الموسوعة
الفقهية الكويتية عَتَاقٌ
انْظُرْ: عِتْق.
عَتَاقَة
انْظُرْ: عِتْق.
(29/264)
عِتْق
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِتْقُ لُغَةً: خِلاَفُ الرِّقِّ - وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَعَتَقَ
الْعَبْدُ يَعْتِقُ عِتْقًا وَعَتْقًا، وَأَعْتَقْتُهُ فَهُوَ عَتِيقٌ،
وَلاَ يُقَال: عَتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ، بَل أَعْتَقَ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْخُلُوصُ. وَسُمِّيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ -
الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، لِخُلُوصِهِ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ
يَمْلِكْهُ جَبَّارٌ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصُهَا مِنَ الرِّقِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِتَابَةُ:
2 - الْكِتَابَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ، بِمَعْنَى الأَْجَل
الْمَضْرُوبِ.
وَاصْطِلاَحًا - عَقْدٌ يُوجِبُ عِتْقًا عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مِنَ
الْعَبْدِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَدَائِهِ (3) فَإِذَا
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، والقاموس المحيط، مادة
عتق.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 329.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 388.
(29/264)
أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَال صَارَ
الْعَبْدُ حُرًّا.
وَالْكِتَابَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِتْقِ؛ لأَِنَّهَا عِتْقٌ عَلَى مَالٍ.
ب - التَّدْبِيرُ:
3 - التَّدْبِيرُ لُغَةً: النَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الأُْمُورِ لِتَقَعَ
عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل، وَأَنْ يُعْتِقَ الرَّجُل عَبْدَهُ عَنْ
دُبُرِهِ، فَيَقُول: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي - لأَِنَّ الْمَوْتَ
دُبُرُ الْحَيَاةِ (1) .
وَاصْطِلاَحًا - تَعْلِيقُ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ
(2) .
وَالتَّدْبِيرُ عِتْقٌ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ.
ج - الاِسْتِيلاَدُ:
4 - الاِسْتِيلاَدُ لُغَةً: طَلَبُ الْوَلَدِ، وَهُوَ مَصْدَرُ اسْتَوْلَدَ
الرَّجُل الْمَرْأَةَ: إِذَا أَحْبَلَهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً
وَاصْطِلاَحًا: تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ (3) .
وَالاِسْتِيلاَدُ عِتْقٌ بِسَبَبٍ، وَهُوَ حَمْل الأَْمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا
وَوِلاَدَتُهَا.
مَشْرُوعِيَّةُ الْعِتْقِ:
5 - شُرِعَ الْعِتْقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. أَمَّا
الْكِتَابُ فَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 380.
(3) البدائع 4 / 123.
(29/265)
رَقَبَةٍ} (1) وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّا} (2) وَقَوْلُهُ {فَكُّ
رَقَبَةٍ} (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ - فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهُ
عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهَا (4) وَقَدْ أَعْتَقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَثِيرَ مِنَ الرِّقَابِ،
وَأَعْتَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ الْكَثِيرَ مِنَ الرِّقَابِ (5) .
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْعِتْقِ وَحُصُول
الْقُرْبَةِ بِهِ.
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِتْقِ:
6 - الْعِتْقُ مِنْ أَفْضَل الْقُرَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ
جَعَلَهُ كَفَّارَةً لِجِنَايَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: الْقَتْل،
وَالظِّهَارُ، وَالْوَطْءُ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ، وَالْحِنْثُ فِي
الأَْيْمَانِ، وَجَعَلَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِكَاكًا لِمُعْتِقِهِ مِنَ النَّارِ - لأَِنَّ فِيهِ تَخْلِيصًا
لِلآْدَمِيِّ الْمَعْصُومِ مِنْ ضَرَرِ الرِّقِّ وَمِلْكِ نَفْسِهِ
وَمَنَافِعِهِ وَتَكْمِيل
__________
(1) سورة المائدة / 89.
(2) سورة المجادلة / 3.
(3) سورة البلد / 13.
(4) حديث: " من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 11 / 599) ومسلم (2 / 1147) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(5) منح الجليل 4 / 564، ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 89.
(29/265)
أَحْكَامِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنَ
التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - حُكْمُ الْعِتْقِ: الاِسْتِحْبَابُ، وَهُوَ الإِْعْتَاقُ لِوَجْهِ
اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ.
وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَتَضَرَّرُ بِالْعِتْقِ،
كَمَنْ لاَ كَسْبَ لَهُ فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ، أَوْ
يَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ وَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ، أَوْ
يَخَافُ الْمُعْتِقُ عَلَى الْعَبْدِ الْخُرُوجَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ،
أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْرِقَ، أَوْ تَكُونُ جَارِيَةً فَيَخَافُ
مِنْهَا الزِّنَا وَالْفَسَادَ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْخُرُوجُ إِلَى
دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الرُّجُوعُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ الزِّنَا مِنَ
الْجَارِيَةِ - لأَِنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَلَكِنْ
إِذَا أَعْتَقَهُ صَحَّ - لأَِنَّهُ إِعْتَاقٌ صَادِرٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي
مَحَلِّهِ.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ وَفِي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَيَّنًا أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ النَّذْرَ كَغَيْرِهِ مِنْ
أَنْوَاعِ الْبِرِّ لاَ يُقْضَى بِهِ عَلَى النَّاذِرِ، بَل يَجِبُ
عَلَيْهِ تَنْفِيذُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، إِلاَّ إِذَا
كَانَ الْعِتْقُ نَاجِزًا وَتَعَيَّنَ مُتَعَلِّقُهُ، كَعَبْدِي هَذَا،
أَوْ عَبْدِي فُلاَنٌ حُرٌّ.
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 98 وما بعدها، المغني لابن قدامة 9 / 329.
(29/266)
فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ
إِنِ امْتَنَعَ (1) .
أَرْكَانُ الْعِتْقِ وَشُرُوطُهُ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْعِتْقِ رُكْنًا وَاحِدًا،
وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي جُعِل دَلاَلَةً عَلَى الْعِتْقِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْعِتْقِ أَرْكَانًا
ثَلاَثَةً تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْعِتْقِ هِيَ: الْمُعْتِقُ
بِالْكَسْرِ - وَالْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ - وَالصِّيغَةُ.
الأَْوَّل: الْمُعْتِقُ:
9 - وَيُشْتَرَطُ فِي الْعِتْقِ كَوْنُهُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ
الْمَالِيِّ، بَالِغًا عَاقِلاً حُرًّا رَشِيدًا مَالِكًا فَلاَ يَصِحُّ
الْعِتْقُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ بِلاَ إِذْنٍ، وَلاَ مِنْ غَيْرِ مُطْلَقِ
التَّصَرُّفِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ
بِفَلَسٍ أَوْ سَفَهٍ، وَلاَ مِنْ مُبَعَّضٍ وَمُكَاتَبٍ وَمُكْرَهٍ
بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعِتْقُ السَّكْرَانِ كَطَلاَقِهِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَق ف 18) ، وَيَصِحُّ الْعِتْقُ وَيَلْزَمُ
مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ (2) وَيَثْبُتُ وَلاَؤُهُ عَلَى عَتِيقِهِ
الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ.
الثَّانِي: الْمُعْتَقُ:
10 - وَيُشْتَرَطُ فِيهِ: أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لاَزِمٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 45، والمغني 9 / 330، وحاشية الدسوقي، 4 / 463 ومغني
المحتاج 4 / 491، والقوانين الفقهية ص 371.
(2) بدائع الصنائع 4 / 55، حاشية الدسوقي 4 / 359، المغني لابن قدامة 9 /
333، مغني المحتاج 4 / 491.
(29/266)
يَمْنَعُ عِتْقَهُ، فَإِنْ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ، أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ
إِسْقَاطُهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ، لِعَدَمِ لُزُومِهِ لِعَيْنِهِ، كَمَا
لَوْ أَوْصَى بِهِ سَيِّدُهُ لِفُلاَنٍ ثُمَّ نَجَّزَ عِتْقَهُ فَإِنَّ
عِتْقَهُ صَحِيحٌ مَاضٍ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ
- وَهُوَ الْمُوصَى لَهُ بِهِ - إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ غَيْرُ
لاَزِمٍ؛ لأَِنَّ لِلْمُوصَى أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ وَيُنَجِّزُ
الْعِتْقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُرْتَهِنًا، أَوْ كَانَ رَبُّهُ
مَدِينًا، أَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ جِنَايَةٌ وَكَانَ رَبُّهُ مَلِيًّا صَحَّ
الْعِتْقُ، وَعُجِّل الدَّيْنُ وَالأَْرْشُ، وَلاَ يَصِحُّ إِنْ كَانَ
مُعْسِرًا (1) .
الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ:
11 - وَيُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ أَنْ تَكُونَ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً، ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً، فَالصَّرِيحُ
مِثْل: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ أَعْتَقْتُكَ.
وَالْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ - مِثْل قَوْل السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: لاَ
سَبِيل عَلَيْكَ وَلاَ سُلْطَانَ لِي عَلَيْكَ، وَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ،
وَقَدْ خَلَّيْتُكَ.
وَالْكِنَايَةُ الْخَفِيَّةُ - كَاذْهَبْ أَوِ اغْرُبْ عَنِّي أَوِ
اسْقِنِي فَلاَ يَنْصَرِفُ لِلْعِتْقِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 331، حاشية الدسوقي 4 / 362، بدائع الصنائع 4 /
46، نهاية المحتاج 8 / 356، 357.
(29/267)
أَسْبَابُ الْعِتْقِ:
لِلْعِتْقِ أَسْبَابٌ سِتَّةٌ هِيَ:
1 - التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
2 - النَّذْرُ وَالْكَفَّارَاتُ.
3 - الْقَرَابَةُ.
4 - الْمُثْلَةُ بِالْعَبْدِ.
5 - التَّبْعِيضُ.
6 - الْعِتْقُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ.
أَوَّلاً - الْعِتْقُ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ:
12 - وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَال أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ
امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ
النَّارِ (1) .
ثَانِيًا - عِتْقٌ وَاجِبٌ بِالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ:
13 - وَذَلِكَ كَالْقَتْل وَالظِّهَارِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ وَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَتْل
الْخَطَأِ وَالظِّهَارِ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ، وَفِي الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ (2) .
__________
(1) حديث: " أيما امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 5 / 146) ومسلم (2 / 1148) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(2) بدائع الصنائع (4 / 49) فتح الجليل 4 / 564، المغني 9 / 329.
(29/267)
ثَالِثًا: الْقَرَابَةُ:
14 - فَمَنْ مَلَكَ قَرِيبًا لَهُ بِمِيرَاثٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ وَصِيَّةٍ
عَتَقَ عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَرِيبِ الَّذِي
يُعْتَقُ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ ذَا
رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ
مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ (1) وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَإِنْ عَلَوْا مِنْ قِبَل
الأَْبِ وَالأُْمِّ جَمِيعًا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَل مِنْ وَلَدِ
الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَالأَْخَوَاتُ وَالإِْخْوَةُ وَأَوْلاَدُهُمْ
وَإِنْ سَفَلُوا، وَالأَْعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَالأَْخْوَال
وَالْخَالاَتُ دُونَ أَوْلاَدِهِمْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَال بِهِ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ
زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ بِالْقَرَابَةِ -
الأَْبَوَانِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْمَوْلُودُونَ وَإِنْ سَفَلُوا،
وَالأَْخُ وَالأُْخْتُ مُطْلَقًا شَقِيقَيْنِ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ،
وَعَلَى هَذَا فَاَلَّذِي يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ عِنْدَهُمُ الأُْصُول
وَالْفُرُوعُ وَالْحَاشِيَةُ الْقَرِيبَةُ فَقَطْ، فَلاَ
__________
(1) حديث: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر ". أخرجه أبو داود (4 / 260)
والترمذي (3 / 637) من حديث سمرة.
(2) بدائع الصنائع 4 / 49، والمغني 9 / 355، والمبسوط للسرخسي 7 / 69.
(29/268)
عِتْقَ لِلأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَلاَ
لِلأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الَّذِي يُعْتَقُ إِذَا مُلِكَ
بِالْقَرَابَةِ - عَمُودُ النَّسَبِ أَيِ: الأُْصُول وَالْفُرُوعُ -
وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الأَْقَارِبِ كَالإِْخْوَةِ
وَالأَْعْمَامِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يُعْتَقُونَ بِالْمِلْكِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى فِي الأُْصُول: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ
الرَّحْمَةِ} (2) وَالأُْصُول وَالْفُرُوعُ يُعْتَقُونَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ
مُلِكُوا اخْتِيَارًا أَوْ لاَ، اتَّحَدَ دِينُهُمَا أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ
حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْقَرَابَةِ، فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ (3) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل مِنَ الآْيَةِ: أَنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى خَفْضُ
الْجَنَاحِ مَعَ الاِسْتِرْقَاقِ، وَلِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لاَ
يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ
فَيُعْتِقَهُ (4) . أَيْ فَيُعْتِقَهُ الشِّرَاءُ، لاَ أَنَّ الْوَلَدَ
هُوَ الْمُعْتِقُ بِإِنْشَائِهِ الْعِتْقَ، بِدَلِيل رِوَايَةِ فَيُعْتَقُ
عَلَيْهِ (5) .
وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُل مَنْ فِي السَّمَوَاتِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 366، الشرح الصغير 4 / 521.
(2) سورة الإسراء / 24.
(3) مغني المحتاج 4 / 499، روضة الطالبين 12 / 132.
(4) حديث: " لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده مملوكا. . . ". أخرجه مسلم (2 /
1148) من حديث أبي هريرة.
(5) زيادة " فيعتق عليه ". . . في مغني المحتاج (4 / 499) ولم نهتد إليه في
المراجع التي بين أيدينا.
(29/268)
وَالأَْرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنَ
عَبْدًا} (1) وَقَال تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا
سُبْحَانَهُ بَل عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (2) تَدُل عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ
الْوَلَدِيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ (3) .
رَابِعًا: الْمُثْلَةُ بِالْعَبْدِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ إِعْتَاقُ شَيْءٍ مِنَ
الْعَبْدِ بِمَا يَفْعَلُهُ سَيِّدُهُ فِيهِ مِنَ الأَْمْرِ الْخَفِيفِ
كَاللَّطْمِ وَالأَْدَبِ وَالْخَطَأِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَثُرَ مِنْ
ذَلِكَ وَشَنُعَ، مِنْ ضَرْبٍ مُبَرِّحٍ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، أَوْ تَحْرِيقٍ
بِنَارٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ إِفْسَادِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى
مَذْهَبَيْنِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى
أَنَّ مَنْ مَثَّل بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وُجُوبًا بِالْحُكْمِ، لاَ
بِمُجَرَّدِ التَّمْثِيل - إِنْ تَعَمَّدَ السَّيِّدُ التَّمْثِيل
بِالْعَبْدِ (4) ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: مَنْ مَثَّل بِعَبْدِهِ أَوْ
حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَهُوَ حُرٌّ، وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ (5)
.
__________
(1) سورة مريم / 92 - 93.
(2) سورة الأنبياء / 26.
(3) مغني المحتاج 4 / 499.
(4) حاشية الدسوقي 4 / 367 بداية المجتهد لابن رشد 2 / 337 صحيح مسلم بشرح
النووي 11 / 127، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 95، 96، القوانين الفقهية ص
372.
(5) حديث: " من مثل بعبده أو حرقه بالنار. . . ". أخرجه أحمد (2 / 225) من
حديث عبد الله بن عمرو، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 239) وقال:
رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.
(29/269)
الثَّانِي: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ:
إِلَى أَنَّ مَنْ مَثَّل بِعَبْدِهِ لاَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ (1) .
خَامِسًا: التَّبْعِيضُ:
16 - مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ رَقِيقِهِ الْمَمْلُوكِ لَهُ، فَإِنَّ
مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ؛
لأَِنَّ الإِْعْتَاقَ لاَ يَتَجَزَّأُ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ
الإِْعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ.
وَإِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ غَيْرِهِ
فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُعْتِقِ
مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ
كُلُّهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُهُ فَقَطْ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ
بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ
قِيمَةَ نَصِيبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهِ فِي مُصْطَلَحِ:
(تَبْعِيض ف 40) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 100، وصحيح مسلم بشرح النووي 11 / 127، بداية
المجتهد لابن رشد 2 / 337، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 95، 96.
(2) بدائع الصنائع 4 / 87، وحاشية الدسوقي 4 / 369، والمغني لابن قدامة 9 /
336، 338، وروضة الطالبين 12 / 110، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 135، 137.
(29/269)
سَادِسًا: الْعِتْقُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ:
17 - إِذَا قَال السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِغَيْرِ وَجْهِ
اللَّهِ يَقَعُ الْعِتْقُ بِالاِتِّفَاقِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَلَكِنِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَلاَءِ الْمُعْتِقِ وَمِيرَاثِهِ مِنَ
الْمُعْتَقِ - فَتْحُ التَّاءِ - عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ الْوَلاَءُ
لِلْمُعْتِقِ، لأَِنَّ الْوَلاَءَ ثَمَرَةُ الْعِتْقِ، فَحَيْثُ وُجِدَ
هَذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ السَّبَبُ تَحَقَّقَ
الْمُسَبَّبُ (1) لِحَدِيثِ: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ
الْوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ - بِكَسْرِ التَّاءِ (3) -.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَلاَء) .
تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ
السَّيِّدُ عِتْقَ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى مَجِيءِ وَقْتٍ أَوْ
فِعْلٍ، كَأَنْتَ حُرٌّ فِي رَأْسِ الْحَوْل، أَوْ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ
فَعَبْدِي حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ أَوْ يَحْصُل
الْفِعْل، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 159، 160، روضة الطالبين 12 / 170، مغني المحتاج 4 /
507، فتح الباري شرح البخاري 12 / 35، نيل الاوطار للشوكاني 6 / 79.
(2) حديث: " لمن أعتق ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 185) ومسلم (2 /
1145) من حديث عائشة.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 417، المغني لابن قدامة 6 / 353، فتح الباري 12 /
32، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 79.
(29/270)
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ - لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَال لِعَبْدِهِ: أَنْتَ عَتِيقٌ إِلَى رَأْسِ الْحَوْل، فَلَوْلاَ
أَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْل لَمْ يُعَلِّقْهُ لِعَدَمِ
فَائِدَتِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ حَصَل
الْفِعْل الْمُعَلَّقُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِغَيْرِ خِلاَفٍ،
وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - لِقَوْل الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَلاَقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ
وَلاَ عِتْقَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ بَيْعَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ
(1) . وَلأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لَهُ، فَلَمْ يَقَعْ عَتَاقُهُ كَمَا لَوْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ.
وَقَال النَّخَعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَتَقَ، وَيُنْتَقَضُ
الْبَيْعُ وَالإِْجَارَةُ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَنْقَسِمُ صِيغَةُ تَعْلِيقِ الْعِتْقِ إِلَى
قِسْمَيْنِ: صِيغَةُ بِرٍّ، وَصِيغَةُ حِنْثٍ.
فَأَمَّا صِيغَةُ الْبِرِّ فَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُول السَّيِّدُ: إِنْ
دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَبْدِي فُلاَنٌ حُرٌّ، أَوْ أَمَتِي فُلاَنَةُ
حُرَّةٌ.
وَأَمَّا صِيغَةُ الْحِنْثِ فَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُول
__________
(1) حديث: " لا طلاق إلا فيما تملك. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 640 - 641)
والترمذي (3 / 477) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال الترمذي:
حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.
(2) المبسوط للسرخسي 7 / 80، 84، حاشية الدسوقي 4 / 364، نهاية المحتاج 8 /
354، كشاف القناع 4 / 522، المغني لابن قدامة 9 / 375، 376.
(29/270)
السَّيِّدُ: إِنْ لَمْ أَفْعَل كَذَا
فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ أَمَتِي حُرَّةٌ.
فَإِذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِيغَةِ الْبِرِّ فَلِلسَّيِّدِ الْبَيْعُ
وَالْوَطْءُ، لأَِنَّهُ عَلَى بِرٍّ حَتَّى يَحْصُل الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ،
سَوَاءٌ قَيَّدَ الْعِتْقَ بِأَجَلٍ أَوْ أَطْلَقَ، وَإِنْ مَاتَ
السَّيِّدُ لَمْ يَخْرُجِ الْعَبْدُ وَلاَ الأَْمَةُ مِنْ ثُلُثٍ وَلاَ
غَيْرِهِ، بَل يَكُونُ مِيرَاثًا.
وَإِذَا عَلَّقَ السَّيِّدُ الْعِتْقَ بِصِيغَةِ الْحِنْثِ فَلاَ يَجُوزُ
لَهُ بَيْعُ الْعَبْدِ وَلاَ وَطْءُ الأَْمَةِ، وَإِذَا بَاعَ فُسِخَ
الْبَيْعُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْل فِعْل الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ عَتَقَ مِنَ
الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْحِنْثِ مُقَيَّدَةً بِأَجَلٍ، مِثْل: إِنْ لَمْ
أَدْخُل الدَّارَ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَأَمَتِي حُرَّةٌ،
فَيُمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ الْوَطْءِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ يَقْطَعُ الْعِتْقَ وَيُضَادُّهُ، بِخِلاَفِ
الْوَطْءِ (1) .
فَإِنْ عَادَ الْعَبْدُ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ عَلَى صِفَةٍ إِلَى مِلْكِ
السَّيِّدِ، بَعْدَ أَنْ بَاعَهُ وَتَحَقَّقَتِ الصِّفَةُ، عَتَقَ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ التَّعْلِيقَ حَدَثَ وَالْعَبْدُ
فِي مِلْكِ السَّيِّدِ، وَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ،
فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُعْتَقُ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
لأَِنَّ التَّعْلِيقَ السَّابِقَ يَسْقُطُ بِالْبَيْعِ (2) .
__________
(1) الدسوقي 4 / 364.
(2) المبسوط للسرخسي 7 / 80 - 84، ونهاية المحتاج 8 / 354، وكشاف القناع 4
/ 522، والمغني لابن قدامة 9 / 375، 376.
(29/271)
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى
الْعِتْقِ:
أَوَّلاً - إِرْثُ الْمُعْتِقِ مِنْ عَتِيقِهِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ - رَجُلاً أَوِ
امْرَأَةً - يَرِثُ جَمِيعَ مَال مَنْ أَعْتَقَهُ، أَوِ الْبَاقِيَ مِنْهُ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ بِالنَّسَبِ، وَيُسَمَّى الْعَتِيقُ:
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ: وَمَوْلَى النِّعْمَةِ أَوِ الْعُصُوبَةِ
السَّبَبِيَّةِ.
فَإِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ صِفَةً
تَجْعَلُهُ مُسْتَحِقًّا لإِِرْثِ عَتِيقِهِ لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (1)
.
فَالْوَلَدُ يُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ وَأُسْرَتِهِ، وَالْعَتِيقُ يُنْسَبُ
إِلَى مُعْتِقِهِ وَأُسْرَتِهِ، إِلاَّ أَنَّ النَّسَبَ يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ الإِْرْثُ لِكِلاَ الْجَانِبَيْنِ، فَكَمَا يَرِثُ الاِبْنُ
أَبَاهُ يَرِثُ الأَْبُ ابْنَهُ، أَمَّا الإِْعْتَاقُ فَيُقَرِّرُ
الإِْرْثَ لِجَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُعْتِقُ، فَلاَ إِرْثَ
لِلْعَتِيقِ مِنْ سَيِّدِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْعَل مَا يَسْتَوْجِبُ
الْمُكَافَأَةَ بِعَكْسِ السَّيِّدِ (2) . لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ
أَهْلُهَا وَلاَءَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". أخرجه الشافعي (بدائع المنن 12 /
32) ومن طريقه الحاكم (4 / 341) من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 268، روضة الطالبين 6 / 21، فتح الباري 12 / 32.
(29/271)
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَال. أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى
الْوَرِقَ (1) . وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: الْوَلاَءُ لِلأَْكْبَرِ (2) مِنَ الذُّكُورِ، وَلاَ تَرِثُ
النِّسَاءُ مِنَ الْوَلاَءِ إِلاَّ وَلاَءَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ
أَعْتَقَهُ مَنْ أَعْتَقْنَ " (3) .
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الإِْرْثَ هُنَا بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ،
وَهِيَ قَاصِرَةٌ عَلَى الرِّجَال؛ لأَِنَّهُمُ الَّذِينَ تَتَحَقَّقُ
بِهِمُ النُّصْرَةُ، وَهِيَ سَبَبٌ لِلْخِلاَفَةِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ
فَلَيْسَ لَهُنَّ مِنَ الْوَلاَءِ إِلاَّ مَا كُنَّ سَبَبًا فِيهِ،
بِإِعْتَاقِهِنَّ مُبَاشَرَةً، أَوْ بِوَاسِطَةِ إِعْتَاقِ مَنْ
أَعْتَقْنَ. وَإِذَا كَانَ لِلْعَتِيقِ عَصَبَةٌ مِنَ النَّسَبِ، أَوْ
كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ أَصْحَابُ فُرُوضٍ، وَاسْتَوْعَبَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ
كُل التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ لِلْمُعْتِقِ؛ لأَِنَّ لِهَؤُلاَءِ
أَوْلَوِيَّةً عَلَيْهِ.
__________
(1) حديث: " أعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 12 / 45) ومسلم (2 / 1143) من حديث عائشة: واللفظ للبخاري.
(2) المراد بالأكبر الأقرب في الدرجة، وليس المراد به الأكبر سنًا.
(3) حديث: " الولاء للأكبر من الذكور ولا ترث النساء من الولاء ". قال
الزيلعي في نصب الراية: (4 / 154) غريب، انتهى. وقد روى البيهقي في السنن
الكبرى (10 / 306) عن علي وعبد الله وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم كانوا
يجعلون الولاء للكبر من العصبة، ولا يورثون النساء إلا ما أعتقن أو أعتق من
أعتقن.
(29/272)
مَرْتَبَةُ الْعَصَبَةِ السَّبَبِيَّةِ
بَيْنَ الْوَرَثَةِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَاصِبَ السَّبَبِيَّ مُؤَخَّرٌ
فِي الإِْرْثِ عَنِ الْعَاصِبِ النَّسَبِيِّ، أَمَّا تَحْدِيدُ
مَرْتَبَتِهِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَمُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ
مَرْتَبَةَ الْعَاصِبِ السَّبَبِيِّ فِي الإِْرْثِ تَلِي الْعَاصِبَ
النَّسَبِيَّ مُبَاشَرَةً، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى
الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَإِرْثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَلَوْ
مَاتَ الْعَتِيقُ عَنْ بِنْتِهِ وَمَوْلاَهُ، فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ
وَالْبَاقِي لِمَوْلاَهُ، وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ وَمَوْلاَهُ فَالْمَال
لِمَوْلاَهُ دُونَ ذِي الرَّحِمِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ بِنْتِ حَمْزَةَ قَالَتْ: مَاتَ مَوْلاَيَ
وَتَرَكَ ابْنَةً، فَقَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَالَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنَتِهِ فَجَعَل لِي النِّصْفَ
وَلَهَا النِّصْفَ (1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلاَءُ (2) .
__________
(1) حديث عبد الله بن شداد عن بنت حمزة قالت: " مات مولاى. . . ". أخرجه
ابن ماجه (2 / 913) والحاكم (4 / 66) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 /
231) : رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح.
(2) حديث الحسن: " الميراث للعصبة فإن لم يكن عصبة فالولاء ". أخرجه سعيد
بن منصور (3 / 75) مرسلا.
(29/272)
وَذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمُ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى أَنَّ
إِرْثَ الْعَصَبَةِ السَّبَبِيَّةِ مُؤَخَّرٌ عَنِ الرَّدِّ عَلَى
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَعَنْ تَوْرِيثِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَلاَ إِرْثَ
لِلْعَاصِبِ السَّبَبِيِّ مَعَ وُجُودِ وَارِثٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ
صَاحِبَ فَرْضٍ أَوْ عَاصِبًا نَسَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ (1) لِظَاهِرِ
قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ} (2) .
ثَانِيًا - مَال الْعَتِيقِ:
21 - إِذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ وَلَهُ مَالٌ فَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل أَحْمَدَ
عَلَى أَنَّ مَالَهُ لِسَيِّدِهِ، لِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِغُلاَمِهِ
عُمَيْرٍ: يَا عُمَيْرُ إِنِّي أَعْتَقْتُكَ عِتْقًا هَنِيئًا، إِنِّي
سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ غُلاَمًا وَلَمْ يُسَمِّ مَالَهُ فَالْمَال لَهُ
فَأَخْبَرَنِي مَا مَالُكَ (3) ، وَلأَِنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ كَانَا
لِلسَّيِّدِ، فَأَزَال مِلْكَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَبَقِيَ مِلْكُهُ فِي
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 76، أسباب النزول للسيوطي ص 92.
(2) سورة الأنفال / 75.
(3) حديث: " أيما رجل أعتق غلاما ولم يسم ماله. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 /
845) من حديث عبد الله بن مسعود وقال البوصيري في الزوائد (2 / 68) : هذا
إسناد فيه مقال.
(29/273)
الآْخَرِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ مَال الْعَبْدِ تَبَعٌ لَهُ، رُوِيَ
هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْحَسَنِ
وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَهْل الْمَدِينَةِ
وَقَدِ اسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَعْتَقَ
عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَال الْعَبْدِ لَهُ (2) .
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَال الْعَبْدِ يَتْبَعُهُ
فِي الْعِتْقِ، دُونَ الْبَيْعِ، مَا لَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ السَّيِّدُ،
فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ (3) .
عِتْقُ الْمُكَاتَبِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لاَ يُعْتَقُ
حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، إِذْ هُوَ عَبْدٌ مَا
بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ
مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ (4) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ
__________
(1) فتح القدير 4 / 232 ط. بيروت، البدائع 4 / 160، نهاية المحتاج 8 / 369
ط. بيروت.
(2) حديث: " من أعتق عبدا وله مال فمال العبد له ". أخرجه أبو داود (4 /
270 - 271) وابن ماجه (2 / 845) من حديث ابن عمر. وإسناده صحيح.
(3) الخرشي 8 / 131 ط. بيروت، حاشية الدسوقي 4 / 379، المغني لابن قدامة 9
/ 374.
(4) حديث: " المكاتب عبد. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 442) والبيهقي (10 /
324) وصححه الحاكم وروي موقوفا عن بعض الصحابة كما في فتح الباري (5 / 195)
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(29/273)
أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ
أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلاَّ عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ (1) فَعَلَى
هَذَا إِنْ أَدَّى الْعَبْدُ عَتَقَ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُعْتَقْ (2)
.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي
عِتْقَهُ عَتَقَ وَيُعْتَقُ مَعَهُ وَلَدُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَانَ لإِِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ
مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ (3) .
فَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُنَّ بِالْحِجَابِ
بِمُجَرَّدِ مِلْكِهِ لِمَا يُؤَدِّي، وَلأَِنَّهُ مَالِكٌ لِوَفَاءِ مَال
الْكِتَابَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّاهُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ
يَصِيرُ حُرًّا بِمِلْكِ الْوَفَاءِ، وَإِنْ هَلَكَ مَا فِي يَدَيْهِ قَبْل
الأَْدَاءِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَقَدْ أَصْبَحَ حُرًّا (4) .
عِتْقُ الْمُدَبَّرِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ
__________
(1) حديث: " أيما عبد كاتب. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 244) والحاكم (2 /
218) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) بدائع الصنائع 4 / 134، 135، حاشية الدسوقي 4 / 399، روضة الطالبين 12
/ 236.
(3) حديث: " إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه ".
أخرجه أبو داود (4 / 244) والترمذي (3 / 553) وأشار البيهقي في السنن
الكبرى (10 / 327) إلى تضعيف الشافعي له.
(4) المغني لابن قدامة 9 / 429.
(29/274)
مِنْ ثُلُثِ الْمَال بَعْدَ مَوْتِ
الْمَوْلَى؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ مِنَ الثُّلُثِ
كَالْوَصِيَّةِ، وَيُفَارِقُ التَّدْبِيرُ الْعِتْقَ فِي الصِّحَّةِ،
فَإِنَّ التَّدْبِيرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ،
فَيَنْفُذُ فِي الْجَمِيعِ كَالْهِبَةِ الْمُنَجَّزَةِ.
وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ عَتَقَ مِنْهُ مِقْدَارُ
الثُّلُثِ وَبَقِيَ سَائِرُهُ رَقِيقًا (1) .
عِتْقُ الْمُسْتَوْلَدَةِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ فِي
أُمِّ وَلَدِهِ التَّصَرُّفُ بِمَا يَنْقُل الْمِلْكَ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ
بَيْعُهَا وَلاَ وَقْفُهَا وَلاَ رَهْنُهَا وَلاَ تُورَثُ، بَل تُعْتَقُ
بِمَوْتِ السَّيِّدِ مِنْ كُل الْمَال وَيَزُول الْمِلْكُ عَنْهَا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِيلاَد ف 10) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 123، القوانين الفقهية ص 376، المغني لابن قدامة 9 /
387، روضة الطالبين 12 / 198.
(29/274)
عَتَه
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصُ الْعَقْل مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ
دَهَشٍ، وَالْمَعْتُوهُ الْمَدْهُوشُ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ أَوْ جُنُونٍ.
وَالْعَتَهُ فِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الذَّاتِ، تُوجِبُ
خَلَلاً فِي الْعَقْل، وَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْل،
فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ
الْمَجَانِينِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَبْل:
2 - الْخَبْل (بِالتَّسْكِينِ) : الْفَسَادُ وَالْجُنُونُ، وَيَكُونُ فِي
الأَْفْعَال وَالأَْبْدَانِ وَالْعُقُول فَيُؤَثِّرُ فِيهَا، وَيَلْحَقُ
الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالْجُنُونِ وَالْمَرَضِ.
وَالْخَبَل (بِالتَّحْرِيكِ) : الْجِنُّ، وَالْخَابِل: الشَّيْطَانُ،
وَالْخَبَال: الْفَسَادُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل. {مَا
زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} (2) وَفِي
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، التعريفات
للجرجاني.
(2) سورة التوبة / 47.
(29/275)
الْحَدِيثِ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ
خَبْلٌ (1) أَيْ: فَسَادُ الْفِتْنَةِ وَالْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَالْقَتْل.
وَالْخَبْل وَالْعَتَهُ يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنًى وَهُوَ نُقْصَانُ
الْعَقْل فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (2) .
ب - الْحُمْقُ:
3 - الْحُمْقُ: فَسَادُ الْعَقْل، أَوْ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ (3) .
وَالْحُمْقُ وَالْعَتَهُ يَشْتَرِكَانِ فِي فَسَادِ الْعَقْل وَسُوءِ
التَّصَرُّفِ.
ج - الإِْغْمَاءُ:
4 - الإِْغْمَاءُ: مَصْدَرُ أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُل، مَبْنِيٌّ
لِلْمَفْعُول، وَالإِْغْمَاءُ: مَرَضٌ يُزِيل الْقُوَى وَيَسْتُرُ
الْعَقْل، وَقِيل: فُتُورٌ عَارِضٌ - لاَ بِمُخَدِّرٍ - يُزِيل عَمَل
الْقُوَى.
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَتَهِ وَالإِْغْمَاءِ: أَنَّ الإِْغْمَاءَ:
مُؤَقَّتٌ، وَالْعَتَهُ مُسْتَمِرٌّ غَالِبًا، وَالإِْغْمَاءُ يُزِيل
__________
(1) حديث: " بين يدى الساعة خبل ". أورده ابن الأثير في النهاية (2 / 8)
ولم نهتد إلى من أخرجه من المصادر الحديثية الموجودة لدينا.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.
(29/275)
الْقُوَى كُلَّهَا، وَالْعَتَهُ يُضْعِفُ
الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - اعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْعَتَهَ يَسْلُبُ
التَّكْلِيفَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجُنُونِ،
وَيَنْطَبِقُ عَلَى الْمَعْتُوهِ مَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْمَجْنُونِ مِنْ
أَحْكَامٍ، سَوَاءٌ فِي أُمُورِ الْعِبَادَاتِ، أَوْ فِي أُمُورِ الْمَال
وَالْمُعَامَلاَتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ، أَوْ فِي الْعُقُودِ الأُْخْرَى
كَعُقُودِ النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ
الأُْخْرَى.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ
الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ
الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل وَفِي
رِوَايَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ وَفِي رِوَايَةٍ:
وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِل (2) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الدَّبُوسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: غمى، والمغرب في ترتيب المعرب في
مادة: إغماء وحاشية ابن عابدين 2 / 426.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 560) والحاكم
(2 / 59) وصححه ووافقه الذهبي. أما رواية " وعن المعتوه حتى يعقل " فأخرجها
أحمد (6 / 100 - 101) .
(29/276)
فَقَال: تَجِبُ عَلَى الْمَعْتُوهِ
الْعِبَادَاتُ احْتِيَاطًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ:
وَصَرَّحَ الأُْصُولِيُّونَ: بِأَنَّ حُكْمَ الْمَعْتُوهِ كَالصَّبِيِّ
الْمُمَيِّزِ الْعَاقِل فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَفِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ
عَنْهُ وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ مِثْل ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى
الأُْصُولِيِّينَ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَهْلِيَّة وَحَجْر وَجُنُون) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية مادة 945، 957، 960، 978، الفتاوى الهندية 3 /
465، الفتاوى البزازية 4 / 122، حاشية ابن عابدين 2 / 426، 427، جواهر
الإكليل 1 / 281، مغني المحتاج 1 / 131، نهاية المحتاج 1 / 376، المغني
لابن قدامة 1 / 400، تبيين الحقائق 5 / 191.
(29/276)
عَتِيرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَتِيرَةُ فِي اللُّغَةِ: لَهَا مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا:
أ - أَوَّل مَا يُنْتَجُ، كَانُوا يَذْبَحُونَهَا لآِلِهَتِهِمْ.
ب - ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ يَتَقَرَّبُ بِهَا أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ فَنُسِخَ ذَلِكَ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا نَذَرَ:
لَئِنْ ظَفِرَ بِهِ لِيَذْبَحَنَّ مِنْ غَنَمِهِ فِي رَجَبٍ كَذَا وَكَذَا،
فَإِذَا ظَفِرَ بِهِ، فَرُبَّمَا ضَاقَتْ نَفْسُهُ عَنْ ذَلِكَ وَضَنَّ
بِغَنَمِهِ، فَيَأْخُذُ عَدَدَهَا ظِبَاءً، فَيَذْبَحُهَا فِي رَجَبٍ
مَكَانَ تِلْكَ الْغَنَمِ، فَكَأَنَّ تِلْكَ عَتَائِرُهُ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدِ انْفَرَدَ ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب.
(2) حديث: " لا فرع ولا عتيرة ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 9 / 596) ومسلم (3 / 1564) من حديث أبي هريرة.
(29/277)
بِتَفْسِيرٍ خَاصٍّ، قَال: الْعَتِيرَةُ:
الطَّعَامُ الَّذِي يُبْعَثُ لأَِهْل الْمَيِّتِ، قَال مَالِكٌ: أَكْرَهُ
أَنْ يُرْسِل لِمَنَاحَةٍ، وَاسْتَبْعَدَهُ غَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَرَعُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْفَرَعِ لُغَةً: أَنَّهُ أَوَّل نِتَاجِ الإِْبِل
وَالْغَنَمِ، كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَهُ لآِلِهَتِهِمْ
وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ، تَقُول: أَفْرَعَ الْقَوْمُ إِذَا ذَبَحُوا
الْفَرَعَ.
أَوْ هُوَ: بَعِيرٌ كَانَ يُذْبَحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا كَانَ
لِلإِْنْسَانِ مِائَةُ بَعِيرٍ نَحَرَ مِنْهَا بَعِيرًا كُل عَامٍ،
فَأَطْعَمَ النَّاسَ، وَلاَ يَذُوقُهُ هُوَ وَلاَ أَهْلُهُ.
وَقِيل: الْفَرَعُ: طَعَامٌ يُصْنَعُ لِنِتَاجِ الإِْبِل، كَالْخَرَسِ
لِوِلاَدَةِ الْمَرْأَةِ (2) .
وَفَسَّرَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، وَهُوَ: أَنَّهُ أَوَّل
وَلَدٍ تَلِدُهُ النَّاقَةُ أَوِ الشَّاةُ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ
لآِلِهَتِهِمْ (3) .
وَهِيَ تَشْتَرِكُ مَعَ الْعَتِيرَةِ فِي كَوْنِهَا مِمَّا تَعَوَّدَهُ
__________
(1) البدائع 5 / 69، والمواق والحطاب 3 / 248، والمجموع 8 / 443 - 446 ط.
السلفية، المغني 8 / 650.
(2) لسان العرب والمصباح المنير والمغرب.
(3) الحطاب 3 / 248، والمغني 8 / 650، وأسنى المطالب 1 / 550.
(29/277)
الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ
الذَّبْحِ تَقَرُّبًا لِلآْلِهَةِ أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ.
غَيْرَ أَنَّ الْعَتِيرَةَ اشْتَهَرَ كَوْنُهَا فِي شَهْرِ رَجَبٍ.
ب - الأُْضْحِيَّةُ:
3 - الأُْضْحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ
ضَحْوَةً، أَيْ وَقْتَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، أَوْ هِيَ الشَّاةُ الَّتِي
تُذْبَحُ يَوْمَ الأَْضْحَى.
وَشَرْعًا: هِيَ مَا يُذَكَّى تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي
أَيَّامِ النَّحْرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَهِيَ تَشْتَرِكُ مَعَ الْعَتِيرَةِ فِي أَنَّهَا ذَبِيحَةٌ بِقَصْدِ
التَّقَرُّبِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَ الْعَتِيرَةَ فِي
أَوَّل الإِْسْلاَمِ.
ج - الْعَقِيقَةُ:
4 - الْعَقِيقَةُ: مَا يُذَكَّى مِنَ النَّعَمِ، شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى
عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ وِلاَدَةِ مَوْلُودٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أَنْثَى (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - جَاءَ الإِْسْلاَمُ وَالْعَرَبُ يَذْبَحُونَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مَا
يُسَمَّى بِالْعَتِيرَةِ أَوِ الرَّجَبِيَّةِ، وَصَارَ مَعْمُولاً بِذَلِكَ
فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ (3) ، لِقَوْل
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وابن عابدين 5 / 11.
(2) الحطاب والمواق 3 / 255.
(3) المغني 8 / 650، الحطاب 3 / 248، المجموع شرح المهذب 8 / 446 ط.
السلفية.
(29/278)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى أَهْل كُل بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ (1) .
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي نَسْخِ هَذَا
الْحُكْمِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ طَلَبَ الْعَتِيرَةِ مَنْسُوخٌ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
فَرَعَ لاَ عَتِيرَةَ (3) ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " نَسَخَ صَوْمُ
رَمَضَانَ كُل صَوْمٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَنَسَخَتِ الأُْضْحِيَّةُ كُل
ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَنَسَخَ غُسْل الْجَنَابَةِ كُل غُسْلٍ كَانَ
قَبْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ انْتِسَاخَ الْحُكْمِ
مِمَّا لاَ يُدْرَكُ بِالاِجْتِهَادِ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ لاَ فَرَعَ وَلاَ
عَتِيرَةَ فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ
قَوْل وَكِيعِ بْنِ عُوَيْسٍ وَابْنِ كَجٍّ وَالدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِمْ
إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ نَفْيُ كَوْنِهَا سُنَّةً، لاَ
تَحْرِيمُ فِعْلِهَا، وَلاَ كَرَاهَتُهُ، فَلَوْ ذَبَحَ إِنْسَانٌ
ذَبِيحَةً فِي رَجَبٍ، أَوْ ذَبَحَ وَلَدَ النَّاقَةِ لِحَاجَتِهِ
__________
(1) حديث: " على أهل كل بيت أضحية وعتيرة ". أخرجه أبو داود (3 / 226) من
حديث مخنف بن سليم، وضعف إسناده الخطابي كما في مختصر السنن للمنذري (4 /
93) .
(2) المجموع شرح المهذب 8 / 446 ط. السلفية.
(3) حديث: " لا فرع ولا عتيرة " سبق تخريجه فـ 1.
(4) البدائع 5 / 69.
(29/278)
إِلَى ذَلِكَ أَوْ لِلصَّدَقَةِ أَوْ
إِطْعَامِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ قَوْل عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ سِوَى ابْنِ
سِيرِينَ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ نَسْخٌ لِلْوُجُوبِ،
لَكِنَّهُمْ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى الإِْبَاحَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الإِْبَاحَةِ بِمَا رَوَى الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو
التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ لَقِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَال رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: يَا رَسُول
اللَّهِ، الْعَتَائِرُ وَالْفَرَائِعُ؟ قَال: مَنْ شَاءَ عَتَرَ وَمَنْ
شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّعَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ
(2) وَمَا رُوِيَ عَنْ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّا كُنَّا نَذْبَحُ فِي
رَجَبٍ ذَبَائِحَ فَنَأْكُل مِنْهَا وَنُطْعِمُ مِنْهَا مَنْ جَاءَنَا؟
فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ
بِذَلِكَ، فَقَال وَكِيعٌ: لاَ أَتْرُكُهَا أَبَدًا (3) .
وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ الْحَنَفِيَّةُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ
__________
(1) المغني 8 / 650، الحطاب 3 / 248.
(2) حديث الحارث بن عمرو أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع. أخرجه النسائي (7 / 167 - 169) وفي إسناده ضعف، ولكن له شاهد من
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه أبو داود (3 / 263) والحاكم (4 /
236) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث لقيط بن عامر: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا
نذبح في رجب ذبائح. أخرجه أحمد (4 / 12 - 13) ، وفي إسناده جهالة راويه
وكيع بن عدي.
(29/279)
يُبَيِّنُوا حُكْمَ الْعَتِيرَةِ، هَل هُوَ
حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ؟ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَسْخِ طَلَبِ الْعَتِيرَةِ،
وَقَالُوا تُسْتَحَبُّ الْعَتِيرَةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ نُبَيْشَةَ قَال: نَادَى رَجُلٌ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَال: اذْبَحُوا لِلَّهِ
فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ. . . إِلَخْ الْحَدِيثِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ فَلَمْ يُبْطِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْعَتِيرَةَ مِنْ أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا أَبْطَل خُصُوصَ
الذَّبْحِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ.
قَال النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ،
وَاقْتَضَتْهُ الأَْحَادِيثُ: أَنَّهُمَا لاَ يُكْرَهَانِ، بَل
يُسْتَحَبَّانِ، (أَيِ الْفَرَعُ وَالْعَتِيرَةُ (1)) .
__________
(1) المجموع 8 / 443 - 444 - 445 - 446، وفتح الباري 9 / 597.
(29/279)
عُجْب
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعُجْبِ - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ: الزَّهْوُ (1)
.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْعُجْبُ:
ظَنُّ الإِْنْسَانِ فِي نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ مَنْزِلَةٍ هُوَ غَيْرُ
مُسْتَحِقٍّ لَهَا (2) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: الْعُجْبُ هُوَ اسْتِعْظَامُ النِّعْمَةِ
وَالرُّكُونُ إِلَيْهَا، مَعَ نِسْيَانِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ
(3) .
قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْعُجْبُ فَرْحَةٌ فِي النَّفْسِ
بِإِضَافَةِ الْعَمَل إِلَيْهَا وَحَمْدِهَا عَلَيْهِ، مَعَ نِسْيَانِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ، وَالْمُتَفَضِّل
بِالتَّوْفِيقِ إِلَيْهِ، وَمَنْ فَرِحَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِنَّةً مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَعْظَمَهُ، لِمَا يَرْجُو عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابِهِ،
وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَحْمَدْهَا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ
بِمُعْجَبٍ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص 306 نشر دار الصحوة -
القاهرة.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 360 ط. الحلبي 1939م.
(4) بدائع السلك في طبائع الملك لأبي عبد الله محمد بن الأزرق الأندلسي 1 /
495 - 496.
(29/280)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكِبْرُ:
2 - الْكِبْرُ: هُوَ ظَنُّ الإِْنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ
غَيْرِهِ، وَالتَّكَبُّرُ إِظْهَارٌ لِذَلِكَ، وَصِفَةُ " الْمُتَكَبِّرِ "
لاَ يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنِ ادَّعَاهَا مِنَ
الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ فِيهَا كَاذِبٌ، وَلِذَلِكَ صَارَ مَدْحًا فِي
حَقِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَذَمًّا فِي الْبَشَرِ،
وَإِنَّمَا شَرَفُ الْمَخْلُوقِ فِي إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ هِيَ: أَنَّ الْكِبْرَ
يَتَوَلَّدُ مِنَ الإِْعْجَابِ (2) .
ب - الإِْدْلاَل:
3 - الإِْدْلاَل: مِنْ أَدَل، وَالأَْدَل: الْمَنَّانُ بِعَمَلِهِ،
وَالإِْدْلاَل وَرَاءَ الْعُجْبِ، فَلاَ مُدِل إِلاَّ وَهُوَ مُعْجَبٌ،
وَرُبَّ مُعْجَبٍ لاَ يُدِل (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْعُجْبُ إِنَّمَا يَكُونُ بِوَصْفِ كَمَالٍ مِنْ
عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَرَى حَقًّا لَهُ
عِنْدَ اللَّهِ سُمِّيَ إِدْلاَلاً، فَالْعُجْبُ يَحْصُل بِاسْتِعْظَامِ
مَا عَجِبَ بِهِ، وَالإِْدْلاَل يُوجِبُ تَوَقُّعَ الْجَزَاءِ، مِثْل أَنْ
يَتَوَقَّعَ إِجَابَةَ دُعَائِهِ وَيُنْكِرُ رَدَّهُ (4) .
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة 299 - 300.
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 300.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 360.
(4) مختصر منهاج القاصدين ص 244 وقارن بما جاء في إحياء علوم الدين 3 /
360.
(29/280)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْعُجْبُ مَذْمُومٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئًا} (1) ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الإِْنْكَارِ، وَقَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى
مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ (2) وَقَال صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ
مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ: الْعُجْبَ الْعُجْبَ (3) فَجَعَل الْعُجْبَ
أَكْبَرَ الذُّنُوبِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال:
الْهَلاَكُ فِي شَيْئَيْنِ: الْعُجْبُ وَالْقُنُوطُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ
بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ السَّعَادَةَ لاَ تُنَال إِلاَّ بِالطَّلَبِ،
وَالْقَانِطُ لاَ يَطْلُبُ، وَالْمُعْجَبُ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ
بِمُرَادِهِ فَلاَ يَسْعَى (4) .
__________
(1) سورة التوبة / 25.
(2) حديث: " ثلاث مهلكات: شح مطاع. . . ". أخرجه البزار كما في كشف الأستار
للهيثمي (1 / 60) وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (2 / 286) وقال: رواه
البزار والبيهقي وغيرهما، وهو مروي عن جماعة من الصحابة، وأسانيده - وإن
كان لا يسلم شيء منها من مقال - فهو بمجموعها حسن إن شاء الله تعالى.
(3) حديث: " لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك. . . ".
رواه البزار كما في كشف الأستار (4 / 244) من حديث أنس، وهو حسن لطرقه كما
في فيض القدير للمناوي (5 / 331) .
(4) إحياء علوم الدين 3 / 358 - 359، ومختصر منهاج القاصدين ص 243،
والذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص 306.
(29/281)
وَقَال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: الإِْعْجَابُ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الأَْلْبَابِ (1)
.
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ وَصْفٌ رَدِيءٌ يَسْلُبُ
الْفَضَائِل وَيَجْلُبُ الرَّذَائِل، وَيُوجِبُ الْمَقْتَ وَيُخْفِي
الْمَحَاسِنَ وَيُشْهِرُ الْمَسَاوِئَ وَيُفْضِي إِلَى الْمَهَالِكِ (2) .
أَنْوَاعُ الْعُجْبِ:
5 - مَا بِهِ الْعُجْبُ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَعْجَبَ بِبَدَنِهِ فَيَلْتَفِتَ إِلَى جَمَال نَفْسِهِ
وَيَنْسَى أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ عُرْضَةٌ
لِلزَّوَال فِي كُل حَالٍ (3) .
وَيَنْفِي هَذَا الْعُجْبَ: النَّظَرُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ وَإِلَى مَا
يَصِيرُ إِلَيْهِ.
الثَّانِي: الْقُوَّةُ، اسْتِعْظَامًا لَهَا مَعَ نِسْيَانِ شُكْرِهَا،
وَتَرْكُ الاِعْتِمَادِ عَلَى خَالِقِهَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ حِينَ
قَالُوا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً} (4) .
وَيَنْفِي هَذَا الْعُجْبَ اعْتِرَافُهُ بِمُطَالَبَةِ الشُّكْرِ
عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا عُرْضَةٌ لِلسَّلْبِ، فَيُصْبِحُ أَضْعَف الْعِبَادِ
(5) .
__________
(1) المنهج المسلوك في سياسة الملوك ص 414 وأدب الدنيا والدين 232 ط.
الحلبي.
(2) المنهج المسلوك في سياسة الملوك ص 413.
(3) إحياء علوم الدين 3 / 363 وبدائع السلك في طبائع الملك 1 / 496.
(4) سورة فصلت / 15.
(5) بدائع السلك في طبائع الملك 1 / 496، وإحياء علوم الدين 3 / 363 - 364.
(29/281)
الثَّالِثُ: الْعَقْل، اسْتِحْسَانًا لَهُ
وَاسْتِبْدَادًا بِهِ.
وَيَنْفِي الْعُجْبَ فِيهِ تَرْدِيدُ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَتَجْوِيزُ أَنْ
يُسْلَبَ مِنْهُ كَمَا فُعِل بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إِنِ اتَّسَعَ فِي
الْعِلْمِ بِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً (1) .
الرَّابِعُ: النَّسَبُ الشَّرِيفُ افْتِخَارًا بِهِ وَاعْتِقَادًا
لِلْفَضْل بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ.
وَيَنْفِي هَذَا الْعُجْبَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ لاَ يَجْلِبُ ثَوَابًا وَلاَ
يَدْفَعُ عَذَابًا، وَأَنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ،
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِكُلٍّ مِنِ
ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ وَعَمَّتِهِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ
أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا (2) .
وَمِنَ الْعُجْبِ التَّكَبُّرُ بِالأَْنْسَابِ عُمُومًا، فَمَنِ اعْتَرَاهُ
الْعُجْبُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَعَزُّزٌ
بِكَمَال غَيْرِهِ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهُ الْقَرِيبَ نُطْفَةٌ
قَذِرَةٌ، وَأَبَاهُ الْبَعِيدَ تُرَابٌ (3) .
الْخَامِسُ: الاِنْتِسَابُ إِلَى ظَلَمَةِ الْمُلُوكِ وَفَسَقَةِ
أَعْوَانِهِمْ تَشَرُّفًا بِهِمْ (4) .
قَال الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْل وَعِلاَجُهُ
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 364، وبدائع السلك في طبائع الملك 1 / 496.
(2) حديث: " لا أغني عنك من الله شيئا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 8
/ 501) من حديث ابن عباس.
(3) بدائع السلك 1 / 496، وإحياء علوم الدين 3 / 364، ومختصر منهاج
القاصدين ص 242، 245.
(4) بدائع السلك 1 / 496.
(29/282)
أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مَخَازِيهِمْ
وَأَنَّهُمُ الْمَمْقُوتُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
السَّادِسُ: كَثْرَةُ الأَْوْلاَدِ وَالأَْقَارِبِ وَالأَْتْبَاعِ
اعْتِمَادًا عَلَيْهِمْ وَنِسْيَانًا لِلتَّوَكُّل عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
وَيَنْفِي الْعُجْبَ بِهِ تَحَقُّقُهُ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ، وَأَنَّ كَثْرَتَهُمْ لاَ تُغْنِي عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ
شَيْئًا (2) .
السَّابِعُ: الْمَال، اعْتِدَادًا بِهِ وَتَعْوِيلاً عَلَيْهِ كَمَا قَال
اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ إِذْ قَال:
{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا} (3) وَرُوِيَ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً غَنِيًّا
جَلَسَ بِجَنْبِهِ فَقِيرٌ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ ثِيَابِهِ فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَشِيتَ يَا فُلاَنُ
أَنْ يَعْدُوَ غِنَاكَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعْدُوَ إِلَيْكَ فَقْرُهُ (4)
وَذَلِكَ لِلْعُجْبِ بِالْغِنَى.
وَيَنْفِيهِ عِلْمُهُ أَنَّ الْمَال فِتْنَةٌ، وَأَنَّ لَهُ آفَاتٍ
مُتَعَدِّدَةً (5) .
الثَّامِنُ: الرَّأْيُ الْخَطَأُ، تَوَهُّمًا أَنَّهُ نِعْمَةٌ، وَهُوَ فِي
نَفْسِ الأَْمْرِ نِقْمَةٌ، قَال تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (6) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 366.
(2) بدائع السلك 1 / 496، وإحياء علوم الدين 3 / 366.
(3) سورة الكهف / 34.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا غنيا. . . ". أخرجه
أحمد في الزهد (ص38) وفي إسناده إرسال.
(5) بدائع السلك 1 / 497، وإحياء علوم الدين 3 / 366.
(6) سورة فاطر / 8.
(29/282)
وَعِلاَجُ هَذَا الْعُجْبِ أَشَدُّ مِنْ
عِلاَجِ غَيْرِهِ، لأَِنَّ صَاحِبَ الرَّأْيِ الْخَطَأِ جَاهِلٌ
بِخَطَئِهِ، وَعِلاَجُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ: أَنْ يَكُونَ مُتَّهِمًا
لِرَأْيِهِ أَبَدًا لاَ يَغْتَرُّ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ قَاطِعٌ
مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ صَحِيحٍ (1) .
أَسْبَابُ الْعُجْبِ:
6 - مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعُجْبِ كَثْرَةُ مَدِيحِ الْمُتَقَرِّبِينَ،
وَإِطْرَاءُ الْمُتَمَلِّقِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّفَاقَ عَادَةً
وَمَكْسَبًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ
مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُل:
أَحْسَبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ
حَسِيبُهُ، وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا (2) .
وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " الْمَدْحُ
ذَبْحٌ.
وَلِذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِل أَنْ يَسْتَرْشِدَ إِخْوَانَ الصِّدْقِ،
الَّذِينَ هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ، وَمَرَايَا الْمَحَاسِنِ
وَالْعُيُوبِ، عَلَى مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ
__________
(1) بدائع السلك 1 / 497، وإحياء علوم الدين 3 / 366 - 367، ومختصر منهاج
القاصدين ص 245 - 246.
(2) أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 476) ومسلم (4 / 2296) واللفظ للبخاري.
(29/283)
مُسَاوِيهِ الَّتِي صَرَفَهُ حُسْنُ
الظَّنِّ عَنْهَا (1) .
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ
الْمُؤْمِنِ، إِذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ (2) .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: رَحِمَ
اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي (3) .
وَيَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ إِذَا رَأَى مِنْ غَيْرِهِ سَيِّئَةً أَنْ
يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ رَأَى فِيهَا مِثْل ذَلِكَ أَزَالَهُ
وَلاَ يَغْفُل عَنْهُ (4) .
__________
(1) أدب الدنيا والدين ص 235 - 236 ط. الحلبي والمنهج المسلوك ص 418.
(2) حديث: " المؤمن مرآة المؤمن. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 217) من حديث
أبي هريرة، وحسن إسناده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (2 /
180) .
(3) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص 307.
(4) الذريعة إلى مكارم الشريعة 307.
(29/283)
عَجْزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَجْزُ لُغَةً: مَصْدَرُ الْفِعْل عَجْزٌ، يُقَال: عَجَزَ عَنِ
الأَْمْرِ يَعْجِزُ عَجْزًا، وَعَجَّزَ فُلاَنٌ رَأْيَ فُلاَنٍ: إِذَا
نَسَبَهُ إِلَى خِلاَفِ الْحَزْمِ، كَأَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَجْزِ.
وَالْعَجْزُ: الضَّعْفُ، وَالتَّعْجِيزُ: التَّثْبِيطُ (1) . وَفِي
الْمِصْبَاحِ: أَعْجَزَهُ الشَّيْءُ: فَاتَهُ (2) . وَفِي مُفْرَدَاتِ
الرَّاغِبِ: الْعَجْزُ: أَصْلُهُ التَّأَخُّرُ عَنِ الشَّيْءِ، وَصَارَ فِي
التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْقُصُورِ عَنْ فِعْل الشَّيْءِ، وَهُوَ ضِدُّ
الْقُدْرَةِ (3) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ قَال الرَّافِعِيُّ: لاَ نَعْنِي بِالْعَجْزِ
عَدَمَ الإِْمْكَانِ فَقَطْ، بَل فِي مَعْنَاهُ خَوْفُ الْهَلاَكِ. . .
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الإِْمَامُ فِي ضَبْطِ الْعَجْزِ أَنْ تَلْحَقَهُ
مَشَقَّةٌ تُذْهِبُ خُشُوعَهُ (4)
وَيَقُول الأُْصُولِيُّونَ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير.
(3) المفردات للراغب.
(4) مغني المحتاج 1 / 154.
(29/284)
عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا
الْفِعْل الْمَأْمُورُ بِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ حُكْمِ كُل
أَمْرٍ، حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لاَ تَجِبُ
عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ، بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
اسْتِعْمَالِهِ حَقِيقَةً، وَلاَ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ
إِلاَّ بِنُقْصَانٍ يَحِل بِهِ، أَوْ مَرَضٍ يُزَادُ بِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّخْصَةُ:
2 - الرُّخْصَةُ لُغَةً: التَّسْهِيل فِي الأَْمْرِ وَالتَّيْسِيرُ،
يُقَال: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا: إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ
(2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ،
وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ، وَذُكِرَ فِي
الْمِيزَانِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنِ الأَْمْرِ
الأَْصْلِيِّ إِلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ، تَرْفِيهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى
أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ (3) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ.
ب - التَّيْسِيرُ:
3 - التَّيْسِيرُ لُغَةً: مَصْدَرُ يَسَّرَ، يُقَال: يَسَّرَ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 192 - 193، والتلويح على التوضيح 1 / 198 وما بعدها،
والموافقات للشاطبي 2 / 107، ومسلم الثبوت مع شرحه 1 / 137 وما بعدها.
(2) المصباح المنير.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 299.
(29/284)
الأَْمْرَ إِذَا سَهَّلَهُ وَلَمْ
يُعَسِّرْ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُوَافِقُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ (1) .
وَالْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ.
ج - الْقُدْرَةُ:
4 - الْقُدْرَةُ لُغَةً: الْقُوَّةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ
(2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي تُمَكِّنُ الْحَيَّ مِنَ
الْفِعْل وَتَرْكِهِ بِالإِْرَادَةِ (3) . وَالْقُدْرَةُ ضِدُّ الْعَجْزِ،
فَهُمَا ضِدَّانِ.
أَسْبَابُ الْعَجْزِ:
5 - لِلْعَجْزِ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، إِذْ هِيَ
تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ
مِنَ الْعِبَادَاتِ أَمْ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَكُل
تَصَرُّفٍ لَهُ وَسَائِل لِتَحْصِيلِهِ، وَفِقْدَانُ هَذِهِ الْوَسَائِل
يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيل الْمَطْلُوبِ.
فَعَدَمُ وُجُودِ الْمَاءِ مَثَلاً سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنِ
الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ (4) (الْوُضُوءِ وَالْغُسْل) .
وَفِقْدَانُ الْقُدْرَةِ الْبَدَنِيَّةِ - مَثَلاً - سَبَبٌ مِنْ
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية 14 / 211 ف 1 مصطلح تيسير.
(2) المصباح المنير.
(&# x663 ;) التعريفات
للجرجاني.
(4) مغني المحتاج 1 / 87، والبدائع 1 / 46.
(29/285)
أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ
الصَّلاَةِ عَلَى الْوَجْهِ الأَْكْمَل (1) ، وَسَبَبٌ أَيْضًا مِنْ
أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ (2) .
وَفِقْدَانُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ
أَدَاءِ الْحَجِّ (3) .
وَالإِْعْسَارُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنِ الإِْنْفَاقِ (4) .
وَعَدَمُ وُجُودِ مَا يُثْبِتُ حَقَّ الْمُدَّعِي سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ
الْعَجْزِ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ (5) . . . وَهَكَذَا.
وَفِقْدَانُ هَذِهِ الأَْسْبَابِ يُسَمَّى عُذْرًا، فَالأَْعْذَارُ فِي
الْجُمْلَةِ أَسْبَابٌ لِلْعَجْزِ (6) .
وَيَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ جُمْلَةً مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عِنْدَ
الْكَلاَمِ عَلَى عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ
وَالْعَتَهِ. . . إِلَخْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الأَْهْلِيَّةَ يُبْنَى
عَلَيْهَا التَّكْلِيفُ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَا يَعْرِضُ
لِلأَْهْلِيَّةِ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ
مَا كُلِّفَ بِهِ الإِْنْسَانُ (7) .
كَمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ
__________
(1) المهذب 1 / 108، وشرح منتهى الإرادات 1 / 270.
(2) مغني المحتاج 1 / 437، والاختيار 1 / 140.
(3) المهذب 1 / 303.
(4) الاختيار 2 / 41.
(5) القوانين الفقهية / 299.
(6) المنثور 2 / 375 - 376.
(7) فواتح الرحموت 2 / 156 - 160 وما بعدها، والتلويح على التوضيح 2 / 164
وما بعدها.
(29/285)
فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ
كَقَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ (1) .
وَذَكَرَ الأُْصُولِيُّونَ بَعْضَ أَسْبَابِ الْعَجْزِ أَثْنَاءَ
الْكَلاَمِ عَلَى الْحُكْمِ، وَحُكْمُ التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ،
وَذَكَرُوا أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، أَوْ هِيَ شَرْطُ
وُجُوبِ الأَْدَاءِ، أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (2) وَيَقْسِمُونَ الْقُدْرَةَ إِلَى قُدْرَةٍ
مُمَكِّنَةٍ وَقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ (3) .
وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ الْعَسِيرِ اسْتِقْصَاءُ أَسْبَابِ الْعَجْزِ؛
لأَِنَّ كُل تَصَرُّفٍ لَهُ وَسَائِلُهُ الْخَاصَّةُ الَّتِي تُحَقِّقُهُ،
وَاَلَّتِي يُعْتَبَرُ فِقْدَانُهَا سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ عَنْ
تَحْصِيلِهِ وَيُرْجَعُ لِكُل تَصَرُّفٍ فِي بَابِهِ.
أَنْوَاعُ الْعَجْزِ:
6 - الْعَجْزُ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ.
جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي
الصَّلاَةِ لِمَرَضٍ حَقِيقِيٍّ، وَحَدُّهُ: أَنْ يَلْحَقَهُ بِالْقِيَامِ
ضَرَرٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ قَبْل الصَّلاَةِ أَوْ فِيهَا، أَوْ
حُكْمِيٌّ: بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ
بِقِيَامِهِ.
__________
(1) المنثور 1 / 253 و 2 / 165 والفروق للقرافي 1 / 118، وتهذيب الفروق 1 /
179.
(2) سورة البقرة / 286.
(3) فواتح الرحموت 1 / 135، 137 - 140، والتلويح 1 / 197 - 198.
(29/286)
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى
قَوْل الدُّرِّ (لِمَرَضٍ حَقِيقِيٍّ) بِقَوْلِهِ: الْحَقِيقِيُّ
وَالْحُكْمِيُّ وَصْفَانِ لِلتَّعَذُّرِ، وَلَيْسَ لِلْمَرَضِ (1) .
وَفِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ جَاءَ: خَائِفُ السَّبُعِ
وَالْعَدُوِّ وَالْعَطَشِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ عَاجِزٌ حُكْمًا،
فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ (2) .
وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ، قَال
الدَّرْدِيرُ: يَتَيَمَّمُ ذُو مَرَضٍ، وَلَوْ حُكْمًا، كَصَحِيحٍ خَافَ
بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ حُدُوثَهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ (قَوْلُهُ: أَوْ
حُكْمًا) وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي خَافَ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ حُدُوثَ
مَرَضٍ، فَهُوَ بِسَبَبِ خَوْفِهِ الْمَذْكُورِ فِي حُكْمِ غَيْرِ
الْقَادِرِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ (3) ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا قَالَهُ
الشَّافِعِيَّةُ (4) .
وَقَال الْبَزْدَوِيُّ: جَوَازُ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ
الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْل الْمَأْمُورُ بِهِ، حَتَّى أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لاَ تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ
اسْتِعْمَال الْمَاءِ حَقِيقَةً لِعَجْزِهِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ
بِبَدَنِهِ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ يَحِل
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 508، وينظر البحر الرائق 2 /
121.
(2) الهداية 1 / 26.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 147 - 148.
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 340.
(29/286)
بِاسْتِعْمَالِهِ نَقْصٌ بِبَدَنِهِ أَوْ
مَرَضٌ يَزْدَادُ بِهِ (1) .
أَثَرُ الْعَجْزِ:
7 - الْعَجْزُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ فِي
الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَالْحُدُودِ وَالْقَضَاءِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، فَكُل مَا عَجَزَ عَنْهُ الإِْنْسَانُ يَسَّرَتْهُ لَهُ
الشَّرِيعَةُ، تَفَضُّلاً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَحْمَةً
بِعِبَادِهِ، وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (2) قَال الْجَصَّاصُ: فِي
هَذِهِ الآْيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ أَحَدًا
مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلاَ يُطِيقُهُ، وَلَوْ كَلَّفَ أَحَدًا مَا
لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلاَ يَسْتَطِيعُهُ لَكَانَ مُكَلِّفًا لَهُ مَا
لَيْسَ فِي وُسْعِهِ (3) .
وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْقَوَاعِدِ مَا
يَجْمَعُ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ وَوَضَّحُوا التَّخْفِيفَاتِ
الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى كُل سَبَبٍ، وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ:
الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ:
8 - قَال الْفُقَهَاءُ: الأَْصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 193.
(2) سورة البقرة / 286.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 537 - 538.
(29/287)
قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) .
وَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ} (2)
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ رُخَصُ الشَّارِعِ
وَتَخْفِيفَاتُهُ، وَأَسْبَابُ التَّخْفِيفِ هِيَ: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ
وَالإِْكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْل وَالْعُسْرُ وَعُمُومُ
الْبَلْوَى وَالنَّقْصُ. . إِلَخْ.
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الأَْسْبَابِ مِنْ
آثَارِ.
وَمِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرَضِ: التَّيَمُّمُ عِنْدَ مَشَقَّةِ
اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَالْقُعُودُ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ، وَالتَّخَلُّفُ
عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ مَعَ حُصُول الْفَضِيلَةِ، وَالْفِطْرُ
فِي رَمَضَانَ، وَتَرْكُ الصَّوْمِ لِلشَّيْخِ الْهَرَمِ مَعَ الْفِدْيَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا ذَكَرُوهُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّقْصِ: عَدَمُ
تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ (3) .
وَمَا سَبَقَ مِنَ الأَْمْثِلَةِ يُوَضِّحُ أَثَرَ الْعَجْزِ فِي
الْعِبَادَاتِ.
أَمَّا فِي الْمُعَامَلاَتِ فَأَثَرُ الْعَجْزِ يَخْتَلِفُ مِنْ تَصَرُّفٍ
إِلَى تَصَرُّفٍ، وَمِنْ ذَلِكَ:
1 - إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) سورة الحج / 78.
(3) الأشباه النظائر لابن نجيم ص 75، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 76.
(29/287)
النَّفَقَةِ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ
التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ بَل
تَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِالأَْدَاءِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ
نَفَقَتُهَا لَوْلاَ الزَّوْجُ (1) . (ر: نَفَقَة) .
2 - ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مَوَانِعَ
عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَمَوَانِعَ اسْتِدَامَتِهَا، فَقَال: مَا يَمْنَعُ
مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا هُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ
الْعَمَل كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ، أَوْ مِنَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ
الرِّجْلَيْنِ، فَلاَ تَصِحُّ مَعَهُ الإِْمَامَةُ فِي عَقْدٍ، وَلاَ
اسْتِدَامَةَ، لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الأُْمَّةِ.
أَمَّا مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي
مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَل
أَوْ فُقِدَ بِهِ بَعْضُ النُّهُوضِ، كَذَهَابِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ
إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الإِْمَامَةِ
لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَال التَّصَرُّفِ - فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ
الإِْمَامَةِ، فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ مِنَ الإِْمَامَةِ؛ لأَِنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنِ
ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا.
__________
(1) الهداية 2 / 41، وحاشية ابن عابدين 2 / 256، والدسوقي 2 / 509، ومغني
المحتاج 3 / 442، وحاشية الجمل 4 / 488، والمغني 7 / 573 - 574 والقليوبي 4
/ 82.
(29/288)
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ
يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا (1) . ر:
(الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) .
3 - الدَّعْوَى إِذَا صَحَّتْ، سَأَل الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
عَنْهَا لِيَنْكَشِفَ لَهُ وَجْهُ الْحُكْمِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ قَضَى
عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ سَأَل الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَقَال:
لاَ، فَقَال: فَلَكَ يَمِينُهُ (2) فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَطَلَبَ يَمِينَ
خَصْمِهِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا (3) .
وَإِنْ قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ: لِي بَيِّنَةٌ بِأَنِّي
قَضَيْتُهُ، أَوْ: لِي بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ أَبْرَأَنِي، وَطَلَبَ
الإِْنْظَارَ لَزِمَ إِنْظَارُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ
الإِْتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ بِالْقَضَاءِ أَوِ
الإِْبْرَاءِ حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ، وَاسْتَحَقَّ مَا ادَّعَى بِهِ (4)
.
ر: (دَعْوَى ف 68 - وَقَضَاء) .
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُفْسَخُ الإِْجَارَةُ بِالأَْعْذَارِ عِنْدَنَا،
لأَِنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 19.
(2) حديث: " ألك بينة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 123) من حديث وائل بن حجر.
(3) الهداية 3 / 156.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 495 وتبصرة الحكام بهامش فتح العلي 1 / 176.
(29/288)
عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي
الإِْجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْل الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ، فَتُفْسَخُ بِهِ،
إِذِ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ
فِي مُوجِبِهِ إِلاَّ بِتَحَمُّل ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ.
وَكَذَا مَنِ اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا فِي السُّوقِ لِيَتَّجِر فِيهِ،
فَذَهَبَ مَالُهُ، أَوْ أَجَّرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ
وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا، فَسَخَ الْقَاضِي
الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ، لأَِنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ
الْعَقْدِ إِلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ (1) .
(ر: إِجَارَة) .
أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَجْزِ:
تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْعَجْزِ
وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
أَوَّلاً: سُقُوطُ الْمَطْلُوبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ:
9 - إِذَا عَجَزَ الإِْنْسَانُ عَنْ أَدَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَخْفِيفَ إِسْقَاطٍ،
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ إِسْقَاطُ الْحَجِّ عَنِ الْفَقِيرِ (2) .
ثَانِيًا: الاِنْتِقَال إِلَى بَدَل الْمَطْلُوبِ:
10 - إِذَا عَجَزَ الإِْنْسَانُ عَنْ فِعْل الْمَطْلُوبِ
__________
(1) الهداية 3 / 250.
(2) المنثور 1 / 253 والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 83، والتلويح 2 / 164،
168، 169.
(29/289)
وَكَانَ لَهُ بَدَلٌ فَإِنَّهُ يَنْتَقِل
إِلَى الْبَدَل، كَالْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ
الْغُسْل فَإِنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى التَّيَمُّمِ، وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ
بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) . وَكَذَلِكَ
مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ انْتَقَل إِلَى
الْقُعُودِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ انْتَقَل إِلَى
الاِضْطِجَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
انْتَقَل إِلَى الإِْيمَاءِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ
تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) .
وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ انْتَقَل إِلَى الإِْطْعَامِ (3) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ
بِوَقْتٍ وَلَمْ يَجِدْهُ - لاَ يَتْرُكُهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى ثَمَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُؤَقَّتًا
بِوَقْتٍ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى الْبَدَل، كَالْمُتَمَتِّعِ إِذَا
__________
(1) سورة النساء / 43، المائدة / 6.
(2) حديث: " صل قائما فإن لم تستطع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 /
587) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 83، والذخيرة ص 339، والمنثور 1 / 254،
والمهذب 1 / 108، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 538، والأشباه والنظائر للسيوطي
ص 77.
(29/289)
كَانَ مَعَهُ مَالٌ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ
يَجِدْ هَدْيًا يَشْتَرِيهِ، فَعَلَيْهِ الاِنْتِقَال إِلَى الصَّوْمِ،
لأَِنَّهُ مُؤَقَّتٌ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الثَّلاَثَةَ فِي
الْحَجِّ، وَكَمَا لَوْ عَدِمَ الْمَاءَ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَلاَ
يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَهُ وَكَانَ مَالُهُ غَائِبًا،
بِخِلاَفِ جَزَاءِ الصَّيْدِ إِذَا كَانَ مَالُهُ غَائِبًا فَإِنَّهُ
يُؤَخِّرُ، لأَِنَّهُ يَقْبَل التَّأْخِيرَ (1) .
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي الْقَوَاعِدِ: الأَْبْدَال
إِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلاَتِ فِي وُجُوبِ الإِْتْيَانِ بِهَا
عِنْدَ تَعَذُّرِ مُبْدَلاَتِهَا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُمَا لَيْسَا فِي الأَْجْرِ سَوَاءٌ، فَإِنَّ الأَْجْرَ بِحَسَبِ
الْمَصَالِحِ، وَلَيْسَ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ كَالإِْعْتَاقِ، وَلاَ
الإِْطْعَامُ كَالصِّيَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ التَّيَمُّمُ
كَالْوُضُوءِ، إِذْ لَوْ تَسَاوَتِ الأَْبْدَال وَالْمُبْدَلاَتُ لَمَا
شُرِطَ فِي الاِنْتِقَال إِلَى الْبَدَل فَقْدُ الْمُبْدَل (2) .
وُجُودُ الأَْصْل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْبَدَل:
11 - مَنْ تَلَبَّسَ بِالْبَدَل فِي الْعِبَادَةِ لِعَجْزِهِ عَنِ
الأَْصْل، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل فِي أَثْنَاءِ أَدَاءِ الْبَدَل
فَقَدْ قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِنْ كَانَ الْبَدَل مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ،
لَيْسَ يُرَادُ لِغَيْرِهِ، اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ قَدَرَ
الْمُتَمَتِّعُ عَلَى الْهَدْيِ بَعْدَ صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
وَرُجُوعِهِ، فَإِنَّهُ يَتَمَادَى فِي إِتْمَامِ
__________
(1) المنثور 1 / 178، 219 - 220.
(2) المنثور 1 / 225.
(29/290)
الْعَشَرَةِ، وَلاَ أَثَرَ لِوُجُودِ
الْهَدْيِ بَعْدُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَدَل مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ
بَل يُرَادُ لِغَيْرِهِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ، كَمَا إِذَا قَدَرَ
عَلَى الْمَاءِ فِي أَثْنَاءِ التَّيَمُّمِ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ
وَقَبْل الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ يُرَادُ
لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ (1) .
12 - وَإِذَا شُرِعَ فِي الْبَدَل، ثُمَّ وُجِدَ الأَْصْل بَعْدَ
الاِنْتِهَاءِ مِنَ الْبَدَل، فَقَدْ قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا فَرَغَ
مِنْهُ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ
مُضَيَّقًا فَقَدْ مَضَى الأَْمْرُ كَمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا
وَتَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ الْمَال فَلاَ
إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمُتَمَتِّعُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ
وَصَامَ، ثُمَّ عَادَ الْمَال، لأَِنَّ وَقْتَهُ مُضَيَّقٌ كَالصَّلاَةِ،
وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا فَقَوْلاَنِ، كَمَا لَوْ عَادَ مَالُهُ
بَعْدَ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ (2) .
الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ كُلِّفَ بِشَيْءٍ مِنَ
الطَّاعَاتِ فَقَدَرَ عَلَى بَعْضِهِ وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهِ، فَإِنَّهُ
يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ (3) ،
لِقَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
__________
(1) المنثور 1 / 220 - 221.
(2) الزركشي 1 / 222 - 223.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 5، والبدائع 1 / 106 - 107،
والخرشي 1 / 294 - 299.
(29/290)
{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) .
وَفَصَّل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَالزَّرْكَشِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
وَابْنِ رَجَبٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ
مَشْرُوعَةً فِي نَفْسِهَا وَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهَا، فَإِنَّهُ يَأْتِي
بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ
الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ كُل آيَةٍ
مِنَ الْفَاتِحَةِ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا بِنَفْسِهَا (3) ، كَمَنِ انْتَهَى
فِي الْكَفَّارَةِ إِلَى الإِْطْعَامِ، فَقَدَرَ عَلَى إِطْعَامِ
ثَلاَثِينَ، فَيَتَعَيَّنُ إِطْعَامُهُمْ (4) . وَكَذَا لَوْ وُجِدَ بَعْضُ
الصَّاعِ مِنَ الْفِطْرَةِ لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ فِي الأَْصَحِّ (5) .
وَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي الْعِبَادَةِ،
بَل هُوَ وَسِيلَةٌ مَحْضَةٌ إِلَيْهَا، كَتَحْرِيكِ اللِّسَانِ فِي
الْقِرَاءَةِ، وَإِمْرَارِ الْمُوسَى فِي الْحَلْقِ وَالْخِتَانِ، فَهَذَا
لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ ضَرُورَةَ الْقِرَاءَةِ
وَالْحَلْقِ وَالْقَطْعِ، وَقَدْ سَقَطَ
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 13 / 251) ومسلم (2 / 975) من حديث أبي هريرة.
(3) المنثور 1 / 227 - 228، والقواعد لابن رجب ص 11.
(4) المنثور 1 / 228.
(5) المنثور 1 / 229.
(29/291)
الأَْصْل فَسَقَطَ مَا هُوَ مِنْ
ضَرُورَتِهِ، لَكِنْ فِي تَحْرِيكِ اللِّسَانِ مِنَ الأَْخْرَسِ خِلاَفًا
(1) . ر: (خَرَس ف 30) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَذَكَرَ الإِْمَامُ ضَابِطًا لِبَعْضِ هَذِهِ
الصُّوَرِ، فَقَال: كُل أَصْلٍ ذِي بَدَلٍ فَالْقُدْرَةُ عَلَى بَعْضِ
الأَْصْل لاَ حُكْمَ لَهَا، وَسَبِيل الْقَادِرِ عَلَى الْبَعْضِ كَسَبِيل
الْعَاجِزِ عَنِ الْكُل، إِلاَّ فِي الْقَادِرِ عَلَى بَعْضِ الْمَاءِ،
أَوِ الْقَادِرِ عَلَى إِطْعَامِ بَعْضِ الْمَسَاكِينِ إِذَا انْتَهَى
الأَْمْرُ إِلَى الإِْطْعَامِ.
وَإِنْ كَانَ لاَ بَدَل لَهُ كَالْفِطْرَةِ لَزِمَهُ الْمَيْسُورُ
مِنْهُمَا، وَكَسَتْرِ الْعَوْرَةِ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ السَّاتِرِ يَجِبُ
الْمَقْدُورُ مِنْهُ، وَكَمَا لَوْ قُطِعَ بَعْضُ يَدِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ
غَسْل الْبَاقِي (2) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ ضَابِطًا آخَرَ فَقَال: الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِ
الأَْصْل إِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْمُسْتَعْمِل سَقَطَ حُكْمُ الْمَوْجُودِ
مِنْهُ، كَوِجْدَانِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ
الْعَجْزُ فِي نَفْسِ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْمَقْدُورِ
مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْضُ أَعْضَائِهِ جَرِيحًا، وَكَمَا يُكَفِّرُ
الْمُبَعَّضُ بِالْمَال (3) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مَسَائِل الْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ
تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَيْسُورُ لاَ يَسْقُطُ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 10، والمنثور 1 / 233.
(2) المنثور 1 / 232.
(3) المنثور 1 / 226 - 227.
(29/291)
بِالْمَعْسُورِ، قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ:
هِيَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) : إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) .
عَجُز
انْظُرْ: أَلْيَة
عَجْفَاء
انْظُرْ: أُضْحِيَّة
عِجْل
انْظُرْ: بَقَر
عَجَم
انْظُرْ: أَعْجَمِيّ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 159 - 160.
(2) حديث: " إذا أمرتكم بأمر. . . ". تقدم تخريجه فـ 13.
(29/292)
عَجْمَاءُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَجْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْبَهِيمَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ
عَجْمَاءَ لأَِنَّهَا لاَ تَتَكَلَّمُ، فَكُل مَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
الْكَلاَمِ أَصْلاً فَهُوَ أَعْجَمُ وَمُسْتَعْجِمٌ.
وَالأَْعْجَمُ أَيْضًا: الَّذِي لاَ يُفْصِحُ وَلاَ يُبَيِّنُ كَلاَمَهُ
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْمَرْأَةُ عَجْمَاءُ.
وَالأَْعْجَمُ أَيْضًا: الَّذِي فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ وَإِنْ أَفْصَح
بِالْعَجَمِيَّةِ.
وَتُطْلَقُ الْعَجْمَاءُ وَالْمُسْتَعْجِمُ عَلَى كُل بَهِيمَةٍ، كَمَا
وَرَدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَجْمَاءَ
بِأَنَّهَا: الْبَهِيمَةُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَيَوَانُ:
2 - الْحَيَوَانُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل ذِي
رُوحٍ، نَاطِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَاطِقٍ.
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب.
(2) القواعد للبركتي ص 373، وفتح الباري 12 / 255.
(29/292)
وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ جِسْمٌ
نَامٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالإِْرَادَةِ (1) .
وَالْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْعَجْمَاءِ.
ب - الدَّابَّةُ:
3 - تُطْلَقُ الدَّابَّةُ عَلَى: كُل مَا يَدِبُّ عَلَى الأَْرْضِ، فَكُل
حَيَوَانٍ فِي الأَْرْضِ دَابَّةٌ (2) .
وَالدَّابَّةُ أَعَمُّ مِنَ الْعَجْمَاءِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - جِنَايَةُ الْعَجْمَاءِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَ
الْبَهِيمَةِ ضَمِنَ إِتْلاَفَهَا نَفْسًا أَوْ مَالاً، لَيْلاً أَوْ
نَهَارًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلْبَهِيمَةِ أَمْ لاَ،
كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَنَحْوِهِمَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ
رَاكِبًا أَمْ سَائِقًا أَمْ قَائِدًا، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمُ
التَّعَدِّيَ، وَوَضَعَ آخَرُونَ قُيُودًا أُخْرَى؛ لأَِنَّ الْبَهِيمَةَ
إِذَا كَانَتْ بِيَدِ إِنْسَانٍ فَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا،
وَجِنَايَتُهَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْبَهِيمَةِ شَخْصٌ يُمْكِنُ أَنْ تُنْسَبَ
إِلَيْهِ جِنَايَتُهَا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ
مَا أَتْلَفَتْهُ لَيْلاً فَعَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانُهُ لِتَقْصِيرِهِ
بِإِرْسَالِهَا لَيْلاً، وَلاَ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا.
__________
(1) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني.
(2) المصباح المنير.
(29/293)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَان
ف 102 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - أَكْل الْعَجْمَاءِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الْعَجْمَاءِ حِل
الأَْكْل إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(حَيَوَان ف 5) ، (أَطْعِمَة: ف 57 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج - زَكَاةُ الْعَجْمَاءِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النَّعَمِ،
وَهِيَ الْبَقَرُ وَالإِْبِل وَالْغَنَمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 38) .
د - الرِّفْقُ بِالْعَجْمَاءِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ
عَجْمَاءَ إِطْعَامُهَا وَسَقْيُهَا وَالرِّفْقُ بِهَا، لِحَدِيثِ:
عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ
فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ
حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ (1) .
__________
(1) حديث: " عذبت امرأة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 515 ط
السلفية) ومسلم (4 / 2022 ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(29/293)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ:
(حَيَوَان ف 5) (وَرِفْق ف 10) .
وَلِلْعَجْمَاءِ أَحْكَامٌ أُخْرَى كَبَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا وَرَهْنِهَا
وَإِعَارَتِهَا وَاقْتِنَائِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
عُجْمَة
انْظُرْ: أَعْجَمِيّ، وَلُغَة
(29/294)
عَجُوزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَجُوزُ لُغَةً: الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ، وَقَدْ عَجَزَتْ
تَعْجِزُ عَجْزًا، وَعَجَّزَتْ تَعْجِيزًا: أَيْ طَعَنَتْ فِي السِّنِّ،
وَسُمِّيَتْ عَجُوزًا لِعَجْزِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الأُْمُورِ.
وَفَسَّرَ الْقُرْطُبِيُّ الْعَجُوزَ بِالشَّيْخَةِ، قَال ابْنُ
السِّكِّيتِ: وَلاَ يُؤَنَّثُ بِالْهَاءِ، وَقَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ.
وَيُقَال أَيْضًا: عَجُوزَةٌ - بِالْهَاءِ - لِتَحْقِيقِ التَّأْنِيثِ،
وَرُوِيَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُول عَجُوزَةٌ
- بِالْهَاءِ - وَالْجَمْعُ عَجَائِزُ وَعُجُزٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُتَجَالَّةُ:
2 - الْمُتَجَالَّةُ هِيَ الْعَجُوزُ الْفَانِيَةُ الَّتِي لاَ إِرْبَ
لِلرِّجَال فِيهَا (3) .
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للراغب الأصفهاني وتفسير القرطبي 9 / 6.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 164.
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 421 نشر دار المعرفة، والفواكه
الدواني 2 / 410.
(29/294)
ب - الْبَرْزَةُ:
3 - الْبَرْزَةُ: الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ الَّتِي تَبْرُزُ لِلرِّجَال
وَتَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ وَهِيَ الَّتِي أَسَنَّتْ وَخَرَجَتْ عَنْ حَدِّ
الْمَحْجُوبَاتِ (1) .
ج - الْقَاعِدُ:
4 - الْقَاعِدُ - بِغَيْرِ هَاءٍ - هِيَ الَّتِي قَعَدَتْ عَنِ
التَّصَرُّفِ مِنَ السِّنِّ وَعَنِ الْوَلَدِ وَالْمَحِيضِ (2) .
النَّظَرُ إِلَى الْعَجُوزِ:
5 - يُبَاحُ النَّظَرُ مِنَ الْعَجُوزِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا.
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ
مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ
جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3)
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اسْتَثْنَاهُنَّ اللَّهُ
مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ} (4) ، وَلأَِنَّ مَا حَرُمَ النَّظَرُ لأَِجْلِهِ
مَعْدُومٌ فِي جِهَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ (5) .
وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) تفسير ابن العربي 3 / 418 - 419 وانظر تفسير القرطبي 12 / 309.
(3) سورة النور / 60.
(4) سورة النور / 31.
(5) كشاف القناع 5 / 13، وروضة الطالبين 7 / 24 والبدائع 5 / 121.
(29/295)
الْمَذْهَبِ - بِالْعَجُوزِ كُل مَنْ لاَ
تُشْتَهَى فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ خَاصَّةً (1) .
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى إِلْحَاقِ
الْعَجُوزِ بِالشَّابَّةِ؛ لأَِنَّ الشَّهْوَةَ لاَ تَنْضَبِطُ، وَهِيَ
مَحَل الْوَطْءِ (2) .
الْخَلْوَةُ بِالْعَجُوزِ:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ
رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، لأَِنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ
ثَالِثَهُمَا، يُوَسْوِسُ لَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ بِفِعْل مَا لاَ يَحِل،
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ
رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ (3) وَلَفْظُ
الرَّجُل فِي الْحَدِيثِ يَتَنَاوَل الشَّيْخَ وَالشَّابَّ، كَمَا أَنَّ
لَفْظَ الْمَرْأَةِ يَتَنَاوَل الشَّابَّةَ وَالْمُتَجَالَّةَ (4) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الْخَلْوَةِ بِالْعَجُوزِ
الشَّوْهَاءِ، نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ: الْعَجُوزُ الشَّوْهَاءُ
وَالشَّيْخُ الَّذِي لاَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَارِمِ (5)
.
وَأَجَازَ الشَّاذِلِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ خَلْوَةَ الشَّيْخِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 14.
(2) روضة الطالبين 7 / 24.
(3) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان ". أخرجه
الترمذي (4 / 466) من حديث عمر بن الخطاب، وقال " حديث حسن صحيح ".
(4) الفواكه الدواني 2 / 409 - 410 وحاشية الجمل 4 / 125، والإنصاف 8 / 31،
وابن عابدين 5 / 235.
(5) رد المحتار على الدر المختار 5 / 235.
(29/295)
الْهَرَمِ بِالْمَرْأَةِ شَابَّةً أَوْ
مُتَجَالَّةً وَخَلْوَةُ الشَّابِّ بِالْمُتَجَالَّةِ (1) .
وَضَابِطُ الْخَلْوَةِ اجْتِمَاعٌ لاَ تُؤْمَنُ مَعَهُ الرِّيبَةُ عَادَةً،
بِخِلاَفِ مَا لَوْ قُطِعَ بِانْتِفَائِهَا عَادَةً، فَلاَ يُعَدُّ
خَلْوَةً (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: خَلْوَة ف 6) .
مُصَافَحَةُ الْعَجُوزِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ مَسِّ وَجْهِ
الأَْجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ
لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ (3) وَلاِنْعِدَامِ الضَّرُورَةِ إِلَى مَسِّ وَجْهِهَا
وَكَفَّيْهَا؛ لأَِنَّهُ أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفِّ -
عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ - لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَلاَ حَرَجَ فِي تَرْكِ
مَسِّهَا، فَبَقِيَ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الأَْجْنَبِيَّةُ شَابَّةً تُشْتَهَى (4) .
أَمَّا إِذَا كَانَتْ عَجُوزًا فَلاَ بَأْسَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 410.
(2) حاشية الجمل 4 / 125.
(3) حديث: " من مس كف امرأة ليس منها بسبيل. . . ". أورده الزيلعي في نصب
الراية (4 / 240) وقال: غريب.
(4) البناية 9 / 250 - 251، وبدائع الصنائع 5 / 123، ومغني المحتاج 3 /
132، وكشاف القناع 5 / 15.
(29/296)
بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا،
لاِنْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ (1) .
بِهَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْل إِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ مَسِّ
الأَْجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ
(3) .
السَّلاَمُ عَلَى الْعَجُوزِ:
8 - يَرَى الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلاَمُ
عَلَى الْعَجُوزِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَظِنَّةِ الْفِتْنَةِ. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سَلاَم ف 19) .
تَشْمِيتُ الْعَجُوزِ:
9 - لاَ يَجُوزُ تَشْمِيتُ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ الَّتِي يُخْشَى
مِنْهَا الْفِتْنَةُ، أَمَّا الْعَجُوزُ إِذَا عَطَسَتْ فَحَمِدَتِ اللَّهَ
شَمَّتَهَا الرَّجُل، وَكَذَلِكَ إِذَا عَطَسَ فَشَمَّتَتْهُ الْعَجُوزُ
رَدَّ عَلَيْهَا (4) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: (تَشْمِيت ف 8) .
__________
(1) البناية 9 / 251.
(2) البناية 9 / 251، ومطالب أولي النهى 5 / 14، والإنصاف 8 / 26.
(3) مغني المحتاج 3 / 132 - 133، وحاشية الدسوقي 1 / 215.
(4) ابن عابدين 5 / 236، والفواكه الدواني2 / 451، والأداب الشرعية 2 / 352
- 353.
(29/296)
مُدَاوَاةُ الْعَجَائِزِ الْجَرْحَى فِي
الْغَزْوِ:
10 - يَجُوزُ لِلْمُتَجَالاَّتِ مِنَ النِّسَاءِ مُدَاوَاةُ الْجَرْحَى
وَالْمَرْضَى الأَْجَانِبِ وَمَا شَاكَلَهَا وَنَقْل الْمَوْتَى، وَأَمَّا
غَيْرُ الْمُتَجَالاَّتِ فَيُعَالِجْنَ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ مِنْهُنَّ
لِلرِّجَال، فَيَصِفْنَ الدَّوَاءَ، وَيَضَعُهُ غَيْرُهُنَّ عَلَى
الْجُرْحِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَضَعْنَهُ مِنْ غَيْرِ مَسِّ شَيْءٍ مِنْ
جَسَدِهِ (1) .
وَضْعُ الْعَجُوزِ ثِيَابَهَا:
11 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي
لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ
ثِيَابَهُنَّ} (2) وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِهَذَا الْحُكْمِ
لاِنْصِرَافِ الأَْنْفُسِ عَنْهُنَّ، إِذْ لاَ مَذْهَبَ لِلرِّجَال
فِيهِنَّ، فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِنَّ، وَأُزِيل
عَنْهُنَّ كُلْفَةُ التَّحَفُّظِ الْمُتْعِبِ لَهُنَّ (3) .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {ثِيَابَهُنَّ} قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: تَضَعُ خِمَارَهَا، وَذَلِكَ فِي بَيْتِهَا، وَمِنْ وَرَاءِ
سِتْرِهَا مِنْ ثَوْبٍ أَوْ جِدَارٍ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال قَوْمٌ:
الْكَبِيرَةُ الَّتِي أَيِسَتْ مِنَ النِّكَاحِ لَوْ بَدَا شَعْرُهَا فَلاَ
بَأْسَ، فَعَلَى هَذَا
__________
(1) عمدة القاري 14 / 168 - 169، وفتح الباري 6 / 80.
(2) سورة النور / 60.
(3) تفسير القرطبي 12 / 309.
(29/297)
يَجُوزُ لَهَا وَضْعُ الْخِمَارِ.
وَالثَّانِي: جِلْبَابَهُنَّ وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا، يَعْنِي بِهِ الرِّدَاءَ أَوِ
الْمُقَنَّعَةَ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ، تَضَعُهُ عَنْهَا إِذَا
سَتَرَهَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الثِّيَابِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالشَّابَّةِ فِي
التَّسَتُّرِ، إِلاَّ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تَضَعُ الْجِلْبَابَ الَّذِي
فَوْقَ الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ (1) .
__________
(1) تفسير ابن العربي 3 / 419، وتفسير القرطبي 12 / 309.
(29/297)
عَدَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَدَالَةُ فِي اللُّغَةِ التَّوَسُّطُ، وَالاِعْتِدَال:
الاِسْتِقَامَةُ، وَالتَّعَادُل التَّسَاوِي، وَالْعَدَالَةُ صِفَةٌ
تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا الاِحْتِرَازَ عَمَّا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً
ظَاهِرًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الإِْصْرَارِ عَلَى
الصَّغَائِرِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: الْعَدَالَةُ هِيَ اسْتِوَاءُ أَحْوَال الشَّخْصِ فِي
دَيْنِهِ وَاعْتِدَال أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْعَدَالَةِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:
الإِْخْبَارُ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ وَدُخُول وَقْتِ
الصَّلاَةِ، وَجِهَةُ الْقِبْلَةِ، وَالإِْمَامَةُ فِي الصَّلاَةِ،
وَشُرُوطُ عَامِل الزَّكَاةِ، وَشُرُوطُ الشَّاهِدَيْنِ لِرُؤْيَةِ هِلاَل
رَمَضَانَ، وَشُرُوطُ الْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَوَلِيُّ
النِّكَاحِ وَالإِْمَامَةِ الْكُبْرَى، وَالْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَدْل) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، التعريفات للجرجاني، المفردات للأصفهاني
مادة (عدل) .
(2) البدائع 6 / 268، جواهر الإكليل 1 / 12، مغني المحتاج 4 / 427، كشاف
القناع 6 / 418.
(29/298)
عَدَاوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعَدَاوَةُ فِي اللُّغَةِ: الظُّلْمُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ، يُقَال:
عَدَا فُلاَنٌ عَدْوًا وَعَدُوًّا وَعُدْوَانًا وَعَدَاءً أَيْ: ظَلَمَ
ظُلْمًا جَاوَزَ فِيهِ الْقَدْرَ، وَعَدَا بَنُو فُلاَنٍ عَلَى بَنِي
فُلاَنٍ أَيْ: ظَلَمُوهُمْ (1) .
وَالْعَادِي: الظَّالِمُ، وَالْعَدُوُّ: خِلاَفُ الصَّدِيقِ الْمُوَالِي،
وَالْجَمْعُ أَعْدَاءٌ.
وَفِي التَّعْرِيفَاتِ وَدُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: الْعَدَاوَةُ هِيَ مَا
يَتَمَكَّنُ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِ الإِْضْرَارِ وَالاِنْتِقَامِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدَاقَةُ:
2 - الصَّدَاقَةُ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْوُدِّ
وَالنُّصْحِ، يُقَال: صَادَقْتُهُ مُصَادَقَةً وَصَدَاقًا، وَالاِسْمُ
الصَّدَاقَةُ: أَيْ خَالَلْتُهُ.
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الصَّدَاقَةُ صِدْقُ الاِعْتِقَادِ فِي الْمَوَدَّةِ
وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالإِْنْسَانِ دُونَ غَيْرِهِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) التعريفات 1 / 1، والمغرب 306، ودستور العلماء 2 / 308.
(29/298)
فَالصَّدَاقَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ اتِّفَاقُ الضَّمَائِرِ عَلَى الْمَوَدَّةِ،
فَإِذَا أَضْمَرَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ مَوَدَّةَ صَاحِبِهِ،
فَصَارَ بَاطِنُهُ فِيهَا كَظَاهِرِهِ سُمِّيَا صَدِيقَيْنِ (1) .
فَالصَّدَاقَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ.
ب - الْخُصُومَةُ:
3 - الْخُصُومَةُ لُغَةً: الْمُنَازَعَةُ، وَالْجَدَل، وَالْغَلَبَةُ
بِالْحُجَّةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ وَالْخُصُومَةِ هِيَ: أَنَّ الْخُصُومَةَ
مِنْ قَبِيل الْقَوْل، وَالْمُعَادَاةُ مِنْ أَفْعَال الْقُلُوبِ (2) .
ج - الْكُرْهُ:
4 - الْكُرْهُ فِي اللُّغَةِ: الْقُبْحُ وَالْقَهْرُ، وَهُوَ ضِدُّ
الْحُبِّ، تَقُول: كَرِهْتُهُ أَكْرَهُهُ كُرْهًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ،
وَأَكْرَهْتُهُ عَلَى الأَْمْرِ إِكْرَاهًا: حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ قَهْرًا،
وَكَرِهَ الأَْمْرَ وَالْمَنْظَرَ كَرَاهَةً فَهُوَ كَرِيهٌ، مِثْل قَبُحَ
قَبَاحَةً فَهُوَ قَبِيحٌ وَزْنًا وَمَعْنًى.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والكليات 3 / 111، وانظر تفسير الماوردي
آية 61 من سورة النور.
(2) لسان العرب، وتكملة فتح القدير 6 / 96.
(29/299)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الْعَدَاوَةُ فِي الشَّهَادَةِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ قَبُول الشَّهَادَةِ
عَدَمُ التُّهْمَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَمِنَ التُّهَمِ الَّتِي لاَ تُقْبَل
الشَّهَادَةُ مِنْ أَجْلِهَا: الْعَدَاوَةُ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ
الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ ذِي
غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَِهْل
بَيْتِهِ (2) وَالْغِمْرُ: الْحِقْدُ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ الَّتِي لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ مِنْ
أَجْلِهَا: الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لاَ الدِّينِيَّةُ؛ لأَِنَّ
الْمُعَادَاةَ مِنْ أَجْل الدُّنْيَا مُحَرَّمَةٌ وَمُنَافِيَةٌ
لِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ وَاَلَّذِي يَرْتَكِبُ ذَلِكَ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ
أَنْ يَشْهَدَ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كَذِبًا.
وَالْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ هِيَ الْعَدَاوَةُ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ
أُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَالْمَال وَالْجَاهِ، فَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَل
__________
(1) المصباح المنير والمغرب 406.
(2) حديث: " لا تجوز شهادة الخائن. . . ". أخرجه أحمد (2 / 204 - ط.
الميمنية) وقوى إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 198 ط. شركة الطباعة
الفنية) .
(29/299)
شَهَادَةُ الْمَجْرُوحِ عَلَى الْجَارِحِ
وَوَرَثَةِ الْمَقْتُول عَلَى الْقَاتِل، وَالْمَقْذُوفِ عَلَى الْقَاذِفِ،
وَالْمَشْتُومِ عَلَى الشَّاتِمِ، وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي
ضَابِطِهَا، فَقَال الشَّلَبِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْعَدُوُّ مَنْ
يَفْرَحُ بِحُزْنِهِ وَيَحْزَنُ بِفَرَحِهِ، وَقِيل: يُعْرَفُ بِالْعُرْفِ،
وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ دُرَرِ الْحُكَّامِ عَلَى الْعُرْفِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ:
أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَال نِعْمَتِهِ وَيَفْرَحُ
لِمُصِيبَتِهِ وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ
شَهَادَتِهِ عَلَى الآْخَرِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَرَّهُ مَسَاءَةُ أَحَدٍ، أَوْ غَمَّهُ
فَرَحُهُ، وَطَلَبَ لَهُ الشَّرَّ وَنَحْوَهُ، فَهُوَ عَدُوُّهُ، لاَ
تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ لِلتُّهْمَةِ.
أَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ فَلاَ تَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ،
فَتُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُتَّبِعُ عَلَى
الْمُبْتَدِعِ، وَلَوْ تَجَاوَزَ أَحَدٌ الْحَدَّ بِارْتِكَابِ الْمَنَاهِي
وَالْمَعَاصِي وَصَارَ أَحَدٌ عَدُوًّا لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَتُقْبَل
شَهَادَةُ ذَلِكَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْعَدَاوَةُ
الدِّينِيَّةُ قَدْ سَبَّبَتْ إِفْرَاطَ الأَْذَى عَلَى الْفَاسِقِ
وَمُرْتَكِبِ الْمَعَاصِي، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَمْنَعُ الْعَدَاوَةُ
الدِّينِيَّةُ قَبُول الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ
تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ،
(29/300)
سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّاهِدُ عَدُوًّا
لِلزَّوْجَيْنِ أَمْ أَحَدِهِمَا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى قَبُول شَهَادَةِ
الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ، إِذْ لاَ تُهْمَةَ، وَعِنْدَ بَعْضِ
الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُقْبَل وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. (1)
ب - الْعَدَاوَةُ فِي الْقَضَاءِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْضِي
عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ،
لِلُحُوقِ التُّهْمَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ
نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِنَقْضِهِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء) .
ج - الْعَدَاوَةُ فِي النِّكَاحِ:
7 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ
تَزْوِيجِ الأَْبِ لاِبْنَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا أَنْ لاَ يَكُونَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ بِأَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا
أَهْل
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 221، ودرر الحكام 4 / 355، 356، وحاشية الدسوقي 3 /
171، والقوانين الفقهية 336، وتبصرة الحكام 1 / 180 ط. الشرقية 1301هـ،
روضة الطالبين 11 / 237، مغني المحتاج 3 / 144، المغني 12 / 55 وما بعدها،
منتهى الإرادات 3 / 554، كشاف القناع 6 / 431، الإنصاف 12 / 74.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 301، حاشية الدسوقي 4 / 152، روضة الطالبين 11 /
146، كشاف القناع 6 / 320، الروض المربع 368.
(29/300)
مَحَلِّهَا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا إِلاَّ
بِإِذْنِهَا، بِخِلاَفِ الْعَدَاوَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ؛ لأَِنَّ
الْوَلِيَّ يَحْتَاطُ لِمُوَلِّيَتِهِ لِخَوْفِ الْعَارِ وَغَيْرِهِ.
قَال الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي
الإِْجْبَارِ أَيْضًا: انْتِفَاءُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الزَّوْجِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ هَاهُنَا ظُهُورُ الْعَدَاوَةِ لِظُهُورِ
الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ، أَمَّا مُجَرَّدُ
كَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَلاَ تُؤَثِّرُ،
لَكِنْ يُكْرَهُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ.
قَال صَاحِبُ شَرْحِ الرَّوْضِ: وَلاَ حَاجَةَ لاِشْتِرَاطِ عَدَمِ
عَدَاوَةِ الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ شَفَقَةَ الْوَلِيِّ تَدْعُوهُ إِلَى أَنَّهُ
لاَ يُزَوِّجُهَا مِنْ عَدُوِّهَا. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 149، القليوبي وعميرة 3 / 222، كشاف القناع 5 / 44.
(29/301)
عُدَّة
التَّعْرِيفُ
1 - الْعُدَّةُ - بِالضَّمِّ - فِي اللُّغَةِ: الاِسْتِعْدَادُ
وَالتَّأَهُّبُ وَمَا أَعْدَدْتَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ سِلاَحٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: جَمِيعُ مَا يُتَقَوَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ
عَلَى الْعَدُوِّ. (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعُدَّةِ:
2 - الْعُدَّةُ - أَيِ الاِسْتِعْدَادُ لِلْحَرْبِ - فَرِيضَةٌ تُلاَزِمُ
فَرِيضَةَ الْجِهَادِ، فَالْحَرْبُ بِلاَ عُدَّةٍ إِلْقَاءٌ لِلنَّفْسِ
إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالْعُدَّةُ لِلْحَرْبِ فِي سَبِيل إِعْلاَءِ
كَلِمَةِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَال
تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} ،
(3) وَالْخِطَابُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَال سُبْحَانَهُ:
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الفتوحات الإلهية، تفسير البغوي 2 / 253.
(3) سورة الأنفال / 60.
(29/301)
التَّهْلُكَةِ} (1) أَيْ بِتَرْكِ
الإِْنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالْخِطَابُ أَيْضًا لِكَافَّتِهِمْ،
وَعَدَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: تَرْكَ الإِْنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّهِ
وَعَدَمَ الاِسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ بِاِتِّخَاذِ الْعُدَّةِ اللاَّزِمَةِ
لِلنَّصْرِ تَهْلُكَةً لِلنَّفْسِ، وَتَهْلُكَةً لِلْجَمَاعَةِ،
فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْجِهَادِ فِي التَّوْجِيهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ
وَالنَّبَوِيَّةِ تُلاَزِمُهَا فِي الأَْغْلَبِ الأَْعَمِّ دَعْوَةٌ إِلَى
الإِْنْفَاقِ.
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْمَاوَرْدِيِّ: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} بِأَنْ تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِي سَبِيل اللَّهِ
فَتَهْلَكُوا، ثُمَّ قَال: هَذَا قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيل: لاَ
تُقْحِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْحَرْبِ بِغَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ،
وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: التَّهْلُكَةُ أَنْ تُمْسِكَ يَدَكَ عَنِ
النَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّهِ. (2)
وَالْعُدَّةُ بِمَا فِي الطَّوْقِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ تَرَكُوهَا أَثِمُوا جَمِيعًا، وَهِيَ مِنَ
الأُْمُورِ الْمَنُوطَةِ بِالإِْمَامِ وَتَلْزَمُ عَلَيْهِ، قَال
الْمَاوَرْدِيُّ: مِنَ الأُْمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الإِْمَامِ:
تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ، وَالْقُوَّةِ
الدَّافِعَةِ حَتَّى لاَ يَظْفَرَ الأَْعْدَاءُ بِغِرَّةٍ يَنْتَهِكُونَ
فِيهَا مُحَرَّمًا، أَوْ يَسْفِكُونَ فِيهَا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ
دَمًا، وَعَدَّ الْقُرْآنُ تَرْكَ الْعُدَّةِ لِلْحَرْبِ إِعْلاَءً
لِكَلِمَةِ اللَّهِ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ، فَقَال تَعَالَى: فِي
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) الخازن، ابن كثير، تفسير الماوردي.
(29/302)
شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ
اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِعْذَارٍ
وَاهِيَةٍ فِي عَدَمِ الْخُرُوجِ مَعَهُ فِي الْجِهَادِ: {لاَ
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ
أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأََعَدُّوا لَهُ
عُدَّةً} .
(1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سِلاَح) .
مَا تَكُونُ بِهِ الْعُدَّةُ:
3 - بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْعُدَّةَ: بِأَنَّهَا الْقُوَّةُ، وَرِبَاطُ
الْخَيْل، قَال تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقُوَّةِ: وَقَال
الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أ - الْقُوَّةُ: ذُكُورُ الْخَيْل، وَرِبَاطُ الْخَيْل إِنَاثُهَا.
ب - الْقُوَّةُ: السِّلاَحُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.
ج - التَّصَافِي، وَاتِّفَاقُ الْكَلِمَةِ.
د - الثِّقَةُ بِاَللَّهِ.
هـ - الرَّمْيُ.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 16. والآيات من سورة التوبة من 44 - 46.
(29/302)
وَقَال صَاحِبُ تَفْسِيرِ الْخَازِنِ
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَقْوَالاً فِي مَعْنَى الْقُوَّةِ: الْقَوْل
الرَّابِعُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُوَّةِ جَمِيعُ مَا يُتَقَوَّى بِهِ
فِي الْحَرْبِ عَلَى الْعَدُوِّ، فَكُل مَا هُوَ آلَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا
فِي الْجِهَادِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوَّةِ الْمَأْمُورِ
بِإِعْدَادِهَا، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ
إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ (1) لاَ يَنْفِي كَوْنَ غَيْرِ الرَّمْيِ مِنَ
الْقُوَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِعْدَادِهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجُّ عَرَفَةُ (2) وَكَقَوْلِهِ: النَّدَمُ
تَوْبَةٌ (3) فَهَذَا لاَ يَنْفِي اعْتِبَارَ غَيْرِهِ، بَل يَدُل عَلَى
أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنْ أَجَل الْمَقْصُودِ، وَلأَِنَّ الرَّمْيَ
كَانَ مِنْ أَنْجَعِ وَسَائِل الْحَرْبِ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ فِي
زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَكَذَا هُنَا يُحْمَل
مَعْنَى الآْيَةِ عَلَى الاِسْتِعْدَادِ لِلْقِتَال فِي الْجِهَادِ
بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الآْلاَتِ، كَالرَّمْيِ بِالنَّبْل،
وَالنِّشَابِ، وَالسَّيْفِ، وَتَعَلُّمِ الْفُرُوسِيَّةِ، وَالتَّصَافِي،
وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ، وَالثِّقَةِ بِاَللَّهِ وَكُل ذَلِكَ مَأْمُورٌ
بِهِ، وَقَال الشِّهَابُ: إِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا هُنَا، لأَِنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ تَامٌّ فِي
__________
(1) حديث: " ألا إن القوة الرمي " أخرجه مسلم (3 / 1522) من حديث عقبة بن
عامر.
(2) حديث: " الحج عرفة ". أخرجه أبو داود (2 / 486) الحاكم (1 / 464) من
حديث عبد الرحمن بن يعمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " الندم توبة ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1420) والحاكم (4 / 243) من
حديث ابن مسعود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(29/303)
بَدْرٍ، فَنُبِّهُوا عَلَى أَنَّ النَّصْرَ
بِدُونِ اسْتِعْدَادٍ لاَ يَتَأَتَّى فِي كُل زَمَانٍ، وَدَلَّتِ الآْيَةُ
عَلَى وُجُودِ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ اتِّقَاءَ بَأْسِ الْعَدُوِّ. (1)
وَخَصَّ رِبَاطَ الْخَيْل بِالذِّكْرِ - مَعَ أَنَّ الأَْمْرَ بِإِعْدَادِ
الْقُوَّةِ فِي الآْيَةِ يَتَنَاوَل جَمِيعَ مَا يُتَقَوَّى بِهِ
لِلْحَرْبِ عَلَى اخْتِلاَفِ صُنُوفِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَسْبَابِهَا -
لأَِنَّهَا الأَْدَاةُ الَّتِي كَانَتْ بَارِزَةً عِنْدَ مَنْ كَانَ
يُخَاطِبُهُمُ الْقُرْآنُ أَوَّل مَرَّةٍ، وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِأَسْبَابٍ
غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ لَدَيْهِمْ، وَلاَ يُطِيقُونَ إِعْدَادَهَا لَكَانَ
تَكْلِيفًا بِمَا لاَ يُطَاقُ. (2)
__________
(1) تفسير الخازن، الفتوحات الإلهية، روح المعاني، تفسير البغوي: في تفسير
آية 60 من سورة الأنفال، وآية 46 من سورة التوبة وآية 195 من سورة البقرة.
(2) المصادر السابقة.
(29/303)
عِدَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْعِدَّةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَدِّ وَالْحِسَابِ،
وَالْعَدُّ فِي اللُّغَةِ: الإِْحْصَاءُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ
لاِشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدَدِ مِنَ الأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ
غَالِبًا، فَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا هِيَ مَا تَعُدُّهُ مِنْ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا، أَوْ أَيَّامِ
حَمْلِهَا، أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، وَقِيل:
تَرَبُّصُهَا الْمُدَّةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهَا، وَجَمْعُ الْعِدَّةِ:
عِدَدٌ، كَسِدْرَةٍ، وَسِدَرٍ.
وَالْعُدَّةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: الاِسْتِعْدَادُ أَوْ مَا أَعْدَدْتَهُ
مِنْ مَالٍ وَسِلاَحٍ، وَالْجَمْعُ عُدَدٌ، مِثْل غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ.
وَالْعِدُّ: الْمَاءُ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ، كَمَاءِ الْعَيْنِ وَمَاءِ
الْبِئْرِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ اسْمٌ لِمُدَّةٍ تَتَرَبَّصُ فِيهَا الْمَرْأَةُ
لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ أَوْ لِتَفَجُّعِهَا
عَلَى زَوْجِهَا.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير
(29/304)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِبْرَاءُ:
2 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ أَيِ التَّخَلُّصِ، أَوِ
التَّنَزُّهِ وَالتَّبَاعُدِ أَوِ الإِْعْذَارِ وَالإِْنْذَارِ أَوْ طَلَبُ
بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَبَل (1) ، أَوْ هُوَ الاِسْتِقْصَاءُ
وَالْبَحْثُ عَنْ كُل أَمْرٍ غَامِضٍ. (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: الْمَعْنَى الأَْوَّل:
الاِسْتِبْرَاءُ فِي الطَّهَارَةِ: وَهُوَ إِزَالَةُ مَا بِالْمَخْرَجَيْنِ
مِنَ الأَْذَى. (3)
الْمَعْنَى الثَّانِي: الاِسْتِبْرَاءُ فِي النَّسَبِ: وَهُوَ تَرَبُّصُ
الأَْمَةِ مُدَّةً بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ حُدُوثًا أَوْ زَوَالاً
لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ أَوْ لِلتَّعَبُّدِ. (4)
فَالاِسْتِبْرَاءُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْعِدَّةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
مُدَّةٌ تَتَرَبَّصُ فِيهَا الْمَرْأَةُ لِتَحِل لِلاِسْتِمْتَاعِ بِهَا،
وَيَفْتَرِقَانِ فِي عِدَّةِ أُمُورٍ ذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ مِنْهَا:
أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل حَالٍ، حَتَّى وَلَوْ تَيَقَّنَ
بَرَاءَةَ الرَّحِمِ، لِتَغْلِيبِ جَانِبِ التَّعَبُّدِ فِيهَا، بِخِلاَفِ
الاِسْتِبْرَاءِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) الفواكه الدواني 2 / 90.
(3) شرح الحدود ابن عرفة للرصاع ص 36.
(4) مغني المحتاج 3 / 408.
(29/304)
وَأَنَّهُ يَكْفِي الْقُرْءُ الْوَاحِدُ
فِي الاِسْتِبْرَاءِ لاَ فِي الْعِدَّةِ. (1)
ب - الإِْحْدَادُ:
3 - الإِْحْدَادُ لُغَةً: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ: امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ
عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ وَالأَْسَفِ.
(2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ عَنِ الزِّينَةِ وَمَا
فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَمِنْهُ
امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا. (3)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالإِْحْدَادِ: أَنَّ الْعِدَّةَ ظَرْفٌ
لِلإِْحْدَادِ، فَفِي الْعِدَّةِ تَتْرُكُ الْمَرْأَةُ زِينَتَهَا لِمَوْتِ
زَوْجِهَا.
ج - التَّرَبُّصُ:
4 - التَّرَبُّصُ لُغَةً: الاِنْتِظَارُ، يُقَال: تَرَبَّصْتُ الأَْمْرَ
تَرَبُّصًا انْتَظَرْتُهُ، وَتَرَبَّصْتُ الأَْمْرَ بِفُلاَنٍ تَوَقَّعْتُ
نُزُولَهُ بِهِ.
(4) وَاصْطِلاَحًا هُوَ التَّثَبُّتُ وَالاِنْتِظَارُ قَال تَعَالَى:
{فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} (5) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ التَّرَبُّصِ وَالْعِدَّةِ أَنَّ التَّرَبُّصَ
__________
(1) الفروق 3 / 302 - 205.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، مختار الصحاح.
(3) البدائع 3 / 208، مغني المحتاج 3 / 399.
(4) المصباح المنير.
(5) سورة المؤمنين / 25.
(29/305)
ظَرْفٌ لِلْعِدَّةِ فَإِذَا انْتَهَتِ
الْعِدَّةُ انْتَهَى التَّرَبُّصُ، وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْعِدَّةِ وَفِي
غَيْرِهَا كَالآْجَال فِي بَابِ الدُّيُونِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ
الْعِدَّةِ، فَكُل عِدَّةٍ تَرَبُّصٌ، وَلَيْسَ كُل تَرَبُّصٍ عِدَّةٌ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
مَشْرُوعِيَّةُ الْعِدَّةِ وَالدَّلِيل عَلَيْهَا:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِهَا
عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا (1) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى
ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2)
وقَوْله تَعَالَى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ
نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ
وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . (4)
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 190 وما بعدها، الدسوقي 2 / 486 مغني المحتاج 3 /
384، المغني لابن قدامة 7 / 448 مكتبة الرياض الحديثة.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) سورة الطلاق / 4.
(4) سورة البقرة / 234.
(29/305)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَحُدُّ امْرَأَةٌ
عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا. (1) وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اعْتَدِّي فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ
مَكْتُومٍ (2) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُمِرَتْ
بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلاَثِ حِيَضٍ. (3)
ج - الإِْجْمَاعُ - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ
وَوُجُوبِهَا مِنْ عَصْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى يَوْمِنَا هَذَا دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ.
سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ:
6 - تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُول بِسَبَبِ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ أَوِ
الْفَسْخِ أَوِ اللِّعَانِ، كَمَا تَجِبُ بِالْمَوْتِ قَبْل الدُّخُول
وَبَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ
الْعِدَّةِ بِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي
__________
(1) حديث: " لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث. . . " أخرجه مسلم (2 / 1127) .
(2) حديث: " اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ". أخرجه مسلم (2 / 1114) .
(3) حديث عائشة: " أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض ". أخرجه ابن ماجه (1 /
671) وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 357) .
(29/306)
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ،
فَلاَ تَجِبُ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ بِالدُّخُول، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَجِبُ بِالْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ
الْوَطْءِ.
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ: بُطْلاَن ف 30 وَخَلْوَة ف 19.
انْتِظَارُ الرَّجُل مُدَّةَ الْعِدَّةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الرَّجُل
حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ فِرَاقِ زَوْجَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا
دُونَ انْتِظَارِ مُضِيِّ مُدَّةِ عِدَّتِهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ
مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَرَادَ الزَّوَاجَ
بِعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ غَيْرِهَا مِمَّنْ لاَ
يَحِل لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ طَلَّقَ رَابِعَةً وَيُرِيدُ
الزَّوَاجَ بِأُخْرَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الاِنْتِظَارُ فِي عِدَّةِ
الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ بِالاِتِّفَاقِ، أَوِ الْبَائِنِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ الاِنْتِظَارُ.
وَمَنْعُ الرَّجُل مِنَ الزَّوَاجِ هُنَا لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ عِدَّةٌ،
لاَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَلاَ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ،
وَإِنْ كَانَ يُحْمَل مَعْنَى الْعِدَّةِ، قَال النَّفْرَاوِيُّ:
الْمُرَادُ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِدَّةِ مَنْعُ الْمَرْأَةِ لأَِنَّ مُدَّةَ
مَنْعِ مَنْ طَلَّقَ رَابِعَةً مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا لاَ يُقَال لَهُ
عِدَّةٌ، لاَ لُغَةً، وَلاَ شَرْعًا، لأَِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ مِنَ
النِّكَاحِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، كَزَمَنِ الإِْحْرَامِ أَوِ الْمَرَضِ
وَلاَ يُقَال فِيهِ أَنَّهُ مُعْتَدٌّ (1)
__________
(1) لبدائع 3 / 193، فتح القدير 4 / 307، ابن عابدين 2 / 598، الفواكه
الدواني 2 / 90، ومغني المحتاج 3 / 384، المغني لابن قدامة 7 / 448، جواهر
الإكليل 1 / 384، الدسوقي 2 / 469.
(29/306)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْعِدَّةِ:
8 - شُرِعَتِ الْعِدَّةُ لَمَعَانٍ وَحِكَمٍ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ
مِنْهَا: الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنْ لاَ يَجْتَمِعَ مَاءُ
الْوَاطِئَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي رَحِمٍ وَاحِدٍ فَتَخْتَلِطُ الأَْنْسَابُ
وَتَفْسُدُ، وَمِنْهَا: تَعْظِيمُ خَطَرِ الزَّوَاجِ وَرَفْعُ قَدْرِهِ
وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ، وَمِنْهَا: تَطْوِيل زَمَانِ الرَّجْعَةِ
لِلْمُطَلِّقِ لَعَلَّهُ يَنْدَمُ وَيَفِيءُ فَيُصَادِفُ زَمَنًا
يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الرَّجْعَةِ، وَمِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ
وَإِظْهَارُ تَأْثِيرِ فَقْدِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّزَيُّنِ
وَالتَّجَمُّل، وَلِذَلِكَ شُرِعَ الإِْحْدَادُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ
الإِْحْدَادِ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَمِنْهَا: الاِحْتِيَاطُ
لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَمَصْلَحَةِ الزَّوْجَةِ، وَحَقِّ الْوَلَدِ،
وَالْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ، فَفِي الْعِدَّةِ
أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّارِعُ الْمَوْتَ مَقَامَ
الدُّخُول فِي اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ
مِنَ الْعِدَّةِ مُجَرَّدَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، بَل ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ
مَقَاصِدِهَا وَحِكَمِهَا. (1)
أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (2) إِلَى أَنَّ أَنْوَاعَ الْعِدَدِ فِي
الشَّرْعِ ثَلاَثَةٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 85.
(2) لبدائع للكاساني 3 / 191، فتح القدير 4 / 307، ابن عابدين 2 / 598،
الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 468، الفواكه الدواني 2 / 91، جواهر الإكليل
1 / 385، شرح منح الجليل 2 / 371، مغني المحتاج 3 / 385 وما بعدها، روضة
الطالبين 8 / 366 المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، المغني لابن قدامة 7 /
448 وما بعدها.
(29/307)
أ - عِدَّةُ الْقُرُوءِ.
ب - عِدَّةُ الأَْشْهُرِ.
ج - عِدَّةُ وَضْعِ الْحَمْل.
أَوَّلاً - الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ.
10 - قَال الْفَيُّومِيُّ: الْقُرْءُ فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْحُ
وَجَمْعُهُ قُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ، مِثْل فَلْسٌ وَفُلُوسٌ وَأَفْلُسٌ،
وَالضَّمُّ وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ مِثْل قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، قَال
أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: وَيُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ. (1)
11 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ اصْطِلاَحًا عَلَى
قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وَهُوَ قَوْل كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ
بِالأَْقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ: الأَْطْهَارُ، (2) ،
وَالطُّهْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُحْتَوَشُ بَيْنَ دَمَيْنِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الدسوقي 2 / 469، جواهر الإكليل 1 / 385، الفواكه الدواني 2 / 91، روضة
الطالبين 8 / 366، مغني المحتاج 3 / 385، تفسير القرطبي 3 / 113، وما
بعدها، إعلام الموقعين 1 / 25، المغني لابن قدامة 7 / 452 وما بعدها مكتبة
الرياض الحديثة.
(29/307)
وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
- لاَ مُجَرَّدُ الاِنْتِقَال إِلَى الْحَيْضِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى
قَوْلِهِمْ بِمَا يَلِي:
أ - بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ
أَوْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِعِدَّتِهِنَّ، فَاللاَّمُ
بِمَعْنَى فِي، وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَمَرَ
بِالطَّلاَقِ فِي الطُّهْرِ، لاَ فِي الْحَيْضِ لِحُرْمَتِهِ
بِالإِْجْمَاعِ، فَيُصْرَفُ الإِْذْنُ إِلَى زَمَنِ الطُّهْرِ، فَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ الَّذِي يُسَمَّى عِدَّةً،
وَتَطْلُقُ فِيهِ النِّسَاءُ.
(2) ب - وَبِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ
فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ
ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ
قَبْل أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَل أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ.
(3) فَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى
الطُّهْرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ، فَصَحَّ أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ.
كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ فَرْضًا إِثْرَ الطَّلاَقِ بِلاَ
مُهْلَةٍ فَصَحَّ أَنَّهَا الطُّهْرُ الْمُتَّصِل بِالطَّلاَقِ لاَ
الْحَيْضُ الَّذِي لاَ يَتَّصِل بِالطَّلاَقِ، وَلَوْ كَانَ
__________
(1) سورة الطلاق / 1.
(2) تفسير القرطبي 18 / 153، 3 / 115.
(3) حديث: " مره فليراجعها. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 345 -
346) ومسلم (2 / 1093) في حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم.
(29/308)
الْقُرْءُ هُوَ الْحَيْضُ لَوَجَبَ
عِنْدَهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ فِيمَنْ طَلَّقَ حَائِضًا أَنْ تَعْتَدَّ
بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا، وَلَكِنْ لاَ يُعْتَدُّ بِهَا.
ج - وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " إِنَّمَا
الأَْقْرَاءُ الأَْطْهَارُ. (1)
د - وَلأَِنَّ الْقُرْءَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ، فَيُقَال: قَرَأْتُ
كَذَا فِي كَذَا إِذَا جَمَعْتَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الأَْمْرُ كَذَلِكَ
كَانَ بِالطُّهْرِ أَحَقَّ مِنَ الْحَيْضِ؛ لأَِنَّ الطُّهْرَ اجْتِمَاعُ
الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ خُرُوجُهُ مِنْهُ، وَمَا وَافَقَ
الاِشْتِقَاقَ كَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَيُجْمَعُ
عَلَى أَقْرَاءٍ وَقُرُوءٍ وَأَقْرُؤٍ. (2)
الْقَوْل الثَّانِي: الْمُرَادُ بِالْقُرْءِ: الْحَيْضُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ كَالْخُلَفَاءِ الأَْرْبَعَةِ وَابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ قَال أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ
وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَيْثُ نُقِل عَنْهُ
أَنَّهُ قَال: كُنْتُ أَقُول: إِنَّهَا الأَْطْهَارُ، وَأَنَا الْيَوْمُ
أَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى هَذَا،
__________
(1) سبل السلام للصنعاني 3 / 204 ط. إحياء التراث العربي - بيروت وحديث
عائشة: " إنما الأقراء الأطهار. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 577)
موقوفا على عائشة، وعند الشافعي في الأم (5 / 209) محتجا به.
(2) مغني المحتاج 3 / 385.
(29/308)
وَاسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ
لَهُ مَذْهَبٌ سِوَاهُ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) فَقَدْ أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِالاِعْتِدَادِ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِل
الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ
الثَّالِثِ؛ لأَِنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلاَقُ
مَحْسُوبٌ مِنَ الأَْقْرَاءِ عِنْدَ الْقَوْل الأَْوَّل، وَالثَّلاَثَةُ
اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالاِسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لاَ يَقَعُ
عَلَى مَا دُونَهُ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَل بِالْكِتَابِ، وَلَوْ حُمِل
عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الاِعْتِدَادُ بِثَلاَثٍ حِيَضٍ كَوَامِل؛ لأَِنَّ
مَا بَقِيَ مِنَ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ
فَيَكُونُ عَمَلاً بِالْكِتَابِ، فَكَانَ الْحَمْل عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى
لِمُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ.
(3)
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: طَلاَقُ الأَْمَةِ اثْنَتَانِ،
وَعِدَّتُهَا
__________
(1) البدائع 3 / 193 - 194، فتح القدير 4 / 308، المغني لابن قدامة مع
الشرح 9 / 82، 85، كشاف القناع 5 / 417، إعلام الموقعين 1 / 25، القرطبي 3
/ 113 وما بعدها. نيل الأوطار للشوكاني 7 / 90 وما بعدها، سبل السلام 3 /
205.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) البدائع 3 / 194، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 83 - 84. دار الكتاب
العربي - بيروت.
(29/309)
حَيْضَتَانِ (1) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لاَ
تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالأَْمَةِ فِي الْعِدَّةِ فِيمَا يَقَعُ
بِهِ الاِنْقِضَاءُ، إِذِ الرِّقُّ أَثَرُهُ فِي تَنْقِيصِ الْعِدَّةِ
الَّتِي تَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لاَ فِي تَغْيِيرِ أَصْل الْعِدَّةِ،
فَدَل عَلَى أَنَّ أَصْل مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ هُوَ الْحَيْضُ (2)
.
ج - وَلأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَال الْقُرْءِ
بِمَعْنَى الْحَيْضِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا (3) وَقَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ
أَبِي حُبَيْشٍ: انْظُرِي إِذَا أَتَى قُرْؤُكِ فَلاَ تُصَلِّي، فَإِذَا
مَرَّ قُرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقُرْءِ إِلَى
الْقُرْءِ (4) فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِ
الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُهُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ فِي مَوْضِعٍ، فَوَجَبَ أَنْ
يُحْمَل كَلاَمُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي لِسَانِهِ. (5)
د - وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ
لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ
__________
(1) حديث: " طلاق الأمة اثنتان " أخرجه ابن ماجه (1 / 672) من حديث ابن
عمر، وذكر ابن حجر في التلخيص (3 / 213) أن في إسناده راويين ضعيفين، ثم
نقل عن الدارقطني والبيهقي أنهما صححاه موقوفا على ابن عمر.
(2) البدائع 3 / 194.
(3) حديث: " تدع الصلاة أيام أقرائها. . . " أخرجه الترمذي (1 / 220) وأبو
داود (1 / 209) وضعفه أبو داود
(4) حديث: " انظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي. . . " أخرجه أبو داود (1 / 191)
. وأصله في البخاري (فتح الباري 1 / 420) .
(5) المغني والشرح الكبير 9 / 83 - 84.
(29/309)
الرَّحِمِ يَحْصُل بِالْحَيْضِ لاَ
بِالطُّهْرِ، فَكَانَ الاِعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لاَ بِالطُّهْرِ. (1)
عِدَّةُ الْحُرَّةِ ذَاتُ الأَْقْرَاءِ فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ
الْحُرَّةِ ذَاتِ الأَْقْرَاءِ وَهِيَ مَنْ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ
صَحِيحَانِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ (2) ، فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ وَإِنْ
تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَال طُهْرُهَا (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}
(4) وَذَلِكَ فِي الْمَدْخُول بِهَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوِ
الْفَاسِدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي
الْجَدِيدِ. (ر: خَلْوَة)
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى الْقُرْءِ،
وَقَوْل بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ الطُّهْرُ، وَقَوْل غَيْرِهِ: إِنَّهُ
الْحَيْضُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا اخْتِلاَفٌ فِي حِسَابِ الْعِدَّةِ،
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
__________
(1) البدائع 3 / 194.
(2) البدائع 3 / 193، فتح القدير 4 / 307، ابن عابدين 2 / 599 - 603
الدسوقي 2 / 469 جواهر الإكليل 1 / 385، الفواكه 2 / 91، مغني المحتاج 3 /
384 - 386 روضة الطالبين 8 / 368، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 91، كشاف
القناع 5 / 417.
(3) روضة الطالبين 8 / 369، الفواكه 2 / 91، الدسوقي 2 / 469.
(4) سورة البقرة / 228.
(29/310)
أ - الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ
الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ
إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَلُقَتْ طَاهِرًا، وَبَقِيَ مِنْ زَمَنِ
طُهْرِهَا شَيْءٌ وَلَوْ لَحْظَةً حُسِبَتْ قُرْءًا؛ لأَِنَّ بَعْضَ
الطُّهْرِ وَإِنْ قَل يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ قُرْءٍ، فَتُنَزَّل
مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ؛ لأَِنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُطْلِقَ فِي كَلاَمِهِ
تَعَالَى عَلَى مُعْظَمِ الْمُدَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1) مَعَ أَنَّهُ فِي شَهْرَيْنِ وَعَشْرِ لَيَالٍ،
وَلِذَلِكَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ
مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ - بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ -
لاَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ
الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا تَنْقَضِي بِانْقِطَاعِ دَمِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ
وَاغْتِسَالِهَا فِي الْمُعْتَمَدِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِل
الْمُعْتَمَدِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْغُسْل لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ،
بَل يَكْفِي انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ - إِلاَّ
الزُّهْرِيُّ حَيْثُ قَال: تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ
الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ إِنْ
كَانَ جَامَعَهَا فِي الطُّهْرِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِبَقِيَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ
زَمَنٌ حَرُمَ فِيهِ الطَّلاَقُ،
__________
(1) سورة البقرة / 197.
(29/310)
فَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ مِنَ الْعِدَّةِ
كَزَمَنِ الْحَيْضِ. (1)
وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ مِنَ
الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ وَهَذَا قَوْل زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ
عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَأَبِي ثَوْرٍ
لِئَلاَّ تَزِيدَ الْعِدَّةُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ.
ب - الْعِدَّةُ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،
إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَنْقَضِي مَا لَمْ تَحِضِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَ
حِيَضٍ كَوَامِل تَالِيَةٍ لِلطَّلاَقِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ
فَلاَ يُحْتَسَبُ ذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَهُمْ، أَوْ
طَلَّقَهَا فِي حَيْضِهَا فَإِنَّهَا لاَ تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا
بِغَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، لِحُرْمَةِ الطَّلاَقِ فِي
الْحَيْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيل الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَلأَِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَلاَ تَعْتَدُّ
بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا. (2)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَفَائِدَةُ الاِخْتِلاَفِ أَنَّ
__________
(1) الدسوقي 2 / 469 الفواكه 2 / 91 جواهر الإكليل 1 / 385 روضة الطالبين 8
/ 366 - 367 مغني المحتاج 3 / 385 المغني مع الشرح 9 / 85 - 88.
(2) البدائع 3 / 193، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 85، 99.
(29/311)
مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ
الطُّهْرِ لاَ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرُ مِنَ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا،
حَتَّى لاَ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلاَثَ حِيَضٍ
بَعْدَهُ.
(1) 15 - وَلَكِنْ هَل الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بِالْغُسْل مِنَ الْحَيْضَةِ
الثَّالِثَةِ، أَمْ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْهَا. .؟ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي
بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ اغْتِسَالٍ،
إِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشْرَةً، لاِنْقِطَاعِ الدَّمِ
بِيَقِينٍ، إِذْ لاَ مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى عَشَرَةٍ؛ لأَِنَّهَا إِذَا
رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنِ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ
حَيْضًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِعَدَمِ احْتِمَال عَوْدِ دَمِ
الْحَيْضِ بَعْدَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيَزُول الْحَيْضُ ضَرُورَةً
وَيَثْبُتُ الطُّهْرُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ رَجْعَتُهَا وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ
بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَيَّامُ حَيْضِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِنَّهَا
فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِل، فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا،
وَلاَ يَحِل لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا، بِشَرْطِ أَنْ تَجِدَ مَاءً فَلَمْ
تَغْتَسِل وَلاَ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ وَلاَ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ
كَامِلٌ مِنْ أَوْقَاتِ أَدْنَى الصَّلَوَاتِ إِلَيْهَا: (2)
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول:
__________
(1) البدائع 3 / 193.
(2) البدائع 3 / 183.
(29/311)
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى
{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (1) أَيْ يَغْتَسِلْنَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: تَحِل لِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا
حَتَّى تَغْتَسِل مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ. (2) وَأَمَّا
الإِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْل شَرْطًا لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَيْثُ رَوَى
عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَال: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ
وَامْرَأَةٌ، فَقَال الرَّجُل: زَوْجَتِي طَلَّقْتُهَا وَرَاجَعْتُهَا،
فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ أَنْ أَقُول مَا كَانَ، إِنَّهُ
طَلَّقَنِي وَتَرَكَنِي حَتَّى حِضْتُ الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ
وَانْقَطَعَ الدَّمُ، وَغَلَّقْتُ بَابِي، وَوَضَعْتُ غُسْلِي، وَخَلَعْتُ
ثِيَابِي، فَطَرَقَ الْبَابَ فَقَال: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَال عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُل فِيهَا يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، فَقُلْتُ:
أَرَى الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ مَا لَمْ تَحِل لَهَا الصَّلاَةُ، فَقَال
عُمَرُ: لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَمْ أَرَهُ صَوَابًا.
وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ
مَسْعُودٍ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَعَبْدَ
اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الأَْشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا
يَقُولُونَ فِي الرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ
__________
(1) سورة البقر / 222 انظر تفسير القرطبي 3 / 88.
(2) حديث: " تحل لزوجها الرجعة عليها. . . " أخرجه عبد الرزاق في المصنف
موقوفا على عمر وعلى.
(29/312)
تَطْلِيقَتَيْنِ: إِنَّهُ أَحَقُّ بِهَا
مَا لَمْ تَغْتَسِل مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا
مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْل.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَلأَِنَّ أَيَّامَهَا إِذَا كَانَتْ أَقَل مِنْ
عَشَرَةٍ لَمْ تَسْتَيْقِنْ بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ، لاِحْتِمَال
الْمُعَاوَدَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، إِذِ الدَّمُ لاَ يَدِرُّ دَرًّا
وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ يَدِرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَكَانَ
احْتِمَال الْعَوْدِ قَائِمًا، وَالْعَائِدُ يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ إِلَى
الْعَشَرَةِ، فَلَمْ يُوجَدِ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ، فَلاَ
يَثْبُتُ الطُّهْرُ بِيَقِينٍ، فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لأَِنَّهَا كَانَتْ
ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا اغْتَسَلَتِ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّهُ
ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ
أَدَاءِ الصَّلاَةِ، إِذْ لاَ يُبَاحُ أَدَاؤُهَا لِلْحَائِضِ، فَتَقَرَّرَ
الاِنْقِطَاعُ بِقَرِينَةِ الاِغْتِسَال فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ
لاِنْتِهَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ.
وَكَذَا إِذَا لَمْ تَغْتَسِل، لَكِنْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلاَةِ،
أَوْ إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ، بِأَنْ كَانَتْ مُسَافِرَةً
فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ.
أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَل فَهَل تَنْتَهِي الْعِدَّةُ
وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؟
قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لاَ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ وَلاَ
تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِلْعِلَّةِ السَّابِقَةِ، وَقَال
(29/312)
مُحَمَّدٌ: تَنْتَهِي الْعِدَّةُ
وَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّهَا لَمَّا تَيَمَّمَتْ ثَبَتَ لَهَا
حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وَهُوَ إِبَاحَةُ الصَّلاَةِ فَلاَ
يَبْقَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً. (1)
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِبَاحَةِ الْمُعْتَدَّةِ
لِلأَْزْوَاجِ بِالْغُسْل مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ بِنَاءً عَلَى
الْقَوْل بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهَا فِي الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِل،
فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا ارْتِجَاعُهَا، وَلاَ يَحِل لِغَيْرِهِ نِكَاحُهَا
لأَِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلاَةِ بِحُكْمِ حَدَثِ الْحَيْضِ
فَأَشْبَهَتِ الْحَائِضَ.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِطُهْرِهَا مِنَ
الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَانْقِطَاعِ دَمِهَا، اخْتَارَهُ أَبُو
الْخَطَّابِ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) وَقَدْ كَمُلَتِ الْقُرُوءُ، بِدَلِيل وُجُوبِ
الْغُسْل عَلَيْهَا وَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَفِعْل الصِّيَامِ وَصِحَّتِهِ
مِنْهَا، وَلأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي الْمِيرَاثِ
وَوُقُوعِ الطَّلاَقِ فِيهَا وَاللِّعَانِ وَالنَّفَقَةِ، قَال الْقَاضِي:
إِذَا شَرَطْنَا الْغُسْل أَفَادَ عَدَمُهُ إِبَاحَةَ الرَّجْعَةِ
وَتَحْرِيمَهَا عَلَى الأَْزْوَاجِ، فَأَمَّا سَائِرُ الأَْحْكَامِ
فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا (3) .
__________
(1) البدائع 3 / 183 - 185.
(2) سورة البقرة 228 وانظر تفسير القرطبي 3 / 116 - 117.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 86، 87 والشرح الكبير عليه 100 - 101.
(29/313)
عِدَّةُ الأَْمَةِ:
16 - عِدَّةُ الأَْمَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الْفُرْقَةِ
الَّتِي تَعْتَدُّ مِنْهَا، وَبِاخْتِلاَفِ حَالِهَا بِاعْتِبَارِهَا مِنْ
ذَوَاتِ الْحَمْل أَوِ الأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِقّ ف 99)
ثَانِيًا: الْعِدَّةُ بِالأَْشْهُرِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالأَْشْهُرِ تَجِبُ فِي
حَالَتَيْنِ: (1)
الْحَالَةُ الأُْولَى:
وَهِيَ مَا تَجِبُ بَدَلاً عَنِ الْحَيْضِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ
أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا الَّتِي لَمْ تَرَ دَمًا لِيَأْسٍ أَوْ صِغَرٍ،
أَوْ بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ، أَوْ جَاوَزَتْهُ وَلَمْ تَحِضْ،
فَعِدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (2) أَيْ
فَعِدَّتُهُنَّ كَذَلِكَ، وَلأَِنَّ الأَْشْهُرَ هُنَا بَدَلٌ عَنِ
الأَْقْرَاءِ، وَالأَْصْل مُقَدَّرٌ بِثَلاَثَةٍ فَكَذَلِكَ الْبَدَل.
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 192، حاشية الدسوقي 2 / 470، الفواكه الدواني 2 /
91 جواهر الإكليل 1 / 385، مغني المحتاج 3 / 386، روضة الطالبين 8 / 370
المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 89، 106، تفسير القرطبي 18 / 162 وما
بعدها.
(2) سورة الطلاق / 4.
(29/313)
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي
الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ أَنْ تَكُونَ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ،
وَفِي الْكَبِيرَةِ الآْيِسَةِ مِنَ الْمَحِيضِ أَنْ تَكُونَ قَدْ
جَاوَزَتِ السَّبْعِينَ سَنَةً. (1)
وَسِنُّ الْيَأْسِ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ:
(إِيَاس ف 6) .
وَإِذِ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ بِالأَْشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ
فَرَاغِهَا فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَلاَ تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ
بِالأَْقْرَاءِ.
وَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الأَْشْهُرِ انْتَقَلَتْ إِلَى الأَْقْرَاءِ
وَلاَ يُحْسَبُ مَا مَضَى قُرْءًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
لِقُدْرَتِهَا عَلَى الأَْصْل قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَل -
كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ أَثْنَاءَ تَيَمُّمِهِ. (2)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
عِدَّةُ الْوَفَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ أَصْلاً بِنَفْسِهَا، وَسَبَبُ
وُجُوبِهَا الْوَفَاةُ بَعْدَ زَوَاجٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ
الْوَفَاةُ قَبْل الدُّخُول أَمْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ
تَحِيضُ أَمْ لاَ، بِشَرْطِ أَلاَّ تَكُونَ حَامِلاً وَمُدَّتُهَا
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 91، والمغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 102، روضة
الطالبين 8 / 370، الدسوقي 2 / 473.
(2) مغني المحتاج 3 / 386.
(29/314)
وَعَشْرًا} (1) وَقَوْل الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،
إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (2)
وَقُدِّرَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ
يَكُونُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ
يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ، فَأُمِرَتْ بِتَرَبُّصِ هَذِهِ
الْمُدَّةِ لِيَسْتَبِينَ الْحَمْل إِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ. (3)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ
الْعِدَّةَ مِنَ الْوَفَاةِ وَاجِبَةٌ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
الْمُخْتَلَفِ فِيهِ دُونَ النِّكَاحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ
كَخَامِسَةٍ فَلاَ عِدَّةَ إِلاَّ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْبَالِغُ قَدْ
دَخَل بِهَا وَهِيَ مُطِيقَةٌ فَتَعْتَدُّ كَالْمُطَلَّقَةِ. (4)
كَيْفِيَّةُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:
18 - إِنَّ حِسَابَ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ
أَوِ الْوَفَاةِ يَكُونُ بِالشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ لاَ
__________
(1) الآية رقم 234 من سورة البقرة - المبسوط 6 / 30.
(2) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن. . . ". رواه البخاري ومسلم (اللؤلؤ
والمرجان 258 - 259. نشر وزارة الأوقاف الكويتية) .
(3) البدائع 3 / 192 - 195 فتح القدير 4 / 311، ابن عابدين 2 / 603،
الدسوقي 2 / 475، الفواكه الدواني 2 / 93، روضة الطالبين 8 / 398، 399،
مغني المحتاج 3 / 395، 396، المغني لابن قدامة مع الشرح 9 / 106، 107 كشاف
القناع 5 / 415.
(4) الفواكه الدواني 2 / 93.
(29/314)
الشَّمْسِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ
أَوِ الْوَفَاةُ فِي أَوَّل الْهِلاَل اعْتُبِرَتِ الأَْشْهُرُ
بِالأَْهِلَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْهِلَّةِ
قُل هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) حَتَّى وَلَوْ نَقَصَ
عَدَدُ الأَْيَّامِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالْعِدَّةِ
بِالأَْشْهُرِ، فَقَال سُبْحَانَهُ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ}
(2) وَقَال تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) فَلَزِمَ
اعْتِبَارُ الأَْشْهُرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ ثَلاَثِينَ يَوْمًا أَوْ أَقَل،
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا (4) وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ
الْعَشْرِ مَرَّتَيْنِ وَهَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ
كُلِّهَا وَحَبَسَ أَوْ خَنَسَ إِبْهَامَهُ وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ (5)
وَإِنْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ
قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا لَوْ
طَلُقَتْ أَوْ حَدَثَتِ الْوَفَاةُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ وَلَوْ فِي
__________
(1) سورة البقرة / 189.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) حديث: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه العشر مرتين " أخرجه
مسلم 2 / 761 من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119) مختصرا
(5) البدائع 3 / 195، الفواكه الدواني 2 / 91، مغني المحتاج 3 / 386، 395
روضة الطالبين 8 / 370، 398 المغني لابن قدامة والشرح الكبير9 / 104، 105.
(29/315)
أَثْنَاءِ أَوَّل يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ
مِنْهُ اعْتُبِرَ شَهْرَانِ بِالْهِلاَل، وَيَكْمُل الْمُنْكَسِرُ
ثَلاَثِينَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْكَسِرُ
نَاقِصًا.
وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالأَْشْهُرِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ
بَقِيَّةَ الشَّهْرِ الْمُنْكَسِرِ بِالأَْيَّامِ وَبَاقِي الشُّهُورِ
بِالأَْهِلَّةِ، وَيَكْمُل الشَّهْرُ الأَْوَّل مِنَ الشَّهْرِ الأَْخِيرِ.
(1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الاِعْتِدَادُ
بِالشَّهْرِ، وَالأَْشْهُرُ اسْمُ الأَْهِلَّةِ، فَكَانَ الأَْصْل فِي
الاِعْتِدَادِ هُوَ الأَْهِلَّةُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأَْهِلَّةِ قُل هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2) ، جَعَل
الْهِلاَل لِمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ، وَإِنَّمَا يُعْدَل إِلَى
الأَْيَّامِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الأَْهِلَّةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ
اعْتِبَارُ الْهِلاَل فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل فَعَدَلْنَا عَنْهُ إِلَى
الأَْيَّامِ، وَلاَ تَعَذُّرَ فِي بَقِيَّةِ الأَْشْهُرِ فَلَزِمَ
اعْتِبَارُهَا بِالأَْهِلَّةِ. (3)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ وَابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تُحْتَسَبُ
بِالأَْيَّامِ، فَتَعْتَدُّ مِنَ الطَّلاَقِ وَغَيْرِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا،
وَمِنَ الْوَفَاةِ مِائَةً وَثَلاَثِينَ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 399، مغني المحتاج 3 / 395.
(2) سورة البقرة / 189.
(3) البدائع 3 / 196، الفواكه الدواني 2 / 92، روضة الطالبين 8 / 370، مغني
المحتاج 3 / 386، المغني لابن قدامة والشرح الكبير 9 / 104، 105
(29/315)
يَوْمًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ
انْكَسَرَ جَمِيعُ الأَْشْهُرِ، قِيَاسًا عَلَى صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ
الْمُتَتَابِعَيْنِ إِذَا ابْتَدَأَ الصَّوْمَ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ.
وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ يُرَاعَى فِيهَا الاِحْتِيَاطُ، فَلَوِ
اعْتَبَرْنَاهَا فِي الأَْيَّامِ لَزَادَتْ عَلَى الشُّهُورِ وَلَوِ
اعْتَبَرْنَاهَا بِالأَْهِلَّةِ لَنَقَصَتْ عَنِ الأَْيَّامِ، فَكَانَ
إِيجَابُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا. (1)
بَدْءُ حِسَابِ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ عِدَّةَ الأَْشْهُرِ تَبْدَأُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي فَارَقَهَا
زَوْجُهَا فِيهَا، فَلَوْ فَارَقَهَا فِي أَثْنَاءِ اللَّيْل أَوِ
النَّهَارِ ابْتُدِئَ حِسَابُ الشَّهْرِ مِنْ حِينَئِذٍ، وَاعْتَدَّتْ مِنْ
ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى مِثْلِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} (2) وَقَال تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) فَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ
دَلِيلٍ، وَحِسَابُ السَّاعَاتِ مُمْكِنٌ: إِمَّا يَقِينًا وَإِمَّا
اسْتِظْهَارًا، فَلاَ وَجْهَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُحْسَبُ يَوْمُ الطَّلاَقِ إِنْ طَلُقَتْ
بَعْدَ فَجْرِهِ، وَلاَ يَوْمُ الْوَفَاةِ (4) .
__________
(1) البدائع 3 / 195، 196، روضة الطالبين 8 / 370، 399، مغني المحتاج 3 /
386، 395.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) فتح القدير 4 / 329، الفواكه الدواني 2 / 92، روضة الطالبين 8 / 370
المغني لابن قدامة والشرح الكبير 9 / 105، 106، سبل السلام 3 / 201. إحياء
التراث العربي - بيروت. وهذا فيما مضى، وأما الآن فلا حرج في ذلك لإمكان
ضبطه بالدقيقة للقادر على الساعة.
(29/316)
الْعَشْرُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي عِدَّةِ
الْوَفَاةِ بِالأَْشْهُرِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَشْرَ الْمُعْتَبَرَةَ
فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا فَتَجِبُ
عَشْرَةُ أَيَّامٍ مَعَ اللَّيْل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) فَالْعَرَبُ تُغَلِّبُ
صِيغَةَ التَّأْنِيثِ فِي الْعَدَدِ خَاصَّةً عَلَى الْمُذَكَّرِ
فَتُطْلِقُ لَفْظَ اللَّيَالِي وَتُرِيدُ اللَّيَالِيَ بِأَيَّامِهَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ {آيَتُكَ
أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (2) يُرِيدُ
بِأَيَّامِهَا بِدَلِيل أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال فِي آيَةٍ أُخْرَى
{آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا}
(3) يُرِيدُ بِلَيَالِيِهَا وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَْخِيرِ
مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ اللَّيَالِي وَالأَْيَّامُ وَبِهَذَا قَال أَبُو
عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ خِلاَفًا لِلأَْوْزَاعِيِّ وَالأَْصَمِّ
اللَّذَيْنِ قَالاَ: تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ
وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ؛ لأَِنَّ الْعَشْرَ تُسْتَعْمَل فِي اللَّيَالِي دُونَ
الأَْيَّامِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الأَْيَّامُ اللاَّتِي فِي أَثْنَاءِ
اللَّيَالِي تَبَعًا، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْيَوْمِ
الْعَاشِرِ جَازَ، أَخْذًا مِنْ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ (الْعَشْرِ) فِي
الْكِتَابِ
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) سورة مريم / 10.
(3) سورة آل عمران / 41.
(29/316)
وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآْخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلاَّ
عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (1) فَيَجِبُ كَوْنُ
الْمَعْدُودِ اللَّيَالِي وَإِلاَّ لأََنَّثَهُ. (2)
ثَالِثًا: الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْل:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَامِل تَنْقَضِي عِدَّتُهَا
بِوَضْعِ الْحَمْل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَنْ طَلاَقٍ أَمْ وَطْءِ شُبْهَةٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} (3) وَلأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْعِدَّةِ بَرَاءَةُ
الرَّحِمِ، وَهِيَ تَحْصُل بِوَضْعِ الْحَمْل. (4)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا
إِذَا كَانَتْ حَامِلاً: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ
عِدَّتَهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْل، قَلَّتِ الْمُدَّةُ أَوْ
كَثُرَتْ، حَتَّى وَلَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا،
فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ. (5)
__________
(1) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن. . . " تقدم تخريجه فـ 17.
(2) البدائع: 3 / 195، فتح القدير 4 / 313، الفواكه الدواني 2 / 94 الدسوقي
2 / 475، روضة الطالبين 8 / 398، مغني المحتاج 3 / 395 المغني لابن قدامة
مع الشرح الكبير 9 / 107، سبل السلام 3 / 201.
(3) سورة الطلاق / 4.
(4) البدائع 3 / 192، 196، الدسوقي 2 / 474، مغني المحتاج 3 / 388، روضة
الطالبين 8 / 373، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 110.
(5) البدائع 3 / 196، حاشية الدسوقي 2 / 474، جواهر الإكليل 1 / 364،
الفواكه الدواني 2 / 92، مغني المحتاج 3 / 388، حاشية الجمل 4 / 454،
المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 110، تفسير القرطبي 3 / 174.
(29/317)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِعُمُومِ
قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} فَقَدْ جَاءَتْ عَامَّةً فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَمَنْ فِي
حُكْمِهِنَّ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَكَانَتْ حَامِلاً. (1)
وَالآْيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
(2) كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمُتَوَفَّى
عَنْهَا زَوْجُهَا: إِذَا وَلَدَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ جَازَ
لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ
أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَْسْلَمِيَّةَ نَفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا
بِلَيَالٍ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ (4) وَقِيل:
إِنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قَال
الزُّهْرِيُّ: وَلاَ أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ
__________
(1) البدائع 3 / 196، 197.
(2) سورة البقرة / 234، والفواكه الدواني 2 / 92.
(3) البدائع 3 / 196 تفسيرالقرطبي 3 / 174.
(4) حديث: سبيعة الأسلمية: " أنها نفست. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم بشرح
النووي، دار إحياء التراث العربى) .
(29/317)
وَهِيَ فِي دَمِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لاَ
يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ. (1)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا
تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَإِنْ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٌ، بَل وَلَوْ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِسَاعَةٍ، ثُمَّ تَحِل
لِلأَْزْوَاجِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ مِنْ ذَوَاتِ
الأَْقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعُ الْحَمْل فِي
الدَّلاَلَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَكَانَ
انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنَ الاِنْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ. (2)
وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. . . وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَحْنُونٌ إِلَى
أَنَّ الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ
الأَْجَلَيْنِ: وَضْعُ الْحَمْل أَوْ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٍ، أَيُّهُمَا كَانَ أَخِيرًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (4) فَالآْيَةُ
الْكَرِيمَةُ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لأَِنَّهَا
__________
(1) سبل السلام 3 / 196، 197، ونيل الأوطار للشوكاني 7 / 85 وما بعده دار
الجيل بيروت البدائع 3 / 197.
(2) البدائع 3 / 197.
(3) البدائع 3 / 197 صحيح مسلم 10 / 109 - 110، سبل السلام 3 / 196 وما
بعده - نيل الأوطار 7 / 85 وما بعدها، تفسير القرطبي 3 / 174 - 175.
(4) سورة البقرة / 234.
(29/318)
عَامَّةٌ تَشْمَل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا حَامِلاً كَانَتْ أَوْ حَائِلاً وَخَاصَّةً فِي الْمُدَّةِ
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقَوْله تَعَالَى: {وَأُولاَتُ
الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) فِيهَا عُمُومٌ
وَخُصُوصٌ أَيْضًا، لأَِنَّهَا تَشْمَل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَغَيْرَهَا
وَخَاصَّةً فِي وَضْعِ الْحَمْل، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الآْيَتَيْنِ
وَالْعَمَل بِهِمَا أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ بِاتِّفَاقِ أَهْل
الأُْصُول؛ لأَِنَّهَا إِذَا اعْتَدَّتْ بِأَقْصَى الأَْجَلَيْنِ فَقَدْ
عَمِلَتْ بِمُقْتَضَى الآْيَتَيْنِ، وَإِنِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْل
فَقَدْ تَرَكَتِ الْعَمَل بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَإِعْمَال
النَّصَّيْنِ مَعًا خَيْرٌ مِنْ إِهْمَال أَحَدِهِمَا. (2)
الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ مَا
يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الإِْنْسَانِ وَلَوْ كَانَ مَيِّتًا
أَوْ مُضْغَةً تُصُوِّرَتْ، وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ
الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِل.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُضْغَةً لَمْ تُتَصَوَّرْ لَكِنْ شَهِدَتِ الثِّقَاتُ
مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهَا مَبْدَأُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَتْ
لَتُصُوِّرَتْ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْقَضِي بِهَا
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) تفسير القرطبي 3 / 175، صحيح مسلم 10 / 110، سبل السلام 3 / 196 نيل
الأوطار للشوكاني 7 / 85 وما بعدها، والبدائع للكساني 3 / 196 - 197.
(29/318)
الْعِدَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي
الْمَذْهَبِ وَرِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِحُصُول بَرَاءَةِ
الرَّحِمِ بِهِ.
خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ
لِلْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ بِالْوَضْعِ لأَِنَّ الْحَمْل اسْمٌ لِنُطْفَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ،
فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تُتَصَوَّرْ
فَلاَ يُعْرَفُ كَوْنُهَا مُتَغَيِّرَةً إِلاَّ بِاسْتِبَانَةِ بَعْضِ
الْخَلْقِ، أَمَّا إِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ
دَمًا أَوْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لاَ صُورَةَ فِيهَا فَلاَ تَنْقَضِي
الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَمْل دَمًا اجْتَمَعَ
تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَعَلاَمَةُ كَوْنِهِ حَمْلاً أَنَّهُ إِذَا
صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ لَمْ يَذُبْ. (2)
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
رِوَايَةٍ فِي الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ يَكُونَ
الْوَلَدُ مَنْسُوبًا لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا
احْتِمَالاً كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَإِذَا لاَعَنَ حَامِلاً
وَنَفَى الْحَمْل انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ لإِِمْكَانِ كَوْنِهِ
مِنْهُ، وَالْقَوْل قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ
الإِْمْكَانُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) البدائع 3 / 196، ابن عابدين 2 / 604، القليوبي وعميرة 4 / 43 / 44،
مغني المحتاج 3 / 388 - 389، روضة الطالبين 8 / 376، المغني لابن قدامة مع
الشرح الكبير 9 / 113 وما بعدها.
(2) الدسوقي 2 / 474.
(29/319)
مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَلاَ تَنْقَضِي
الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْل، كَمَا إِذَا مَاتَ صَبِيٌّ لاَ يُتَصَوَّرُ
مِنْهُ الإِْنْزَال أَوْ مَمْسُوحٌ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ، وَهَكَذَا كُل
مَنْ أَتَتْ زَوْجَتُهُ الْحَامِل بِوَلَدٍ لاَ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ.
(1)
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِل تَنْقَضِي
بِانْفِصَال جَمِيعِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَمْل وَاحِدًا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
(2) وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ.
24 - الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: فِيمَا لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ هَل
تَنْقَضِي الْعِدَّةُ أَمْ لاَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ،
وَلِذَلِكَ يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا وَلاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ إِلاَّ
بِانْفِصَالِهِ كُلِّهِ عَنْ أُمِّهِ (3) ، خِلاَفًا لاِبْنِ وَهْبٍ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِل إِنَّهَا تَحِل بِوَضْعِ ثُلُثَيِ الْحَمْل
بِنَاءً عَلَى تَبَعِيَّةِ الأَْقَل لِلأَْكْثَرِ. (4)
__________
(1) الدسوقي 2 / 474، روضة الطالبين 8 / 373 وما بعدها، مغني المحتاج 3 /
388، المغني مع الشرح الكبير 9 / 117.
(2) سورة الطلاق / 4.
(3) ابن عابدين 2 / 604، الدسوقي 2 / 474، الفواكه الدواني 2 / 92 جواهر
الإكليل 1 / 387، مغني المحتاج 3 / 388، روضة الطالبين 8 / 375، القليوبي 4
/ 42 - 44، حاشية الجمل 4 / 446، المغني مع الشرح الكبير 9 / 112.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 474.
(29/319)
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى
أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ
وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ وَلاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ
احْتِيَاطًا؛ لأَِنَّ الأَْكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُل فِي انْقِطَاعِ
الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا، وَلاَ يَقُومُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى
لاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ احْتِيَاطًا. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تَنْقَضِي بِخُرُوجِ
بَعْضِ الْوَلَدِ، وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ مُنْفَصِلاً أَوْ غَيْرَ
مُنْفَصِلٍ وَلَمْ يَخْرُجِ الْبَاقِي بَقِيَتِ الرَّجْعَةُ، وَلَوْ
طَلَّقَهَا وَقَعَ الطَّلاَقُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ
الآْخَرُ. (2)
25 - الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْحَمْل اثْنَيْنِ
فَأَكْثَرَ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْحَمْل إِذَا كَانَ
اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ إِلاَّ بِوَضْعِ الآْخَرِ؛
لأَِنَّ الْحَمْل اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الرَّحِمِ، وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ
شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْل، فَإِذَا عُلِمَ وُجُودُ
الْوَلَدِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمُوجِبِ
لِلْعِدَّةِ وَانْتَفَتِ الْبَرَاءَةُ الْمُوجِبَةُ لاِنْقِضَائِهَا،
وَلأَِنَّهَا لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 604، البدائع 3 / 196.
(2) روضة الطالبين 8 / 375.
(29/320)
الأَْوَّل لأَُبِيحَ لَهَا النِّكَاحُ
كَمَا لَوْ وَضَعَتِ الآْخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا وَشَكَّتْ
فِي وُجُودِ ثَانٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ
وَتَتَيَقَّنَ أَنَّهَا لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَمْلٌ لأَِنَّ الأَْصْل
بَقَاؤُهُ فَلاَ يَزُول بِالشَّكِّ (1) ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل فَلَوْ
وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا وَكَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ
قَبْل أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ أَوِ الآْخَرَ لِبَقَاءِ الْعِدَّةِ،
وَإِنَّمَا يَكُونَانِ تَوْأَمَيْنِ إِذَا وَضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ كَانَ
بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ
أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالثَّانِي حَمْلٌ آخَرُ.
(2) الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الأَْوَّل
وَلَكِنْ لاَ تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ الآْخَرَ، (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ
أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (4) وَلَمْ يَقُل أَحْمَالَهُنَّ فَإِذَا
وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا فَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا. (5)
وَعَلَى هَذَا الْقَوْل لاَ يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا بَعْدَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 604، فتح القدير 4 / 314، ط. مصطفى الحلبي بمصر،
والبدائع 3 / 198، حاشية الدسوقي 2 / 474، مغني المحتاج 3 / 388، حاشية
الجمل 4 / 446، المغني مع الشرح الكبير 9 / 112 - 113.
(2) روضة الطالبين 8 / 375، مغني المحتاج 3 / 388.
(3) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 22، البدائع 3 / 198.
(4) سورة الطلاق / 4.
(5) البدائع 3 / 198.
(29/320)
وَضْعِ الْوَلَدِ الأَْوَّل لِعَدَمِ
بَقَاءِ الْعِدَّةِ إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ إِلاَّ بَعْدَ
أَنْ تَضَعَ الأَْخِيرَ مِنَ التَّوَائِمِ، خِلاَفًا لِجُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ انْقِضَاءَ مُرَاجَعَةِ الْحَامِل يَتَوَقَّفُ عَلَى
وَضْعِ كُل الْحَمْل وَهَذَا هُوَ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. (1)
مَتَى يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْل الزَّوَاجُ: بِالْوَضْعِ
أَمْ بِالطُّهْرِ؟
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى
إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَتَزَوَّجُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْل حَتَّى وَإِنْ
كَانَتْ فِي دَمِهَا؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْل
كُلِّهِ فَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ إِلاَّ أَنَّ زَوْجَهَا لاَ يَقْرَبُهَا
حَتَّى تَطْهُرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} .
(2) الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ
وَحَمَّادٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُنْكَحُ النُّفَسَاءُ مَا دَامَتْ فِي دَمِ
نِفَاسِهَا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ
نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ (3) وَمَعْنَى تَعَلَّتْ يَعْنِي
طَهُرَتْ (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 8 / 478 - 479.
(2) سورة البقرة / 222.
(3) حديث: " فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ". أخرجه النسائي (6 / 195)
من حديث سبيعة الأسلمية. وأصله في البخاري (فتح الباري 9 / 469) ومسلم (2 /
1123) .
(4) المراجع السابقة، والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 110، الجامع
لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 175.
(29/321)
ارْتِيَابُ الْمُعْتَدَّةِ فِي وُجُودِ
حَمْلٍ:
27 - مَعْنَاهُ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ أَمَارَاتِ الْحَمْل وَهِيَ فِي
عِدَّةِ الأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ نَفْخَةٍ
وَنَحْوِهِمَا وَشَكَّتْ هَل هُوَ حَمْلٌ أَمْ لاَ. (1)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: قَال الْمَالِكِيَّةُ إِنِ ارْتَابَتِ الْمُعْتَدَّةُ
أَيْ شَكَّتْ وَتَحَيَّرَتْ بِالْحَمْل إِلَى أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْل هَل
تَتَرَبَّصُ خَمْسًا مِنَ السِّنِينَ أَوْ أَرْبَعًا؟ فِيهِ خِلاَفٌ: إِنْ
مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ تَزِدِ الرِّيبَةُ حَلَّتْ لِلأَْزْوَاجِ
لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَمَّا إِنْ مَضَتْ وَزَادَتِ الرِّيبَةُ
لِكِبَرِ بَطْنِهَا مَكَثَتْ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا
مَضَتِ الْخَمْسَةُ أَوِ الأَْرْبَعَةُ حَلَّتْ وَلَوْ بَقِيَتِ
الرِّيبَةُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتِ الْمُرْتَابَةُ بِالْحَمْل قَبْل تَمَامِ
الْخَمْسِ سِنِينَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَوَلَدَتْ لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ
مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي لَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا،
وَيُفْسَخُ نِكَاحُ الثَّانِي لأَِنَّهُ نَكَحَ حَامِلاً، أَمَّا عَدَمُ
لُحُوقِهِ بِالأَْوَّل فَلِزِيَادَتِهِ عَلَى الْخَمْسِ سِنِينَ بِشَهْرٍ،
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوِلاَدَتِهِ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. (2)
الْقَوْل الثَّانِي: - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ ارْتَابَتْ فِي
الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لاَ بِثِقَلٍ
__________
(1) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 104، مغني المحتاج 3 / 389.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 474، الفواكه الدواني 2 / 94، جواهر الإكليل 1 /
387.
(29/321)
وَحَرَكَةٍ تَجِدُهُمَا لَمْ تَنْكِحْ
آخَرَ حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ بِمُرُورِ زَمَنٍ تَزْعُمُ النِّسَاءُ
أَنَّهَا لاَ تَلِدُ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ قَدْ لَزِمَتْهَا بِيَقِينٍ
فَلاَ تَخْرُجُ عَنْهَا إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَإِنْ نَكَحَتْ فَالنِّكَاحُ
بَاطِلٌ لِلتَّرَدُّدِ فِي انْقِضَائِهَا وَالاِحْتِيَاطِ فِي
الأَْبْضَاعِ، وَلأَِنَّ الشَّكَّ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُبْطِل
الْعَقْدَ، فَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَنِكَاحِ الآْخَرِ
اسْتَمَرَّ نِكَاحُهَا إِلَى أَنْ تَلِدَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ
وَقْتِ عَقْدِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِبُطْلاَنِ عَقْدِ النِّكَاحِ
لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا حَامِلاً يَوْمَ الْعَقْدِ وَالْوَلَدُ لِلأَْوَّل
إِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ
أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ
الْعِدَّةِ قَبْل نِكَاحٍ بِآخَرَ تَصْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ لِتَزُول
الرِّيبَةُ لِلاِحْتِيَاطِ لِخَبَرِ: (1) دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ
يَرِيبُكَ. (2)
الْقَوْل الثَّالِثُ: قَال الْحَنَابِلَةُ إِنَّ الْمُرْتَابَةَ فِي
الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لاَ لَهَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا
فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي حُكْمِ الاِعْتِدَادِ حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ،
فَإِنْ بَانَ حَمْلٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، وَإِنْ بَانَ
أَنَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ تَبَيَّنَّا أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ
بِالْقُرُوءِ، أَوْ بِالشُّهُورِ، فَإِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 389
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". أخرجه الترمذي (4 / 668)
والنسائي (8 / 328) من حديث الحسن بن علي. وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(29/322)
زُوِّجَتْ قَبْل زَوَال الرِّيبَةِ
فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي حُكْمِ
الْمُعْتَدَّاتِ فِي الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَل إِذَا تَبَيَّنَ عَدَمُ
الْحَمْل أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِبَيَانِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ
بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
الثَّانِي: إِنْ ظَهَرَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا
وَالتَّزَوُّجِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لأَِنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ قَضَاءِ
عِدَّتِهَا فِي الظَّاهِرِ وَالْحَمْل مَعَ الرِّيبَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ
وَلاَ يَزُول بِهِ مَا حُكِمَ بِصِحَّتِهِ لَكِنْ لاَ يَحِل لِزَوْجِهَا
وَطْؤُهَا لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَحِل لِمَنْ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ
غَيْرِهِ، ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَوَطِئَهَا فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ
لأَِنَّهُ نَكَحَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَالْوَلَدُ لاَحِقٌ بِهِ وَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْل
النِّكَاحِ فَلاَ يَحِل لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ
فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يَحِل لَهَا النِّكَاحُ
وَيَصِحُّ. (1)
تَحَوُّل الْعِدَّةِ أَوِ انْتِقَالُهَا:
أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ ثَلاَثَةٌ: عِدَّةٌ بِالأَْقْرَاءِ أَوْ
__________
(1) (1) المغني لابن قدامة 9 / 104 - 105. هذا ما كان معروفا في عصرهم بناء
على الريبة لعدم وجود اليقين وأما اليوم فيمكن أن يتوصل إلى اليقين بوجود
الحمل أو عدمه بالوسائل العلمية المتقدمة.
(29/322)
بِالأَْشْهُرِ أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْل،
وَقَدْ تَنْتَقِل مِنْ حَالَةٍ إِلَى أُخْرَى كَمَا يَلِي:
الْحَالَةُ الأُْولَى:
انْتِقَال الْعِدَّةِ أَوْ تَحَوُّلُهَا مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى
الأَْقْرَاءِ، كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الآْيِسَةُ.
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْبَالِغَةَ
الَّتِي لَمْ تَحِضْ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالأَْشْهُرِ فَحَاضَتْ قَبْل
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بِسَاعَةٍ لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ
الْعِدَّةِ، فَتَنْتَقِل عِدَّتُهَا مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ،
لأَِنَّ الأَْشْهُرَ بَدَلٌ عَنِ الأَْقْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ الْمُبْدَل
بَطَل حُكْمُ الْبَدَل كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ. (1)
أَمَّا إِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالأَْشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَهَا
وَلَوْ بِلَحْظَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ لأَِنَّهُ
مَعْنًى حَدَثَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَاَلَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ
انْقِضَائِهَا بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلاَ يُمْكِنُ مَنْعُ هَذَا الأَْصْل؛
لأَِنَّهُ لَوْ صَحَّ مَنْعُهُ لَمْ يَحْصُل لِمَنْ لَمْ تَحِضْ
الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ بِحَالٍ. (2)
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 200، والمغني لابن قدامة 9 / 102.
(2) البدائع 3 / 200. ط. دار الكتاب العربي، ابن عابدين 2 / 606، حاشية
الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 473، الفواكه الدواني 2 / 92 ط. دار المعرفة
بيروت - القوانين الفقهية 299، روضة الطالبين 8 / 370، مغني المحتاج 3 /
386، المغني لابن قدامة 9 / 102 - وما بعدها - دار الكتاب العربي.
(29/323)
وَالآْيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ
الأَْشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّل عِدَّتُهَا إِلَى
الأَْقْرَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لأَِنَّهَا لَمَّا رَأَتِ الدَّمَ دَل عَلَى أَنَّهَا لَمْ
تَكُنْ آيِسَةً وَأَنَّهَا أَخْطَأَتْ فِي الظَّنِّ فَلاَ يُعْتَدُّ
بِالأَْشْهُرِ فِي حَقِّهَا لأَِنَّهَا بَدَلٌ فَلاَ يُعْتَبَرُ مَعَ
وُجُودِ الأَْصْل، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي
وَقَّتُوا لِلإِْيَاسِ فِيهَا وَقْتًا - إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَتْ
ذَلِكَ الْوَقْتَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ الدَّمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
الدَّمُ حَيْضًا كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لاَ
يَحِيضُ مِثْلُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ حَتَّى
يَبْطُل بِهِ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ.
وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْجَصَّاصِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ ذَلِكَ فِي
الَّتِي ظَنَّتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ، فَأَمَّا الآْيِسَةُ فَمَا تَرَى مِنَ
الدَّمِ لاَ يَكُونُ حَيْضًا، أَلاَ تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ مِنْهَا
كَانَ مُعْجِزَةَ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ؟ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ
الْمُعْجِزَةِ، كَذَا عَلَّل الْجَصَّاصُ (1) خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ
الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الآْيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ
الْخَمْسِينَ وَقَبْل السَّبْعِينَ، وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بَعْدَ
الْخَمْسِينَ وَقَبْل السِّتِّينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا
فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ لِمَعْرِفَةِ هَل هُوَ حَيْضٌ أَمْ
__________
(1) البدائع 3 / 200، ابن عابدين 2 / 606، روضة الطالبين 8 / 372، مغني
المحتاج 3 / 386.
(29/323)
لاَ؟ (1) إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ
صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ
عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا فَهُوَ حَيْضٌ فِي
الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّ دَلِيل الْحَيْضِ الْوُجُودُ فِي زَمَنِ الإِْمْكَانِ،
وَهَذَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، وَإِنْ
رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ لاَ تَعْتَدُّ بِهِ، وَتَعْتَدُّ بِالأَْشْهُرِ،
كَاَلَّتِي لاَ تَرَى دَمًا. (2)
(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس ف 6) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الآْيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ
تَمَامِ الأَْشْهُرِ فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: - لاَ يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ إِلَى الأَْقْرَاءِ، بَل انْقَضَتْ
عِدَّتُهَا، كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ الأَْشْهُرِ، وَهَذَا
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
الثَّانِي: - يَلْزَمُهَا، لأَِنَّهُ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً
بِخِلاَفِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ لاَ تَخْرُجُ عَنْ
كَوْنِهَا وَقْتَ الاِعْتِدَادِ مِنَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ.
الثَّالِثُ: - وَهُوَ الأَْظْهَرُ إِنْ كَانَ نَكَحَتْ بَعْدَ الأَْشْهُرِ
فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهَا
الأَْقْرَاءُ (3) .
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 204، مواهب الجليل 4 / 144 - 146، الدسوقي 2 / 420
المغني لابن قدامة والشرح الكبير 9 / 92، 108.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 93.
(3) روضة الطالبين 8 / 373، المغني لابن قدامة 9 / 103.
(29/324)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: - انْتِقَال
الْعِدَّةِ مِنَ الأَْقْرَاءِ إِلَى الأَْشْهُرِ:
29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْتَقِل مِنَ
الأَْقْرَاءِ إِلَى الأَْشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ
حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ فَتَسْتَقْبِل الْعِدَّةَ
بِالأَْشْهُرِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ
أَشْهُرٍ} . (1)
وَالأَْشْهُرُ بَدَلٌ عَنِ الْحَيْضِ فَلَوْ لَمْ تَسْتَقْبِل وَثَبَتَتْ
عَلَى الأَْوَّل لَصَارَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَصْلاً وَبَدَلاً وَهَذَا
لاَ يَجُوزُ، كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ لاَ تُلَفَّقُ مِنْ جِنْسَيْنِ وَقَدْ
تَعَذَّرَ إِتْمَامُهَا بِالْحَيْضِ فَوَجَبَتْ بِالأَْشْهُرِ (2) .
وَإِيَاسُ الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا لاَ يَحِيضُ فِيهِ
مِثْلُهَا عَادَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ مَعَ انْقِطَاعِ
الدَّمِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا آيِسَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ حَتَّى
يَتَّضِحَ لَنَا خِلاَفُهُ. وَسِنُّ الْيَأْسِ اخْتَلَفَ فِيهِ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ. (3)
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ قَبْل سِنِّ الْيَأْسِ فَقَدِ
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) فتح القدير 4 / 146، 147، وبدائع الصنائع 3 / 200، حاشية الدسوقي، روضة
الطالبين 8 / 371، المغني لابن قدامة 9 / 103.
(3) مغني المحتاج 3 / 388، روضة الطالبين 8 / 372، فتح القدير 4 / 145،
مواهب الجليل 4 / 144، 146، الدسوقي 2 / 420، المغني لابن قدامة 9 / 92.
(29/324)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ،
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: تَحَوُّل الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ
إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل
زَوْجَتَهُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ،
سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلاَقِ، وَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ
الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ
وَيَسْرِي عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
(1) وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ
مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّجْعِيَّةَ
زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلاَقُهُ وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَاعْتَدَّتْ
لِلْوَفَاةِ كَغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ
طَلاَقًا بَائِنًا فِي حَال صِحَّتِهِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهَا،
ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِل عِدَّةَ
الطَّلاَقِ وَلاَ تَنْتَقِل إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لاِنْقِطَاعِ
الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ بِالإِْبَانَةِ، فَلاَ
تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبِهِ،
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 108.
(29/325)
فَتَعَذَّرَ إِيجَابُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ
فَبَقِيَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ عَلَى حَالِهَا.
وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ طَلاَقًا بَائِنًا فِي مَرَضِ
مَوْتِهِ دُونَ طَلَبٍ مِنْهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ - مِنْ
عِدَّةِ الطَّلاَقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ - احْتِيَاطًا، لِشُبْهَةِ
قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ لأَِنَّهَا تَرِثُهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا بِأَنَّهَا
حَاضَتْ قَبْل الْمَوْتِ حَيْضَتَيْنِ، وَلَمْ تَحِضِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ
الْمَوْتِ حَتَّى انْتَهَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِل
عِدَّةَ الطَّلاَقِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ حَاضَتِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ
الْوَفَاةِ وَقَبْل انْتِهَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا تُكْمِل
هَذِهِ الْعِدَّةَ.
وَيَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا
بَقِيَ فِي حَقِّ الإِْرْثِ خَاصَّةً لِتُهْمَةِ الْفِرَارِ فَلأََنْ
يَبْقَى فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لأَِنَّ الْعِدَّةَ
يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ
كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا
الاِعْتِدَادُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلاَثُ حِيَضٍ (1) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو
يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَبْنِي عَلَى
عِدَّةِ الطَّلاَقِ لاِنْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُل وَجْهٍ
لأَِنَّهَا بَائِنٌ مِنَ النِّكَاحِ فَلاَ تَكُونُ
__________
(1) البدائع 3 / 200 - 201، المبسوط 6 / 39.
(29/325)
مَنْكُوحَةً، وَلأَِنَّ الإِْرْثَ الَّذِي
ثَبَتَ مُعَامَلَةً بِنَقِيضِ الْقَصْدِ لاَ يَقْتَضِي بَقَاءَ زَوْجِيَّةٍ
مُوجِبَةٍ لِلأَْسَفِ وَالْحُزْنِ وَالْحِدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى (1) .
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: تَحَوُّل الْعِدَّةِ مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ
الأَْشْهُرِ إِلَى وَضْعِ الْحَمْل.
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ
ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ أَوْ
بَعْدَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَامِلٌ مِنَ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ
تَتَحَوَّل إِلَى وَضْعِ الْحَمْل، وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ
الْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ
لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، لأَِنَّ الْحَامِل لاَ تَحِيضُ وَلأَِنَّ وَضْعَ
الْحَمْل أَقْوَى دَلاَلَةً عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ آثَارِ
الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي انْقَضَتْ (2) ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولاَتُ
الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (3) } .
ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ وَانْقِضَاؤُهَا:
32 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ فِي
__________
(1) فتح القدير 4 / 142، 143، ط. دار التراث العربي، وابن عابدين 2 / 605
البدائع 3 / 200، القوانين الفقهية 242، الدسوقي 3 / 475، الحطاب 4 / 150 -
152، روضة الطالبين 8 / 399، المغني لابن قدامة 9 / 108، مغني المحتاج 3 /
396.
(2) البدائع 3 / 201، الدسوقي 2 / 474، نهاية المحتاج 7 / 129، روضة
الطالبين 8 / 377، مغني المحتاج 3 / 389، المغني لابن قدامة 9 / 103.
(3) الآية / 4 الطلاق.
(29/326)
الطَّلاَقِ عَقِيبَ الطَّلاَقِ، وَفِي
الْوَفَاةِ عَقِيبَ الْوَفَاةِ، لأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ
الطَّلاَقُ أَوِ الْوَفَاةُ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ
وُجُودِ السَّبَبِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلاَقِ أَوِ الْوَفَاةِ
حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، لَكِنْ
قَال فِي الْهِدَايَةِ: وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلاَقِ أَنَّ
ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ
الْمُوَاضَعَةِ، قَال الْبَابَرْتِيُّ: لِجَوَازِ أَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى
الطَّلاَقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَصِحَّ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لَهَا
بِالدَّيْنِ وَوَصِيَّتِهِ لَهَا بِشَيْءٍ، وَيَتَوَاضَعَا عَلَى
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا
(1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ
الْعِلْمِ بِالطَّلاَقِ، فَلَوْ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ بِطَلاَقٍ
مُتَقَدِّمٍ، وَقَدْ مَضَى مِقْدَارُ الْعِدَّةِ قَبْل إِقْرَارِهِ،
اسْتَأْنَفَتْ عِدَّتَهَا مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ، وَتَرِثُهُ لأَِنَّهَا
فِي عِدَّتِهَا، وَلاَ يَرِثُهَا لاِنْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِإِقْرَارِهِ،
إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ فَتَعْتَدُّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي
ذَكَرَتْهُ الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، أَمَّا
الْبَائِنُ فَلاَ يَتَوَارَثَانِ، أَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَتَبْدَأُ
مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَبْدَأُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ
الْمَوْتِ، وَتَبْدَأُ عِدَّةُ الأَْقْرَاءِ مِنْ حِينِ الطَّلاَقِ،
__________
(1) الهداية 4 / 154.
(2) الخرشي 4 / 146.
(29/326)
لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقْتُ
الْوُجُوبِ، وَلَوْ بَلَغَتْهَا وَفَاةُ زَوْجِهَا أَوْ طَلاَقُهَا بَعْدَ
مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَانَتْ مُنْقَضِيَةً، فَلاَ يَلْزَمُهَا شَيْءٌ
مِنْهَا، لأَِنَّ الصَّغِيرَةَ تَعْتَدُّ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهَا. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا
وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ أَوِ
الطَّلاَقِ لاَ مِنْ يَوْمِ الْعِلْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ
فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَعِدَّتُهَا
مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ (2) .
33 - وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِهَا فَإِنْ
كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَامِلاً فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْتَهِي بِوَضْعِ
الْحَمْل كُلِّهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ فَإِنَّهَا
تَنْتَهِي بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالأَْشْهُرِ
فَإِنَّهَا تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ أَوِ الْوَفَاةِ حَتَّى
تَنْتَهِيَ بِمُضِيِّ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٍ.
وَبَيَّنَ الْكَاسَانِيُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ فَقَال:
انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ نَوْعَانِ: الأَْوَّل بِالْقَوْل، وَالثَّانِي
بِالْفِعْل.
أَمَّا الْقَوْل فَهُوَ: إِخْبَارُ الْمُعْتَدَّةِ بِانْقِضَاءِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 397 - 401 ونهاية المحتاج 7 / 139 - 143.
(2) المغني 9 / 188 - 191.
(29/327)
الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ يُحْتَمَل
الاِنْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ
الأَْشْهُرِ فَإِنَّهَا لاَ تُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ
فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي عِدَّةِ
الْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ
وَمُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ، فَإِنَّهَا لاَ تُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلاَقٍ فَإِنْ
أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا
الْعِدَّةُ يُقْبَل قَوْلُهَا، وَإِنْ أَخْبَرَتْ فِي مُدَّةٍ لاَ
تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لاَ يُقْبَل قَوْلُهَا؛ لأَِنَّ قَوْل
الأَْمِينِ إِنَّمَا يُقْبَل فِيمَا لاَ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ،
وَالظَّاهِرُ هُنَا يُكَذِّبُهَا، فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهَا إِلاَّ إِذَا
فَسَّرَتْ مَعَ يَمِينِهَا، فَيُقْبَل قَوْلُهَا مَعَ هَذَا التَّفْسِيرِ؛
لأَِنَّ الظَّاهِرَ لاَ يُكَذِّبُهَا مَعَ التَّفْسِيرِ، وَأَقَل مَا
تُصَدَّقُ فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ بِالأَْقْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
سِتُّونَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تِسْعَةٌ
وَثَلاَثُونَ يَوْمًا.
وَأَمَّا الْفِعْل: فَيَتَمَثَّل فِي أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ
بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ، حَتَّى لَوْ
قَالَتْ: لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي لَمْ تُصَدَّقْ، لاَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ
الأَْوَّل وَلاَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَنِكَاحُ الزَّوْجِ
الثَّانِي جَائِزٌ؛ لأَِنَّ إِقْدَامَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَ
مُضِيِّ مُدَّةٍ يُحْتَمَل الاِنْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا دَلِيلٌ عَلَى
الاِنْقِضَاءِ (1) .
__________
(1) البدائع 3 / 198 - 200، فتح القدير 4 / 312، 331.
(29/327)
عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
34 - الاِسْتِحَاضَةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ: سَيَلاَنُ الدَّمِ فِي غَيْرِ
أَوْقَاتِهِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ مَرَضٍ وَفَسَادٍ مِنْ عِرْقٍ فِي أَدْنَى
الرَّحِمِ يُسَمَّى الْعَاذِل (1) .
فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ ذَوَاتِ
الْحَيْضِ، وَاسْتَمَرَّ نُزُول الدَّمِ عَلَيْهَا بِدُونِ انْقِطَاعٍ
فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالْحَال لاَ يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ:
35 - الأَْمْرُ الأَْوَّل: إِنِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ
الْحَيْضِ وَالاِسْتِحَاضَةِ بِرَائِحَةٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ كَثْرَةٍ أَوْ
قِلَّةٍ أَوْ عَادَةٍ - وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا غَيْرَ الْمُتَحَيِّرَةِ -
فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ (2) لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي
ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} وَلأَِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَيَّامِ
عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ لَهَا (3) وَلأَِنَّ الدَّمَ الْمُمَيَّزَ
بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ يُعَدُّ حَيْضًا، فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ لاَ
بِالأَْشْهُرِ (4) .
__________
(1) رسائل ابن عابدين 1 / 74، القوانين الفقهية ص 56، الفواكه الدواني 2 /
92، مغني المحتاج 1 / 108، كشاف القناع 1 / 196.
(2) البدائع 3 / 193، فتح القدير 4 / 312، 335، الدسوقي 2 / 470، الفواكه
الدواني 2 / 92، جواهر الإكليل 1 / 385، مغني المحتاج 3 / 385، 386، روضة
الطالبين 8 / 369، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 101.
(3) فتح القدير 4 / 335، روضة الطالبين 8 / 369.
(4) الفواكه الدواني 2 / 92.
(29/328)
36 - الأَْمْرُ الثَّانِي الْمُسْتَحَاضَةُ
الْمُتَحَيِّرَةُ الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ
وَنَسِيَتْ قَدْرَ عَادَتِهَا، أَوْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا
نَقَاءً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَمْ غَيْرَهَا، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّتِهَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ
وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ
الْمُسْتَحَاضَةِ هُنَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الْغَالِبَ نُزُول الْحَيْضِ مَرَّةً فِي كُل شَهْرٍ، أَوْ لاِشْتِمَال كُل
شَهْرٍ عَلَى طُهْرٍ وَحَيْضٍ غَالِبًا، وَلِعِظَمِ مَشَقَّةِ
الاِنْتِظَارِ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ، وَلأَِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
مُرْتَابَةٌ، فَدَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} (1) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ تَلَجَّمِي
وَتَحَيَّضِي فِي كُل شَهْرٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ
سَبْعَةَ أَيَّامٍ (2) فَجَعَل لَهَا حَيْضَةً فِي كُل شَهْرٍ تَتْرُكُ
فِيهَا الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ، وَيَثْبُتُ فِيهَا سَائِرُ أَحْكَامِ
الْحَيْضِ، فَيَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ
أَحْكَامِ الْحَيْضِ.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) حديث حمنة بنت جحش. أخرجه الترمذي (1 / 223) وابن ماجه (1 / 205)
واللفظ لابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(29/328)
قَوْلٍ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ
الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ؛ لأَِنَّهَا
بِمَنْزِلَةِ مَنْ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا وَلاَ تَدْرِي مَا رَفَعَهَا،
وَلأَِنَّهَا لَمْ تَتَيَقَّنْ لَهَا حَيْضًا مَعَ أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ
الْقُرُوءِ، فَكَانَتْ عِدَّتُهَا سَنَةً، كَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
اسْتِبْرَاءً لِزَوَال الرِّيبَةِ؛ لأَِنَّهَا مُدَّةُ الْحَمْل غَالِبًا،
ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ بَعْدَ
السَّنَةِ، وَقِيل: بِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا عِدَّةٌ، وَالصَّوَابُ
أَنَّ الْخِلاَفَ لَفْظِيٌّ عِنْدَهُمْ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّ
الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَحَيِّرَةَ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ
سِنِّ الْيَأْسِ، أَوْ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ لِلاِحْتِيَاطِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَال
طُهْرُهَا، أَوْ لأَِنَّهَا قَبْل الْيَأْسِ مُتَوَقِّعَةٌ لِلْحَيْضِ
الْمُسْتَقِيمِ (1) .
عِدَّةُ الْمُرْتَابَةِ أَوْ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ:
37 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَابَةَ أَوِ الْمُمْتَدَّ
طُهْرُهَا هِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ
حَيْضُهَا دُونَ حَمْلٍ وَلاَ يَأْسٍ، فَإِذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا،
وَانْقَطَعَ دَمُ حَيْضِهَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ،
__________
(1) فتح القدير 4 / 312، 335، الدسوقي 2 / 470، جواهر الإكليل 1 / 385،
الفواكه الدواني 2 / 92، مغني المحتاج 3 / 385، روضة الطالبين 8 / 369،
المغني لابن قدامة 9 / 102.
(29/329)
كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى
بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ وُجُوبًا، حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ
بِالأَْقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ فَتَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ
أَشْهُرٍ كَالآْيِسَةِ، وَلاَ تُبَالِي بِطُول مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ،
لأَِنَّ الاِعْتِدَادَ بِالأَْشْهُرِ جُعِل بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ،
فَلَمْ يَجُزْ الاِعْتِدَادُ بِالأَْشْهُرِ قَبْلَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ
عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
حَكَمَ بِذَلِكَ فِي الْمُرْضِعِ.
وَأَمَّا إِذَا حَاضَتْ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا دُونَ عِلَّةٍ تُعْرَفُ،
فَقَدْ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ
فِي الْقَدِيمِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ
الْمُرْتَابَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَتَرَبَّصُ غَالِبَ مُدَّةِ
الْحَمْل: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، لِتَتْبِينِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلِزَوَال
الرِّيبَةِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْحَمْل لاَ يَمْكُثُ فِي الْبَطْنِ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ
سَنَةٌ تَنْقَضِي بِهَا عِدَّتُهَا وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال
فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ
فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ يُدْرَى مَا رَفَعَهُ: تَجْلِسُ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ بِهَا حَمْلٌ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ
أَشْهُرٍ، فَذَلِكَ سَنَةٌ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ.
(29/329)
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَضَى بِهِ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ، وَلَمْ
يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، وَقَال الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
يُسْأَل عَنِ الرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَتَحِيضُ حَيْضَةً ثُمَّ
يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا قَال: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: إِذَا رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا فَلَمْ تَدْرِ مِمَّا ارْتَفَعَتْ،
فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ سَنَةً؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ لاَ تُبْنَى عَلَى
عِدَّةٍ أُخْرَى (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: بِأَنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى
تَحِيضَ فَتَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ أَوْ تَيْأَسُ فَتَعْتَدُّ
بِالأَْشْهُرِ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعِلَّةٍ؛ لأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَجْعَل الاِعْتِدَادَ بِالأَْشْهُرِ إِلاَّ لِلَّتِي لَمْ
تَحِضْ وَالآْيِسَةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهَا
تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ، فَأَشْبَهَتْ مَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا لِعَارِضٍ
مَعْرُوفٍ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْمُرْتَابَةَ
تَتَرَبَّصُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْل: أَرْبَعَ سِنِينَ لِتَعْلَمَ
بَرَاءَةَ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَقِيل فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا:
تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل، فَحَاصِل
الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ مُدَّةَ الْحَمْل
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 195، ابن عابدين 2 / 606، حاشية الدسوقي 2 / 470،
القوانين الفقهية 241، جواهر الإكليل ج1 / 385، الفواكه الدواني 2 / 92،
مغني المحتاج 3 / 387، روضة الطالين 8 / 371، المغني لابن قدامة 9 / 100.
(29/330)
غَالِبَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ،
ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ فِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ حَمْلٍ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَفْقًا لِلْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ -
وَهُوَ التَّرَبُّصُ لِسِنِّ الْيَأْسِ -: لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ الْيَأْسِ
فِي الأَْشْهُرِ الثَّلاَثَةِ وَجَبَتِ الأَْقْرَاءُ، لِلْقُدْرَةِ عَلَى
الأَْصْل قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَل، وَيُحْسَبُ مَا مَضَى قُرْءًا
قَطْعًا؛ لأَِنَّهُ طُهْرٌ مُحْتَوَشٌ بِدَمَيْنِ، أَوْ بَعْدَ تَمَامِ
الأَْشْهُرِ فَأَقْوَالٌ أَظْهَرُهَا: إِنْ نَكَحَتْ بَعْدَ الأَْشْهُرِ
فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَالأَْقْرَاءُ
وَاجِبَةٌ فِي عِدَّتِهَا، لأَِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً،
وَقِيل: تَنْتَقِل إِلَى الأَْقْرَاءِ مُطْلَقًا تَزَوَّجَتْ أَمْ لاَ،
وَقِيل: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، لاِنْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا، قِيَاسًا
عَلَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ الأَْشْهُرِ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَأْسِ يَأْسُ عَشِيرَتِهَا، وَفِي قَوْلٍ: يَأْسُ
كُل النِّسَاءِ لِلاِحْتِيَاطِ وَطَلَبًا لِلْيَقِينِ (1) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ:
38 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، كَعِدَّةِ
زَوْجَةِ الْكَبِيرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ مَاتَ عَنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 387، 388، وروضة الطالبين 8 / 371 - 373.
(29/330)
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي
قَوْلٍ وَأَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي مَاتَ عَنِ
امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ - وَلاَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ - عِدَّةُ
زَوْجَتِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ؛ لأَِنَّ هَذَا الْحَمْل لَيْسَ
مِنْهُ بِيَقِينٍ، بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِلَيْهِ، فَلاَ
تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، كَالْحَمْل مِنَ الزِّنَا أَوِ الْحَادِثِ
بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ
الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى صَاحِبِ الْعِدَّةِ وَلَوِ احْتِمَالاً (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا
فَلاَ تَنْقَضِي عِدَّةُ زَوْجَتِهِ بِوَضْعِ حَمْلِهَا، لاَ مِنْ مَوْتٍ
وَلاَ طَلاَقٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الطَّلاَقِ،
وَيُعَدُّ نِفَاسُهَا حَيْضَةً، وَعَلَيْهَا فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى
الأَْجَلَيْنِ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْوَضْعِ أَوْ تَمَامُ
الأَْرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الْعِدَّةُ بِدُخُول زَوْجِهَا الصَّبِيِّ
الْمُرَاهِقِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الإِْعْلاَقُ، وَكَذَلِكَ
بِخَلْوَتِهِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ
مِنْهُ الْوَطْءُ لِصِغَرِهِ، أَوْ لَمْ تَحْصُل خَلْوَةٌ فَلاَ تَجِبُ
عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي الطَّلاَقِ.
__________
(1) البدائع 3 / 197، فتح القدير 4 / 323، ابن عابدين 2 / 604، المبسوط 6 /
52، الدسوقي 2 / 474 / 468، جواهر الإكليل 1 / 385، مغني المحتاج 3 / 388،
روضة الطالبين 8 / 374، المغني لابن قدامة 9 / 119 - 120.
(2) الفواكه الدواني 2 / 91 - 92.
(29/331)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
وَطْءَ الصَّبِيِّ - وَإِنْ كَانَ فِي سِنٍّ لاَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ -
يُوجِبُ عِدَّةَ الطَّلاَقِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَلأَِنَّ الْوَطْءَ
شَاغِلٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلأَِنَّ الإِْنْزَال الَّذِي يَحْصُل بِهِ
الْعُلُوقُ لَمَّا كَانَ خَفِيًّا يَخْتَلِفُ بِالأَْشْخَاصِ
وَالأَْحْوَال، وَلِعُسْرِ تَتَبُّعِهِ أَعْرَضَ الشَّارِعُ عَنْهُ،
وَاكْتَفَى بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الْوَطْءُ أَوِ اسْتِدْخَال الْمَنِيِّ
كَمَا اكْتَفَى فِي التَّرَخُّصِ بِالسَّفَرِ، وَأَعْرَضَ عَنِ
الْمَشَقَّةِ. وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ
مِنْ وَطْءِ الصَّبِيِّ تَهَيُّؤُهُ لِلْوَطْءِ وَأَفْتَى بِهِ
الْغَزَالِيُّ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ فِي
رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي مَاتَ وَهِيَ
حَامِلٌ تَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْل لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاَتُ
الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) ، وَلأَِنَّ
وُجُوبَ الْعِدَّةِ لِلْعِلْمِ بِحُصُول فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَالْوِلاَدَةُ
دَلِيل فَرَاغِ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَالشَّهْرُ لاَ يَدُل عَلَى
الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ، فَكَانَ إِيجَابُ مَا دَل عَلَى الْفَرَاغِ
بِيَقِينٍ أَوْلَى، إِلاَّ إِذَا ظَهَرَ الْحَمْل بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ
تَعْتَدَّ بِهِ، بَل تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 384، روضة الطالبين 8 / 365 - 366، شرح المنهاج
بحاشيتي القليوبي وعميره 4 / 39.
(2) سورة الطلاق / 4.
(29/331)
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
(1) وَلأَِنَّ الْحَمْل إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ
وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بِالأَْشْهُرِ، فَلاَ تَتَغَيَّرُ بِالْحَمْل
الْحَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ عِدَّةُ
الْحَبَل، فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْل، وَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُ
الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ لاَ يَحْصُل
عَادَةً إِلاَّ مِنَ الْمَاءِ، وَالصَّبِيُّ لاَ مَاءَ لَهُ حَقِيقَةً،
وَيَسْتَحِيل وُجُودُهُ عَادَةً فَيَسْتَحِيل تَقْدِيرُهُ (2) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَمْسُوحِ:
39 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْمَجْبُوبِ كَزَوْجَةِ
الصَّبِيِّ، لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ طَلاَقِهِ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْل
الدُّخُول، وَقِيل: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إِنْ كَانَ يُعَالَجُ وَيُنْزِل،
وَعَلَى الأَْوَّل خَلِيلٌ، وَعَلَى الثَّانِي عِيَاضٌ، وَلَوْ طَلُقَتْ
زَوْجَتُهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَلاَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا
بِوَضْعِ الْحَمْل، لاَ مِنْ مَوْتٍ وَلاَ طَلاَقٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ
ثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الطَّلاَقِ، وَيُعَدُّ نِفَاسُهَا حَيْضَةً،
وَعَلَيْهَا فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى الأَْجَلَيْنِ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ
مِنَ الْوَضْعِ أَوْ تَمَامُ الأَْرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) البدائع 3 / 197 - 198، المغني لابن قدامة 9 / 119 - 120.
(3) الفواكه الدواني 2 / 91 - 92، الدسوقي 2 / 468 - 473.
(29/332)
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ
الزَّوْجَ إِذَا كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ وَالْخُصْيَتَيْنِ فَلاَ
تَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الْخُصْيَتَيْنِ
قَائِمُ الذَّكَرِ فَعَلَى امْرَأَتِهِ الْعِدَّةُ؛ لأَِنَّهُ يَطَأُ
بِذَكَرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ قَائِمَ الْخُصْيَتَيْنِ:
فَهَذَا إِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِلاَّ
فَلاَ، وَقِيل: يُرْجَعُ فِي الْمَقْطُوعِ ذَكَرُهُ أَوْ أُنْثَيَاهُ إِلَى
أَهْل الْمَعْرِفَةِ كَالأَْطِبَّاءِ أَوِ النِّسَاءِ (1) .
وَالْمَمْسُوحُ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُولَدُ
لِمِثْلِهِ، فَلاَ عِدَّةَ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي الْمُعْتَمَدِ فِي طَلاَقٍ
أَوْ فَسْخٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ
فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّعَبُّدِ، فَإِذَا مَاتَ وَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ
فَلاَ يَلْحَقُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، لأَِنَّ
الْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ
لأَِبِيهِ، وَإِنَّمَا تَنْتَهِي بِأَقْصَى الأَْجَلَيْنِ: الْوَضْعِ أَوْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَعْتَدُّ الْمَرْأَةُ مِنْ وَطْءِ خَصِيٍّ لاَ
مَقْطُوعِ الذَّكَرِ وَلَوْ دُونَ الأُْنْثَيَيْنِ لِعَدَمِ الدُّخُول،
لَكِنْ إِنْ بَانَتْ حَامِلاً لَحِقَهُ الْوَلَدُ، لإِِمْكَانِهِ إِنْ لَمْ
يَكُنْ مَمْسُوحًا، وَاعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ وَإِنْ نَفَاهُ، بِخِلاَفِ
الْمَمْسُوحِ، لأَِنَّ
__________
(1) الدسوقي 2 / 732، جواهر الإكليل 1 / 386، 285.
(2) شرح منح الجليل 2 / 372.
(29/332)
الْوَلَدَ لاَ يَلْحَقُهُ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَلاَ تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْ طَلاَقِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْخَصِيُّ
الْمَجْبُوبُ امْرَأَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ
يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ
وَتَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الطَّلاَقِ: ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ،
أَوْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَذَكَرَ
الْقَاضِي: أَنَّ ظَاهِرَ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِهِ؛
لأَِنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الإِْنْزَال بِأَنْ يَحُكَّ مَوْضِعَ
ذَكَرِهِ بِفَرْجِهَا فَيُنْزِل، فَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَلْحَقُ بِهِ
الْوَلَدُ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لاَ
يَلْحَقُ بِهِ وَلَدٌ، لأَِنَّهُ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، فَلاَ يَلْحَقُ
بِهِ وَلَدُهَا، كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ سِنِينَ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَابِ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ
الْمَجْبُوبَ أَوِ الْخَصِيَّ كَالْعِنِّينِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى
الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهَا (3) .
وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ الْخَصِيَّ كَالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ
الْعِدَّةِ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ
بِشَرْطِ الإِْنْزَال (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 384، روضة الطالبين 8 / 365 - 366، القليوبي وعميرة 4
/ 39.
(2) المغني والشرح الكبير لابن قدامة: 9 / 120.
(3) فتح القدير 4 / 297، 299، 300، حاشية ابن عابدين 2 / 340، 426، 593،
594.
(4) المبسوط 6 / 53.
(29/333)
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ وَمَنْ فِي
حُكْمِهِ:
40 - الْمَفْقُودُ: هُوَ الَّذِي غَابَ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ مَعَ
إِمْكَانِ الْكَشْفِ عَنْهُ، فَخَرَجَ الأَْسِيرُ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ
خَبَرُهُ، وَالْمَحْبُوسُ الَّذِي لاَ يُسْتَطَاعُ الْكَشْفُ عَنْهُ (1) ،
فَإِذَا غَابَ الرَّجُل عَنِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَخْل مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا غَابَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهُ، فَلاَ يَجُوزُ
لاِمْرَأَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَتَظَل عَلَى
عِصْمَتِهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، أَوْ
لَحِقَهَا ضَرَرٌ مِنْ غَيْبَتِهِ أَوْ كَانَتْ تَخْشَى عَلَى نَفْسِهَا
الْفِتْنَةَ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (غَيْبَة) .
ثَانِيهِمَا: إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ
وَلاَ يُعْرَفُ مَكَانُهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَوْلاَنِ
لِلْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ
قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ - فِيمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ
السَّلاَمَةَ - إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى عِصْمَتِهِ، فَلاَ
تَزُول الزَّوْجِيَّةُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَوْتُهُ أَوْ طَلاَقُهُ، أَوْ
تَمْضِي مُدَّةٌ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَهَذِهِ سُلْطَةٌ
تَقْدِيرِيَّةٌ لِلْقَاضِي، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَحِل
لِلأَْزْوَاجِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 479.
(2) فتح القدير 3 / 313. ط - الأميرية بولاق. 1315 هـ، ابن عابدين 3 / 332،
والزيلعي 3 / 312، مغني المحتاج 3 / 397، روضة الطالبين 8 / 400، المغني
لابن قدامة 9 / 130، كشاف القناع 2 / 590.
(29/333)
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا:
امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ، فَلْتَصْبِرْ حَتَّى
يَأْتِيَهَا يَقِينُ مَوْتِهِ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا
الْبَيَانُ (1) لأَِنَّ عَقْدَهَا ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلاَ يَرْتَفِعُ
إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَلأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ الْحَيَاةِ حَتَّى يَثْبُتَ
مَوْتُهُ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ
إِذَا بَلَغَ سِنُّهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةٍ مِنْ وَقْتِ وِلاَدَتِهِ،
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقَدَّرُ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيل: تِسْعُونَ
سَنَةً، أَوْ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ إِذَا مَاتَ آخِرُ أَقْرَانِهِ سِنًّا،
أَوْ يُفَوَّضُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ (3) ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ
الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ، وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ.
وَنَقَل أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَم عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا مَضَى عَلَيْهِ
تِسْعُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلاَدَتِهِ قَسَمَ مَالَهُ، وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ
تَتَزَوَّجُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ
__________
(1) (1) حديث: " امرأة المفقود امرأته. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 312)
من حديث المغيرة بن شعبة وضعفه الزيلعي في نصب الراية (3 / 473) .
(2) مغني المحتاج 3 / 397، الروضة 8 / 400، سبل السلام 3 / 208.
(3) فتح القدير 3 / 313. ط - الأميرية، الزيلعي 3 / 312.
(29/334)
هَذَا الْعُمْرِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ
انْقِطَاعُ خَبَرِهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ
فَقْدُهُ بِغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا الْهَلاَكُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ
رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الْحَنَابِلَةِ - فِي حَالَةِ مَا لَوْ كَانَتْ
غَيْبَتُهُ ظَاهِرُهَا الْهَلاَكُ - إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ
تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ
تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَحِل
لِلأَْزْوَاجِ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ
سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (3) ، وَوَافَقَهُ
فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةَ وَاللَّيْثُ وَعَلِيُّ
بْنُ الْمَدِينِيِّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ (4) ،
فَالتَّرَبُّصُ بِأَرْبَعِ سِنِينَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ، أَوْ أَنَّهُ
أَكْثَرُ الْحَمْل عِنْدَهُمْ (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 131.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 479، وما بعده، جواهر الإكليل. 1 / 389، 391، شرح
منح الجليل 2 / 385 وما بعدها، شرح الزرقاني 4 / 202، مغني المحتاج 3 /
397، روضة الطالبين 8 / 400 وما بعدها، المغني لابن قدامة 9 / 132، كشاف
القناع 2 / 590 - 591.
(3) سبل السلام 3 / 207.
(4) المغني 9 / 132 - 134.
(5) شرح منح الجليل 2 / 386، جواهر الإكليل 1 / 389، الزرقاني 4 / 212.
(29/334)
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ
امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي الْقِتَال تَتَرَبَّصُ
سَنَةً فَقَطْ، لأَِنَّ غَلَبَةَ هَلاَكِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْثَرُ
مِنْ غَلَبَتِهِ فِي غَيْرِهَا، لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْقِتَال (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ
بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْعَجْزِ
عَنْ خَبَرِهِ، وَقِيل: مِنْ حِينِ رَفْعِ الأَْمْرِ إِلَى الْقَاضِي أَوِ
الْوَالِي أَوْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (2) ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ
الْوَفَاةِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ
الْمُدَّةِ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ لَهَا، لأَِنَّهَا
مُدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَافْتَقَرَتْ إِلَى ضَرْبِ الْحَاكِمِ
كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ.
وَثَانِيَتُهُمَا: ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ انْقِطَاعِ الْخَبَرِ
وَبُعْدِ الأَْثَرِ؛ لأَِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي مَوْتِهِ، فَكَانَ
ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ، وَهَذَا
التَّفْصِيل عَلَى الْقَدِيمِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الأَْسِيرِ:
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الأَْسِيرِ لاَ تُنْكَحُ
حَتَّى تُعْلَمَ بِيَقِينٍ وَفَاتُهُ، وَهَذَا قَوْل
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 133.
(2) الدسوقي 2 / 479، جواهر الإكليل 1 / 389، شرح منح الجليل 2 / 385،
الزرقاني 4 / 212.
(3) روضة الطالبين 8 / 401، المغني 9 / 135.
(29/335)
النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى
الأَْنْصَارِيِّ وَمَكْحُولٍ (1) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمُرْتَدِّ:
42 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ عِدَّةِ زَوْجَةِ الْمُرْتَدِّ
بَعْدَ الدُّخُول أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ بِسَبَبِ التَّفْرِيقِ
بَيْنَهُمَا، فَإِنْ جَمَعَهَا الإِْسْلاَمُ فِي الْعِدَّةِ دَامَ
النِّكَاحُ، وَإِلاَّ فَالْفُرْقَةُ مِنَ الرِّدَّةِ وَعِدَّتُهَا تَكُونُ
بِالأَْشْهُرِ، أَوْ بِالْقُرُوءِ، أَوْ بِالْوَضْعِ كَعِدَّةِ
الْمُطَلَّقَةِ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ أَوْ قُتِل حَدًّا وَامْرَأَتُهُ فِي
الْعِدَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو
يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا إِلاَّ
عِدَّةُ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالرِّدَّةِ،
وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ عَلَى الزَّوْجَاتِ.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ
الْمُرْتَدَّ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِل وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَوَرِثَتْهُ
قِيَاسًا عَلَى طَلاَقِ الْفَارِّ - فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ
الْوَفَاةِ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلاَثُ حِيَضٍ، حَتَّى
إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَرَ فِي مُدَّةِ الأَْرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْعَشْرِ
ثَلاَثَ حِيَضٍ تَسْتَكْمِل بَعْدَ ذَلِكَ، لأَِنَّ كُل مُعْتَدَّةٍ
وَرِثَتْ تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 299 - 300، وجواهر الإكليل 1 / 339، 391 نهاية
المحتاج جـ 6 ص 28، المغني 9 / 130.
(29/335)
الْوَفَاةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا: بِأَنَّ
النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الإِْرْثِ، فَلأََنْ يَبْقَى فِي حَقِّ
وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لأَِنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي
إِيجَابِهَا، فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَافِيًا لِوُجُوبِ
الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا الاِعْتِدَادُ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلاَثُ حِيَضٍ، قِيَاسًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ
طَلاَقًا بَائِنًا الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ
الْعِدَّةُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رِوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
عِدَّةُ الْكِتَابِيَّةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ
الْكِتَابِيَّةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فِي الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ
الْوَفَاةِ كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْعِدَّةِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ
مُسْلِمًا، لأَِنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللَّهِ وَبِحَقِّ
الزَّوْجِ، قَال تَعَالَى {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا} (2) فَهِيَ حَقُّهُ، وَالْكِتَابِيَّةُ أَوِ
الذِّمِّيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَتَجِبُ عَلَيْهَا
الْعِدَّةُ،
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 200، 136، ابن عابدين 2 / 392، 393، فتح القدير 4
/ 316، منح الجليل 3 / 207، مواهب الجليل 3 / 479، شرح الزرقاني 8 / 169،
مغني المحتاج 3 / 190، المغني لابن قدامة 7 / 171، 177.
(2) سورة الأحزاب / 49.
(29/336)
وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لأَِجْل حَقِّ
الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ أَهْل إِيفَاءِ حُقُوقِ
الْعِبَادِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ تَحْتَ
ذِمِّيٍّ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّةَ
أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ دِينُهُمْ لاَ
يُقِرُّ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فَوْرَ طَلاَقِهَا؛
لأَِنَّ الْعِدَّةَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا إِمَّا أَنْ تَجِبَ بِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحَقِّ الزَّوْجِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى إِيجَابِهَا
بِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَعْتَقِدُ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَلاَ
وَجْهَ لإِِيجَابِهَا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا
مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْقُرُبَاتِ، إِلاَّ
إِذَا كَانَتْ حَامِلاً، فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ
وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ، وَحِفْظُ
النَّسَبِ حَقُّ الْوَلَدِ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَال حَقِّهِ، فَكَانَ عَلَى
الْحَاكِمِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِالْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ حَتَّى تَضَعَ
الْحَمْل، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ
الذِّمِّيَّةَ الْحُرَّةَ غَيْرُ الْحَامِل إِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ
ذِمِّيٍّ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا، وَأَرَادَ مُسْلِمٌ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا - وَقَدْ دَخَل بِهَا -
فَعِدَّتُهَا ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَل بِهَا حَلَّتْ
مَكَانَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ (1) .
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 191، 192، 193، 195، 197، فتح القدير 4 / 333،
334 - ط. الحلبي. 3 / 289، 291 - ط. الأميرية، ابن عابدين 2 / 603، 614،
جواهر الإكليل 1 / 384، 387، 389، شرح منح الجليل على مختصر خليل 2 / 381،
حاشية الدسوقي 2 / 475، مغني المحتاج 3 / 188، 196، 200.
(29/336)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَى
الذِّمِّيَّةِ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ ذِمِّيٍّ، لأَِنَّ
الذِّمِّيَّةَ مِنْ أَهْل دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَجَرَى عَلَيْهَا مَا
يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ، وَلِعُمُومِ
الآْيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْعِدَّةِ، وَلأَِنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ
الدُّخُول أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ، فَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ
الْمُسْلِمَةِ، وَلأَِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنَ الْوَفَاةِ أَشْبَهَتِ
الْمُسْلِمَةَ (1) .
عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ
عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ
وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) وَلأَِنَّ الْخُلْعَ
فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُول، فَكَانَتِ
الْعِدَّةُ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
__________
(1) البدائع 3 / 191 - 193، فتح القدير 4 / 333، 334، المغني 9 / 76.
(2) سورة البقرة / 228.
(29/337)
وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ
عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَبَانَ بْنِ
عُثْمَانَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ
بْنِ قَيْسِ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً (1) كَمَا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِهِ (2) .
(ر: مُصْطَلَحَ خُلْع) .
عِدَّةُ الْمُلاَعَنَةِ:
45 - عِدَّةُ الْمُلاَعَنَةِ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، لأَِنَّهَا
مُفَارَقَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُطَلَّقَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لاِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّ عِدَّتَهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ (3) .
عِدَّةُ الزَّانِيَةِ:
46 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الزَّانِيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) أخرجه أبو داود 2 / 669، والترمذي 3 / 482، ط. الحلبي.
(2) تفسير القرطبي 3 / 144، 145، ط. بيروت، فتح القدير 3 / 269، ط.
الأميرية، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 468، روضة الطالبين 8 / 365،
ط. المكتب الإسلامي، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 78.
(3) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 78.
(29/337)
وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ
لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا، حَامِلاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ وَهُوَ
الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (1) وَلأَِنَّ
الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَالزِّنَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ
ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَلاَ يُوجِبُ الْعِدَّةَ.
وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل امْرَأَةً وَهِيَ حَامِلٌ مِنَ الزِّنَا جَازَ
نِكَاحُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ
وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ، لِئَلاَّ يَصِيرَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ
غَيْرِهِ، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِل
لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ
زَرْعَ غَيْرِهِ (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ
تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ (3) فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ
وَطْئِهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا.
خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ
وَالْوَطْءِ لِلْحَامِل مِنْ زِنًا عَلَى الأَْصَحِّ،
__________
(1) حديث: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 /
292) ومسلم (2 / 1080) من حديث عائشة.
(2) حديث: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه. . . ".
أخرجه أبو داود 2 / 615، والترمذي 3 / 437 من حديث رويفع بن ثابت واللفظ
لأبي داود وقال الترمذي: حديث حسن.
(3) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع ". أخرجه أبو داود (2 / 614) من حديث أبي
سعيد الخدري وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (1 / 171 - 172) .
(29/338)
إِذْ لاَ حُرْمَةَ لَهُ.
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ
وَالنَّخَعِيُّ: أَنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ
الْمُطَلَّقَةِ، لأَِنَّهُ وَطْءٌ يَقْتَضِي شُغْل الرَّحِمِ، فَوَجَبَتِ
الْعِدَّةُ مِنْهُ، وَلأَِنَّهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا
بِعِدَّةٍ كَامِلَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَلأَِنَّ
الْمَزْنِيَّ بِهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْل الاِعْتِدَادِ اشْتَبَهَ
وَلَدُ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ مِنَ الزِّنَا، فَلاَ يَحْصُل حِفْظُ
النَّسَبِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: إِذَا زَنَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ غُصِبَتْ
وَجَبَ عَلَيْهَا الاِسْتِبْرَاءُ مِنْ وَطْئِهَا بِثَلاَثِ حِيَضٍ إِنْ
كَانَتْ حُرَّةً.
أَمَّا الْحَامِل مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ غَصْبٍ فَيَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا
وَطْؤُهَا قَبْل الْوَضْعِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا كَانَتِ الزَّانِيَةُ
غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا زَمَنَ
الاِسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا وَجَبَ فَسْخُهُ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ
فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ
وَاحِدَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ،
وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً. (1)
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِبْرَاء ف 24) .
__________
(1) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع. . . " تقدم تخريجه آنفًا وانظر أقوال
الفقهاء في بدائع الصنائع للكاساني 3 / 192، 193، حاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 2 / 471، جواهر الإكليل 1 / 386، مغني المحتاج 3 / 384، 388، روضة
الطالبين 8 / 375 سبل السلام 3 / 207، شرح منح الجليل 2 / 375، المغني لابن
قدامة مع الشرح الكبير 9 / 79 - 80.
(29/338)
عِدَّةُ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا:
47 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالدُّخُول فِي
النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، بِسَبَبِ
الْفُرْقَةِ الْكَائِنَةِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي، كَالنِّكَاحِ بِدُونِ
شُهُودٍ أَوْ وَلِيٍّ، وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي
النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ بِالْوَطْءِ، أَيْ بِالدُّخُول،
مِثْل: نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ وَزَوْجَةِ الْغَيْرِ، وَالْمَحَارِمِ إِذَا
كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْحَدَّ، بِأَنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ
بِالْحُرْمَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِالْحُرْمَةِ فَقَدْ ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ
الْعِدَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ
لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، لاَ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ،
إِذْ لاَ حَقَّ لِلنِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَيًّا كَانَ نَوْعَهُ، أَمَّا
الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ
الْعِدَّةِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، لِعَدَمِ وُجُودِ الشُّبْهَةِ
الْمُسْقِطَةِ لِلْحَدِّ، وَلِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، جَاءَ فِي فَتْحِ
الْقَدِيرِ: وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ
بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَنِكَاحُ امْرَأَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ
إِذَا لَمْ يَعْلَمِ
(29/339)
الزَّوْجُ الثَّانِي بِأَنَّهَا
مُتَزَوِّجَةٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ - أَيِ الزَّوْجُ الثَّانِي - لاَ
تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالدُّخُول، حَتَّى لاَ يَحْرُمَ عَلَى الزَّوْجِ
وَطْؤُهَا لأَِنَّهُ زِنًا، وَإِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ حَل لِزَوْجِهَا
وَطْؤُهَا، وَبِهِ يُفْتَى (1) .
(ر: مُصْطَلَحَ بُطْلاَن ف 30) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي
النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ
عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي
النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ،
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ
الصَّحِيحِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا عَلَى الأَْزْوَاجِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا} (2) وَلاَ يَصِيرُ زَوْجًا حَقِيقَةً إِلاَّ بِالنِّكَاحِ
الصَّحِيحِ، كَمَا أَنَّهَا تَجِبُ إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ وَالتَّأَسُّفِ
لِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ،
__________
(1) البدائع 3 / 192، فتح القدير 4 / 307، 320، 330 جواهر الإكليل 1 / 386،
387، الدسوقي 2 / 219، 471، 475، منح الجليل 2 / 375، 381 نهاية المحتاج 7
/ 119، 120، 168، روضة الطالبين 7 / 42، 51، 8 / 365، 399، مغني المحتاج 3
/ 147، 148 - 384 المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 79، 145،146، 7 /
345.
(2) سورة البقرة / 234.
(29/339)
وَالنِّعْمَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ
دُونَ الْفَاسِدِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ
إِلَى وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ
فِيهِ، لأَِنَّهُ نِكَاحٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَوَجَبَتْ بِهِ
عِدَّةُ الْوَفَاةِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ (2) .
عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ:
48 - عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَهِيَ الَّتِي زُفَّتْ إِلَى
غَيْرِ زَوْجِهَا، وَالْمَوْجُودَةُ لَيْلاً عَلَى فِرَاشِهِ إِذَا ادَّعَى
الاِشْتِبَاهَ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِشُغْلِهِ وَلِحُقُوقِ النَّسَبِ
فِيهِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِيمَا
تَحْصُل الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَلأَِنَّ الشُّبْهَةَ تُقَامُ مَقَامَ
الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الاِحْتِيَاطِ، وَإِيجَابُ الْعِدَّةِ مِنْ
بَابِ الاِحْتِيَاطِ.
وَإِنْ وُطِئَتِ الْمُزَوَّجَةُ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَحِل لِزَوْجِهَا
وَطْؤُهَا قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، كَيْ لاَ يُفْضِيَ إِلَى
اخْتِلاَطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الأَْنْسَابِ، وَلَهُ الاِسْتِمْتَاعُ
مِنْهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي أَحَدِ وَجْهَيِ
__________
(1) البدائع 3 / 192، 193، فتح القدير 4 / 320، روضة الطالبين 8 / 399،
المغني مع الشرح الكبير 9 / 145.
(2) جواهر الإكليل 1 / 387، الدسوقي 2 / 475، المغني مع الشرح الكبير 9 /
145، 146.
(29/340)
الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ
حَرُمَ وَطْؤُهَا لِعَارِضٍ مُخْتَصٍّ بِالْفَرْجِ، فَأُبِيحَ
الاِسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَهُ كَالْحَائِضِ، وَلاَ يَجِبُ
عَلَيْهَا عِدَّةُ وَفَاةٍ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ؛ لأَِنَّ
وُجُوبَ الْعِدَّةِ هُنَا عَلَى سَبِيل الاِسْتِبْرَاءِ (1) .
عِدَّةُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ دُونَ تَعْيِينٍ أَوْ بَيَانٍ:
49 - إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ دُونَ
تَعْيِينٍ أَوْ بَيَانٍ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلاَقِ إِذَا كَانَ مُضَافًا
إِلَى زَوْجَةٍ مَجْهُولَةٍ فَهُوَ طَلاَقٌ مُبْهَمٌ، وَالْجَهَالَةُ
إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَصْلِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ طَارِئَةً،
فَالأَْصْلِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلاَقِ فِيهَا مِنَ
الاِبْتِدَاءِ مُضَافًا إِلَى الْمَجْهُول، وَالطَّارِئَةُ: أَنْ يَكُونَ
مُضَافًا إِلَى مَعْلُومَةٍ ثُمَّ تُجْهَل، كَمَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل
امْرَأَةً بِعَيْنِهَا مِنْ نِسَائِهِ ثَلاَثًا ثُمَّ نَسِيَ
الْمُطَلَّقَةَ.
وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ فِي الطَّلاَقِ الْمُبْهَمِ كَعِدَّةِ غَيْرِهَا
مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (3) وَلَكِنَّهُمُ
__________
(1) البدائع 3 / 192، فتح القدير 4 / 320، جواهر الإكليل 1 / 386، الدسوقي
2 / 471، منح الجليل 2 / 375، روضة الطالبين 8 / 365، 399، مغني المحتاج 3
/ 396، المغني 9 / 79.
(2) البدائع 3 / 224 - 228.
(3) سورة البقرة / 228.
(29/340)
اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ عِدَّتِهَا هَل
مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ أَمْ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ
وَقْتِ الْبَيَانِ لاَ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ لَمْ
يَكُنْ وَاقِعًا قَبْل الْبَيَانِ، وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا
تَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ
لأَِنَّ الطَّلاَقَ نَازِلٌ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ (1) .
وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْل بَيَانِ الطَّلاَقِ الْمُبْهَمِ لإِِحْدَى
زَوْجَتَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ
الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ
وَالأُْخْرَى مُطَلَّقَةٌ، وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ لاَ
عِدَّةُ الطَّلاَقِ، وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلاَقِ لاَ
عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَدَارَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ فِي
حَقِّ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ،
وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، وَمِنَ الاِحْتِيَاطِ الْقَوْل
بِوُجُوبِهَا عَلَى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى
امْرَأَتَيْهِ مُعَيَّنَةً أَوْ مُبْهَمَةً، كَقَوْلِهِ: إِحْدَاكُمَا
طَالِقٌ: وَنَوَى مُعَيَّنَةً أَمْ لاَ وَمَاتَ قَبْل الْبَيَانِ
لِلْمُعَيَّنَةِ أَوِ التَّعْيِينِ لِلْمُبْهَمَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْل
مَوْتِهِ لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا اعْتَدَّتَا لِوَفَاتِهِ
بِأَرْبَعَةِ
__________
(1) البدائع 3 / 224 وفتح القدير 3 / 159 - ط - الأميرية.
(2) البدائع 3 / 228.
(29/341)
أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا،
لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَمَا يُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ مُفَارَقَةً
بِالطَّلاَقِ يُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ مُفَارَقَةً بِالْمَوْتِ وَكَذَا إِنْ
وَطِئَ كُلًّا مِنْهُمَا وَهُمَا ذَوَاتَا أَشْهُرٍ فِي طَلاَقٍ بَائِنٍ
أَوْ رَجْعِيٍّ، أَوْ هُمَا ذَوَاتَا أَقْرَاءٍ وَالطَّلاَقُ رَجْعِيٌّ،
فَتَعْتَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا عِدَّةَ وَفَاةٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ
بَائِنًا فِي ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ اعْتَدَّتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
بِالأَْكْثَرِ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةٍ وَثَلاَثَةِ قُرُوءٍ؛ لأَِنَّ كُل
وَاحِدَةٍ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهَا بِعِدَّةٍ
أُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ تَأْتِيَ بِذَلِكَ لِتَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهَا
بِيَقِينٍ، وَتُحْتَسَبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنَ الْمَوْتِ جَزْمًا،
وَتُحْسَبُ الأَْقْرَاءُ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيل:
مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَعِدَّةُ الْحَامِل مِنْهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْل؛
لأَِنَّ عِدَّتَهَا لاَ تَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيرَيْنِ.
وَلَوِ اخْتَلَفَ حَال الْمَرْأَتَيْنِ، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا
مَمْسُوسَةً أَوْ حَامِلاً أَوْ ذَاتَ أَقْرَاءٍ وَالأُْخْرَى
بِخِلاَفِهَا، عَمِلَتْ كُل وَاحِدَةٍ بِمُقْتَضَى الاِحْتِيَاطِ فِي
حَقِّهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لاَ
بِعَيْنِهَا، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ دُونَ
غَيْرِهَا، مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ لاَ مِنْ وَقْتِ الْقُرْعَةِ، وَإِنْ
طَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَأُنْسِيهَا. . .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 396، 397، روضة الطالبين 8 / 399 - 400.
(29/341)
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ
الْجَمِيعُ، فَإِنْ مَاتَ فَعَلَى الْجَمِيعِ الاِعْتِدَادُ بِأَقْصَى
الأَْجَلَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلاَقِ وَالْوَفَاةِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ
الطَّلاَقُ بَائِنًا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَعَلَيْهَا عِدَّةُ
الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمَّا ذَاتُ الأَْقْرَاءِ فَمِنْ
وَقْتِ الطَّلاَقِ.
وَإِنْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ ثَلاَثًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِنَّ
كُلِّهِنَّ تَكْمِيل عِدَّةِ الطَّلاَقِ مِنْ وَقْتِ طَلاَقِهِنَّ
ثَلاَثًا. . .
(1) وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً لاَ
بِعَيْنِهَا طَلُقَتَا أَوْ طَلُقْنَ مَعًا طَلاَقًا مُنَجَّزًا عَلَى
الْمَشْهُورِ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا
فَالطَّلاَقُ لِلْجَمِيعِ، وَإِنْ قَال لإِِحْدَاهُمَا: أَنْتِ طَالِقٌ،
وَلِلأُْخْرَى أَوْ أَنْتِ وَلاَ نِيَّةَ خُيِّرَ فِي طَلاَقِ أَيَّتِهِمَا
أَحَبَّ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ (2) .
تَدَاخُل الْعِدَدِ:
50 - تَدَاخُل الْعِدَدِ مَعْنَاهُ: أَنْ تَبْتَدِئَ الْمَرْأَةُ
الْمُعْتَدَّةُ عِدَّةً جَدِيدَةً وَتَنْدَرِجُ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ
الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، وَالْعِدَّتَانِ إِمَّا أَنْ
تَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَقَطْ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ،
لِشَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ شَخْصَيْنِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 9 / 105، 8 / 429، 433.
(2) الزرقاني 4 / 125، جواهر الإكليل 1 / 355، 356، الدسوقي 2 / 402.
(29/342)
الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ
التَّدَاخُل وَعَدَمِهِ وَفْقًا لِكُل حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ (1) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَزِمَتْهَا
عِدَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَتَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ،
فَإِنَّهُمَا تَتَدَاخَلاَنِ لاِتِّحَادِهِمَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَصْدِ،
مِثْل: مَا لَوْ طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
فِي الْعِدَّةِ وَوَطِئَهَا، وَقَال: ظَنَّتْ أَنَّهَا تَحِل لِي، أَوْ
طَلَّقَهَا بِأَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّ
الْعِدَّتَيْنِ تَتَدَاخَلاَنِ، فَتَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ
ابْتِدَاءً مِنَ الْوَطْءِ الْوَاقِعِ فِي الْعِدَّةِ، وَيَنْدَرِجُ مَا
بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، قَال
النَّوَوِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ لِشَخْصٍ، وَكَانَتَا مِنْ
جِنْسٍ وَاحِدٍ بِأَنْ طَلَّقَهَا وَشَرَعَتْ فِي الْعِدَّةِ
بِالأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ جَاهِلاً
إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا، وَجَاهِلاً أَوْ عَالِمًا إِنْ كَانَ
رَجْعِيًّا، تَدَاخَلَتِ الْعِدَّتَانِ، وَمَعْنَى التَّدَاخُل: أَنَّهَا
تَعْتَدُّ بِثَلاَثَةِ قُرُوءٍ، أَوْ ثَلاَثَةِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 325، ابن عابدين 2 / 609، روضة الطالبين 8 / 384 / 394،
القليوبي وعميرة 4 / 46 - 47 ط. الحلبي، المهذب للشيرازي 2 / 151 - 153. ط
- دار المعرفة، نهاية المحتاج 7 / 132 - 135، الكافي 3 / 316 - 320 - ط
المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 425 - 428 - ط. النصر، المغني لابن
قدامة 9 / 121، 122 - دار الكتاب العربى، مغني المحتاج 3 / 391 - 393،
المبسوط 6 / 401، الموسوعة الفقهية ج 11 ص 91.
(29/342)
أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ
وَيَنْدَرِجُ فِيهَا بَقِيَّةُ عِدَّةِ الطَّلاَقِ، وَقَدْرُ تِلْكَ
الْبَقِيَّةِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَاقِعًا عَنِ الْجِهَتَيْنِ، وَلَهُ
الرَّجْعَةُ فِي قَدْرِ الْبَقِيَّةِ إِنْ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا،
وَلاَ رَجْعَةَ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ فِي تِلْكَ
الْبَقِيَّةِ وَبَعْدَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَدَدُ الطَّلاَقِ مُسْتَوْفًى
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ
لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْحَمْل وَالأُْخْرَى
بِالأَْقْرَاءِ، سَوَاءٌ طَلَّقَهَا حَامِلاً ثُمَّ وَطِئَهَا، أَوْ
حَائِلاً ثُمَّ أَحْبَلَهَا، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ: يَرَوْنَ تَدَاخُل
الْعِدَّتَيْنِ، لأَِنَّهُمَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ كَانَتَا مِنْ
جِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى: عَدَمُ التَّدَاخُل لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الْجِنْسِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَوْل هُنَا بِالتَّدَاخُل أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ
تَنْقَضِيَانِ بِالْوَضْعِ، وَلِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ فِي الطَّلاَقِ
الرَّجْعِيِّ إِلَى أَنْ تَضَعَ إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ
بِالْحَمْل، أَوْ كَانَتْ بِالأَْقْرَاءِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ التَّدَاخُل إِذَا كَانَ الْحَمْل لِعِدَّةِ
الطَّلاَقِ اعْتَدَّتْ بَعْدَ وَضْعِهِ بِثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ، وَلاَ
رَجْعَةَ إِلاَّ فِي مُدَّةِ الْحَمْل، وَإِنْ كَانَ الْحَمْل لِعِدَّةِ
الْوَطْءِ، أَتَمَّتْ بَعْدَ
(29/343)
وَضْعِهِ بَقِيَّةَ عِدَّةِ الطَّلاَقِ،
وَلَهُ الرَّجْعَةُ قَبْل الْوَضْعِ فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ عَلَى
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتَا مِنْ
جِنْسَيْنِ، كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ،
أَوْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَالْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَزَوَّجَتْ
فِي عِدَّتِهَا فَوَطِئَهَا الثَّانِي وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ
الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ عَدَمَ التَّدَاخُل،
لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مَقْصُودَانِ لآِدَمِيَّيْنِ، فَلَمْ يَتَدَاخَلاَ
كَالدَّيْنَيْنِ. وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ احْتِبَاسٌ يَسْتَحِقُّهُ الرِّجَال
عَلَى النِّسَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَدَّةُ
فِي احْتِبَاسِ رَجُلَيْنِ كَاحْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ، فَعَلَيْهَا أَنْ
تَعْتَدَّ لِلأَْوَّل لِسَبْقِهِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلثَّانِي، وَلاَ
تَتَقَدَّمُ عِدَّةُ الثَّانِي عَلَى عِدَّةِ الأَْوَّل إِلاَّ بِالْحَمْل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَتَدَاخَل الْعِدَّتَانِ؛ لأَِنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا أَجَلٌ، وَالآْجَال تَتَدَاخَل وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى
الْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَدَّ مِنْ وَقْتِ التَّفْرِيقِ، وَيَنْدَرِجُ مَا
بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ الأُْولَى فِي الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ، لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ التَّعَرُّفُ عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَل
بِالْوَاحِدَةِ، فَتَتَدَاخَلاَنِ، وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ
بِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةٍ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ
بِالشُّهُورِ، وَتَحْتَسِبُ بِمَا تَرَاهُ مِنَ الْحَيْضِ فِيهَا،
تَحْقِيقًا لِلتَّدَاخُل بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ، فَلَوْ لَمْ تَرَ فِيهَا
(29/343)
دَمًا يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ
الأَْشْهُرِ بِثَلاَثِ حِيَضٍ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جُزَيٍّ فُرُوعًا فِي تَدَاخُل
الْعِدَّتَيْنِ (2) :
الْفَرْعُ الأَْوَّل: مَنْ طَلُقَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ
زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ، انْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لأَِنَّ
الْمَوْتَ يَهْدِمُ عِدَّةَ الرَّجْعِيِّ، بِخِلاَفِ الْبَائِنِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: إِنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا فِي
الْعِدَّةِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ مِنَ الطَّلاَقِ
الثَّانِي، سَوَاءٌ أَكَانَ قَدْ وَطِئَهَا أَمْ لاَ، لأَِنَّ الرَّجْعَةَ
تَهْدِمُ الْعِدَّةَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ مِنْ
غَيْرِ رَجْعَةٍ بَنَتِ اتِّفَاقًا، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً ثَانِيَةً
ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل
الْمَسِيسِ بَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا الأُْولَى، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ
الدُّخُول اسْتَأْنَفَتْ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّانِي.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: إِذَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنَ الطَّلاَقِ،
فَدَخَل بِهَا الثَّانِي، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ
عِدَّتِهَا مِنَ الأَْوَّل، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الثَّانِي، وَقِيل
تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي وَتَجْزِيهَا
__________
(1) فتح القدير 4 / 328، روضة الطالبين 8 / 220 - 384، 393، 394.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 157، الدسوقي 2 / 499، الزرقاني 4 / 235،
جواهر الإكليل 1 / 398، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 195، 196. دار
إحياء التراث - بيروت.
(29/344)
عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً
فَالْوَضْعُ يُجْزِئُ عَنِ الْعِدَّتَيْنِ اتِّفَاقًا (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ طَرَأَ مُوجِبٌ لِعِدَّةٍ
مُطْلَقًا - لِوَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ - قَبْل تَمَامِ عِدَّةٍ انْهَدَمَ
الأَْوَّل، أَيْ: بَطَل حُكْمُهُ مُطْلَقًا، كَانَ الْمُوجِبَانِ مِنْ
رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، بِفِعْلٍ سَائِغٍ أَمْ لاَ،
وَاسْتَأْنَفَتْ حُكْمَ الطَّارِئِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ قَدْ تَمْكُثُ
أَقْصَى الأَْجَلَيْنِ، مِثْل الرَّجُل الَّذِي تَزَوَّجَ بَائِنَتَهُ
وَطَلَّقَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَتَسْتَأْنِفُ عِدَّةً مِنْ طَلاَقِهِ
الثَّانِي وَيَنْهَدِمُ الأَْوَّل، أَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْل
الْبِنَاءِ فَإِنَّهَا تَبْقَى عَلَى عِدَّةِ الطَّلاَقِ الأَْوَّل، وَلَوْ
مَاتَ بَعْدَ تَزَوُّجِهَا - بَنَى بِهَا أَوْ لاَ - فَإِنَّهَا
تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَتَنْهَدِمُ الأُْولَى.
وَالْمُرْتَجِعُ لِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْل تَمَامِ عِدَّتِهَا،
سَوَاءٌ وَطِئَهَا بَعْدَ ارْتِجَاعِهَا أَوْ لاَ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ
مَاتَ عَنْهَا قَبْل تَمَامِ عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، فَإِنَّ
الْمُعْتَدَّةَ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةَ طَلاَقٍ مِنْ يَوْمِ طَلاَقِهِ لَهَا
ثَانِيًا أَوْ عِدَّةَ وَفَاةٍ مِنْ يَوْمِ مَوْتِهِ؛ لأَِنَّ
ارْتِجَاعَهَا يَهْدِمُ الْعِدَّةَ الأُْولَى الْكَائِنَةَ مِنَ الطَّلاَقِ
الرَّجْعِيِّ (2) .
الطَّلاَقُ فِي الْعِدَّةِ:
51 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي 157.
(2) الدسوقي والشرح الكبير 2 / 499 - 501، الخرشي 4 / 172 - 175 مواهب
الجليل 4 / 176 - 178
(29/344)
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّ الطَّلاَقَ يَلْحَقُ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ،
لِبَقَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ
(1) .
فَالرَّجْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ، لِبَقَاءِ الْوِلاَيَةِ
عَلَيْهَا بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ، قَال الشَّافِعِيُّ: الرَّجْعِيَّةُ
زَوْجَةٌ فِي خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ
لُحُوقَ الطَّلاَقِ وَصِحَّةَ الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ وَالإِْيلاَءِ
وَالْمِيرَاثِ (2)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَلْحَقُ
الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى
كَخُلْعٍ وَفَسْخٍ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْمَحَل وَهِيَ الزَّوْجَةُ، أَوْ
لِزَوَال الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كَمَا لَوِ انْتَهَتْ
عِدَّتُهَا، وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ
الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً كُبْرَى لاَ يَلْحَقُهَا
الطَّلاَقُ.
أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى
فَيَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلاَقِ (3) .
وَأَمَّا طَلاَقُ الْكِنَايَةِ الْوَاقِعِ فِي عِدَّةِ الْمُبَانَةِ أَوِ
__________
(1) البدائع 3 / 134، 180، فتح القدير 3 / 21، 64. ط 1 ابن عابدين 2 / 474،
الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 422 جواهر الإكليل 1 / 364، شرح الزرقاني 4 /
80، 145، 163 مغني المحتاج 3 / 293، 294، روضة الطالبين 8 / 222، المغني
لابن قدامة 9 / 108، 8 / 235 - 237، 477، 494. مغني المحتاج 3 / 293.
(2) مغني المحتاج 3 / 293
(3) البدائع 3 / 135، جواهر الإكليل 1 / 339، روضة الطالبين 8 / 68، مغني
المحتاج 3 / 292، المغني لابن قدامة 8 / 183، 184.
(29/345)
الْمُخْتَلِعَةِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهَا فِي
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِنْ كَانَتِ الْكِنَايَةُ
تَحْمِل مَعْنَى الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، لأَِنَّ الْوَاقِعَ بِهَذَا
النَّوْعِ مِنَ الْكِنَايَةِ رَجْعِيٌّ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الطَّلاَقِ
الصَّرِيحِ، فَيَلْحَقُهَا الْخُلْعُ وَالإِْبَانَةُ فِي الْعِدَّةِ
كَالصَّرِيحِ، خِلاَفًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ
يَلْحَقُهَا لأَِنَّ هَذِهِ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ لاَ تَعْمَل إِلاَّ
فِي حَال قِيَامِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ
الْكِنَايَةُ تَحْمِل مَعْنَى الطَّلاَقِ الْبَائِنِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ
بَائِنٌ وَنَحْوِهِ، وَنَوَى الطَّلاَقَ، لاَ يَلْحَقُهَا بِلاَ خِلاَفٍ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الإِْبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ،
وَالْوَصْلَةُ مُنْقَطِعَةٌ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ قَطْعُهَا ثَانِيًا، أَوْ
لأَِنَّ الإِْبَانَةَ تَحْرِيمٌ شَرْعًا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَتَحْرِيمُ
الْمُحَرَّمِ مُحَالٌ (1) . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً كُبْرَى لاَ تَكُونُ
مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ، لاِنْعِدَامِ الْعَلاَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ
وَلِزَوَال الْمِلْكِ وَزَوَال حِل الْمَحَلِّيَّةِ (2) .
خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ:
52 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِطْبَةِ
مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ أَوِ الْمُوَاعَدَةِ بِالنِّكَاحِ حَرَامٌ سَوَاءٌ
أَكَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَمْ بَائِنٍ أَمْ وَفَاةٍ
__________
(1) البدائع 3 / 135، والقرطبي 3 / 147.
(2) البدائع 3 / 187، جواهر الإكليل 1 / 339، روضة الطالبين 8 / 68، مغني
المحتاج 3 / 293، المغني لابن قدامة 8 / 243، 471.
(29/345)
أَمْ فَسْخٍ أَوْ مُعْتَدَّةٍ عَنْ وَطْءِ
شُبْهَةٍ (1) ، وَفِي التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خِطْبَة ف 9 - 13 وَتَعْرِيض ف 4 - 5)
عَقْدُ الأَْجْنَبِيِّ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ:
53 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلأَْجْنَبِيِّ
نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ أَيًّا كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلاَقٍ أَوْ
مَوْتٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ
رَجْعِيًّا أَمْ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى (2) . وَذَلِكَ
لِحِفْظِ الأَْنْسَابِ وَصَوْنِهَا مِنَ الاِخْتِلاَطِ وَمُرَاعَاةً
لِحَقِّ الزَّوْجِ الأَْوَّل، فَإِنْ عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى
الْمُعْتَدَّةِ فِي عِدَّتِهَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ عَقَدَ
عَلَيْهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (3) وَالْمُرَادُ تَمَامُ
الْعِدَّةِ، وَالْمَعْنَى: لاَ تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي
زَمَانِ الْعِدَّةِ، أَوْ لاَ تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى
يَنْقَضِيَ مَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْعِدَّةِ (4) .
__________
(1) البدائع 3 / 204، وجواهر الإكليل 1 / 276، ومغني المحتاج 3 / 135 -
136، وكشاف القناع 5 / 18.
(2) البدائع للكاساني 3 / 204، جواهر الإكليل 1 / 276، 283، الفواكه
الدواني 2 / 33، 34، الدسوقي 2 / 217 وما بعدها، منح الجليل 2 / 8 وما
بعدها، روضة الطالبين 7 / 43، مغني المحتاج 3 / 135، 174 وما بعدها، المغني
لابن قدامة 9 / 120، 126.
(3) سورة البقرة / 235.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 192، 193، البدائع 3 / 204.
(29/346)
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَلأَِنَّ
النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُل وَجْهٍ،
وَبَعْدَ الثَّلاَثِ وَالْبَائِنِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ حَال قِيَامِ
الْعِدَّةِ، لِقِيَامِ بَعْضِ الآْثَارِ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ
كَالثَّابِتِ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا،
وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا إِذَا
لَمْ يَكُنِ الطَّلاَقُ ثَلاَثًا لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّزَوُّجِ
لِلأَْجَانِبِ لاَ لِلأَْزْوَاجِ؛ لأَِنَّ عِدَّةَ الطَّلاَقِ إِنَّمَا
لَزِمَتْهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ، لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً عَلَى حُكْمِ
نِكَاحِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ عَلَى
الأَْجْنَبِيِّ لاَ عَلَى الزَّوْجِ إِذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ
حَقَّهُ (1) .
وَفِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ طُلَيْحَةَ الأَْسْدِيَةَ كَانَتْ زَوْجَةَ
رَشِيدٍ الثَّقَفِيِّ وَطَلَّقَهَا، فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا،
فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِخَفْقَةِ
ضَرَبَاتٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَال عُمَرُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ
نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُل
بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ
زَوْجِهَا الأَْوَّل، ثُمَّ إِنْ شَاءَ كَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ،
وَإِنْ كَانَ دَخَل بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ
عِدَّتِهَا مِنَ الأَْوَّل، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الآْخَرِ، ثُمَّ لاَ
يَنْكِحُهَا أَبَدًا (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 204.
(2) الفواكه الدواني 2 / 34.
(29/346)
مَكَانُ الْعِدَّةِ:
54 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَكَانَ الْعِدَّةِ مِنْ
طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتٍ هُوَ بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي
كَانَتْ تَسْكُنُهُ قَبْل مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا، وَقَبْل مَوْتِهِ، أَوْ
عِنْدَمَا بَلَغَهَا خَبَرُ مَوْتِهِ، وَتَسْتَتِرُ فِيهِ عَنْ سَائِرِ
الْوَرَثَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا (1) . فَإِذَا كَانَتْ فِي
زِيَارَةِ أَهْلِهَا، فَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، كَانَ عَلَيْهَا أَنْ
تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُ فِيهِ لِلاِعْتِدَادِ
وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ، فَالسُّكْنَى فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ
وَجَبَتْ بِطَرِيقِ التَّعَبُّدِ، فَلاَ تَسْقُطُ وَلاَ تَتَغَيَّرُ إِلاَّ
بِالأَْعْذَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ
يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ
الْبَيْتَ إِلَيْهَا، وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا هُوَ الَّذِي
كَانَتْ تَسْكُنُهُ قَبْل مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا أَوْ مَوْتِهِ،
وَبِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
__________
(1) البدائع 3 / 205، فتح القدير 4 / 344 - ط - الحلبي، ابن عابدين 2 /
621، جواهر الإكليل 1 / 391 وما بعدها، الدسوقي 2 / 484، الفواكه الدواني 2
/ 97 - 99، منح الجليل 2 / 394، روضة الطالبين 8 / 410، مغني المحتاج 3 /
401 وما بعدها، المغني لابن قدامة 170 وما بعدها، نيل الأوطار للشوكاني 7 /
100 وما بعدها. ط الجيل، سبل السلام 3 / 203، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
3 / 177 وما بعدها.
(2) سورة الطلاق / 1.
(29/347)
أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ: أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ
فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُ بِطَرَفِ الْقَدُومِ، قَالَتْ:
فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ
يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةَ؟ فَقَالَتْ: قَال الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ
فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ نَادَانِي، أَوْ أَمَرَ بِي
فَنُودِيتُ لَهُ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَيْفَ قُلْتِ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَال: امْكُثِي فِي
بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ
فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ
بْنُ عَفَّانَ أَرْسَل إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ،
فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَلْزَمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ
الْعِدَّةُ وَيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَبِهِ قَضَى عُثْمَانُ، فِي
جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ،
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ، فَإِذَا ثَبَتَ
هَذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الاِعْتِدَادُ عَلَيْهَا فِي الْمَنْزِل الَّذِي
مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ بِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا (2) .
__________
(1) حديث: الفريعة بنت مالك أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخرجه مالك في الموطأ (2 / 591) وأعله ابن القطان وغيره بجهالة راوية فيه
كما في التخليص الحبير لابن حجر (3 / 240) .
(2) المغني 9 / 170 - 171.
(29/347)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَوْضِعِ
الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ (1) .
وَقَال جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ مِنَ
التَّابِعِينَ: إِنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ حَيْثُ
شَاءَتْ، وَهَذَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ
وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ قَوْله
تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2)
نَسَخَتِ الآْيَةَ الَّتِي جَعَلَتِ الْعِدَّةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا حَوْلاً كَامِلاً وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِمْ
مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (3) وَالنَّسْخُ إِنَّمَا
وَقَعَ عَلَى مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَبَقِيَ مَا
سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ
السُّكْنَى، وَتَعَلَّقَ حَقُّهَا بِالتَّرِكَةِ، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ
شَاءَتْ (4) .
خُرُوجُ أَوْ إِخْرَاجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَكَانِ الْعِدَّةِ:
55 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ
طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتٍ مُلاَزَمَةُ السَّكَنِ فِي الْعِدَّةِ،
فَلاَ تَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَإِنْ
__________
(1) المغني 9 / 182.
(2) سورة البقرة / 234.
(3) سورة البقرة / 240.
(4) المغني 9 / 170.
(29/348)
خَرَجَتْ أَثِمَتْ وَلِلزَّوْجِ فِي حَال
الطَّلاَقِ أَوِ الْفَسْخِ مَنْعُهَا، وَلِوَرَثَتِهِ كَذَلِكَ مِنْ
بَعْدِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَوْ وَرَثَتِهِ إِخْرَاجُهَا مِنْ
مَسْكَنِ النِّكَاحِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِلاَّ أَثِمُوا
بِذَلِكَ لإِِضَافَةِ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ فِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وقَوْله تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ}
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى الأَْزْوَاجِ، وقَوْله تَعَالَى:
{وَلاَ يَخْرُجْنَ} يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَاتِ لِلَّهِ
تَعَالَى وَلأَِزْوَاجِهِنَّ، فَالْعِدَّةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى،
وَالْحَقُّ الَّذِي لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَسْقُطُ بِالتَّرَاضِي، لِعَدَمِ
قَابِلِيَّتِهِ لِلإِْسْقَاطِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل، إِلاَّ
لِلأَْعْذَارِ وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ (1) كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَدَى جَوَازِ خُرُوجِ
الْمُعْتَدَّةِ، وَذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَالِهَا وَبِاخْتِلاَفِ
الأَْوْقَاتِ وَالأَْعْذَارِ.
خُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:
56 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ
الرَّجْعِيَّةَ لاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ لاَ
لَيْلاً وَلاَ نَهَارًا (2) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي 18 / 154 وما بعدها، البدائع 3 / 205،
فتح القدير 4 / 343. ط - الحلبي، جواهر الإكليل 1 / 391 - 393، الفواكه
الدواني 2 / 98، مغني المحتاج 3 / 402، روضة الطالبين 8 / 415، المغني 9 /
170 وما بعدها، 176، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 100.
(2) البدائع 3 / 205، فتح القدير 4 / 344، المبسوط للسرخسي 6 / 32 - 36،
روضة الطالبين 8 / 146، مغني المحتاج 3 / 403 - 404.
(29/348)
تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ. . .} إِلَخْ. فَقَدْ نَهَى اللَّهُ
تَعَالَى الأَْزْوَاجَ عَنِ الإِْخْرَاجِ وَالْمُعْتَدَّاتِ عَنِ
الْخُرُوجِ، إِلاَّ إِذَا ارْتَكَبْنَ فَاحِشَةً، أَيِ: الزِّنَا
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}
وَالأَْمْرُ بِالإِْسْكَانِ نَهْيٌ عَنِ الإِْخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَهِيَ زَوْجَتُهُ،
فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهَا، فَلاَ تَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
(1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَلأَِنَّهَا زَوْجَتُهُ بَعْدَ الطَّلاَقِ
الرَّجْعِيِّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُل وَجْهٍ، فَلاَ يُبَاحُ
لَهَا الْخُرُوجُ كَمَا قَبْل الطَّلاَقِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْدَ الطَّلاَقِ
لاَ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ وَإِنْ أَذِنَ لَهَا بِهِ، بِخِلاَفِ مَا
قَبْل الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ بَعْدَ الطَّلاَقِ
لِمَكَانِ الْعِدَّةِ وَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَمْلِكُ
إِبْطَالَهُ، بِخِلاَفِ مَا قَبْل الطَّلاَقِ، لأَِنَّ الْحُرْمَةَ ثَمَّةَ
لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً فَيَمْلِكُ إِبْطَال حَقِّ نَفْسِهِ
بِالإِْذْنِ بِالْخُرُوجِ (2) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا بِجَوَازِ خُرُوجِ
الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ نَهَارًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا،
وَتَلْزَمُ مَنْزِلَهَا بِاللَّيْل لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 416.
(2) البدائع 3 / 205.
(29/349)
الْفَسَادِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: طَلُقَتْ
خَالَتِي ثَلاَثًا، فَخَرَجَتْ تَجِدُّ نَخْلاً لَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ
فَنَهَاهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَال لَهَا: اخْرُجِي فَجُدِّي نَخْلَكِ
لَعَلَّكِ أَنْ تَصَدَّقِي مِنْهُ أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَدَّةِ لِقَضَاءِ
حَوَائِجِهَا يَجُوزُ لَهَا فِي الأَْوْقَاتِ الْمَأْمُونَةِ وَذَلِكَ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ وَالأَْزْمِنَةِ، فَفِي الأَْمْصَارِ
وَسَطَ النَّهَارِ، وَفِي غَيْرِهَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَلَكِنْ لاَ
تَبِيتُ إِلاَّ فِي مَسْكَنِهَا.
خُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ:
57 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ
طَلاَقٍ بَائِنٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ إِلَى جَوَازِ خُرُوجِهَا نَهَارًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، أَوْ
طَرَفَيِ النَّهَارِ لِشِرَاءِ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ مَلْبَسٍ وَمَأْكَلٍ
وَدَوَاءٍ أَوْ بَيْعِ غَزْلٍ، أَوْ كَانَتْ تَتَكَسَّبُ مِنْ شَيْءٍ
خَارِجٍ عَنْ مَحَلِّهَا كَالْقَابِلَةِ وَالْمَاشِطَةِ أَوْ لأَِدَاءِ
عَمَلِهَا سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا بَيْنُونَةً
__________
(1) حديث: جابر: " طلقت خالتي ثلاثا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1121) وأبو
داود (2 / 720) واللفظ لأبي داود.
(29/349)
صُغْرَى أَمْ كُبْرَى، لِحَدِيثِ جَابِرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلاَثًا:
فَخَرَجَتْ. . . إِلَخْ قَال الشَّافِعِيُّ: وَالْجِدَادُ لاَ يَكُونُ
إِلاَّ نَهَارًا غَالِبًا، وَالضَّابِطُ عِنْدَهُ: كُل مُعْتَدَّةٍ لاَ
تَجِبُ نَفَقَتُهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ يَقْضِيهَا حَاجَتَهَا لَهَا
الْخُرُوجُ، أَمَّا مَنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا فَلاَ تَخْرُجُ إِلاَّ
بِإِذْنٍ أَوْ ضَرُورَةٍ كَالزَّوْجَةِ، لأَِنَّهُنَّ مَكْفِيَّاتٌ
بِنَفَقَةِ أَزْوَاجِهِنَّ.
بَل أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْبَائِنِ الْخُرُوجَ لَيْلاً إِنْ لَمْ
يُمْكِنْهَا نَهَارًا، وَكَذَا إِلَى دَارِ جَارَةٍ لَهَا لِغَزْلٍ
وَحَدِيثٍ وَنَحْوِهِمَا لِلتَّأَنُّسِ، بِشَرْطِ: أَنْ تَأْمَنَ
الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يُؤْنِسُهَا، وَأَنْ تَرْجِعَ
وَتَبِيتَ فِي بَيْتِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَال: اسْتَشْهَدَ
رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَآمَ نِسَاؤُهُمْ وَكُنَّ مُتَجَاوِرَاتٍ فِي دَارٍ
فَجِئْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: يَا
رَسُول اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْل فَنَبِيتُ عِنْدَ
إِحْدَانَا فَإِذَا أَصْبَحْنَا تَبَدَّرْنَا إِلَى بُيُوتِنَا فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَدَّثْنَ عِنْدَ
إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ
كُل امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ إِلَى بَيْتِهَا (1) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 486، 487، جواهر الإكليل 1 / 393 الفواكه الدواني 3 / 99،
تفسير القرطبي 18 / 154 - 155 مغني المحتاج 403، روضة الطالبين 8 / 416،
وصحيح مسلم 10 / 108 - إحياء التراث، وسبل السلام 3 / 203، نيل الأوطار
للشوكاني 7 / 97 - 100. وحديث: " استشهد رجال يوم أحد. . . ". أخرجه
البيهقي (7 / 436) من حديث مجاهد مرسلا.
(29/350)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ الثَّلاَثِ أَوِ الْبَائِنِ
لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، لِعُمُومِ النَّهْيِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى
تَحْصِينِ الْمَاءِ (1) .
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا:
58 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لاَ
تَخْرُجُ لَيْلاً، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا لِقَضَاءِ
حَوَائِجِهَا (2) . قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى
الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ لاِكْتِسَابِ مَا تُنْفِقُهُ، لأَِنَّهُ لاَ
نَفَقَةَ لَهَا مِنَ الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى بَل نَفَقَتُهَا عَلَيْهَا،
فَتَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ لِتَحْصِيل النَّفَقَةِ، وَلاَ تَخْرُجُ
بِاللَّيْل لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْخُرُوجِ بِاللَّيْل، وَإِذَا
خَرَجَتْ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا لاَ تَبِيتُ خَارِجَ مَنْزِلِهَا
الَّذِي تَعْتَدُّ فِيهِ (3) .
وَقَال الْمُتَوَلِّي: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً وَتَسْتَحِقُّ
النَّفَقَةَ، فَلاَ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ (4)
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ السَّابِقِ (5) ، وَبِمَا رَوَى
عَلْقَمَةُ أَنَّ نِسْوَةً مِنْ هَمْدَانَ نُعِيَ إِلَيْهِنَّ
أَزْوَاجُهُنَّ، فَسَأَلْنَ
__________
(1) البدائع 3 / 205.
(2) البدائع 3 / 205، فتح القدير 4 / 344، جواهر الإكليل 1 / 393، الدسوقي
2 / 486، منح الجليل 2 / 396، الفواكه الدواني 2 / 99، مغني المحتاج 3 /
403، روضة الطالبين 8 / 416، المغني 9 / 176، تفسير القرطبي 18 / 154، 155،
سبل السلام 3 / 203، نيل الأوطار 7 / 102، صحيح مسلم 10 / 108.
(3) البدائع 3 / 205، وانظر الدسوقي 2 / 486.
(4) روضة الطالبين 8 / 416.
(5) حديث الفريعة تقدم تخريجه ف 57.
(29/350)
ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقُلْنَ: " إِنَّا نَسْتَوْحِشُ، فَأَقَرَّهُنَّ أَنْ يَجْتَمِعْنَ
بِالنَّهَارِ، فَإِذَا كَانَ بِاللَّيْل فَلْتَرُحْ كُل امْرَأَةٍ إِلَى
بَيْتِهَا (1) .
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ:
59 - الْمُعْتَدَّةُ مِنْ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فِي الْخُرُوجِ
مِنْ مَسْكَنِهَا كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: الْمُعْتَدَّةُ مِنَ النِّكَاحِ
الْفَاسِدِ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ، إِلاَّ إِذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ
لِتَحْصِينِ مَائِهِ، وَالصَّغِيرَةُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا
إِذَا كَانَتِ الْفُرْقَةُ لاَ رَجْعَةَ فِيهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ الزَّوْجُ
لَهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ عَلَى
الْمُعْتَدَّةِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ
اللَّهِ عَزَّ وَجَل لاَ يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي
حِفْظِ الْوَلَدِ وَلاَ وَلَدَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ
رَجْعِيَّةً فَلاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ دُونَ إِذْنِ زَوْجِهَا
لأَِنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ،
وَالْمَجْنُونَةُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا لأَِنَّهَا غَيْرُ
مُخَاطَبَةٍ كَالصَّغِيرَةِ، إِلاَّ أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا
مِنَ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ، وَالْكِتَابِيَّةُ لَهَا أَنْ
تَخْرُجَ لأَِنَّ السُّكْنَى فِي
__________
(1) البدائع 3 / 205، مغني المحتاج 3 / 403، المغني لابن قدامة 9 / 176،
صحيح مسلم 10 / 108، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 102، سبل السلام 3 / 203.
(2) روضة الطالبين 8 / 416.
(29/351)
الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ
وَجْهٍ فَتَكُونُ عِبَادَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْكُفَّارُ لاَ
يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ، إِلاَّ إِذَا مَنَعَهَا
الزَّوْجُ مِنَ الْخُرُوجِ لِصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الاِخْتِلاَطِ،
فَإِذَا أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهَا مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَةَ
فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ (1) .
مَا يُبِيحُ لِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجَ وَالاِنْتِقَال مِنْ مَكَانِ
الْعِدَّةِ:
60 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ
طَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ وَفَاةٍ الْخُرُوجُ وَالاِنْتِقَال مِنْ مَكَانِ
الْعِدَّةِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنِ اضْطُرَّتْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا،
بِأَنْ خَافَتْ سُقُوطَ مَنْزِلِهَا أَوْ خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا أَوْ
كَانَ الْمَنْزِل بِأُجْرَةٍ وَلاَ تَجِدُ مَا تُؤَدِّيهِ فِي أُجْرَتِهِ
فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَوْ كَانَ الْمَنْزِل مِلْكًا لِزَوْجِهَا وَقَدْ
مَاتَ، أَوْ كَانَ نَصِيبُهَا لاَ يَكْفِيهَا، أَوْ خَافَتْ عَلَى
مَتَاعِهَا مِنْهُمُ - الْوَرَثَةُ - فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَنْتَقِل. . .
لأَِنَّ السُّكْنَى وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ حَقًّا لِلَّهِ
تَعَالَى عَلَيْهَا، وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِالأَْعْذَارِ، وَإِذَا
انْتَقَلَتْ لِعُذْرٍ: يَكُونُ سُكْنَاهَا فِي الْبَيْتِ الَّذِي
انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا فِي الْمَنْزِل الَّذِي
انْتَقَلَتْ مِنْهُ
__________
(1) البدائع للكاساني 3 / 207، 208.
(29/351)
فِي حُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَنْهُ، لأَِنَّ
الاِنْتِقَال مِنَ الأَْوَّل إِلَيْهِ كَانَ لِعُذْرٍ، فَصَارَ الْمَنْزِل
الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مَنْزِلُهَا مِنَ الأَْصْل،
فَلَزِمَهَا الْمَقَامُ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ انْتِقَالُهَا مِنْ مَكَانِ
الْعِدَّةِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، كَبَدْوِيَّةٍ مُعْتَدَّةٍ ارْتَحَل
أَهْلُهَا فَلَهَا الاِرْتِحَال مَعَهُمْ حَيْثُ كَانَ يَتَعَذَّرُ
لُحُوقُهَا بِهِمْ بَعْدَ الْعِدَّةِ، أَوْ لِعُذْرٍ لاَ يُمْكِنُ
الْمَقَامُ مَعَهُ بِمَسْكَنِهَا كَسُقُوطِهِ أَوْ خَوْفِ جَارِ سُوءٍ أَوْ
لُصُوصٍ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْحَاكِمُ الَّذِي يُزِيل الضَّرَرَ، فَإِذَا
وُجِدَ الْحَاكِمُ الَّذِي يُزِيل الضَّرَرَ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ فَلاَ
تَنْتَقِل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَضَرِيَّةً أَمْ بَدَوِيَّةً، وَإِذَا
انْتَقَلَتْ لَزِمَتِ الثَّانِي إِلاَّ لِعُذْرٍ. . . وَهَكَذَا، فَإِذَا
انْتَقَلَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ رُدَّتْ بِالْقَضَاءِ قَهْرًا عَنْهَا؛
لأَِنَّ بَقَاءَهَا فِي مَكَانِ الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تُعْذَرُ لِلْخُرُوجِ فِي مَوَاضِعَ
هِيَ:
إِذَا خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرِيقٍ
أَوْ غَرَقٍ أَوْ لُصُوصٍ أَوْ فَسَقَةٍ أَوْ جَارِ سُوءٍ. وَتَتَحَرَّى
الْقُرْبَ مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ، أَوْ لَوْ لَزِمَهَا عِدَّةٌ وَهِيَ
فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَلْزَمُهَا أَنْ
__________
(1) البدائع 3 / 205، 206، فتح القدير 3 / 285. ط - 1 الأميرية ببولاق.
(2) الدسوقي 2 / 486 - 487، الفواكه الدواني 2 / 99، جواهر الإكليل 1 /
393.
(29/352)
تُهَاجِرَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، قَال
الْمُتَوَلِّي: إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لاَ تَخَافُ عَلَى
نَفْسِهَا وَلاَ عَلَى دِينِهَا فَلاَ تَخْرُجُ حَتَّى تَعْتَدَّ، أَوْ
إِذَا لَزِمَهَا حَقٌّ وَاحْتِيجَ إِلَى اسْتِيفَائِهِ وَلَمْ يُمْكِنِ
اسْتِيفَاؤُهُ فِي مَسْكَنِهَا كَحَدٍّ أَوْ يَمِينٍ فِي دَعْوَى، فَإِنْ
كَانَتْ بَرْزَةً خَرَجَتْ وَحُدَّتْ أَوْ حَلَفَتْ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى
الْمَسْكَنِ وَإِنْ كَانَتْ مُخَدَّرَةً بَعَثَ الْحَاكِمُ إِلَيْهَا
نَائِبًا أَوْ أَحْضَرَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ
مُسْتَعَارًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا فَرَجَعَ الْمُعِيرُ أَوْ طَلَبَهُ
الْمَالِكُ أَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ لاَ يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ (1)
.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّهَا نَقَلَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومِ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قُتِل طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَل
ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الاِنْتِقَال لِلْعُذْرِ (2) .
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ لِلْحَجِّ أَوْ لِلسَّفَرِ أَوْ
الاِعْتِكَافِ:
61 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ
وَفَاةٍ إِلَى الْحَجِّ، لأَِنَّ الْحَجَّ لاَ يَفُوتُ، وَالْعِدَّةُ
تَفُوتُ.
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 415 - 417، مغني المحتاج 3 / 403 - 404، المغني لابن
قدامة 9 / 176، 177.
(2) البدائع 3 / 206.
(29/352)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَحْرَمَتِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بَقِيَتْ عَلَى مَا
هِيَ فِيهِ، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ.
كَمَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ
تُنْشِئَ سَفَرًا لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، فَإِنْ طَرَأَتِ
الْعِدَّةُ عَلَى الْمُسَافِرَةِ فَفِي مُضِيِّهَا عَلَى سَفَرِهَا أَوْ
رُجُوعِهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (إِحْدَاد ف 22، 24 وَرُجُوع ف 25) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ فَيَلْزَمُهَا الْعَوْدَةُ إِلَى
مَسْكَنِهَا لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ لأَِنَّهَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَهَذَا
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ: تَمْضِي الْمُعْتَكِفَةُ عَلَى
اعْتِكَافِهَا إِنْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ،
وَبِهَذَا قَال رَبِيعَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ
اعْتِكَافٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلاَ تَخْرُجُ لَهُ، بَل تَبْقَى فِي بَيْتِهَا
حَتَّى تُتَمِّمَ عِدَّتَهَا، فَلاَ تَخْرُجُ لِلطَّارِئِ بَل تَسْتَمِرُّ
عَلَى السَّابِقِ (1) .
(ر: مُصْطَلَحَ إِحْدَاد، ف 24) .
إِحْدَادُ الْمُعْتَدَّةِ:
62 - الإِْحْدَادُ هُوَ: تَرْكُ التَّزَيُّنِ بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 351. ط - الأميرية، البحر الرائق 2 / 326، الفتاوى
الهندية 1 / 212، فتح القدير 3 / 298، 299، حاشية الدسوقي 2 / 485، 486
المجموع 6 / 445، 446، الجمل 4 / 465، ومغني المحتاج 3 / 404، المغني لابن
قدامة 3 / 207، 9 / 186.
(29/353)
وَالطِّيبِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي
أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَحُكْمُ الإِْحْدَادِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
أَحْوَال الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ
بَائِنٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الإِْحْدَادِ عَلَى
الْمُعْتَدَّةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، حَتَّى
وَلَوْ لَمْ يَدْخُل بِهَا الزَّوْجُ الْمُتَوَفَّى بِخِلاَفِ
الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا (1)
أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا فَلاَ إِحْدَادَ عَلَيْهَا
لِبَقَاءِ أَكْثَرِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فِيهَا، بَل يُسْتَحَبُّ لَهَا
التَّزَيُّنُ بِمَا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا وَالْعَوْدَةِ
لَهَا، لَعَل اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً
صُغْرَى أَوْ كُبْرَى وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْدَاد ف 4)
نَفَقَةُ الْمُعْتَدَّةِ:
63 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ طَلاَقًا
رَجْعِيًّا لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَمَا
يَلْزَمُهَا لِمَعِيشَتِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَامِلاً أَمْ حَائِلاً،
لِبَقَاءِ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُعْتَدَّةِ
__________
(1) البدائع 3 / 208، 209، فتح القدير 4 / 342، الدسوقي 2 / 478، جواهر
الإكليل 1 / 389، منح الجليل 2 / 384، الفواكه 2 / 94، الباجي على الموطأ 4
/ 145، روضة الطالبين 8 / 405، مغني المحتاج 3 / 398، 399، المغني لابن
قدامة مع الشرح الكبير 9 / 166، الكافي لابن قدامة 2 / 950.
(29/353)
مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ إِذَا كَانَتْ
حَامِلاً حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ
حَائِلاً، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ
لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 12 - 15) .
الإِْرْثُ فِي الْعِدَّةِ:
64 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ
رَجْعِيٍّ إِذَا مَاتَتْ، أَوْ مَاتَ زَوْجُهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ
وَرِثَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ لِبَقَاءِ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ مَا دَامَتِ
الْعِدَّةُ قَائِمَةً، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ
بَائِنٍ فِي حَالَةِ صِحَّةِ الزَّوْجِ، بِرِضَاهَا أَوْ بِغَيْرِ
رِضَاهَا، لاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرْثِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ
فِي حَالَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ: "
طَلاَقُ الْفَارِّ (1) " فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْقَدِيمِ إِلَى الْقَوْل بِإِرْثِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ
فِي حَالَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ، بِشَرْطِ
__________
(1) البدائع 3 / 180، 187، 218 وما بعدها، فتح القدير 3 / 150، 155. ط -
الأميرية، ابن عابدين 2 / 520، 4 / 465، المبسوط 6 / 155 وما بعدها، حاشية
الدسوقي 2 / 353، ط. الحلبي، جواهر الإكليل 1 / 333، 334، 364، 388،
الفواكه الدواني 2 / 56. دار المعرفة بيروت، مغني المحتاج 3 / 294، روضة
الطالبين 8 / 72، 74، 222، شرح الزرقاني 4 / 70، 209، المغني 7 / 217، 8 /
477.
(29/354)
أَلاَّ يَكُونَ الطَّلاَقُ بِرِضَاهَا،
وَأَنْ يَمُوتَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلاَقُ قَبْل
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَحِقَّةً لِلْمِيرَاثِ وَقْتَ
الطَّلاَقِ، وَتَظَل أَهْلِيَّتُهَا لِذَلِكَ حَتَّى وَفَاةِ الْمُطَلِّقِ.
أَمَّا إِذَا مَاتَتْ هَذِهِ الزَّوْجَةُ فِي الْعِدَّةِ فَلاَ يَرِثُ
الْمُطَلِّقُ مِنْهَا عَمَلاً بِقَصْدِهِ السَّيِّئِ، فَبِطَلاَقِهِ
الْبَائِنِ لَهَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الإِْرْثِ مِنْهَا (1) ، وَيَرَى
الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ تَرِثُ زَوْجَهَا لَوْ
طَلَّقَهَا أَوْ لاَعَنَهَا أَوْ خَالَعَهَا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
الْمَخُوفِ وَمَاتَ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ بِرِضَاهَا أَمْ
لاَ، حَتَّى وَلَوِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَوْ
أَزْوَاجًا، وَلاَ يَرِثُهَا الزَّوْجُ فِي حَالَةِ مَوْتِهَا فِي مَرَضِهِ
الْمَخُوفِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَرِيضَةً
أَيْضًا، لأَِنَّهُ الَّذِي أَخْرَجَ نَفْسَهُ وَأَسْقَطَ مَا كَانَ
يَسْتَحِقُّهُ لأَِنَّ الْعِصْمَةَ كَانَتْ بِيَدِهِ (2) وَيَرَى
الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ أَنَّهَا لاَ تَرِثُ لاِنْقِطَاعِ
الزَّوْجِيَّةِ، وَلأَِنَّهَا لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا بِالاِتِّفَاقِ
(3) .
أَمَّا عَلَى الْقَوْل الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ الْبَائِنَ تَرِثُ
فَفِيهِ أَقْوَالٌ: تَرِثُ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ أَوْ
__________
(1) المراجع السابقة والمبسوط 6 / 154 وما بعدها.
(2) الدسوقي 2 / 353، الفواكه 2 / 56، 57، الإكليل 1 / 333، 334، الزرقاني
4 / 70، 209.
(3) روضة الطالبين 8 / 72، 74، 222، مغني المحتاج 3 / 294.
(29/354)
مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، أَوْ أَبَدًا،
إِلاَّ أَنَّ لِلْقَوْل الْقَدِيمِ شُرُوطًا: كَوْنُ الزَّوْجَةِ
وَارِثَةً، وَعَدَمُ اخْتِيَارِهَا الْبَيْنُونَةَ فِي مَرَضٍ مَخُوفٍ
وَنَحْوِهِ وَمَاتَ بِسَبَبِهِ، وَكَوْنُهَا بِطَلاَقٍ لاَ بِلِعَانٍ
وَفَسْخٍ، وَكَوْنُهُ مَنْشَأً لِيَخْرُجَ مَا إِذَا أَقَرَّ بِهِ،
وَكَوْنُهُ مُنَجَّزًا (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الطَّلاَقِ الْبَائِنِ
إِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ مِنْ مَرَضِهِ
ذَلِكَ فِي عِدَّتِهَا وَرِثَتْهُ بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ الطَّلاَقُ فِي
الْمَرَضِ بِرَغْبَتِهَا أَوِ اخْتِيَارِهَا، وَلَمْ يَرِثْهَا إِنْ
مَاتَتْ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَرِثُهُ بَعْدَ
الْعِدَّةِ أَيْضًا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُل عَلَى
أَنَّهَا لاَ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِدَّةِ (2) .
وَيُنْظَرُ (مُصْطَلَحُ طَلاَق ف 66) .
مُعَاشَرَةُ الْمُعْتَدَّةِ وَمُسَاكَنَتُهَا:
65 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ
حُكْمُهَا حُكْمُ الأَْجْنَبِيَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُطَلِّقِ
مُعَاشَرَتُهَا وَمُسَاكَنَتُهَا أَوِ الْخَلْوَةُ بِهَا أَوِ النَّظَرُ
إِلَيْهَا، لاِنْقِطَاعِ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ، فَلاَ تَحِل لَهُ إِلاَّ
بِعَقْدٍ وَمَهْرٍ جَدِيدَيْنِ فِي الْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى، أَوْ أَنْ
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ثُمَّ يُفَارِقَهَا فِي الْبَيْنُونَةِ
الْكُبْرَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُعَاشَرَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 294. ط - الحلبي.
(2) المغني لابن قدامة 7 / 217، 223.
(29/355)
رَجْعِيٍّ أَوْ مُسَاكَنَتُهَا
وَالاِسْتِمْتَاعُ أَوِ الْخَلْوَةُ بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُطَلِّقِ لِزَوْجَتِهِ طَلاَقًا رَجْعِيًّا
مُعَاشَرَتُهَا وَمُسَاكَنَتُهَا فِي الدَّارِ الَّتِي تَعْتَدُّ فِيهَا،
لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخَلْوَةِ بِهَا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ،
وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِهَا وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَلاَ
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (1)
فَالطَّلاَقُ رَفْعٌ لِحِل النِّكَاحِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ
الدُّخُول عَلَيْهَا أَوِ الأَْكْل مَعَهَا أَوْ لَمْسُهَا أَوِ النَّظَرُ
إِلَيْهَا، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْكَنِ، إِلاَّ إِذَا
كَانَتِ الدَّارُ وَاسِعَةً وَمَعَهَا مَحْرَمٌ مُمَيِّزٌ يُسْتَحَى مِنْهُ
وَيَكُونُ بَصِيرًا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِلْحَنَابِلَةِ
إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِسْتِمْتَاعُ بِالرَّجْعِيَّةِ وَالْخَلْوَةُ
بِهَا وَلَمْسُهَا وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا بِنِيَّةِ الْمُرَاجَعَةِ،
وَكَذَلِكَ بِدُونِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهَا فِي الْعِدَّةِ كَالزَّوْجَةِ يَمْلِكُ
مُرَاجَعَتَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا (3) .
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) سبل السلام 3 / 182، نيل الأوطار 7 / 43 جواهر الإكليل 1 / 364،
الفواكه 2 / 97، روضة الطالبين 8 / 418، 419، مغني المحتاج 3 / 407. ط -
الحلبي، المغني 8 / 483 - 484.
(3) البدائع 3 / 180، 182، 183، ابن عابدين 2 / 622، 5 / 15، المبسوط 6 /
36 المغني لابن قدامة 8 / 477 - 478.
(29/355)
الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ وَالدَّعَاوَى
الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا:
66 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ
فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ (1) ، (ر: مُصْطَلَحَ رَجْعَة) وَيَتَعَلَّقُ
بِذَلِكَ: عِدَّةُ دَعَاوَى أَهَمُّهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِلاَفِ
الزَّوْجَيْنِ فِي تَارِيخِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَوْ تَارِيخِ
الرَّجْعَةِ.
وَفِي ذَلِكَ صُوَرٌ ذُكِرَتْ بِالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رَجْعَة، ف
23) وَهُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهَا مَا
يَأْتِي:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الرَّجْعِيَّةُ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا
بَعْدَ زَمَنٍ يُمْكِنُ انْقِضَاؤُهَا فِيهِ صُدِّقَتْ فِي إِخْبَارِهَا
بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْقُرْءِ، وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْوَضْعِ
لِحَمْلِهَا - اللاَّحِقِ لِزَوْجِهَا، أَوِ الَّذِي يَصِحُّ
اسْتِلْحَاقُهُ - بِلاَ يَمِينٍ مِنْهَا عَلَى انْقِضَائِهَا، وَعَلَيْهِ
فَلاَ تَصِحُّ رَجْعَتُهَا وَتَحِل لِلأَْزْوَاجِ. . . وَإِنِ ادَّعَتِ
انْقِضَاءَ عِدَّةِ الْقُرُوءِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِنْقِضَاءُ فِيهِ
نَادِرًا، كَحِضْتُ ثَلاَثًا فِي شَهْرٍ، سُئِل النِّسَاءُ فَإِنْ
صَدَّقْنَهَا أَيْ: شَهِدْنَ أَنَّ النِّسَاءَ تَحِيضُ لِمِثْلِهِ عُمِل
بِهِ (2) .
__________
(1) البدائع 3 / 180، الدسوقي 2 / 415، الفواكه 2 / 58، جواهر الإكليل 1 /
362، مغني المحتاج 3 / 335، روضة الطالبين 8 / 214، 217، كشاف القناع 5 /
341، الروض المربع 6 / 601، سبل السلام 3 / 182، 183. ط - بيروت.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 421، 422، جواهر الإكليل 1 / 364.
(29/356)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى
الزَّوْجُ أَنَّهُ رَاجَعَ الْمُعْتَدَّةَ فِي الْعِدَّةِ وَأَنْكَرَتْ،
فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا قَبْل أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَإِمَّا
بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِذَا كَانَ الاِخْتِلاَفُ قَبْل النِّكَاحِ: فَإِمَّا
أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ مُنْقَضِيَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً.
فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَيَوْمِ
الْجُمُعَةِ، وَقَال: رَاجَعْتُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَتْ: بَل
السَّبْتُ، صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا عَلَى الصَّحِيحِ بِأَنَّهَا لاَ
تَعْلَمُهُ رَاجَعَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ
الرَّجْعَةِ إِلَى يَوْمِ السَّبْتِ وَقِيل: الْقَوْل قَوْلُهُ
بِيَمِينِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى وَقْتِ الاِنْقِضَاءِ، بَل عَلَى وَقْتِ
الرَّجْعَةِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَتْ هِيَ: انْقَضَتِ الْخَمِيسَ،
وَقَال هُوَ: بَل انْقَضَتِ السَّبْتَ، صُدِّقَ فِي الأَْصَحِّ
بِيَمِينِهِ: أَنَّهَا مَا انْقَضَتِ الْخَمِيسَ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ
انْقِضَائِهَا قَبْلَهُ، وَقِيل: هِيَ الْمُصَدَّقَةُ، وَقِيل:
الْمُصَدَّقُ السَّابِقُ الدَّعْوَى (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ رَاجَعَ الزَّوْجُ مُطَلَّقَتَهُ فَادَّعَتِ
انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالْقُرُوءِ، فَإِنْ قِيل: هِيَ الْحَيْضُ، وَأَقَل
الطُّهْرِ ثَلاَثَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَأَقَل مَا يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ
الْعِدَّةِ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ، وَإِنْ قِيل:
الْقُرُوءُ هِيَ الأَْطْهَارُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 340 - 242، روضة الطالبين 8 / 223 - 224.
(29/356)
فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي
بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَحْظَتَيْنِ، وَمَتَى ادَّعَتِ
الْمُطَلَّقَةُ عِدَّتَهَا بِالْقُرُوءِ فِي أَقَل مِنْ هَذَا لَمْ يُقْبَل
قَوْلُهَا، وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي أَقَل مِنْ شَهْرٍ
لَمْ يُقْبَل قَوْلُهَا إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنِ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِي
أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ صُدِّقَتْ بِلاَ بَيِّنَةٍ.
وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ فَلاَ يُقْبَل
قَوْلُهَا فِيهِ، وَالْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ فِيهِ، لأَِنَّ الْخِلاَفَ
فِي ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلاَفِ فِي وَقْتِ الطَّلاَقِ.
وَإِنِ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْل لِتَمَامِهِ
فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهَا فِي أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ
إِمْكَانِ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ (1) .
ثُبُوتُ النَّسَبِ فِي الْعِدَّةِ:
67 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ فِي
الْعِدَّةِ، مَا دَامَ قَدْ وُلِدَ فِي نِطَاقِ الْحَدِّ الأَْقْصَى
لِمُدَّةِ الْحَمْل مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ، فَيَثْبُتُ
نَسَبُهُ وَلاَ يَنْتَفِي عَنْهُ إِلاَّ بِاللِّعَانِ - سَوَاءٌ أَقَرَّتِ
الْمُعْتَدَّةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ لَمْ تُقِرَّ (2)
خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي ثُبُوتِ
__________
(1) المغني 8 / 486.
(2) جواهر الإكليل 1 / 380، 381، 387، المواق بهامش الحطاب 4 / 135، مغني
المحتاج 3 / 390، نهاية المحتاج 7 / 117، 118، الفروع 3 / 290، المغني لابن
قدامة مع الشرح الكبير 9 / 55، 56، 116 - 119.
(29/357)
النَّسَبِ بَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ الَّتِي
أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ لَمْ تُقِرَّ، وَبَيْنَ الْبَائِنِ
وَالرَّجْعِيَّةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا (1) .
(ر: مُصْطَلَحَ نَسَب) .
فَإِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ
لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ
ظَهَرَ عَكْسُهُ بِيَقِينٍ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِهِ.
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ
عَكْسُهُ، فَيَكُونُ مِنْ حَمْلٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ كَمَا يَقُول
الْحَنَفِيَّةُ وَلأَِنَّهَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِقَضَاءِ
عِدَّتِهَا وَحِل النِّكَاحِ لَهَا بِمُدَّةِ الْحَمْل، فَلَمْ يُلْحَقْ
بِهِ كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ
حَمْلِهَا لِمُدَّةِ الْحَمْل، كَمَا يُعَلِّلُهُ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مَا لَمْ
تَتَزَوَّجْ أَوْ يَبْلُغُ أَرْبَعَ سِنِينَ؛ لأَِنَّهُ وَلَدٌ يُمْكِنُ
كَوْنُهُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ أَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْل،
وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ (3) .
__________
(1) البدائع 3 / 211 وما بعدها.
(2) الاختيار 3 / 179، المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9 / 118 و 7 /
479 - الموسوعة 18 / 144.
(3) جواهر الإكليل 1 / 380، مغني المحتاج 3 / 373.
(29/357)
دَفْعُ الزَّكَاةِ لِلْمُعْتَدَّةِ:
68 - الْمُعْتَدَّةُ إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا مُدَّةَ
الْعِدَّةِ فَلاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا مِنَ الزَّكَاةِ وَفِي حَالَةِ
عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا فَإِنَّهُ
يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا مِنَ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ
عَلَيْهِ (1) .
(ر: نَفَقَة، زَكَاة) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 62، فتح القدير 2 / 22، المبسوط 5 / 201، حاشية الدسوقي
1 / 499، القليوبي وعميرة 3 / 196، المجموع 6 / 192، 230، المغني 2 / 649.
(29/358)
عَدَدِيَّاتٌ
ر: مِثْلِيَّاتٌ.
(29/358)
|