ مَا يَكُونُ بِصِيغَةٍ تَدُل عَلَى إِرَادَةِ وُقُوعِهِ.
وَالصِّيغَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَرِيحَةً أَوْ كِنَايَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا أَوْ إِضَافَةً.
فَصَرِيحُ الظِّهَارِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا دَل عَلَى الظِّهَارِ دَلاَلَةً وَاضِحَةً وَلاَ يَحْتَمِل شَيْئًا آخَرَ سِوَاهُ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَالظِّهَارُ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ بِوُضُوحٍ، بِحَيْثُ يَسْبِقُ إِلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ بِدُونِ احْتِيَاجٍ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ دَلاَلَةِ حَالٍ.
وَحُكْمُ الصَّرِيحِ وُقُوعُ الظِّهَارِ بِهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَصْدِ وَالإِْرَادَةِ، فَلَوْ قَال الرَّجُل هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَلَمْ يَقْصِدِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَلَوْ قَال: إِنَّهُ نَوَى بِهِ غَيْرَ الظِّهَارِ لاَ يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً؛ لأَِنَّهُ إِذَا نَوَى غَيْرَ الظِّهَارِ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَلاَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، فَإِذَا ادَّعَى إِرَادَةَ غَيْرِ الظِّهَارِ لاَ يَسْمَعُ الْقَاضِي دَعْوَاهُ؛ لأَِنَّهَا خِلاَفُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 341 - 342، 7 / 341 - 342.

(29/196)


الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ يُصَدَّقُ دِيَانَةً أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلاَمُهُ (1) .
وَالْكِنَايَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مَا يَحْتَمِل الظِّهَارَ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَغْلِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الظِّهَارِ عُرْفًا، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ: مِثْل أُمِّي، فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الظِّهَارِ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهَا مِثْل أُمِّهِ فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَيَحْتَمِل أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنْ قَصَدَ أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ فَلاَ يَكُونُ ظِهَارًا وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ كَانَ طَلاَقًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِل كُل هَذِهِ الأُْمُورِ، فَأَيُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَرَادَهُ كَانَ صَحِيحًا وَحُمِل اللَّفْظُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَال: لَمْ أَقْصِدْ شَيْئًا لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، لأَِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَل فِي التَّحْرِيمِ وَغَيْرِهِ فَلاَ يَنْصَرِفُ إِلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ (2) .
14 - وَالظِّهَارُ تَارَةً يَكُونُ خَالِيًا مِنَ الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَمِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَتَارَةً يَكُونُ مُشْتَمِلاً عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل أَوِ الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِذَا خَلاَ التَّعْبِيرُ
__________
(1) البدائع 3 / 231، الشرح الصغير 2 / 637، روضة الطالبين 8 / 262.
(2) البدائع 3 / 231، وبداية المجتهد 2 / 90، والمغني لابن قدامة 7 / 342، والخرشي 4 / 107 ط. بيروت.

(29/196)


عَنِ التَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ كَانَ الظِّهَارُ مُنَجَّزًا، وَإِنِ اشْتَمَل عَلَى الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَانَ مُضَافًا، وَإِنِ اشْتَمَل عَلَى التَّعْلِيقِ كَانَ مُعَلَّقًا.
فَالظِّهَارُ الْمُنَجَّزُ هُوَ: مَا خَلَتْ صِيغَةُ إِنْشَائِهِ عَنِ الإِْضَافَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ وَعَنِ التَّعْلِيقِ عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَهَذَا يُعْتَبَرُ ظِهَارًا فِي الْحَال، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ بِمُجَرَّدِ صُدُورِهِ بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُصُول شَيْءٍ آخَرَ.
وَالظِّهَارُ الْمُعَلَّقُ هُوَ: مَا رَتَّبَ حُصُولَهُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ الْمَعْرُوفَةِ مِثْل " إِنْ " " وَإِذَا " " وَلَوْ " " وَمَتَى " وَنَحْوِهَا.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الظِّهَارِ الْمُعَلَّقِ: أَنْ يَقُول الرَّجُل: لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ سَافَرْتِ إِلَى بَلَدِ أَهْلِكِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الرَّجُل ظِهَارًا قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ التَّعْلِيقَ يَجْعَل وُجُودَ التَّصَرُّفِ الْمُعَلَّقِ مُرْتَبِطًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَفِي الْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ لاَ يَكُونُ الرَّجُل مُظَاهِرًا قَبْل أَنْ تُسَافِرَ زَوْجَتُهُ إِلَى بَلَدِ أَهْلِهَا، فَإِذَا سَافَرَتْ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ صَارَ مُظَاهِرًا، وَلَزِمَهُ حُكْمُ الظِّهَارِ.

