الموسوعة
الفقهية الكويتية عَائِلَة
انْظُرْ: أُسْرَة.
عَائِن
انْظُرْ: عَيْن.
(29/210)
عَاجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَاجُ فِي اللُّغَةِ: أَنْيَابُ الْفِيل، وَلاَ يُسَمَّى غَيْرُ
النَّابِ عَاجًا.
وَالْعَوَّاجُ: بَائِعُ الْعَاجِ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ، وَفِي الصِّحَاحِ:
وَالْعَاجُ: عَظْمُ الْفِيل، الْوَاحِدَةُ عَاجَةٌ، وَقَال شِمْرٌ:
وَيُقَال لِلْمِسْكِ عَاجٌ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّةِ مَا قَال شِمْرٌ فِي
الْعَاجِ: إِنَّهُ الْمِسْكُ، مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِثَوْبَانَ: اشْتَرِ
لِفَاطِمَةَ قِلاَدَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ (1) ، لَمْ
يُرِدْ بِالْعَاجِ مَا يُخْرَطُ مِنْ أَنْيَابِ الْفِيَلَةِ، لأَِنَّ
أَنْيَابَهَا مَيْتَةٌ، وَإِنَّمَا الْعَاجُ الذَّبْل، وَهُوَ ظَهْرُ
السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، فَأَمَّا الْعَاجُ الَّذِي هُوَ لِلْفِيل
فَنَجِسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى
__________
(1) حديث: " اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من
عاج ". أخرجه أبو داود (4 / 420 تحقيق
عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة راويين من رواته، كذا في مختصر السنن
للمنذري (6 / 109 - نشر دار المعرفة) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(29/211)
اللُّغَوِيِّ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا
عَنِ الْعَاجِ: إِنَّهُ الذَّبْل وَهُوَ عَظْمُ السُّلَحْفَاةِ
الْبَحْرِيَّةِ (1) ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
قَالُوا إِنَّهُ الْمَأْخُوذُ مِنْ نَابِ الْفِيل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الذَّبْل:
2 - فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الذَّبْل: ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ، وَفِي
الْمُحْكَمِ: جِلْدُ السُّلَحْفَاةِ الْبَرِّيَّةِ، وَقِيل: الْبَحْرِيَّةِ
يُجْعَل مِنْهُ الأَْمْشَاطُ، وَيُجْعَل مِنْهُ الْمِسْكُ أَيْضًا، وَقِيل:
الذَّبْل: عِظَامُ ظَهْرِ دَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ تَتَّخِذُ
مِنْهُ نِسَاءٌ أَسْوِرَةً، وَقَال ابْنُ شُمَيْلٍ: الذَّبْل الْقُرُونُ
يُسَوَّى مِنْهُ الْمِسْكُ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: الذَّبْل: شَيْءٌ كَالْعَاجِ (3) .
ب - الْمِسْكُ:
3 - فِي اللِّسَانِ: الْمِسْكُ: الذَّبْل، وَالْمِسْكُ: الأَْسْوِرَةُ
وَالْخَلاَخِيل مِنَ الذَّبْل وَالْقُرُونِ وَالْعَاجِ، وَاحِدَتُهُ
مَسْكَةٌ.
قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ بِالتَّحْرِيكِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَبْلٍ
أَوْ عَاجٍ (4) .
__________
(1) المجموع 1 / 238 ط. السلفية.
(2) الدردير على الدسوقي 1 / 54 - 55، والمغني 1 / 72.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (ذبل) .
(4) لسان العرب والمصباح المنير.
(29/211)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاجِ:
أَوَّلاً: حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي طَهَارَةِ الْعَاجِ أَوْ
نَجَاسَتِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
4 - الأَْوَّل: أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالُوا: إِنَّ الْعَاجَ الْمُتَّخَذَ مِنْ عَظْمِ
الْفِيل نَجِسٌ لأَِنَّ عَظْمَهُ نَجِسٌ، وَسَوَاءٌ أُخِذَ الْعَظْمُ مِنَ
الْفِيل وَهُوَ حَيٌّ أَوْ وَهُوَ مَيِّتٌ، لأَِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ
فَهُوَ مَيِّتٌ، وَسَوَاءٌ أُخِذَ مِنْهُ بَعْدَ ذَكَاتِهِ أَوْ بَعْدَ
مَوْتِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى نَجَاسَتِهِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (1) } وَالْعَظْمُ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَكُونُ
مُحَرَّمًا وَالْفِيل لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَهُوَ نَجِسٌ عَلَى كُل
حَالٍ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ كَذَلِكَ بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ
يُدْهِنَ فِي عَظْمِ فِيلٍ، لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، وَالسَّلَفُ يُطْلِقُونَ
الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا التَّحْرِيمَ، وَلأَِنَّهُ جُزْءٌ
مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَال خِلْقَةٍ فَأَشْبَهَ الأَْعْضَاءَ.
__________
(1) سورة المائدة: الآية (3) .
(29/212)
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَشَطَ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ (1) ،
وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْ
ثَوْبَانَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قِلاَدَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ (2) ، فَلاَ دَلِيل فِي
ذَلِكَ عَلَى الطَّهَارَةِ، لأَِنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّبْل وَهُوَ عَظْمُ
ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، كَذَا قَالَهُ الأَْصْمَعِيُّ
وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْل اللُّغَةِ، وَقَال أَبُو
عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ: الْعَرَبُ تُسَمِّي كُل عَظْمٍ عَاجًا (3) .
5 - الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ، قَال بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ -
غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - وَهُوَ طَرِيقٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَخَرَّجَ
أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا الطَّهَارَةَ، قَال فِي
الْفَائِقِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ،
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْقَوْل بِالطَّهَارَةِ هُوَ الصَّوَابُ.
وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ؛ لأَِنَّ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم امتشط بمشط من عاج ". أخرجه البيهقي في
السنن (1 / 26 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك وأشار إلى
تضعيف إسناده.
(2) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم طلب من ثوبان أن يشتري لفاطمة. . . تقدم
تخريجه فـ 1.
(3) المجموع شرح المهذب 1 / 23، 236، 238 ط. المطبعة السلفية، والمجموع 9 /
217، والإنصاف 1 / 92، والمغني 1 / 72 - 73 والبدائع 5 / 142.
(29/212)
الْمَيْتَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي عُرْفِ
الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لاَ بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنَ
الْعِبَادِ، أَوْ بِصُنْعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلاَ حَيَاةَ فِي الْعَظْمِ
فَلاَ يَكُونُ مَيْتَةً، كَمَا أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ
لأَِعْيَانِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ
وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْعَظْمِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: {قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ} ، أَلاَ كُل شَيْءٍ مِنَ الْمَيْتَةِ حَلاَلٌ إِلاَّ مَا أُكِل
مِنْهَا (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ (3) .
6 - الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ التَّفْصِيل بَيْنَ ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ
الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعَاجُ - وَهُوَ الْفِيل - أَوْ عَدَمِ ذَكَاتِهِ،
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ،
جَاءَ فِي الدَّرْدِيرِ وَحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: الظَّاهِرُ مَا ذُكِّيَ
مِنَ الْحَيَوَانِ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً،
__________
(1) البدائع 1 / 63، وفتح القدير 1 / 85 نشر دار إحياء التراث، وابن عابدين
1 / 136 ومراقي الفلاح 89 - 90 والمجموع شرح المهذب 1 / 237 - 240 المطبعة
السلفية والمغني لابن قدامة 1 / 72 - 73، والحطاب 1 / 103 ومنح الجليل 1 /
30 ومجموع فتاوى ابن تيمية 1 / 39 مطبعة كردستان العلمية.
(2) حديث: " قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ". أخرجه
الدارقطني (1 / 48 - ط. شركة الطباعة الفنية) وأتبعه بتضعيف أحد رواته.
(3) حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتشط بمشط من عاج. تقدم
تخريجه فـ / 4.
(29/213)
وَكَذَلِكَ جُزْؤُهُ مِنْ عَظْمِ لَحْمٍ
وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَجِلْدٍ إِلاَّ مُحَرَّمُ الأَْكْل كَالْخَيْل
وَالْبِغَال وَالْحَمِيرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ لاَ تَنْفَعُ
فِيهَا (1) ، وَالنَّجِسُ مَا أُبِينَ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسِ الْمَيْتَةِ
حَيًّا أَوْ مَيِّتًا مِنْ قَرْنٍ وَعَظْمٍ وَظِلْفٍ وَظُفْرٍ وَعَاجٍ أَيْ
سِنِّ فِيلٍ (2) .
وَفِي الْمَوَّاقِ: قَال ابْنُ شَاسٍ: كُل حَيَوَانٍ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ
يَطْهُرُ بِذَكَاتِهِ كُل أَجْزَائِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَجِلْدٍ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا أُخِذَ الْعَاجُ مِنْ عِظَامِ الْفِيل وَهُوَ
حَيٌّ، أَوْ وَهُوَ مَيِّتٌ لَمْ يُذَكَّ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِذَا أُخِذَ
بَعْدَ ذَكَاتِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: فِي بَابِ الأَْطْعِمَةِ: وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّ الْفِيل
يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا ذُكِّيَ كَانَ عَظْمُهُ طَاهِرًا
(4) .
ثَانِيًا: حُكْمُ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَاجِ:
أ - اتِّخَاذُ الآْنِيَةِ مِنْهُ:
7 - الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ عَظْمِ الْفِيل - الَّذِي
__________
(1) الدسوقي 1 / 49.
(2) الدسوقي 1 / 54.
(3) المواق بهامش الحطاب 1 / 88.
(4) المجموع 9 / 217.
(29/213)
يُتَّخَذُ مِنْهُ الْعَاجُ - وَهُمُ
الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ اتِّخَاذُ الآْنِيَةِ
مِنْهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ، وَهَذَا يَدُل عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ
الآْنِيَةِ مِنْ عَظْمِ الْفِيل (1) .
وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُمُ الْقَائِلُونَ
بِنَجَاسَتِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الآْنِيَةِ مِنْهُ، لَكِنْ لاَ
يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي شَيْءٍ رَطْبٍ وَيَجُوزُ فِي يَابِسٍ مَعَ
الْكَرَاهَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الإِْنَاءِ
الْمُعَوَّجِ - أَيِ الْمُضَبَّبِ بِقِطْعَةٍ مِنْ عَظْمِ الْفِيل - إِنْ
أَصَابَ الْمَاءُ تَعْوِيجَهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ،
وَالصُّورَةُ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ.
وَقَالُوا: لَوِ اتَّخَذَ مُشْطًا مِنْ عَظْمِ الْفِيل فَاسْتَعْمَلَهُ فِي
رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ رُطُوبَةٌ مِنْ أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ تَنَجَّسَ شَعْرُهُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ
وَلاَ يَحْرُمُ وَلَوْ جُعِل الدُّهْنُ فِي عَظْمِ الْفِيل
لِلاِسْتِصْبَاحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الاِسْتِعْمَال فِي غَيْرِ الْبَدَنِ
فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ (2) .
وَكَرِهَ الإِْمَامُ مَالِكٌ الأَْدْهَانَ فِي أَنْيَابِ الْفِيل
وَالْمُشْطَ بِهَا.
وَقَال النَّفْرَاوِيُّ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: وَقَعَ الْخِلاَفُ
بَيْنَ الشُّيُوخِ فِي نَجَاسَةِ الزَّيْتِ الْمَوْضُوعِ فِي إِنَاءِ
الْعَاجِ، وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ مِنْ كَلاَمِ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 89 - 90، وابن عابدين 1 / 136.
(2) المجموع 1 / 243.
(29/214)
أَهْل الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لاَ
يَتَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ يَقِينًا فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ،
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ فَلاَ شَكَّ فِي
نَجَاسَتِهِ (1) .
ب - حُكْمُ بَيْعِهِ وَالتِّجَارَةُ فِيهِ:
8 - الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ عَظْمِ الْفِيل أَجَازُوا بَيْعَهُ
وَالاِنْتِفَاعَ بِهِ.
جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: يَجُوزُ بَيْعُ عَظْمِ الْفِيل
وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَمْل وَالرُّكُوبِ وَالْمُقَاتَلَةِ (2) .
وَفِي الإِْنْصَافِ: وَعَلَى الْقَوْل بِطَهَارَتِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ (3)
.
وَفِي الْمُغْنِي: وَرَخَّصَ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ وَغَيْرُهُ وَابْنُ جُرَيْجٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قِلاَدَةً مِنْ عَصَبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ (4) .
9 - أَمَّا الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُمْ.
قَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ
__________
(1) أسهل المدارك 1 / 38 - 39.
(2) ابن عابدين 4 / 114.
(3) الإنصاف 1 / 92.
(4) المغني 1 / 72. وحديث ثوبان تقدم تخريجه فـ 1.
(29/214)
يَحِل ثَمَنُهُ، وَبِهَذَا قَال طَاوُسٍ
وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ (1) .
10 - وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ
وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمْ مَا جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ كَرِهَ الأَْدْهَانَ فِي أَنْيَابِ الْفِيل وَالْمُشْطَ بِهَا
وَالتِّجَارَةَ فِيهَا أَيْ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَلَمْ يُحَرِّمْهُ
فَحَمَل بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَحَمَلَهَا
بَعْضُهُمُ الآْخَرُ عَلَى التَّنْزِيهِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: حَمْل
الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ أَحْسَنُ خُصُوصًا وَقَدْ نَقَل حَمْلَهَا
عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ
فَرْحُونَ عَنِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْل
الْمَذْهَبِ.
وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ أَنَّ الْعَاجَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَيْتَةٍ
لَكِنْ أُلْحِقَ بِالْجَوَاهِرِ فِي التَّزَيُّنِ فَأُعْطِيَ حُكْمًا
وَسَطًا وَهُوَ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ مُرَاعَاةً لِمَا قَالَهُ ابْنُ
شِهَابٍ وَرَبِيعَةُ وَعُرْوَةُ مِنْ جَوَازِ الاِمْتِشَاطِ بِهِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي
الْعَاجِ الْمُتَّخَذِ مِنْ فِيلٍ مَيِّتٍ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ أَمَّا
الْمُذَكَّى فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) المجموع 9 / 217، والفروع 1 / 110، والإنصاف 1 / 92، والمغني 1 / 72.
(2) الدسوقي 1 / 55، ومنح الجليل 1 / 30.
(29/215)
عَادَة
التَّعْرِيفُ
1 - الْعَادَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَوْدِ، أَوِ الْمُعَاوَدَةِ،
بِمَعْنَى التَّكْرَارِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الأُْمُورُ
الْمُتَكَرِّرَةُ مِنْ غَيْرِ عَلاَقَةٍ عَقْلِيَّةٍ.
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهَا تَكْرَارُ الشَّيْءِ وَعَوْدُهُ
مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى تَكْرَارًا كَثِيرًا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ
وَاقِعًا بِطَرِيقِ الصُّدْفَةِ وَالاِتِّفَاقِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنَ
الأُْمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ الطَّبَائِعِ
السَّلِيمَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُرْفُ:
2 - الْعُرْفُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ النُّكْرِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنْ جِهَةِ شَهَادَةِ
الْعُقُول وَتَلَقَّتْهُ الطِّبَاعُ بِالْقَبُول (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم حاشية الحموي 1 / 126 - 127، ورسالة نشر
العرف لابن عابدين ص 112، والتعريفات
للجرجاني والكليات لأبي البقاء.
(2) لسان العرب مادة (عرف) .
(3) الكليات لأبي البقاء.
(29/215)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَادَةِ
وَالْعُرْفِ، أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْمَاصَدَقُ،
وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْهُومِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَادَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَنَدٌ
لِكَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ، وَأَنَّهَا
تُحَكَّمُ فِيمَا لاَ ضَابِطَ لَهُ شَرْعًا، كَأَقَل مُدَّةِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ، وَفِي أَقَل سِنِّ الْحَيْضِ وَالْبُلُوغِ، وَفِي حِرْزِ
الْمَال الْمَسْرُوقِ، وَفِي ضَابِطِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ فِي
الضَّبَّةِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَفِي قَصْرِ الزَّمَانِ
وَطُولِهِ عِنْدَ مُوَالاَةِ الْوُضُوءِ، وَفِي الْبِنَاءِ عَلَى
الصَّلاَةِ، وَكَثْرَةِ الأَْفْعَال الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلاَةِ، وَفِي
التَّأْخِيرِ الْمَانِعِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي الشُّرْبِ
وَسَقْيِ الدَّوَابِّ مِنَ الْجَدَاوِل وَالأَْنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ
الْمَجْرَى إِذَا كَانَ لاَ يَضِيرُ مَالِكَهَا، فَتُحَكَّمُ الْعَادَةُ
فِي هَذِهِ الْمَسَائِل إِقَامَةً لَهَا مَقَامَ الإِْذْنِ اللَّفْظِيِّ،
وَكَذَا الثِّمَارُ السَّاقِطَةُ مِنَ الأَْشْجَارِ الْمَمْلُوكَةِ، وَفِي
عَدَمِ رَدِّ ظَرْفِ الْهَدِيَّةِ إِذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ.
وَمَا جُهِل حَالُهُ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْل فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ
رُجِعَ فِيهِ إِلَى عَادَةِ بَلَدِ الْبَيْعِ (2) .
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 2 / 112.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 90، المنثور للزركشي 2 / 356، والأشباه
والنظائر لابن نجيم 1 / 128، ونهاية المحتاج 3 / 433، والمغني 4 / 22.
(29/216)
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: الْعَوَائِدُ
الْجَارِيَةُ ضَرُورِيَّةُ الاِعْتِبَارِ شَرْعًا، سَوَاءٌ كَانَتْ
شَرْعِيَّةً فِي أَصْلِهَا، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ (1) .
دَلِيل اعْتِبَارِ الْعَادَةِ فِي الأَْحْكَامِ:
4 - الأَْصْل فِي اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا
فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ (2) .
وَفِي كُتُبِ أُصُول الْفِقْهِ، وَكُتُبِ الْقَوَاعِدِ مَا يَدُل عَلَى
أَنَّ الْعَادَةَ مِنَ الْمُعْتَبَرِ فِي الْفِقْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - قَوْلُهُمْ: الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ.
ب - الْمُمْتَنِعُ عَادَةً كَالْمُمْتَنِعِ حَقِيقَةً.
ج - الْحَقِيقَةُ تُتْرَكُ بِدَلاَلَةِ الْعَادَةِ.
د - إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إِذَا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ (3) .
وَقَلَّمَا يُوجَدُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَيْسَ لِلْعَادَةِ
مَدْخَلٌ فِي أَحْكَامِهِ.
__________
(1) الموافقات 2 / 286.
(2) أثر عبد الله بن مسعود: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. أخرجه
أحمد (1 / 379) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 177 - 178) وقال:
رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله موثقون.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 98، والأشباه لابن نجيم 1 / 126 - 127 -
131 ورسالة نشر العرف ص: 112 - 113 - 139 - 141، ومجلة الأحكام العدلية
المواد 36، 38، 40، 41.
(29/216)
أَقْسَامُ الْعَادَةِ:
تَنْقَسِمُ الْعَادَةُ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
5 - فَبِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهَا تَنْقَسِمُ إِلَى: عَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ،
وَعَادَةٍ جَارِيَةٍ بَيْنَ الْخَلاَئِقِ.
فَالْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّارِعُ أَوْ
نَفَاهَا، أَيْ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ أَمَرَ بِهَا إِيجَابًا أَوْ
نَدْبًا، أَوْ نَهَى عَنْهَا تَحْرِيمًا أَوْ كَرَاهِيَةً، أَوْ أَذِنَ
فِيهَا فِعْلاً أَوْ تَرْكًا.
وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْخَلاَئِقِ بِمَا
لَيْسَ فِي نَفْيِهِ وَلاَ إِثْبَاتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ.
فَالْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ: ثَابِتَةٌ أَبَدًا، كَسَائِرِ الأُْمُورِ
الشَّرْعِيَّةِ كَالأَْمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَالطَّهَارَةِ
لِلصَّلاَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ
الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ: أَمَرَ الشَّارِعُ بِهَا أَوْ
نَهَى عَنْهَا، فَهِيَ مِنَ الأُْمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ أَحْكَامِ
الشَّرْعِ، فَلاَ تَبْدِيل لَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ
الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، فَلاَ يَنْقَلِبُ الْحَسَنُ مِنْهَا قَبِيحًا
لِلأَْمْرِ بِهِ، وَلاَ الْقَبِيحُ حَسَنًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ حَتَّى
يُقَال مَثَلاً: إِنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ الآْنَ وَلاَ
قَبِيحٍ، إِذْ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ نَسْخًا لِلأَْحْكَامِ
الْمُسْتَقِرَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَالنَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ.
أَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ تَكُونُ ثَابِتَةً، وَقَدْ تَتَبَدَّل،
(29/217)
وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَسْبَابٌ
تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ (1) .
فَالثَّابِتَةُ هِيَ الْغَرَائِزُ الْجِبِلِّيَّةُ كَشَهْوَةِ الطَّعَامِ،
وَالْوِقَاعِ، وَالْكَلاَمِ، وَالْبَطْشِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَالْمُتَبَدِّلَةُ مِنْهَا مَا يَكُونُ مُتَبَدِّلاً مِنْ حَسَنٍ إِلَى
قَبِيحٍ وَبِالْعَكْسِ، مِثْل: كَشْفِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلاَفِ الْبِقَاعِ، فَهُوَ لِذَوِي الْمُرُوآتِ قَبِيحٌ فِي بَعْضِ
الْبِلاَدِ، وَغَيْرُ قَبِيحٍ فِي بَعْضِهَا، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ
الشَّرْعِيُّ بِاخْتِلاَفِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ
قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ، مُسْقِطًا لِلْمُرُوءَةِ، وَفِي بَعْضِهَا
غَيْرُ قَادِحٍ لَهَا، وَلاَ مُسْقِطٌ لِلْمُرُوءَةِ (2) .
وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقَاصِدِ،
فَتَنْصَرِفُ الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنًى إِلَى مَعْنَى عِبَارَةٍ أُخْرَى،
وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ فِي الأَْفْعَال فِي الْمُعَامَلاَتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عُرْف) .
6 - وَتَنْقَسِمُ الْعَادَةُ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهَا إِلَى: عَامَّةٍ
وَخَاصَّةٍ.
فَالْعَادَةُ الْعَامَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ فَاشِيَةً فِي جَمِيعِ
الْبِقَاعِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلاَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
الأَْمَاكِنِ، كَالاِسْتِصْنَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ
__________
(1) الموافقات 2 / 283 - 284.
(2) الموافقات 2 / 283 - 284.
(29/217)
الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا
النَّاسُ فِي كُل الأَْمَاكِنِ - وَفِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ -
كَالأَْحْذِيَةِ وَالأَْلْبِسَةِ وَالأَْدَوَاتِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ
الاِسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فِي بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَلاَ فِي زَمَنٍ
مِنَ الأَْزْمَانِ.
أَمَّا الْخَاصَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ خَاصَّةً فِي بَلَدٍ، أَوْ
بَيْنَ فِئَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ النَّاسِ، كَاصْطِلاَحِ أَهْل الْحِرَفِ
الْمُخْتَلِفَةِ بِتَسْمِيَةِ شَيْءٍ بِاسْمٍ مُعَيَّنٍ فِي مُحِيطِهِمُ
الْمِهَنِيِّ، أَوْ تَعَامُلِهِمْ فِي بَعْضِ الْمُعَامَلاَتِ بِطَرِيقَةٍ
مُعَيَّنَةٍ حَتَّى تَصِيرَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الْمُتَعَارَفُ
فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ فِيهَا بِاخْتِلاَفِ
الأَْمَاكِنِ وَالْبِقَاعِ (1) .
مَا تَسْتَقِرُّ بِهِ الْعَادَةُ:
7 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَادَةَ يَخْتَلِفُ اسْتِقْرَارُهَا
بِحَسَبِ الشَّيْءِ، فَالْعَادَةُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ تَسْتَقِرُّ
بِمَرَّةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَبِثَلاَثِ مَرَّاتٍ عِنْدَ
آخَرِينَ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَيْض فِقْرَةُ 16)
وَاخْتِبَارُ الْجَارِحَةِ فِي الصَّيْدِ لاَ بُدَّ مِنْ تَكْرَارِ عَدَمِ
الأَْكْل مِنَ الصَّيْدِ تَكْرَارًا يَغْلِبُ عَلَى
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 127، ورسالة نشر العرف 115، والموافقات 2
/ 284 - 285، والمنثور 3 / 178.
(2) نهاية المحتاج 1 / 326، وابن عابدين 2 / 88، وكشاف القناع 1 / 204.
(29/218)
الظَّنِّ حُصُول التَّعَلُّمِ، وَقِيل:
يُشْتَرَطُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَالأَْصَحُّ أَنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ أَهْل
الْخِبْرَةِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَيْد) وَمُصْطَلَحَ: (كَلْب)
وَلِلْعَادَةِ جُمْلَةُ أَحْكَامٍ مُرْتَبِطَةٍ بِالْعُرْفِ يُنْظَرُ
تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (عُرْف) .
عَارِض
انْظُرْ: أَهْلِيَّة.
عَارِيَّة
انْظُرْ: إِعَارَة.
عَاشِر
انْظُرْ: عُشْر.
__________
(1) المنثور 3 / 360.
(29/218)
عَاشُورَاءُ
التَّعْرِيفُ:
1 - عَاشُورَاءُ: هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ (1) ، لِمَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ: يَوْمِ
الْعَاشِرِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
تَاسُوعَاءُ:
2 - تَاسُوعَاءُ: هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ (3)
.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ تَاسُوعَاءَ وَعَاشُورَاءَ أَنَّ صَوْمَ كُلٍّ
مِنْهُمَا مُسْتَحَبٌّ، اسْتِدْلاَلاً بِالْحَدِيثِ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة (عشر) ، والدر المختار 2 / 83، وكشاف
القناع 2 / 338، والمجموع شرح المهذب 6 / 382، وحاشية القليوبي 2 / 73،
وجواهر الإكليل 1 / 146، والمغني لابن قدامة 3 / 174 ط. الرياض الحديثة.
(2) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم
عاشوراء يوم العاشر ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 4 / 244) ومسلم (2 / 795) والترمذي (3 / 119) واللفظ له.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب مادة (تسع) وروضة الطالبين 2 / 387، وكشاف
القناع 2 / 338، والشرح الكبير 1 / 516، وجواهر الإكليل 1 / 146، المدخل
لابن الحاج 1 / 286.
(29/219)
الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ عَاشُورَاءَ، فَقِيل لَهُ: إِنَّ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى تُعَظِّمُهُ، فَقَال: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل
إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَسْنُونٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، كَصَوْمِ
يَوْمِ تَاسُوعَاءَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ (2) ، وَقَال عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى
اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي
بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ
يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَإِذَا
كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِل إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ
التَّاسِعَ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِل حَتَّى
تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَفِي فَضْل يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ
__________
(1) حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء فقيل له. . .) . أخرجه مسلم
(4 / 798) من حديث ابن عباس.
(2) حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء. . .) . أخرجه
مسلم (4 / 792) من حديث عائشة.
(3) حديث: (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة. . .) . أخرجه مسلم
(4 / 818 - 819) من حديث أبي قتادة.
(4) حديث: " فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله -. . . ". تقدم تخريجه فـ
/ 2.
(29/219)
الصِّيَامِ فِيهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ،
فَقَال: مَا هَذَا قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى
اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَال:
فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ (1) .
وَمَعْنَى تَكْفِيرِ سَنَةٍ: أَيْ ذُنُوبِ سَنَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَغَائِرُ خُفِّفَ مِنْ كَبَائِرِ السَّنَةِ وَذَلِكَ
التَّخْفِيفُ مَوْكُولٌ لِفَضْل اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبَائِرُ
رُفِعَ لَهُ دَرَجَاتٌ.
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَقُول فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا التَّاسِعَ
وَالْعَاشِرَ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صِيَامِ تَاسُوعَاءَ
مَعَ صِيَامِ عَاشُورَاءَ أَوْجُهًا.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي
اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَصْل يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ.
وَالثَّالِثُ: الاِحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ
__________
(1) حديث: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم
عاشوراء) . أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 244) ومسلم (4 / 795) من حديث
ابن عباس واللفظ للبخاري.
(2) أثر ابن عباس " خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر ". أخرجه عبد
الرزاق في المصنف (4 / 287) .
(29/220)
خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلاَل وَوُقُوعِ
غَلَطٍ، فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرُ فِي نَفْسِ
الأَْمْرِ (1) .
وَلِلْمَزِيدِ مِنَ التَّفْصِيل فِي ذَلِكَ: (ر - صَوْمُ التَّطَوُّعِ) .
التَّوْسِعَةُ فِي عَاشُورَاءَ:
4 - قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تُسْتَحَبُّ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَال
وَالأَْهْل فِي عَاشُورَاءَ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ
وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ (3) .
قَال ابْنُ عُيَيْنَةَ: قَدْ جَرَّبْنَاهُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ
سِتِّينَ فَمَا رَأَيْنَا إِلاَّ خَيْرًا (4) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 83، المجموع شرح المهذب 6 / 382، 383، والمهذب في فقه
الإمام الشافعي 1 / 195، روضة الطالبين 2 / 387، حاشية القليوبي 2 / 73،
حاشية الدسوقي 1 / 516، مواهب الجليل 2 / 406، جواهر الإكليل 1 / 146، شرح
الزرقاني 2 / 197، المغني لابن قدامة 3 / 174 ط. الرياض الحديثة، كشاف
القناع 2 / 338 - 339، نزنهة المتقين 2 / 885 - 886.
(2) الترغيب والترهيب 2 / 77، المدخل لابن الحاج 1 / 283.
(3) حديث: " من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه. . . ". أخرجه
البيهقي في شعب الإيمان 3 / 366، من حديث أبي هريرة. وأورده ابن حبان في
كتاب المجروحين (3 / 97) وقال في أحد رواته: لا يجوز الاحتجاج به.
(4) كشاف القناع 2 / 339.
(29/220)
5 - أَمَّا غَيْرُ التَّوْسِعَةِ عَلَى
الْعِيَال مِمَّا يَحْدُثُ مِنَ الاِحْتِفَال وَالاِكْتِحَال
وَالاِخْتِضَابِ يَوْمَ الْعَاشِرِ وَلَيْلَتَهُ: فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الاِحْتِفَال فِي لَيْلَةِ الْعَاشِرِ مِنْ
مُحَرَّمٍ أَوْ فِي يَوْمِهِ بِدْعَةٌ، وَأَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ شَيْءٌ
مِنْهُ، بَل مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ وَضْعِ
الْوَضَّاعِينَ أَهْل الْبِدَعِ تَشْجِيعًا لِبِدْعَتِهِمُ الَّتِي
يَصْنَعُونَهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ (1) .
وَلَمْ يَثْبُتْ فِي فَضْل هَذَا الْيَوْمِ إِلاَّ الصِّيَامُ فَقَطْ.
عَاصِب
انْظُرْ: عَصَبَة.
عَاقِر
انْظُرْ: عُقْم
__________
(1) رد المحتار 2 / 144، حواشي الشرواني وابن قاسم 3 / 454، جواهر الإكليل
1 / 74، كشاف القناع 2 / 338.
(29/221)
عَاقِلَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَاقِلَةُ: جَمْعُ عَاقِلٍ، وَهُوَ دَافِعُ الدِّيَةِ، وَسُمِّيَتِ
الدِّيَةُ عَقْلاً تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، لأَِنَّ الإِْبِل كَانَتْ
تُعْقَل بِفِنَاءِ وَلِيِّ الْمَقْتُول، ثُمَّ كَثُرَ الاِسْتِعْمَال
حَتَّى أُطْلِقَ الْعَقْل عَلَى الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ
الإِْبِل. وَقِيل: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عَقْلاً لأَِنَّهَا تَعْقِل لِسَانَ
وَلِيِّ الْمَقْتُول، أَوْ مِنَ الْعَقْل وَهُوَ الْمَنْعُ؛ لأَِنَّ
الْعَشِيرَةَ كَانَتْ تَمْنَعُ الْقَاتِل بِالسَّيْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
ثُمَّ مَنَعَتْ عَنْهُ فِي الإِْسْلاَمِ بِالْمَال (1) .
حُكْمُ تَحَمُّل الْعَاقِلَةِ لِلدِّيَةِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ.
وَالأَْصْل فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَضَاءُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ الْهُذَلِيَّةِ
وَدِيَةِ جَنِينِهَا عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: اقْتَتَلَتِ
امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ
__________
(1) المصباح المنير 3 / 157.
(29/221)
فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا،
فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِيَةَ
جَنِينِهَا غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ
عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ (1) .
وَأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ فَلاَ وَجْهَ لإِِهْدَارِهَا، وَأَنَّ
الْخَطَأَ يُعْذَرُ فِيهِ الإِْنْسَانُ، وَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ
ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ تَعَمَّدَهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ
إِيجَابِ بَدَلِهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ
وَقِيَامِهَا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ أَوْجَبَتْ بَدَلَهُ عَلَى مَنْ
عَلَيْهِ نُصْرَةُ الْقَاتِل، فَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِمْ إِعَانَتَهُ عَلَى
ذَلِكَ كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ عَلَى الأَْقَارِبِ (2) .
عَاقِلَةُ الإِْنْسَانِ:
3 - عَاقِلَةُ الإِْنْسَانِ عَصَبَتُهُ، وَهُمُ الأَْقْرِبَاءُ مِنْ جِهَةِ
الأَْبِ كَالأَْعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، وَالإِْخْوَةِ وَبَنِيهِمْ،
وَتُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ، فَتُقْسَمُ عَلَى
الإِْخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، وَالأَْعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ
الأَْبِ وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ وَبَنِيهِمْ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ هُمُ الْعَصَبَةُ
__________
(1) حديث: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر. . .) . أخرجه
البخاري (فتح الباري 10 / 216) ومسلم (3 / 1310) واللفظ له.
(2) كشاف القناع 6 / 60، والبدائع 7 / 255.
(29/222)
وَأَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَصَبَةِ (1) .
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اقْتَتَلَتِ
امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ
فَقَتَلَتْهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرِثَهَا
وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ
الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا
وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْل عَلَى عَصَبَتِهَا (3) .
وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ يَعْقِل عَنْ مَوَالِي صَفِيَّةَ بِنْتِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (4) لأَِنَّهُ ابْنُ أَخِيهَا
دُونَ ابْنِهَا الزُّبَيْرِ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ
أَقَارِبَهُ أَخَصُّ، إِذْ لَهُمْ غُنْمُ الإِْرْثِ فَيَلْزَمُهُمُ
الْغُرْمُ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (5) .
__________
(1) حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية. . .) . أخرجه مسلم
(3 / 1310 - 1311) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) حديث: (اقتتلت امرأتان من هذيل. . .) . تقدم فـ 2.
(3) حديث: (ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت. . .) . أخرجه مسلم
(3 / 1309) من حديث أبي هريرة.
(4) أثر عمر (قضى على علي رضي الله عنه بأن يعقل. . .) . أخرجه البيهقي (8
/ 107) وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 37) بالانقطاع.
(5) المهذب 2 / 212، والقليوبي وعميرة 4 / 154، وبداية المجتهد 2 / 449،
والمغني 9 / 515، ومغني المحتاج 4 / 96.
(29/222)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْقَوْل:
إِنَّ الْعَاقِلَةَ هُمْ أَهْل الدِّيوَانِ إِنْ كَانَ الْقَاتِل مِنْهُمْ،
وَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ،
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عِنْدَمَا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ (1) جَعَل الدِّيَةَ عَلَى أَهْل
الدِّيوَانِ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاتِل مِنْ أَهْل الدِّيوَانِ
فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنَ النَّسَبِ (2) .
وَلاَ يُؤَدِّي الْجَانِي مِنَ الدِّيَةِ شَيْئًا مَعَ الْعَاقِلَةِ
لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ
عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنِ الْجَانِي مِنْ ضِمْنِهَا، وَهَذَا مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْجَانِيَ يَلْزَمُهُ
مِنَ الدِّيَةِ مِثْل مَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْعَاقِلَةِ؛ لأَِنَّ
الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ
يَنْصُرُ نَفْسَهُ كَمَا يَنْصُرُ غَيْرَهُ، وَأَنَّ الْعَاقِلَةَ
تَتَحَمَّل جِنَايَةً وُجِدَتْ مِنْهُ وَضَمَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ
هُوَ أَحَقَّ بِالتَّحَمُّل (4) .
__________
(1) أثر عمر (عندما دون الدواوين جعل الدية على أهل الديوان) . أخرجه ابن
أبي شيبة (9 / 248 - 285) وعبد الرزاق في المصنف (9 / 420) وأورده أبو يوسف
في كتاب الآثار ص (221) والزيلعي في نصب الراية (4 / 398 - 399) .
(2) المبسوط 27 / 125، 126.
(3) الأم 6 / 101، والمغني 9 / 516.
(4) المبسوط 27 / 126، وبداية المجتهد 2 / 449.
(29/223)
وَيَدْخُل الآْبَاءُ وَالأَْبْنَاءُ مَعَ
الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّهُمْ مِنَ الْعَصَبَةِ فَأَشْبَهُوا الإِْخْوَةَ
وَالأَْعْمَامَ وَلأَِنَّ الْعَقْل مَوْضُوعٌ عَلَى التَّنَاصُرِ وَهُمْ
مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنَّ الْعَصَبَةَ فِي تَحَمُّل الْعَقْل مُرَتَّبُونَ
كَمَا هُمْ فِي الْمِيرَاثِ فِي تَقْدِيمِ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ،
وَالآْبَاءُ وَالأَْبْنَاءُ أَحَقُّ الْعَصَبَاتِ بِمِيرَاثِهِ فَكَانُوا
أَوْلَى بِتَحَمُّل عَقْلِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْمَالِكِيَّةُ، الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ لَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ - وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَدْخُل الآْبَاءُ
وَالأَْبْنَاءُ مَعَ الْعَاقِلَةِ (2) لأَِنَّهُمْ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ
فَكَمَا لاَ يَتَحَمَّل الْجَانِي لاَ يَتَحَمَّلُونَ.
مِقْدَارُ الدِّيَةِ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ كُل مَا كَانَ أَرْشُهُ
نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ فَأَكْثَرَ لِقَضَاءِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ (3)
__________
(1) المبسوط 27 / 127، فتح القدير 1 / 399، وبداية المجتهد 2 / 449،
والمغني 9 / 516، منح الجليل 4 / 424.
(2) الأم 6 / 101، المغني والشرح الكبير 9 / 514، 515، مغني المحتاج 4 /
95.
(3) حديث: (قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالغرة التي في الجنين على
العاقلة. . .) . أخرجه مسلم (3 / 1310) من حديث أبي هريرة، انظر المغني 9 /
737.
(29/223)
وَمِقْدَارُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ،
لأَِنَّ مَنْ حَمَل الْكَثِيرَ حَمَل الْقَلِيل كَالْجَانِي فِي الْعَمْدِ
(2) .
وَتُلْزَمُ الْعَاقِلَةُ بِدَفْعِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ فِي مُضِيِّ
سَنَةٍ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَعَلَيْهَا أَنْ تُؤَدِّيَ
الثُّلُثَ فِي مُضِيِّ سَنَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ تُؤَدِّيهِ فِي
مُضِيِّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ، فَمَا جَاوَزَ
الثُّلُثَيْنِ فَيُؤَدِّي فِي مُضِيِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ إِذَا كَانَ
الْوَاجِبُ أَقَل مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ
الضَّمَانِ عَلَى الْجَانِي؛ لأَِنَّهُ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ وَبَدَل
مُتْلَفِهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلِمَا رُوِيَ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي
الدِّيَةِ أَنْ لاَ يُحْمَل مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَقْل
الْمَأْمُومَةِ (3) وَأَنَّ الأَْصْل فِي الضَّمَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الْمُتْلِفِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ فِي الثُّلُثِ فَصَاعِدًا تَخْفِيفًا عَنِ
الْجَانِي لِكَوْنِهِ كَثِيرًا، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 177.
(2) الأم 6 / 101.
(3) أثر عمر (أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شيء حتى. . .) . أورده ابن
قدامة في المغني (7 / 777) ولم يعزه لأحد ولم نهتد إليه في المصادر
الموجودة لدينا.
(29/224)
كَثِيرٌ (1) فَيَبْقَى مَا دُونَ الثُّلُثِ
عَلَى الأَْصْل (2) .
