الموسوعة
الفقهية الكويتية قَائِدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَائِدُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ السَّائِقِ، وَقَادَ الرَّجُل
الْفَرَسَ قَوْدًا مِنْ بَابِ قَال، وَقِيَادًا بِالْكَسْرِ وَقِيَادَةً،
وَالْقَوْدُ: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ أَمَامَ الدَّابَّةِ آخِذًا
بِقِيَادِهَا أَوْ مِقْوَدِهَا، وَيُقَال: قَادَ الْجَيْشَ أَيْ: رَأْسَهُ
وَدَبَّرَ أَمْرَهُ، وَالْقَائِدُ: مَنْ يَقُودُ الْجَيْشَ، وَجَمْعُهُ:
قَادَةٌ وَقُوَّادٌ، وَالْمَصْدَرُ الْقِيَادَةُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّائِقُ:
2 - السَّوْقُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ خَلْفَ الدَّابَّةِ،
يُقَال: سُقْتُ الدَّابَّةَ أَسُوقُهَا سَوْقًا، وَسَوْقُ الإِْبِل:
جَلْبُهَا وَطَرْدُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَاقَ الصَّدَاقَ إلَى
امْرَأَتِهِ أَيْ حَمَلَهُ إلَيْهَا.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط.
(32/234)
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي التَّنْزِيل:
{وَجَاءَتْ كُل نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (1) ، وَالْجَمْعُ
سَاقَةٌ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يَتَوَجَّهُ بِالشَّيْءِ إلَى الأَْمَامِ، إلاَّ أَنَّ الْقَائِدَ يَكُونُ
فِي الأَْمَامِ وَالسَّائِقَ فِي الْخَلْفِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَائِدِ:
أَوَّلاً: قَائِدُ الْجَيْشِ:
أ - حُكْمُ تَوْلِيَتِهِ وَصِفَاتُهُ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ
يُوَلِّيَ عَلَى الْجَيْشِ قَائِدًا، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِدُ
رَجُلاً ثِقَةً فِي دِينِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ شُجَاعًا فِي نَفْسِهِ
يَثْبُتُ عِنْدَ الْهَرَبِ، وَيَتَقَدَّمُ عِنْدَ الطَّلَبِ، حَسَنَ
الإِْنَابَةِ، ذَا رَأْيٍ فِي السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، لِيَسُوسَ
الْجَيْشَ عَلَى اتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَتَدْبِيرِ
الْحَرْبِ فِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل
الاِجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَمَكَائِدِ الْحَرْبِ،
وَإِدَارَةِ الْمَعَارِكِ، وَأَنْ يَكُونَ عَادِلاً فِي تَعَامُلِهِ مَعَ
جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجَيْشِ، لاَ يُمَالِئُ مَنْ نَاسَبَهُ، أَوْ وَافَقَ
رَأْيَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ عَلَى مَنْ بَايَنَهُ فِي نَسَبٍ، أَوْ خَالَفَهُ
فِي رَأْيٍ، أَوْ مَذْهَبٍ، فَيَظْهَرُ مِنْ أَحْوَال الْمُبَايَنَةِ
__________
(1) سورة ق / 21.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات في غريب القرآن، المغرب في ترتيب
المعرب، والمعجم الوسيط.
(32/235)
مَا تَتَفَرَّقُ بِهِ الْكَلِمَةُ
الْجَامِعَةُ تَشَاغُلاً بِالتَّقَاطُعِ وَالاِخْتِلاَفِ (1) .
ب - مَهَامُّهُ:
4 - مَا يُسْنَدُ إلَى قَائِدِ الْجَيْشِ مِنَ الأَْعْمَال مُفَوَّضٌ إلَى
الإِْمَامِ، فَإِنْ فَوَّضَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ
الْجِهَادِ مِنْ سِيَاسَةِ الْجَيْشِ، وَتَسْيِيرِهِ وَتَدْبِيرِ
الْحَرْبِ، وَتَقْسِيمِ الْغَنَائِمِ وَعَقْدِ الصُّلْحِ، وَإِعْلاَنِ
الْهُدْنَةِ، وَبَعْثِ السَّرَايَا وَالطَّلاَئِعِ، وَعَقْدِ الرَّايَاتِ،
وَفَكِّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْجِهَادِ
وَالْحَرْبِ فَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ.
وَإِنْ قَصَرَ تَفْوِيضَهُ بِسِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَتَسْيِيرِهِ اقْتَصَرَ
عَمَلُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَتَوَلَّى تَسْيِيرَ الطَّلاَئِعِ، وَإِرْسَال
الْجَوَاسِيسِ لِنَقْل أَخْبَارِ الْكُفَّارِ إلَيْنَا، كَمَا يَتَوَلَّى
بَعْثَ السَّرَايَا، وَعَقْدِ الرَّايَاتِ وَتَعْيِينِ الأُْمَرَاءِ
عَلَيْهِمْ، وَأَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْجِهَادِ،
وَعَدَمِ الْفِرَارِ وَالطَّاعَةِ.
كَمَا أَنَّ مَنْ حَقِّ الْقَائِدِ أَنْ يُصْدِرَ أَوَامِرَهُ إلَى
جَيْشِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ الْجُنُودِ طَاعَةُ أَوَامِرِهِ فِي الْمَنْشَطِ
وَالْمَكْرَهِ، إلاَّ مَا كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ
طَاعَةَ (2) ، لِحَدِيثِ: لاَ طَاعَةَ فِي
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص37، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص41،
مغني المحتاج 4 / 220، المغني لابن قدامة 8 / 366.
(2) المصادر السابقة.
(32/235)
مَعْصِيَةِ اللَّهِ (1) .
ج - آدَابُهُ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ آدَابًا كَثِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى
بِهَا قَائِدُ الْجَيْشِ نُلَخِّصُهَا فِيمَا يَأْتِي:
(1) الرِّفْقُ بِالْجُنُودِ فِي السَّيْرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ
أَضْعَفُهُمْ وَيَحْفَظُ بِهِ قُوَّةَ أَقْوَاهُمْ، وَلاَ يَجِدُّ فِي
السَّيْرِ فَيُهْلِكَ الضَّعِيفَ، وَيَسْتَفْرِغَ جَلَدَ الْقَوِيِّ (2) ،
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذَا
الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِل فِيهِ بِرِفْقٍ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ
أَرْضًا قَطَعَ وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى (3) .
لَكِنْ إنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إلَى الْجَدِّ فِي السَّيْرِ جَازَ لَهُ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّ فِي السَّيْرِ
جَدًّا شَدِيدًا حِينَ بَلَغَهُ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ:
لَيُخْرِجَنَّ الأَْعَزُّ مِنْهَا الأَْذَل، لِيُشْغِل النَّاسَ عَنِ
الْخَوْضِ فِي كَلاَمِ ابْنِ أُبَيٍّ (4) .
(2) أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُمْ وَأَحْوَال مَا يَمْتَطُونَهُ مِنْ
دَوَابَّ وَمَرْكَبَاتٍ، فَيُخْرِجَ مِنْهَا مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى
السَّيْرِ، وَيَمْنَعَ مَنْ يَحْمِل عَلَيْهَا مَا يَزِيدُ
__________
(1) حديث: " لا طاعة في معصية الله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 233)
ومسلم (3 / 1469) من حديث علي بن أبي طالب، واللفظ لمسلم.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص35.
(3) حديث: " إن هذا الدين متين. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 /
62) وقال:، رواه البزار، وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل، وهو كذاب.
(4) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " جد في السير جدًّا شديدًا ". أورده
ابن كثير في البداية والنهاية (4 / 157) وعزاه إلى ابن إسحاق.
(32/236)
عَنْ طَاقَتِهَا، كَمَا يَمْنَعُ مَا
يُظْهِرُ الْجَيْشَ الإِْسْلاَمِيَّ بِمَظْهَرِ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}
(1) .
(3) أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَال مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ
صِنْفَانِ:
(أ) أَصْحَابُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْل الْفَيْءِ وَالْجِهَادِ: (الْجُنُودُ
النِّظَامِيُّونَ) الَّذِينَ يُفْرَضُ لَهُمُ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ
الْمَال.
(ب) الْمُتَطَوِّعَةُ، وَهُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْل
الْبَوَادِي وَالأَْعْرَابِ وَسُكَّانِ الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ الَّذِينَ
خَرَجُوا فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ، اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيل اللَّهِ} (2) .
(4) أَنْ يُعَرِّفَ عَلَى الْجُنُودِ الْعُرَفَاءَ، وَيُنَقِّبَ عَلَيْهِمُ
النُّقَبَاءَ، لِيَعْرِفَ مِنْ عُرَفَائِهِمْ وَنُقَبَائِهِمْ
أَحْوَالَهُمْ، وَيَقْرَبُونَ عَلَيْهِ إذَا دَعَاهُمْ، لِفِعْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغَازِيهِ (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 60.
(2) سورة التوبة / 41.
(3) حديث رفع العرفاء الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري
(فتح الباري 13 / 168) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.
(32/236)
(5) أَنْ يَجْعَل لِكُل طَائِفَةٍ مِنَ
الْجَيْشِ شِعَارًا يَتَدَاعَوْنَ إلَيْهِ، لِيَصِيرُوا مُتَمَيِّزِينَ
بِهِ، وَبِالاِجْتِمَاعِ فِيهِ مُتَظَافِرِينَ، لِمَا رَوَى عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ - يَوْمَ
بَدْرٍ - يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي
عَبْدِ اللَّهِ، وَشِعَارَ الأَْوْسِ يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَمَّى
خَيْلَهُ خَيْل اللَّهِ (1) .
(6) أَنْ يَتَصَفَّحَ الْجَيْشَ وَمَنْ فِيهِ لِيُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ
كَانَ فِيهِ تَخْذِيلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِرْجَافٌ لِلْمُجَاهِدَيْنِ،
أَوْ عَيْنًا عَلَيْهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ.
(7) أَنْ يَحْرُسَ جُنُودَهُ مِنْ غِرَّةٍ وَخُدْعَةٍ يَظْفَرُ بِهَا
الْعَدُوُّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَتَبَّعَ الْمَكَامِنَ فَيَحْفَظَهَا
عَلَيْهِمْ، وَيُحَوِّطَ أَسْوَارَهُمْ بِحَرَسٍ يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَرِحَالِهِمْ، لِيَسْكُنُوا فِي وَقْتِ الدَّعَةِ،
وَيَأْمَنُوا مَا وَرَاءَهُمْ فِي وَقْتِ الْمُحَارَبَةِ.
(8) أَنْ يَتَخَيَّرَ لِجُنُودِهِ الْمَنَازِل لِمُحَارَبَةِ عَدُوِّهِمْ
لِيَكُونَ أَعْوَنَ لَهُمْ عَلَى الْمُنَازَلَةِ.
(9) أَنْ يُعِدَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجَيْشُ مِنْ زَادٍ وَعَلَفٍ،
وَوُقُودٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِيُوَزَّعَ
عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ حَتَّى تَسْكُنَ
__________
(1) حديث عروة بن الزبير: " جعل رسول الله شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني
عبد الرحمن. . . ". أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3 / 70) .
(32/237)
نُفُوسُهُمْ إلَى مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ
عَنِ الطَّلَبِ، لِيَكُونُوا عَلَى الْحَرْبِ أَوْفَرَ، وَعَلَى
مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ أَقْدَر.
(10) أَنْ يَعْرِفَ أَخْبَارَ عَدُوِّهِ حَتَّى يَقِفَ عَلَيْهِمْ
وَيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَهُمْ، فَيَأْمَنَ مَكْرَهُمْ، وَيَلْتَمِسَ
الْغِرَّةَ فِي الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ.
(11) أَنْ يُرَتَّبَ الْجَيْشَ فِي مَصَافِّ الْحَرْبِ، وَأَنْ يُعَوِّل
مِنْ كُل جِهَةٍ عَلَى مَنْ يَرَاهُ كُفْئًا لَهَا، وَيُرَاعِيَ كُل جِهَةٍ
يَمِيل الْعَدُوُّ عَلَيْهَا بِمَدَدٍ يَكُونُ عَوْنًا لَهَا.
(12) أَنْ يُقَوِّيَ نُفُوسَهُمْ بِمَا يُشْعِرُهُمُ الظَّفَرَ، وَيُخَيِّل
لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ لِيَقِل الْعَدُوُّ فِي أَعْيُنِهِمْ،
فَيَكُونُوا عَلَيْهِ أَجْرَأ، قَال تَعَالَى: {إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ
فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَْمْرِ} (1) .
(13) أَنْ يَعِدَ أَهْل الصَّبْرِ وَالْبَلاَءِ مِنْهُمْ بِثَوَابٍ فِي
الآْخِرَةِ، وَالنَّفَل مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي الدُّنْيَا، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الآْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}
(2) .
(14) أَنْ يُشَاوِرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنَ الْجَيْشِ فِيمَا أَعْضَل مِنَ
الأُْمُورِ، وَيَرْجِعَ إلَى أَهْل الْحَزْمِ فِيمَا أَشْكَل عَلَيْهِ،
لِيَأْمَنَ مِنَ الْخَطَأِ، وَيَسْلَمَ مِنَ
__________
(1) سورة الأنفال / 43.
(2) سورة آل عمران / 145.
(32/237)
الزَّلَل، فَيَكُونَ مِنَ الظَّفَرِ
أَقْرَبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) ، فَقَدْ أَمَرَهُ
بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ مَا أَمَدَّهُ مِنَ التَّوْفِيقِ وَأَعَانَهُ مِنَ
التَّأْيِيدِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ الآْخَرُونَ.
(15) أَنْ يَأْخُذَ جَيْشَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
حُقُوقِهِ حَتَّى لاَ يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَجَوُّزٌ فِي الدِّينِ.
(16) أَنْ لاَ يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ أَنْ يَتَشَاغَل
بِتِجَارَةٍ، أَوْ زِرَاعَةٍ يَصْرِفُهُ الاِهْتِمَامُ بِهَا عَنْ
مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ.
(17) أَنْ يَدْخُل دَارَ الْحَرْبِ بِنَفْسِهِ لأَِنَّهُ أَحْوَطُ
وَأَرْهَبُ، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً لِجُنُودِهِ.
(18) أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَاعَتَانِ تُفْتَحُ
فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ: عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاَةِ، وَعِنْدَ
الصَّفِّ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) .
(19) أَنْ يَسْتَنْصِرَ بِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلاَّ
بِضُعَفَائِكُمْ (3) .
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) حديث: " ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء. . . ". أخرجه ابن حبان (5 /
5) من حديث سهل بن سعد، وصححه ابن حجر في نتائج الأفكار (1 / 379) .
(3) حديث: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ". أخرجه البخاري (فتح الباري
6 / 88) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(32/238)
(20) أَنْ يُكَبِّرَ - أَثْنَاءَ لِقَاءِ
الْعَدُوِّ - بِلاَ إسْرَافٍ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ.
(21) أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّل النَّهَارِ إنْ
أَمْكَنَ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ
يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (1) .
(22) أَنْ يَعْرِضَ الإِْسْلاَمَ عَلَى الْكُفَّارِ قَبْل بَدْءِ الْقِتَال
مَعَهُمْ إنْ عَلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ (2) ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى
الْيَمَنِ اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ
وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ (3) .
ثَانِيًا: قَائِدُ الدَّابَّةِ:
6 - الأَْصْل فِي جِنَايَةِ الدَّابَّةِ أَنَّهَا هَدَرٌ، إلاَّ أَنَّ
الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ قَائِدَ الدَّابَّةِ وَرَاكِبَهَا
وَسَائِقَهَا إذَا حَصَل مِنْهُ تَقْصِيرٌ أَوْ تَعَدٍّ فِي
اسْتِعْمَالِهَا، وَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ جِنَايَةٌ أَوْ إتْلاَفٌ، كَانَ
الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسْبِيبِ (4) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
__________
(1) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم " كان يحب أن يخرج يوم الخميس ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 8 / 113) من حديث كعب ابن مالك.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 366، مغني المحتاج 4 / 220، الأحكام السلطانية
للماوردي ص35 وما بعدها، وللقاضي أبي يعلى ص39 وما بعدها.
(3) حديث: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 261) من حديث ابن عباس.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 386 وما بعدها، مغني المحتاج 4 / 204 وما بعدها،
ومجلة الأحكام العدلية مادة (931 - 940) .
(32/238)
أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُل
الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ
فَهُوَ ضَامِنٌ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 104 وَمَا بَعْدَهَا) .
قَائِفٌ
اُنْظُرْ: قِيَافَةٌ
__________
(1) حديث: " من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في أسواقهم فأوطأت يد
رجل فهو ضامن ". أخرجه البيهقي (8 / 344) من حديث النعمان بن بشير، ثم ذكر
تضعيف روايين في إسناده.
(32/239)
قَابِلَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَابِلَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تَتَلَقَّى
الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، وَجَمْعُهَا قَوَابِل، وَالْقَابِلَةُ
أَيْضًا: اللَّيْلَةُ الْمُقْبِلَةُ. وَالْقَبَل: لُطْفُ الْقَابِلَةِ
لإِِخْرَاجِ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّبِيبُ:
2 - الطَّبِيبُ هُوَ: مَنْ حِرْفَتُهُ الطِّبُّ أَيِ الَّذِي يُعَالِجُ
الْمَرْضَى.
وَالطِّبُّ فِي اللُّغَةِ: الْحِذْقُ وَالْمَهَارَةُ وَحُسْنُ الاِحْتِيَال
وَالسِّحْرُ وَالدَّأْبُ وَالْعَادَةُ وَعِلاَجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ،
وَطَبَّهُ يَطِبُّهُ طِبًّا مِنْ بَابِ قَتَل: دَاوَاهُ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمغرب في ترتيب
المعرب.
(32/239)
وَالاِسْمُ: الطِّبُّ: بِالْكَسْرِ
وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ طِبِّيٌّ عَلَى لَفْظِهِ (1) .
وَالطَّبِيبُ قَدْ يَقُومُ بِعَمَل الْقَابِلَةِ وَيَزِيدُ فِي فُرُوعٍ
أُخْرَى مِنَ الطِّبِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَابِلَةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْقَابِلَةِ وَعَمَلِهَا أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ، مِنْهَا:
أَوَّلاً - أُجْرَةُ الْقَابِلَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْقَابِلَةِ
هَل هِيَ عَلَى الزَّوْجِ أَمْ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ:
أُجْرَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى مَنِ اسْتَأْجَرَهَا مِنَ الزَّوْجِ
وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ اسْتِئْجَارٍ - مِنْ أَحَدِهِمَا -
فَيُحْتَمَل عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ أُجْرَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ،
لأَِنَّهَا مُؤْنَةٌ مِنْ مُؤَنِ الْجِمَاعِ، وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ
عَلَى الزَّوْجَةِ كَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ أُجْرَةَ
الْقَابِلَةِ عَلَى الزَّوْجِ، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ
بِجَمِيعِ مَصَالِحِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ وِلاَدَتِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
فِي عِصْمَتِهِ أَمْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤَنِ
الْجِمَاعِ، وَلأَِنَّهُ لِمَنْفَعَةِ وَلَدِهِ، إلاَّ أَنْ تَكُونَ أَمَةً
مُطَلَّقَةً فَيَسْقُطَ ذَلِكَ عَنْهُ، لأَِنَّ
__________
(1) المراجع السابقة ومغني المحتاج 3 / 60، 4 / 210.
(2) فتح القدير 3 / 328.
(32/240)
وَلَدَهَا رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا، وَلَيْسَ
عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبْدِ سَيِّدِهَا وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أُجْرَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ أُجْرَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَتِ
الْمَنْفَعَةُ لِلْوَلَدِ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ، إنْ كَانَ عَمَل الْقَابِلَةِ يَسْتَغْنِي عَنْهُ
النِّسَاءُ فَهُوَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ
النِّسَاءُ فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَا يَنْتَفِعَانِ بِهِ
جَمِيعًا فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ كُل وَاحِدٍ
فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ فَعَلَى الزَّوْجَةِ بِالاِتِّفَاقِ
عِنْدَهُمْ (1) .
وَالأَْشْبَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى
الزَّوْجِ، لأَِنَّهُمْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ كُل مَا تَرَتَّبَ عَلَى
سَبَبٍ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ، كَثَمَنِ مَاءِ غُسْل الْجِمَاعِ
وَالنِّفَاسِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ مُؤَنِ الْجِمَاعِ فَيَجِبُ عَلَى
الزَّوْجِ تَوْفِيرُهُ لَهَا (2) .
ثَانِيًا - نَظَرُ الْقَابِلَةِ إلَى الْعَوْرَةِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ أَنْ تَنْظُرَ
إلَى عَوْرَةِ مَنْ تَتَوَلَّى وِلاَدَتَهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ
تُبَاشِرَ هَذِهِ الْعَوْرَةَ بِالْمَسِّ، لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إلَى
ذَلِكَ.
وَقَال أَحْمَدُ: لاَ تَنْظُرُ الْيَهُودِيَّةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 184، وجواهر الإكليل 1 / 403.
(2) مغني المحتاج 3 / 430.
(32/240)
إلَى فَرْجِ الْمُسْلِمَةِ وَلاَ
تَقْبَلُهَا حِينَ تَلِدُ (1) .
ثَالِثًا - شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُقْبَل شَهَادَةُ الْقَوَابِل
فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلاَّ النِّسَاءُ لِقَوْل الزُّهْرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي أَنْ تَجُوزَ
شَهَادَةُ النِّسَاءِ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، فِيمَا يَلِينَ مِنْ
وِلاَدَةِ الْمَرْأَةِ، وَاسْتِهْلاَل الْجَنِينِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ الَّذِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَلاَ يَلِيهِ
إلاَّ هُنَّ، فَإِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ الَّتِي تَقْبَل
النِّسَاءَ فَمَا فَوْقَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي اسْتِهْلاَل
الْجَنِينِ جَازَتْ (2) .
فَإِذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ أَوِ الْوَرَثَةُ وُقُوعَ الْوِلاَدَةِ، أَوْ
وُجُودَ الْحَمْل أَوِ الاِسْتِهْلاَل، وَشَهِدَتِ الْقَابِلَةُ عَلَى
ذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا، فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْمَوْلُودِ
وَيَشْتَرِكُ فِي الإِْرْثِ مَعَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَكَذَا إذَا
ادَّعَتِ الْمُطَلَّقَةُ أَنَّهَا حَامِلٌ وَعُرِضَ عَلَيْهَا الْقَوَابِل،
فَذَكَرْنَ أَنَّهَا حَامِلٌ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ، وَلَزِمَ عَلَى
مُطَلِّقِهَا النَّفَقَةُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا
أَمْ رَجْعِيًّا، لأَِنَّ هَذَا مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي لاَ يَطَّلِعُ
عَلَيْهَا الرِّجَال غَالِبًا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَكَذَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَالَةِ عَدَمِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ إلى
أَنَّهُ لاَ تُقْبَل
__________
(1) فتح القدير 5 / 121، ومواهب الجليل 1 / 499، مغني المحتاج 3 / 133،
والمغني لابن قدامة 6 / 562.
(2) قول الزهري: أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8 / 333) .
(32/241)
شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ الْوَاحِدَةِ،
وَلاَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حَقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ،
سَوَاءٌ كَانَ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ، لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ،
وَلأَِنَّ هَذَا لاَ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ
أَقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِالأَْقْوَى فَلاَ يَثْبُتُ بِمَا دُونَهُ
مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبَا أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِقَوْل امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ
بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ وَالْعَدَالَةِ، لأَِنَّ
هَذَا مَوْضُوعٌ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، فَلاَ
يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ فِي الرَّضَاعِ،
وَلِمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ (1) .
وَوَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ صَاحِبَيْهِ وَمَنْ مَعَهُمَا فِي قَبُول قَوْل
الْقَابِلَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا كَانَ النِّكَاحُ مَازَال قَائِمًا
وَجَحَدَ الزَّوْجُ الْوِلاَدَةَ فَشَهِدَتْ بِوُقُوعِهَا، لِتَأْيِيدِهَا
بِقِيَامِ الْفِرَاشِ، وَيَثْبُتُ بِذَلِكَ نَسَبُ الْوَلَدِ بِشَرْطِ أَنْ
يُولَدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، وَلأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ
لَهُ مَا لاَ يُحْتَاطُ لِغَيْرِهِ (2) .
__________
(1) حديث حذيفة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة ".
أخرجه الدارقطني (4 / 332) وذكر أن في إسناده رجلاً مجهولاً، ونقل الزيلعي
في نصب الراية (4 / 80) عن ابن عبد الهادي أنه قال: " حديث باطل ".
(2) فتح القدير 3 / 306 وما بعدها، جواهر الإكليل 2 / 239، ومغني المحتاج 4
/ 442، 443، والمغني لابن قدامة 7 / 581، 610، 9 / 155 وما بعدها.
(32/241)
قَاتِلٌ
اُنْظُرْ: قَتْلٌ
قَاذِفٌ
اُنْظُرْ: قَذْفٌ
قَاسِمٌ
اُنْظُرْ: قِسْمَةٌ
(32/242)
قَاصِرٌ
اُنْظُرْ: صِغَرٌ
قَاضِي
اُنْظُرْ: قَضَاءٌ
قَافَةٌ
اُنْظُرْ: قِيَافَةٌ
(32/242)
قَبَالَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ: الْكَفَالَةُ وَهِيَ مَصْدَرُ قَبَل
فُلاَنًا: إذَا كَفَلَهُ وَيُقَال: قَبُل بِالضَّمِّ إذَا صَارَ قَبِيلاً:
أَيْ كَفِيلاً، وَتُطْلَقُ الْقَبَالَةُ عَلَى الصَّكِّ الَّذِي يُكْتَبُ
فِيهِ الدَّيْنُ، وَنَحْوُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا
أَوْ بَلْدَةً أَوْ قَرْيَةً إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً
بِمَالٍ مَعْلُومٍ يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهَا، وَجِزْيَةِ
رُءُوسِ أَهْلِهَا إنْ كَانُوا أَهْل ذِمَّةٍ، وَيَكْتُبَ لَهُ بِذَلِكَ
كِتَابًا (2) .
وَعَرَّفَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ بِأَنَّهُ: أَنْ يَتَقَبَّل بِخَرَاجٍ أَوْ
جِبَايَةٍ أَكْثَر مِمَّا أَعْطَى (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْقْطَاعُ:
2 - الإِْقْطَاعُ مِنْ قَطَعَ لَهُ، وَأَقْطَعَ لَهُ، وَاسْتَقْطَعَهُ:
سَأَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ لَهُ فَقَطَعَ.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4 / 10، ولسان العرب وابن عابدين 4
/ 145.
(2) الرتاج شرح كتاب الخراج لأبي يوسف 2 / 3.
(3) النهاية في غريب الحديث 4 / 10.