(29/197)


وَإِذَا عَلَّقَ الظِّهَارَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَطَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ مُكَفِّرَةٌ، فَصَحَّ فِيهَا الاِسْتِثْنَاءُ.
وَإِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ فُلاَنٍ، أَوْ بِمَشِيئَتِهَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ الظِّهَارِ إِذَا عُلِّقَ عَلَى مَشِيئَةِ فُلاَنٍ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ قَوْلِهِمْ (1) .

15 - وَالظِّهَارُ الْمُضَافُ هُوَ: مَا كَانَتْ صِيغَةُ إِنْشَائِهِ مَقْرُونَةً بِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ يَقْصِدُ الزَّوْجُ تَحْرِيمَ زَوْجَتِهِ عِنْدَ حُلُولِهِ، وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بَعْدَ الشَّهْرِ الْقَادِمِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ مَا صَدَرَ عَنِ الزَّوْجِ ظِهَارًا مِنْ وَقْتِ صُدُورِهِ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ الظِّهَارُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الإِْضَافَةَ لاَ تَمْنَعُ انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ سَبَبًا لِحُكْمِهِ، وَلَكِنَّهَا تُؤَخِّرُ حُكْمَهُ، إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، فَفِي قَوْل الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بَعْدَ الشَّهْرِ الْقَادِمِ يُعْتَبَرُ مُظَاهِرًا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي صَدَرَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَلِهَذَا
__________
(1) درر الأحكام 1 / 393، كشاف القناع 5 / 373، حاشية الدسوقي 2 / 391.

(29/197)


لَوْ كَانَ الرَّجُل قَدْ حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى: أَلاَّ يُظَاهِرَ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَقَال لَهَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ السَّابِقَةَ حُكِمَ بِحِنْثِهِ فِي الْيَمِينِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ الْمُضَافَةِ، وَلَكِنْ لاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُعَاشَرَةُ زَوْجَتِهِ إِلاَّ عِنْدَ حُلُول الزَّمَنِ الَّذِي أَضَافَ الظِّهَارَ إِلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الظِّهَارَ مِثْل الطَّلاَقِ فِي تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَالطَّلاَقُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا وَمُعَلَّقًا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الظِّهَارَ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حُصُول أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَكَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُحَقَّقَ الْحُصُول أَوْ غَالِبُ الْحُصُول فِي الْمُسْتَقْبَل، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَجَّزًا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي الْحَال، فَإِذَا قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بَعْدَ سَنَةٍ، أَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ، كَانَ مُظَاهِرًا فِي الْحَال، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ الصِّيغَةِ، لأَِنَّ الظِّهَارَ كَالطَّلاَقِ كِلاَهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، وَالطَّلاَقُ الْمُضَافُ أَوِ الْمُعَلَّقُ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَل، أَوْ غَالِبِ الْوُقُوعِ فِيهِ،
__________
(1) البدائع 3 / 232، المغني لابن قدامة 7 / 350، ومغني المحتاج 3 / 354، وروضة الطالبين 8 / 265.

(29/198)


يَكُونُ مُنَجَّزًا، فَكَذَلِكَ الظِّهَارُ (1) .

الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
16 - أَنْ يَكُونَ الْمُظَاهِرُ قَاصِدًا الظِّهَارَ. وَيَتَحَقَّقُ هَذَا الشَّرْطُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ النُّطْقَ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِذَا كَانَ مَعَ هَذِهِ الإِْرَادَةِ رَغْبَةٌ فِي الظِّهَارِ كَانَ الظِّهَارُ صَادِرًا عَنْ رِضًا صَحِيحٍ، وَإِنْ وُجِدَتِ الإِْرَادَةُ وَحْدَهَا، وَانْتَفَتِ الرَّغْبَةُ فِي الظِّهَارِ لَمْ يَتَحَقَّقِ الرِّضَا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُكْرَهًا عَلَى الظِّهَارِ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْل أَوِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوِ الْحَبْسِ الْمَدِيدِ، فَيَصْدُرُ الظِّهَارُ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَا هُدِّدَ بِهِ لَوِ امْتَنَعَ، فَإِنَّ صُدُورَ الصِّيغَةِ مِنَ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَنْ رِضًا صَحِيحٍ.
وَالظِّهَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - حَالَةِ الإِْكْرَاهِ - يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ، لأَِنَّ الظِّهَارَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الإِْكْرَاهِ كَالطَّلاَقِ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقِيَاسِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهَازِل، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصْدُرُ عَنْهُ صِيغَةُ التَّصَرُّفِ عَنْ قَصْدٍ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 440 وشرح الخرشي مع حاشية العدوي 3 / 243.
(2) البدائع 3 / 231.