الْقَتْل الَّذِي تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ دِيَتَهُ:
5 - لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْقَتْل الْعَمْدِ، وَلاَ دِيَةَ
الْقَتْل الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ الْجَانِي
عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ الْقَتْل الَّذِي يُنْكِرُهُ الْجَانِي وَيُصَالَحُ
الْمُدَّعِي عَلَى مَالٍ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال: لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ
صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا (3) وَلأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ
بِإِقْرَارِهِ لَوَجَبَ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ وَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُ
شَخْصٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي أَنْ يَكُونَ
مُتَوَاطِئًا مَعَ مَنْ يُقِرُّ لَهُ، فَيَأْخُذُ الدِّيَةَ مِنْ
عَاقِلَتِهِ فَيُقَاسِمُهُ إِيَّاهَا، وَلأَِنَّ بَدَل الصُّلْحِ ثَبَتَ
بِمُصَالَحَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَلاَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْمَال
الَّذِي يَثْبُتُ بِالاِعْتِرَافِ.
وَلاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ شَيْئًا عَنِ الْقَتْل الْعَمْدِ،
__________
(1) حديث: " الثلث كثير ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 369) ومسلم (3 /
1252) من حديث ابن عباس.
(2) المغني 9 / 505 - 506.
(3) حديث: (لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا. . .) . أخرجه البيهقي (8 / 104)
موقوفا على ابن عباس. وذكره الزيلعى في نصب الراية (4 / 379) وقال: غريب
مرفوعا وذكر قول ابن عباس بلفظ " لا تعقل العاقلة. . . ".
(29/224)
لأَِنَّهُ عَامِدٌ فَلاَ يَسْتَحِقُّ
التَّخْفِيفَ وَلاَ الْمُعَاوَنَةَ (1) .
مِقْدَارُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ:
6 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ هُنَاكَ مِقْدَارٌ
مُعَيَّنٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ، بَل يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى
اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَسَبَ
حَالَتِهِ الْمَالِيَّةِ كَالنَّفَقَةِ (2) قَال تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (3) } وَلأَِنَّ تَعْيِينَ مِقْدَارٍ
فِيهِ حَرَجٌ عَلَيْهِمْ، فَرُبَّمَا تَحَمَّلُوا مَا لاَ يُطِيقُونَهُ،
قَال تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) }
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُؤْخَذُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ
ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلاَ يُزَادُ عَلَى
ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الأَْخْذَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ
تَخْفِيفًا عَنِ الْقَاتِل، فَلاَ يَجُوزُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِمْ
بِالزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ إِذَا
كَانَتِ الْعَاقِلَةُ كَثِيرَةً، فَإِنْ قُلْتَ الْعَاقِلَةُ يُضَمُّ
إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِل إِلَيْهِمْ مِنَ النَّسَبِ، حَتَّى لاَ
يُصِيبَ الْوَاحِدَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ (5) "
__________
(1) رد المحتار 5 / 412، المغني 7 / 775 - 777 ط. الرياض، القليوبي 4 / 176
وجواهر الإكليل 2 / 271.
(2) بداية المجتهد 2 / 449، والمغني 9 / 520 - 521.
(3) سورة البقرة - الآية: 286.
(4) سورة الحج الآية 78.
(5) بدائع الصنائع 7 / 256.
(29/225)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يُؤْخَذُ مِنْ كُل
وَاحِدٍ نِصْفُ دِينَارٍ إِذَا كَانُوا أَغْنِيَاءً، وَفِي الْوَسَطِ
رُبْعُ دِينَارٍ، لأَِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ (1) . وَقَال
الْفُقَهَاءُ: لاَ يُؤْخَذُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
وَالْمَجَانِينِ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ الَّتِي تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ
فِيهَا مَعْنَى التَّنَاصُرِ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْل
النُّصْرَةِ، وَلأَِنَّ الدِّيَةَ صِلَةٌ وَتَبَرُّعٌ بِالإِْعَانَةِ
وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ لَيْسُوا مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُؤْخَذُ مِنَ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقَوْله تَعَالَى:
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ (2) } وَلأَِنَّ تَحَمُّل الدِّيَةِ
مُوَاسَاةٌ فَلاَ يَلْزَمُ الْفَقِيرَ كَالزَّكَاةِ، وَلأَِنَّهَا وَجَبَتْ
لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْقَاتِل، فَلاَ يَجُوزُ التَّثْقِيل بِهَا عَلَى مَنْ
لاَ جِنَايَةَ مِنْهُ، وَفِي إِيجَابِهَا عَلَى الْفَقِيرِ تَثْقِيلٌ
عَلَيْهِ وَتَكْلِيفٌ بِمَا لاَ يُقْدَرُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ
الْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقَدْ لاَ
يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ (3) .
عَاقِلَةُ اللَّقِيطِ وَالذِّمِّيِّ الَّذِي يُسْلِمُ:
7 - إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي عَاقِلَةٌ كَاللَّقِيطِ
__________
(1) الأم 6 / 102.
(2) سورة الطلاق الآية / 7.
(3) ابن عابدين 5 / 413، القوانين الفقهية ص 228، المهذب للشيرازي 2 / 214
المغني لابن قدامة 7 / 790.
(29/225)
وَالذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ
فَعَاقِلَتُهُ بَيْتُ الْمَال (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ أَعْقِل عَنْهُ
وَأَرِثُهُ (2)
عَام
انْظُرْ: سَنَة
__________
(1) ابن عابدين 5 / 114، المواق 6 / 266، روضة الطالبين 9 / 354، المغني
لابن قدامة 7 / 791.
(2) حديث: " أنا وراث من لا وارث له: أعقل عنه وأرثه. ". أخرجه أبو داود (3
/ 320) وابن ماجه (2 / 915) في حديث المقداد بن معدي كرب. وأورده ابن القيم
في تهذيب السنة (4 / 171) روايات الحديث وحسنها.
(29/226)
عَامِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَامِل فِي اللُّغَةِ بِوَزْنِ فَاعِلٍ مِنْ عَمِل، يُقَال:
عَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا.
وَيُطْلَقُ الْعَامِل وَيُرَادُ بِهِ: الْوَالِي، وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ
وَعَامِلُونَ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول الثَّانِي بِالْهَمْزَةِ،
فَيُقَال: أَعْمَلْتُهُ كَذَا، وَاسْتَعْمَلْتُهُ أَيْ: جَعَلْتُهُ
عَامِلاً، أَوْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَعْمَل، وَعَمَّلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ
بِالتَّشْدِيدِ: وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ.
وَالْعُمَالَةُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ -: أُجْرَةُ الْعَامِل، وَالْكَسْرُ
لُغَةٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَامِل عَلَى الزَّكَاةِ هُوَ: الْمُتَوَلِّي
عَلَى الصَّدَقَةِ وَالسَّاعِي لِجَمْعِهَا مِنْ أَرْبَابِ الْمَال،
وَالْمُفَرِّقُ عَلَى أَصْنَافِهَا إِذَا فَوَّضَهُ الإِْمَامُ بِذَلِكَ
(1) .
وَالْعَامِل بِمَعْنَى الْوَالِي: هُوَ مَنْ يُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ
أَمِيرًا عَلَى إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ يَسْتَعْمِلُهُ
__________
(1) المصباح المنير، المغرب في ترتيب المعرب، المفردات في غريب القرآن
للأصفهاني مادة: عمل، جواهر الإكليل 1 / 138، حاشية ابن عابدين 2 / 59، 37.
(29/226)
فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ (1) .
وَأَحْكَامُ هَذَا الْمُصْطَلَحِ خَاصَّةً بِعَامِل الزَّكَاةِ، أَمَّا
الْعَامِل بِمَعْنَى الْوَالِي فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي: (إِمَارَة،
وَوِلاَيَة) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَاشِرُ:
2 - الْعَاشِرُ: هُوَ مَنْ نَصَّبَهُ الإِْمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ
لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنَ التُّجَّارِ مِمَّا يَمُرُّونَ بِهِ عَلَيْهِ
عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ: عَشَرْتُ
الْمَال عَشْرًا - مِنْ بَابِ قَتَل - وَعُشُورًا: أَخَذْتُ عُشْرَهُ
وَاسْمُ الْفَاعِل عَاشِرٌ وَعَشَّارٌ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - تَعْيِينُ الْعُمَّال لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى
مُسْتَحِقِّيهَا وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَلِّي الْعُمَّال ذَلِكَ،
وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الأَْمْوَال (3) ، وَقَدِ اسْتَعْمَل
عُمَرُ بْنُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 30.
(2) المصباح المنير، التعريفات للجرجاني (مادة: عشر) وحاشية ابن عابدين 2 /
38، 59.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يولي العمال لقبض الزكاة
". ورد عن جمع من الصحابة بمعناه، منهم عمر بن الخطاب كما أخرجه مسلم (2 /
676 - 677) من حديث أبي هريرة.
(29/227)
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَيْهَا (1) وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يُرْسِلُونَ
عُمَّالَهُمْ لِقَبْضِهَا، وَلأَِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَال
وَلاَ يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَل
بِالزَّكَاةِ.
مَنْ يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْعَامِل:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَامِل عَلَى الزَّكَاةِ
مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِهَا الثَّمَانِيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا (2) }
وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدْخُل فِي اسْمِ الْعَامِل:
السَّاعِي: وَهُوَ الَّذِي يَجْبِي الزَّكَاةَ وَيَسْعَى فِي الْقَبَائِل
لِجَمْعِهَا.
وَالْحَاشِرُ: وَهُوَ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ يَجْمَعُ أَرْبَابَ
الأَْمْوَال. وَثَانِيهُمَا: مَنْ يَجْمَعُ ذَوِي السِّهَامِ مِنَ
الأَْصْنَافِ.
وَالْعَرِيفُ: وَهُوَ كَالنَّقِيبِ لِلْقَبِيلَةِ، وَهُوَ الَّذِي
يُعَرِّفُ السَّاعِيَ أَهْل الصَّدَقَاتِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ.
وَالْكَاتِبُ: وَهُوَ الَّذِي يَكْتُبُ مَا أَعْطَاهُ أَرْبَابُ
الصَّدَقَاتِ مِنَ الْمَال، وَيَكْتُبُ لَهُمْ
__________
(1) حديث: " أنه استعمل عمر على قبض الزكاة. . . ". أخرجه البخاري (13 /
150) ومسلم (2 / 724) من حديث عبد الله بن السعدي.
(2) سورة التوبة / 60.
(29/227)
بَرَاءَةً بِالأَْدَاءِ، وَيَكْتُبُ
كَذَلِكَ مَا يُدْفَعُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ.
وَالْقَاسِمُ: وَهُوَ الَّذِي يَقْسِمُ أَمْوَال الزَّكَاةِ بَيْنَ
مُسْتَحِقِّيهَا.
وَيَدْخُل فِي اسْمِ الْعَامِل كَذَلِكَ: الْحَاسِبُ، وَالْخَازِنُ،
وَحَافِظُ الْمَال، وَالْعَدَّادُ، وَالْكَيَّال، وَالْوَزَّانُ،
وَالرَّاعِي لِمَوَاشِي الصَّدَقَةِ، وَالْحَمَّال، وَكُل مَنْ يُحْتَاجُ
إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الصَّدَقَةِ، حَتَّى إِذَا لَمْ تَقَعِ الْكِفَايَةُ
بِسَاعٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَاتِبٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَاسِبٍ وَاحِدٍ، أَوْ
حَاشِرٍ أَوْ نَحْوِهِ زِيدَ فِي الْعَدَدِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.
مُؤْنَةُ جَمْعِ الزَّكَاةِ:
5 - أُجْرَةُ كَيْل أَمْوَال الصَّدَقَةِ وَوَزْنِهَا، وَمُؤْنَةُ
دَفْعِهَا مِنَ الْمَالِكِ إِلَى السَّاعِي عَلَى رَبِّ الْمَال، وَكَذَا
أُجْرَةُ الْكَيَّال وَالْوَزَّانِ وَالْعَادِّ الَّذِي يُمَيِّزُ
الزَّكَاةَ مِنَ الْمَال، لأَِنَّهَا لِتَوْفِيَةِ الْوَاجِبِ،
كَالْبَائِعِ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْكَيْل وَالْوَزْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ.
أَمَّا أُجْرَةُ الْكَيَّال وَالْوَزَّانِ وَالْعَادِّ الَّذِي يُمَيِّزُ
بَيْنَ مُسْتَحِقَّاتِ الأَْصْنَافِ فَعَلَى سَهْمِ الْعَامِل بِلاَ
خِلاَفٍ. إِذْ لَوِ أَلْزَمْنَاهَا الْمَالِكَ لَزِدْنَا فِي قَدْرِ
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ (1)
__________
(1) البدائع 2 / 44، حاشية ابن عابدين 2 / 38، 59، جواهر الإكليل 1 / 138،
المجموع للنووي 6 / 187، مغني المحتاج 3 / 109، روضة الطالبين 2 / 313،
المغني لابن قدامة 2 / 654، كشاف القناع 2 / 274.
(29/228)
شُرُوطُ الْعَامِل:
6 - يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِل أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلاً بَالِغًا
عَدْلاً سَمِيعًا ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَبْوَابِ
الزَّكَاةِ، لِيَعْلَمَ مَا يَأْخُذُهُ، وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ،
وَلِئَلاَّ يَأْخُذَ غَيْرَ الْوَاجِبِ، أَوْ يُسْقِطَ الْوَاجِبَ،
وَلِئَلاَّ يَدْفَعَ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ يَمْنَعَ عَنْ
مُسْتَحِقٍّ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مُفَوَّضًا مِنَ الإِْمَامِ لِعُمُومِ
أَمْرِ الزَّكَاةِ، أَيْ: أَخْذِهَا مِنْ أَرْبَابِ الأَْمْوَال
وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُو
إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي جَمْعِ الزَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ
مُفَوَّضًا تَفْوِيضًا عَامًّا، كَأَنْ يَكُونَ مُنَفِّذًا فَقَطْ، عَيَّنَ
لَهُ الإِْمَامُ مَا يَأْخُذُهُ وَمَنْ يُعْطِيهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ عَالِمًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ كَانَ
يَبْعَثُ الْعُمَّال وَيَكْتُبُ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَ (1) ، وَكَذَلِكَ
فَعَل أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَّالِهِ، وَلأَِنَّ هَذِهِ
رِسَالَةٌ لاَ وِلاَيَةٌ.
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث العمال ويكتب لهم ما يأخذون
". ورد ذلك مع الصحابي قرة بن دعموص النميري في قصة أخرجها أحمد (5 / 72)
من حديث جرير بن حازم، وأوردها الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 82) وقال:
رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(29/228)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْحُرِّيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اشْتِرَاطِ
الْحُرِّيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعَامِل عَبْدًا،
لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَإِنِ اسْتُعْمِل عَلَيْكُمْ عَبْدٌ (1) الْحَدِيثَ.
ثَانِيهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ هَاشِمِيًّا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 144، وَجِبَايَة ف 13) .
مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل:
7 - إِذَا تَوَلَّى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَ زَكَاةِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ
سَقَطَ حَقُّ الْعَامِل مِنْهَا؛ لأَِنَّ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ
بِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَل فِيهَا شَيْئًا فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا،
وَتُوَزَّعُ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ عَلَى الأَْصْنَافِ السَّبْعَةِ
الأُْخْرَى.
وَالإِْمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْعَامِل، إِنْ شَاءَ أَرْسَلَهُ لأَِخْذِ
الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ تَسْمِيَةِ شَيْءٍ، بَل يَدْفَعُ
إِلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ السَّاعِدِيِّ قَال:
اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى
الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا
__________
(1) حديث: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 13 / 121) من حديث أنس بن مالك.
(29/229)
وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي
بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى
اللَّهِ، قَال: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُول
اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْل
قَوْلِكَ، فَقَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَل فَكُل وَتَصَدَّقْ (1) .
وَإِنْ شَاءَ عَقَدَ لَهُ عَقْدًا وَاسْتَأْجَرَهُ إِجَارَةً صَحِيحَةً
سَمَّى لَهُ فِيهَا قَدْرَ أُجْرَتِهِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ مَا سَمَّى
لَهُ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ.
8 - وَإِذَا زَادَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَى أُجْرَتِهِ رَدَّ الْفَاضِل
عَلَى سَائِرِ الأَْصْنَافِ، وَقَسَمَ عَلَى سِهَامِهِمْ.
أَمَّا إِنْ كَانَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ أَقَل مِنْ أُجْرَتِهِ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
يُكَمَّل لَهُ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ الَّتِي بِيَدِهِ، بِشَرْطِ أَلاَّ
يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ مَا قَبَضَهُ؛ لأَِنَّ التَّنْصِيفَ هُوَ عَيْنُ
الإِْنْصَافِ، وَلاَ يُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَال شَيْئًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ مِنْ أَمْوَال
الزَّكَاةِ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ أَمْوَال الزَّكَاةِ الَّتِي
بِيَدِهِ لأَِنَّهَا أُجْرَةُ عَمَلِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ، وَلَكِنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا مِنْ أَيْنَ يُتَمَّمُ لَهُ؟ فَالْمَذْهَبُ
__________
(1) حديث: " إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل. . . ". أخرجه مسلم (2 / 723 -
724) .
(29/229)
عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يُتَمَّمُ مِنْ حَقِّ
سَائِرِ الأَْصْنَافِ، لأَِنَّهُ يَعْمَل لَهُمْ، فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ
عَلَيْهِمْ، وَقِيل: يُتَمَّمُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَعَل لِكُل صِنْفٍ سَهْمًا، فَلَوْ قَسَمْنَا ذَلِكَ عَلَى
الأَْصْنَافِ وَنَقَصْنَا حَقَّهُمْ فَضَّلْنَا الْعَامِل عَلَيْهِمْ.
وَقِيل: الإِْمَامُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ
الْمَصَالِحِ وَإِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ مِنْ سِهَامِ الأَْصْنَافِ
الأُْخْرَى، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الْحَاكِمَ حَيْثُ يَسْتَوْفِي بِهِ حَقَّ
الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ، وَيُشْبِهُ الأَْجِيرَ، فَخُيِّرَ
بَيْنَ حَقَّيْهِمَا.
وَقِيل: إِنْ كَانَ الإِْمَامُ بَدَأَ بِنَصِيبِ الْعَامِل، فَوَجَدَهُ
يَنْقُصُ تَمَّمَ مِنْ سِهَامِ الأَْصْنَافِ الأُْخْرَى، وَإِنْ كَانَ
بَدَأَ بِسِهَامِ الأَْصْنَافِ الأُْخْرَى فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ وَجَدَ
سَهْمَ الْعَامِل يَنْقُصُ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لأَِنَّهُ
يَشُقُّ عَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ.
وَقِيل: إِنْ فَضَل عَنْ قَدْرِ حَاجَةِ الأَْصْنَافِ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنَ
الْفَضْل، فَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَنْهُمْ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنْ سَهْمِ
الْمَصَالِحِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْخِلاَفُ فِي جَوَازِ التَّكْمِيل مِنْ أَمْوَال
الزَّكَاةِ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّكْمِيل مِنْ
سَهْمِ الْمَصَالِحِ مُطْلَقًا، بَل لَوْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ يَجْعَل
أُجْرَةَ الْعَامِل كُلَّهَا فِي بَيْتِ الْمَال، وَيَقْسِمُ الزَّكَاةَ
عَلَى سَائِرِ الأَْصْنَافِ
(29/230)
جَازَ، لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال لِمَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ مِنْ أَمْوَال
الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ أَمْوَال
الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل أُجْرَةٌ، إِلاَّ أَنَّ
الإِْمَامَ إِذَا رَأَى إِعْطَاءَ الْعَامِل أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ
الْمَال، وَيُوَفِّرُ الزَّكَاةَ عَلَى بَاقِي الأَْصْنَافِ جَازَ لَهُ،
وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَل لَهُ رِزْقًا ثَابِتًا فِي بَيْتِ الْمَال
نَظِيرَ عِمَالَتِهِ، وَلاَ يُعْطِيهِ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ شَيْئًا
جَازَ كَذَلِكَ (1) .
تَلَفُ مَال الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْعَامِل:
9 - لَوْ تَلِفَ مَال الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْعَامِل بِلاَ تَفْرِيطٍ أَوْ
تَقْصِيرٍ لَمْ يَضْمَنْ؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ كَالْوَكِيل: وَنَاظِرُ مَال
الْيَتِيمِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِلاَ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ.
أَمَّا إِذَا تَلِفَ الْمَال بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، بِأَنْ قَصَّرَ فِي
حِفْظِهِ أَوْ عَرَفَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَأَمْكَنَهُ التَّفْرِيقُ
عَلَيْهِمْ فَأَخَّرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ
بِذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْعِ أُجْرَتِهِ إِذَا تَلِفَ الْمَال بِدُونِ
تَفْرِيطٍ مِنْهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 60، جواهر الإكليل 1 / 138، المجموع للنووي 6 /
175، 187، 188، روضة الطالبين 2 / 327، مغني المحتاج 3 / 109، 116، المغني
لابن قدامة 2 / 668، كشاف القناع 2 / 276، 277.
(29/230)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ، وَتُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ
أَجِيرٌ، وَلأَِنَّ بَيْتَ الْمَال لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا
مِنْهَا.
وَعِنْدَهُمْ أَيْضًا: يَسْتَحِقُّ الْعَامِل الزَّكَاةَ بِعَمَلِهِ عَلَى
سَبِيل الأُْجْرَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّهُ يَسْقُطُ، كَنَفَقَةِ
الْمُضَارِبِ تَكُونُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَتْ
نَفَقَتُهُ؛ لأَِنَّ الْعَامِل عِنْدَهُمْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ
بِعَمَلِهِ عَلَى سَبِيل الْكِفَايَةِ لاِشْتِغَالِهِ بِهَا، لاَ عَلَى
سَبِيل الأُْجْرَةِ؛ لأَِنَّ الأُْجْرَةَ مَجْهُولَةٌ (2) .
بَيْعُ الْعَامِل مَال الزَّكَاةِ:
10 - قَال الْفُقَهَاءُ: لاَ يَجُوزُ لِلسَّاعِي بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَال
الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، بَل يُوصِلُهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ
بِأَعْيَانِهَا إِذَا كَانَ مُفَوَّضًا لِلتَّفْرِيقِ عَلَيْهِمْ؛ لأَِنَّ
أَهْل الزَّكَاةِ أَهْل رُشْدٍ لاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ
بَيْعُ مَالِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ، أَوْ يُوصِلُهَا إِلَى الإِْمَامِ
إِذَا لَمْ يَكُنْ مُفَوَّضًا لِلتَّفْرِيقِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ بَاعَ
بِلاَ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ.
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 175، مغني المحتاج 3 / 119، جواهر الإكليل 2 / 139،
البدائع 2 / 44، كشاف القناع 2 / 276.
(2) البدائع 2 / 44، حاشية ابن عابدين 2 / 38، 59.
(29/231)
فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةُ الْبَيْعِ،
كَأَنْ خَافَ هَلاَكَ بَعْضِ الْمَاشِيَةِ، أَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ
خَطَرٌ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى رَدِّ جُبْرَانٍ، أَوْ إِلَى مُؤْنَةِ
النَّقْل، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ لِلضَّرُورَةِ (1) .
مَا يُسْتَحَبُّ فِي جَمْعِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا:
11 - يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَوِ الْعَامِل أَنْ يُعَيِّنَ لِلنَّاسِ
شَهْرًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ لأَِخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي
يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا حَوَلاَنُ الْحَوْل عَلَيْهَا،
كَالْمَوَاشِي وَالنُّقُودِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهْرُ مِنَ السَّنَةِ هُوَ شَهْرُ
الْمُحَرَّمِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا شَهْرُ
زَكَاتِكُمْ (2) وَلأَِنَّهُ أَوَّل السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ،
وَلِيَتَهَيَّأَ أَرْبَابُ الأَْمْوَال لِدَفْعِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ،
وَيَتَهَيَّأَ الْمُسْتَحِقُّونَ لأَِخْذِ الزَّكَاةِ، وَالأَْفْضَل أَنْ
يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ قَبْل شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، لِيَصِل إِلَيْهِمْ فِي
أَوَّلِهِ.
أَمَّا فِيمَا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 175، مغني المحتاج 3 / 119، المغني لابن قدامة 2 /
674.
(2) حديث: " هذا شهر زكاتكم ". أخرجه مالك (322) وأبو عبيد في الأموال
(177) موقوفا على عثمان بن عفان وأخرجه البيهقي (4 / 148) وقال: رواه
البخاري في الصحيح عن أبي اليمان، وأراد بذلك أن أصله في البخاري كما في
التلخيص الحبير (2 / 164) .
(29/231)
كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَيَبْعَثُ
الإِْمَامُ الْعُمَّال لأَِخْذِ زَكَوَاتِهَا وَقْتَ وُجُوبِهَا، وَهُوَ
وَقْتُ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي كَذَلِكَ: أَنْ يَعُدَّ الْمَاشِيَةَ عَلَى
الْمَاءِ إِنْ كَانَتْ تَرِدُ الْمَاءَ، وَفِي أَفْنِيَتِهِمْ إِنْ لَمْ
تَكُنْ تَرِدُ الْمَاءَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مِيَاهِهِمْ أَوْ عِنْدَ
أَفْنِيَتِهِمْ (1) .
فَإِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْمَال بِعَدَدِهَا - وَهُوَ ثِقَةٌ - فَلَهُ
أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَعْمَل بِقَوْلِهِ؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ
يُصَدِّقْهُ، أَوْ أَرَادَ الاِحْتِيَاطَ بَعْدَهَا عَدَّهَا.
فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعَدِّ بَعْدَ الْعَدِّ، وَكَانَ الْفَرْضُ
يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، أَعَادَ الْعَدَّ ثَانِيَةً.
وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَال فِي حَوَلاَنِ الْحَوْل كَأَنْ
يَقُول الْمَالِكُ: لَمْ يَحِل الْحَوْل بَعْدُ، وَيَقُول السَّاعِي: بَل
حَال الْحَوْل، أَوْ قَال الْمَالِكُ: هَذِهِ السِّخَال تَوَلَّدَتْ بَعْدَ
الْحَوْل، وَقَال السَّاعِي: بَل تَوَلَّدَتْ قَبْلَهُ، أَوْ قَال
__________
(1) حديث: " تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم. . . ". أخرجه أبو داود
الطيالسي في مسنده (ص299) من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه ابن ماجه (1 /
577) بلفظ مقارب، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 318) ، ولكن
له شاهدًا من حديث عائشة أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 79) وقال:
رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
(29/232)
السَّاعِي: كَانَتْ مَاشِيَتُكَ نِصَابًا
ثُمَّ تَوَالَدَتْ، وَقَال الْمَالِكُ: بَل مَاشِيَتِي تَمَّتْ نِصَابًا
بِالتَّوْلِيدِ، فَالْقَوْل قَوْل الْمَالِكِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ
وَنَظَائِرُهَا مِمَّا لاَ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، لأَِنَّ الأَْصْل
بَرَاءَتُهُ، وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرِّفْقِ.
وَإِنْ رَأَى السَّاعِي - الْمُفَوَّضُ فِي قَبْضِ الزَّكَاةِ
وَتَفْرِيقِهَا - الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوَكِّل مَنْ يَأْخُذُهَا مِنَ
الْمُزَكِّي عِنْدَ حُلُولِهَا وَيُفَرِّقَهَا عَلَى أَهْلِهَا فَعَل.
وَإِنْ وَثِقَ بِصَاحِبِ الْمَال، وَرَأَى أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ
تَفْرِيقَهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَعَل أَيْضًا، لأَِنَّ الْمَالِكَ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ زَكَاتَهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِغَيْرِ
إِذْنِ الْعَامِل، فَمَعَ إِذْنِهِ أَوْلَى.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ السَّاعِي - لأَِخْذِ زَكَاةِ الزُّرُوعِ
وَالثِّمَارِ - مَنْ يَخْرُصُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى خَرْصِهِ، وَيَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَارِصَانِ ذَكَرَانِ حُرَّانِ.
كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ - أَوِ الْعَامِل إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا
لِلْقِسْمَةِ - أَنْ يَكُونَ عَارِفًا عَدَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَقَدْرَ
حَاجَتِهِمْ، لِيَتَعَجَّل حُقُوقَهُمْ، وَلِيَأْمَنَ هَلاَكَ الْمَال
عِنْدَهُ.
وَيَبْدَأُ فِي الْقِسْمَةِ بِالْعَامِلِينَ، لأَِنَّ
(29/232)
اسْتِحْقَاقَهُمْ أَقْوَى، لِكَوْنِهِمْ
يَأْخُذُونَ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَغَيْرُهُمْ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ
الْمُوَاسَاةِ (1) .
عَامّ
انْظُرْ: عُمُوم.
عَانِسٌ
انْظُرْ: عُنُوس.
__________
(1) المراجع السابقة، وجواهر الإكليل 1 / 139، حاشية ابن عابدين 2 / 39.
(29/233)
عَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَانَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الشَّعْرُ النَّابِتُ فَوْقَ
الْفَرْجِ، وَتَصْغِيرُهَا عُوَيْنَةٌ وَقِيل: هِيَ الْمَنْبَتُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ
مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، قَال الْعَدَوِيُّ وَالنَّفْرَاوِيُّ: الْعَانَةُ:
هِيَ مَا فَوْقَ الْعَسِيبِ وَالْفَرْجِ وَمَا بَيْنَ الدُّبُرِ
وَالأُْنْثَيَيْنِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْعَانَةِ الشَّعْرُ الَّذِي فَوْقَ
ذَكَرِ الرَّجُل وَحَوَالَيْهِ وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ الَّذِي حَوَالَيْ
فَرْجِ الْمَرْأَةِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَانَةِ:
حَلْقُ الْعَانَةِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْعَانَةِ سُنَّةٌ، وَيَرَى
الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبَ
__________
(1) المغرب والمصباح المنير.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 353 ط والحلبي، والفواكه الدواني 2 /
401.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148، والمجموع 1 / 289.
(29/233)
حَلْقِ الْعَانَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِذَا
أَمَرَهَا زَوْجُهَا بِذَلِكَ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ حَلْقِ الْعَانَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ
الإِْزَالَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ إِزَالَةِ شَعْرِ
الْعَانَةِ بِأَيِّ مُزِيلٍ مِنْ حَلْقٍ وَقَصٍّ وَنَتْفٍ وَنَوْرَةٍ (2) ،
لأَِنَّ أَصْل السُّنَّةِ يَتَأَدَّى بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ مُزِيلٍ (3) ،
كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَل
لإِِزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ فِي حَقِّ الرَّجُل (4) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ
الأَْوْلَى فِي حَقِّهَا النَّتْفُ (5) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالنَّوَوِيُّ فِي قَوْلٍ إِلَى
تَرْجِيحِ الْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ (6) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي
النَّهْيِ عَنْ طُرُوقِ النِّسَاءِ لَيْلاً حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ
وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ (7) .
__________
(1) المجموع 1 / 289، وكفاية الطالب الرباني 2 / 353 ط. الحلبي، وابن
عابدين 5 / 261، والفروع 1 / 130.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148، وكشاف القناع 1 / 76، والمغني 1 / 86.
(3) فتح الباري 10 / 344.
(4) فتح الباري 10 / 344، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148، والمغني 1 / 86،
وكفاية الطالب الرباني 2 / 353 ط. الحلبي، وابن عابدين 5 / 261، والاختيار
4 / 167.
(5) ابن عابدين 5 / 261، وحاشية الجمل 2 / 48، وفتح الباري 10 / 344.
(6) كفاية الطالب الرباني 2 / 353 - 354، وفتح الباري 10 / 344.
(7) حديث جابر: في النهي عن طروق النساء ليلا. أخرجه البخاري (فتح الباري 9
/ 341) .
(29/234)
قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ
بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّهُمْ
يَرَوْنَ أَفْضَلِيَّةَ الْحَلْقِ (1) .
تَوْقِيتُ حَلْقِ الْعَانَةِ:
4 - يُسْتَحَبُّ حَلْقُ الْعَانَةِ فِي كُل أُسْبُوعٍ مَرَّةً، وَجَازَ فِي
كُل خَمْسَةَ عَشْرَ، وَكُرِهَ تَرْكُهُ وَرَاءَ الأَْرْبَعِينَ (2) ،
لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ
الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ وَنَتْفِ الإِْبِطِ وَحَلْقِ
الْعَانَةِ أَنْ لاَ نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (3) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: ذِكْرُ الأَْرْبَعِينَ تَحْدِيدٌ
لأَِكْثَرِ الْمُدَّةِ، وَلاَ يَمْنَعُ تَفَقُّدَ ذَلِكَ مِنَ الْجُمُعَةِ
إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ: الاِحْتِيَاجُ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ
الأَْحْوَال وَالأَْشْخَاصِ، وَالضَّابِطُ: الْحَاجَةُ فِي هَذَا وَفِي
جَمِيعِ الْخِصَال الْمَذْكُورَةِ (4) ، (أَيْ خِصَال الْفِطْرَةِ) .
دَفْنُ شَعْرِ الْعَانَةِ:
5 - يُسْتَحَبُّ دَفْنُ مَا أُخِذَ مِنْ شَعْرِ الْعَانَةِ
__________
(1) الإنصاف 1 / 122، والفروع 1 / 130، والمغني 1 / 86.
(2) الدر المختار 5 / 261، وكشاف القناع 1 / 76.
(3) حديث أنس: وقت لنا في قص الشارب. أخرجه مسلم (1 / 222)
(4) فتح الباري 10 / 346.
(29/234)
وَمُوَارَاتُهُ فِي الأَْرْضِ (1) .
قَال مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الرَّجُل يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ
وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيهِ؟ قَال يَدْفِنُهُ، قُلْتُ:
بَلَغَكَ فِيهِ شَيْءٌ؟ قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ.
وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ
بِدَفْنِ. الشَّعْرِ وَالأَْظْفَارِ (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدِ
اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا دَفْنَهَا لِكَوْنِهَا أَجْزَاءً مِنَ الآْدَمِيِّ
(3) .
حَلْقُ عَانَةِ الْمَيِّتِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِ الْمَيِّتِ (4)
، وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ (5) ، فَقَدْ
أَوْرَدَ الزَّرْقَانِيُّ أَثَرًا بِلَفْظِ يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ مَا
يُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُحْلَقُ وَلاَ يُنَوَّرُ (6) .
__________
(1) المجموع 1 / 289 - 290.
(2) المغني 1 / 88، وكشاف القناع 1 / 76. وحديث: " أمر بدفن الشعر والأظفار
". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5 / 232 - ط. دار الكتب العلمية) من حديث
وائل بن حجر، وقال البيهقي: (هذا إسناد ضعيف) .
(3) فتح الباري 10 / 346.
(4) الاختيار 1 / 92.
(5) الزرقاني 2 / 88، والتاج والإكليل 2 / 212.
(6) حديث: " يصنع بالميت ما يصنع بالعروس ". أورده ابن حجر في التلخيص (2 /
106) بلفظ: " افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم " وقال: قال ابن الصلاح:
بحثت عنه فلم أجده ثابتًا، وقال أبو شامة في كتاب السواك: هذا الحديث غير
معروف.
(29/235)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ
حَلْقِ شَعْرِ عَانَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ لَمْسِ عَوْرَتِهِ وَرُبَّمَا
احْتَاجَ إِلَى نَظَرِهَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فَلاَ يُرْتَكَبُ مِنْ أَجْل
مَنْدُوبٍ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ اسْتِحْبَابَ أَخْذِ شَعْرِ
عَانَةِ الْمَيِّتِ، وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي يَقُولُونَ بِكَرَاهَتِهِ
(2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: شَعْر) .
النَّظَرُ إِلَى الْعَانَةِ لِلضَّرُورَةِ:
7 - يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْعَانَةِ وَإِلَى الْعَوْرَةِ عَامَّةً
لِحَاجَةٍ مُلْجِئَةٍ (3) ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ
النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ بَدَنِهَا (بَدَنِ
الْمَرْأَةِ) مِنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ
(وَمِثْل ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُل) لِحَدِيثِ عَطِيَّةَ
الْقُرَظِيِّ قَال: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا
يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِل، وَمَنْ لَمْ يَنْبُتْ لَمْ
يُقْتَل فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يَنْبُتْ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ:
فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي مِنَ
السَّبْيِ (4) .
وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلاَمٍ قَدْ سَرَقَ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 97.
(2) المجموع 5 / 178 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج 3 / 133، وبدائع الصنائع 5 / 124. والمغني 6 / 558، وكشاف
القناع 1 / 265.
(4) حديث عطية القرظي: كنت من سبي قريظة. أخرجه أبو داود (4 / 561)
والترمذي (4 / 145) وقال: (حديث حسن صحيح) .
(29/235)
فَقَال: انْطُرُوا إِلَى مُؤْتَزَرِهِ
فَلَمْ يَجِدُوهُ أَنْبَتَ الشَّعْرَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ
فَالنَّظَرُ وَاللَّمْسُ مُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ وَلَوْ
فِي فَرْجٍ لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى ذَلِكَ، لأَِنَّ فِي
التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ حَرَجًا، فَلِلرَّجُل مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ
وَعَكْسُهُ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ
امْرَأَةٍ ثِقَةٍ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ جَوَازِ مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ امْرَأَةً
أَجْنَبِيَّةً يُنْظَرُ: (عَوْرَة)
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ حَلْقَ الْعَانَةِ لِمَنْ لاَ
يُحْسِنُهُ ضِمْنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُجِيزُ النَّظَرَ إِلَى
الْعَوْرَةِ (3) .
دَلاَلَةُ ظُهُورِ شَعْرِ الْعَانَةِ عَلَى الْبُلُوغِ:
8 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وَاللَّيْثُ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَنَّ الإِْنْبَاتَ - وَهُوَ ظُهُورُ الشَّعْرِ
الْخَشِنِ لِلْعَانَةِ - عَلاَمَةُ الْبُلُوغِ مُطْلَقًا (4) .
وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَبُو حَنِيفَةَ الإِْنْبَاتَ عَلاَمَةَ الْبُلُوغِ
مُطْلَقًا (5) .
__________
(1) المغني 6 / 558.
(2) مغني المحتاج 3 / 133.
(3) كشاف القناع 1 / 265.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 293. والمغني 4 / 509، وفتح الباري 5 / 277.
(5) عمدة القاري 13 / 239.
(29/236)
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدِ اعْتَبَرَ
الإِْنْبَاتَ أَمَارَةً عَلَى الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ،
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمُسْلِمِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: بُلُوغ فِقْرَةُ 10) .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَانَةِ:
9 - تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْل فِي قَطْعِ عَانَةِ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ
عَانَةُ الرَّجُل، لأَِنَّهُ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ
مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ فِيهَا
حُكُومَةُ الْعَدْل (2) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ وُجُوبِ حُكُومَةِ الْعَدْل وَكَيْفِيَّةِ
تَقْدِيرِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حُكُومَةُ عَدْلٍ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)
.
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 338، وفتح الباري 5 / 277.
(2) المغني 8 / 42، وأسنى المطالب 4 / 58، وانظر تبيين الحقائق شرح كنز
الدقائق 6 / 133، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 4 / 381.
(29/236)
عَاهَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَاهَةُ لُغَةً: الآْفَةُ، يُقَال: عِيهَ الزَّرْعُ عَلَى مَا لَمْ
يُسَمَّ فَاعِلُهُ - فَهُوَ مَعْيُوهٌ (1) .
وَعَاهَ الْمَال يَعِيهِ: أَصَابَتْهُ الْعَاهَةُ - أَيِ الآْفَةُ -
وَأَرْضٌ مَعْيُوهَةٌ: ذَاتُ عَاهَةٍ، وَأَعَاهُوا وَأَعْوَهُوا
وَعَوَّهُوا: أَصَابَتْ مَاشِيَتَهُمْ أَوْ زَرْعَهُمُ الْعَاهَةُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الْعَاهَةِ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَرَضُ:
2 - الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: السَّقَمُ
نَقِيضُ الصِّحَّةِ، وَقَال الْفَيُّومِيُّ: الْمَرَضُ حَالَةٌ خَارِجَةٌ
عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْل، وَالآْلاَمُ وَالأَْوْرَامُ أَعْرَاضٌ
عَنِ الْمَرَضِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ.
__________
(1) مختار الصحاح.
(2) القاموس المحيط.
(3) قواعد الفقه للبركني 371.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير.
(29/237)
فَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالَةِ الاِعْتِدَال
الْخَاصِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَرَضِ وَالْعَاهَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ،
يَجْتَمِعَانِ فِيمَا نَزَل بِالإِْنْسَانِ مِنِ اضْطِرَابِ شَأْنِهِ
أَنَّهُ يَزُول، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي شَخْصِهِ أَمْ كَانَ فِي
الْمَال، يَقُول الْجَوْهَرِيُّ: يُقَال: أَمْرَضَ الرَّجُل إِذَا وَقَعَ
فِي مَالِهِ عَاهَةٌ (2) .
وَتَنْفَرِدُ الْعَاهَةُ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى، كَالأَْقْطَعِ
فِي حَدٍّ مَثَلاً، فَهِيَ عَاهَةٌ لَيْسَتْ بِسَبَبِ مَرَضٍ،
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا فِي الشَّرِيعَةِ.
ب - الْعَيْبُ:
3 - الْعَيْبُ يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى: الشَّيْنِ، وَبِمَعْنَى الْوَصْمَةِ،
وَبِمَعْنَى الْعَاهَةِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى
الأَْخِيرِ كَثِيرًا، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الإِْنْسَانِ أَمِ الْحَيَوَانِ
أَمِ الزَّرْعِ أَمْ غَيْرِهَا.
فَالْعَيْبُ أَعَمُّ مِنَ الْعَاهَةِ.
ج - الْجَائِحَةُ:
4 - الْجَائِحَةُ: كُل شَيْءٍ لاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ لَوْ عُلِمَ بِهِ
كَسَمَاوِيٍّ كَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَالْجَرَادِ
__________
(1) التعريفات.
(2) الصحاح.
(29/237)
وَالْمَطَرِ (1)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَاهَةِ وَالْجَائِحَةِ عَلاَقَةُ الْمُسَبَّبِ
بِالسَّبَبِ، فَالْجَائِحَةُ سَبَبٌ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعَاهَاتِ
وَلَيْسَتْ هِيَ الْعَاهَةُ ذَاتُهَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاهَةِ:
الْعَاهَةُ وَأَثَرُهَا فِي أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ:
أَوَّلاً: اسْتِعَانَةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ بِمَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِ
كَالأَْقْطَعِ وَالأَْشَل:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنِ
اسْتِعْمَال الْمَاءِ بِنَفْسِهِ، كَالأَْقْطَعِ وَالأَْشَل، وَوَجَدَ مَنْ
يَسْتَعِينُ بِهِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل مُتَبَرِّعًا يَجِبُ عَلَيْهِ
الاِسْتِعَانَةُ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ
بِأُجْرَةِ مِثْلٍ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، لَزِمَهُ الاِسْتِعَانَةُ،
إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ
يَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ لَمْ
يَلْزَمْهُ اسْتِئْجَارُ مَنْ يُقِيمُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِل اسْتِعَانَةِ ذِي الْعَاهَةِ فِي الْحَضَرِ
وَالسَّفَرِ.
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الاِسْتِعَانَةِ فِي
__________
(1) الموسوعة مصطلح جائحة 15 / 67، وحاشية الدسوقي 3 / 185.
(29/238)
السَّفَرِ وَالْحَضَرِ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّهُ
عَاجِزٌ عَنِ الاِسْتِعَانَةِ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ
فَيَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِتَحَقُّقِ عَجْزِهِ عَنِ الْوُضُوءِ، وَقَال
السَّرَخْسِيُّ: إِنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيُفَرِّقُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قَال: إِنْ لَمْ
يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الْخَدَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَتَيَمَّمَ فِي الْحَضَرِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ فِي الْحَضَرِ يَجِدُ مَنْ
يَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ
عَلَى شَرَفِ الزَّوَال، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ جَازَ لَهُ
التَّيَمُّمُ (1) .
أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْوُضُوءِ وَتَيَمَّمَ
وَصَلَّى، فَفِي إِعَادَةِ الصَّلاَةِ قَوْلاَنِ لِلْفُقَهَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُعِيدُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، وَيَنْقُل
الْعَدَوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعِيدُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنِ
اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ (3) .
ثَانِيهُمَا: أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلاَةَ وَهُوَ قَوْل
__________
(1) المبسوط للسرخسي 1 / 112، والمغني 1 / 123.
(2) منتهى الإرادات 1 / 36، والمبسوط 1 / 112، والمدونة 1 / 6.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 200.
(29/238)
الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ (1) ، وَقَاسَهُ الشِّيرَازِيُّ عَلَى فَاقِدِ
الطَّهُورَيْنِ وَعِبَارَتُهُ: وَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الأَْقْطَعُ عَلَى
الْوُضُوءِ وَوَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لَزِمَهُ، كَمَا
يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْمَاءِ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَلَّى
وَأَعَادَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ تُرَابًا.
وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مُعِينًا يُعِينُهُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ أَوِ
التُّرَابِ فَإِنَّهُ يُعَامَل مُعَامَلَةَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ.
ثَانِيًا: غُسْل مَكَانِ الْقَطْعِ مِنَ الأَْقْطَعِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا
كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَقُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ أَوْ شَعْرٌ أَوْ ظُفْرٌ لاَ
يَلْزَمُهُ غُسْل مَا ظَهَرَ، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ ابْتِدَاءَ طَهَارَةٍ
جَدِيدَةٍ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِغُسْلِهِ أَوْ مَسْحِهِ فَلاَ
يَعُودُ بِزَوَالِهِ، كَمَا إِذَا مَسَحَ وَجْهَهُ فِي التَّيَمُّمِ أَوْ
غَسَلَهُ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ قُطِعَ أَنْفُهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ يُعِيدُ الطَّهَارَةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا
قُطِعَ مَحَل الْفَرْضِ بِكَمَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ وَجَبَ
غُسْلُهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُغْسَل
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1 / 195 وحاشية القليوبي على شرح
الجلال على المنهاج 1 / 55، والأم 1 / 37.
(29/239)
وَمَسْحُهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْسَحُ
(1) .
وَلَكِنْ هَل يَدْخُل عَظْمُ الْمَرْفِقِ بِتَمَامِهِ فِي مَحَل الْفَرْضِ؟
وَهَل يَدْخُل عَظْمُ الْكَعْبَيْنِ كَذَلِكَ؟
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَيَمَّمَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ
مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ فَعَلَيْهِ مَسْحُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنَ
الْمَرْفِقِ خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ فَوْقِ
الْمَرْفِقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَسْحُهُ، فَإِنَّ مَا فَوْقَ
الْمَرْفِقِ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلطَّهَارَةِ، وَيَنُصُّ
الْمَرْغِينَانِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ
يَدْخُلاَنِ فِي الْغُسْل خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ
إِنْ فَكَّ عِظَامَ الْمَرْفِقِ فَأَصْبَحَ عَظْمُ الذِّرَاعِ مُنْفَصِلاً
عَنْ عَظْمِ الْعَضُدِ، وَجَبَ غَسْل رَأْسِ الْعَضُدِ عَلَى الْمَشْهُورِ
فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ يَقُول: لاَ، وَإِنَّمَا
وَجَبَ غَسْلُهُ حَالَةَ الاِتِّصَال لِضَرُورَةِ غَسْل الْمَرْفِقِ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِالْوُجُوبِ، وَصَحَّحَهُ فِي أَصْل الرَّوْضَةِ
(2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَرْفِقَيْنِ
وَالْكَعْبَيْنِ تَبَعًا لِنَصِّ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي
الْمُدَوَّنَةِ:
__________
(1) المهذب 1 / 49، وانظر 1 / 24 طبعة بيروت، شرح الخرشي 1 / 123، 126،
بيروت، وفتح القدير 1 / 10 طبع بيروت، ابن عابدين 1 / 69.
(2) شرح الجلال المحلي على المنهاج 1 / 49، وانظر المبسوط 1 / 17، وشرح
منتهى الإرادات 1 / 54.
(29/239)
قَال مَالِكٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ رِجْلاَهُ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ: إِذَا تَوَضَّأَ غَسَل مَا بَقِيَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ
وَغَسَل مَوْضِعَ الْقَطْعِ أَيْضًا.
وَقَال سَحْنُونٌ لاِبْنِ الْقَاسِمِ: أَيَبْقَى مِنَ الْكَعْبَيْنِ
شَيْءٌ؟ قَال نَعَمْ، إِنَّمَا يُقْطَعُ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَيْنِ.
وَيَسْأَل سَحْنُونٌ ابْنَ الْقَاسِمِ فَيَقُول: فَإِنْ هُوَ قُطِعَتْ
يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، أَيَغْسِل مَا بَقِيَ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ،
وَيَغْسِل مَوْضِعَ الْقَطْعِ؟ قَال: لاَ يَغْسِل مَوْضِعَ الْقَطْعِ
وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يَغْسِل شَيْئًا مِنْ يَدَيْهِ إِذَا قُطِعَتَا مِنَ الْمَرْفِقِ لأَِنَّ
الْقَطْعَ قَدْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الذِّرَاعَيْنِ، وَلأَِنَّ
الْمَرْفِقَيْنِ فِي الذِّرَاعَيْنِ فَلَمَّا ذَهَبَ الْمَرْفِقَانِ مَعَ
الذِّرَاعَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِل مَوْضِعَ الْقَطْعِ (1)
.
ثَالِثًا: الأَْعْضَاءُ الزَّائِدَةُ:
9 - الأَْعْضَاءُ الزَّائِدَةُ يَجِبُ غَسْلُهَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ
الأَْكْبَرِ لِجَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا فِي
الْغَسْل الْمَسْنُونِ، وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا غَسْلُهَا أَوْ مَسْحُهَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ: فَقَدْ
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ خُلِقَ لَهُ عُضْوَانِ
مُتَمَاثِلاَنِ كَالْيَدَيْنِ عَلَى مَنْكِبٍ
__________
(1) المدونة 1 / 23، 24.
(29/240)
وَاحِدٍ وَلَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُ
الزَّائِدَةِ مِنَ الأَْصْلِيَّةِ، وَجَبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا لِلأَْمْرِ
بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (1) } .
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَمْيِيزُ الزَّائِدَةِ مِنَ الأَْصْلِيَّةِ، وَجَبَ
غَسْل الأَْصْلِيَّةِ بِاتِّفَاقٍ وَكَذَا الزَّائِدَةُ إِذَا نَبَتَتْ
عَلَى مَحَل الْفَرْضِ.
أَمَّا إِذَا نَبَتَتْ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ وَلَمْ تُحَاذِ مَحَل
الْفَرْضِ فَالاِتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غَسْلِهَا فِي
الْوُضُوءِ وَلاَ مَسْحِهَا فِي التَّيَمُّمِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّائِدَةُ نَابِتَةً فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ
وَحَاذَتْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا مَحَل الْفَرْضِ، فَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُوجِبُونَ غَسْل مَا
حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ مِنْهَا (2) ، أَوْ كُلَّهَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ لَهَا مِرْفَقٌ (3) ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ
فَلَهُمْ فِيهَا قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: مَعَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْل
أَبِي يَعْلَى، وَالثَّانِي: قَوْل ابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ: إِنَّ
النَّابِتَةَ فِي غَيْرِ مَحَل الْفَرْضِ لاَ يَجِبُ غَسْلُهَا، قَصِيرَةً
أَوْ طَوِيلَةً، لأَِنَّهَا أَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إِذَا نَزَل عَنْ
حَدِّ الْوَجْهِ، وَرَجَّحَهُ الْفَتُوحِيُّ، حَيْثُ قَال: فِيمَا يَجِبُ
غَسْلُهُ مِنْهُمَا: وَيَدٌ فِي
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) انظر فتح القدير 1 / 16، والمهذب 1 / 16 وحاشية العدوي على الخرشي 1 /
123، والمغني 1 / 123.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 123.
(29/240)
مَحَل الْفَرْضِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَلَمْ
تَتَمَيَّزْ (1) .
الْجِلْدَةُ الَّتِي كُشِطَتْ:
10 - إِذَا كُشِطَتِ الْجِلْدَةُ وَانْفَصَلَتْ عَنِ الْجِسْمِ عُومِل مَا
ظَهَرَ مِنَ الْجِسْمِ بَعْدَ كَشْطِهَا مُعَامَلَةَ الظَّاهِرِ مُطْلَقًا.
أَمَّا إِذَا كُشِطَتْ وَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً مُتَّصِلَةً بِالْجِسْمِ،
فَفِي الْغَسْل يَجِبُ غَسْلُهَا، وَتُعَامَل كَسَائِرِ الْبَشَرَةِ.
أَمَّا فِي الْوُضُوءِ فَإِنْ تَقَلَّعَ الْجِلْدُ مِنَ الذِّرَاعِ
وَتَدَلَّى مِنْهَا لَزِمَ الْمُكَلَّفَ غَسْلُهُ مَعَ غَسْل الْيَدِ؛
لأَِنَّهُ فِي مَحَل الْفَرْضِ فَأَشْبَهَ الأُْصْبُعَ الزَّائِدَةَ.
وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الذِّرَاعِ وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ الْعَضُدَ ثُمَّ
تَدَلَّى مِنْهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُهُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مِنَ
الْعَضُدِ.
وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنَ الْعَضُدِ، وَبَلَغَ التَّقَلُّعُ إِلَى الذِّرَاعِ
ثُمَّ تَدَلَّى مِنْهُ، لَزِمَهُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مِنَ الذِّرَاعِ فَهُوَ
فِي مَحَل الْفَرْضِ. وَإِنْ تَقَلَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْتَحَمَ
بِالآْخَرِ، لَزِمَهُ غَسْل مَا حَاذَى مَحَل الْفَرْضِ لأَِنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْجِلْدِ الَّذِي عَلَى الذِّرَاعِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
مُتَجَافِيًا عَنْ ذِرَاعِهِ لَزِمَهُ غَسْل مَا تَحْتَهُ مَعَ غَسْلِهِ
(2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 53.
(2) راجع المغني 1 / 124، والمهذب 1 / 24، والمبدع 1 / 125.
(29/241)
رَابِعًا: الأَْصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ
وَنَحْوُهَا:
11 - إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَْصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ يَصِل الْمَاءُ
إِلَى بَاطِنِهَا فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ تَخْلِيل
الأَْصَابِعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ سُنَّةً سَوَاءٌ أَصَابِعُ
الْيَدَيْنِ أَوْ أَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ (1) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ تَخْلِيل أَصَابِعِ
الْيَدَيْنِ قَوْلاً وَاحِدًا، وَبِوُجُوبِ تَخْلِيل أَصَابِعِ
الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّ تَخْلِيل
أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ سُنَّةٌ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْصَابِعُ الْمُلْتَفَّةُ لاَ يَصِل الْمَاءُ
إِلَى بَاطِنِهَا إِلاَّ بِالتَّخْلِيل وَجَبَ التَّخْلِيل عِنْدَ
الْجَمِيعِ.
فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الأَْصَابِعُ مُلْتَصِقَةً وَمُلْتَحِمَةً فَلاَ
يَجُوزُ فَتْقُهَا لِتُخَلَّلٍ، بَل يَحْرُمُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مَضَرَّةٌ،
وَقَدْ صَارَتْ كَالأُْصْبُعِ الْوَاحِدَةِ (3) .
خَامِسًا: سَلَسُ الْبَوْل وَنَحْوُ:
12 - مَنْ عَاهَتُهُ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوُهُ كَاسْتِحَاضَةٍ وَسَلَسِ
مَذْيٍ وَخُرُوجِ رِيحٍ دَائِمٍ وَنَاصُورٍ وَبَاسُورٍ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْجُرُوحِ الدَّائِمَةِ
__________
(1) كفاية الأخيار 1 / 6، والمغني 1 / 108.
(2) راجع العدوي على الخرشي 1 / 123 - 126.
(3) كفاية الأخيار 1 / 25 ط. دار الإيمان، والمغني 1 / 108.
(29/241)
الْفَوَرَانِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسَائِل، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي
مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5، وَاسْتِحَاضَة ف 30) .
سَادِسًا: الْخَارِجُ مِنْ فَتْحَةٍ قَامَتْ مَقَامَ السَّبِيلَيْنِ:
13 - إِذَا كَانَتِ الْعَاهَةُ تَتَمَثَّل فِي فَتْحَةِ غَيْرِ
السَّبِيلَيْنِ، يَخْرُجُ مِنْهَا مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِنْ
بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ دَمٍ أَوْ دُودٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ
مُعْتَادٌ أَوْ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: قَصَرُوا التَّعْمِيمَ بِالْقَوْل
بِنَقْضِ الْوُضُوءِ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا
بَيْنَهُمْ وَهِيَ مَا إِذَا انْسَدَّ الْمَخْرَجُ الأَْصْلِيُّ وَكَانَتِ
الْفَتْحَةُ تَحْتَ السُّرَّةِ، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلإِْنْسَانِ مِنْ
مَخْرَجٍ تَخْرُجُ مِنْهُ هَذِهِ الْفَضَلاَتُ، فَأُقِيمَ الْمُنْفَتِحُ
تَحْتَ السُّرَّةِ مَكَانَ الْمَخْرَجِ وَهُوَ الْقُبُل وَالدُّبُرُ،
فَأَخَذَ الْخَارِجُ مِنْ هَذَا الْمَخْرَجِ حُكْمَ الْخَارِجِ مِنْهُمَا
فَنُقِضَ الْوُضُوءُ قَوْلاً وَاحِدًا (1) .
أَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةَ فَلَهُمْ فِيهَا خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ) .
وَالْحَنَفِيَّةُ عَمَّمُوا الْقَوْل بِنَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ
__________
(1) حاشية العدوي بشرح الخرشي 1 / 154، نهاية المحتاج حاشية الشبراملسي 1 /
112.
(29/242)
كُل خَارِجٍ نَجِسٍ، سَوَاءٌ خَرَجَ مِنَ
السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا بِشُرُوطِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ
مَنْفَذًا مُنْفَتِحًا كَالآْنِفِ وَالْفَمِ أَمْ لَمْ يَكُنْ،
كَالْفَتْحَةِ تَحْتَ السُّرَّةِ أَمْ فَوْقَهَا، حَيْثُ قَاسُوا مَا
خَرَجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْخَارِجِ مِنْهُمَا (1) .
وَالْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَا
خَرَجَ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ فِي الْجِسْمِ،
سَوَاءٌ كَانَتِ الْفَتْحَةُ تَحْتَ السُّرَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، لأَِنَّ
الْخَارِجَ بَوْلٌ وَغَائِطٌ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الْمَحَل،
وَلَكِنَّهُمْ فَارَقُوهُمْ فِي غَيْرِ الْبَوْل وَالْغَائِطِ، كَالرِّيحِ
وَالدَّمِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.
فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ طَاهِرًا
فَلاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا يَنْقُضُ
الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً إِنْ كَانَ كَثِيرًا دُونَ
الْيَسِيرِ (2) .
سَابِعًا: الْبَوْل قَائِمًا لِمَنْ بِهِ عَاهَةٌ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ
تَمْنَعُهُ مِنَ الْقُعُودِ لَهُ أَنْ يَبُول قَائِمًا، كَمَنْ بِهِ
عَاهَةٌ فِي رِجْلِهِ لاَ يَسْتَطِيعُ الْجُلُوسَ أَوْ بِهِ بَاسُورٌ
فَإِذَا جَلَسَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً ضَايَقَهُ ذَلِكَ وَنَزَفَ مِنْهُ
__________
(1) حاشية سعدي جلبي على الهداية 1 / 42، 43.
(2) المبدع شرح المقنع 1 / 156 - 157، المغني 1 / 184، 185، مسائل الإمام
أحمد بتحقيق على المهنا 1 / 67.
(29/242)
بَاسُورُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْعَاهَاتِ وَالْعِلَل.
وَقَدْ فَعَل ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَبَال قَائِمًا فِيمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ
قَوْمٍ فَبَال قَائِمًا (1) وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَبُول الرَّجُل قَائِمًا (2) .
وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَدِّثُونَ وَالْفُقَهَاءُ بَيْنَ
الْحَدِيثَيْنِ بِأَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل ذَلِكَ لِجُرْحٍ كَانَ فِي مَأْبِضِهِ كَمَا
رَوَاهُ ابْنُ الأَْثِيرِ (3) ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَال قَائِمًا مِنْ جُرْحٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ (4) وَالْمَأْبِضُ مَا
تَحْتَ الرُّكْبَةِ.
وَقِيل: إِنَّمَا بَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا
لِوَجَعٍ فِي صُلْبِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ (5) ، أَمَّا
غَيْرُ صَاحِبِ
__________
(1) نيل الأوطار 1 / 89. وحديث: " انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 1 / 328) ومسلم (1 / 228) من حديث حذيفة، واللفظ
لمسلم. والسباطة: ملقى التراب والقمامة، وهي المزبلة.
(2) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما ".
أخرجه ابن ماجه (1 / 112) والبيهقي (1 / 102) من حديث جابر وضعف إسناده
البوصيري في الزوائد (1 / 93) .
(3) نيل الأوطار 1 / 90.
(4) حديث: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم بال قائما من جرح كان بمأبضه ".
أخرجه الحاكم (1 / 182) والبيهقي (1 / 101) من حديث أبي هريرة. وأورده ابن
حجر في فتح الباري (1 / 330) وقال: ضعفه الدارقطني والبيهقي.
(5) معالم السنن للخطابي 1 / 29.
(29/243)
الْعَاهَةِ فَالْبَوْل قَائِمًا مَكْرُوهٌ
لَهُ تَنْزِيهًا.
ثَامِنًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنِ
اسْتِعْمَال الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (1) } قَال
الشَّافِعِيُّ: فَدَل حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ
التَّيَمُّمَ فِي حَالَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا: السَّفَرُ وَالإِْعْوَازُ مِنَ
الْمَاءِ، وَالآْخَرُ: لِلْمَرِيضِ فِي حَضَرٍ كَانَ أَوْ سَفَرٍ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ وَغَيْرِهِ
مِنَ الْفُرُوعِ (ر: تَيَمُّم ف 21 - 22) .
الْعَاهَةُ وَأَثَرُهَا فِي أَحْكَامِ الصَّلاَةِ:
أَوَّلاً - أَذَانُ الأَْعْمَى:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ: إِلَى أَنَّ أَذَانَ الأَْعْمَى جَائِزٌ إِذَا
عَلِمَ دُخُول الْوَقْتِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
__________
(1) سورة المائدة 6.
(2) الأم 1 / 39.
(29/243)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَذَانَ
الْبَصِيرِ أَفْضَل مِنْ أَذَانِ الأَْعْمَى، فَيُكْرَهُ كَرَاهَةَ
تَنْزِيهٍ أَذَانُ الأَْعْمَى، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ
يُعْلِمُهُ أَوْقَاتَ الصَّلاَةِ فَلاَ كَرَاهَةَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَذَانُ الأَْعْمَى إِنْ كَانَ تَابِعًا
لِغَيْرِهِ فِي أَذَانِهِ أَوْ قَلَّدَ ثِقَةً فِي دُخُول الْوَقْتِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ أَعْمَى،
لأَِنَّهُ رُبَّمَا غَلِطَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَصِيرٌ
لَمْ يُكْرَهْ لأَِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ أَعْمَى كَانَ
يُؤَذِّنُ مَعَ بِلاَلٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بَصِيرًا،
لأَِنَّ الأَْعْمَى لاَ يَعْرِفُ الْوَقْتَ فَرُبَّمَا غَلِطَ، فَإِنْ
أَذَّنَ الأَْعْمَى صَحَّ أَذَانُهُ، قَال فِي الْمُبْدِعِ: كَرِهَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَذَانَ
الأَْعْمَى، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسِ إِقَامَتَهُ (4) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 260، وشروح الهداية والكفاية مع فتح القدير 1 / 220،
بدائع الصنائع 1 / 150.
(2) الدسوقي 1 / 197 - 198.
(3) المجموع 3 / 103. وحديث: " أذان ابن مكتوم مع بلال ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 99) ومسلم (1 / 287) من حديث ابن عمر.
(4) المغني لابن قدامة 1 / 414، والمبدع 1 / 315.
(29/244)
ثَانِيًا: اسْتِقْبَال الأَْعْمَى
لِلْقِبْلَةِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْعْمَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَل عَنِ
الْقِبْلَةِ؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ الأَْدِلَّةِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ،
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا
تَحَرَّى، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِقْبَال ف 36) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلأَْعْمَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ
يُقَلِّدَ غَيْرَهُ بَل يَسْأَل عَنِ الأَْدِلَّةِ لِيَهْتَدِيَ بِهَا
إِلَى الْقِبْلَةِ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ الْجَاهِل بِالأَْدِلَّةِ أَوْ
يَكْفِيهِ الاِسْتِدْلاَل بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَلِّدَ
مُكَلَّفًا عَدْلاً عَارِفًا بِطَرِيقِ الاِجْتِهَادِ أَوْ مِحْرَابًا،
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُرْشِدُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ
يَتَخَيَّرُ جِهَةً مِنَ الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ وَيُصَلِّي إِلَيْهَا
مَرَّةً وَاحِدَةً (1) .
18 - أَمَّا مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أُخْرَى كَالْمَشْلُول وَمَنْ لاَ
يَسْتَطِيعُ مُفَارَقَةَ سَرِيرِهِ لِعَاهَةٍ فِي عَيْنَيْهِ، أَوْ
لِجُرْحٍ فِي جَسَدِهِ لَوْ حَرَّكَ لَنَزَفَ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ
وَنَحْوَهُمْ إِذَا وَجَدُوا مَنْ يُوَجِّهُهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ
ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ،
فَلَوْ صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَطَلَتْ
صَلاَتُهُمْ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 1 / 226 - 227.
(29/244)
أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَجِّهُهُ
إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ وَجَدَ وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ تَحْوِيلُهُ إِلَى
الْقِبْلَةِ لِعَاهَةٍ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ
الضَّرَرِ إِنْ تَحَرَّكَ سَرِيرُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ
عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَالَةٍ وَيُعِيدُ، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيِّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَدَلِيلُهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ التَّوَجُّهَ إِلَى
الْقِبْلَةِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2) } وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرِيضِ أَنْ
يَتْرُكَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، فَيَلْزَمُهُ
أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ
إِلَى الْقِبْلَةِ أَعَادَ (3) .
وَثَانِيهَا: قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ
حَالُهُ وَلاَ يَسْتَطِيعُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ لاَ بِنَفْسِهِ
وَلاَ بِمُسَاعِدٍ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَيُعِيدُ إِذَا وَجَدَ
مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْوَقْتِ
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي لاَ يُسْتَطَاعُ
تَحْوِيلُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لِمَرَضٍ بِهِ أَوْ جُرْحٍ أَنَّهُ لاَ
يُصَلِّي إِلاَّ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُحْتَال لَهُ فِي - ذَلِكَ، فَإِنْ
هُوَ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ فِي
__________
(1) الأم 1 / 85، والمبسوط 1 / 216.
(2) سورة البقرة / 144، 150.
(3) الأم 1 / 85.
(29/245)
الْوَقْتِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ
الصَّحِيحِ (1) .
ثَالِثُهَا: قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ: أَنَّ
الْعَاجِزَ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ،
وَلاَ يُعِيدُ صَلاَتَهُ مَا دَامَ لاَ يَسْتَطِيعُ التَّحَوُّل إِلَى
الْقِبْلَةِ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَيْهَا، نَقَلَهُ
السَّرَخْسِيُّ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (2) .
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ شَرْطُ
جَوَازِ الصَّلاَةِ، وَالْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ
وَالسُّجُودُ أَرْكَانٌ، ثُمَّ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الأَْرْكَانِ
بِعُذْرِ الْمَرَضِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ، فَكَذَلِكَ
مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الشُّرُوطِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ
إِعَادَةُ الصَّلاَةِ (3) .
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا
(4) }
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ
بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (5) .
ثَالِثًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الإِْتْيَانِ بِرُكْنٍ مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
19 - مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الإِْتْيَانِ بِرُكْنٍ مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، كَالْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ أَوِ
__________
(1) المدونة 1 / 76.
(2) السرخسي 1 / 216، والمبدع 1 / 400.
(3) المبسوط 1 / 216.
(4) سورة البقرة / 286.
(5) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 13 / 251) ومسلم (2 / 975) من حديث أبي هريرة.
(29/245)
الْجُلُوسِ أَوِ السُّجُودِ أَوْ غَيْرِهَا
مِنَ الأَْرْكَانِ صَلَّى كَيْفَ أَمْكَنَهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْفَرْضُ أَوِ النَّفَل (1) .
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَسَائِل.
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: فِي الْعَاجِزِ عَنِ السُّجُودِ:
20 - إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ السُّجُودِ وَأَمْكَنَ رَفْعُ وِسَادَةٍ
وَنَحْوِهَا لِيَسْجُدَ عَلَيْهَا:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ، وَلاَ يَرْفَعُ إِلَى وَجْهِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ،
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ مَرِيضًا فَرَآهُ
يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا
لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ وَقَال: صَل عَلَى
الأَْرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ وَإِلاَّ فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَل
سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ (2) .
__________
(1) مسائل الإمام أحمد بتحقيق د / على المهنا 2 / 349، وسنن البيهقي 2 /
36، 37 ومصنف عبد الرزاق 2 / 475، 478، ومصنف ابن أبي شيبة 1 / 271 - 272.
(2) الهداية 2 / 4، وفتح القدير على الهداية 1 / 458، المدونة 1 / 78،
والمواق 2 / 4. وحديث جابر: " صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء. . .
". أخرجه البزار (كشف الأستار 1 / 274 - 275) والبيهقي في المعرفة (3 /
225) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 148) وقال: رواه البزار وأبو يعلى
بنحوه. . . ورجال البزار رجال الصحيح.
(29/246)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ يُومِئُ بِالسُّجُودِ، فَهُوَ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ؛ لأَِنَّ الْكُل مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) لِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْمَرِيضِ يُومِئُ أَوْ
يَسْجُدُ عَلَى مِرْفَقَةٍ؟ قَال: كُل ذَلِكَ قَدْ رُوِيَ، لاَ بَأْسَ بِهِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالإِْيمَاءُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا،
وَالسُّجُودُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ
سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ قُعُودِ مَنْ عَجَزَ عَنِ
الْقِيَامِ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي
الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ يُؤَدِّيهَا قَاعِدًا إِنِ اسْتَطَاعَ، لأَِنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى عِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ فَقَال كَيْفَ
أُصَلِّي؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَل قَائِمًا
__________
(1) حديث: " السجود على وسادة عند العجز عن السجود ". روى عن أم سلمة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2 / 477 - 478)
والبيهقي (2 / 307) .
(2) حديث " الإيماء بالسجود عند العجز عن السجود ". تقدم من حديث جابر فـ
20.
(29/246)
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْقُعُودِ: فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُعُودَ عَلَى هَيْئَةِ
التَّرَبُّعِ مُسْتَحَبٌّ، لأَِنَّ الْقُعُودَ فِي حَالَةِ الْعَجْزِ
بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ وَالْقِيَامُ يُخَالِفُ قُعُودَ الصَّلاَةِ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ مُخَالِفًا لَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - إِلَى أَنَّ
الاِفْتِرَاشَ فِي الْقُعُودِ أَفْضَل مِنَ التَّرَبُّعِ لأَِنَّ
الاِفْتِرَاشَ قُعُودُ عِبَادَةٍ بِخِلاَفِ التَّرَبُّعِ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حُكْمُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ:
22 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ صَلَّى
عَلَى جَنْبِهِ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ وَنُدِبَ عَلَى الْجَنْبِ
الأَْيْمَنِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ السَّابِقِ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ لَوْ
صَلَّى مُسْتَلْقِيًا مَعَ إِمْكَانِ الصَّلاَةِ عَلَى جَنْبِهِ أَنَّهُ
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " وصل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 587) .
(2) المدونة 1 / 79، والخرشي 1 / 296، والقليوبي 1 / 145، المبسوط 1 / 212،
والمغني 2 / 142 - 144.
(29/247)
يَصِحُّ (1) ، وَالدَّلِيل يَقْتَضِي
أَلاَّ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى جَنْبٍ وَلأَِنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى
الاِسْتِلْقَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى جَنْبٍ، فَهِيَ
مُرَتَّبَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ
حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: صَل قَائِمًا،
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ
(2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقُعُودَ
اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَرِجْلاَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَوْمَأَ
بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ يُومِئُ إِيمَاءً (3) .
وَقَدْ جَوَّزَ الْمَرْغِينَانِيُّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَلْقَى عَلَى
جَنْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ (4) .
فَالأَْصْل فِي صَلاَةِ الْمَرِيضِ كَمَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ قَوْله
تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ (5) } قَال
__________
(1) المدونة 1 / 76، والمغني 2 / 146، والخرشي 1 / 296.
(2) حديث عمران بن حصين: " صل قائما فإن لم تستع فقاعدا ". تقدم فـ 21.
(3) الهداية 2 / 4 حديث: " يصل المريض قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم
يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء. . . ". أورده الزيلعى في نصب الراية (2 / 176)
وقال: حديث غريب.
(4) فتح القدير 1 / 458.
(5) سورة آل عمران / 191.
(29/247)
الضَّحَّاكُ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ بَيَانُ
حَال الْمَرِيضِ فِي أَدَاءِ الصَّلاَةِ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَنْ كَانَ عَاجِزًا فَقَدَرَ أَوْ كَانَ
قَادِرًا فَعَجَزَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَاجِزًا
فَاسْتَطَاعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، أَوْ كَانَ مُسْتَطِيعًا فَعَجَزَ،
صَلَّى كُلٌّ حَسَبَ الْحَالَةِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا، وَاَللَّهُ
أَوْلَى بِعُذْرِهِ وَأَعْلَمُ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْقِيَامِ
ثُمَّ اسْتَطَاعَهُ انْتَقَل إِلَيْهِ وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ
صَلاَتِهِ، وَلاَ يَسْتَأْنِفُهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى
الْقِيَامِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ صَلاَتِهِ انْتَقَل إِلَى
الْجُلُوسِ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِهِ وَبِحَالِهِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا (2) ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يُؤَدِّيَ صَلاَتَهُ كُلَّهَا قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَيُؤَدِّيَهَا
جَمِيعًا قَائِمًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَتَأْخُذُ كُل حَالَةٍ حُكْمَهَا
(3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صُوَرٍ ثَلاَثٍ فِي
الْحُكْمِ:
أُولاَهَا: إِنْ صَلَّى الصَّحِيحُ بَعْضَ صَلاَتِهِ
__________
(1) المبسوط 1 / 212.
(2) مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله تحقيق الدكتور علي المهنا 2 /
352، والمغني 2 / 149 - 150، والإنصاف 2 / 309، والمهذب 1 / 101، والخرشي 1
/ 298.
(3) المهذب 1 / 101.
(29/248)
قَائِمًا، ثُمَّ حَدَثَ بِهِ مَرَضٌ
يُتِمُّهَا قَاعِدًا، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ أَوْ يُومِئُ إِنْ لَمْ
يَقْدِرْ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ، لأَِنَّهُ بِنَاءُ
الأَْدْنَى عَلَى الأَْعْلَى، فَصَارَ كَالاِقْتِدَاءِ، فَيَبْنِي عَلَى
مَا مَضَى مِنْ صَلاَتِهِ.
وَثَانِيَتُهَا: مَنْ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِمَرَضٍ، ثُمَّ
صَحَّ، بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ قَائِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ اسْتَقْبَل.
وَثَالِثَتُهَا: إِنْ صَلَّى بَعْضَ صَلاَتِهِ بِإِيمَاءٍ، ثُمَّ قَدَرَ
عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، اسْتَأْنَفَ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ،
لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ، فَكَذَا
الْبِنَاءُ.
أَمَّا زُفَرُ فَجَوَّزَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ تَجْوِيزِ
اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ:
24 - مَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ يُومِئُ بِطَرَفِهِ، فَإِنْ
عَجَزَ أَجْرَى أَفْعَال الصَّلاَةِ عَلَى قَلْبِهِ، وَلاَ يَتْرُكُ
الصَّلاَةَ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا، وَهَذَا هُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ
(2) ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ
__________
(1) الهداية مع حاشية سعدى جلبي 2 / 7، وانظر فتح القدير 1 / 457.
(2) الخرشي 1 / 299، ونهاية المحتاج 1 / 470، والمبدع 1 / 101.
(29/248)
بِطَرَفِهِ (1) وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ
الصَّلاَةُ، لأَِنَّهُ مُسْلِمٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ، أَشْبَهَ الْقَادِرَ
عَلَى الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ،
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (2) .
وَالرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ
الإِْيمَاءَ بِرَأْسِهِ أُخِّرَتِ الصَّلاَةُ عَنْهُ، وَلاَ يُومِئُ
بِعَيْنِهِ وَلاَ بِقَلْبِهِ وَلاَ بِحَاجِبَيْهِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ
وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَال: لاَ أَشُكُّ أَنَّ
الإِْيمَاءَ بِرَأْسِهِ يُجْزِئُهُ، وَلاَ أَشُكُّ أَنَّهُ بِقَلْبِهِ لاَ
يُجْزِئُهُ، وَأَشُكُّ فِيهِ بِالْعَيْنِ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَسْقُطُ
عَنْهُ، حَتَّى وَلَوْ زَادَتْ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا
كَانَ مُفِيقًا، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
إِذَا كَثُرَ؛ لأَِنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْل لاَ يَكْفِي لِتَوَجُّهِ
الْخِطَابِ (3) .
رَابِعًا - إِمَامَةُ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ رُكْنٍ مِنَ
الصَّلاَةِ:
25 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ
تَمْنَعُهُ مِنْ رُكْنٍ مِنَ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ إِمَامًا بِمِثْلِهِ
فِي هَذِهِ الْعَاهَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِمَامَةِ ذِي
__________
(1) حديث الحسين بن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فإن لم يستطع
أومأ بطرفه ". ذكره ابن مفلح في الفروع (2 / 46 / 47) وأشار إلى عدم ثبوته.
(2) المبدع 1 / 101.
(3) الهداية مع فتح القدير 2 / 5.
(29/249)
الْعَاهَةِ لِلصَّحِيحِ، فَجَوَّزَهَا
بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهَا آخَرُونَ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاء ف 40) .
خَامِسًا: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ عَلَى صُورَةِ مُبْطِلٍ مِنْ مُبْطِلاَتِ
الصَّلاَةِ:
الْعَاهَةُ هُنَا تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَاهَةٌ عَارِضَةٌ
كَالتَّنَحْنُحِ وَالسُّعَال وَنَحْوِهِمَا، وَعَاهَةٌ خِلْقِيَّةٌ
كَالتَّأْتَأَةِ وَالْفَأْفَأَةِ وَنَحْوِهَا.
26 - أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِالسُّعَال وَالتَّنَحْنُحِ وَنَحْوِهِمَا
حَرْفَانِ فَالصَّلاَةُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا إِذَا ظَهَرَ حَرْفَانِ أَوْ
أَكْثَرُ، وَكَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لاَ يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ.
أَمَّا إِذَا اسْتَطَاعَ دَفْعَهُ وَفَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ فَقَدْ
وَقَعَ فِيهِ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ
بِذَلِكَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ لأَِنَّ مَا كَانَ
لِمَصْلَحَةِ الْقِرَاءَةِ يُلْحَقُ بِهَا (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَفَرَّقُوا بَيْنَ التَّنَحْنُحِ وَغَيْرِهِ
كَالسُّعَال وَالتَّأَوُّهِ مَثَلاً، أَمَّا السُّعَال وَنَحْوُهُ
فَالأَْشْبَهُ بِأُصُولِهِمْ - وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ - أَنَّ مَنْ
فَعَلَهُ مُخْتَارًا أَفْسَدَ صَلاَتَهُ. . وَلأَِنَّ الْحُكْمَ لاَ
يَثْبُتُ إِلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ
__________
(1) فتح القدير 1 / 398.
(29/249)
وَالنُّصُوصُ الْعَامَّةُ تَمْنَعُ مِنَ
الْكَلاَمِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يُخَصِّصُهُ (1) ، وَلَهُمْ فِي
التَّنَحْنُحِ قَوْلاَنِ، وَظَاهِرُ قَوْل أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ
يُعْتَبَرْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ النَّحْنَحَةَ لاَ تُسَمَّى كَلاَمًا،
وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي الصَّلاَةِ (2) .
وَذَهَبَ إِسْمَاعِيل الزَّاهِدُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ
كُلَّهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ (3) .
27 - وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْعَاهَةُ الْخِلْقِيَّةُ
كَصَاحِبِ التَّأْتَأَةِ وَالْفَأْفَأَةِ وَالأَْلْثَغِ وَنَحْوِهِمْ
فَهَذِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فِي حَال الصَّلاَةِ مُنْفَرِدًا، وَيُعَامَل
هَؤُلاَءِ مُعَامَلَةَ الأُْمِّيِّ، فِي أَنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُمْ إِذَا
لَمْ يُمْكِنْهُمْ إِصْلاَحُ هَذَا الْمَرَضِ وَعِلاَجُهُ، وَصَلاَتُهُمْ
صَحِيحَةٌ فُرَادَى وَمَأْمُومِينَ لِقَارِئٍ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ.
أَمَّا إِمَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِلْقَارِئِ فَهِيَ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ.
فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّأْتَأَةِ
وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ زِيَادَةُ حَرْفٍ، فَيَكْرَهُونَ الإِْمَامَةَ
لِصَاحِبِهَا إِلاَّ لِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِي قِرَاءَتِهِمْ
نَقْصًا عَنْ حَال الْكَمَال بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ،
وَصَحَّتِ الصَّلاَةُ بِإِمَامَتِهِمْ لأَِنَّهُمْ يَأْتُونَ
__________
(1) المدونة 1 / 104، والمغني 2 / 52.
(2) المغني 2 / 52.
(3) العناية على الهداية 1 / 399.
(29/250)
بِالْوَاجِبِ وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ
حَرَكَةً أَوْ حَرْفًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ كَتَكْرِيرِ الآْيَةِ.
وَأَمَّا الأَْرَتُّ، وَهُوَ الَّذِي يُدْغِمُ حَرْفًا فِي غَيْرِهِ،
وَالأَْلْثَغُ وَهُوَ الَّذِي يُبَدِّل حَرْفًا بِغَيْرِهِ، فَهَذَانِ
وَأَمْثَالُهُمَا لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِمَا، لأَِنَّهُمْ
كَالأُْمِّيِّ، وَالأُْمِّيُّ لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِ (1)
.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا فِيهِ زِيَادَةُ
حَرْفٍ كَالتَّأْتَأَةِ، وَمَا فِيهِ تَغْيِيرُ حَرْفٍ بِحَرْفٍ، أَوْ
إِدْغَامُهُ بِهِ، وَيُسَمِّي خَلِيلٌ صَاحِبَ كُل هَذَا (أَلْكَنُ) ،
وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ يَجُوزُ
الاِقْتِدَاءُ بِأَلْكَنَ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتِ اللُّكْنَةُ فِي
الْفَاتِحَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالأَْلْكَنُ هُوَ: مَنْ لاَ
يَسْتَطِيعُ إِخْرَاجَ بَعْضِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ
لاَ يَنْطِقُ بِالْحَرْفِ أَلْبَتَّةَ، أَوْ يَنْطِقُ بِهِ مُغَيَّرًا،
فَيَشْمَل التِّمْتَامَ، وَهُوَ الَّذِي يَنْطِقُ فِي أَوَّل كَلاَمِهِ
بِتَاءٍ مُكَرَّرَةٍ، وَالأَْرَتَّ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَل اللاَّمَ تَاءً
أَوْ مَنْ يُدْغِمُ حَرْفًا فِي حَرْفٍ، وَالأَْلْثَغَ وَهُوَ مَنْ
يُحَوِّل اللِّسَانَ مِنَ السِّينِ إِلَى الثَّاءِ، أَوْ مِنَ الرَّاءِ
إِلَى الْغَيْنِ، أَوِ اللاَّمِ أَوِ الْيَاءِ، أَوْ مِنْ حَرْفٍ إِلَى
حَرْفٍ، أَوْ مَنْ لاَ يَتِمُّ رَفْعُ لِسَانِهِ لِثِقَلٍ
__________
(1) راجع في هذا فتح القدير 1 / 375، والمبدع 2 / 76 وشرح المحلي على
المنهاج 1 / 230، الموسوعة مصطلح (ألثغ ف 2) .
(29/250)
فِيهِ، وَالطَّمْطَامَ وَهُوَ مَنْ
يُشْبِهُ كَلاَمُهُ كَلاَمَ الْعَجَمِ وَنَحْوِهِمْ (1) .
سَادِسًا - أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي إِسْقَاطِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ:
28 - مِنَ الْعَاهَاتِ الَّتِي تُسْقِطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ فَرْضَ
الْجُمُعَةِ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْعَاهَةُ الَّتِي
تَعْجِزُ عَنْ حُضُورِ الصَّلاَةِ كَالشَّلَل، وَالْعَمَى فِيمَنْ لاَ
يَجِدُ قَائِدًا، وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْل مِنْ خِلاَفٍ، وَقَطْعُ
الرِّجْلَيْنِ لِمَنْ لاَ يَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهُ، وَكَذَلِكَ الْعَاهَةُ
الْمُنَفِّرَةُ كَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا) .
أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الزَّكَاةِ:
أَثَرُ الْعَاهَةِ قَدْ تَكُونُ مُؤَثِّرَةً فِي الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ
الْوُجُوبُ أَوِ الإِْجْزَاءُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً - مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ:
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ عَاهَتُهُ الْجُنُونُ، سَوَاءٌ كَانَ
جُنُونُهُ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا، هَل تَجِبُ
__________
(1) انظر الخرشي على مختصر خليل بحاشية العدوي 2 / 32.
(2) الهداية مع فتح القدير 1 / 345، الخرشي 2 / 90 شرح الجلال على المنهاج
مع حاشية القليوبي وعميرة 1 / 266 - 268، شرح منتهى الإرادات 1 / 292.
(29/251)
عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَخْرُجُ
لِوَقْتِهَا، وَلَوْ كَانَ أَثْنَاءَ جُنُونِهِ. أَمْ لاَ؟
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 11) وَمُصْطَلَحِ: (جُنُون
فِقْرَةُ 14) .
ثَانِيًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الإِْجْزَاءِ فِي الزَّكَاةِ:
30 - الْحَيَوَانُ الَّذِي أُصِيبَ بِعَاهَةٍ، كَالْعَمَى وَالْعَوَرِ
وَالْهَرَمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَاهَاتِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
أَخْذِهِ فِي الزَّكَاةِ، بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدِّهِ عَلَى
رَبِّ الْمَال.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ حَيَوَانَاتِ النِّصَابِ إِذَا كَانَتْ
كُلُّهَا مَعُوهَةً مَئُوفَةً، فَإِنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ مِنَ
الْمَعِيبِ، وَيُرَاعَى الْوَسَطُ، وَلاَ يُكَلَّفُ رَبُّ الْمَال شِرَاءَ
صَحِيحَةٍ لإِِخْرَاجِهَا فِي الزَّكَاةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ: إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ
أَمْوَالِهِمْ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ
مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهَا،
وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهَا (2)
__________
(1) حديث ابن عباس: " إياك وكرائم أموالهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3
/ 357) ومسلم (1 / 50) .
(2) حديث: " ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيرها. . . ". أخرجه
أبو داود (2 / 240) من حديث غاضرة قيس، وفي إسناده انقطاع ولكن وصله
الطبراني في معجمه الصغير (1 / 334) .
(29/251)
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَكْلِيفَ الصَّحِيحَةِ
عَنِ الْمِرَاضِ إِخْلاَلٌ بِالْمُوَاسَاةِ، وَمَبْنَى الزَّكَاةِ
عَلَيْهَا (1) ، وَهَذَا هُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ غُلاَمُ الْخَلاَّل إِلَى أَنَّهُ
لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ صَحِيحَةٌ، لأَِنَّ أَحْمَدَ قَال: لاَ يُؤْخَذُ
إِلاَّ مَا يَجُوزُ فِي الأَْضَاحِيِّ، وَلِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ ذَاتِ
الْعَاهَةِ فِي حَدِيثِ: وَلاَ يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً، وَلاَ
ذَاتَ عَوَارٍ (3) .
وَعَلَى هَذَا، فَيَشْتَرِي شَاةً صَحِيحَةً يُخْرِجُهَا عَنْ غَنَمِهِ
الْمِرَاضِ وَالْمَعُوهَاتِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا مَالِكٌ، قَدْ
نَقَلَتِ الْمُدَوَّنَةُ قَوْلَهُ: يُحْسَبُ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ كُل
ذَاتِ عَوَارٍ، وَلاَ يَأْخُذُ مِنْهَا، وَالْعَمْيَاءُ مِنْ ذَوَاتِ
الْعَوَارِ، وَلاَ تُؤْخَذُ فِيهَا، وَلاَ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ،
وَسُئِل مَالِكٌ: إِنْ كَانَتِ الْغَنَمُ كُلُّهَا قَدْ جَرِبَتْ؟ فَقَال:
عَلَى رَبِّ الْمَال أَنْ يَأْتِيَهُ بِشَاةٍ فِيهَا وَفَاءٌ مِنْ حَقِّهِ،
وَسُئِل: وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الْعَوَارِ إِذَا كَانَتِ الْغَنَمُ ذَوَاتَ
عَوَارٍ كُلُّهَا؟ قَال: نَعَمْ.
وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَا اسْتَثْنَاهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي
__________
(1) المغني 2 / 600.
(2) المرجع السابق، والأم 2 / 5، وفتح القدير 2 / 182.
(3) سبل السلام 2 / 124، والمبدع 2 / 319. وحديث: " ولا يخرج في الصدقة
هرمة ولا ذات عوار ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 321) من حديث أبي بكر.
(29/252)
حَدِيثِهِ السَّابِقِ فَقَال: لاَ يَأْخُذُ
الْمُصَدِّقُ مِنْ ذَوَاتِ الْعَوَارِ إِلاَّ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ
خَيْرًا وَأَفْضَل (1) .
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ حَيَوَانَاتُ النِّصَابِ كُلُّهَا مَرِيضَةً
مَعُوهَةً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةً فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَعِيبَةِ عَنِ الصَّحِيحَةِ لِلْحَدِيثِ
السَّابِقِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا، وَبَعْضُهَا صَحِيحًا، فَلاَ يَقْبَل
عَنْهَا فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ الصَّحِيحَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ
نِصْفُ مَالِهِ صَحِيحًا، وَنِصْفُهُ الآْخَرُ مَعِيبًا، كَانَ لَهُ
إِخْرَاجُ صَحِيحَةٍ وَمَعِيبَةٍ، قَال: وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ
خِلاَفُهُ (2) .
ثَالِثًا: أَثَرُ عَاهَةِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ عَاهَةِ الزَّرْعِ فِي الزَّكَاةِ،
وَاخْتِلاَفُهُمْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي وَقْتِ وُجُوبِ
الزَّكَاةِ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الزَّكَاةُ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ، كَمَا
قَال تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (3) وَعِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِْدْرَاكِ (4) .
__________
(1) المدونة 1 / 312.
(2) المغني 2 / 600.
(3) سورة البقرة / 267
(4) المبسوط للسرخسي 2 / 206.
(29/252)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) .
وَعِنْدَ مَالِكٍ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّرْعِ إِذَا أَفْرَكَ
وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَاءِ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجِبُ الْعُشْرُ إِلاَّ بَعْدَ بُدُوِّ
الصَّلاَحِ (3) ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل مَالِكٍ إِذَا أَفْرَكَ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لاِبْنِ أَبِي مُوسَى الَّذِي
قَال: تَجِبُ زَكَاةُ الْحَبِّ يَوْمَ حَصَادِهِ (4) . لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} .
فَإِذَا هَلَكَتِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ بِعَاهَةٍ قَبْل وَقْتِ
الْوُجُوبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ (5) .
وَإِذَا هَلَكَتْ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَالْحَنَفِيَّةُ لاَ
يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِيمَا هَلَكَ، سَوَاءٌ كَانَ هَلاَكُهُ بَعْدَ
حَصَادِهِ أَوْ قَبْلَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو حَنِيفَةَ النِّصَابَ،
وَاشْتَرَطَهُ الصَّاحِبَانِ وَقَالُوا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، لأَِنَّ
الْوَاجِبَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ مَحَلِّهِ، وَالْقَوْل بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ
بَعْدَ هَلاَكِهِ يُحِيلُهُ إِلَى صِفَةِ الْعُسْرِ (6) .
وَعِنْدَ مَالِكٍ إِذَا هَلَكَتِ الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ قَبْل
__________
(1) سورة الأنعام / 141
(2) المدونة 1 / 348.
(3) التنبيه 58، والمنهاج برح الجلال 2 / 20.
(4) انظر المغني 2 / 702.
(5) انظر المراجع السابقة.
(6) فتح القدير 2 / 202.
(29/253)
أَنْ يُدْخِلَهَا بَيْتَهُ، سَوَاءٌ كَانَ
ذَلِكَ قَبْل حَصَادِهِ وَبَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، أَوْ بَعْدَ
حَصَادِهَا، فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي هَذَا كُلِّهِ، إِلاَّ
إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْهَلاَكِ نِصَابٌ.
وَإِذَا جَمَعَهُ بَعْدَ حَصَادِهِ فِي مَكَانٍ، وَعَزَل مِنْهُ الْعُشْرَ
لِيُفَرِّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَتَلِفَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا
لَمْ يُفَرِّطْ فِي حِفْظِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ التَّفْرِيطِ مِقْيَاسًا، فَإِذَا
حَصَل الْهَلاَكُ بَعْدَ أَنْ حَلَّتْ زَكَاةٌ فَمَنْ فَرَّطَ فِي
الْحِفْظِ أَوْ فِي تَأْخِيرِ الدَّفْعِ يُعَامَل بِتَفْرِيطِهِ، وَمَا
هَلَكَ مِنْ مَالِهِ يُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَتَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ، وَمَنْ
لَمْ يُفَرِّطْ: فَإِنْ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ لاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ فِي
الزَّكَاةِ وَلاَ تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ، كَمَا لاَ يُحْسَبُ عَلَيْهِ مَا
هَلَكَ مِنْ أَمْوَالِهِ قَبْل الْحَوْل (2) .
وَلاَ يَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ بِجَعْل
الثِّمَارِ فِي الْجَرِينِ، وَبِجَعْل الزَّرْعِ فِي الْبَيْدَرِ، فَإِنْ
تَلِفَتْ قَبْل ذَلِكَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ سَقَطَتْ، وَلاَ يُحَاسَبُ
عَلَى مَا هَلَكَ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ لَمْ تَسْتَقِرَّ، فَأَشْبَهَ مَا
لَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الزَّكَاةُ ابْتِدَاءً (3) .
وَإِذَا كَانَ الْهَلاَكُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِتَفْرِيطِهِ ضَمِنَ حَقَّ
الْفُقَرَاءِ فِيمَا هَلَكَ مِنَ الأَْمْوَال، فَيُحَاسَبُ
__________
(1) المدونة 1 / 344.
(2) الأم 2 / 44.
(3) المبدع لابن مفلح 2 / 346.
(29/253)
عَلَيْهَا وَيُخْرِجُ عَنْهَا زَكَاتَهَا،
سَوَاءٌ تَلِفَ الْكُل أَمِ الْبَعْضُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّلَفُ لِبَعْضِهَا بِدُونِ تَفْرِيطٍ،
فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّلَفُ قَبْل الْوُجُوبِ فَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ وَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي الْبَاقِي إِذَا كَانَ
نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَجَبَ فِي الْبَاقِي
بِقَدْرِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ خُرِصَ أَوْ لَمْ يُخْرَصْ.
أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الْحَجِّ:
أَوَّلاً: مَنْ بِهِ عَاهَةٌ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ:
32 - مَنْ أُصِيبَ بِعَاهَةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ كَالْمَشْلُول
وَالْمَقْطُوعِ وَنَحْوِهِمَا.
فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ قَبْل التَّمَكُّنِ
مِنَ الأَْدَاءِ سَقَطَ الْحَجُّ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ
التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ:
(حَجّ ف 19) .
ثَانِيًا: مَا لاَ يُقْبَل فِي الْهَدْيِ لِعَاهَةٍ فِيهِ:
33 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ مَا
لاَ يُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الْعَاهَاتِ، عَلَى خِلاَفٍ
وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: أُضْحِيَّة فِقْرَةُ 26 (وَهَدْي) .
أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
34 - قَدْ يُصَابُ الْعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ الْعَاهَاتِ
الَّتِي تُسْقِطُ الأَْهْلِيَّةَ لِلتَّعَاقُدِ
(29/254)
كَالْجُنُونِ، أَوْ تَقْصُرُهَا عَلَى
بَعْضِ أَنْوَاعِ التَّعَامُل، وَقَدْ شَرَحَ الأُْصُولِيُّونَ هَذِهِ
الْعَاهَاتِ وَعَبَّرُوا عَنْهَا بِعَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ (1) . ر:
(أَهْلِيَّة) (وَبَيْع) فِقْرَةُ 26، وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي يُبْحَثُ تَأْثِيرُ الْعَاهَاتِ فِيهَا مَا
يَلِي:
أَوَّلاً - بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا أَوْ بَعْدَهُ
فَتُصِيبُهَا الْعَاهَةُ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الثَّمَرَةِ تُصِيبُهَا عَاهَةٌ بِسَبَبِ
جَائِحَةٍ، فَتَتْلَفُ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا، وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ثِمَار - فِقْرَةُ 17 وَجَائِحَة 6 - 10) .
ثَانِيًا - أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنَ
الأُْجْرَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ:
36 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُصِيبَتِ الثَّمَرَةُ أَوِ
الزَّرْعُ بِآفَةٍ أَوْ جَائِحَةٍ فَأَتَتْ عَلَى الْمَحْصُول كُلِّهِ
فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل، وَإِذَا أَهْلَكَتِ الْبَعْضَ جَرَى فِيهِ
الشَّرْطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعَامِل وَصَاحِبِ الأَْرْضِ (2)
.
__________
(1) راجع في عوارض الأهلية التقرير والتحبير 2 / 172، والتنقيح والتوضيح 2
/ 167، وغيرها، المجموع للنووي 9 / 171، والمغني 3 / 566، شرح الخرشي
وحاشية العدوي عليه 5 / 4، بدائع الصنائع 5 / 135.
(2) راجع سبل السلام 3 / 77، والمغني 5 / 411، وحاشية القليوبي على المنهاج
3 / 67، والهداية مع فتح القدير 9 / 470.
(29/254)
ثَالِثًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ تُصِيبُ
الْمُسْلَمَ فِيهِ:
37 - إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، بِأَنْ
أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ أَوْ جَائِحَةٌ فَانْقَطَعَ جِنْسُ الْمُسْلَمِ فِيهِ
عِنْدَ الْمَحَل وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ
أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ عَقْدِ
الْمُسْلِمِ وُجُودَ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ حُلُول
الأَْجَل، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا.
وَالْجُمْهُورُ يُرَجِّحُونَ تَخْيِيرَ الْمُسْلِمِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ
صَحِيحًا؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، فَأَشْبَهَ
مَا إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ،
وَلَكِنْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَقْدُورٍ فِي الظَّاهِرِ،
وَهَذَا يَسْتَوْجِبُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَعُرُوضُ الاِنْقِطَاعِ كَإِبَاقِ
الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لاَ يَقْتَضِي إِلاَّ الْخِيَارَ (1) .
وَقَدْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ - غَيْرَ زُفَرَ - الْجُمْهُورَ فِيمَا
إِذَا كَانَ الاِنْقِطَاعُ بَعْدَ حُلُول الأَْجَل وَقَبْل التَّسْلِيمِ،
فَقَالُوا: لاَ يَبْطُل الْعَقْدُ، وَالْخِيَارُ لِرَبِّ الْمَال: إِنْ
شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ وَانْتُظِرَ وُجُودُهُ (2) .
__________
(1) انظر فتح العزيز للرافعي بشرح الوجيز هامش المجموع 9 / 245، والمبدع
لابن مفلح 4 / 193.
(2) فتح القدير 7 / 82، وتبيين الحقائق 4 / 113، والشرح الصغير 4 / 370،
والمغني 4 / 26.
(29/255)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ، وَبِهِ قَال زُفَرُ
وَرِوَايَةً عَنِ الْكَرْخِيِّ، وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ هَلَكَ
الْمَبِيعُ الْمُعَيَّنُ قَبْل التَّسْلِيمِ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ
التَّسْلِيمِ فِي كُلٍّ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كَمَا لاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِ
مَحَلِّهِ لاَ يَبْقَى عِنْدَ فَوَاتِهِ (1) .
رَابِعًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي النِّكَاحِ:
38 - قَدْ يُصَابُ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ بِعَاهَةٍ قَبْل عَقْدِ
الزَّوَاجِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ
تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَثَرَ الْعَاهَةِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال فِي
فَسْخِ النِّكَاحِ أَوْ إِمْضَائِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَفَرْقُ النِّكَاحِ) .
خَامِسًا: أَثَرُ الْعَاهَةِ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ:
39 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُفْرَضُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْجِهَادِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَمَنْ لاَ قُدْرَةَ لَهُ لاَ
جِهَادَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْجِهَادَ بَذْل الْجَهْدِ - وَهُوَ الْوُسْعُ
وَالطَّاقَةُ - فِي قِتَال أَعْدَاءِ اللَّهِ، لإِِعْلاَءِ كَلِمَةِ
اللَّهِ، وَمَنْ لاَ وُسْعَ لَهُ وَلاَ طَاقَةَ عِنْدَهُ لاَ يُكَلَّفُ
بِالْجِهَادِ.
__________
(1) فتح العزيز 9 / 245، وفتح القدير 7 / 82، وكشاف القناع 3 / 245.
(29/255)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ:
(جِهَاد ف 21) .
الْفِرَارُ مِمَّنِ ابْتُلِيَ بِعَاهَةٍ:
40 - اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حُكْمِ اجْتِنَابِ مَنِ ابْتُلِيَ بِعَاهَةِ الْجُذَامِ
وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْمْرَاضِ الَّتِي تَنْتَقِل مِنَ الْمَرِيضِ إِلَى
السَّلِيمِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جُذَام ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
(29/256)
عِبَادَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُضُوعُ، وَالتَّذَلُّل لِلْغَيْرِ
لِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ وَلاَ يَجُوزُ فِعْل ذَلِكَ إِلاَّ لِلَّهِ،
وَتُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الطَّاعَةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: ذَكَرُوا لَهَا عِدَّةَ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ:
مِنْهَا:
(1) - هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّل لَهُ.
(2) - هِيَ الْمُكَلَّفُ عَلَى خِلاَفِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا
لِرَبِّهِ.
(3) - هِيَ فِعْلٌ لاَ يُرَادُ بِهِ إِلاَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ بِأَمْرِهِ.
(4) - هِيَ اسْمٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الأَْقْوَال،
وَالأَْفْعَال، وَالأَْعْمَال الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، تفسير الخازن في تفسير سورة الفاتحة، وتفسير البيضاوي في
سورة الفاتحة، التعريفات للجرجاني.
(2) المصادر السابقة.
(29/256)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُرْبَةُ:
2 - الْقُرْبَةُ هِيَ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ فَقَطْ، أَوْ
مَعَ الإِْحْسَانِ لِلنَّاسِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ،
وَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
ب - الطَّاعَةُ:
3 - الطَّاعَةُ هِيَ: مُوَافَقَةُ الأَْمْرِ بِامْتِثَالِهِ سَوَاءٌ
أَكَانَ مِنَ اللَّهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ (1) ، قَال تَعَالَى: {أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (2)
4 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ (الْعِبَادَةُ -
الْقُرْبَةُ - الطَّاعَةُ) عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ.
فَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَتَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ
عَلَى نِيَّةٍ، وَالْقُرْبَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ بَعْدَ
مَعْرِفَةِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى
نِيَّةٍ، وَالطَّاعَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ تَوَقَّفَ عَلَى
نِيَّةٍ أَمْ لاَ، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لأَِجْلِهِ، أَمْ لاَ (3) .
فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ، وَكُل مَا
تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ: عِبَادَةٌ، وَطَاعَةٌ، وَقُرْبَةٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 237.
(2) سورة النساء / 59.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 72.
(29/257)
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْوَقْفُ،
وَالْعِتْقُ، وَالصَّدَقَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى
نِيَّةٍ: قُرْبَةٌ، وَطَاعَةٌ، لاَ عِبَادَةٌ.
وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: طَاعَةٌ، لاَ
قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُل بَعْدَهَا، وَلاَ عِبَادَةَ
لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى نِيَّةٍ (1) ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْعِبَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعَبُّدِ،
وَعَدَمُ النِّيَّةِ لاَ يَمْنَعُ كَوْنَ الْعَمَل عِبَادَةً، وَقَال:
وَعِنْدِي أَنَّ الْعِبَادَةَ، وَالْقُرْبَةَ، وَالطَّاعَةَ تَكُونُ
فِعْلاً وَتَرْكًا، وَالْعَمَل الْمَطْلُوبُ شَرْعًا يُسَمَّى عِبَادَةً
إِذَا فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ تَعَبُّدًا، أَوْ تَرَكَهُ تَعَبُّدًا أَمَّا
إِذَا فَعَلَهُ لاَ بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ، بَل لِغَرَضٍ آخَرَ، أَوْ
تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعَبُّدِ
فَلاَ يَكُونُ عِبَادَةً (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} (3)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِبَادَةِ:
الْعِبَادَةُ لاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ وَحْيٍ:
5 - الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ: تَهْذِيبُ النَّفْسِ بِالتَّوَجُّهِ
إِلَى اللَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالاِنْقِيَادِ لأَِحْكَامِهِ
بِالاِمْتِثَال لأَِمْرِهِ، فَلاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 72 و 2 / 237، وعزاه إلى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.
(2) البحر المحيط 1 / 293 - 294.
(3) سورة الروم / 38.
(29/257)
طَرِيقِ الْوَحْيِ بِنَوْعَيْهِ:
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ الَّذِي لاَ
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، قَال تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) .
أَوْ بِمَا يُقِرُّهُ اللَّهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا
مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ (2) أَمَّا الأُْمُورُ الْعَادِيَّةُ
الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ لِتَنْظِيمِ مَصَالِحِهِمُ
الدُّنْيَوِيَّةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا: التَّوْجِيهُ إِلَى إِقَامَةِ
الْعَدْل بَيْنَهُمْ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ، فَيَجُوزُ فِيهَا الاِجْتِهَادُ
فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، لِتَحْقِيقِ الْعَدْل، وَدَفْعِ
الضَّرَرِ.
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي
الْعِبَادَاتِ لِخَبَرِ إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (3)
وَالْحِكْمَةُ فِي إِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهَا: تَمَيُّزُ الْعِبَادَةِ
عَنِ الْعَادَةِ، وَتَمْيِيزُ رُتَبِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ
بَعْضٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: تَجِبُ النِّيَّةُ
__________
(1) سورة النجم / 3 - 4.
(2) حديث: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 5 / 301) ومسلم (3 / 1343) من حديث عائشة
(3) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9)
ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب.
(29/258)
فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تَلْتَبِسُ
بِعَادَةٍ، فَالْوُضُوءُ وَالْغُسْل يَتَرَدَّدَانِ بَيْنَ التَّنْظِيفِ
وَالتَّبَرُّدِ وَالْعِبَادَةِ، وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدْ
يَكُونُ لِلَّحْمِيَّةِ وَالتَّدَاوِي، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ
إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْجُلُوسُ فِي
الْمَسْجِدِ يَكُونُ لِلاِسْتِرَاحَةِ وَيَكُونُ لِلاِعْتِكَافِ، وَدَفْعُ
الْمَال لِلْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ
الزَّكَاةِ، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنْ
غَيْرِهَا، وَالصَّلاَةُ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا، أَوْ نَفْلاً، فَشُرِعَتِ
النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْفَرْضِ عَنِ النَّفْل.
أَمَّا الَّتِي لاَ تَلْتَبِسُ بِعَادَةٍ، كَالإِْيمَانِ بِاَللَّهِ
وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالأَْذَانِ، وَالإِْقَامَةِ، وَخُطْبَةِ
الْجُمُعَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالأَْذْكَارِ فَلاَ تَجِبُ فِيهَا
النِّيَّةُ لأَِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ بِصُورَتِهَا (1) .
النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
7 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعِبَادَةَ فِي هَذَا الصَّدَدِ إِلَى
أَقْسَامِ ثَلاَثَةٍ:
1 - عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
2 - عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
3 - عِبَادَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمَا.
فَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ: كَالصَّلاَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 47، نهاية المحتاج 1 / 158، الأشباه والنظائر للسيوطي
ص 12، حاشية ابن عابدين 1 / 280 - 304، كشاف القناع 2 / 260.
(29/258)
وَالصَّوْمِ، وَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْل. .
فَالأَْصْل فِيهَا امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ، إِلاَّ مَا أُخْرِجَ
بِدَلِيلٍ، كَالصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ
التَّكَالِيفِ الْبَدَنِيَّةِ الاِبْتِلاَءُ، وَالْمَشَقَّةُ، وَهِيَ
تَحْصُل بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ بِالأَْفْعَال
الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لاَ يَتَحَقَّقُ بِفِعْل نَائِبِهِ، فَلَمْ
تُجْزِئِ النِّيَابَةُ، إِلاَّ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَبَعًا
لِلنُّسُكِ، وَلَوِ اسْتَنَابَ فِيهِمَا وَحْدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الصَّوْمُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ هَذِهِ
الْقَاعِدَةِ لِدَلِيلٍ وَرَدَ فِيهِ: فَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ،
وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَال: أَرَأَيْتِ لَوْ
كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدَّى عَنْهَا؟
قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ (1) : (ر: صَوْم) .
الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ: أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ
الْمَحْضَةُ كَالصَّدَقَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنَّذْرِ،
وَالأُْضْحِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ، لأَِنَّ
دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الإِْمَامِ إِمَّا وَاجِبٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لاَ يُفَرِّقُهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ إِلاَّ عَنْ
طَرِيقِ النِّيَابَةِ.
__________
(1) حديث ابن عباس: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . .) .
أخرجه مسلم (2 / 880) .
(29/259)
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ الْمُتَرَدِّدَةُ
بَيْنَ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ
عِنْدَ الْعَجْزِ الدَّائِمِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ،
وَذَلِكَ كَالْحَجِّ (1) .
وَصْفُ الْعِبَادَةِ بِالأَْدَاءِ، أَوِ الْقَضَاءِ، أَوِ الإِْعَادَةِ:
8 - الْعِبَادَةُ: إِنْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ،
وَوَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يَسْبِقْ فِعْلُهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي
الْوَقْتِ فَأَدَاءٌ، وَإِنْ سَبَقَ فِعْلُهَا فِيهِ فَإِعَادَةٌ، وَإِنْ
وَقَعَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ فَقَضَاءٌ، أَوْ قَبْلَهُ فَتَعْجِيلٌ،
فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ،
وَالنَّوَافِل الْمُؤَقَّتَةُ كُلُّهَا تُوصَفُ بِالأَْدَاءِ،
وَبِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ،
كَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّوْبَةِ
عَنِ الذُّنُوبِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، فَلاَ تُوصَفُ بِأَدَاءٍ، وَلاَ
قَضَاءٍ وَكَذَا الْوُضُوءُ، وَالْغُسْل لاَ يُوصَفَانِ بِأَدَاءٍ وَلاَ
قَضَاءٍ، وَالزَّكَاةُ إِنْ أَخْرَجَهَا قَبْل الْحَوْل يُسَمَّى
تَعْجِيلاً.
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
جَعْل ثَوَابِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِغَيْرِهِ:
9 - ذَهَبَ عُلَمَاءُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إِلَى أَنَّ
__________
(1) البجيرمي على الخطيب 3 / 113 شرح المحلي مع القليوبي 3 / 173، 2 / 338،
المغني 5 / 91، حاشية ابن عابدين 1 / 237 - 493، جواهر الإكليل 1 / 163.
(29/259)
لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَجْعَل ثَوَابَ مَا
فَعَلَهُ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ فِي
الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالصَّدَقَةِ،
وَالدُّعَاءِ، وَالاِسْتِغْفَارِ، وَالْوَقْفِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِنَاءِ
الْمَسْجِدِ عَنْهُ، وَالْحَجِّ عَنْهُ، إِذَا فَعَلَهَا وَجَعَل
ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ} (2) وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ:
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3)
وَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُل مَيِّتٍ
صَلَّى عَلَيْهِ، وَسَأَل رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ
أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ: فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لَهُ أَنْ يَجْعَل ثَوَابَ عِبَادَتِهِ
لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ صَحَّتْ فِيهَا النِّيَابَةُ، أَمْ لَمْ تَصِحَّ
فِيهَا، كَالصَّلاَةِ، وَالتِّلاَوَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ تَجُوزُ
فِيهَا النِّيَابَةُ،
__________
(1) المغني 2 / 567 - 568، ابن عابدين 1 / 605، 2 / 236، نهاية المحتاج 6 /
92، مغني المحتاج 3 / 96، القليوبي 3 / 175.
(2) سورة الحشر / 10.
(3) سورة محمد / 19.
(4) حديث: " سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن أمي ماتت.
. . ". أخرجه أبو داود (3 / 301) من حديث ابن عباس، والترمذي (3 / 48) .
قال الترمذي: " هذا حديث حسن ".
(29/260)
وَقَالُوا: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ،
فِي الصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالدُّعَاءِ، وَالاِسْتِغْفَارِ وَهِيَ:
عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ أَوْصَل اللَّهُ نَفْعَهَا إِلَى
الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا، مَعَ مَا رُوِيَ فِي التِّلاَوَةِ
(1) .
وَقَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الصَّدَقَةَ، وَنَحْوَهَا
مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَةَ كَالدُّعَاءِ، وَالاِسْتِغْفَارِ، لاَ يُفْعَل
عَنِ الْمَيِّتِ كَالصَّلاَةِ عَنْهُ قَضَاءً، أَوْ غَيْرِهَا، وَقِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا
سَعَى} (2) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الإِْمَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ.
وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ
ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِل إِلَى الْمَيِّتِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي
شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالأَْذْكَارِ وَجْهًا أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِل
إِلَى الْمَيِّتِ.
وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمُ ابْنُ
الصَّلاَحِ وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ، وَعَلَيْهِ
عَمَل النَّاسِ (3) ، وَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ
اللَّهِ حَسَنٌ (4) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة النجم / 39.
(3) المصادر السابقة، مغني المحتاج 3 / 69، القليوبي 3 / 175 / 176،
جواهرالإكليل 1 / 163.
(4) حديث: " ما رأى المسلمون حسنا. . . ". أخرجه أحمد (1 / 389) من قول ابن
مسعود موقوفا عليه، وحسنه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص367) .
(29/260)
هَل يَكُونُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا
بِإِتْيَانِ الْعِبَادَةِ؟ :
10 - قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الأَْصْل أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَتَى
بِعِبَادَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الأَْدْيَانِ؛ لاَ
يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا كَالصَّلاَةِ، مُنْفَرِدًا، وَالصَّدَقَةِ،
وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ، وَإِنْ أَتَى مَا
يَخْتَصُّ بِشَرْعِنَا، وَلَوْ مِنَ الْوَسَائِل كَالتَّيَمُّمِ، أَوْ مِنَ
الْمَقَاصِدِ، أَوْ مِنَ الشَّعَائِرِ كَالصَّلاَةِ بِجَمَاعَةٍ،
وَالْحَجِّ الْكَامِل، وَالأَْذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ وَسُجُودِ التِّلاَوَةِ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ السَّجْدَةِ،
يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْلاَم) .
(29/261)
عِبَارَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِبَارَةُ. فِي اللُّغَةِ: الْبَيَانُ وَالإِْيضَاحُ، يُقَال:
عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلاَنٍ:
تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ: أَيْ
يُبَيِّنُ، وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا تَفْسِيرُهَا: يُقَال: عَبَرْتُ
الرُّؤْيَا عَبْرًا وَعِبَارَةً: فَسَّرْتُهَا (1) ، وَفِي التَّنْزِيل:
{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعِبَارَةُ هِيَ الأَْلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى
الْمَعَانِي، لأَِنَّهَا تَفْسِيرُ مَا فِي الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ
مَسْتُورٌ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَوْل:
2 - الْقَوْل لُغَةً: الْكَلاَمُ أَوْ كُل لَفْظٍ يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ
تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، وَقَدْ يُطْلَقُ الْقَوْل عَلَى الآْرَاءِ
وَالاِعْتِقَادَاتِ، فَيُقَال: هَذَا قَوْل
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (عبر) .
(2) سورة يوسف / 43.
(3) كشف الأسرار 1 / 67، وقواعد الفقه لبركتي ص 371.
(29/261)
أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْل الشَّافِعِيِّ،
يُرَادُ بِهِ رَأْيُهُمَا وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَوْل وَالْعِبَارَةِ هِيَ أَنَّ الْقَوْل أَعَمُّ
مِنَ الْعِبَارَةِ لأَِنَّ الْعِبَارَةَ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَعْنًى.
ب - الصِّيغَةُ:
3 - الصِّيغَةُ لُغَةً: الْعَمَل وَالتَّقْدِيرُ، يُقَال: هَذَا صَوْغُ
هَذَا إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِهِ، وَصِيغَةُ الْقَوْل كَذَا، أَيْ
مِثَالُهُ وَصُورَتُهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْعَمَل وَالتَّقْدِيرِ (2) .
وَالصِّيغَةُ اصْطِلاَحًا: الأَْلْفَاظُ الَّتِي تَدُل عَلَى مُرَادِ
الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ التَّصَرُّفِ (3) .
وَالْعِبَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الصِّيغَةِ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
4 - قَسَّمَ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنِيفَةِ الأَْلْفَاظَ مِنْ حَيْثُ
دَلاَلَتِهَا عَلَى الْمَعْنَى إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) القاموس المحيط مادة (قول) ، والكليات 4 / 18، منشورات وزارة الثقافة
دمشق 1976م.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة (لفظ) والكليات 4 / 167، والتعريفات
للجرجاني ص 244.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (صوغ) وأسنى المطالب 2 / 3، وراجع
مصطلح (صيغة) في الموسوعة.
(29/262)
عِبَارَةُ النَّصِّ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ،
وَدَلاَلَةُ النَّصِّ، وَاقْتِضَاءُ النَّصِّ.
وَوَجْهُ ضَبْطِهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّظْمِ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا
بِنَفْسِ النَّظْمِ وَكَانَ النَّظْمُ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْعِبَارَةُ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الإِْشَارَةُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّظْمِ غَيْرَ ثَابِتٍ
بِنَفْسِ النَّظْمِ فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مَفْهُومًا مِنْهُ لُغَةً
فَهُوَ الدَّلاَلَةُ، أَوْ شَرْعًا فَهُوَ الاِقْتِضَاءُ.
فَعِبَارَةُ النَّصِّ هِيَ دَلاَلَةُ الْكَلاَمِ عَلَى الْمَعْنَى
الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) فَإِنَّهُ يَدُل
بِلَفْظِهِ وَعِبَارَتِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا التَّفْرِقَةُ
بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ،
لأَِنَّهَا نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْل الرِّبَا} (2) ، وَثَانِيهُمَا: إِبَاحَةُ الْبَيْعِ
وَمَنْعُ الرِّبَا، وَهُوَ مَقْصُودٌ تَبَعًا لِيُتَوَصَّل بِهِ إِلَى
إِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ أَصَالَةً، فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ
بِالْعِبَارَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَيَكُونُ
سَوْقُ الْكَلاَمِ لَهُ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 275.
(2) سورة البقرة / 275.
(3) التلويح على التوضيح 1 / 130، وتيسير التحرير 1 / 86، وكشف الأسرار 1 /
67.
(29/262)
وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَسَائِرِ
الأَْقْسَامِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الإِْنْسَانَ الْمُكَلَّفَ
مُؤَاخَذٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ أَلْفَاظٍ وَعِبَارَاتٍ، لِمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَال
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنْخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ
أَلْسِنَتِهِمْ (1) ؟
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ كَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ
وَالْمَجْنُونِ فَعِبَارَتُهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَلاَ يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا حُكْمٌ (2) . (ر: أَهْلِيَّة ف 17، 27)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّكْرَانِ
وَالْمَعْتُوهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِيَّة ف 19، 20، 21) .
6 - وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتِ
__________
(1) حديث معاذ بن جبل: " يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به. . . ".
أخرجه الترمذي (5 / 11 - 12) وابن ماجه (2 / 1314 - 1315) . وقال الترمذي:
حديث حسن صحيح، واللفظ للترمذي.
(2) المنثور في القواعد 2 / 301 نشر وزارة الأوقاف - الكويت 1982، الأشباه
والنظائر للسيوطي ص 215، تحفة الأحوذي 7 / 362 ط. المكتبة السلفية المدينة
المنورة.
(29/263)
الإِْشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ وَاخْتَلَفَ
مُوجِبُهُمَا غُلِّبَتِ الإِْشَارَةُ.
قَال السُّيُوطِيُّ: لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ فُلاَنَةَ: هَذِهِ،
وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا صَحَّ قَطْعًا، وَلَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ
هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ فَكَانَتْ عَجَمِيَّةً، أَوْ هَذِهِ الْعَجُوزَ
فَكَانَتْ شَابَّةً أَوْ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ
عَكْسَهُ، وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ
وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُول فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلاَنِ
وَالأَْصَحُّ الصِّحَّةُ، وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: بِالصِّحَّةِ تَعْوِيلاً
عَلَى الإِْشَارَةِ (1) .
عَبْد
انْظُرْ: رِقّ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 34، والمنثور في القواعد 1 / 167، والأشباه
والنظائر لابن نجيم ص 409.
(29/263)
|