(32/243)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ
الإِْقْطَاعُ عَلَى مَا يَقْطَعُهُ الإِْمَامُ - أَيْ يُعْطِيهِ - مِنَ
الأَْرَاضِيِ رَقَبَةً، أَوْ مَنْفَعَةً لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْقْطَاعِ وَالْقَبَالَةِ أَنَّ الإِْقْطَاعَ
أَعَمُّ مِنَ الْقَبَالَةِ، لأَِنَّ الإِْقْطَاعَ قَدْ يَكُونُ بِبَدَلٍ
أَوْ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، أَمَّا الْقَبَالَةُ، فَلاَ تَكُونُ إلاَّ
بِبَدَلٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْقَبَالَةَ غَيْرُ
مَشْرُوعَةٍ وَبَاطِلَةٌ شَرْعًا (2) ، لأَِنَّ الْعَامِل مُؤْتَمَنٌ
يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ، وَيُؤَدِّي مَا حَصَّل، فَهُوَ كَالْوَكِيل
الَّذِي إذَا أَدَّى الأَْمَانَةَ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانًا، وَلَمْ
يَمْلِكْ زِيَادَةً، وَضَمَانُ الأَْمْوَال بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ يَقْتَضِي
الاِقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِ مَا زَادَ، وَغُرْمِ مَا نَقَصَ،
وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْعِمَالَةِ وَحُكْمِ الأَْمَانَةِ فَبَطَل،
وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عَسْفِ أَهْل الْخَرَاجِ، وَالْحَمْل
عَلَيْهِمْ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَظُلْمِهِمْ، وَأَخْذِهِمْ بِمَا
يُجْحِفُ بِهِمْ، لأَِنَّ الْمُتَقَبِّل لاَ يُبَالِي مَا يُصِيبُ أَهْل
الْخَرَاجِ.
جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو يُوسُفَ إلَى الْخَلِيفَةِ
الرَّشِيدِ: رَأَيْتُ أَنْ لاَ تُقْبِل شَيْئًا مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 392.
(2) الأحكام السلطانية ص176، والخراج لأبي يوسف 2 / 3، والأموال لأبي عبيد
370، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 186.
(32/243)
السَّوَادِ وَلاَ غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ
الْبُلْدَانِ، فَإِنَّ الْمُتَقَبِّل - إذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ
عَنِ الْخَرَاجِ - عَسَفَ أَهْل الْخَرَاجِ، وَحَمَل عَلَيْهِمْ مَا لاَ
يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ،
لِيَسْلَمَ مِمَّا يَدْخُل فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ
الْبِلاَدِ، وَهَلاَكُ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُتَقَبِّل لاَ يُبَالِي
بِهَلاَكِهِمْ لِصَلاَحِ أَمْرِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِل بَعْدَ
مَا يَتَقَبَّل بِهِ فَضْلاً كَبِيرًا، وَلاَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلاَّ
بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ،
وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ، وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي
الأَْعْنَاقِ، وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَال أَهْل الْخَرَاجِ مِنْهُ، وَهَذَا
مَا لاَ يَحِل، وَلاَ يَصْلُحُ، وَلاَ يَسَعُ، وَالْحَمْل عَلَى أَهْل
الْخَرَاجِ بِمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى
اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل أَنْ يُؤْخَذَ
مِنْهُمُ الْعَفْوُ، وَلاَ يَحِل أَنْ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ،
وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ لأَِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يُحَمِّل هَذَا
الْمُتَقَبِّل عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ،
فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَك، فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ،
فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا وَيَدَعُوهُ، فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ،
فَلَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْفَسَادِ شَيْءٌ، وَلَنْ يَقِل مَعَ الصَّلاَحِ
شَيْءٌ، إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى عَنِ الْفَسَادِ (1) ، قَال اللَّهُ عَزَّ
وَجَل: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ بَعْدَ إصْلاَحِهَا} (2) .
__________
(1) كتاب الخراج 2 / 3 وما بعدها.
(2) سورة الأعراف / 56.
(32/244)
وَاسْتَدَلُّوا بِآثَارٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
أَيْضًا، فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ: قَال: قُلْتُ لاِبْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إنَّا نَتَقَبَّل الأَْرْضَ فَنُصِيبُ
مِنْ ثِمَارِهَا - يَعْنِي الْفَضْل - قَال: ذَلِكَ الرِّبَا الْعَجْلاَنُ،
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فَقَال: أَتَقَبَّل مِنْكَ الأَْيْلَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ،
فَضَرَبَهُ مِائَةً وَصَلَبَهُ حَيًّا. وَرَوَى أَبُو هِلاَلٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَال: الْقَبَالاَتُ حَرَامٌ،
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: إنَّهَا رِبًا (1) .
__________
(1) الأموال لأبي عبيد 37، والأحكام السلطانية للماوردي 176، والنهاية في
غريب الحديث لابن الأثير 4 / 10.
(32/244)
قَبْر
التَّعْرِيفُ:
1 - الْقَبْرُ: مَدْفَنُ الإِْنْسَانِ، يُقَال قَبَرَهُ يَقْبِرُهُ
وَيَقْبُرُهُ قَبْرًا وَمَقْبَرًا: دَفَنَهُ، وَأَقْبَرَهُ: جَعَل لَهُ
قَبْرًا، وَالْمَقْبَرَةُ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا: مَوْضِعُ
الْقُبُورِ أَيْ مَوْضِعُ دَفْنِ الْمَوْتَى.
وَالْقَابِرُ: الدَّافِنُ بِيَدِهِ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبْرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - احْتِرَامُ الْقَبْرِ:
2 - الْقَبْرُ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا تَوْقِيرًا لِلْمَيِّتِ، وَمِنْ ثَمَّ
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ وَطْءِ الْقَبْرِ وَالْمَشْيِ
عَلَيْهِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوطَأَ الْقُبُورُ (2) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ خَصُّوا الْكَرَاهَةَ بِمَا إذَا كَانَ
مُسَنَّمًا، كَمَا اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَطْءَ
__________
(1) لسان العرب، وتهذيب الأسماء واللغات، والمغرب.
(2) حديث: " نهى أن توطأ القبور ". أخرجه الترمذي (3 / 359) من حديث جابر
بن عبد الله، وقال: حديث حسن صحيح.
(32/245)
الْقَبْرِ لِلْحَاجَةِ مِنَ الْكَرَاهَةِ
كَمَا إذَا كَانَ لاَ يَصِل إلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ إلاَّ بِوَطْءِ قَبْرِ
آخَرَ.
3 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - إلَى كَرَاهَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، لِمَا
رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَجْلِسُوا عَلَى
الْقُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إلَيْهَا (1) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لأََنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ
ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى
قَبْرٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الاِتِّكَاءِ
عَلَى الْقَبْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ قَال: رَآنِي
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا عَلَى قَبْرٍ
فَقَال: يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ، انْزِل مِنْ عَلَى الْقَبْرِ لاَ تُؤْذِ
صَاحِبَ الْقَبْرِ وَلاَ يُؤْذِيكَ (3) ، وَكَذَا يُكْرَهُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ الاِسْتِنَادُ إلَيْهِ.
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّخَلِّي عَلَى
__________
(1) حديث: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " أخرجه مسلم (2 / 668)
.
(2) حديث: " لأن يجلس أحدكم على جمرة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 667) .
(3) حديث عمارة بن حزم " رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على
قبر. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 61) وقال:، رواه الطبراني
في الكبير، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام وقد وثق.
(32/245)
الْقُبُورِ، لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأََنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ، أَوْ
أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى
قَبْرِ مُسْلِمٍ، وَمَا أُبَالِي أَوَسْطَ الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي
أَوْ وَسْطَ السُّوقِ (1) ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ حُرْمَةَ التَّخَلِّي
بَيْنَهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ النَّوْمِ عِنْدَ الْقَبْرِ (2) .
ب - كَيْفِيَّةُ حَفْرِ الْقَبْرِ:
أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الْقَبْرِ وَأَكْمَلُهُ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ
أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الْقَبْرِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَةَ الْمَيِّتِ
وَتَحْرُسُهُ عَنِ السِّبَاعِ لِعُسْرِ نَبْشِ مِثْلِهَا غَالِبًا.
قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ، فَيُرْجَعُ
فِيهِ إلَى مَا يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْدْنَى أَنْ يُعَمِّقَ نِصْفَ الْقَامَةِ (3) .
أَمَّا الأَْكْمَل: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالأَْكْثَرُ مِنَ
__________
(1) حديث: " لأن أمشي على جمرة أو سيف. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 499)
وجود إسناده المنذري في الترغيب (4 / 280) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 606، وحاشية الدسوقي 1 / 428، وروضة الطالبين 2 /
139، والقليوبي وعميرة 1 / 342، وكشاف القناع 2 / 140.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 599، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 429،
وروضة الطالبين 2 / 132، وكشاف القناع 2 / 134.
(32/246)
الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
تَوْسِيعُ الْقَبْرِ وَتَعْمِيقُهُ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ،
وَالْمُرَادُ قَامَةُ رَجُلٍ مُعْتَدِلٍ يَقُومُ وَيَبْسُطُ يَدَهُ
مَرْفُوعَةً، فَقَدْ أَوْصَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعَمَّقَ
قَبْرُهُ قَامَةً وَبَسْطَةً (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ حَدَّ
لأَِكْثَرِهِ لَكِنْ يُنْدَبُ عَدَمُ عُمْقِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَال: لاَ
تُعَمِّقُوا قَبْرِي فَإِنَّ خَيْرَ الأَْرْضِ أَعْلاَهَا وَشَرَّهَا
أَسْفَلُهَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إلَى أَنَّهُ
يُسَنُّ تَعْمِيقُ الْقَبْرِ وَتَوْسِيعُهُ بِلاَ حَدٍّ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ:
احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا وَأَحْسِنُوا (3) ، وَلأَِنَّ تَعْمِيقَ الْقَبْرِ
أَنْفَى لِظُهُورِ الرَّائِحَةِ الَّتِي تَسْتَضِرُّ بِهَا الأَْحْيَاءُ،
وَأَبْعَدُ لِقُدْرَةِ الْوَحْشِ عَلَى نَبْشِهِ وَآكَدُ لِسَتْرِ
الْمَيِّتِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ قَامَةٍ،
وَطُولُهُ عَلَى طُول قَدْرِ الْمَيِّتِ، وَعَرْضُهُ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 132، وكشاف القناع 2 / 134.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 419، 429، وحاشية العدوي على
الخرشي 2 / 130، 145.
(3) حديث: " احفروا وأعمقوا وأحسنوا ". أخرجه النسائي (4 / 81) من حديث
هشام بن عامر، وأخرجه الترمذي (4 / 213) بلفظ مقارب وقال: " حديث حسن صحيح
".
(4) كشاف القناع 2 / 133، والإنصاف 2 / 545، والمغني 2 / 497.
(32/246)
عَلَى قَدْرِ نِصْفِ طُولِهِ (1) .
اللَّحْدُ وَالشَّقُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صِفَةَ اللَّحْدِ هِيَ أَنْ
يُحْفَرَ فِي أَسْفَل حَائِطِ الْقَبْرِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ
مِقْدَارُ مَا يَسَعُ الْمَيِّتَ وَيُجْعَل ذَلِكَ كَالْبَيْتِ
الْمَسْقُوفِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الشَّقِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُحْفَرُ فِي وَسْطِ الْقَبْرِ حَفِيرَةٌ
يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهَا وَيُبْنَى جَانِبَاهَا بِاللَّبِنِ أَوْ
غَيْرِهِ وَيُسْقَفُ عَلَيْهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الشَّقُّ هُوَ أَنْ يُحْفَرَ فِي أَسْفَل
الْقَبْرِ أَضْيَق مِنْ أَعْلاَهُ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ الْمَيِّتَ ثُمَّ
يُغَطَّى فَمُ الشَّقِّ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّحْدَ أَفْضَل مِنَ الشَّقِّ مِنْ
حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا (2) .
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَال فِي مَرَضِ مَوْتِهِ:
أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا
صُنِعَ بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ رِخْوَةً فَلاَ بَأْسَ
بِالشَّقِّ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 599، والفتاوى الهندية 1 / 166.
(2) حديث: " اللحد لنا والشق لغيرنا ". أخرجه الترمذي (3 / 354) من حديث
ابن عباس، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) أثر سعد بن أبي وقاص " أنه قال في مرض موته. . . ". أخرجه مسلم (2 /
665) .
(32/247)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
بِأَفْضَلِيَّةِ الشَّقِّ فِي الأَْرْضِ غَيْرِ الصُّلْبَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إنْ كَانَتِ الأَْرْضُ رِخْوَةً لاَ يَثْبُتُ
فِيهَا اللَّحْدُ شُقَّ لِلْحَاجَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَل فِيهَا
اللَّحْدُ مِنَ الْجَنَادِل وَاللَّبِنِ وَالْحِجَارَةِ جُعِل وَلَمْ
يُعْدَل إلَى الشَّقِّ (1) .
اتِّخَاذُ التَّابُوتِ فِي الدَّفْنِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي
التَّابُوتِ إلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ
الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 11) .
ج - كَيْفِيَّةُ إدْخَال الْمَيِّتِ الْقَبْرَ وَوَضْعِهِ فِيهِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخَل
الْمَيِّتُ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ جِهَتِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَل الْمَيِّتُ فِي
قَبْرِهِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ كَانَ وَالْقِبْلَةُ أَوْلَى.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ
يُوضَعَ الْمَيِّتُ عِنْدَ آخِرِ الْقَبْرِ ثُمَّ يُسَل مِنْ قِبَل
رَأْسِهِ مُنْحَدِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَفْنٌ ف 8)
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 599، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 1 / 419، والفتاوى الهندية 1 / 165، وروضة الطالبين 2 / 133، وكشاف
القناع 2 / 133.
(32/247)
د - تَغْطِيَةُ الْقَبْرِ حِينَ الدَّفْنِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَغْطِيَةُ
قَبْرِ الْمَرْأَةِ حِينَ الدَّفْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْطِيَةِ قَبْرِ
الرَّجُل. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 10)
هـ - الْجُلُوسُ عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ:
10 - قَال الطَّحَاوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَفَنَ الْمَيِّتَ الْجُلُوسُ
عِنْدَ قَبْرِهِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 45) .
و دَفْنُ أَكْثَرَ مِنْ مَيِّتٍ فِي الْقَبْرِ:
11 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُدْفَنُ أَكْثَرُ مِنْ مَيِّتٍ فِي الْقَبْرِ
الْوَاحِدِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَدْفِنُ كُل مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ فِعْل
الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إلاَّ لِلضَّرُورَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ ادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ
وَالثَّلاَثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْنِ أَكْثَرَ مِنْ مَيِّتٍ فِي
الْقَبْرِ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى
الْكَرَاهَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى الْحُرْمَةِ.
__________
(1) حديث: " ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد ". أخرجه الترمذي (4 /
213) من حديث هشام بن عامر، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(32/248)
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: الْكَرَاهَةُ هُوَ
مَا مَشَى عَلَيْهِ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرُهُ وَاعْتَمَدَهُ بَعْضُ
شُيُوخِنَا، وَاعْتَمَدَ شَيْخُنَا الزِّيَادِيُّ وَشَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ
أَنَّهُ حَرَامٌ وَلَوْ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَوِ الْمَحْرَمِيَّةِ
أَوِ الصِّغَرِ، وَلَوْ دُفِنَ لَمْ يُنْبَشْ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ كَيْفِيَّةُ وَضْعِهِمْ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ فِي
مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 14) .
ز - تَسْنِيمُ الْقَبْرِ وَتَسْطِيحُهُ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ
تَسْنِيمَ الْقَبْرِ - أَيْ جَعْل التُّرَابِ مُرْتَفِعًا عَلَيْهِ
كَسَنَامِ الْجَمَل - مَنْدُوبٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ سُفْيَانِ التَّمَّارِ
أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُسَنَّمًا (2) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُرْفَعُ قَدْرَ شِبْرٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ شَيْئًا قَلِيلاً.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ فَيُتَوَقَّى،
وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ
الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ (3) ، وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَال:
دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَة فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ، اكْشِفِي
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 598، وحاشية
الدسوقي 1 / 422، والقليوبي وعميرة 1 / 341، 342، وكشاف القناع 2 / 143.
(2) حديث سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مُسنَّمًا.
أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 255) .
(3) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر
". أخرجه البيهقي (3 / 410) ورجح إرساله.
(32/248)
لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَكَشَفَتْ
لِي عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ، لاَ مُشْرِفَةٍ وَلاَ لاَطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ
بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنْ زِيدَ عَلَى التَّسْنِيمِ أَيْ مِنْ حَيْثُ
كَثْرَةُ التُّرَابِ بِحَيْثُ يَكُونُ جِرْمًا مُسَنَّمًا عَظِيمًا فَلاَ
بَأْسَ بِهِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِهِ فَوْقَ شِبْرٍ
لِحَدِيثِ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَْسَدِيِّ قَال: قَال لِي عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ: أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً
إلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلاَّ سَوَّيْتَهُ (2) .
قَالُوا: وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا، بِدَلِيل مَا سَبَقَ عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ " لاَ مُشْرِفَةٍ وَلاَ لاَطِئَةٍ " وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ بِكَرَاهَةِ التَّسْنِيمِ وَنَدْبِ
التَّسْطِيحِ، أَيْ يُجْعَل عَلَيْهِ سَطْحٌ كَالْمِصْطَبَةِ وَلَكِنْ لاَ
يُسَوَّى ذَلِكَ السَّطْحُ بِالأَْرْضِ بَل يُرْفَعُ كَشِبْرٍ، وَقِيل
يُرْفَعُ قَلِيلاً بِقَدْرِ مَا يُعْرَفُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ تَسْطِيحَ الْقَبْرِ
__________
(1) حديث القاسم بن محمد: " دخلت على عائشة. . . ". أخرجه أبو داود (3 /
539) . والحاكم (1 / 369) وصححه ووافقه الذهبي. والمشرفة: المرتفعة غاية
الارتفاع، واللاطئة: المستوية على وجه الأرض، والمبطوحة: المسواة المبسوطة
على الأرض، قاله ابن الملك: (عون المعبود 9 / 39 نشر دار الفكر) .
(2) حديث أبي الهياج عن علي أنه قال له: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 666) .
(32/249)
أَفْضَل مِنْ تَسْنِيمِهِ (1) .
13 - وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ
الْمُسْلِمُ فِي بِلاَدِ الْكُفَّارِ فَلاَ يُرْفَعُ قَبْرُهُ بَل يُخْفَى
لِئَلاَّ يَتَعَرَّضُوا لَهُ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: تَسْوِيَةُ قَبْرِ الْمُسْلِمِ بِالأَْرْضِ
وَإِخْفَاؤُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهِ وَتَسْنِيمِهِ،
خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْبَشَ فَيُمَثَّل بِهِ (2) .
ح - تَطْيِينُ الْقَبْرِ وَتَجْصِيصُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ:
14 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ
يُسَنُّ أَنْ يُرَشَّ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ مَاءٌ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل ذَلِكَ بِقَبْرِ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ (3) ، وَأَمَرَ بِهِ فِي قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ
مَظْعُونٍ (4) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِ حَصًى
صِغَارٌ، لِمَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ
إبْرَاهِيمَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ (5) ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 418،
وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 129، وروضة الطالبين 2 / 136، 137، والقليوبي
وعميرة على شرح المحلي 1 / 341، وكشاف القناع 2 / 138.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر سعد بن معاذ ".
أخرجه ابن ماجه (1 / 495) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 /
274) .
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برش قبر عثمان بن مظعون ".
أخرجه البزار، (كشف الأستار 1 / 397) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3 /
45) : " رجاله موثقون إلا أن شيخ البزار محمد بن عبد الله لم أعرفه ".
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ". أخرجه
الهيثمي (3 / 411) معضلاً.
(32/249)
أَثْبَتُ لَهُ وَأَبْعَدُ لِدُرُوسِهِ،
وَأَمْنَعُ لِتُرَابِهِ مِنْ أَنْ تُذْهِبَهُ الرِّيَاحُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيَحْرُمُ رَشُّهُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ،
وَيُكْرَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ (1) .
15 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْيِينِ الْقَبْرِ، فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ - فِي الْمُخْتَارِ - وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ
تَطْيِينِ الْقَبْرِ، وَنَقَل التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
لاَ بَأْسَ بِالتَّطْيِينِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ.
وَدَلِيل الْجَوَازِ قَوْل الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي وَصْفِ قَبْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ "
مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ " (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ إلَى كَرَاهَةِ تَطْيِينِ الْقَبْرِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: أَكْثَرُ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَطْيِينِهِ مِنْ فَوْقٍ،
وَنَقَل ابْنُ عَاشِرٍ عَنْ شَيْخِهِ أَنَّهُ يَشْمَل تَطْيِينَهُ ظَاهِرًا
وَبَاطِنًا (3) .
16 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ، لِمَا
رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَهَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 601، وحاشية القليوبي وعميرة
على المحلى 1 / 351، وروضة الطالبين 2 / 136، وكشاف القناع 2 / 138.
(2) حديث القاسم بن محمد تقدم تخريجه ف12.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 424،
وحاشية القليوبي 1 / 350، وروضة الطالبين 2 / 136، وكشاف القناع 2 / 138.
(32/250)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ
يُبْنَى عَلَيْهِ (1) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: التَّجْصِيصُ التَّبْيِيضُ بِالْجِصِّ وَهُوَ
الْجِيرُ.
قَال عَمِيرَةُ: وَحِكْمَةُ النَّهْيِ التَّزْيِينُ، وَزَادَ إضَاعَةَ
الْمَال عَلَى غَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ (2) .
17 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى
كَرَاهَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ فِي الْجُمْلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ:
نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ
الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ (3) .
وَسَوَاءٌ فِي الْبِنَاءِ بِنَاءُ قُبَّةٍ أَمْ بَيْتٌ أَمْ غَيْرُهُمَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ لَوْ لِلزِّينَةِ، وَيُكْرَهُ لَوْ
لِلإِْحْكَامِ بَعْدَ الدَّفْنِ.
وَفِي الإِْمْدَادِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: وَالْيَوْمَ اعْتَادُوا
التَّسْنِيمَ بِاللَّبِنِ صِيَانَةً لِلْقَبْرِ عَنِ النَّبْشِ وَرَأَوْا
ذَلِكَ حَسَنًا، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَى
الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنَاءِ فِي
الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ وَوُجُوبِ هَدْمِهِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إلاَّ إذَا كَانَ يَسِيرًا لِلتَّمْيِيزِ.
__________
(1) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر. . . ".
أخرجه مسلم (2 / 667) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي 1 / 424، وحاشية القليوبي
وعميرة 1 / 350، وكشاف القناع 2 / 140.
(3) حديث جابر تقدم تخريجه ف16.
(32/250)
كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ
تَحْوِيزِ الْقَبْرِ - بِأَنْ يُبْنَى حَوْلَهُ حِيطَانٌ تُحْدِقُ بِهِ -
وَوُجُوبِ هَدْمِ ذَلِكَ فِيمَا إذَا بُوهِيَ بِالْبِنَاءِ، أَوْ صَارَ
مَأْوًى لأَِهْل الْفَسَادِ، أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ،
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ أَوْ حَوْلَهُ فِي
الأَْرَاضِي الثَّلاَثَةِ - وَهِيَ الْمَمْلُوكَةُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ
بِإِذْنِ وَالْمَوَاتُ - حَرَامٌ عِنْدَ قَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَجَائِزٌ
عِنْدَ قَصْدِ التَّمْيِيزِ وَإِنْ خَلاَ عَنْ ذَلِكَ كُرِهَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ فِي الْبِنَاءِ فِي الْمَقْبَرَةِ
الْمُسَبَّلَةِ:
رِوَايَةٌ بِالْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ، لأَِنَّهُ تَضْيِيقٌ بِلاَ
فَائِدَةٍ وَاسْتِعْمَالٌ لِلْمُسَبَّلَةِ فِيمَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ.
وَرِوَايَةٌ بِالْمَنْعِ، صَوَّبَهَا الْبُهُوتِيُّ قَائِلاً: الْمَنْقُول
فِي هَذَا مَا سَأَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَمَّنِ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي
الْمَقْبَرَةِ، قَال: لاَ يُدْفَنُ فِيهَا، وَالْمُرَادُ لاَ يَخْتَصُّ
بِهِ وَهُوَ كَغَيْرِهِ.
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَنْ بَنَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ فِيهَا
فَهُوَ غَاصِبٌ (1) .
وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْفُسْطَاطَ وَالْخَيْمَةَ عَلَى الْقَبْرِ، لأَِنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ " أَوْصَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَنْ لاَ تَضْرِبُوا
عَلَيَّ فُسْطَاطًا وَقَال الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَرَأَى ابْنُ
عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي 1 / 424، 425، وحاشية
القليوبي 1 / 350، وكشاف القناع 2 / 139، والإنصاف 2 / 549 - 550.
(32/251)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَال: انْزِعْهُ يَا
غُلاَمُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ (1) .
ط - تَعْلِيمُ الْقَبْرِ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْلِيمِ الْقَبْرِ، فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ
الْقَبْرِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، لِمَا رُوِيَ "
أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِهِ،
فَدُفِنَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً
أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إلَيْهَا
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَرَ عَنْ
ذِرَاعَيْهِ فَحَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَال: أَتَعَلَّمُ
بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَعْلِيمُ الْقَبْرِ
بِأَنْ يُوضَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ وَنَحْوُهُمَا، قَال
الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ (3) .
19 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ،
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى
كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 139.
(2) حديث: " لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته. . . ". أخرجه أبو داود
(3 / 543) ، وحسنه ابن حجر في التلخيص (2 / 133) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425،
وروضة الطالبين 2 / 136، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 1 / 351، وكشاف
القناع 2 / 138، 139.
(32/251)
قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ
وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ (1) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنْ بُوهِيَ بِهَا حَرُمَ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: النَّقْشُ مَكْرُوهٌ وَلَوْ قُرْآنًا، وَيَنْبَغِي
الْحُرْمَةُ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى امْتِهَانِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ
لاَ بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إنِ احْتِيجَ إلَيْهَا حَتَّى لاَ يَذْهَبَ
الأَْثَرُ وَلاَ يُمْتَهَنَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ
وُجِدَ الإِْجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ
النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ ثُمَّ قَال هَذِهِ الأَْسَانِيدُ صَحِيحَةٌ
وَلَيْسَ الْعَمَل عَلَيْهَا فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ وَهُوَ عَمَلٌ
أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَيُتَقَوَّى بِمَا وَرَدَ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَل حَجَرًا
فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَال: أَتَعَلَّمُ
بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي (2) ،
فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا، نَعَمْ
يَظْهَرُ أَنَّ مَحَل هَذَا الإِْجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ
فِيهَا مَا إذَا
__________
(1) حديث جابر: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر. . . ".
أخرجه مسلم (2 / 667) دون قوله: " وأن يكتب عليه "، فهو عند الترمذي (3 /
359) .
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " حمل حجرًا فوضعها على رأس
عثمان ابن مظعون. . . ". تقدم تخريجه ف 18.
(32/252)
كَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي
الْجُمْلَةِ، حَتَّى يُكْرَهَ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ
أَوِ الشِّعْرِ أَوْ إطْرَاءُ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ (1) .
ي - زِيَارَةُ الْقُبُورِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ زِيَارَةُ الْقُبُورِ
لِلرِّجَال، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي
كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا
تُذَكِّرُ الآْخِرَةَ (2) .
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل أَحْكَامِ الزِّيَارَةِ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَارَةُ
الْقُبُورِ ف 1) ، كَمَا سَبَقَ تَفْصِيل أَحْكَامِ زِيَارَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَارَةُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 2) .
ك - نَبْشُ الْقَبْرِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ نَبْشِ الْقَبْرِ إلاَّ لِعُذْرٍ
وَغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي
تُجِيزُ نَبْشَ الْقَبْرِ كَوْنَ الأَْرْضِ مَغْصُوبَةً أَوِ الْكَفَنِ
مَغْصُوبًا أَوْ سَقَطَ مَالٌ فِي الْقَبْرِ، وَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي
هَذِهِ الأَْعْذَارِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُعَدُّ عُذْرًا وَغَرَضًا صَحِيحًا سِوَى هَذِهِ
الأَْعْذَارِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 601 - 602، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 /
425، وحاشية القليوبي وعميرة على المحلي 1 / 350، وروضة الطالبين 2 / 136،
وكشاف القناع 2 / 140.