(29/198)


وَاخْتِيَارٍ، لَكِنَّهُ لاَ يُرِيدُ الْحُكْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَظِهَارُ الْهَازِل مُعْتَبَرٌ كَطَلاَقِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ (1) فَيَكُونُ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ مُعْتَبَرًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْهَازِل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: (2) لاَ يَصِحُّ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) .
17 - وَإِذَا صَدَرَتْ صِيغَةُ الظِّهَارِ مِنَ الزَّوْجِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ مُوجِبَهَا، بَل أَرَادَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ - وَهَذَا هُوَ الْهَازِل - فَإِنَّ الظِّهَارَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (4) .
__________
(1) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 6 / 249. وحديث: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد. . ". أخرجه أبو داود (2 / 643 - 644) والترمذي (3 / 481) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) شرح الخرشي 4 / 102، الدسوقي 2 / 439، ومغني المحتاج 3 / 352، والمغني لابن قدامة 7 / 339.
(3) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(4) البدائع 3 / 231، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 366، ومغني المحتاج 3 / 288، والمغني لابن قدامة 6 / 535.

(29/199)


وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ (1) وَالظِّهَارُ كَالطَّلاَقِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَلأَِنَّ الْهَازِل يَصْدُرُ عَنْهُ السَّبَبُ - وَهُوَ الصِّيغَةُ - وَهُوَ قَاصِدٌ مُخْتَارٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُرِيدُ الْحُكْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَتَرْتِيبُ الأَْحْكَامِ عَلَى أَسْبَابِهَا مَوْكُولٌ إِلَى الشَّارِعِ لاَ إِلَى الْعَاقِدِ.

18 - وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الظِّهَارِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ الظِّهَارُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَصْلاً - وَهَذَا هُوَ الْمُخْطِئُ - فَلاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارًا دِيَانَةً، وَيُعْتَبَرُ ظِهَارًا قَضَاءً، وَمَعْنَى اعْتِبَارِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الدِّيَانَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالظِّهَارِ إِلاَّ الزَّوْجُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي مُعَاشَرَةِ زَوْجَتِهِ بِدُونِ حَرَجٍ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا سَأَل فَقِيهًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِأَلاَّ شَيْءَ عَلَيْهِ، مَتَى عَلِمَ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُول، فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ، وَرُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْقَاضِي حَكَمَ بِتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُل حَتَّى يُكَفِّرَ، لأَِنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَلَوْ قَبِل فِي الْقَضَاءِ دَعْوَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ لاَنْفَتَحَ الْبَابُ أَمَامَ
__________
(1) حديث: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد. . ". تقدم تخريجه فـ 16.

(29/199)


الْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَقْصِدُونَ النُّطْقَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ، ثُمَّ يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَانَ سَبْقَ لِسَانٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي الطَّلاَقِ - إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْصِدِ النُّطْقَ بِصِيغَةِ الظِّهَارِ، بَل قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَزَل لِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الظِّهَارِ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا فِي الْقَضَاءِ، كَمَا لاَ يَكُونُ ظِهَارًا فِي الدِّيَانَةِ وَالْفَتْوَى (2) .
وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الإِْكْرَاهِ وَالْهَزْل وَالْخَطَأِ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي الإِْكْرَاهِ تَكُونُ الْعِبَارَةُ صَادِرَةً عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَلَكِنَّهُ اخْتِيَارٌ غَيْرُ سَلِيمٍ لِوُجُودِ الإِْكْرَاهِ، وَهُوَ يُؤَثِّرُ فِي الإِْرَادَةِ وَيَجْعَلُهَا لاَ تَخْتَارُ مَا تَرْغَبُ فِيهِ وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ، بَل تَخْتَارُ مَا يَدْفَعُ الأَْذَى وَالضَّرَرَ.
وَفِي الْهَزْل تَكُونُ الْعِبَارَةُ مَقْصُودَةً، لأَِنَّهَا تَصْدُرُ بِرِضَا الزَّوْجِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنَّ حُكْمَهَا لاَ يَكُونُ مَقْصُودًا؛ لأَِنَّ الزَّوْجَ لاَ يُرِيدُ هَذَا الْحُكْمَ، بَل يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ.
وَفِي الْخَطَأِ لاَ تَكُونُ الْعِبَارَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 330، / 457، والدر وحاشية ابن عابدين 2 / 656 - 657.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 366، وشرح الخرشي 3 / 172، 173، ومغني المحتاج 3 / 287.

(29/200)


الزَّوْجُ مَقْصُودَةً أَصْلاً، بَل الْمَقْصُودُ عِبَارَةٌ أُخْرَى وَصَدَرَتْ هَذِهِ بَدَلاً عَنْهَا.

الشَّرْطُ السَّادِسُ
19 - قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا. قِيَامُ الزَّوَاجِ حَقِيقَةً يَتَحَقَّقُ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَعَدَمِ حُصُول الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الدُّخُول، فَإِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً زَوَاجًا صَحِيحًا، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا كَانَ الظِّهَارُ صَحِيحًا، دَخَل بِهَا قَبْل الظِّهَارِ أَوْ لَمْ يَدْخُل، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الدُّخُول: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (1) فَإِنَّهُ يَدُل دَلاَلَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الظِّهَارِ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل، وَالْمَرْأَةُ تُعْتَبَرُ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل.
وَقِيَامُ الزَّوَاجِ حُكْمًا يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا كَانَ الزَّوَاجُ بَعْدَهُ قَائِمًا طِوَال مُدَّةِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ لاَ يُزِيل رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالْمُطَلَّقَةُ
__________
(1) سورة المجادلة / 3.

(29/200)


طَلاَقًا رَجْعِيًّا تَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ، كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَال الرَّجُل لاِمْرَأَةٍ لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَلاَ مُعْتَدَّةً لَهُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لاَ يَكُونُ ظِهَارًا، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَل لَهُ وَطْؤُهَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) . وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الظِّهَارَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل، وَالأَْجْنَبِيَّةُ أَوِ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ غَيْرِ رَجْعِيٍّ لاَ تُعْتَبَرُ مِنْ نِسَائِهِ، فَلاَ يَكُونُ الظِّهَارُ مِنْهَا صَحِيحًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَال الرَّجُل لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا لاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَأْتِيَ بِالْكَفَّارَةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الظِّهَارَ يَمِينٌ تَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ، فَصَحَّ انْعِقَادُهُ قَبْل النِّكَاحِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى (2) .

20 - وَإِذَا عَلَّقَ الظِّهَارَ مِنَ الأَْجْنَبِيَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا، مِثْل أَنْ يَقُول رَجُلٌ لاِمْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ تَزَوَّجْتُكِ، فَقَدِ
__________
(1) البدائع 3 / 232، وشرح الخرشي على المختصر لخليل 3 / 244، ومغني المحتاج 3 / 353.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 354.

(29/201)


اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِهِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ (1) وَالْمَالِكِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) : إِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الَّتِي عَلَّقَ الظِّهَارَ مِنْهَا عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا كَانَ مُظَاهِرًا، فَلاَ تَحِل لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَال فِي رَجُلٍ قَال: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةَ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَتَزَوَّجَهَا، قَال: " عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ (4) وَلأَِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ زَوْجَةٌ، فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ كَمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ (5) : الظِّهَارُ الْمُعَلَّقُ عَلَى الزَّوَاجِ لاَ يَنْعَقِدُ، وَتَأْسِيسًا عَلَى هَذَا: لَوْ تَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ الَّتِي عَلَّقَ الظِّهَارَ مِنْهَا عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا لاَ يَكُونُ مُظَاهِرًا، فَيَحِل لَهُ قُرْبَانُهَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ:
أَوَّلاً - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا جَعَل الظِّهَارَ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي يُعَلِّقُ الظِّهَارَ مِنْهَا عَلَى الزَّوَاجِ بِهَا لاَ تُعْتَبَرُ مِنْ نِسَاءِ الرَّجُل عِنْدَ إِنْشَاءِ الظِّهَارِ، فَلاَ يَكُونُ الظِّهَارُ مِنْهَا صَحِيحًا.
__________
(1) البدائع 3 / 232، والفتاوى الهندية 1 / 458.
(2) الشرح الكبير 2 / 444 - 445.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 354 - 355.
(4) المصدر المتقدم.
(5) مغني المحتاج 3 / 353.

(29/201)


ثَانِيًا - قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَلاَقَ قَبْل نِكَاحٍ وَلاَ عِتْقَ قَبْل مِلْكٍ (1) م فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى بُطْلاَنِ الطَّلاَقِ قَبْل الزَّوَاجِ عَلَى سَبِيل الْعُمُومِ، فَيَشْمَل كُل طَلاَقٍ قَبْل الزَّوَاجِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا، وَالظِّهَارُ مِثْل الطَّلاَقِ كِلاَهُمَا يُفِيدُ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، فَلاَ يَصِحُّ قَبْل الزَّوَاجِ مُنَجَّزًا كَانَ أَوْ مُعَلَّقًا، اعْتِبَارًا بِالطَّلاَقِ.

الشَّرْطُ السَّابِعُ:
21 - التَّكْلِيفُ:
يُشْتَرَطُ فِي الرَّجُل لِكَيْ يَكُونَ ظِهَارُهُ صَحِيحًا أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِأُمُورٍ:
أ - الْبُلُوغُ: فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الصَّبِيِّ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا؛ لأَِنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ التَّحْرِيمُ، وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ مَرْفُوعٌ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِل (2) .
__________
(1) حديث: " لا طلاق قبل نكاح. . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 660) من حديث المسور بن مخرمة وحسَّن إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 211) .
(2) أخرجه أبو داود (4 / 558 - 559) والحاكم (2 / 59) من حديث ابن عباس وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(29/202)


وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الظِّهَارِ تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ، فَهُوَ كَالطَّلاَقِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَطَلاَقُ الصَّبِيِّ لاَ يُعْتَبَرُ، فَكَذَلِكَ ظِهَارُهُ لاَ يُعْتَبَرُ (1) .
ب - الْعَقْل: فَلاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمَجْنُونِ حَال جُنُونِهِ، وَلاَ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل؛ لأَِنَّ الْعَقْل أَدَاةُ التَّفْكِيرِ وَمَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْعَاقِل.
وَمِثْل الْمَجْنُونِ فِي الْحُكْمِ: الْمَعْتُوهُ وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمَدْهُوشُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ.
وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظِهَارَهُ لاَ يُعْتَبَرُ إِنْ كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلضَّرُورَةِ أَوْ تَحْتَ ضَغْطِ الإِْكْرَاهِ، لأَِنَّ السَّكْرَانَ لاَ وَعْيَ عِنْدَهُ، وَلاَ إِدْرَاكَ فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ أَوْ كَالنَّائِمِ، فَكَمَا لاَ يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ فَكَذَلِكَ لاَ يُعْتَبَرُ الظِّهَارُ الصَّادِرُ مِنَ السَّكْرَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ سُكْرُهُ مِنْ طَرِيقٍ مُحَرَّمٍ، بِأَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ حَتَّى سَكِرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ ظِهَارِهِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي اعْتِبَارِ طَلاَقِهِ، فَمَنْ قَال مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ طَلاَقِهِ قَال
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 338، والبدائع 3 / 230، ومغني المحتاج 3 / 352، والشرح الكبير 2 / 439.

(29/202)


بِاعْتِبَارِ ظِهَارِهِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) .
وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا تَنَاوَل الْمُحَرَّمَ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي زَوَال عَقْلِهِ، فَيُجْعَل عَقْلُهُ مَوْجُودًا حُكْمًا عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَمَنْ قَال مِنَ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ طَلاَقِ السَّكْرَانِ قَال لاَ يُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ، وَهُمْ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، (2) وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ تَعْتَمِدُ عَلَى الْقَصْدِ وَالإِْرَادَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالسَّكْرَانُ قَدْ غَلَبَ السُّكْرُ عَلَى عَقْلِهِ فَلاَ يَكُونُ عِنْدَهُ قَصْدٌ وَلاَ إِرَادَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلاَ يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُ، كَمَا لاَ يُعْتَدُّ بِالْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
ج - الإِْسْلاَمُ: فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مُسْلِمٍ لاَ يَصِحُّ ظِهَارُهُ سَوَاءٌ كَانَ كِتَابِيًّا أَمْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 3 / 40، والبدائع 3 / 230، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 439، ومغني المحتاج 3 / 353، والمغني لابن قدامة 7 / 114، 238.
(2) الهداية مع فتح القدير 3 / 40، والبدائع 3 / 99، والمغني لابن قدامة 7 / 114، 115. (3) البدائع 3 / 230، والشرح الكبير 2 / 439.
(3) البدائع 3 / 230، والشرح الكبير 2 / 439.

(29/203)


إِسْلاَمُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الظِّهَارِ، فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ (1) .
وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَإِنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَدُل عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَالأَْزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الآْيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الآْيَةِ وَهِيَ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (2) لاَ يُرَادُ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ بَل الْمُرَادُ بِهِمُ الأَْزْوَاجُ الْمَذْكُورُونَ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ حُكْمِ الظِّهَارِ الْمَذْكُورِ فِي الآْيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ الظِّهَارُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لاَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الظِّهَارَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ تَحْرِيمًا يَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنْهُ (3) .
وَحُجَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (4) فَإِنَّهُ عَامٌّ، فَيَشْمَل الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِينَ،
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 352، والمغني لابن قدامة 7 / 338، 339، والإنصاف 9 / 198.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) البدائع 3 / 230.
(4) سورة المجادلة / 3.

(29/203)


وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الآْيَةِ السَّابِقَةِ لاَ يَدُل عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الأَْصْل فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ تَابِعٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَدُل عَلَيْهِ، وَلاَ يُوجَدُ هَذَا الدَّلِيل هُنَا.
وَالْكَافِرُ يَصِحُّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالإِْطْعَامُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ الصِّيَامُ، وَامْتِنَاعُ صِحَّةِ بَعْضِ الأَْنْوَاعِ مِنَ الْكَافِرِ لاَ يَجْعَلُهُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلظِّهَارِ، قِيَاسًا عَلَى الرَّقِيقِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِلظِّهَارِ مَعَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُ الإِْعْتَاقُ (1) .

أَثَرُ الظِّهَارِ:
إِذَا تَحَقَّقَ الظِّهَارُ وَتَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الآْثَارُ الآْتِيَةُ: -
22 - أ - حُرْمَةُ الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَبْل التَّكْفِيرِ عَنِ الظِّهَارِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَشْمَل حُرْمَةَ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ مِنْ تَقْبِيلٍ أَوْ لَمْسٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ.
أَمَّا حُرْمَةُ الْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ فَلاَ خِلاَفَ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لاِتِّفَاقِهِمْ، عَلَى إِرَادَةِ الْوَطْءِ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 387، 239 وكشاف القناع 5 / 372، وروضة الطالبين 8 / 261.