(2) حديث: " إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور. . . ". أخرجه مسلم (2 / 672)
، وأحمد (5 / 354) من حديث بريدة إلا أن مسلمًا ليس في روايته: فزوروها. .
. الخ.
(32/252)
فَمِنَ الْعُذْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
تَعَلُّقُ حَقِّ الآْدَمِيِّ بِهِ كَأَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مَغْصُوبَةً
أَوْ أُخِذَتْ بِشُفْعَةٍ أَوْ سَقَطَ فِي الْقَبْرِ مَتَاعٌ أَوْ كَفَنٌ
بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ دُفِنَ مَعَهُ مَالٌ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ
الْمَال دِرْهَمًا، أَمَّا لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
كَمَا إذَا دُفِنَ بِلاَ غُسْلٍ أَوْ صَلاَةٍ أَوْ وُضِعَ عَلَى غَيْرِ
يَمِينِهِ أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُنْبَشُ بَعْدَ
إهَالَةِ التُّرَابِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ مَنْعِ النَّبْشِ خَمْسَ مَسَائِل:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مَغْصُوبًا سَوَاءٌ مِنَ الْمَيِّتِ
أَوْ غَيْرِهِ فَيُنْبَشُ إنْ أَبَى رَبُّهُ أَخْذَ قِيمَتِهِ وَلَمْ
يَتَغَيَّرِ الْمَيِّتُ.
الثَّانِيَةُ: إذَا دُفِنَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إذْنِهِ،
وَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: لِلْمَالِكِ
إخْرَاجُهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ طَال الزَّمَنُ أَمْ لاَ.
وَقَال اللَّخْمِيُّ: لَهُ إخْرَاجُهُ إنْ كَانَ بِالْفَوْرِ، وَأَمَّا
مَعَ الطُّول فَلَيْسَ لَهُ إخْرَاجُهُ وَجُبِرَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ.
وَقَال ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ فَلَهُ إخْرَاجُهُ،
وَإِنْ طَال فَلَهُ الاِنْتِفَاعُ بِظَاهِرِ الأَْرْضِ وَلاَ يُخْرِجُهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 602، وفتح القدير 1 / 472 ط
الأميرية 1315هـ.
(32/253)
الثَّالِثَةُ: إنْ نُسِيَ مَعَهُ مَالٌ
لِغَيْرِهِ وَلَوْ قَل، أَوْ لَهُ وَشَحَّ الْوَارِثُ وَكَانَ لَهُ بَالٌ
إنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَيِّتُ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ غَيْرُ الْوَارِثِ
عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ أَوِ الْمِثْل وَلاَ شَيْءَ لِلْوَارِثِ.
الرَّابِعَةُ: عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي دَفْنِ غَيْرِهِ فَيُنْبَشُ.
الْخَامِسَةُ: عِنْدَ إرَادَةِ نَقْلِهِ عِنْدَ تَوَافُرِ شُرُوطِ النَّقْل
(1) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ النَّبْشَ لِلضَّرُورَةِ فَقَطْ، وَمِنَ
الضَّرُورَةِ عِنْدَهُمْ: لَوْ دُفِنَ بِلاَ غُسْلٍ فَيَجِبُ نَبْشُهُ
تَدَارُكًا لِغُسْلِهِ الْوَاجِبِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلِلصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَخُشِيَ
فَسَادُهُ لَمْ يَجُزْ نَبْشُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ.
وَلَوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبَيْنِ، فَيَجِبُ نَبْشُهُ
وَإِنْ تَغَيَّرَ لِيُرَدَّ كُلٌّ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يَرْضَ
بِبَقَائِهِ، وَفِي الثَّوْبِ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ النَّبْشُ
لِرَدِّهِ لأَِنَّهُ كَالتَّالِفِ فَيُعْطَى صَاحِبُهُ قِيمَتَهُ.
وَلَوْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَالٌ فَيَجِبُ نَبْشُهُ لأَِخْذِهِ، قَال
النَّوَوِيُّ: هَكَذَا أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا، وَقَيَّدَ أَبُو إسْحَاقَ
الشِّيرَازِيُّ الْوُجُوبَ بِالطَّلَبِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 428، والخرشي على مختصر خليل 2 /
144 - 145.
(32/253)
فَعِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ يَجُوزُ وَلاَ
يَجِبُ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَوْ بَلَعَ مَال
نَفْسِهِ حَرُمَ نَبْشُهُ وَشَقُّ جَوْفِهِ لإِِخْرَاجِهِ وَلَوْ أَكْثَرَ
مِنَ الثُّلُثِ وَلَوْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ مَال غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ
إنْ لَمْ يَطْلُبْهُ صَاحِبُهُ أَوْ ضَمِنُوهُ لِصَاحِبِهِ وَإِلاَّ
وَجَبَ.
وَلَوْ دُفِنَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَيَجِبُ نَبْشُهُ وَتَوْجِيهُهُ
لِلْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَلَوْ دُفِنَتِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ رُجِيَ حَيَاةُ جَنِينِهَا فَتُنْبَشُ
وَيُشَقُّ جَوْفُهَا.
وَلَوْ دُفِنَ فِي مَسْجِدٍ فَيُنْبَشُ مُطْلَقًا وَيُخْرَجُ مِنْهُ (1) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ نَبْشَ الْقَبْرِ لِتَدَارُكِ الْوَاجِبِ
وَلِلْغَرَضِ الصَّحِيحِ.
فَمِنَ النَّبْشِ لِتَدَارُكِ الْوَاجِبِ مَا لَوْ دُفِنَ قَبْل الْغُسْل
فَيَلْزَمُ نَبْشُهُ وَيُغَسَّل تَدَارُكًا لِوَاجِبِ الْغُسْل، مَا لَمْ
يُخَفْ تَفَسُّخُهُ أَوْ تَغَيُّرُهُ.
وَلَوْ دُفِنَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَيْضًا يُنْبَشُ وَيُوَجَّهُ إلَيْهَا
تَدَارُكًا لِذَلِكَ الْوَاجِبِ.
وَلَوْ دُفِنَ قَبْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ،
لِيُوجَدَ شَرْطُ الصَّلاَةِ وَهُوَ عَدَمُ الْحَائِل، وَقَال ابْنُ
شِهَابٍ وَالْقَاضِي: لاَ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ
لإِِمْكَانِهَا عَلَيْهِ.
وَلَوْ دُفِنَ قَبْل تَكْفِينِهِ يُخْرَجُ وَيُكَفَّنُ، لِمَا
__________
(1) القليوبي وعميرة 1 / 352.
(32/254)
رَوَى سَعِيدٌ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ
الْحَضْرَمِيِّ أَنَّ رِجَالاً قَبَرُوا صَاحِبًا لَهُمْ لَمْ
يُغَسِّلُوهُ، وَلَمْ يَجِدُوا لَهُ كَفَنًا، ثُمَّ لَقُوا مُعَاذَ بْنَ
جَبَلٍ فَأَخْبَرُوهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ قَبْرِهِ ثُمَّ
غُسِّل وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كُفِّنَ بِحَرِيرٍ
هَل يُنْبَشُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: قَال فِي الإِْنْصَافِ: الأَْوْلَى عَدَمُ
نَبْشِهِ احْتِرَامًا لَهُ.
وَمِنَ النَّبْشِ لِلْغَرَضِ الصَّحِيحِ تَحْسِينُ الْكَفَنِ، لِحَدِيثِ
جَابِرٍ قَال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُول بَعْدَمَا أُدْخِل حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ
بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ
رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ (1) ، وَدَفَنَهُ فِي بُقْعَةٍ خَيْرٍ مِنْ
بُقْعَتِهِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا فَيَجُوزُ نَبْشُهُ لِذَلِكَ
وَلِمُجَاوَرَةِ صَالِحٍ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ وَكَإِفْرَادِهِ
فِي قَبْرٍ عَمَّنْ دُفِنَ مَعَهُ، لِقَوْل جَابِرٍ: دُفِنَ مَعَ أَبِي
رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ، فَجَعَلْتُهُ فِي
قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ أَبِي أَوَّل قَتِيلٍ، يَعْنِي
يَوْمَ أُحُدٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ
نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآْخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْد سِتَّةِ
أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ (2)
.
وَلَوْ دُفِنَ فِي مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ
__________
(1) حديث جابر: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي سلول. . .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 214) ومسلم (4 / 2140) .
(2) قوله: " دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 214، 215) بروايتيه.
(32/254)
فَيُنْبَشُ وَيُخْرَجُ تَدَارُكًا
لِلْعَمَل بِشَرْطِ الْوَاقِفِ لِتَعْيِينِ الْوَاقِفِ الْجِهَةَ لِغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَإِنْ دُفِنَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلاَ إذْنِ رَبِّهِ، فَلِلْمَالِكِ
إلْزَامُ دَافِنِهِ بِنَقْلِهِ لِيَفْرُغَ لَهُ مِلْكُهُ عَمَّا شَغَلَهُ
بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، قَالُوا: وَالأَْوْلَى لِلْمَالِكِ تَرْكُهُ حَتَّى
يَبْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ.
وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ عُرْفًا أَوْ رَمَاهُ
رَبُّهُ فِيهِ نُبِشَ وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ
الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَضَعَ خَاتَمَهُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال خَاتَمِي، فَدَخَل وَأَخَذَهُ،
وَكَانَ يَقُول: أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، قَال أَحْمَدُ: إذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ
مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ جَازَ أَنْ يُنْبَشَ.
وَإِنْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ غُصِبَ وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ يُنْبَشْ وَغَرِمَ
ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لإِِمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ مَعَ عَدَمِ هَتْكِ
حُرْمَتِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُرْمُ لِعَدَمِ تَرِكَةٍ نُبِشَ
الْقَبْرُ وَأُخِذَ الْكَفَنُ إنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ
بِبَذْل قِيمَةِ الْكَفَنِ وَإِنْ بَلَعَ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَكَانَ مِمَّا تَبْقَى مَالِيَّتُهُ كَخَاتَمٍ وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ
يُنْبَشْ وَغَرِمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ
عَدَمِ الضَّرَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُرْمُ نُبِشَ الْقَبْرُ وَشُقَّ
جَوْفُهُ إنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ بِبَذْل قِيمَةِ
الْمَال
__________
(1) حديث: " أن المغيرة بن شعبة وضع خاتمه في قبر النبي صلى الله عليه
وسلم. . . ". أخرجه ابن سعد في الطبقات (2 / 302) ، وقال الذهبي في تاريخ
الإسلام (قسم السيرة - ص582) هذا حديث منقطع.
(32/255)
لِرَبِّهِ وَإِلاَّ فَلاَ يُنْبَشُ، وَإِنْ
بَلَعَ مَال الْغَيْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أُخِذَ إذَا بَلِيَ الْمَيِّتُ،
لأَِنَّ مَالِكَهُ هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى مَالِهِ بِالإِْذْنِ لَهُ،
وَلاَ يُعْرَضُ لِلْمَيِّتِ قَبْل أَنْ يَبْلَى.
وَإِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ لَمْ يُنْبَشْ قَبْل أَنْ يَبْلَى، لأَِنَّ
ذَلِكَ اسْتِهْلاَكٌ لِمَال نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ
أَتْلَفَهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُنْبَشُ وَيُشَقُّ
جَوْفُهُ فَيُخْرَجُ وَيُوَفَّى دَيْنُهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ
الْمُبَادَرَةِ إلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ (1) .
ل - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ،
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ
لاَ تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ بَل تُسْتَحَبُّ، لِمَا
رَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا قَال: مَنْ دَخَل الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ فِيهَا يس
خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِهِمْ حَسَنَاتٌ (2) ،
وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ
عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَمِمَّا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ
سُورَةَ الإِْخْلاَصِ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً وَأَهْدَى
__________
(1) كشاف القناع 2 / 86، 87، 145.
(2) حديث أنس: " من دخل المقابر فقرأ فيها. . . ". أورده الزبيدي في إتحاف
المتقين (10 / 373) وعزاه إلى عبد العزيز صاحب الخلال.
(32/255)
ثَوَابَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ غُفِرَ لَهُ
ذُنُوبٌ بِعَدَدِ الْمَوْتَى فِيهَا.
وَرَوَى السَّلَفُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْطَى
لَهُ مِنَ الأَْجْرِ بِعَدَدِ الأَْمْوَاتِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ اللُّبَابِ: وَيَقْرَأُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّل الْبَقَرَةِ
إلَى الْمُفْلِحُونَ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآمَنَ الرَّسُول، وَسُورَةِ
يس، وَتَبَارَكَ الْمُلْكِ، وَسُورَةِ التَّكَاثُرِ وَالإِْخْلاَصِ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ سَبْعًا أَوْ
ثَلاَثًا.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: قَال السَّامِرِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ
عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ
بِخَاتِمَتِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إجْلاَسُ الْقَارِئِينَ
عِنْدَ الْقَبْرِ، قَال: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ،
لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل السَّلَفِ، قَال الدَّرْدِيرُ:
الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَالذِّكْرِ وَجَعْل ثَوَابِهِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُل لَهُ الأَْجْرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ.
لَكِنْ رَجَّحَ الدُّسُوقِيُّ الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 605، 607، وحاشية الدسوقي على
الشرح الكبير 1 / 423، والقليوبي وعميرة على شرح المحلي 1 / 351، وكشاف
القناع 2 / 147.
(32/256)
م - الصَّلاَةُ عَلَى الْقَبْرِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ عَلَى قَبْرِ
الْمَيِّتِ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (جَنَائِزُ ف 37) .
ن - تَقْبِيل الْقَبْرِ وَاسْتِلاَمُهُ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَقْبِيل الْقَبْرِ
وَاسْتِلاَمِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى مَنْعِ ذَلِكَ وَعَدُّوهُ
مِنَ الْبِدَعِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى الْكَرَاهَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: إنْ قُصِدَ بِتَقْبِيل الأَْضْرِحَةِ التَّبَرُّكُ
لَمْ يُكْرَهْ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ
الْبِدَعِ (1) .
__________
(1) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 1 / 267 ط مصطفى الحلبي 1348هـ،
المدخل لابن الحاج 1 / 256 ط مصطفى الحلبي 1960م، وحاشية الجمل على شرح
المنهج 2 / 206، وكشاف القناع 2 / 140.
(32/256)
قَبْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْقَبْضِ لُغَةً: تَنَاوُل الشَّيْءِ بِجَمِيعِ
الْكَفِّ، وَمِنْهُ قَبْضُ السَّيْفِ وَغَيْرِهِ، وَيُقَال: قَبَضَ
الْمَال، أَيْ أَخَذَهُ، وَقَبَضَ الْيَدَ عَلَى الشَّيْءِ، أَيْ جَمَعَهَا
بَعْدَ تَنَاوُلِهِ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: الإِْمْسَاكُ عَنِ الشَّيْءِ،
يُقَال: قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الشَّيْءِ أَيْ جَمَعَهَا قَبْل تَنَاوُلِهِ،
وَذَلِكَ إمْسَاكٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ قِيل لإِِمْسَاكِ الْيَدِ عَنِ
الْبَذْل وَالْعَطَاءِ: قَبْضٌ.
وَيُسْتَعَارُ الْقَبْضُ لِتَحْصِيل الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
مُرَاعَاةُ الْكَفِّ، نَحْوُ: قَبَضْتُ الدَّارَ وَالأَْرْضَ مِنْ فُلاَنٍ:
أَيْ حُزْتُهَا، وَيُقَال: هَذَا الشَّيْءُ فِي قَبْضَةِ فُلاَنٍ، أَيْ فِي
مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَقَدْ يُكَنَّى بِالْقَبْضِ عَنِ الْمَوْتِ.
فَيُقَال: قُبِضَ فُلاَنٌ، أَيْ مَاتَ، فَهُوَ مَقْبُوضٌ (1) .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى
__________
(1) الصحاح للجوهري، ومفردات الراغب الأصفهاني، وبصائر ذوي التمييز للفيروز
آبادي 4 / 288، والمصباح المنير، ومعجم مقاييس اللغة، والمغرب للمطرزي.
(32/257)
: {وَاَللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (1)
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} (2) فَإِنَّهُ
تَجَوُّزٌ بِالْقَبْضِ عَنِ الإِْعْدَامِ، لأَِنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ
مَكَانٍ يَخْلُو مِنْهُ مَحَلُّهُ كَمَا يَخْلُو الْمَحَل عَنِ الشَّيْءِ
إذَا عُدِمَ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ حِيَازَةُ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ،
سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ بِالْيَدِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ
(4) ، قَال الْكَاسَانِيُّ: مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمْكِينُ
وَالتَّخَلِّي وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً (5)
، وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: قَوْلُهُمْ قَبَضْتُ الدَّارَ
وَالأَْرْضَ وَالْعَبْدَ وَالْبَعِيرَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الاِسْتِيلاَءَ
وَالتَّمَكُّنَ مِنَ التَّصَرُّفِ (6) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّقْدُ:
2 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ (النَّقْدِ) بِمَعْنَى الإِْقْبَاضِ
وَالتَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمُعْطَى نُقُودًا، فَفِي
الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: نَقَدْتُ الرَّجُل
__________
(1) سورة البقرة / 245.
(2) سورة الفرقان / 46.
(3) الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز للعز بن عبد السلام ص106.
(4) القوانين الفقهية لابن جزي ص 328 ط. الدار العربية للكتاب، والبهجة 1 /
168، وميارة على العاصمية 2 / 144، وحدود ابن عرفة وشرحه للرصاع ص415.
(5) بدائع الصنائع 5 / 148.
(6) الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام ص106.
(32/257)
الدَّرَاهِمَ، بِمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ. . .
فَانْتَقَدَهَا، أَيْ قَبَضَهَا (1) . وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: النَّقْدُ
خِلاَفُ الدَّيْنِ وَالْقَرْضِ (2) .
وَإِنَّمَا سُمِّيَ إقْبَاضُ الدَّرَاهِمِ نَقْدًا لِتَضَمُّنِهِ - فِي
الأَْصْل (3) - تَمْيِيزَهَا وَكَشْفَ حَالِهَا فِي الْجَوْدَةِ
وَإِخْرَاجِ الزَّيْفِ مِنْهَا مِنْ قِبَل الْمُعْطِي وَالآْخِذِ (4) .
أَمَّا (بَيْعُ النَّقْدِ) فَهُوَ - كَمَا قَال ابْنُ جُزَيٍّ - أَنْ
يُعَجِّل الثَّمَنَ وَالْمَثْمُونَ (5) .
فَكُل نَقْدٍ قَبْضٌ وَلاَ عَكْسَ.
ب - الْحِيَازَةُ:
3 - يَقُول أَهْل اللُّغَةِ: كُل مَنْ ضَمَّ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ
حَازَهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً (6) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَل هَذِهِ الْكَلِمَةُ
فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنَّهُمْ لَيَسْتَعْمِلُونَهُ افِي
كُتُبِهِمْ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعَمُّ مِنَ الآْخَرِ:
أ - أَمَّا بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ فَهِيَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى
الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ، وَهُوَ نَفْسُ مَعْنَى الْقَبْضِ عِنْدَ
سَائِرِ الْفُقَهَاءِ. قَال الْقَيْرَوَانِيُّ:
__________
(1) المصباح المنير والصحاح، وانظر المطلع للبعلي ص234.
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 23.
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمطلع ص265.
(4) معجم مقاييس اللغة، ولسان العرب.
(5) القوانين الفقهية ص254.
(6) الصحاح للجوهري، الكليات للكفوي 2 / 187 ط. دمشق.
(32/258)
لاَ تَتِمُّ هِبَةٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلاَ
حَبْسٌ إلاَّ بِالْحِيَازَةِ (1) ، أَيْ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَقَال
التَّسَوُّلِيُّ: الْحَوْزُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحُوزِ (2)
، وَقَال الْحَسَنُ بْنُ رَحَّالٍ: الْحَوْزُ وَالْقَبْضُ شَيْءٌ وَاحِدٌ
(3) .
ب - أَمَّا الْحِيَازَةُ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
فَعَرَّفَهَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ: الْحِيَازَةُ هِيَ
وَضْعُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّيْءِ الْمَحُوزِ كَتَصَرُّفِ
الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالْهَدْمِ وَغَيْرِهِ
مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ (4) ، وَقَال الْحَطَّابُ: الْحِيَازَةُ تَكُونُ
بِثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ، أَضْعَفُهَا: السُّكْنَى وَالاِزْدِرَاعُ،
وَيَلِيهَا: الْهَدْمُ وَالْبُنْيَانُ وَالْغَرْسُ وَالاِسْتِغْلاَل.
وَيَلِيهَا: التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالنِّحْلَةِ وَالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَطْءِ
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَفْعَلُهُ الرَّجُل إلاَّ فِي مَالِهِ
(5) .
وَالْقَبْضُ مُرَادِفٌ لِلْحِيَازَةِ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ.
ج - الْيَدُ:
4 - يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ (الْيَدِ) بِمَعْنَى
__________
(1) الرسالة (تحقيق محمد أبو الأجفان) ص228، والتاودي على تحفة ابن عاصم 1
/ 168.
(2) شرح التسولي على التحفة 1 / 168.
(3) حاشية الحسن بن رحال على شرح تحفة ابن عاصم 1 / 109، والقوانين الفقهية
ص 328.
(4) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني 2 / 340.
(5) مواهب الجليل 6 / 222.
(32/258)
حَوْزِ الشَّيْءِ وَالْمُكْنَةُ مِنَ
اسْتِعْمَالِهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ، فَيَقُولُونَ: بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ
فِي النِّتَاجِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ (1) ، وَيُرِيدُونَ
بِذِي الْيَدِ الْحَائِزَ الْمُنْتَفِعَ، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْت:
أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ سِلْعَةً فِي يَدَيَّ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ،
وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَادَّعَيْتُ أَنَّهَا لِي، وَهِيَ فِي يَدَيَّ،
وَأَقَمْتُ الْبَيِّنَةَ؟ قَال لِي مَالِكٌ: هِيَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ إذَا
تَكَافَأَتِ الْبَيِّنَتَانِ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْيَدَ تَدُل عَلَى الْقَبْضِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَبْضِ:
كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ:
5 - تَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الأَْشْيَاءِ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِهَا
فِي نَفْسِهَا، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ نَوْعَانِ: عَقَارٌ وَمَنْقُولٌ.
أ - كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْعَقَارِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْعَقَارِ يَكُونُ
بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ. فَإِنْ لَمْ
يَتَمَكَّنْ مِنْهُ بِأَنْ مَنَعَهُ شَخْصٌ آخَرُ مِنْ وَضْعِ يَدِهِ
عَلَيْهِ، فَلاَ تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ قَبْضًا (3) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م. 1759، وجامع الفصولين 1 / 107.
(2) المدونة 13 / 37.
(3) رد المحتار 4 / 561 وما بعدها، و263 من المجلة العدلية، وم435 من مرشد
الحيران، روضة الطالبين 3 / 515، مغني المحتاج 2 / 71، المجموع شرح المهذب
9 / 276، منح الجليل 2 / 689، مواهب الجليل 4 / 477، كشاف القناع 3 / 202
ط. أنصار السنة المحمدية، المغني 4 / 333، 5 / 596 ط. المنار 1367هـ.
(32/259)
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ: ذَلِكَ بِمَا
إذَا كَانَ الْعَقَارُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِيهِ تَقْدِيرٌ، أَمَّا إذَا
كَانَ مُعْتَبَرًا فِيهِ - كَمَا إذَا اشْتَرَى أَرْضًا مُذَارَعَةً -
فَلاَ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ وَالتَّمْكِينُ، بَل لاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ
مِنَ الذَّرْعِ (1) .
كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ قَرِيبًا، فَإِنْ
كَانَ بَعِيدًا فَلاَ تُعْتَبَرُ التَّخْلِيَةُ قَبْضًا، وَهُوَ رَأْيُ
الصَّاحِبَيْنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ،
خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الْقُرْبَ
وَالْبُعْدَ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبِ
فِي الدَّارِ بِأَنْ تَكُونَ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ إنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى
أَنَّ الْعَقَارَ إذَا كَانَ لَهُ قُفْلٌ، فَيَكْفِي فِي قَبْضِهِ
تَسْلِيمُ الْمِفْتَاحِ مَعَ تَخْلِيَتِهِ، بِحَيْثُ يَتَهَيَّأُ لَهُ
فَتْحُهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ (2) .
وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
الثَّمَرَ عَلَى الشَّجَرِ بِالْعَقَارِ فِي اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ مَعَ
ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ قَبْضًا لَهُ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ
وَتَعَارُفِهِمْ عَلَيْهِ (3) .
ب - كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْمَنْقُول:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْمَنْقُول
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 73، روضة الطالبين 3 / 517.
(2) رد المحتار 4 / 561 وما بعدها ط. الحلبي، والفتاوى الهندية 3 / 16 وما
بعدها، والحموي على الأشباه والنظائر 1 / 327، وانظر م 270، 271، من المجلة
العدلية، وم 435، 436 من مرشد الحيران.
(3) شرح معاني الآثار 4 / 36، والمغني 4 / 333، ط. المنار وقواعد الأحكام
لابن عبد السلام 2 / 81، 172.
(32/259)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى
التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَنْقُولاَتِ فِيمَا يُعْتَبَرُ قَبْضًا لَهَا،
حَيْثُ إنَّ بَعْضَهَا يُتَنَاوَل بِالْيَدِ عَادَةً وَبَعْضَهَا الآْخَرَ
لاَ يُتَنَاوَل، وَمَا لاَ يُتَنَاوَل بِالْيَدِ نَوْعَانِ،
أَحَدُهُمَا: لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ فِي الْعَقْدِ،
وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ، فَتَحْصُل لَدَيْهِمْ فِي الْمَنْقُول
ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى:
8 - أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَنَاوَل بِالْيَدِ عَادَةً، كَالنُّقُودِ
وَالثِّيَابِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْحُلِيِّ وَمَا إلَيْهَا، وَقَبْضُهُ
يَكُونُ بِتَنَاوُلِهِ بِالْيَدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
9 - أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ مِنْ كَيْلٍ أَوْ
وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، إمَّا لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَإِمَّا مَعَ
إمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ، كَالأَْمْتِعَةِ وَالْعُرُوضِ
وَالدَّوَابِّ وَالصُّبْرَةِ جُزَافًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ
الْمَالِكِيَّةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ
قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَبْضِهِ إلَى
الْعُرْفِ (2) .
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 276، ومغني المحتاج 2 / 72، والذخيرة للقرافي 1 /
152، والمغني 4 / 332، وكشاف القناع 3 / 202.
(2) شرح الخرشي 5 / 158، الشرح الكبير للدردير 3 / 145 ط. مصطفى محمد.
(32/260)
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ قَبْضَهُ يَكُونُ بِنَقْلِهِ وَتَحْوِيلِهِ
(1) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْمَنْقُول وَالْعُرْفِ، فَأَمَّا
الْمَنْقُول فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَال: كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمُ
الطَّعَامَ جُزَافًا، فَنَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ (2) ، وَقِيسَ
عَلَى الطَّعَامِ غَيْرُهُ (3) ، وَأَمَّا الْعُرْفُ، فَلأَِنَّ أَهْلَهُ
لاَ يَعُدُّونَ احْتِوَاءَ الْيَدِ عَلَيْهِ قَبْضًا مِنْ غَيْرِ
تَحْوِيلٍ، إذِ الْبَرَاجِمُ لاَ تَصْلُحُ قَرَارًا لَهُ (4) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ:
10 - أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرٌ مِنْ كَيْلٍ أَوْ
وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، كَمَنِ اشْتَرَى صُبْرَةَ حِنْطَةٍ
مُكَايَلَةً أَوْ مَتَاعًا مُوَازَنَةً أَوْ ثَوْبًا مُذَارَعَةً أَوْ
مَعْدُودًا بِالْعَدَدِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ قَبْضَهُ يَكُونُ
بِاسْتِيفَائِهِ بِمَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ
ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 72، وروضة الطالبين 3 / 515، والمغني 4 / 112، 332 ط.
دار المنار، وكشاف القناع 3 / 202.
(2) حديث: " كنا نتلقى الركبان. . . ". أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (4 /
8) وأصله في البخاري (فتح الباري 4 / 347) ومسلم (3 / 1161) .
(3) مغني المحتاج 2 / 72، والمغني 4 / 332.
(4) المجموع شرح المهذب 9 / 282، والمغني 4 / 112.
(5) مغني المحتاج 2 / 73، روضة الطالبين 3 / 517 وما بعدها، فتح العزيز 8 /
448، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 82، 171 ط. التجارية بمصر،
والشرح الكبير للدردير 3 / 144، كشاف القناع 3 / 201، 272.
(32/260)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ
بِالإِْضَافَةِ إلَى ذَلِكَ نَقْلَهُ وَتَحْوِيلَهُ.
وَدَلِيل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ قَبْضَ الْمُقَدَّرَاتِ مِنَ
الْمَنْقُولاَتِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَوْفِيَتِهَا بِالْوَحْدَةِ
الْقِيَاسِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ الْمُرَاعَاةِ فِيهَا مِنَ الْكَيْل أَوِ
الْوَزْنِ أَوِ الذَّرْعِ أَوِ الْعَدِّ فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ
حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي
(1) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ
طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ (2) ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى
أَنَّهُ لاَ يَحْصُل فِيهِ الْقَبْضُ إلاَّ بِالْكَيْل، فَتَعَيَّنَ فِيمَا
يُقَدَّرُ بِالْكَيْل الْكَيْل، وَقِيسَ عَلَيْهِ الْبَاقِي (3) .
11 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: قَبْضُ الْمَنْقُول يَكُونُ بِالتَّنَاوُل
بِالْيَدِ أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ عَلَى وَجْهِ التَّمْكِينِ (4) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان. . . ". أخرجه ابن
ماجه (2 / 750) من حديث جابر، وأشار ابن حجر في التلخيص (3 / 27) إلى تضعيف
إسناده، ثم خرجه عن صحابة آخرين، ونقل عن البيهقي أنه قواه بطرقه.
(2) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله ". أخرجه مسلم (3 / 1160)
من حديث ابن عباس.
(3) مغني المحتاج 2 / 73، المغني لابن قدامة 4 / 111 ط. دار المنار، وكشاف
القناع 3 / 201.
(4) لسان الحكام لابن الشحنة ص311، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 200 وما بعدها،
ومجلة الأحكام العدلية م 272، 273، 274، 275.
(32/261)
جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ
الْعَدْلِيَّةِ: " تَسْلِيمُ الْعُرُوضِ يَكُونُ بِإِعْطَائِهَا لِيَدِ
الْمُشْتَرِي أَوْ بِوَضْعِهَا عِنْدَهُ أَوْ بِإِعْطَاءِ الإِْذْنِ لَهُ
بِالْقَبْضِ مَعَ إرَاءَتِهَا لَهُ (1) ".
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: رَجُلٌ بَاعَ مَكِيلاً فِي بَيْتٍ
مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً، وَقَال: خَلَّيْت بَيْنَك
وَبَيْنَهُ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ، وَلَمْ يَكِلْهُ وَلَمْ
يَزِنْهُ، صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا.
وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ
الْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ
بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَكَذَا التَّسْلِيمُ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ مَعَ
التَّمْكِينِ فِي الْمَنْقُولاَتِ قَبْضًا بِأَنَّ تَسْلِيمَ الشَّيْءِ فِي
اللُّغَةِ مَعْنَاهُ جَعْلُهُ سَالِمًا خَالِصًا لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ
غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُل بِالتَّخْلِيَةِ، وَبِأَنَّ مَنْ وَجَبَ
عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ لاَ بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ لِلْخُرُوجِ
مِنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ
التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ، أَمَّا الإِْقْبَاضُ فَلَيْسَ فِي
وُسْعِهِ، لأَِنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ
لِلْقَابِضِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ
عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ، وَهَذَا لاَ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 274.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 16.
(32/261)
يَجُوزُ (1) .
وَقَدْ وَافَقَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى
اعْتِبَارِ التَّخْلِيَةِ فِي الْمَنْقُول قَبْضًا، وَذَلِكَ لِحُصُول
الاِسْتِيلاَءِ بِالتَّخْلِيَةِ، إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ،
وَقَدْ حَصَل بِهَا (2) .
تَقْسِيمُ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ الْمَشْرُوعِيَّةُ:
12 - قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَالْقَرَافِيُّ الْقَبْضَ
كَتَصَرُّفٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ
مَشْرُوعِيَّتُهُ وَالإِْذْنُ فِيهِ إلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ (3) .
(الضَّرْبُ الأَْوَّل) قَبْضٌ بِمُجَرَّدِ إذْنِ الشَّرْعِ دُونَ إذْنِ
الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
مِنْهَا: قَبْضُ وُلاَةِ الأُْمُورِ وَالْحُكَّامِ الأَْعْيَانَ
الْمَغْصُوبَةَ مِنَ الْغَاصِبِ، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَال الْمَصَالِحِ
وَالزَّكَاةَ وَحُقُوقَ بَيْتِ الْمَال، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَال
الْغَائِبِينَ وَالْمَحْبُوسِينَ الَّذِينَ لاَ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حِفْظِ
أَمْوَالِهِمْ، وَقَبْضُهُمْ أَمْوَال الْمَجَانِينِ وَالْمَحْجُورِ
عَلَيْهِمْ بِسَفَهٍ وَنَحْوِهِمْ.
وَمِنْهَا: قَبْضُ مَنْ طَيَّرَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا، ثُمَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 244.
(2) المغني 4 / 111 ط، المنار، الإفصاح لابن هبيرة ص224 ط. الطباخ بحلب.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 71 ط. المكتبة التجارية بمصر، وشرح
تنقيح الفصول للقرافي ص455 وما بعدها. (بعناية ط عبد الرؤوف سعد) .
(32/262)
أَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ أَوْ دَارِهِ،
وَمِنْهَا: قَبْضُ الْمُضْطَرِّ مِنْ طَعَامِ الأَْجَانِبِ بِغَيْرِ
إذْنِهِمْ لِمَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ، وَمِنْهَا: قَبْضُ
الإِْنْسَانِ حَقَّهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ بِجِنْسِهِ.
(وَالضَّرْبُ الثَّانِي) قَبْضُ مَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ قَبْضِهِ عَلَى
إذْنِ مُسْتَحِقِّهِ، كَقَبْضِ الْمَبِيعِ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، وَقَبْضِ
الْمُسْتَامِ، وَالْقَبْضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَقَبْضِ الرُّهُونِ
وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ، وَقَبْضِ
جَمِيعِ الأَْمَانَاتِ.
(وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ) قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ وَلاَ مِنَ
الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ،
كَقَبْضِ الْمَغْصُوبِ، فَيَأْثَمُ الْغَاصِبُ، وَيَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَلاَ إذْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَمَنْ
قَبَضَ مَالاً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالُهُ، فَإِذَا هُوَ لِغَيْرِهِ، قَال
الْقَرَافِيُّ: فَلاَ يُقَال إنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ، بَل
عَفَا عَنْهُ بِإِسْقَاطِ الإِْثْمِ (1) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ إثْمَ
عَلَيْهِ، وَلاَ إبَاحَةَ فِيهِ، وَهُوَ فِي ضَمَانِهِ.
الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ:
13 - الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُقَامُ مُقَامَ
الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا حِسًّا فِي
الْوَاقِعِ، وَذَلِكَ لِضَرُورَاتٍ وَمُسَوِّغَاتٍ
__________
(1) شرح تنقيح الفصول ص456.
(32/262)
تَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ تَقْدِيرًا
وَحُكْمًا، وَتَرْتِيبَ أَحْكَامِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ عَلَيْهِ،
وَذَلِكَ فِي حَالاَتٍ ثَلاَثٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: عِنْدَ إقْبَاضِ الْمَنْقُولاَتِ بِالتَّخْلِيَةِ
مَعَ التَّمْكِينِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا
الطَّرَفُ الآْخَرُ حَقِيقَةً، حَيْثُ إنَّهُمْ يَعُدُّونَ تَنَاوُلَهَا
بِالْيَدِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا، وَالْقَبْضَ بِالتَّخْلِيَةِ قَبْضًا
حُكْمِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الأَْحْكَامَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ
كَأَحْكَامِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا وَجَبَ الإِْقْبَاضُ وَاتَّحَدَتْ يَدُ
الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ وَقَعَ الْقَبْضُ بِالنِّيَّةِ (2) ، قَال
الْقَرَافِيُّ: وَمِنَ الإِْقْبَاضِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَدْيُونِ حَقٌّ فِي
يَدِ رَبِّ الدَّيْنِ، فَيَأْمُرَهُ بِقَبْضِهِ مِنْ يَدِهِ لِنَفْسِهِ،
فَهُوَ إقْبَاضٌ بِمُجَرَّدِ الإِْذْنِ، وَيَصِيرُ قَبْضُهُ لَهُ
بِالنِّيَّةِ، كَقَبْضِ الأَْبِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ مَال وَلَدِهِ
إذَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ (3) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: اعْتِبَارُ الدَّائِنِ قَابِضًا حُكْمًا
وَتَقْدِيرًا لِلدَّيْنِ إذَا كَانَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِمِثْلِهِ
(4) لِلْمَدِينِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال الثَّابِتَ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 244، وم 263، 462 من مجلة الأحكام العدلية، ورد
المحتار 4 / 561، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر 2 / 217.
(2) تنقيح الفصول وشرحه للقرافي ص456، وانظر قواعد الأحكام للعز بن عبد
السلام 2 / 72 (ط. المكتبة التجارية الكبرى بمصر) .
(3) شرح تنقيح الفصول للقرافي ص456.
(4) أي بمثله في الجنس والصفة ووقت الأداء.
(32/263)
الذِّمَّةِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَدِينُ
قَبْضَ مِثْلِهِ مِنْ دَائِنِهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَوْ بِأَحَدِ مُوجِبَاتِ
الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا حُكْمًا مِنْ قِبَل ذَلِكَ
الْمَدِينِ. وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ عَدِيدَةٌ،
مِنْهَا:
أ - اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الآْخَرِ:
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَجُوزُ اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ
الآْخَرِ، وَيَكُونُ صَرْفًا بِعَيْنٍ وَذِمَّةٍ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل
الْعِلْمِ (1) ، وَقَال الأُْبِّيُّ الْمَالِكِيُّ: لأَِنَّ الْمَطْلُوبَ
فِي الصَّرْفِ الْمُنَاجَزَةُ، وَصَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ أَسْرَعُ
مُنَاجَزَةً مِنْ صَرْفِ الْمُعَيَّنَاتِ، لأَِنَّ صَرْفَ مَا فِي
الذِّمَّةِ يَنْقَضِي بِنَفْسِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَالْقَبْضِ مِنْ
جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَصَرْفُ الْمُعَيَّنَاتِ لاَ يَنْقَضِي إلاَّ
بِقَبْضِهِمَا مَعًا، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْعُدُول، فَصَرْفُ مَا فِي
الذِّمَّةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ
بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ
الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ،
فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ
عَنْ ذَلِكَ، فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 54 (ط. مكتبة الرياض الحديثة) .
(2) شرح الأبي على صحيح مسلم 4 / 264.
(32/263)
تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ
تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (1) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الاِسْتِبْدَال عَنِ
الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا
غَيْرُ حَاضِرَيْنِ جَمِيعًا، بَل الْحَاضِرُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ
اللاَّزِمِ، فَدَل عَلَى أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ كَالْحَاضِرِ (2) .
ب - الْمُقَاصَّةُ:
إذَا انْشَغَلَتْ ذِمَّةُ الدَّائِنِ بِمِثْل مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ
فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَوَقْتِ الأَْدَاءِ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ
الْمَدِينِ مُقَابَلَةً بِالْمِثْل مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَقَابُضٍ
بَيْنَهُمَا، وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ إذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي
الْمِقْدَارِ، لأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا حُكْمًا،
فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْقَدْرِ، سَقَطَ مِنَ الأَْكْثَرِ بِقَدْرِ
الأَْقَل، وَبَقِيَتِ الزِّيَادَةُ، فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فِي الْقَدْرِ
الْمُشْتَرَكِ، وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا مَدِينًا لِلآْخَرِ بِمَا زَادَ (3)
. (ر: مُقَاصَّةٌ)
ج - تَطَارُحُ الدَّيْنَيْنِ صَرْفًا:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ
لَوْ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع الإبل بالبقيع. . . ". أخرجه أبو داود (3 /
651) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 25) إعلاله بالوقف عن جماعة من
العلماء.
(2) نيل الأوطار 5 / 157.
(3) مرشد الحيران م 224 - 226، 230، 231.
(32/264)
كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ
دَنَانِيرُ، وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي
ذِمَّتَيْهِمَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ الصَّرْفُ، وَيَسْقُطُ
الدَّيْنَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّقَابُضِ الْحَقِيقِيِّ - مَعَ
أَنَّ التَّقَابُضَ فِي الصَّرْفِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ بِإِجْمَاعِ
الْفُقَهَاءِ - وَذَلِكَ لِوُجُودِ التَّقَابُضِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي
يَقُومُ مَقَامَ التَّقَابُضِ الْحِسِّيِّ، قَالُوا: لأَِنَّ الذِّمَّةَ
الْحَاضِرَةَ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ
اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ قَدْ حَلاَّ مَعًا، فَأَقَامُوا
حُلُول الأَْجَلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُقَامَ النَّاجِزِ بِالنَّاجِزِ، أَيِ
الْيَدِ بِالْيَدِ (1) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اشْتَرَى مَا فِي
ذِمَّتِهِ، وَهُوَ مَقْبُوضٌ لَهُ بِمَا فِي ذِمَّةِ الآْخَرِ، فَهُوَ
كَمَا لَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الآْخَرِ وَدِيعَةٌ
فَاشْتَرَاهَا بِوَدِيعَتِهِ عِنْدَ الآْخَرِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَنَصُّوا عَلَى
عَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يُحْضِرْ أَحَدُهُمَا
أَوْ كِلاَهُمَا النَّقْدَ الْوَارِدَ عَلَيْهِ عَقْدُ الصَّرْفِ،
لأَِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 239 (بولاق 1272هـ) ، والزرقاني على خليل 5 / 232،
ومواهب الجليل 4 / 310، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 128،
وطبقات الشافعية لابن السبكي 10 / 231، والأبي على مسلم 4 / 264.
(2) الأم 3 / 33، تكملة المجموع للسبكي 10 / 107، شرح منتهى الإرادات 2 /
200، المبدع 4 / 156، / 53 المغني 4 / 53 (ط. مكتبة الرياض الحديثة) ، كشاف
القناع 3 / 257 (م ط. الحكومة بمكة المكرمة) ، ونظرية العقد لابن تيمية
ص235.
(32/264)
د - جَعْل الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى
الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَال السَّلَمِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ جَعْل الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى
الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَال السَّلَمِ، لأَِنَّ ذَلِكَ افْتِرَاقٌ
عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ
لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ آخَرَ دِينَارًا، فَجَعَلَهُ سَلَمًا فِي طَعَامٍ
إلَى أَجَلٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَبْضٍ
حَقِيقِيٍّ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ - مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى
وُجُوبِ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال مُعَجَّلاً لِصِحَّةِ السَّلَمِ -
وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْقَبْضِ الْحُكْمِيِّ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ،
وَهُوَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَكَأَنَّ
الدَّائِنَ بَعْدَ عَقْدِ السَّلَمِ قَبَضَهُ مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهُ
إلَيْهِ، فَصَارَ مُعَجَّلاً حُكْمًا فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لَوْ أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ، فَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 209 بولاق 1272 هـ، وتبيين الحقائق 4 / 140، ونهاية
المحتاج 4 /! 80، وفتح العزيز 9 / 212، وبدائع الصنائع 7 / 3155 مط.
الإمام، وشرح منتهى الإرادات 2 / 221، المغني 4 / 329 ط، مكتبة الرياض
الحديثة.
(32/265)
دَيْنٌ، وَسَقَطَ لَهُ عَنْهُ دَيْنٌ
غَيْرُهُ، وَقَدْ حُكِيَ الإِْجْمَاعُ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا، وَلاَ
إجْمَاعَ فِيهِ، قَالَهُ شَيْخُنَا، وَاخْتَارَ جَوَازَهُ، وَهُوَ
الصَّوَابُ (1) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ أَهْلاً لِلْقَبْضِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ
صُدُورُهُ مِنْ أَهْلٍ لَهُ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَكُونُ
أَهْلاً لَهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
صِحَّةِ الْقَبْضِ صُدُورُهُ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْبَالِغُ
الْعَاقِل غَيْرُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّخْصِ لِلْقَبْضِ هِيَ
نَفْسُهَا أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعُقُودِ،
فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْقَابِضُ عَاقِلاً، فَلاَ
يَصِحُّ قَبْضُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل (3) ،
أَمَّا الْبُلُوغُ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي بَعْضِ
التَّصَرُّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَتَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ
غَيْرِ الْبَالِغِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (بعناية طه عبد الرؤوف سعد) 2 / 9.
(2) مغني المحتاج 2 / 128، والمجموع 9 / 157، وكشاف القناع 4 / 254 (مط.
السنة المحمدية) ، والمغني 4 / 329 (ط. دار المنار) .
(3) بدائع الصنائع 6 / 126.
(32/265)
النَّوْعُ الأَْوَّل: التَّصَرُّفَاتُ
النَّافِعَةُ نَفْعًا مَحْضًا. كَمَا إذَا وُهِبَ الصَّبِيُّ، أَوْ
تَصَدَّقَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، أَوْ أَوْصَى لَهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ
لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قَبْضِهِ بُلُوغُهُ إذَا كَانَ يَعْقِل
اسْتِحْسَانًا (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ ضَرَرًا مَحْضًا
كَتَبَرُّعَاتِهِ وَكَفَالَتِهِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَال، وَفِي هَذِهِ
الْحَالَةِ لاَ تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ
قُبُوضٍ لاِشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ فِي صِحَّتِهَا (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ النَّفْعِ
وَالضَّرَرِ، كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَإِجَارَتِهِ وَاسْتِئْجَارِهِ
وَنِكَاحِهِ وَمَا شَاكَل ذَلِكَ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَمَا يَنْشَأُ
عَنْهَا مِنْ قُبُوضٍ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهَا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّ
الصَّغِيرِ، فَإِنْ أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدَّهَا بَطَلَتْ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ
صُدُورُهُ مِمَّنْ يَتَمَتَّعُ بِأَهْلِيَّةِ الْمُعَامَلَةِ، بَل تَكْفِي
الصِّفَةُ الإِْنْسَانِيَّةُ مَنَاطًا لاِعْتِبَارِهِ أَهْلاً لِلْقَبْضِ،
فَيَصِحُّ قَبْضُ الصَّغِيرِ وَالْمَحْجُورِ، وَيَكُونُ قَبْضًا تَامًّا
(4) .
__________
(1) البدائع 6 / 126، 141، جامع أحكام الصغار (بهامش جامع الفصولين) 1 /
181، كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1374، شرح المجلة للأتاسي 3 / 364،
530.
(2) أصول البزدوي مع كشف الأسرار 4 / 1375 وما بعدها، وشرح المجلة للأتاسي
3 / 530، وانظر م967 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) المراجع السابقة.
(4) البهجة شرح التحفة 1 / 201.
(32/266)
الشَّرْطُ الثَّانِي: صُدُورُ الْقَبْضِ
مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَتُهُ:
15 - الْقَبْضُ نَوْعَانِ: قَبْضٌ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ، وَقَبْضٌ
بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ.
أ - أَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ: فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ
الشَّخْصُ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
أَنَّ وِلاَيَةَ هَذَا الْقَبْضِ تَكُونُ لِمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ
الْقَبْضِ (1) .
ب - وَأَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ: فَوِلاَيَتُهُ تَثْبُتُ
إمَّا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ، وَإِمَّا بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: وِلاَيَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ
الْمَالِكِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ وِلاَيَةِ الْوَكِيل
بِالْقَبْضِ، لأَِنَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ أَصَالَةً
مَلَكَ التَّوْكِيل فِيهِ، وَالْقَبْضُ مِمَّا يَحْتَمِل النِّيَابَةَ،
فَكَانَ قَبْضُ الْوَكِيل بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُوَكِّل وَلاَ فَرْقَ،
وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل أَهْلاً
لِلْقَبْضِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلْوَكِيل بِالْقَبْضِ أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ إنْ
كَانَ مُوَكِّلُهُ قَدْ وَكَّلَهُ بِوَكَالَةٍ عَامَّةٍ، بِأَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 126، الأم 3 / 124، 482، (بولاق) ، القوانين الفقهية
ص 399 (ط. دار العلم للملايين) ، وشرح ميارة على التحفة 2 / 143، وقواعد
الأحكام 2 / 159 (ط. المكتبة التجارية الكبرى) .
(2) البدائع 5 / 152، 6 / 126، 141، شرح المجلة للأتاسي 3 / 135، 4 / 313
وما بعدها، والشرح الكبير للدردير 3 / 377، 244، والبهجة شرح التحفة 2 /
233، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص 455، والتسهيل لابن جزي 1 / 97، وتفسير
البحر المحيط لأبي حيان 2 / 355.
(32/266)
قَال لَهُ وَقْتَ التَّوْكِيل بِالْقَبْضِ:
اصْنَعْ مَا شِئْت، أَوْ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيَّ،
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا إذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ خَاصَّةً، بِأَنْ
لَمْ يَقُل ذَلِكَ عِنْدَ التَّوْكِيل بِالْقَبْضِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل
أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ فَعَل فَلاَ تَكُونُ لِمَنْ
وَكَّلَهُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ، لأَِنَّ الْوَكِيل إنَّمَا يَتَصَرَّفُ
بِحُدُودِ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّل، فَيَمْلِكُ قَدْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهِ
لاَ أَكْثَر (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ لِلْمُوَكِّل،
وَلاَ يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
وَكِيلاً لِغَيْرِهِ فِي قَبْضِ حَقِّ نَفْسِهِ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ بِطَعَامٍ إذَا دَفَعَ
لِلدَّائِنِ دَرَاهِمَ وَقَال لَهُ: اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ
مِثْل الطَّعَامِ الَّذِي لَك عَلَيَّ، وَاقْبِضْهُ لِي، ثُمَّ اقْبِضْهُ
لِنَفْسِك، فَفَعَل، صَحَّ الْقَبْضُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، لأَِنَّهُ
وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ، ثُمَّ الاِسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ
لِنَفْسِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ مِنْ جِنْسِ
الدَّيْنِ عِنْدَ الدَّائِنِ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا عَنْ دَيْنِهِ
(3)
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لأَِحْكَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 25.
(2) المهذب 1 / 309.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 223، وكشاف القناع 3 / 295، 296 ط. مكة
المكرمة.
(32/267)
ثَلاَثِ مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: وِلاَيَةُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ فِي قَبْضِ
الثَّمَنِ وَإِقْبَاضِ الْمَبِيعِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ فِي أَنْ
يَقْبِضَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ،
عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَنْ
يَقْبِضَ الثَّمَنَ وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّ فِي
الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ إذْنًا بِالْقَبْضِ وَالإِْقْبَاضِ دَلاَلَةً (1)
.
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَنْ
يَقْبِضَ الثَّمَنَ وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ
بِأَنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ
أَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ كَالصَّرْفِ
وَالسَّلَمِ، فَلِلْوَكِيل عِنْدَئِذٍ وِلاَيَةُ الْقَبْضِ وَالإِْقْبَاضِ،
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ،
فَيَمْلِكُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ قَبْضَ الثَّمَنِ الْحَال وَتَسْلِيمَ
الْمَبِيعِ بَعْدَهُ إنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الْمُوَكِّل مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّ
ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ الإِْذْنُ فِي
الْبَيْعِ إذْنًا فِيهِ دَلاَلَةً.
__________
(1) انظر م 949، 950، من مرشد الحيران، وم 1503 من مجلة الأحكام العدلية.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 381، شرح ميارة على تحفة
ابن عاصم 1 / 138، والبهجة شرح التحفة 1 / 213.
(32/267)
فَإِنْ نَهَاهُ الْمُوَكِّل عَنْ قَبْضِ
الثَّمَنِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً،
فَلَيْسَ لِلْوَكِيل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (1) .
(وَالرَّابِعُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ
تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، لأَِنَّ إطْلاَقَ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ
يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، لِكَوْنِهِ مِنْ تَمَامِهِ، بِخِلاَفِ قَبْضِ
الثَّمَنِ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل أَنْ يَقْبِضَهُ، لأَِنَّ الْبَائِعَ قَدْ
يُوَكِّل بِالْبَيْعِ مَنْ لاَ يَأْتَمِنُهُ عَلَى الثَّمَنِ (2) .
وَاسْتَثْنَى ابْنُ الْقَيِّمِ مِنَ الْحُكْمِ بِسَلْبِ وِلاَيَةِ قَبْضِ
الثَّمَنِ مِنَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مَا إذَا كَانَتِ الْعَادَةُ
الْجَارِيَةُ قَبْضَ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَثْمَانَ الْمَبِيعَاتِ،
فَقَال: وَلَوْ وَكَّل غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فِي بَيْعِ شَيْءٍ،
وَالْعُرْفُ قَبْضُ ثَمَنِهِ، مَلَكَ ذَلِكَ (3) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وِلاَيَةُ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي
قَبْضِ الْحَقِّ.
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ
وَإِثْبَاتِ الْحَقِّ فِي قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ وَهُوَ الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ أَخَذَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ:
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 307، 309، ومغني المحتاج 2 / 225، وفتح العزيز
للرافعي 11 / 32 - 35.
(2) كشاف القناع 3 / 400 وما بعدها (مط. السنة المحمدية) والمغني 5 / 92
وما بعدها (ط. دار المنار) .
(3) إعلام الموقعين 2 / 393 (تحقيق محمد عبد الحميد) .
(32/268)
وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ لاَ
يَكُونُ وَكِيلاً بِالْقَبْضِ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهُ وِلاَيَتُهُ، لأَِنَّ
الْمَطْلُوبَ مِنَ الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ تَثْبِيتُ الْحَقَّ، وَلَيْسَ
كُل مَنْ يُرْتَضَى لِتَثْبِيتِ حَقٍّ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، فَقَدْ يُوثَقُ
عَلَى الْخُصُومَةِ مَنْ لاَ يُوثَقُ عَلَى الْمَال. وَأَيْضًا فَلأَِنَّ
الإِْذْنَ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَيْسَ إذْنًا فِي قَبْضِهِ مِنْ جِهَةِ
النُّطْقِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، إذِ الإِْثْبَاتُ لاَ يَتَضَمَّنُ
الْقَبْضَ، وَلَيْسَ الْقَبْضُ مِنْ لَوَازِمِهِ أَوْ مُتَعَلِّقَاتِهِ،
بِخِلاَفِ مَسْأَلَةِ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ
وَقَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَقَدْ
أَقَامَهُ الْمُوَكِّل مُقَامَ نَفْسِهِ فِيهَا (1) .
(وَالثَّانِي) لأَِبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: وَهُوَ أَنَّ لِلْوَكِيل
بِالْخُصُومَةِ أَنْ يَقْبِضَ الْحَقَّ بَعْدَ إثْبَاتِهِ، لأَِنَّهُ
لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي مَالٍ، فَقَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى
قَبْضِهِ، لأَِنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ لاَ تَنْتَهِي إلاَّ بِالْقَبْضِ،
فَكَانَ التَّوْكِيل بِهَا تَوْكِيلاً بِالْقَبْضِ (2) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وِلاَيَةُ الْعَدْل فِي قَبْضِ الْمَرْهُونِ:
19 - إذَا اتَّفَقَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى أَنْ يُجْعَل
__________
(1) المهذب 1 / 358، وكشاف القناع 3 / 402 (مط. السنة المحمدية) ، والمغني
لابن قدامة 5 / 91 (ط. دار المنار) ، وبدائع الصنائع 6 / 25، ورد المحتار 5
/ 529 (ط. مصطفى الحلبي) ، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 515 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 6 / 25، ورد المحتار 5 / 529 (ط. مصطفى البابي الحلبي) .
(32/268)
الْمَرْهُونُ فِي يَدِ عَدْلٍ (1) ، فَهَل
يَكُونُ لِلْعَدْل وِلاَيَةُ قَبْضِهِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ
لِلْعَدْل أَنْ يَقْبِضَ الْمَرْهُونَ، وَيَكُونُ قَبْضُهُ بِمَنْزِلَةِ
قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَلاَ فَرْقَ، لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الرَّاهِنِ
وَالْمُرْتَهِنِ قَدْ لاَ يَثِقُ بِصَاحِبِهِ، فَاحْتِيجَ إلَى الْعَدْل،
وَكَمَا يَتَوَلَّى الْعَدْل الْحِفْظَ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى الْقَبْضَ،
وَبِهَذَا قَال الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ.
وَلأَِنَّ الْعَدْل نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَكَانَ قَبْضُهُ
بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْوَكِيل فِي سَائِرِ الْعُقُودِ.
ثُمَّ إنَّ مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ يَدَ الْعَدْل كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ،
وَأَنَّهُ وَكِيلُهُ بِالْقَبْضِ: أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَتَى شَاءَ أَنْ
يَفْسَخَ الرَّهْنَ وَيُبْطِل يَدَ الْعَدْل وَيَرُدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ،
وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ إبْطَال يَدِ الْعَدْل، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
الْعَدْل وَكِيلٌ لِلْمُرْتَهِنِ (2) .
__________
(1) العدل: هو من رضي الراهن والمرتهن في أن يكون المرهون بيده، وقد سمي
بذلك لعدالته في نظرهما. انظر الدر المختار 6 / 502 مع حاشية رد المحتار
عليه، وجاء في م 705 من مجلة الأحكام العدلية " العدل هو الذي ائتمنه
الراهن والمرتهن وسلماه وأودعاه الرهن ".
(2) بدائع الصنائع 6 / 137، 141 وما بعدها، ورد المحتار 6 / 503، (ط.
الحلبي) وشرح المجلة للأتاسي 3 / 198 وما بعدها، والأم 3 / 169، ومغني
المحتاج 2 / 133، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 216،
والتسهيل لابن جزي 1 / 97، وتفسير القرطبي ص 1218 (ط. الشعب) ، والمغني 4 /
351 (ط. دار المنار) ، وكشاف القناع 3 / 282، (مط. السنة المحمدية) .
(32/269)
(وَالثَّانِي) لاِبْنِ شُبْرُمَةَ
وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ
وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَدْل أَنْ
يَقْبِضَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ فَلاَ يَكُونُ الْقَبْضُ مُعْتَبَرًا، قَال
الْقُرْطُبِيُّ: وَرَأَوْا ذَلِكَ تَعَبُّدًا (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وِلاَيَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ
الشَّارِعِ:
20 - وِلاَيَةُ النَّائِبِ فِي الْقَبْضِ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ هِيَ
وِلاَيَةُ مَنْ يَلِي مَال الْمَحْجُورِ فِي قَبْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ
الْمَحْجُورُ، وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ لَيْسَتْ بِتَوْلِيَةِ
الْمُسْتَحِقِّ، لاِنْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِتَوْلِيَةِ
الشَّارِعِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْوَالِدَ يَحُوزُ لِوَلَدِهِ
إذَا كَانُوا صِغَارًا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَمِنْ ذَلِكَ وِلاَيَةُ مَنْ يَعُول
__________
(1) تفسير القرطبي ص 1218 (ط. دار الشعب) ، وبدائع الصنائع 6 / 137، المغني
4 / 351، بداية المجتهد 2 / 230، الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد
الوهاب 2 / 5.
(2) بدائع الصنائع 5 / 152، 6 / 126، والأم 3 / 124، 284 ط بولاق، وقواعد
الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 80 مط. الحسينية، والشرح الكبير للدردير مع
حاشية الدسوقي عليه 4 / 107، والمغني 5 / 601 ط. دار المنار.
(3) الأم 3 / 284، سنن البيهقي 6 / 170.
(32/269)
الصَّغِيرَ وَيَكْفُلُهُ فِي قَبْضِ مَا
يُوهَبُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاهِبُ هُوَ أَوْ غَيْرَهُ،
وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا أَمْ غَيْرَ قَرِيبٍ (1) .
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: وَيَحُوزُ لِلْمَحْجُورِ وَصِيُّهُ، وَيَحُوزُ
الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ مَا وَهَبَهُ لَهُ هُوَ مَا
عَدَا الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ، وَمَا وَهَبَهُ لَهُ غَيْرُهُ
مُطْلَقًا (2) .
21 - وَيَلْحَقُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْحُكْمِ وِلاَيَةُ الشَّخْصِ
فِي قَبْضِ اللُّقَطَةِ، وَمَال اللَّقِيطِ، وَالثَّوْبُ الَّذِي
أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي دَارِهِ، وَحَقُّهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ، وَوِلاَيَةُ
الْحَاكِمِ فِي قَبْضِ أَمْوَال الْغَائِبِينَ وَالْمَحْبُوسِينَ الَّذِينَ
لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهَا لِتُحْفَظَ لَهُمْ، وَوِلاَيَتُهُ فِي
قَبْضِ الْمَال الْمُودَعِ إذَا مَاتَ الْمُودِعُ وَالْمُودَعُ وَوَرَثَةُ
الْمُودَعِ غَائِبُونَ، وَوِلاَيَتُهُ فِي قَبْضِ أَمْوَال الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ وَالزَّكَوَاتِ، وَكَذَا وِلاَيَةُ الْمُضْطَرِّ أَنْ يَقْبِضَ
مِنْ طَعَامِ الأَْجَانِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ مَا يَدْفَعُ بِهِ
ضَرُورَتَهُ (3) .
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِوِلاَيَةِ الْقَبْضِ لِلْغَيْرِ مَا يَأْتِي:
وِلاَيَةُ قَبْضِ الْمَهْرِ:
22 - فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا
كَانَتْ صَغِيرَةً فَوِلاَيَةُ قَبْضِ مَهْرِهَا لِمَنْ يَنْظُرُ
__________
(1) مرشد الحيران م (84) .
(2) القوانين الفقهية ص 374 ط. الدار العربية للكتاب.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 71 (ط. المكتبة التجارية الكبرى)
، وشرح تنقيح الفصول ص 455 وما بعدها، والذخيرة للقرافي 1 / 152.
(32/270)
فِي مَالِهَا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، سَوَاءٌ
أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا، وَمَتَى قَبَضَهُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ
الزَّوْجِ مِنْهُ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ ثَانِيَةً
وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، بَل تَأْخُذُهُ مِمَّنْ قَبَضَهُ مِنْ
زَوْجِهَا، لأَِنَّ الزَّوْجَ قَدْ دَفَعَهُ لِمَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ
شَرْعًا فِي قَبْضِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الدَّفْعُ صَحِيحًا مُعْتَبَرًا
تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ، وَمَتَى بَرِئَتْ ذِمَّةُ شَخْصٍ مِنْ دَيْنٍ،
فَلاَ يَعُودُ مَدِينًا بِهِ، إذِ السَّاقِطُ لاَ يَعُودُ.
أَمَّا إذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَالِغَةً رَشِيدَةً: فَإِمَّا أَنْ
تَكُونَ ثَيِّبًا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا،
فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَقْبِضَ مَهْرَهَا
بِنَفْسِهَا بِدُونِ مُعَارَضَةٍ لَهَا مِنْ أَحَدٍ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ
عَلَى أَمْوَالِهَا ثَابِتَةٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنْ شَاءَتْ
تَوَلَّتْ هِيَ قَبْضَ الْمَهْرِ بِنَفْسِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ وَكَّلَتْ
مَنْ تَخْتَارُهُ فِي قَبْضِ مَهْرِهَا، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ قَبْضُهُ إلاَّ
بِتَوْكِيلٍ صَرِيحٍ مِنْهَا (1) .
أَمَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ
عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَقْبِضَ مَهْرَهَا، بَل
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 240، رد المحتار 3 / 161 (ط. الحلبي) ، والمهذب 2 /
58، وروضة الطالبين 7 / 330، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 2
/ 328، وكشاف القناع 5 / 109، 116 (مط. السنة المحمدية) ، والمغني 6 / 735
وما بعدها (ط. دار المنار) .
(32/270)
تَقْبِضُهُ هِيَ بِنَفْسِهَا، أَوْ
تُوَكِّل مَنْ يَقْبِضُهُ لَهَا، لأَِنَّهَا رَشِيدَةٌ تَلِي مَالَهَا،
فَلَيْسَ لِغَيْرِهَا أَنْ يَقْبِضَ صَدَاقَهَا أَوْ أَيَّ عِوَضٍ
تَمْلِكُهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا، كَثَمَنِ مَبِيعِهَا وَأُجْرَةِ دَارِهَا
وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ لِوَلِيِّهَا أَنْ يَقْبِضَ
مَهْرَهَا إذَا لَمْ يَحْصُل مِنْهَا نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنْ قَبْضِهِ. فَإِنْ
نَهَتْهُ فَلاَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ، وَلاَ يَبْرَأُ الزَّوْجُ إنْ
سَلَّمَهُ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ أَنَّ
الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي مِنْ قَبْضِ صَدَاقِهَا بِخِلاَفِ الثَّيِّبِ،
فَيَقُومُ وَلِيُّهَا مَقَامَهَا، وَلأَِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ عَلَى
ذَلِكَ، فَكَانَ مَأْذُونًا بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَتِهَا بِدَلاَلَةِ
الْعُرْفِ - بِخِلاَفِ الثَّيِّبِ - وَالإِْذْنُ الْعُرْفِيُّ كَالإِْذْنِ
اللَّفْظِيِّ (2) .
وِلاَيَةُ عِيَال الْمُعِيرِ فِي قَبْضِ الْعَارِيَّةُ عِنْدَ رَدِّهَا:
23 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَنْقَضِي
الْتِزَامُهُ بِرَدِّ الْعَارِيَّةُ، وَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهَا إذَا
سَلَّمَهَا لِصَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ بِقَبْضِهَا.
غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ قَامَ بِرَدِّهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ
عِيَال الْمُعِيرِ كَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَنَحْوِهِمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) الأم 5 / 65، والروضة للنووي 7 / 330، والشرح الكبير للدردير وحاشية
الدسوقي عليه 2 / 328، والمغني 6 / 735 وما بعدها.
(2) رد المحتار 3 / 161 (ط. الحلبي) ، بدائع الصنائع 2 / 240، الحموي على
الأشباه والنظائر 2 / 319، ومجمع الضمانات للبغدادي ص 340.
(32/271)
(أَحَدُهُمَا) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ
أَنَّهُ لاَ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُسْتَعِيرِ بِرَدِّ الْعَارِيَّةُ
وَتَسْلِيمِهَا إلَى زَوْجَةِ الْمُعِيرِ أَوْ وَلَدِهِ. . وَلَوْ ضَاعَتِ
الْعَارِيَّةُ بَعْدَ قَبْضِهِمَا فَالْمُعِيرُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ
ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ، وَإِنْ شَاءَ غَرَّمَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْوَلَدَ،
فَإِنْ غَرَّمَ الْمُسْتَعِيرَ، رَجَعَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ غَرَّمَهُمَا،
لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا رَدَّ
الْعَارِيَّةَ إلَى عِيَال الْمُعِيرِ الَّذِينَ لاَ عَادَةَ لَهُمْ
بِقَبْضِ مَالِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ لَمْ
يَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا وَلاَ نَائِبِهِ فِي قَبْضِهَا، فَكَأَنَّهُ
سَلَّمَهَا لأَِجْنَبِيٍّ، فَلاَ يَبْرَأُ، أَمَّا إذَا رَدَّهَا إلَى مَنْ
جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ كَزَوْجَةٍ مُتَصَرِّفَةٍ فِي مَالِهِ
وَخَازِنٍ إذَا رَدَّ إلَيْهِمَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُمَا بِقَبْضِهِ،
فَيَصِحُّ الرَّدُّ وَيَنْقَضِي الْتِزَامُ الْمُسْتَعِيرِ وَتَبْرَأُ
ذِمَّتُهُ مِنَ الضَّمَانِ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ عُرْفًا،
أَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ نُطْقًا (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الإِْذْنُ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الإِْذْنِ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ
عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا
إذَا كَانَ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ كَالْمَرْهُونِ فِي
يَدِ الرَّاهِنِ، وَالْمَوْهُوبِ فِي يَدِ
__________
(1) روضة الطالبين للنووي 4 / 446، وأسنى المطالب 2 / 329.
(2) كشاف القناع 4 / 80، 81، مط. الحكومة بمكة المكرمة، والمغني 5 / 244 ط.
مكتبة الرياض الحديثة.
(32/271)
الْوَاهِبِ، وَالْمَبِيعِ فِي يَدِ
الْبَائِعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ، وَبَيْنَ مَا إذَا
لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ
بَعْدَ نَقْدِ الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ، أَوْ قَبْلَهُ إنْ كَانَ الثَّمَنُ
مُؤَجَّلاً، فَذَهَبُوا فِي الْحَالَةِ الأُْولَى إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي
حَبْسِهِ، وَذَهَبُوا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ إلَى أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ، وَصَحَّحُوا الْقَبْضَ بِدُونِ إذْنِهِ (1) .
وَعَلَّلُوا اشْتِرَاطَ الإِْذْنِ فِي الأُْولَى بِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ
الْحَقُّ فِي حَبْسِ الشَّيْءِ، فَلاَ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّهِ بِغَيْرِ
إذْنِهِ، بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ،
وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِهِ، وَاسْتَحَقَّ قَبْضَهُ، فَلَهُ أَنْ
يَقْبِضَهُ سَوَاءٌ أَذِنَ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ لِصِحَّةِ
الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْعَطَايَا
كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ، لِبَقَاءِ مِلْكِ الرَّاهِنِ فِي
الرَّهْنِ دُونَهَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ لِصِحَّةِ
الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ وَفِي الْعَطَايَا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
فَإِنْ تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ أَوِ الْمَوْهُوبُ أَوِ الْمُتَصَدِّقُ
عَلَيْهِ فَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ أَوِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 123 وما بعدها، 6 / 138، ورد المحتار 4 / 562 ط.
الحلبي، وروضة الطالبين 3 / 517، 5 / 376، ومغني المحتاج 2 / 73، 400.
(2) المنتقى للباجي 6 / 100، وفتح العلي المالك 2 / 243، والشرح الكبير
للدردير 4 / 101.
(32/272)
الْوَاهِبِ أَوِ الْمُتَصَدِّقِ، فَسَدَ
الْقَبْضُ، وَلَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ (1) .
نَوْعَا الإِْذْنِ:
25 - الإِْذْنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ، وَدَلاَلَةٌ،
أَمَّا الصَّرِيحُ، فَنَحْوُ أَنْ يَقُول: اقْبِضْ، أَوْ أَذِنْتُ لَكَ
بِالْقَبْضِ، أَوْ رَضِيتُ بِهِ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، وَأَمَّا
الدَّلاَلَةُ، فَنَحْوُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبُ الْهِبَةَ بِحَضْرَةِ
الْوَاهِبِ فَيَسْكُتَ وَلاَ يَنْهَاهُ، وَكَسُكُوتِ الْبَائِعِ حِينَ
يَرَى الْمُشْتَرِيَ يَقْبِضُ الْمَبِيعَ، وَكَسُكُوتِ الرَّاهِنِ عِنْدَ
قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ أَمَامَهُ (2) .
الرُّجُوعُ فِي الإِْذْنِ:
26 - حَيْثُمَا اُشْتُرِطَ الإِْذْنُ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فَقَدْ نَصَّ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِمَنْ أَذِنَ بِالْقَبْضِ
الرُّجُوعَ فِي الإِْذْنِ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَهُ بَطَل
الإِْذْنُ، وَإِنْ رَجَعَ عَنِ الإِْذْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يُؤَثِّرْ
رُجُوعُهُ (3) .
أَمَّا بُطْلاَنُ الإِْذْنِ بِرُجُوعِهِ قَبْل الْقَبْضِ،
__________
(1) كشاف القناع 3 / 272، 4 / 253 مط. السنة المحمدية: والمغني 4 / 332 ط.
دار المنار.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 154 وما بعدها، لسان الحكام لابن الشحنة
ص 321، وكشاف القناع 4 / 253 مط. السنة المحمدية والمغني 4 / 332 ط. دار
المنار.
(3) روضة الطالبين 5 / 376، مغني المحتاج 2 / 401، والمهذب 1 / 313،
والمغني 4 / 332 ط. دار المنار، وكشاف القناع 4 / 253 (مط. السنة المحمدية)
.
(32/272)
فَلِقُوَّةِ حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ
بِبَقَاءِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ لاَ
يَأْذَنَ بِقَبْضِهَا، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إذْنِهِ قَبْل حُصُول
الْقَبْضِ، وَأَمَّا عَدَمُ تَأْثِيرِ رُجُوعِهِ عَلَى صِحَّةِ الإِْذْنِ
بَعْدَ الْقَبْضِ، فَلأَِنَّ مَنْ سَعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ
قِبَلِهِ فَسَعْيُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
اشْتِرَاطُ بَقَاءِ أَهْلِيَّةِ الآْذِنِ حَتَّى يَحْصُل الْقَبْضُ:
27 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بُطْلاَنِ الإِْذْنِ بِالْقَبْضِ إذَا
جُنَّ الآْذِنُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ قَبْل
الْقَبْضِ (1) .
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الآْذِنُ أَوِ
الْمَأْذُونُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ، بَطَل الإِْذْنُ بِالْقَبْضِ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ
غَيْرِهِ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَقْبُوضِ غَيْرَ
مَشْغُولٍ بِحَقِّ غَيْرِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
لِصِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ
غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا
__________
(1) المهذب 1 / 313.
(2) روضة الطالبين 5 / 376، وكشاف القناع 4 / 253 (مط. السنة المحمدية) .
(32/273)
مَشْغُولَةً بِمَتَاعٍ لِلْبَائِعِ، فَلاَ
يَصِحُّ الْقَبْضُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا فَارِغَةً (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي
صِحَّةِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِحَقِّ
غَيْرِهِ إلاَّ فِي دَارِ السُّكْنَى، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قَبْضِهَا
إخْلاَؤُهَا (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ،
وَيَصِحُّ قَبْضُ الشَّيْءِ الْمَشْغُول بِحَقِّ غَيْرِهِ، فَلَوْ خَلَّى
الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الدَّارِ الْمُبَاعَةِ، وَفِيهَا
مَتَاعٌ لِلْبَائِعِ صَحَّ الْقَبْضُ، لأَِنَّ اتِّصَالَهَا بِمِلْكِ
الْبَائِعِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ (3) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مُنْفَصِلاً
مُتَمَيِّزًا:
29 - هَذَا الشَّرْطُ قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
الْمَقْبُوضُ مُنْفَصِلاً مُتَمَيِّزًا عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، فَإِنْ كَانَ
مُتَّصِلاً بِهِ اتِّصَال الأَْجْزَاءِ، فَلاَ يَصِحُّ الْقَبْضُ.
وَعَلَى هَذَا: فَلَوْ رَهَنَ أَوْ وَهَبَ الأَْرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ
أَوْ بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوِ الزَّرْعَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 17، ورد المحتار 4 / 562، 5 / 690 ط. الحلبي،
بدائع الصنائع 6 / 125، 140، ومجمع الضمانات للبغدادي ص219، 238، وفتح
العزيز 8 / 442، والمجموع شرح المهذب 9 / 276، ومغني المحتاج 2 / 72.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 145، ومنح الجليل 2 / 689.
(3) المغني 4 / 333 ط. دار المنار، وكشاف القناع 3 / 202 مط. أنصار السنة
المحمدية.
(32/273)
وَالشَّجَرَ بِدُونِ الأَْرْضِ، أَوِ
الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ، أَوِ الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ، فَلاَ
يَصِحُّ الْقَبْضُ وَلَوْ سَلَّمَ الْكُل، لأَِنَّ الْمَرْهُونَ أَوِ
الْمَوْهُوبَ الْمُرَادَ قَبْضُهُ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ اتِّصَال
الأَْجْزَاءِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ (1) .
وَسَبَبُ اشْتِرَاطِهِمْ هَذَا الشَّرْطَ أَنَّ اتِّصَال الشَّيْءِ بِحَقِّ
الْغَيْرِ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَيَحُول دُونَهُ، وَمِنْ
أَجْل ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ قَبْضُهُ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَال (2) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةً شَائِعَةً:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الشُّيُوعِ لِصِحَّةِ
الْقَبْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ
أَنَّهُ يَصِحُّ قَبْضُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ، لأَِنَّ الشُّيُوعَ لاَ
يُنَافِي صِحَّةَ الْقَبْضِ، إذْ لَوْ كَانَ الْقَبْضُ غَيْرَ مُتَحَقِّقٍ
فِي الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ كُل وَاحِدٍ مِنَ
الشَّرِيكَيْنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حِصَّتِهِ، لَكَانَ كُل شَرِيكَيْنِ
فِي مِلْكٍ شَائِعٍ غَيْرَ قَابِضَيْنِ لَهُ، وَلَوْ كَانَا غَيْرَ
قَابِضَيْنِ لَهُ لَكَانَ مُهْمَلاً لاَ يَدَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا
أَمْرٌ يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْعِيَانُ، أَمَّا الشَّرْعُ، فَلأَِنَّهُ
جَعَل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 125، 140، والفتاوى الهندية 3 / 17.
(2) رد المحتار 6 / 479 ط. الحلبي.
(32/274)
تَصَرُّفَهُمَا فِيهِ تَصَرُّفَ ذِي
الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْعِيَانُ، فَلِكَوْنِهِ عِنْدَ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّةً يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا، أَوْ عِنْدَهُمَا مَعًا
يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَيَسْتَغِلاَّنِهِ (1) .
غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ
قَبْضِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ الشُّيُوعِ لِصِحَّةِ
الْقَبْضِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ:
أ - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ قَبْضَ
الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ بِقَبْضِ الْكُل.
فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ مَا عَدَا حِصَّتِهِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ
لِشَرِيكِهِ، لأَِنَّ قَبْضَ الشَّيْءِ يَعْنِي وَضْعَ الْيَدِ عَلَيْهِ
وَالتَّمَكُّنَ مِنْهُ، وَفِي قَبْضِهِ لِلْكُل وَضْعٌ لِيَدِهِ عَلَى
حِصَّتِهِ وَتَمَكُّنٌ مِنْهَا.
قَالُوا: وَلاَ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ إذْنُ الشَّرِيكِ إذَا كَانَ الشَّيْءُ
مِمَّا يُقْبَضُ بِالتَّخْلِيَةِ. أَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يُقْبَضُ
بِالنَّقْل وَالتَّحْوِيل، فَيُشْتَرَطُ إذْنُ الشَّرِيكِ، لأَِنَّ
قَبْضَهُ بِنَقْلِهِ، وَنَقْلُهُ لاَ يَتَأَتَّى إلاَّ بِنَقْل حِصَّةِ
شَرِيكِهِ مَعَ حِصَّتِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي مَال الْغَيْرِ بِدُونِ
إذْنِهِ لاَ يَجُوزُ.
فَإِنْ أَبَى الشَّرِيكُ الإِْذْنَ، فَلِمُسْتَحِقِّ قَبْضِهِ أَنْ
يُوَكِّل شَرِيكَهُ فِي قَبْضِ حِصَّتِهِ،
__________
(1) الأم 3 / 125، 169 (ط بولاق) ، وفتح العزيز 8 / 459، وشرح التاودي على
تحفة ابن عاصم 1 / 178، 2 / 234، والبهجة شرح التحفة 2 / 235، والمغني 4 /
333، 5 / 596 ط. دار المنار، وكشاف القناع 3 / 202، 4 / 257 مط. السنة
المحمدية.
(32/274)
فَيَصِحُّ الْقَبْضُ، فَإِنْ لَمْ
يُوَكِّلْهُ قَبَضَ لَهُ الْحَاكِمُ، أَوْ نَصَبَ مَنْ يَقْبِضُ لَهُمَا،
فَيَنْقُلُهُ لِيَحْصُل الْقَبْضُ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ
فِي ذَلِكَ، وَيَتِمُّ بِهِ عَقْدُ شَرِيكِهِ (1) .
ب - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: قَبْضُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ يَكُونُ
بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهَا كَمَا كَانَ صَاحِبُهَا يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا
مَعَ شَرِيكِهِ، إلاَّ فِي الْمَرْهُونِ الَّذِي يَكُونُ الشَّرِيكُ فِيهِ
الرَّاهِنَ، فَيُشْتَرَطُ قَبْضُ الْكُل كَيْ لاَ تَجْتَمِعَ يَدُ
الرَّاهِنِ وَيَدُ الْمُرْتَهِنِ مَعًا، سَوَاءٌ أَذِنَ الشَّرِيكُ
الرَّاهِنُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، فَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ نِصْفَ دَارِهِ،
وَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا، فَدَخَل الْمَوْهُوبُ لَهُ فَسَاكَنَهُ فِيهَا،
وَصَارَ حَائِزًا بِالسُّكْنَى وَالاِرْتِفَاقِ بِمَنَافِعِ الدَّارِ،
وَالْوَاهِبُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَفْعَلُهُ الشَّرِيكَانِ
فِي السُّكْنَى، فَذَلِكَ قَبْضٌ تَامٌّ، وَكَذَلِكَ كُل مَنْ وَهَبَ
جُزْءًا مِنْ مَالٍ أَوْ دَارٍ، وَتَوَلَّى احْتِيَازَ ذَلِكَ مَعَ
وَاهِبِهِ، وَشَارَكَهُ فِي الاِغْتِلاَل وَالاِرْتِفَاقِ، فَهُوَ قَبْضٌ
(2) .
لَكِنْ لَوْ رَهَنَ شَخْصٌ نِصْفَ دَارِهِ شَائِعًا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ
إلاَّ بِقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ جَمِيعِهَا لِئَلاَّ تَجُول يَدُ الرَّاهِنِ
فِيهَا (3) ، أَمَّا لَوْ كَانَ النِّصْفُ غَيْرُ الْمَرْهُونِ لِغَيْرِ
الرَّاهِنِ فَيَحْصُل الْقَبْضُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 400، وكشاف القناع 3 / 202، 4 / 257.
(2) شرح ميارة على تحفة ابن عاصم 2 / 146.
(3) شرح التاودي على التحفة 1 / 178، وشرح ميارة على التحفة 1 / 116.
(32/275)
بِحُلُولِهِ فِي حِصَّةِ الرَّاهِنِ مَعَ
الشَّرِيكِ فِي السُّكْنَى وَالاِرْتِفَاقِ (1) .
وَالثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ
الْقَبْضِ أَلاَ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةً شَائِعَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ
مَعْنَى الْقَبْضِ إثْبَاتُ الْيَدِ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي
الشَّيْءِ الْمَقْبُوضِ، وَتَحَقُّقُ ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ
وَحْدَهُ لاَ يُتَصَوَّرُ، فَإِنَّ سُكْنَى بَعْضِ الدَّارِ شَائِعًا
وَلُبْسَ بَعْضِ الثَّوْبِ شَائِعًا مُحَالٌ، وَإِنْ قَابَضَهُ لاَ
يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَلَوْ حَازَ الْكُل، نَظَرًا
لِتَعَلُّقِ حَقِّ الشَّرِيكِ بِهِ. (2)
مَا يَحِل مَحَل الْقَبْضِ:
الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ بِالْعَقْدِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِ
الشَّخْصِ قَبْل أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِيَدِ صَاحِبِهِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى:
31 - إنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِيَدِ الشَّخْصِ قَبْل أَنْ يَسْتَحِقَّ
قَبْضَهُ بِالْعَقْدِ، كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا أَوْ وَهَبَهُ أَوْ
رَهَنَهُ عِنْدَ غَاصِبٍ أَوْ مُسْتَعِيرٍ أَوْ مُودَعٍ أَوْ مُسْتَأْجِرٍ
أَوْ غَيْرِهِ، فَهَل يَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ عَلَى الْعَقْدِ عَنِ
الْقَبْضِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعَقْدُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ أَمْ
لاَ؟
__________
(1) لباب اللباب لابن راشد القفصي ص 170، وشرح ميارة على التحفة 1 / 116
وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 6 / 120، 138.
(32/275)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(الْقَوْل الأَْوَّل) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ
يَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ
بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ يَدَ ضَمَانٍ
أَمْ يَدَ أَمَانَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْضَ
أَمَانَةٍ أَمْ قَبْضَ ضَمَانٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ وَلاَ مُضِيُّ
زَمَانٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَبْضُ (1) .
أَمَّا نِيَابَتُهُ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ،
فَلأَِنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ قَبْضٌ حَقِيقَةً، لِوُجُودِ
الْحِيَازَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَقَدْ وُجِدَ
الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، وَلاَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي وُقُوعُهُ
ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْقَبْضَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ أَوْ
كَوْنِ الْقَبْضِ السَّابِقِ أَقْوَى، بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ ضَمَانِ
الْيَدِ، حَتَّى يَنُوبَ عَنِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ،
فَلأَِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ: إثْبَاتُ الْيَدِ
وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا
الأَْمْرُ، وُجِدَ الْقَبْضُ، أَمَّا مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ كَوْنِ
الْمَقْبُوضِ مَضْمُونًا أَوْ أَمَانَةً فِي يَدِ الْقَابِضِ، فَلَيْسَ
لِذَلِكَ أَيَّةُ عَلاَقَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ فِي حَقِيقَةِ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْحَاجَةِ لِلإِْذْنِ، فَلأَِنَّ إقْرَارَهُ لَهُ فِي
__________
(1) شرح ميارة على التحفة 1 / 111، المحرر للمجد بن تيمية 1 / 374، ونظرية
العقد لابن تيمية ص 236، كشاف القناع 3 / 249، 273، 4 / 253 (مط. أنصار
السنة المحمدية) ، المغني 4 / 334 وما بعدها، 5 / 594 ط. دار المنار.
(32/276)
يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي
الْقَبْضِ، كَمَا أَنَّ إجْرَاءَهُ الْعَقْدَ مَعَ كَوْنِ الْمَال فِي
يَدِهِ يَكْشِفُ عَنْ رِضَاهُ بِالْقَبْضِ، فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الإِْذْنِ
الْمُشْتَرَطِ فِي الاِبْتِدَاءِ، إذْ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لاَ
يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْحَاجَةِ إلَى مُضِيِّ زَمَانٍ يَتَأَتَّى فِيهِ
الْقَبْضُ، فَلأَِنَّ مُضِيَّ هَذَا الزَّمَانِ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ
الْقَبْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ
الْقَبْضُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعَقْدِ لاَعْتُبِرَ مُضِيُّ الزَّمَانِ
الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الْقَبْضُ، لِضَرُورَةِ امْتِنَاعِ حُصُول
الْقَبْضِ بِدُونِهِ، أَمَّا مَعَ كَوْنِهِ سَابِقًا لِلْعَقْدِ فَلاَ.
(الْقَوْل الثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الأَْصْل فِي ذَلِكَ
أَنَّ الْقَبْضَ الْمَوْجُودَ وَقْتَ الْعَقْدِ، إذَا كَانَ مِثْل
الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَهُ، يَعْنِي أَنْ
يَكُونَ كِلاَهُمَا قَبْضَ أَمَانَةٍ أَوْ قَبْضَ ضَمَانٍ، لأَِنَّهُ إذَا
كَانَ مِثْلَهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّنَاوُبِ، لأَِنَّ
الْمُتَمَاثِلَيْنِ غَيْرُ أَنْ يَنُوبَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ
صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُحْتَاجُ
إلَيْهِ.
أَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْقَبْضَانِ، بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَبْضَ
أَمَانَةٍ، وَالآْخَرُ قَبْضَ ضَمَانٍ، فَيُنْظَرُ: إنْ كَانَ الْقَبْضُ
السَّابِقُ أَقْوَى مِنَ الْمُسْتَحَقِّ، بِأَنْ كَانَ السَّابِقُ قَبْضَ
ضَمَانٍ وَالْمُسْتَحَقُّ قَبْضَ أَمَانَةٍ، فَيَنُوبَ عَنْهُ، لأَِنَّ
بِهِ يُوجَدُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ، وَإِنْ كَانَ
(32/276)
دُونَهُ، فَلاَ يَنُوبُ عَنْهُ، وَذَلِكَ
لاِنْعِدَامِ الْقَبْضِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، إذْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ
إلاَّ بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّ، فَلاَ يَنُوبُ عَنْ كُلِّهِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي
بِغَصْبٍ أَوْ مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَاشْتَرَاهُ مِنَ الْمَالِكِ
بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، فَيَنُوبُ الْقَبْضُ الأَْوَّل عَنِ الثَّانِي، حَتَّى
لَوْ هَلَكَ الشَّيْءُ قَبْل أَنْ يَذْهَبَ الْمُشْتَرِي إلَى بَيْتِهِ،
وَيَصِل إلَيْهِ، أَوْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ، كَانَ الْهَلاَكُ
عَلَيْهِ، لِتَمَاثُل الْقَبْضَيْنِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا
يُوجِبُ كَوْنَ الْمَقْبُوضِ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً
فَوَهَبَهُ مِنْهُ مَالِكُهُ، فَلاَ يُحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ،
وَيَنُوبُ الْقَبْضُ الأَْوَّل عَنِ الثَّانِي، لِتَمَاثُلِهِمَا مِنْ
حَيْثُ كَوْنُهُمَا أَمَانَةً.
وَلَوْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِ بِغَصْبٍ أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ،
فَوَهَبَهُ الْمَالِكُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ قَبْضِ
الْهِبَةِ، لِوُجُودِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ أَصْل الْقَبْضِ،
وَزِيَادَةُ ضَمَانٍ.
أَمَّا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِعَارِيَّةٍ أَوْ
وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ، فَلاَ يَنُوبُ الْقَبْضُ الأَْوَّل عَنِ الثَّانِي،
وَلاَ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ
الْقَبْضَ السَّابِقَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ
الضَّمَانِ فِي الْبَيْعِ، لِعَدَمِ
(32/277)
وُجُودِ الْقَبْضِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ
(1) .
(الْقَوْل الثَّالِثُ) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَنُوبُ الْقَبْضُ
السَّابِقُ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، سَوَاءٌ
أَكَانَتْ يَدُ الْقَابِضِ السَّابِقَةُ بِجِهَةِ ضَمَانٍ أَمْ بِجِهَةِ
أَمَانَةٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْضَ أَمَانَةٍ
أَمْ قَبْضَ ضَمَانٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ
أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: الإِْذْنُ مِنْ صَاحِبِهِ فِي الأَْظْهَرِ إنْ كَانَ لَهُ فِي
الأَْصْل الْحَقُّ فِي حَبْسِهِ، كَالْمَرْهُونِ، وَالْمَبِيعِ إذَا كَانَ
الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَمْ يُوفِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا
الْحَقُّ كَالْمَبِيعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، أَوْ حَالٍّ بَعْدَ نَقْدِ
ثَمَنِهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ ذَلِكَ الإِْذْنُ.
وَسَبَبُ اشْتِرَاطِ الإِْذْنِ مِنْ مُسْتَحِقِّ حَبْسِهِ فِي الأَْصْل،
هُوَ عَدَمُ جَوَازِ إسْقَاطِ حَقِّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَمَا لَوْ
كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ.
وَالثَّانِي: مُضِيُّ زَمَانٍ يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَبْضُ، إذَا كَانَ
الشَّيْءُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ
فِي يَدِهِ، لاَحْتَاجَ إلَى مُضِيِّ هَذَا الزَّمَانِ لِيَحُوزَهُ
وَيَتَمَكَّنَ مِنْهُ، وَلأَِنَّا جَعَلْنَا دَوَامَ الْيَدِ كَابْتِدَاءِ
الْقَبْضِ، فَلاَ أَقَل مِنْ مُضِيِّ زَمَانٍ يُتَصَوَّرُ فِيهِ ابْتِدَاءُ
الْقَبْضِ، وَلَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ ذَهَابُهُ وَمَصِيرُهُ إلَيْهِ
فِعْلاً.
__________
(1) مجمع الضمانات للبغدادي ص 217، بدائع الصنائع 5 / 248، 6 / 126 وما
بعدها، الفتاوى الهندية 3 / 22 وما بعدها.
(32/277)
وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ زَمَانِ إمْكَانِ
الْقَبْضِ، مِنْ وَقْتِ الإِْذْنِ فِيهِ، لاَ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
32 - إذَا كَانَ الشَّيْءُ بِيَدِ صَاحِبِهِ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ
بَائِعِهِ، أَوِ الْمَوْهُوبِ فِي يَدِ وَاهِبِهِ، فَقَدْ فَرَّقَ
الْفُقَهَاءُ - فِي قَضِيَّةِ مَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقَبْضِ - بَيْنَ
حَالَةِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَبَيْنَ حَالَةِ الْمَوْهُوبِ
فِي يَدِ الْوَاهِبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ:
أ - أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي
ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ قَبْضِ
الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ بَائِعِهِ، أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي
بِإِتْلاَفٍ أَوْ تَعْيِيبٍ أَوْ تَغْيِيرِ صُورَةٍ أَوِ اسْتِعْمَالٍ،
لأَِنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ
التَّصَرُّفِ، وَالإِْتْلاَفُ وَالتَّعْيِيبُ وَتَغْيِيرُ الصُّورَةِ
وَالاِسْتِعْمَال تَصَرُّفٌ فِيهِ حَقِيقَةً، فَكَانَ قَبْضًا مِنْ بَابِ
أَوْلَى، لأَِنَّ التَّمْكِينَ مِنَ التَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ
التَّصَرُّفِ، كَمَا أَنَّ صُدُورَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ
الْمُشْتَرِي يَنْطَوِي عَلَى إثْبَاتِ الْيَدِ فِعْلاً، إذْ لاَ
يُتَصَوَّرُ صُدُورُهَا مِنْهُ مَعَ تَخَلُّفِ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَتْ
تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ ضَرُورَةً.
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ مَا لَوْ فَعَل الْبَائِعُ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 281، ومغني المحتاج 2 / 128، وفتح العزيز
للرافعي 10 / 65 - 71.
(32/278)
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ
الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْل
الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ.
وَلَوْ أَعَارَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَوْ أَوْدَعَهُ أَجْنَبِيًّا،
صَارَ بِذَلِكَ قَابِضًا لأَِنَّهُ بِالإِْعَارَةِ وَالإِْيدَاعِ أَثْبَتَ
يَدَ النِّيَابَةِ لِغَيْرِهِ فِيهِ، فَصَارَ قَابِضًا، وَكَذَا لَوْ
وَهَبَهُ أَجْنَبِيًّا، فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ.
أَمَّا إذَا أَعَارَهُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ،
أَوْ آجَرَهُ إيَّاهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْضًا، لأَِنَّ
هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ تَصِحُّ مِنَ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ يَدَ
الْحَبْسِ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ ثَابِتَةٌ لِلْبَائِعِ، فَلاَ
يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ يَدِ النِّيَابَةِ لَهُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ،
فَلَمْ تَصِحَّ، وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَتْلَفَ
الْمَبِيعَ حِسًّا أَوْ شَرْعًا قَبْل قَبْضِهِ، كَانَ إتْلاَفُهُ قَبْضًا
إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُتْلِفُ الْمَبِيعَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ
فَوَجْهَانِ، وَالأَْصَحُّ اعْتِبَارُهُ قَبْضًا.
وَإِذَا أَتْلَفَتِ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ، وَهُوَ بِيَدِ الزَّوْجِ،
صَارَتْ بِذَلِكَ قَابِضَةً، وَبَرِئَ الزَّوْجُ (2) .
(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَتْلَفَ
الْمَبِيعَ، وَهُوَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 246 وما بعدها، ورد المحتار 4 / 561 ط. الحلبي.
(2) مغني المحتاج 2 / 66 وما بعدها، وروضة الطالبين 3 / 499 وما بعدها و7 /
251.
(32/278)
قَبْضًا لَهُ، وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ
الثَّمَنُ، لأَِنَّهُ مَالُهُ وَقَدْ أَتْلَفَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ
الإِْتْلاَفُ عَنْ عَمْدٍ أَمْ خَطَأٍ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ
يَنْقُدَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَهُ، وَإِنْ كَانَ
دَفَعَهُ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِهِ. (1)
(ب) أَمَّا إذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ بِيَدِ الْوَاهِبِ،
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُعْتَبَرُ إتْلاَفُ الْمَوْهُوبِ لِلْعَيْنِ
الْمَوْهُوبَةِ قَبْضًا، لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ الْقَبْضَ بِدُونِ إذْنِ
الْوَاهِبِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إذَا أَتْلَفَ الْمُتَّهَبُ الْمَوْهُوبَ، وَهُوَ
فِي يَدِ الْوَاهِبِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، اُعْتُبِرَ
قَبْضًا وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ وَآثَارُهُ:
33 - دَلَّتِ النُّصُوصُ وَالْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ
عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ الاِشْتِرَاطُ مُخْتَلَفًا فِي مَدَاهُ بَيْنَ عَقْدٍ وَآخَرَ،
وَبَيْنَ رَأْيِ فَقِيهٍ أَوْ مَذْهَبٍ وَبَيْنَ رَأْيِ غَيْرِهِ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْمُجْتَهِدِينَ.
فَتَارَةً يَكُونُ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، بِحَيْثُ
يَبْطُل الْعَقْدُ إذَا تَفَرَّقَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 191، وكشاف القناع 3 / 231 مط. الحكومة بمكة
المكرمة.
(2) روضة الطالبين 5 / 377.
(3) كشاف القناع 3 / 231 مط. الحكومة بمكة المكرمة، وشرح منتهى الإرادات 2
/ 191.
(32/279)
الْعَاقِدَانِ قَبْلَهُ، وَتَارَةً يَكُونُ
شَرْطًا فِي انْتِقَال مِلْكِيَّةِ مَحَل الْعَقْدِ وَاسْتِقْرَارِهَا،
كَمَا أَنَّهُ أَحْيَانَا يَكُونُ شَرْطًا فِي لُزُومِ الْعَقْدِ، بِحَيْثُ
يَكُونُ جَائِزًا قَبْلَهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهَا لِنَقْل
الْمِلْكِيَّةِ:
الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ - فِي الْجُمْلَةِ - الْقَبْضُ لِنَقْل
مِلْكِيَّةِ مَحَل الْعَقْدِ فِيهَا خَمْسَةٌ:
(أَوَّلاً) الْهِبَةُ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِنَقْل مِلْكِيَّةِ
الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ إلَى الْمَوْهُوبِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ
أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لاِنْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ إلَى
الْمَوْهُوبِ، وَأَنَّ الْهِبَةَ لاَ يَمْلِكُهَا الْمَوْهُوبُ إلاَّ
بِقَبْضِهَا.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ إذْنَ الْوَاهِبِ فِي الْقَبْضِ (1) .
(الثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّهُ
__________
(1) تكملة رد المحتار 8 / 424، 470 ط. الحلبي، والأشباه والنظائر لابن نجيم
ص353، وانظر م80، 82، 83 من مرشد الحيران، وروضة الطالبين 5 / 375، ومغني
المحتاج 2 / 400، والأم 3 / 274 بولاق، والأشباه والنظائر للسيوطي ص319،
والمحرر لمجد الدين بن تيمية 1 / 374، والقواعد لابن رجب ص71.
(32/279)
لاَ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لاِنْتِقَال
الْمِلْكِيَّةِ إلَى الْمَوْهُوبِ بَل تَثْبُتُ لَهُ بِالْعَقْدِ وَعَلَى
الْوَاهِبِ إقْبَاضُهُ وَفَاءً بِالْعَقْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) حَتَّى إنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى
إجْبَارِ الْوَاهِبِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَوْهُوبِ إنِ امْتَنَعَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ
بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ، حَيْثُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ مَا
اشْتَرَاهُ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّجَاشِيِّ أُوَاقًا مِنْ مِسْكٍ، ثُمَّ
قَال لأُِمِّ سَلَمَةَ: إنِّي لاَ أَرَاهُ إلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلاَ أَرَى
الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلاَّ سَتُرَدُّ، فَإِذَا رُدَّتْ
إلَيَّ، فَهُوَ لَكِ أَمْ لَكُمْ، فَكَانَ كَمَا قَال (3) فَدَل ذَلِكَ
عَلَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ لاَ تُمْلَكُ إلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:
إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ
مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَال: وَاَللَّهِ
يَا بُنَيَّةُ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدِي
مِنْكِ، وَلاَ أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا
__________
(1) سورة المائدة / 1.
(2) الشرح الكبير 4 / 101.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه ولم أهدى إلى النجاشي أواقًا من مسك. .
. ". أخرجه الحاكم (2 / 188) وقال الذهبي: منكر، ومسلم الزنجي ضعيف.
(32/280)
بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ
نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ
وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال
وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا أَبَتِ، وَاَللَّهِ لَوْ
كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ، فَمَنِ
الأُْخْرَى؟ فَقَال أَبُو بَكْرٍ: ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ، أَرَاهَا
جَارِيَةً (1) ، قَالُوا: فَلَوْلاَ تَوَقُّفُ الْمِلْكِ فِي الْمَوْهُوبِ
عَلَى الْقَبْضِ لَمَا قَال إنَّهُ مَال وَارِثٍ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَضَى فِي الأَْنْحَال: أَنَّ مَا قُبِضَ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ،
وَمَا لَمْ يُقْبَضْ فَهُوَ مِيرَاثٌ (2) ، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ
عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ (3) ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ
فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلأَِنَّ انْتِفَاءَ الْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ
يُضَعِّفُ مِنْ سَبَبِيَّةِ الْعَقْدِ لإِِضَافَةِ الْمِلْكِ
لِلْمَوْهُوبِ، فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ يَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَى أَنْ
يَتَقَوَّى الْعَقْدُ بِالْقَبْضِ (4) .
(ثَانِيًا) الْوَقْفُ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ
__________
(1) أثر عائشة أخرجه مالك في الموطأ 2 / 752.
(2) أثر عمر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6 / 170) .
(3) روى ذلك عنهم البيهقي في السنن الكبرى (6 / 170) .
(4) كشف الأسرار على أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري 2 / 69.
(32/280)
لِتَمَامِ الْوَقْفِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ
فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، أَبُو يُوسُفَ، إلَى أَنَّ الْوَقْفَ
إذَا صَحَّ زَال بِهِ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ
الْقَبْضُ (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ
فِي الْجُمْلَةِ لِتَمَامِ الْوَقْفِ وَزَوَال مِلْكِيَّةِ الْوَقْفِ عَنِ
الْوَاقِفِ (2) .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ
بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ حَقِيقَةً، وَلاَ يَزُول مِلْكُهُ
عَنْهُ إلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إنْ بَنَى شَخْصٌ سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ
خَانًا لِيَسْكُنَهُ أَبْنَاءُ السَّبِيل، أَوْ رِبَاطًا لِلْمُجَاهِدِينَ،
أَوْ خَلَّى أَرْضًا مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا
لِلْمُصَلِّينَ، زَال مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقَال
مُحَمَّدٌ: إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنَ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 383، والمغني 5 / 600، والكافي 2 / 455، نشر المكتب
الإسلامي، والاختيار 3 / 41 - 42، والمبسوط 12 / 35.
(2) القوانين الفقهية ص364 - 365، نشر دار الكتاب العربي، والمغني 5 /
6000، والكافي 2 / 455، والاختيار 3 / 41، وحاشية ابن عابدين 3 / 364 -
365، والمبسوط 12 / 35، ومغني المحتاج 3 / 383.
(3) ابن عابدين 3 / 357، والهداية مع فتح القدير 5 / 418، 447، 448.
(32/281)
وَالرِّبَاطَ وَدَفَنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ
وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ مُسْلِمٌ زَال مِلْكُهُ عَنِ الْمَوْقُوفِ، وَلاَ
يُزَال مِلْكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَقْفٌ) .
(ثَالِثًا) الْقَرْضُ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْقَرْضِ
لِنَقْل الْمِلْكِيَّةِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْقَوْل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ، إلَى أَنَّ
الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَال الْمُقْرَضَ بِالْقَبْضِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ
بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُقْرِضِ
بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ
فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُقْرِضِ،
وَتِلْكَ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ، إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا جَازَ لَهُ
التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْقَرْضَ عَقْدٌ اجْتَمَعَ فِيهِ جَانِبُ
الْمُعَاوَضَةِ وَجَانِبُ التَّبَرُّعِ، أَمَّا الْمُعَاوَضَةُ: فَلأَِنَّ
الْمُسْتَقْرِضَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ عِوَضًا عَمَّا
__________
(1) رد المحتار 5 / 164، والأشباه والنظائر لابن نجيم وحاشية الحموي عليه 2
/ 204، وفتح العزيز 9 / 391، ومغني المحتاج 2 / 120، والمهذب 1 / 310،
وكشاف القناع 3 / 257 ط. السنة المحمدية، والمحرر 1 / 334، ومنتهى الإرادات
1 / 397.
(32/281)
اسْتَقْرَضَهُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ:
فَلأَِنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى تَبَرُّعٍ مِنَ الْمُقْرِضِ لِلْمُسْتَقْرِضِ
بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَال الْمُسْتَقْرَضِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ،
غَيْرَ أَنَّ جَانِبَ التَّبَرُّعِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَرْجَحُ، لأَِنَّ
غَايَتَهُ وَثَمَرَتَهُ إنَّمَا هِيَ بَذْل مَنَافِعِ الْمَال الْمُقْرَضِ
لِلْمُسْتَقْرِضِ مَجَّانًا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ
فِي الْحَال، وَلاَ يَمْلِكُهُ مَنْ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلِهَذَا
كَانَ كَبَاقِي التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَاتٍ وَصَدَقَاتٍ، فَتَنْتَقِل
الْمِلْكِيَّةُ فِيهِ بِالْقَبْضِ، لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلاَ
بِالتَّصَرُّفِ.
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُ
الْمَال الْمُقْرَضَ مِلْكًا تَامًّا بِالْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ،
وَيَصِيرُ مَالاً مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيُقْضَى لَهُ بِهِ. (1)
(وَالثَّالِثُ) لأَِبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ
فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: وَهُوَ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ إنَّمَا يَمْلِكُ
الْمَال الْمُقْرَضَ بِالتَّصَرُّفِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَبَيَّنَ
ثُبُوتُ مِلْكِهِ قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّصَرُّفِ: كُل عَمَلٍ
يُزِيل الْمِلْكَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالإِْعْتَاقِ وَالإِْتْلاَفِ،
وَلاَ يَكْفِي الرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ وَالإِْجَارَةُ وَطَحْنُ
الْحِنْطَةِ وَخَبْزُ الدَّقِيقِ وَذَبْحُ الشَّاةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 226، والبهجة شرح التحفة
2 / 288.
(2) بدائع الصنائع 7 / 396، وروضة الطالبين 4 / 35، وفتح العزيز 9 / 391،
ومغني المحتاج 2 / 120، والمهذب 1 / 310، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 320،
والتنبيه للشيرازي ص 70.
(32/282)
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا
ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ فِيمَا إذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُقْرَضَةُ بَعْدَ
الْعَقْدِ وَقَبْل الْقَبْضِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ ضَمَانُهَا
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُقْرِضِ، وَيَكُونُ هَلاَكُهَا فِي عُهْدَتِهِ،
لأَِنَّهَا لَمْ تَزَل فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا الْمُقْتَرِضُ
بَعْدُ، فَلاَ تَنْشَغِل ذِمَّتُهُ بِعِوَضِهَا أَصْلاً، بَيْنَمَا يَكُونُ
ضَمَانُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمُقْتَرِضِ، وَهُوَ الَّذِي
يَتَحَمَّل تَبِعَةَ هَلاَكِهَا، وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا لأَِنَّهَا
هَلَكَتْ فِي مِلْكِهِ.
كَمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
قَوْلٍ، فِيمَا إذَا اسْتَقْرَضَ شَخْصٌ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ
وَقَبَضَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى ذَلِكَ الْكُرَّ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُقْرِضِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ، لأَِنَّ
الْمُقْتَرِضَ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْقَبْضِ، فَيَصِيرُ بِعَقْدِ الشِّرَاءِ
التَّالِي مُشْتَرِيًا مِلْكَ نَفْسِهِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْل الآْخَرِ
فَالْكُرُّ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُقْرِضِ، وَيَصِيرُ الْمُسْتَقْرِضُ
مُشْتَرِيًا مِلْكَ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ (1) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 164 ط. الحلبي، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 440.
(32/282)
رَابِعًا) الْعَارِيَّةُ:
37 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنَافِعَ
الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ لاَ تَنْتَقِل إلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، لاَ
بِالْقَبْضِ وَلاَ بِغَيْرِهِ. لأَِنَّ الْعَارِيَّةُ عِنْدَهُمْ تُفِيدُ
إبَاحَةَ الْمَنَافِعِ لِلْمُسْتَعِيرِ لاَ تَمْلِيكَهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لاِنْتِقَال
مَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ إلَى مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّ
الإِْعَارَةَ تَبَرُّعٌ بِتَمْلِيكِ مَنَافِعِ الشَّيْءِ الْمُعَارِ، فَلاَ
تُمْلَكُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، كَالْهِبَةِ (1) .
(ر: إعَارَةٌ ف 14) .
(خَامِسًا) الْمُعَاوَضَاتُ الْفَاسِدَةُ:
38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْقَبْضِ نَاقِلاً
لِلْمِلْكِيَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الْفَاسِدَةِ
أَوْ غَيْرَ نَاقِلٍ (2) .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ كَالْبَاطِل، لاَ
يَنْعَقِدُ أَصْلاً، وَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بَتَاتًا، سَوَاءٌ قَبَضَ
الْعَاقِدُ الْبَدَل الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مِلْكِيَّةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
تَنْتَقِل فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْفَاسِدِ بِقَبْضِهِ بِرِضَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 214، 7 / 396، ولسان الحكام ص87، وشرح المجلة
للأتاسي 1 / 138، 3 / 309، ونهاية المحتاج 5 / 119، والمغني 5 / 227.
(2) وهي العقود التي تقوم على أساس إنشاء حقوق والتزامات مالية بين
العاقدين، كالبيع والإجارة والسلم ونحوها.
(32/283)
صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى
الْقَابِضِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ (1) .
الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي صِحَّتِهَا:
(أَوَّلاً) الصَّرْفُ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ
الصَّرْفِ التَّقَابُضُ فِي الْبَدَلَيْنِ قَبْل التَّفَرُّقِ (2) ، قَال
ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا افْتَرَقَا قَبْل أَنْ
يَتَقَابَضَا أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ،
وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ
بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً
بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ. (4)
__________
(1) رد المحتار 5 / 49، 99 وما بعدها ط. الحلبي، ومواهب الجليل 4 / 380،
والمغني 4 / 229، والمجموع 9 / 377 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 5 / 215، ورد المحتار 5 / 258 ط. الحلبي، وأحكام القرآن
للجصاص 1 / 554، وروضة الطالبين 3 / 379، والأم 3 / 36 ط بولاق، وفتح العلي
المالك لعليش 2 / 110، وكشاف القناع 3 / 217، والمغني 4 / 51 ط. دار
المنار، ومنتهى الإرادات 1 / 380.
(3) المغني 4 / 51، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 69، وكشاف القناع 3 / 217
ط. السنة المحمدية.
(4) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . ". أخرجه
مسلم (3 / 1211) .
(32/283)
وَبِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ
بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ
بِالْوَرِقِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ
بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآْخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ
حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ، إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ
الرَّمَاءَ أَيِ الرِّبَا (1) .
لِهَذَا إذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُتَصَارِفَيْنِ التَّقَابُضُ فِي
الْمَجْلِسِ وَأَرَادَا الاِفْتِرَاقَ، لَزِمَهُمَا دِيَانَةً أَنْ
يَتَفَاسَخَا الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا قَبْل التَّفَرُّقِ كَيْ لاَ يَأْثَمَا
بِتَأْخِيرِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، لأَِنَّ الشَّارِعَ نَهَى
عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رِبًا
إلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُل هَذَا الشَّرْطُ حَصَل
الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَفِي
التَّفَاسُخِ قَبْل التَّفَرُّقِ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ، فَلاَ تَلْزَمُهُمَا
شُرُوطُهُ (2) .
لَكِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ - هُوَ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ قَبْل التَّفَرُّقِ
لِصِحَّةِ الصَّرْفِ - مَا لَوْ تَفَرَّقَا قَبْل التَّقَابُضِ غَلَبَةً،
أَيْ بِمَا يُغْلَبَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، كَنِسْيَانٍ أَوْ
غَلَطٍ أَوْ سَرِقَةٍ مِنَ الصَّرَّافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَال الشَّيْخُ
عُلَيْشٌ:
__________
(1) أثر ابن عمر: أخرجه البيهقي، ومالك، وعبد الرزاق في مصنفه، (انظر نصب
الراية 4 / 56، والسنن الكبرى للبيهقي 5 / 284) .
(2) المجموع شرح المهذب للنووي 9 / 404، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 14.
(32/284)
وَقَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ بِحَيْلُولَةِ
سَيْلٍ أَوْ نَارٍ أَوْ عَدُوٍّ قَبْل التَّقَابُضِ (1) وَقَالُوا بِعَدَمِ
بُطْلاَنِ الصَّرْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (2) .
(ثَانِيًا) بَيْعُ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ بِبَعْضِهَا:
40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ
الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا الْحُلُول وَانْتِفَاءُ
النَّسِيئَةِ، وَكَذَا إذَا بِيعَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، وَكَانَ
الْمَالاَنِ الرِّبَوِيَّانِ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، إلاَّ أَنْ
يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا وَالآْخَرُ مُثَمَّنًا، كَبَيْعِ
الْمَوْزُونَاتِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ،
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ،
سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ. (4)
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ هَذَا عَلَى
__________
(1) التاج والإكليل 4 / 307، ومنح الجليل 2 / 508.
(2) القوانين الفقهية ص276 (دار العلم للملايين) ، وبداية المجتهد 2 / 164
ط الجمالية.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 552، والأم 3 / 26، 31 ط بولاق، وروضة
الطالبين 3 / 378 وما بعدها، والدر المختار مع رد المحتار 5 / 172 ط.
الحلبي، وبداية المجتهد 2 / 107 ط الجمالية 1329 هـ) ، والمنتقى للباجي 5 /
3، وكشاف القناع 3 / 215، وما بعدها ط السنة المحمدية، والمغني 4 / 9 وما
بعدها ط. دار المنار.
(4) تقدم تخريجه ف39.
(32/284)
اشْتِرَاطِ الْحُلُول وَانْتِفَاءِ
النَّسِيئَةِ، اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ قَبْل التَّفَرُّقِ
مِنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ
بِبَعْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ فِي
الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْل التَّقَابُضِ بَطَل
الْعَقْدُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ النَّسِيئَةِ ثَبَتَ فِي
الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا،
وَتَحْرِيمُ النَّسَاءِ وَوُجُوبُ التَّقَابُضِ مُتَلاَزِمَانِ، إذْ مِنَ
الْمُحَال أَنْ يَشْتَرِطَ الشَّارِعُ انْتِفَاءَ الأَْجَل فِي بَيْعِ
جَمِيعِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ، وَيَكُونُ تَأْجِيل التَّقَابُضِ فِي
بَعْضِهَا جَائِزًا، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَدًا بِيَدٍ وَهَاءَ وَهَاءَ فِي شَأْنِ بَيْعِ الأَْمْوَال
الرِّبَوِيَّةِ السِّتَّةِ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ
إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ فِيهَا جَمِيعًا (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ
قَبْل التَّفَرُّقِ إلاَّ فِي الصَّرْفِ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ - كَبَيْعِ
حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ حِنْطَةٍ - فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ
التَّعْيِينُ دُونَ التَّقَابُضِ، لأَِنَّ الْبَدَل فِي غَيْرِ الصَّرْفِ
يَتَعَيَّنُ بِمُجَرَّدِ التَّعْيِينِ
__________
(1) فتح العزيز 8 / 165 وما بعدها، وروضة الطالبين 3 / 378 وما بعدها،
والمنتقى للباجي 4 / 260، 5 / 3، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 256،
وكشاف القناع 3 / 216، والمغني 4 / 9.
(32/285)
قَبْل الْقَبْضِ، وَيَتَمَكَّنُ
مُشْتَرِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّعَيُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ
لاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الْبَدَل فِي
الصَّرْفِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ، إذِ الْقَبْضُ
شَرْطٌ فِي تَعْيِينِهِ، حَيْثُ إنَّ الأَْثْمَانَ لاَ تَتَعَيَّنُ
مَمْلُوكَةً إلاَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ
تَبْدِيلُهَا بِمِثْلِهَا قَبْل تَسْلِيمِهَا (1) .
(ثَالِثًا) السَّلَمُ:
41 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ
قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَال قَبْل الاِفْتِرَاقِ، فَإِنْ
تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ
قَبْضُ رَأْسِ الْمَال قَبْل تَفَرُّقِهِمَا أَوْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ
يَسِيرَةٍ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا
التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ أَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ
الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ " مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ "،
فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ بَطَل الْعَقْدُ.
(ر: سَلَمٌ ف 16 - 19) .
(رَابِعًا) إجَارَةُ الذِّمَّةِ:
42 - قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الإِْجَارَةَ بِاعْتِبَارِ مَحَل
تَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا إلَى
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 172، 178. ط. الحلبي.
(32/285)
قِسْمَيْنِ: إجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى
الْعَيْنِ، وَإِجَارَةٌ وَارِدَةٌ عَلَى الذِّمَّةِ.
أ - فَالإِْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ: يَكُونُ الْحَقُّ فِي
الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْعَيْنِ،
كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ سَيَّارَةً
مُعَيَّنَةً، أَوِ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ
بِنَاءِ حَائِطٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْجَارَةِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ الأُْجْرَةِ فِي الْمَجْلِسِ
لِصِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ لُزُومِهِ أَوِ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ
الْمَنَافِعِ فِيهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ إجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا -
إذِ الإِْجَارَةُ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ مَعْلُومٍ
- وَبَيْعُ الْعَيْنِ يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ
الإِْجَارَةُ.
ب - أَمَّا الإِْجَارَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الذِّمَّةِ: فَيَكُونُ
الْحَقُّ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِذِمَّةِ
الْمُؤَجِّرِ، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِلرُّكُوبِ
أَوِ الْحَمْل بِأَنْ قَال: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ دَابَّةً صِفَتُهَا كَذَا
لِتَحْمِلَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ قَال: أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ
خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ بِنَاءَ جِدَارٍ صِفَتُهُ كَذَا، فَقَبِل
الْمُؤَجَّرُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِ الأُْجْرَةِ فِيهَا
فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
(الأَْوَّل) : لِلْحَنَفِيَّةِ، فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ الأَْجْرَ لاَ
يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَلاَ يُمْلَكُ، فَلاَ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِهِ، بَل
بِتَعْجِيلِهِ أَوْ شَرْطِهِ فِي الإِْجَارَةِ
(32/286)
الْمُنَجَّزَةِ أَوِ الاِسْتِيفَاءِ
لِلْمَنْفَعَةِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ
قَبْضُ الأَْجْرِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الإِْجَارَةِ، قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: لاَ يُمْلَكُ الأَْجْرُ بِالْعَقْدِ، لأَِنَّهُ وَقَعَ عَلَى
الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَشَأْنُ الْبَدَل أَنْ
يَكُونَ مُقَابِلاً لِلْمُبْدَل، وَحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا
حَالاً لاَ يَلْزَمُ بَدَلُهَا حَالاً، إلاَّ إذَا شَرَطَهُ وَلَوْ
حُكْمًا، بِأَنْ عَجَّلَهُ لأَِنَّهُ صَارَ مُلْتَزِمًا لَهُ بِنَفْسِهِ
وَأَبْطَل الْمُسَاوَاةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْعَقْدُ (1) .
(وَالثَّانِي) : لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ لِصِحَّةِ
إجَارَةِ الذِّمَّةِ تَعْجِيل الأُْجْرَةِ، لاِسْتِلْزَامِ التَّأْخِيرِ
تَعْمِيرَ الذِّمَّتَيْنِ وَبَيْعَ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهُوَ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلاَّ إذَا شَرَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ، كَمَا لَوْ رَكِبَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّابَّةَ
الْمَوْصُوفَةَ فِي طَرِيقِهِ إلَى الْمَكَانِ الْمُشْتَرَطِ أَنْ
تَحْمِلَهُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ عِنْدَئِذٍ تَأْخِيرُ الأُْجْرَةِ،
لاِنْتِفَاءِ بَيْعِ الْمُؤَخَّرِ بِالْمُؤَخَّرِ، حَيْثُ إنَّ قَبْضَ
أَوَائِل الْمَنْفَعَةِ كَقَبْضِ أَوَاخِرِهَا، فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ
مِنَ التَّأْخِيرِ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ فِي حُكْمِ تَعْجِيل الأُْجْرَةِ
تَأْخِيرَهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، لأَِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ
يُعْطَى حُكْمَهُ، كَمَا فِي السَّلَمِ (2) ، وَلاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 6، والفتاوى الهندية 4 / 412.
(2) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 4 / 3 ط. مصطفى محمد 1373هـ،
والخرشي على خليل 7 / 3، والفروق للقرافي 2 / 133.
(32/286)
فَرْقَ بَيْنَ عَقْدِهَا بِلَفْظِ
الإِْجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ.
(وَالثَّالِثُ) : لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ
إجَارَةِ الذِّمَّةِ قَبْضُ الْمُؤَجِّرِ الأُْجْرَةَ فِي مَجْلِسِ
الْعَقْدِ، كَمَا اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَأْسَ مَال
السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْل الْقَبْضِ بَطَلَتِ
الإِْجَارَةُ، لأَِنَّ إجَارَةَ الذِّمَّةِ سَلَمٌ فِي الْمَنَافِعِ،
فَكَانَتْ كَالسَّلَمِ فِي الأَْعْيَانِ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ
الإِْجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ (1) .
(وَالرَّابِعُ) : لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْصُوفِ فِي
الذِّمَّةِ إذَا جَرَتْ بِلَفْظِ " سَلَمٍ " أَوْ " سَلَفٍ " -
كَأَسْلَمْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ فِي مَنْفَعَةِ دَابَّةٍ صِفَتُهَا كَذَا
وَكَذَا لِتَحْمِلَنِي إلَى مَكَانِ كَذَا، أَوْ فِي مَنْفَعَةِ آدَمِيٍّ
صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا لِبِنَاءِ حَائِطٍ صِفَتُهُ كَذَا مَثَلاً -
وَقَبِل الْمُؤَجِّرُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إجَارَةِ الذِّمَّةِ
عِنْدَئِذٍ تَسْلِيمُ الأُْجْرَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهَا
بِذَلِكَ تَكُونُ سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَضْ قَبْل
تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ لآَل الأَْمْرُ إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ
بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَمَّا إذَا لَمْ تَجْرِ إجَارَةُ
الذِّمَّةِ بِلَفْظِ " سَلَمٍ " وَلاَ " سَلَفٍ "، فَلاَ يُشْتَرَطُ
تَعْجِيل الأُْجْرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ
سَلَمًا، فَلاَ يَلْزَمُ فِيهَا شَرْطُهُ (2) .
__________
(1) فتح العزيز 12 / 205، وروضة الطالبين 5 / 176، والمهذب 1 / 406،
والأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، ونهاية المحتاج 4 / 208، 301.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 360، وانظر م 539 من مجلة الأحكام الشرعية على
مذهب الإمام أحمد.
(32/287)
(خَامِسًا) الْمُضَارَبَةُ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال إلَى الْعَامِل، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ
انْعَقَدَتْ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ
وَالْعَمَل مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ الْعَمَل إلاَّ
بَعْدَ خُرُوجِ رَأْسِ الْمَال مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَال إلَى الْعَامِل (1)
، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ اشْتِرَاطَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال
إلَيْهِ حَال الْعَقْدِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ
يَسْتَقِل الْعَامِل بِالْيَدِ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ
بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَال (2) ، وَعَلَى ذَلِكَ:
لَوْ شَرَطَ الْمَالِكُ أَنْ يَكُونَ الْمَال بِيَدِهِ لِيُوَفِّيَ مِنْهُ
ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ الْعَامِل فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْضُ الْعَامِل لِرَأْسِ
الْمَال (4) ، قَال الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِيَدِ رَبِّهِ،
لأَِنَّ مَوْرِدَ الْعَقْدِ الْعَمَل (5) .
__________
(1) رد المحتار 8 / 283 ط الحلبي، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 370 وما بعدها،
ومغنيي المحتاج 2 / 310، وروضة الطالبين 5 / 118 وما بعدها، والشرح الكبير
وحاشية الدسوقي عليه 3 / 517، وما بعدها، والمغني 5 / 25 ط. دار المنار.
(2) مغني المحتاج 2 / 310.
(3) البدائع 6 / 84، ومغني المحتاج 2 / 310.
(4) المغني 5 / 25.
(5) شرح منتهى الإرادات 2 / 327.
(32/287)
سَادِسًا) الْمُزَارَعَةُ:
44 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ
الْمُزَارَعَةِ تَسْلِيمُ الأَْرْضِ إلَى الْعَامِل مُخْلاَةً، أَيْ أَنْ
تُوجَدَ التَّخْلِيَةُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ بَيْنَ أَرْضِهِ وَبَيْنَ
الْعَامِل، حَتَّى لَوْ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ الْعَمَل عَلَى رَبِّ
الأَْرْضِ أَوْ شُرِطَ عَمَلُهُمَا مَعًا، فَلاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ
لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ) .
(سَابِعًا) الْمُسَاقَاةُ:
45 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ تَسْلِيمُ الأَْشْجَارِ إلَى الْعَامِل، فَلَوْ
شُرِطَ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ أَوْ مُشَارَكَتُهُ فِي الْيَدِ لَمْ
يَصِحَّ الْعَقْدُ لِعَدَمِ حُصُول التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الشَّجَرِ
وَبَيْنَ الْعَامِل (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُسَاقَاةٌ)
الْعُقُودُ الَّتِي يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِهَا:
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
(أَوَّلاً) الْهِبَةُ:
46 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ لِلُزُومِ
الْهِبَةِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
الْقَبْضُ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ، وَيَكُونُ لِلْوَاهِبِ قَبْل
__________
(1) رد المحتار 6 / 276، وبدائع الصنائع 6 / 178.
(2) رد المحتار 6 / 86، وفتح العزيز 12 / 131، والروضة 5 / 155، وشرح
المجلة للأتاسي 4 / 394.
(32/288)
الْقَبْضِ الرُّجُوعُ فِيهَا، فَإِذَا
قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَزِمَتْ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا:
لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ لِسَائِرِ الأُْصُول
عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) .
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ
أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل قَبْضِهَا.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إنْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوِ الْمَوْهُوبُ لَهُ
قَبْل الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ، لأَِنَّهُ يَئُول إلَى
اللُّزُومِ، وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل الْقَبْضِ
بَطَل الْعَقْدُ، أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلاَ تَبْطُل الْهِبَةُ،
وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الإِْقْبَاضِ أَوِ الرُّجُوعِ فِي
الْهِبَةِ.
وَاسْتَدَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ
الْهِبَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال لأُِمِّ سَلَمَةَ: إنِّي أَهْدَيْتُ إلَى النَّجَاشِيِّ
أُوَاقًا مِنْ مِسْكٍ، وَإِنِّي لاَ أَرَاهُ إلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلاَ أَرَى
الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلاَّ سَتُرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ
إلَيَّ فَهُوَ لَكِ أَمْ لَكُمْ (2) ، وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يَقُول ابْنُ آدَمَ
مَالِي مَالِي. . وَهَل لَكَ مِنْ مَالِكَ إلاَّ مَا أَكَلْتَ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 375، والأم 3 / 285 بولاق، والمهذب 1 / 454، وكفاية
الأخيار 1 / 176، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، وكشاف القناع 4 / 253
وما بعدها. ط السنة المحمدية، والمغني 5 / 591 وما بعدها. ط. دار المنار.
(2) حديث: " إني أهديت إلى النجاشي أواقًا من مسك. . . ". تقدم تخريجه ف
34.
(32/288)
فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ،
أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ (1) ، فَقَدْ شَرَطَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَةِ الإِْمْضَاءَ، وَالإِْمْضَاءُ
هُوَ الإِْقْبَاضُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ إلاَّ إذَا
كَانَتْ لأُِصُول الْوَاهِبِ أَوْ فُرُوعِهِ أَوْ لأَِخِيهِ أَوْ
لأُِخْتِهِ أَوْ أَوْلاَدِهِمَا أَوْ لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ أَوْ كَانَتْ
بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَال قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلِلْوَاهِبِ أَنْ
يَرْجِعَ عَنْ هِبَتِهِ فِي غَيْرِ الْحَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ بِرِضَا
الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لِلْحَاكِمِ فَيَفْسَخَ
الْهِبَةَ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ
وَالْقَبُول، لَكِنَّهَا لاَ تَتِمُّ وَلاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ،
وَيُجْبَرُ الْوَاهِبُ عَلَى إقْبَاضِهَا مَا دَامَ الْعَاقِدَانِ عَلَى
قَيْدِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْل الْقَبْضِ بَطَلَتِ
الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِيرَاثًا، أَمَّا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ
قَبْل الْقَبْضِ فَلاَ تَبْطُل، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ
الْوَاهِبِ بِهَا، لأَِنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لِمُوَرِّثِهِمْ قَبْل
مَوْتِهِ (4) .
(ثَانِيًا) الْوَقْفُ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اشْتِرَاطِ
__________
(1) حديث: " يقول ابن آدم مالي مالي. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2273) من حديث
عبد الله بن الشخير.
(2) انظر أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن فرج القرطبي ص504.
(3) مجلة الأحكام العدلية (م 864 - 868) ، وبدائع الصنائع 6 / 129 وما
بعدها.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 101، والقوانين الفقهية ص399 ط.
دار العلم للملايين.
(32/289)
الْقَبْضِ فِي الْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ - وَقَوْلُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ - إلَى
أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ، بَل يَلْزَمُ وَيَتِمُّ
بِدُونِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُسَبِّل ثَمَرَةَ أَرْضِهِ
وَيَحْبِسَ أَصْلَهَا (1) وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ
إلَى يَدِ أَحَدٍ يَحُوزُهَا دُونَهُ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ
يَتِمُّ بِحَبْسِ الأَْصْل وَتَسْبِيل الثَّمَرَةِ دُونَ اشْتِرَاطِ أَنْ
يَقْبِضَهُ أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا لأََمَرَهُ بِهِ (2) ،
وَبِقَوْل الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ آل عُمَرَ وَآل
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَجَعَلَهَا بَعْدَهُ إلَى حَفْصَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَوَلِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَتْ صَدَقَتَهَا حَتَّى مَاتَتْ،
وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَْنْصَارِ أَنَّهُ وَلِيَ
صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ (3) ، وَبِقِيَاسِ الْوَقْفِ عَلَى الْعِتْقِ،
ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل
__________
(1) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يسبل ثمرة
أرضه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 392) مسلم (3 / 1255) .
(2) الأم 3 / 281 ط. بولاق.
(3) الأم 3 / 281، وسنن البيهقي 6 / 161 وما بعدها، وانظر بدائع الصنائع 6
/ 219.
(32/289)
إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ أَوْ دَارَهُ،
فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَنَافِعَهَا، وَلاَ يَمْلِكُ
مِنْ رَقَبَتِهَا شَيْئًا، لأَِنَّ الْوَاقِفَ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ
إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ
مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، فَكَمَا أَنَّ الْعِتْقَ
يَلْزَمُ بِالْقَوْل وَلاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ الْقَوْل
(1) ، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ مَعَ
الْقَوْل، وَلأَِنَّنَا لَوْ أَوْجَبْنَا الْقَبْضَ فِيهِ، فَإِنَّ
الْقَابِضَ يَقْبِضُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْوَقْفِ، فَيَكُونُ قَبْضُهُ
وَعَدَمُهُ سَوَاءً (2) .
(وَالثَّانِي) لاِبْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
الشَّيْبَانِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَقْفَ
لاَ يَلْزَمُ إلاَّ بِقَبْضِهِ وَإِخْرَاجِ الْوَاقِفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ،
وَيَكُونُ الْقَبْضُ بِأَنْ يَجْعَل لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ،
وَفِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ يُخَلِّيَهُ وَيُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ، وَفِي
الْمَقْبَرَةِ بِدَفْنِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيهَا فَمَا فَوْقَ (3) ،
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَقْفَ تَصَدُّقٌ بِالْمَنَافِعِ،
وَالْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ لاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَنْبَغِي
أَنْ يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ لِلُزُومِهِ.
(وَالثَّالِثُ) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
__________
(1) شرح معاني الآثار للطحاوي 4 / 98، وبدائع الصنائع 6 / 219، المغني لابن
قدامة 5 / 547 ط. دار المنار.
(2) شرح معاني الآثار 4 / 98.
(3) لسان الحكام ص114، خزانة الفقه للسمرقندي ص268 وما بعدها، بدائع
الصنائع 6 / 219، القواعد لابن رجب ص71، المغني 5 / 547.
(32/290)
الْقَبْضُ لِتَمَامِ الْوَقْفِ، فَإِنْ
مَاتَ الْوَاقِفُ أَوْ مَرِضَ أَوْ أَفْلَسَ قَبْل قَبْضِ الْمَوْقُوفِ
بَطَل الْوَقْفُ، وَيَكُونُ الْقَبْضُ فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ
وَالطَّاحُونِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَبَيْنَ النَّاسِ (1)
.
(ثَالِثًا) الْقَرْضُ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ
الْقَرْضِ أَوْ لُزُومِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ
عَقْدِ الْقَرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُقْتَرِضُ، بَل يَلْزَمُ بِالْقَوْل
(2) .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ.
وَالثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ، قَالُوا: يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ (3) .
(رَابِعًا) الرَّهْنُ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي لُزُومِ
الرَّهْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي
لُزُومِ الرَّهْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ قَبْل الْقَبْضِ
أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ أَوْ يُسَلِّمَهُ (4) .
__________
(1) لباب اللباب للقفصي ص239، وكفاية الطالبي الرباني وحاشية العدوي عليه 2
/ 203، 212.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 226.
(3) مغني المحتاج 2 / 128، منتهى الإرادات 1 / 397.
(4) رد المحتار 6 / 479، تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 63، مغني المحتاج 2 /
128، المهذب 1 / 312، الأشباه والنظائر للسيوطي ص280، المغني 4 / 328 وما
بعدها، وكشاف القناع 3 / 272 وما بعدها ط. السنة المحمدية، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 232.
(32/290)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) حَيْثُ إنَّ الْمَصْدَرَ
الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ يُرَادُ بِهِ
الأَْمْرُ، وَالأَْمْرُ بِالشَّيْءِ الْمَوْصُوفِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ الْوَصْفُ شَرْطًا فِيهِ، إذِ الْمَشْرُوعُ بِصِفَةٍ لاَ يُوجَدُ
بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلأَِنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ إذْ لاَ
يَسْتَوْجِبُ الرَّاهِنُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا،
وَلِهَذَا لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْمْضَاءِ بِعَدَمِ
الرُّجُوعِ، وَالإِْمْضَاءُ يَكُونُ بِالْقَبْضِ.
وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل وَصَفَ الرِّهَانَ بِكَوْنِهَا
مَقْبُوضَةً، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا،
وَلَوْ لَزِمَتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ
فَائِدَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ،
لَكِنَّهُ لاَ يَتِمُّ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ
الْمُطَالَبَةِ بِالإِْقْبَاضِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ.
قَالُوا: أَمَّا لُزُومُهُ بِالْعَقْدِ، فَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أَثْبَتَهَا رِهَانًا قَبْل الْقَبْضِ، وَأَمَّا
إلْزَامُ الرَّاهِنِ بِالإِْقْبَاضِ، فَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} (2) دَلِيلٌ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 283.
(2) سورة المائدة / 1.
(32/291)
إلْزَامِ الرَّاهِنِ بِتَسْلِيمِ
الْمَرْهُونِ لِلْمُرْتَهِنِ وَفَاءً بِالْعَقْدِ (1) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ
مِنْ حَقِيقَةِ الرَّهْنِ وَلاَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ وَلاَ لُزُومِهِ بَل
يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْل (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ
مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلاَّ بِالْقَبْضِ،
وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: لاَ
يَلْزَمُ إلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالأُْخْرَى: يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ
كَالْبَيْعِ (3) .
اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ فِي
الرَّهْنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
(أَحَدُهَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ، فَلَوِ اسْتَرْجَعَهُ
الرَّاهِنُ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ صَحَّ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ
يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي ابْتِدَائِهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطِ اسْتِدَامَتُهُ
كَالْهِبَةِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ الْحَقُّ فِي اسْتِرْدَادِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 231، القوانين الفقهية ص352 (ط.
دار العلم للملايين) والإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 2،
المنتقى للباجي 5 / 248، كفاية الطالب الرباني 2 / 216، شرح التاودي على
التحفة 1 / 168، بداية المجتهد 2 / 230 (ط. الجمالية) ، والجامع لأحكام
القرآن للقرطبي ص1218 (ط. دار الشعب) ، والتسهيل لابن جزي 1 / 97.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 231.
(3) المغني 4 / 328.
(32/291)
مَتَى شَاءَ (1) ، وَالْقَاعِدَةُ
الْفِقْهِيَّةُ تَقُول: (يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي
الاِبْتِدَاءِ (2)) .
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ
الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ
الْمَرْهُونَ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الرَّاهِنِ بِعَارِيَّةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ
أَوْ كِرَاءٍ بَطَل الرَّهْنُ، لأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لأَِجْلِهِ
اُشْتُرِطَ قَبْضُ الْمَرْهُونِ فِي الاِبْتِدَاءِ هُوَ أَنْ تَحْصُل
وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ، فَكَانَتِ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ
شَرْطًا فِيهِ (3) .
(وَالثَّالِثُ) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ
الرَّهْنِ اسْتِدَامَةُ قَبْضِ الْمَرْهُونِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ
الْمُرْتَهِنُ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ غَيْرِهِ
زَال لُزُومُ الرَّهْنِ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ
قَبْضٌ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عَادَ فَرَدَّهُ إلَيْهِ عَادَ اللُّزُومُ بِحُكْمِ
الْعَقْدِ السَّابِقِ، وَلاَ يُحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ، لأَِنَّ
الْعَقْدَ الأَْوَّل لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، أَشْبَهَ مَا
لَوْ تَرَاخَى الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ أَوَّل مَرَّةٍ، وَإِنْ أُزِيلَتْ
يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ
وَإِبَاقِ الْعَبْدِ وَضَيَاعِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ، فَلُزُومُ الْعَقْدِ
__________
(1) رد المحتار 6 / 511، الأم 3 / 124 ط بولاق، ودرر الحكام لعلي حيدر 2 /
161.
(2) م 55 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 2، القوانين الفقهية ص352، بداية
المجتهد 2 / 230.
(32/292)
بَاقٍ، لأَِنَّ يَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ
حُكْمًا، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَزُل.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّهْنَ يُرَادُ لِلْوَثِيقَةِ،
لِيَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ، فَإِذَا لَمْ يَدُمْ
فِي يَدِهِ زَال ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَانَ بَقَاءُ اللُّزُومِ مَنُوطًا
بِدَوَامِ الْقَبْضِ (1) .
آثَارُ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ:
51 - أَهَمُّ آثَارِ الْقَبْضِ فِي الْعُقُودِ هُوَ انْتِقَال ضَمَانِ
الْمَقْبُوضِ إلَى الْقَابِضِ، وَتَسَلُّطُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ،
وَوُجُوبُ بَذْل عِوَضِهِ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى
التَّفْصِيل التَّالِي:
الأَْثَرُ الأَْوَّل: انْتِقَال الضَّمَانِ إلَى الْقَابِضِ:
52 - الْمُرَادُ بِالضَّمَانِ الَّذِي يَنْتَقِل إلَى الْقَابِضِ: هُوَ
تَحَمُّلُهُ لِتَبَعَةِ الْهَلاَكِ أَوِ النُّقْصَانِ أَوِ التَّعْيِيبِ
الَّذِي يَطْرَأُ عَلَى الْمَقْبُوضِ فِي أَحَدِ عُقُودِ الضَّمَانِ،
وَهِيَ هُنَا: الْبَيْعُ وَالإِْجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالرَّهْنُ
وَالنِّكَاحُ فِيمَا يَخُصُّ الصَّدَاقَ.
أَوَّلاً - ضَمَانُ الْمَبِيعِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ اللاَّزِمِ:
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ
قَبْل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَهَل يَكُونُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل
أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، بِحَيْثُ لاَ يَنْتَقِل ضَمَانُهُ إلَى
الْمُشْتَرِي إلاَّ بِالْقَبْضِ، أَمْ أَنَّهُ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ
بِالْعَقْدِ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 233، كشاف القناع 3 / 274.
(32/292)
سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ
فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا
قَبَضَهُ انْتَقَل الضَّمَانُ إلَيْهِ بِالْقَبْضِ، لأَِنَّ مُوجَبَ
الْعَقْدِ انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ
يَقْتَضِي إلْزَامَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي
وَفَاءً بِالْعَقْدِ، لأَِنَّ الْمِلْكَ لاَ يَثْبُتُ لِعَيْنِهِ،
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلاَ
يَتَهَيَّأُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إلاَّ بِالتَّسْلِيمِ، فَكَانَ إيجَابُ
الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِ لَهُ
ضَرُورَةً.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنَ
الْمَبِيعَاتِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَبَيْنَ
مَا لاَ يَكُونُ فِيهِ، بِحَيْثُ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ
وَالشَّافِعِيَّةَ فِي اعْتِبَارِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ قَبْل
الْقَبْضِ، وَدُخُولِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ إذَا كَانَ
فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلاَتِ وَالتَّفْرِيعَاتِ فِي حَالَةِ هَلاَكِ
الْمَبِيعِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلاً، وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، وَهُوَ الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَنِ
الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلاً، فَلاَ يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَهْلِكَ
كُلَّهُ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْضُهُ، وَكُل ذَلِكَ لاَ يَخْلُو: إمَّا
أَنْ يَهْلِكَ قَبْل الْقَبْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بَعْدَهُ،
وَالْهَلاَكُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ
سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْل الْبَائِعِ، أَوْ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، أَوْ
بِفِعْل
(32/293)
الْمَبِيعِ، أَوْ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ ف 31 وَمَا بَعْدَهَا) .
(ثَانِيًا) ضَمَانُ الْمُؤَجَّرِ:
أ - الضَّمَانُ فِي إجَارَةِ الأَْعْيَانِ:
54 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ
وَكَذَا مَنَافِعُهَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا تَكُونُ قَبْل الْقَبْضِ فِي
ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ
ضَمَانَ الْعَيْنِ لاَ يَنْتَقِل إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ الْقَبْضِ،
وَأَنَّهَا تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ
تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ
قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلاَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ،
كَالْوَدِيعَةِ، وَلأَِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَبَضَ الْعَيْنَ لاِسْتِيفَاءِ
مَنْفَعَةٍ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهَا، فَلاَ يَضْمَنُهَا، كَمَا إذَا قَبَضَ
النَّخْلَةَ الَّتِي اشْتَرَى ثَمَرَتَهَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا (1) .
ب - الضَّمَانُ فِي إجَارَةِ الأَْعْمَال:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الأَْجِيرَ فِي الإِْجَارَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى
الْعَمَل قِسْمَانِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 210، مجمع الضمانات ص13، روضة الطالبين 5 / 226،
المهذب 1 / 415، الشرح الكبير للدردير 4 / 24، المبدع 5 / 113، المغني 5 /
488، كشاف القناع 4 / 39، 49 (ط. الحكومة بمكة المكرمة) .
(32/293)
خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ
ضَمَانُ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ:
55 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الأَْجِيرَ الْخَاصَّ لاَ يَضْمَنُ مَا
بِيَدِهِ مِنْ مَال الْمُؤَجِّرِ، بَل يَكُونُ مَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً
لاَ يَضْمَنُهُ إنْ تَلِفَ إلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ،
لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمَالِكِ فِي صَرْفِ مَنَافِعِهِ إلَى مَا
يَأْمُرُهُ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ،
كَالْوَكِيل وَالْمُضَارِبِ (1) .
ضَمَانُ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ:
56 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ضَامِنًا
لِمَا يَكُونُ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا تَلِفَ بِفِعْل الأَْجِيرِ
الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، بِحَيْثُ إذَا كَانَ
التَّلَفُ بِفِعْلِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ
مُتَعَدِّيًا أَمْ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، قَاصِدًا أَمْ مُخْطِئًا.
أَمَّا مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَلاَ يَضْمَنُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ
مِنْهُ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٌ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى
الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 211، الفتاوى الهندية 4 / 500، روضة الطالبين 5 /
228، نهاية المحتاج 5 / 311، الشرح الكبير للدردير 4 / 28، جواهر الإكليل 2
/ 191، المغني 5 / 481، شرح منتهى الإرادات 2 / 376.
(32/294)
وَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الصَّاحِبَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ،
وَذَهَبَا إلَى تَضْمِينِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا،
إلاَّ إذَا وَقَعَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ لاَ يُمْكِنُهُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ
(2) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأَْصْل فِي يَدِ الأَْجِيرِ
الْمُشْتَرَكِ أَنَّهَا يَدُ أَمَانَةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا فَسَدَ النَّاسُ
وَظَهَرَتْ خِيَانَةُ الأُْجَرَاءِ ضَمِنَ الصُّنَّاعُ وَكُل مَنْ
تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ تَضْمِينَهُ مِنَ الأُْجَرَاءِ
الْمُشْتَرَكِينَ حَيْثُ تَقُومُ بِهِ التُّهْمَةُ (3) .
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ أَنَّ يَدَ
الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ يَدُ أَمَانَةٍ (4) .
وَالرَّابِعُ: قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ
تَدْخُل فِي ضَمَانِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ
هَلَكَتْ عِنْدَهُ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِالْيَدِ، ضَمِنَ هَلاَكَهَا وَلَوْ
لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ النَّاسِ وَخِيَانَةِ
الأُْجَرَاءِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنِ الأَْجِيرُ مُنْفَرِدًا بِالْيَدِ
فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَئِذٍ، لأَِنَّ الْمَال غَيْرُ مُسَلَّمٍ
إلَيْهِ حَقِيقَةً (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 135 وما بعدها، ومجمع الأنهر، والدر المنتقى 2 / 391
وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 26 وما بعدها. والإنصاف للمرداوي 6 / 72 - 73.
(2) بدائع الصنائع 4 / 210 وما بعدها، مجمع الضمانات ص27.
(3) البهجة شرح التحفة ص283.
(4) روضة الطالبين 5 / 228 وما بعدها، ونهاية المحتاج 5 / 310.
(5) روضة الطالبين 5 / 228، والمهذب 1 / 415.
(32/294)
وَالتَّفْصِيل فِي (إجَارَةٌ ف 103 وَمَا
بَعْدَهَا، 133، 134) وَمُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 60 - 61) .
ثَالِثًا: ضَمَانُ الْعَارِيَّةُ:
57 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ
عَلَى مَالِكِهَا مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنْ هَلَكَتْ كَانَ
هَلاَكُهَا مِنْ مَالِهِ، أَمَّا إذَا قَبَضَهَا الْمُسْتَعِيرُ، فَفِي
انْتِقَال ضَمَانِهَا إلَيْهِ بِالْقَبْضِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 12) وَمُصْطَلَحِ (إعَارَةٌ ف 15) .
رَابِعًا: ضَمَانُ الْمَرْهُونِ:
58 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرْهُونَ يَكُونُ فِي
ضَمَانِ الرَّاهِنِ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ
مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ، أَمَّا إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَفِي
انْتِقَال ضَمَانِهِ إلَيْهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ ف
8، 18) وَمُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 62 وَمَا بَعْدَهَا) .
خَامِسًا: ضَمَانُ الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ قَبْضِ الزَّوْجَةِ
لِمَهْرِهَا بَعْدَ تَعْيِينِهِ نَاقِلاً لِضَمَانِهِ مِنَ الزَّوْجِ
إلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ
الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ كَالْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالْمَاشِيَةِ وَمَا
شَابَهَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِذَاتِهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ
الصَّحِيحِ يَكُونُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَبْل أَنْ
(32/295)
تَقْبِضَهُ مِنَ الزَّوْجِ وَبَعْدَهُ،
فَلَوْ هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، كَانَ هَلاَكُهُ
عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِلْقَبْضِ أَيُّ أَثَرٍ فِي
ذَلِكَ، لأَِنَّ الضَّمَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ، وَقَدْ مَلَكَتْهُ
بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ
الْمَهْرِ الْمُعَيَّنِ يَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَهُ
لِزَوْجَتِهِ، فَإِذَا قَبَضَتْهُ انْتَقَل الضَّمَانُ إلَيْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 147) وَمُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .
الأَْثَرُ الثَّانِي: التَّسَلُّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ:
60 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الأَْعْيَانِ
الْمَمْلُوكَةِ بَعْدَ قَبْضِهَا، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
مَشْرُوعِيَّةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا قَبْل قَبْضِهَا، سَوَاءٌ مُلِكَتْ
بِبَيْعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْمِلْكِ،
وَقَدْ فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ
وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِغَيْرِهِ مِنْ ضُرُوبِ التَّصَرُّفَاتِ،
وَحَاصِل كَلاَمِهِمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ يَنْحَصِرُ فِي ثَلاَثِ
مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: بَيْعُ الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل
قَبْضِهَا:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الأَْعْيَانِ
الْمُشْتَرَاةِ قَبْل قَبْضِهَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرَى قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا،
مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، عَقَارًا
(32/295)
كَانَ أَوْ مَنْقُولاً، سَوَاءٌ بِيعَ
مُقَدَّرًا أَوْ جُزَافًا، وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرَى قَبْل قَبْضِهِ،
مَطْعُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَسَوَاءٌ بِيعَ مُقَدَّرًا أَمْ
جُزَافًا، إلاَّ الْعَقَارَ الَّذِي لاَ يُخْشَى هَلاَكُهُ، فَيَجُوزُ
بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، فَإِنْ تُصُوِّرَ هَلاَكُهُ، بِأَنْ كَانَ
عُلُوًّا أَوْ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ
كَسَائِرِ الْمَنْقُولاَتِ، وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو
يُوسُفَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرَى قَبْل قَبْضِهِ إنْ لَمْ
يَكُنْ مَطْعُومًا، فَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل
قَبْضِهِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ - مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ
أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ - سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّعَامُ رِبَوِيًّا أَمْ
غَيْرَ رِبَوِيٍّ، أَمَّا مَا اشْتَرَاهُ جُزَافًا - أَيْ مِنْ غَيْرِ
مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ - فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل
قَبْضِهِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ تَعْجِيل الثَّمَنِ، كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إلَى
بَيْعِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 68، المجموع شرح المهذب 9 / 264، طرح التثريب 6 /
114، إحكام الأحكام لابن دقيق العيد وحاشية الصنعاني عليه 4 / 80 وما
بعدها، معالم السنن للخطابي 3 / 135 (ط. الطباخ) ، المغني 4 / 113، وبدائع
الفوائد 3 / 250 وما بعدها، ورد المحتار 5 / 147، شرح المجلة للأتاسي 2 /
173.
(2) بدائع الصنائع 5 / 180، الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 5 / 147.
(32/296)
الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ
الْقَوْل الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِ الْمَطْعُومِ قَبْل قَبْضِهِ،
أَمَّا الْمَطْعُومُ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا،
سَوَاءٌ اُشْتُرِيَ جُزَافًا أَوْ مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ
ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ
الْمَالِكِيَّةِ (2) .
الْقَوْل الْخَامِسُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا اشْتَرَاهُ مُقَدَّرًا
بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ قَبْل قَبْضِهِ، سَوَاءٌ
كَانَ مَطْعُومًا أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، فَإِنِ اُشْتُرِيَ بِغَيْرِ
تَقْدِيرٍ جَازَ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل
الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَالْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ
(3) .
الْقَوْل السَّادِسُ: جَوَازُ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمَبِيعُ عَقَارًا أَمْ مَنْقُولاً، وَسَوَاءٌ أَكَانَ
مَطْعُومًا أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ حَقُّ
تَوْفِيَةٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَبِهَذَا قَال عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ (4) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِالسُّنَّةِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 151 وما بعدها، المنتقى للباجي 4
/ 279، 280، 283، كفاية الطالبي الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 118 وما
بعدها.
(2) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 118.
(3) كشاف القناع 3 / 197 وما بعدها، المغني 4 / 107، المحرر 1 / 322.
(4) العدة للصنعاني على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 4 / 81 ط. السلفية
بالقاهرة، والنووي على صحيح مسلم 10 / 170، والمغني لابن قدامة 4 / 113.
(32/296)
وَالْحُجَّةِ الْمُجْمَعَةِ عَلَى
الطَّعَامِ، وَأَظُنُّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَمِثْل هَذَا
لاَ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 42 إلَى ف 52) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيْعُ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِغَيْرِ
الشِّرَاءِ قَبْل قَبْضِهَا:
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ مَا مُلِكَ بِغَيْرِ
الشِّرَاءِ قَبْل قَبْضِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ
يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ
قَبْل قَبْضِهِ، كَالأُْجْرَةِ وَبَدَل الصُّلْحِ إذَا كَانَ مَنْقُولاً
مُعَيَّنًا، وَكُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ
بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، كَالْمَهْرِ
وَبَدَل الْخُلْعِ وَبَدَل الْعِتْقِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ
الْعَمْدِ.
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعُقُودَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
مُعَاوَضَةٌ، وَغَيْرُ مُعَاوَضَةٍ.
فَمَا مُلِكَ بِعَقْدٍ لَيْسَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ كَالْقَرْضِ يَجُوزُ
بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا، وَمَا مُلِكَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ،
فَإِنْ مُلِكَ بِمَا يَخْتَصُّ بِالْمُغَابَنَةِ وَالْمُكَايَسَةِ،
كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ إنْ كَانَ
طَعَامًا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، كَيْ لاَ يُفْضِيَ إلَى بَيْعِ
الْعِينَةِ، وَإِنْ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَتَرَدَّدُ
__________
(1) المغني 4 / 113. وطرح التثريب 6 / 114.
(32/297)
بَيْنَ قَصْدِ الرِّفْقِ وَالْمُغَابَنَةِ،
فَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ، يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ،
وَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُغَابَنَةِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا
يَخْتَصُّ بِقَصْدِ الْمُغَابَنَةِ (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأَْعْيَانَ
الْمُسْتَحَقَّةَ لِلإِْنْسَانِ عِنْدَ غَيْرِهِ ضَرْبَانِ: أَمَانَةٌ
وَمَضْمُونَةٌ، فَالأَْمَانَةُ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ بَيْعُهَا قَبْل
قَبْضِهَا، لأَِنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَامٌّ.
وَالْمَضْمُونُ نَوْعَانِ:
(الأَْوَّل) الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ، وَيُسَمَّى ضَمَانَ الْيَدِ،
فَيَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِيهِ.
(وَالثَّانِي) الْمَضْمُونُ بِعِوَضٍ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَيُسَمَّى
ضَمَانَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ (2) .
وَالرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ كُل عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ
يَنْفَسِخُ بِهَلاَكِهِ قَبْل الْقَبْضِ - كَأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي
إجَارَةٍ، وَعِوَضٍ مُعَيَّنٍ فِي صُلْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لاَ يَجُوزُ
بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ إذَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ
أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ، وَكَذَا مَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ
بِهَلاَكِهِ - كَعِوَضِ خُلْعٍ وَعِتْقٍ وَكَمَهْرٍ وَمُصَالَحٍ بِهِ عَنْ
__________
(1) المنتقى للباجي 4 / 280 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 121.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 265 وما بعدها، وروضة الطالبين 3 / 508 وما
بعدها، وطرح التثريب 6 / 116.
(32/297)
دَمِ عَمْدٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَقِيمَةِ
مُتْلَفٍ - فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ إذَا احْتَاجَ
لِتَوْفِيَةٍ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَيَجُوزُ
بَيْعُهُ قَبْل الْقَبْضِ، وَكَذَا كُل مَا مُلِكَ بِإِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ
أَوْ غَنِيمَةٍ وَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ
قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ،
فَمِلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ، وَلاَ يُتَوَهَّمُ غَرَرُ الْفَسْخِ فِيهِ،
وَأَمَّا مَا كَانَ قَبْضُهُ شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِهِ، كَرَأْسِ مَال
السَّلَمِ وَالْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ مِمَّنْ
صَارَ إلَيْهِ قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ فِيهِ،
فَأَشْبَهَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ الْبَيْعِ فِي
الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل قَبْضِهَا:
63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ
فِي الأَْعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْل قَبْضِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي
الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالإِْقْرَاضِ
وَالرَّهْنِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ
وَالاِسْتِيلاَدِ وَالتَّزْوِيجِ، أَمَّا إجَارَتُهُ فَلاَ تَجُوزُ
مُطْلَقًا (2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 189، 190، والمغني 4 / 114 وما بعدها، وكشاف
القناع 3 / 233 ط. الحكومة بمكة.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 147 وما بعدها، وبدائع الصنائع 5 /
180، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 173 وما بعدها.
(32/298)
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ
أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِسَائِرِ
التَّصَرُّفَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَطْعُومًا، أَوْ كَانَ مَطْعُومًا
وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ
عَدٍّ، أَمَّا الطَّعَامُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَلاَ
يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِأَيِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ
قَبْل قَبْضِهِ، أَمَّا بِغَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ، كَهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ
وَقَرْضٍ وَشَرِكَةٍ وَتَوْلِيَةٍ، فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل
أَنْ يُقْبَضَ (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ
فِي الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ
التَّصَرُّفَاتِ، كَالإِْجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ
وَالإِْقْرَاضِ، أَوْ جَعْلُهُ صَدَاقًا أَوْ أُجْرَةً أَوْ عِوَضًا فِي
صُلْحٍ أَوْ رَأْسِ مَال سَلَمٍ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِضَعْفِ الْمِلْكِ،
إلاَّ الْعِتْقَ وَالتَّدْبِيرَ وَالاِسْتِيلاَدَ وَالتَّزْوِيجَ
وَالْقِسْمَةَ وَالْوَقْفَ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ قَبْل الْقَبْضِ (2) .
وَالرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا اُشْتُرِيَ مِنَ
الْمُقَدَّرَاتِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ أَوْ عَدٍّ لاَ يَجُوزُ
التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ بِإِجَارَةٍ وَلاَ هِبَةٍ وَلاَ رَهْنٍ
وَلاَ حَوَالَةٍ، قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهِ، لأَِنَّهُ مِنْ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 279 - 280، والمنتقى للباجي 4 / 282، والقوانين
الفقهية ص 284 دار العلم للملايين.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 264 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 69، وكفاية
الأخبار 1 / 133، وروضة الطالبين 3 / 506 وما بعدها.
(32/298)
ضَمَانِ بَائِعِهِ، فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَجَعْلُهُ مَهْرًا وَبَدَل
خُلْعٍ وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِهِ قَبْل أَنْ يُقْبَضَ، وَذَلِكَ
لاِغْتِفَارِ الْغَرَرِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ.
أَمَّا مَا اُشْتُرِيَ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ، فَيَجُوزُ
التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ مُطْلَقًا بِأَيِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ
التَّصَرُّفَاتِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ
بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَبِالْعَكْسِ، فَسَأَلْتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَال: لاَ
بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا
وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (1) ، إلاَّ مَا بِيعَ بِصِفَةٍ أَوْ رُؤْيَةٍ
مُتَقَدِّمَةٍ، فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، قَال
الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، فَأَشْبَهَ
الْمَبِيعَ بِكَيْلٍ وَنَحْوِهِ (2) .
الأَْثَرُ الثَّالِثُ: وُجُوبُ بَذْل الْعِوَضِ:
64 - مِنَ الآْثَارِ الْهَامَّةِ لِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي
عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وُجُوبُ بَذْل الْعِوَضِ الْمُقَابِل مُعَجَّلاً
مِنْ قِبَل الْقَابِضِ، حَتَّى تَتَرَتَّبَ عَلَى الْعَقْدِ ثَمَرَاتُهُ،
وَتَتَحَقَّقَ مَقَاصِدُهُ وَغَايَاتُهُ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَأْخِيرِهِ، فَعِنْدَئِذٍ لاَ
يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُهُ، لِرِضَا
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع. . " تقدم تخريجه ف13.
(2) كشاف القناع 3 / 230 ط. الحكومة بمكة المكرمة، وشرح منتهى الإرادات 2 /
187 - 189.
(32/299)
مُسْتَحِقِّهِ بِالتَّأْجِيل، وَبَيَانُ
ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
(أَوَّلاً) فِي الْبَيْعِ:
65 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ
الْعَاقِدَيْنِ فِي الْبَيْعِ إذَا قَبَضَ الْبَدَل الَّذِي اسْتَحَقَّهُ
بِالْعَقْدِ، يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل عِوَضِهِ لِلطَّرَفِ الثَّانِي دُونَ
تَأْخِيرٍ، تَنْفِيذًا لِلْعَقْدِ وَوَفَاءً بِالاِلْتِزَامِ، وَحَتَّى
يَتَمَكَّنُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِمَا
مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ، إذِ الْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا
ثَبَتَ وَسِيلَةً إلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلاَ يَتَهَيَّأُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ إلاَّ بِقَبْضِهِ، تَحْقِيقًا لِلْمُعَادَلَةِ
وَالْمُسَاوَاةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا،
وَذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى
تَأْجِيل الْبَدَل الآْخَرِ، فَعِنْدَئِذٍ لاَ يَجِبُ عَلَى قَابِضِ
الْبَدَل الْمُعَجَّل تَسْلِيمُ عِوَضِهِ حَتَّى يَحِل أَجَلُهُ، لِرِضَا
الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالتَّأْجِيل وَتَنَزُّلِهِ عَنْ حَقِّهِ
بِالتَّعْجِيل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ ف 61 - 64)
66 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عَقْدُ الصَّرْفِ وَبَيْعُ الأَْمْوَال
الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي تَجْمَعُهَا عِلَّةٌ رِبَوِيَّةٌ وَاحِدَةٌ
بِبَعْضِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَابِضِ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ
عِوَضِ مَا قَبَضَهُ، وَلَوْ رَضِيَ مُسْتَحِقُّهُ بِتَأْخِيرِهِ،
لِوُجُوبِ التَّقَابُضِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ
لِحَقِّ الشَّرْعِ، إذْ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ
(32/299)
بِالتَّرَاضِي رِبَا النَّسَاءِ (1) .
(ثَانِيًا) فِي الإِْجَارَةِ:
67 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِمْ إلَى وُجُوبِ
بَذْل الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ إذَا قَبَضَ الْعَاقِدُ بَدَلَهُ،
مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اتِّفَاقٌ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَأْجِيل
الْعِوَضِ، فَيُتَّبَعُ الشَّرْطُ وَيُرَاعَى الاِتِّفَاقُ عِنْدَهُ (2) ،
وَإِنْ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ التَّسْلِيمِ مُخْتَلِفَةً بِحَسَبِ نَوْعِ
الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا (إجَارَةُ أَعْيَانٍ أَوْ إجَارَةُ
أَعْمَالٍ) ، وَبِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ طَبِيعَةِ الْمَنَافِعِ مِنْ
كَوْنِهَا أَعْرَاضًا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَآنًا فَآنًا عَلَى
حُدُوثِ الأَْزْمَانِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إجَارَةٌ ف 45 وَمَا بَعْدَهَا)
(ثَالِثًا) فِي الصَّدَاقِ:
68 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُل إذَا سَلَّمَ زَوْجَتَهُ
مَهْرَهَا الْمُعَجَّل، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ
نَفْسِهَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهَا.
أَمَّا إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهَا مَهْرَهَا الْمُعَجَّل، فَهَل يَكُونُ
لِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي الاِمْتِنَاعِ عَنْ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ
نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ؟ لَقَدْ فَرَّقَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 215، ورد المحتار 5 / 258 ط. الحلبي، وأحكام القرآن
للجصاص 1 / 554، وروضة الطالبين 3 / 379، والأم 3 / 26 (بولاق) ، وفتح
العلي المالك 2 / 110، وكشاف القناع 3 / 217، والمغني 4 / 51 ط. دار
المنار، ومنتهى الإرادات 1 / 380.
(2) بدائع الصنائع 4 / 204، والمغني 5 / 406 وما بعدها.
(32/300)
الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ
حَقِّهَا فِي ذَلِكَ قَبْل الدُّخُول بِهَا، وَبَيْنَ حَقِّهَا فِيهِ
بَعْدَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .
قُبُلٌ
اُنْظُرْ: فَرْجٌ
(32/300)
|