(29/204)


مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (1) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ، فَسَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلاَ تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ (2)
أَمَرَهُ بِالاِسْتِغْفَارِ مِنَ الْوِقَاعِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الذَّنْبِ، فَدَل هَذَا عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْوِقَاعِ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَدُل عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَيَكُونُ دَلِيلاً عَلَى حُرْمَةِ الْوِقَاعِ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا قَبْل ذَلِكَ (3) .
وَأَمَّا حُرْمَةُ دَوَاعِي الْوَطْءِ فَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، (4) وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} فَإِنَّهُ أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِالْكَفَّارَةِ قَبْل " التَّمَاسِّ " وَالتَّمَاسُّ
__________
(1) سورة المجادلة / 3.
(2) حديث: " أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر. . ". أخرجه أبو داود (2 / 666) والترمذي (3 / 494) من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح، وذكر الزيلعي في نصب الراية (3 / 246 - 247) طرق الحديث، ثم قال: ولم أجد ذكر الاستغفار في شيء من طرق الحديث.
(3) البدائع 3 / 234، والمغني لابن قدامة 7 / 347، والشرح الكبير 2 / 445، ومغني المحتاج 3 / 357، وحاشية ابن عابدين 2 / 591.
(4) البدائع 2 / 234، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 445، والمغني لابن قدامة 7 / 348.

(29/204)


يَصْدُقُ عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْوَطْءُ قَبْل التَّكْفِيرِ حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، فَالْمَسُّ بِالْيَدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَكُونُ حَرَامًا مِثْلَهُ، وَلأَِنَّ الْمَسَّ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَدْعُو إِلَى الْوَطْءِ، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَانَتِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ حَرَامًا أَيْضًا، بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: " مَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ ".
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) إِلَى إِبَاحَةِ الدَّوَاعِي فِي الْوَطْءِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَسِّ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} الْجِمَاعُ: وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (2) فَلاَ يَحْرُمُ مَا عَدَاهُ مِنَ التَّقْبِيل وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلأَِنَّ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ يُشْبِهُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ بِالْحَيْضِ، مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطْءٌ مُحَرَّمٌ وَلاَ يُخِل بِالنِّكَاحِ، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالظِّهَارِ لاَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ (3) .
وَلَوْ وَطِئَ الْمُظَاهِرُ الْمَرْأَةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْل التَّكْفِيرِ أَوِ اسْتَمْتَعَ بِهَا بِغَيْرِ الْوَطْءِ عَصَى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 357، والمغني لابن قدامة 7 / 348.
(2) سورة البقرة / 237.
(3) مغني المحتاج 3 / 357.

(29/205)


رَبَّهُ، لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ الْوَارِدِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} وَلاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَبْقَى زَوْجَتُهُ حَرَامًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ حَتَّى يُكَفِّرَ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) ، وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَاهَرْتُ مِنْ زَوْجَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْل أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَال: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَال: رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، قَال: فَلاَ تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَل مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ (2) .
فَالْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلاَلَةِ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِذَا وَطِئَ قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْوَطْءِ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَأَنَّ زَوْجَتَهُ تَبْقَى حَرَامًا كَمَا كَانَتْ حَتَّى يُكَفِّرَ.

23 - ب - إِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِالْوَطْءِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنَ الْوَطْءِ حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 456، والهداية مع فتح القدير 3 / 227، وحاشية الدسوقي 2 / 447، والمغني لابن قدامة 7 / 383.
(2) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 6 / 276، 277. وحديث ابن عباس: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته. .) . أخرجه الترمذي (3 / 494) وقال: حديث حسن غريب صحيح.

(29/205)


يَأْمُرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِل التَّأْدِيبِ حَتَّى يُكَفِّرَ أَوْ يُطَلِّقَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ أَضَرَّ بِزَوْجَتِهِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ، حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الزَّوَاجِ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا، وَالزَّوْجُ فِي وُسْعِهِ إِيفَاءُ حَقِّ الزَّوْجَةِ بِإِزَالَةِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِذَلِكَ شَرْعًا، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْقِيَامِ بِذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ أَوِ الطَّلاَقِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْمُظَاهِرُ عَنِ الْكَفَّارَةِ كَانَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الطَّلاَقَ، لِتَضَرُّرِهَا مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالطَّلاَقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي الْحَال، وَكَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، فَإِنْ قَدَرَ الزَّوْجُ عَلَى الْكَفَّارَةِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَفَّرَ وَرَاجَعَهَا.
وَإِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ قَادِرًا عَلَى الْكَفَّارَةِ وَامْتَنَعَ عَنِ التَّكْفِيرِ، فَلِلزَّوْجَةِ طَلَبُ الطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَبَتِ الطَّلاَقَ مِنَ الْقَاضِي لاَ يُطَلِّقُهَا إِلاَّ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ كَمَا فِي الإِْيلاَءِ، فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ الأَْشْهُرِ أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ
__________
(1) البدائع 3 / 234 وفتح القدير 3 / 225، والفتاوى الهندية 1 / 456، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 891.

(29/206)


بِالطَّلاَقِ أَوِ التَّكْفِيرِ، فَإِنِ امْتَنَعَ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَكَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا.
وَتَأْجِيل الطَّلاَقِ إِلَى مُضِيِّ أَرْبَعَةِ الأَْشْهُرِ لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الأَْرْبَعَةِ، فَفِي قَوْلٍ تَبْدَأُ مِنْ يَوْمِ الظِّهَارِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيُّ فِي اخْتِصَارِهِ لِلأَْقْوَال بِالْمُدَوَّنَةِ، وَفِي قَوْلٍ تَبْدَأُ مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ وَهُوَ لِمَالِكٍ أَيْضًا وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ تَبَيُّنِ الضَّرَرِ، وَهُوَ يَوْمُ الاِمْتِنَاعِ مِنَ التَّكْفِيرِ وَعَلَيْهِ تُؤُوِّلَتِ الْمُدَوَّنَةُ (1) .

24 - ج - وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُظَاهِرِ قَبْل وَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَدَوَاعِي الْوَطْءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُظَاهِرِينَ بِالْكَفَّارَةِ إِذَا عَزَمُوا عَلَى مُعَاشَرَةِ زَوْجَاتِهِمُ اللاَّتِي ظَاهَرُوا مِنْهُنَّ فِي قَوْلِهِ جَل شَأْنُهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) وَالأَْمْرُ يَدُل عَلَى وُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلأَِنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُظَاهِرِ حَتَّى يُغَطِّيَ ثَوَابُهَا وِزْرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.
__________
(1) شرح الخرشي مع حاشية العدوي 3 / 235، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 433.
(2) سورة المجادلة / 3.

(29/206)


وَالْكَلاَمُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يَتَنَاوَل الأُْمُورَ الآْتِيَةَ:

الأَْمْرُ الأَْوَّل - سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ:
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: سَبَبُ وُجُوبِهَا الظِّهَارُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ، وَالْعَوْدُ شَرْطٌ لِتَقْرِيرِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، (1) وَوَجْهٌ أَنَّ السَّبَبَ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهِ، وَالْكَفَّارَةُ تُكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الظِّهَارِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى وَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالْعَوْدِ وَقَبْل التَّمَاسِّ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ التَّمَاسِّ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلأَِنَّ الزَّوْجَ قَصَدَ تَحْرِيمَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 225، كشاف القناع 5 / 374.

(29/207)


الزَّوْجَةِ بِالظِّهَارِ، فَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الأَْوْجُهِ، رَجَّحَهُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ مَعًا، وَوَجْهُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَمْرَيْنِ: ظِهَارٍ وَعَوْدٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَلاَ تَثْبُتُ الْكَفَّارَةُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ (1) .

الأَْمْرُ الثَّانِي - اسْتِقْرَارُ الْكَفَّارَةِ فِي الذِّمَّةِ:
26 - كَفَّارَةُ الظِّهَارِ تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُظَاهِرِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا فَإِنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّيَهَا سَقَطَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا فَتَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ عِنْدَهُمَا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ (2) ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَطَأْ، فَإِنْ وَطِئَ فَلاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) الدسوقي 2 / 446، 447، والمغني 7 / 353، وفتح القدير 3 / 225، ومغني المحتاج 3 / 356.
(2) ابن عابدين 5 / 594، والدسوقي 4 / 458، والسراجية ص 30، والخرشي 4 / 111.

(29/207)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، بَل يُؤَدِّيهَا الْوَارِثُ عَنِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّرِكَةِ (1) .

الأَْمْرُ الثَّالِثُ - شُرُوطُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
27 - يُشْتَرَطُ لإِِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الظِّهَارِ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الإِْتْيَانُ بِالْكَفَّارَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ وُجُوبِهَا؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ إِذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى سَبَبِهِ، وَتَأْسِيسًا عَلَى هَذَا: لَوْ أَطْعَمَ رَجُلٌ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَال: هَذَا الإِْطْعَامُ عَنْ ظِهَارِي إِنْ ظَاهَرْتُ، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ ظِهَارِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبِ وُجُوبِهَا، وَالْحُكْمُ لاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى سَبَبِ وُجُوبِهِ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْيَمِينِ قَبْل الْحَلِفِ، أَوْ كَفَّرَ عَنِ الْقَتْل قَبْل الإِْقْدَامِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا قَال رَجُلٌ لاِمْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتُ دَارَ فُلاَنٍ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّكْفِيرُ قَبْل أَنْ تَدْخُل زَوْجَتُهُ تِلْكَ الدَّارَ؛ لأَِنَّ الظِّهَارَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ دُخُول الدَّارِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ لاَ يُوجَدُ قَبْل وُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ (2) .
الثَّانِي: النِّيَّةُ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ الإِْعْتَاقَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 174 - 175، والقليوبي 3 / 175، والمغني لابن قدامة 7 / 383، وكشاف القناع 5 / 389 و4 / 404.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 389.

(29/208)


أَوِ الصِّيَامَ أَوِ الإِْطْعَامَ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَصْدُ مُقَارِنًا لِفِعْل أَيِّ نَوْعٍ مِنْهَا، أَوْ سَابِقًا عَلَى فِعْلِهِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) .
وَلأَِنَّ كُل نَوْعٍ مِنَ الأَْنْوَاعِ الْوَاجِبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الإِْتْيَانُ بِهِ لِلتَّكْفِيرِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ التَّكْفِيرُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُظَاهِرُ أَوْ صَامَ أَوْ أَطْعَمَ بِدُونِ نِيَّةٍ، ثُمَّ نَوَى أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ أَوِ الصَّوْمُ أَوِ الإِْطْعَامُ عَنِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي عَلَيْهِ فَلاَ يُجْزِئُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الصِّيَامَ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ الَّتِي عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي صَامَ فِيهِ يَصْلُحُ لِلصِّيَامِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَعَنْ غَيْرِهَا، مِثْل النَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ الصَّوْمُ لِلْكَفَّارَةِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (3) .

الأَْمْرُ الرَّابِعُ - خِصَال كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:
28 - خِصَال كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ثَلاَثَةٌ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّرْتِيبِ الآْتِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 894، ومغني المحتاج 3 / 359، والمغني لابن قدامة 7 / 387.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 133.

(29/208)


أ - الإِْعْتَاقُ.
ب - الصِّيَامُ.
ج - الإِْطْعَامُ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ (1) } .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِوْسِ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ: يُعْتِقُ رَقَبَةً، قِيل لَهُ: لاَ يَجِدُ قَال: يَصُومُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَة)

انْتِهَاءُ الظِّهَارِ:
29 - يَنْتَهِي الظِّهَارُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ بِوَاحِدٍ مِنَ الأُْمُورِ الآْتِيَةِ: أ - الْكَفَّارَةُ.
ب - الْمَوْتُ.
ج - مُضِيُّ الْمُدَّةِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 3 - 4.
(2) حديث أوس بن الصامت تقدم فـ 4.

(29/209)


أ - انْتِهَاءُ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ:
30 - إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ، وَتَحَقَّقَ رُكْنُ الظِّهَارِ، وَتَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَلاَ يَنْتَهِي هَذَا التَّحْرِيمُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ مَتَى كَانَ الظِّهَارُ مُطْلَقًا عَنِ التَّقْيِيدِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ لاَ تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَل مَا أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل (1) ، إِذْ نَهَاهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى وَطْئِهَا، وَجَعَل لِهَذَا النَّهْيِ غَايَةً هِيَ التَّكْفِيرُ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ لاَ يَنْتَهِي حُكْمُهُ إِلاَّ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الرَّجُل إِذَا ظَاهَرَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَفَارَقَهَا بِطَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ لاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، سَوَاءٌ رَجَعَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا وَتَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ، لاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا قَبْل أَنْ يُكَفِّرَ (2) ، وَعَلَّل ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ بِأَنَّ الظِّهَارَ قَدِ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَالأَْصْل أَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ إِذَا انْعَقَدَ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَتَى كَانَ فِي
__________
(1) حديث: " لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله. . ". تقدم تخريجه فـ 23.
(2) البدائع 3 / 235، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 890، وشرح الخرشي 3 / 251، ومغني المحتاج 3 / 357، والمغني لابن قدامة 7 / 352.

(29/209)


بَقَائِهِ فَائِدَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَاحْتِمَال عَوْدَةِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلاَقِ إِلَى زَوْجِهَا الأَْوَّل قَائِمٌ، فَيَبْقَى الظِّهَارُ، وَإِذَا بَقِيَ فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ الَّتِي تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ (1) .

ب - انْتِهَاءُ الظِّهَارِ بِالْمَوْتِ:
31 - وَيَنْتَهِي الظِّهَارُ أَيْضًا بِمَوْتِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَلَوْ ظَاهَرَ الرَّجُل مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ انْتَهَى الظِّهَارُ وَانْتَهَى حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، فَالرَّجُل يَحْرُمُ عَلَيْهِ الاِسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا، وَالْمَرْأَةُ عَلَيْهَا أَلاَّ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحُكْمِ بِدُونِ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلظِّهَارِ وَأَثَرِ الْمَوْتِ فِيهِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ ف 26.

ج - مُضِيُّ الْمُدَّةِ:
32 - وَيَنْحَل الظِّهَارُ الْمُؤَقَّتُ بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ التَّوْقِيتِ وَالتَّأْبِيدِ فِي الظِّهَارِ فِي فِقْرَةِ (6) .
__________
(1) البدائع 3 / 235.

(29/210)


ظُهْر
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ.