الموسوعة
الفقهية الكويتية مُثَلَّثٌ
انْظُرْ: أَشْرِبَةٌ
__________
(1) الشرح الصغير وبلغة السالك 3 / 686 - 690، وبدائع الصنائع 6 / 108،
وروضة الطالبين 5 / 125، وكشاف القناع 3 / 511.
(36/107)
مُثْلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُثْلَةُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ أَوْ بِضَمِّ
الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ -: الْعُقُوبَةُ وَالتَّنْكِيل.
قَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ: الْمُثْلَةُ الْعُقُوبَةُ الْمُبِينَةُ مِنَ
الْمُعَاقِبِ شَيْئًا.
وَهُوَ تَغْيِيرُ الصُّورَةِ، فَتَبْقَى قَبِيحَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: مَثَّل
فُلاَنٌ بِفُلاَنٍ: إِذَا قَبَّحَ صُورَتَهُ إِمَّا بِقَطْعِ أُذُنِهِ أَوْ
جَدْعِ أَنْفِهِ أَوْ سَمْل عَيْنَيْهِ أَوْ بَقْرِ بَطْنِهِ، هَذَا هُوَ
الأَْصْل، ثُمَّ يُقَال لِلْعَارِ الْبَاقِي وَالْخِزْيِ اللاَّزِمِ
مُثْلَةٌ.
وَفِي التَّنْزِيل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْل الْحَسَنَةِ
وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} .
قَال الرَّازِيُّ: مَعْنَى الآْيَةِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ
الَّذِي لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِهِ، وَقَدْ عَلِمُوا مَا نَزَل مِنْ
عُقُوبَاتِنَا بِالأُْمَمِ الْخَالِيَةِ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَا،
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرْدَعَهُمْ خَوْفُ ذَلِكَ عَنِ الْكُفْرِ
اعْتِبَارًا بِحَال مَنْ سَبَقَ (1) .
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط، وتفسير الرازي 19 / 11.
(36/108)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُثْلَةُ:
الْعُقُوبَةُ الشَّنِيعَةُ كَرَضِّ الرَّأْسِ وَقَطْعِ الأُْذُنِ أَوِ
الأَْنْفِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَذَابُ:
2 - هُوَ فِي أَصْل اللُّغَةِ: الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي
كُل عُقُوبَةٍ مُؤْلِمَةٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْعَذَابُ هُوَ
الإِْيجَاعُ الشَّدِيدُ (2) وَالْمُثْلَةُ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ وَهِيَ
أَخَصُّ مِنْهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُثْلَةَ
ابْتِدَاءً بِالْحَيِّ حَرَامٌ، وَبِالإِْنْسَانِ مَيِّتًا كَذَلِكَ (3) ،
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ (4) وَبِمَا
رَوَى صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ قَال: بَعَثَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَقَال: سِيرُوا بِاسْمِ اللَّهِ
وَفِي سَبِيل اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلاَ تُمَثِّلُوا
(5)
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 179.
(2) المصباح المنير والمفردات للراغب الأصفهاني.
(3) المبسوط 10 / 5 وتبيين الحقائق 3 / 244 وجواهر الإكليل 1 / 254.
(4) حديث: عمران بن حصين: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على
الصدقة. . ". أخرجه أبو داود (2 / 120) وقوى إسناده ابن حجر (فتح الباري 7
/ 459) .
(5) حديث: صفوان بن عسال: " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية. .
. ". أخرجه ابن ماجه (2 / 953) ، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2
/ 122) .
(36/108)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ فَإِنْ قَتَلْتُمْ
فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ،
وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (1) .
وَبِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ: قَال: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا أَوْ
فِتْيَانًا نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَال أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ
الْبَهَائِمُ (2) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ
قَال: لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَثَّل
بِالْحَيَوَانِ (3) .
الْمُثْلَةُ بِالْعَدُوِّ
4 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَحْرُمُ التَّمْثِيل بِالْكُفَّارِ بِقَطْعِ
أَطْرَافِهِمْ وَقَلْعِ أَعْيُنِهِمْ وَبَقْرِ بُطُونِهِمْ بَعْدَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، أَمَّا قَبْل الْقُدْرَةِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (4) .
__________
(1) حديث: أنس: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء. . ". أخرجه مسلم (3 /
1548) من حديث شداد بن أوس.
(2) حديث: أنس: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم. ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 9 / 642) ، ومسلم (3 / 1549) .
(3) حديث: ابن عمر: " لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان ".
أخرجه البيهقي (9 / 87) ، وأصله في البخاري (فتح الباري 9 / 643) ومسلم (3
/ 1550) .
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 224، وتبيين الحقائق 3 / 244، وجواهر الإكليل 1 /
254.
(36/109)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ
الْكُفَّارَ إِنْ مَثَّلُوا بِمُسْلِمٍ مُثِّل بِهِمْ كَذَلِكَ مُعَامَلَةً
بِالْمِثْل (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الْمُثْلَةُ بِقَتْل الْكُفَّارِ
وَتَعْذِيبِهِمْ (2) ، لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ (3) .
حَمْل رَأْسِ الْعَدُوِّ
5 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ حَمْل رَأْسِ
الْكَافِرِ الْعَدُوِّ لِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: قَال: إِنَّ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيل بْنَ حَسَنَةَ بَعَثَا بَرِيدًا إِلَى
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَأْسِ يَنَّاقٍ
بِطَرِيقِ الشَّامِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَال لَهُ عُقْبَةُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُول
اللَّهِ: فَإِنَّهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَقَال: أَفَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ
وَالرُّومِ؟ لاَ يُحْمَل إِلَيَّ رَأْسٌ فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ
وَالْخَبَرُ (4) . وَلِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ السَّابِقِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ حَمْل رَأْسِ كَافِرٍ عَدُوٍّ مِنْ
بَلَدِ قَتْلِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، أَوْ لأَِمِيرِ جَيْشٍ فِي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 254.
(2) المغني 8 / 494.
(3) حديث: " سمرة بن جندب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على
الصدقة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 120) وقوى إسناده ابن حجر (فتح الباري
7 / 459) .
(4) المغني 8 / 494، وأثر أبي بكر أخرجه البيهقي (9 / 132) .
(36/109)
بَلَدِ الْقِتَال.
وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مُثْلَةً (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِحَمْل رَأْسِ الْمُشْرِكِ إِذَا كَانَ
فِي ذَلِكَ غَيْظُهُمْ: بِأَنْ كَانَ الْمُشْرِكُ مِنْ عُظَمَائِهِمْ (2) .
وَقَالُوا: وَقَدْ حَمَل ابْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ بَدْرٍ رَأْسَ أَبِي
جَهْلٍ وَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (3)
.
تَسْخِيمُ الْوَجْهِ
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَسْخِيمُ الْوَجْهِ
أَيْ تَسْوِيدُهُ بِالسُّخَامِ وَهُوَ السَّوَادُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ
بِأَسْفَل الْقِدْرِ وَمُحِيطِهِ، مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ.
وَقَالُوا: لأَِنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الأَْعْضَاءِ وَمَعْدِنُ جَمَال
الإِْنْسَانِ، وَمَنْبَعُ حَوَاسِّهِ فَوَجَبَ الاِحْتِرَازُ عَنْ
تَجْرِيحِهِ وَتَقْبِيحِهِ، وَهُوَ الصُّورَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ
وَكَرَّمَ بِهَا بَنِي آدَمَ فَيُعْتَبَرُ كُل تَغْيِيرٍ فِيهَا مُثْلَةً
(4) .
قَال السَّرَخْسِيُّ: الدَّلِيل قَدْ قَامَ عَلَى انْتِسَاخِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 254، والمغني 8 / 494.
(2) الدر المختار 3 / 225.
(3) حديث: أن ابن مسعود حمل يوم بدر رأس أبي جهل وألقاه بين يديه عليه
الصلاة والسلام. ذكره ابن هشام في السيرة (2 / 278) نقلاً عن ابن إسحاق
بسندٍ فيه جهالة.
(4) السرخسي 16 / 145، وتبيين الحقائق 3 / 170 وفصول الإستروشني في التعزير
30، وجواهر الإكليل 2 / 225، والخرشي 7 / 152، وكشاف القناع 6 / 124 - 125،
وعون المعبود.
(36/110)
حُكْمِ التَّسْخِيمِ لِلْوَجْهِ فَإِنَّ
ذَلِكَ مُثْلَةٌ (1) ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ
يُعَزِّرَ بِمَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا مِنْ ضَرْبٍ غَيْرِ مُبَرِّحٍ وَحَبْسٍ
وَصَفْعٍ وَكَشْفِ رَأْسٍ وَتَسْوِيدِ وَجْهٍ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَسْوِيدٌ ف 16 - وَشَهَادَةُ الزُّورِ ف 6 - 7) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 16 / 145.
(2) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور. .
. ". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1 / 100) ، وقال الهيثمي في مجمع
الزوائد (6 / 249) : إسناده منقطع.
(3) نهاية المحتاج 8 / 18 ط المكتبة الإسلامية، والمنهج على حاشية الجمل 5
/ 164، ومطالب أولي النهى 6 / 223.
(36/110)
مِثْلِيَّاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِثْلِيَّاتُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ الْمِثْلِيِّ، وَالْمِثْلِيُّ
مَنْسُوبٌ إِلَى الْمِثْل بِمَعْنَى الشِّبْهِ، قَال ابْنُ مَنْظُورٍ:
الْمِثْل كَلِمَةُ تَسْوِيَةٍ، يُقَال: هَذَا مِثْلُهُ وَمَثَلُهُ كَمَا
يُقَال: شِبْهُهُ وَشَبَهُهُ بِمَعْنَى (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْمِثْلِيُّ: كُل مَا يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي
الأَْسْوَاقِ بِلاَ تَفَاوُتٍ يُعْتَدُّ بِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَخْتَلِفُ
بِسَبَبِهِ الثَّمَنُ (2) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي ضَبْطِ الْمِثْلِيِّ وُجُوهًا، ثُمَّ اخْتَارَ
بِأَنَّهُ مَا حَصَرَهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ وَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِيمِيَّاتُ:
2 - الْقِيمِيَّاتُ جَمْعُ الْقِيمِيِّ، وَالْقِيمِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى
الْقِيمَةِ، وَهِيَ ثَمَنُ الشَّيْءِ بِالتَّقْوِيمِ، قَال
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 117، 118، ومجلة الأحكام العدلية
م145، 1119، وبدائع الصنائع 7 / 150.
(3) روضة الطالبين 5 / 18، 19.
(36/111)
الْفَيُّومِيُّ: الْقِيمَةُ: الثَّمَنُ
الَّذِي يُقَاوَمُ بِهِ الْمَتَاعُ أَيْ يَقُومُ مَقَامَهُ (1) .
وَالْقِيمِيُّ فِي الاِصْطِلاَحِ مَا لاَ يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي
الأَْسْوَاقِ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ الْمُعْتَدِّ بِهِ
فِي الْقِيمَةِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقِيمِيَّاتُ مُقَابِل الْمِثْلِيَّاتِ مِنَ
الأَْمْوَال.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِثْلِيَّاتِ:
لِلْمِثْلِيَّاتِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: فِي الْعُقُودِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعُقُودِ مَا يَصِحُّ فِي
الْقِيمِيَّاتِ كَمَا يَصِحُّ فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَمِنْ هَذِهِ
الْعُقُودِ عَقْدُ الْبَيْعِ وَعَقْدُ الإِْجَارَةِ وَعَقْدُ الْهِبَةِ
وَنَحْوُهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنَ
الأَْمْوَال الْمِثْلِيَّةِ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ كَعَقْدِ السَّلَمِ
وَعَقْدِ الْقَرْضِ، وَشَرِكَةِ الأَْمْوَال وَنَحْوِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ
فِيمَا يَلِي:
أ - عَقْدُ السَّلَمِ:
4 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ
عَلَيْهِ: (الْمُسْلَمُ فِيهِ) دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ:
(ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ) ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مجلة الأحكام العدلية م: (146) .
(36/111)
قَالُوا: إِنَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
مُسْلَمًا فِيهِ مِنَ الأَْمْوَال هُوَ الْمِثْلِيَّاتُ، كَالْمَكِيلاَتِ
وَالْمَوْزُونَاتِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ
مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (1) .
وَقَدْ عَدَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَذْرُوعَاتِ الْمُتَمَاثِلَةَ
الآْحَادِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةَ أَوِ الْمُتَسَاوِيَةَ مِنْ
جُمْلَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ
دَيْنًا فِي عَقْدِ السَّلَمِ، فَيَصِحُّ كَوْنُهَا مُسْلَمًا فِيهَا،
قِيَاسًا عَلَى الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ
بَيْنَهَا، وَهِيَ رَفْعُ الْجَهَالَةِ بِالْمِقْدَارِ (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ النُّقُودَ وَقَالُوا
بِعَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ نَقْدًا، قَال الْكَاسَانِيُّ
فِي شُرُوطِ الْمُسْلَمِ فِيهِ: وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ
كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، لأَِنَّ
الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ. وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لاَ تَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ (3) .
أَمَّا الْقِيمِيَّاتُ فَمَا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِهِ
__________
(1) حديث: " من أسلف. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 429) - ط.
السلفية ومسلم (3 / 1227 - ط. الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(2) فتح القدير 6 / 219، والقوانين الفقهية ص274، ومواهب الجليل 4 / 534،
وروضة الطالبين 4 / 6، ومغني المحتاج 2 / 108، وكشاف القناع 3 / 276،
والمغني 4 / 332.
(3) بدائع الصنائع 5 / 212.
(36/112)
يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ، وَمَا لاَ
يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ، لأَِنَّهُ
يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَيُنْظَرُ
التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سَلَمٌ ف 20، 21) .
ب - عَقْدُ الْقَرْضِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ فِي الأَْمْوَال
الْمِثْلِيَّةِ لأَِنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمِثْل وَهَذَا
مُيَسَّرٌ فِي الأَْمْوَال الْمِثْلِيَّةِ مِنَ الْمَكِيلاَتِ
وَالْمَوْزُونَاتِ، وَكَذَا الْعَدَدِيَّاتُ وَالْمَذْرُوعَاتُ
الْمُتَقَارِبَةُ الَّتِي يُمْكِنُ ضَبْطُهَا (1) . وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَرْضِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، إِلَى جَوَازِ قَرْضِ كُل مَا يَصِحُّ فِيهِ
السَّلَمُ مِنْ عَرَضٍ وَحَيَوَانٍ وَمِثْلِيٍّ وَذَلِكَ لِصِحَّةِ
ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الأَْثَرِ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا أَيْ
ثَنِيًّا مِنَ الإِْبِل (2) ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ وَلاَ مَكِيلٍ.
وَاسْتَثْنَى الْجُمْهُورُ مِنْ جَوَازِ قَرْضِ كُل مَا يَصِحُّ فِيهِ
السَّلَمُ الْجَارِيَةَ الَّتِي تَحِل لِلْمُقْتَرِضِ، فَلاَ يَصِحُّ
قَرْضُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى إِعَارَةِ الْجَوَارِي لِلْوَطْءِ
وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
__________
(1) حاشية رد المحتار 4 / 171، 172، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 /
222، ومغني المحتاج 2 / 118، 119، والمغني 4 / 350.
(2) حديث: " استسلف من رجل بكرا. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1224) تحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي.
(36/112)
أَمَّا مَا لاَ يُسْلَمُ فِيهِ، فَلاَ
يَجُوزُ إِقْرَاضُهُ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ مَا لاَ يَنْضَبِطُ أَوْ يَنْدُرُ
وُجُودُهُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ رَدُّ مِثْلِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْقَرْضُ فِي غَيْرِ
الْمِثْلِيَّاتِ، كَحَيَوَانٍ وَحَطَبٍ وَعَقَارٍ وَكُل مُتَفَاوِتٍ
لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْمِثْل الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى عَقْدِ الْقَرْضِ، قَال
ابْنُ عَابِدِينَ: الْقَرْضُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ
بِاسْتِهْلاَكِ عَيْنِهِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ الْمِثْل فِي الذِّمَّةِ
وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْمِثْلِيِّ (2) .
وَنُقِل عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ عَارِيَّةٌ،
أَيْ أَنَّ قَرْضَ مَا لاَ يَجُوزُ قَرْضُهُ مِنَ الأَْمْوَال غَيْرِ
الْمِثْلِيَّةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَارِيَّةِ فَيَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ (3)
.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَرْضٌ ف 14) .
ج - شَرِكَةُ الأَْمْوَال
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
الشَّرِكَةِ أَنْ تَكُونَ الأَْمْوَال الْمَخْلُوطَةُ (رَأْسُ الْمَال)
مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَهُمُ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ
هَذِهِ الأَْمْوَال مِنَ الأَْثْمَانِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 222، 223، ومغني المحتاج 2 / 118،
119، والمغني لابن قدامة 4 / 350، 351.
(2) رد المحتار 4 / 171، 172.
(3) المرجع السابق.
(36/113)
قَال فِي الدُّرِّ: لاَ تَصِحُّ
الشَّرِكَةُ بِغَيْرِ النَّقْدَيْنِ، وَالْفُلُوسُ النَّافِقَةُ
وَالتِّبْرُ وَالنُّقْرَةُ إِنْ جَرَى التَّعَامُل بِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ
فَالْعُرُوضُ لاَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَال شَرِكَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ
الْمِثْلِيَّاتِ كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ
الْمُتَقَارِبَةِ قَبْل الْخَلْطِ بِجِنْسِهِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ فِي
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ
(1) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ مِنَ اخْتِصَاصِ الشَّرِكَةِ بِالنَّقْدِ
الْمَضْرُوبِ (2) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ - جَوَازُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ
مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا بِشَرْطِ
الاِخْتِلاَطِ بِجِنْسِهِ وَعَلَّلَهُ الشِّرْبِينِيُّ بِقَوْلِهِ:
لأَِنَّهُ إِذَا اخْتَلَطَ بِجِنْسِهِ ارْتَفَعَ التَّمْيِيزُ فَأَشْبَهَ
النَّقْدَيْنِ (3) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ
(شَرِكَةٌ ف 44) .
د - الْقِسْمَةُ:
7 - ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ جِهَةٍ
إِفْرَازٌ أَيْ تَمْيِيزٌ لِحِصَصِ الشُّرَكَاءِ وَمِنْ جِهَةٍ
__________
(1) حاشية رد المحتار مع الدر المختار 3 / 340، وحاشية الدسوقي 3 / 348.
(2) مغني المحتاج 2 / 213، والمغني لابن قدامة 5 / 16.
(3) رد المحتار 3 / 340، ومغني المحتاج 2 / 213.
(36/113)
مُبَادَلَةٌ، لَكِنَّ جِهَةَ الإِْفْرَازِ
فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ غَالِبَةٌ وَرَاجِحَةٌ، فَلِذَلِكَ
لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ أَخْذُ حِصَّتِهِ
فِي غَيْبَةِ الآْخَرِ وَدُونَ إِذْنِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ
الْمِثْلِيَّاتُ تَحْتَ وَضْعِ يَدِ الشَّرِيكَيْنِ.
وَعَلَّلُوا جَوَازَ أَخْذِ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ
الْمُشْتَرَكَةِ فِي غِيَابِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ وَدُونَ إِذْنِهِ
بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا الأَْخْذَ هُوَ أَخْذٌ لِعَيْنِ حَقِّهِ فَلاَ
يَتَوَقَّفُ عَلَى حُضُورِ الآْخَرِ وَرِضَاهُ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ الْقِيمِيَّاتِ حَيْثُ إِنَّ جِهَةَ الْمُبَادَلَةِ
فِيهَا رَاجِحَةٌ فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِحُكْمِ
الْقَاضِي، وَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الأَْعْيَانِ
الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ أَخْذُ حِصَّتِهِ مِنْهَا فِي
غَيْبَةِ الآْخَرِ بِدُونِ إِذْنِهِ (1) .
وَلِسَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ 45 - 46) .
ثَانِيًا: الإِْتْلاَفُ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَتْلَفَ شَخْصٌ مَال
غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
وَالْمُتْلَفُ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ،
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ (2) ،
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيمَةِ مَكَانُ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المواد (1116 - 1118) ، وشرح المجلة لعلي حيدر 3
/ 104 - 106.
(2) مجلة الأحكام العدلية (م415) .
(36/114)
الإِْتْلاَفِ.
وَإِذَا فُقِدَ الْمِثْلِيُّ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الأَْسْوَاقِ
فَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُعْدَل عَنِ الْمِثْلِيِّ إِلَى
الْقِيمَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ هَذِهِ الْقِيمَةِ: أَيُرَاعَى وَقْتُ
الإِْتْلاَفِ؟ أَمْ وَقْتُ الاِنْقِطَاعِ عَنِ الأَْسْوَاقِ؟ أَمْ وَقْتُ
الْمُطَالَبَةِ؟ أَمْ وَقْتُ الأَْدَاءِ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِتْلاَفٌ ف 36) .
وَمَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ رَدُّ الْمِثْلِيِّ بِالْمِثْل إِلاَّ أَنَّ
هُنَاكَ بَعْضَ الأَْشْيَاءِ الْمِثْلِيَّةِ يَكُونُ الرَّدُّ فِيهَا
بِالْقِيمَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ
عِدَّةَ صُوَرٍ لِلإِْتْلاَفِ بِلاَ غَصْبٍ يَكُونُ الرَّدُّ فِيهَا
بِالْقِيمَةِ وَهِيَ:
أ - إِتْلاَفُ مَاءٍ فِي مَفَازَةٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ الْمُتْلِفُ وَصَاحِبُ
الْمَاءِ عَلَى شَطِّ نَهَرٍ، أَوْ بَلَدٍ حَيْثُ لاَ يَكْتَفِي الرَّدُّ
بِمِثْلِهِ، بَل تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي الْمَفَازَةِ.
ب - إِتْلاَفُ الْجَمْدِ وَالثَّلْجِ فِي الصَّيْفِ، ثُمَّ أَرَادَ
الْمُتْلِفُ رَدَّهُ فِي الشِّتَاءِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي
الصَّيْفِ.
ب - إِتْلاَفُ حُلِيٍّ مَصْنُوعٍ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمَانُ بِقِيمَتِهِ،
حَتَّى تُلاَحَظَ فِيهَا قِيمَةُ الصَّنْعَةِ (1) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص385 وقواعد ابن السبكي، ورقة 80 - 81.
(36/114)
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ عِدَّةَ
أَمْثِلَةٍ رُوعِيَتْ فِيهَا الْقِيمَةُ مَعَ كَوْنِهَا مِثْلِيَّةً،
وَمِنْهَا: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، وَتَحَالَفَا، وَتَفَاسَخَا
وَكَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا فَإِنَّ الْبَيْعَ يُفْسَخُ عَلَى قِيمَةِ
الْهَالِكِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ مِثْلِيًّا، هَذَا عَلَى رَأْيِ
مُحَمَّدٍ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَمِنْهَا الْمَقْبُوضُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ
الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ بِهِ دَخَل فِي ضَمَانِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ.
وَمِنْهَا الْمَغْصُوبُ الْمِثْلِيُّ إِذَا انْقَطَعَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
اعْتِبَارِ الْيَوْمِ الَّذِي تُحْسَبُ فِيهِ (1) .
وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْمِثْل لأَِيِّ
سَبَبٍ كَانَ فَيَكُونُ الرَّدُّ بِالْقِيمَةِ (2) .
ثَالِثًا: قَتْل صَيْدٍ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ فِي الْحَرَمِ
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَل صَيْدًا
فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْل مَا قَتَل مِنَ النَّعَمِ} ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
نَوْعِيَّةِ هَذَا الْجَزَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصَّيْدُ إِذَا كَانَ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص363 - 364.
(2) المصادر الفقهية السابقة.
(36/115)
مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ - أَيْ لَهُ مِثْلٌ
مِنَ النَّعَمِ مُشَابِهٌ فِي الْخِلْقَةِ - فَجَزَاؤُهُ عَلَى
التَّخْيِيرِ وَالتَّعْدِيل، فَيُخَيَّرُ الْقَاتِل بَيْنَ ثَلاَثَةِ
أُمُورٍ:
أ - ذَبْحُ الْمِثْل الْمُشَابِهِ لِلصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَالتَّصَدُّقُ
بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ.
ب - تَقْوِيمُ الصَّيْدِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ شِرَاءُ الطَّعَامِ بِهَا
وَالتَّصَدُّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ.
ب - الصِّيَامُ عَنْ كُل مُدٍّ يَوْمًا وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّيْدُ مِنَ
الْمِثْلِيَّاتِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صَيْدِ الْحَرَمِ إِذَا
كَانَ مِنَ الْمِثْلِيِّ أَوِ الْقِيمِيِّ فَفِي كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ
تَجِبُ قِيمَةُ الصَّيْدِ وَتُقَدَّرُ الْقِيمَةُ عِنْدَهُمْ بِتَقْوِيمِ
رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ الْقَاتِل
بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا وَيَذْبَحَهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ
يَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ،
أَوْ يَصُومَ عَنْ طَعَامِ كُل مِسْكِينٍ يَوْمًا (2) .
رَابِعًا - الْغَصْبُ وَالضَّمَانُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ مَال إِنْسَانٍ
يَضْمَنُهُ ثُمَّ إِذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ مَوْجُودًا قَائِمًا بِحَالِهِ
فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ عَيْنِهِ مَا لَمْ يَدْخُلْهُ
__________
(1) الحطاب مع التاج والإكليل 3 / 170، 171، وحاشية القليوبي 2 / 139 وما
بعدها، والمغني 3 / 289.
(2) الدر المختار بهامش رد المحتار 2 / 213 - 215.
(36/115)
عَيْبٌ يَنْقُصُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ، لِمَا
رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ
حَتَّى تُؤَدِّيَ (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَغْصُوبُ مَوْجُودًا بِحَالِهِ أَوْ هَلَكَ
أَوْ أُتْلِفَ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ
مِثْلِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَلأَِنَّ الْمِثْل أَعْدَل
لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ، فَكَانَ أَدْفَعَ
لِلضَّرَرِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ (2) .
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ عَلَى
اخْتِلاَفٍ فِي وَقْتِ تَقْوِيمِ الْقِيمَةِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ فَعَلَى الْغَاصِبِ
قِيمَتُهُ، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (3) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (ضَمَانٌ 91؛ 92 غَصْبٌ ف 16) .
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 557) من حديث
سمرة بن جندب يرويه عنه الحسن البصري وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 53)
الحسن مختلف في سماعه عن سمرة.
(2) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 246 وما بعدها.
(3) الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 246 وما بعدها، والقوانين الفقهية
ص216، والقليوبي 2 / 259، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 376.
(36/116)
مُجَازَفَةٌ
انْظُرْ: بَيْعُ الْجُزَافِ
مُجَاعَلَةٌ
انْظُرْ: جَعَالَةٌ
(36/116)
مَجَاعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَجَاعَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْجُوعِ، وَهُوَ نَقِيضُ الشِّبَعِ،
وَالْفِعْل جَاعَ يَجُوعُ جُوعًا وَجَوْعَةً وَمَجَاعَةً فَهُوَ جَائِعٌ
وَجَوْعَانُ، وَالْمَرْأَةُ جَوْعَى، وَالْجَمْعُ جَوْعَى وَجِيَاعٌ
وَجُوَّعٌ وَجُيَّعٌ.
وَالْمَجَاعَةُ وَالْمَجُوعَةُ وَالْمَجْوَعَةُ: عَامُ الْجُوعِ
وَالْجَدْبِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْفَقْرُ:
2 - الْفَقْرُ وَالْفَقْرُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْغِنَى، وَالْفَقْرُ
الْحَاجَةُ، وَرَجُلٌ فَقِيرٌ مِنَ الْمَال وَقَدْ فَقِرَ فَهُوَ فَقِيرٌ،
وَالْجَمْعُ فُقَرَاءُ وَالأُْنْثَى فَقِيرَةٌ.
وَالْفَقِيرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا الْبَتَّةَ
أَوْ يَجِدُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالٍ أَوْ كَسْبٍ لاَ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(36/117)
يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْمَجَاعَةِ هِيَ أَنَّ الْفَقْرَ سَبَبٌ
مِنْ أَسْبَابِ الْمَجَاعَةِ.
ب - الْجَدْبُ:
3 - الْجَدْبُ: الْقَحْطُ، وَهُوَ نَقِيضُ الْخِصْبِ، وَأَجْدَبَ الْقَوْمُ
أَصَابَهُمُ الْجَدْبُ وَأَجْدَبَتِ السَّنَةُ صَارَ فِيهَا جَدْبٌ.
وَالْجَدْبَةُ: الأَْرْضُ الَّتِي لَيْسَ بِهَا قَلِيلٌ وَلاَ كَثِيرٌ
وَلاَ مَرْتَعٌ وَلاَ كَلأٌَ.
وَالْجَدْبُ: انْقِطَاعُ الْمَطَرِ وَيُبْسُ الأَْرْضِ (2) .
وَالْجَدْبُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمَجَاعَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْمَجَاعَةَ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ
أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْهَا: حِل طَلَبِ الصَّدَقَةِ فِي الْمَجَاعَةِ
وَأَفْضَلِيَّةُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَجَاعَةِ عَلَى حَجِّ التَّطَوُّعِ،
وَفِي إِرْضَاعِ الطِّفْل الْجَائِعِ، وَحِل أَكْل الْمَيْتَةِ، وَرَفْعُ
حَدِّ السَّرِقَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (صَدَقَةٌ ف 18، رَضَاعٌ ف 17،
ضَرُورَةٌ ف 8، سَرِقَةٌ ف 14، سُؤَالٌ ف 9) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وتاج العروس، والموسوعة الفقهية مصطلح
(فقير ف1) .
(2) الصحاح، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، وأنيس الفقهاء (186) .
(36/117)
مُجَاهَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْمُجَاهَرَةِ فِي اللُّغَةِ: الإِْظْهَارُ، يُقَال:
جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ مُجَاهَرَةً وَجِهَارًا أَظْهَرَهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال عِيَاضٌ: الْجِهَارُ وَالإِْجْهَارُ وَالْمُجَاهَرَةُ كُلُّهُ صَوَابٌ
بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالإِْظْهَارِ، يُقَال: جَهَرَ وَأَجْهَرَ
بِقَوْلِهِ وَقِرَاءَتِهِ: إِذَا أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْظْهَارُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الإِْظْهَارِ فِي اللُّغَةِ: التَّبْيِينُ
وَالإِْبْرَازُ بَعْدَ الْخَفَاءِ، يُقَال: أَظْهَرَ الشَّيْءَ: بَيَّنَهُ،
وَأَظْهَرَ فُلاَنًا عَلَى السِّرِّ: أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) فتح الباري 10 / 487 - ط. السلفية.
(3) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(36/118)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ وَالإِْظْهَارِ: أَنَّ الْمُجَاهَرَةَ
أَعَمُّ مِنَ الإِْظْهَارِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الْمُجَاهَرَةُ قَدْ تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالْمُجَاهَرَةِ
بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّبَجُّحِ وَالاِفْتِخَارِ بِهَا بَيْنَ الأَْصْحَابِ
(2) ، وَقَدْ تَكُونُ مَشْرُوعَةً، كَمَنْ قَوِيَ إِخْلاَصُهُ وَصَغُرَ
النَّاسُ فِي عَيْنَيْهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ
فَيَجُوزُ لَهُ إِظْهَارُ الطَّاعَاتِ، لأَِنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْخَيْرِ
خَيْرٌ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُجَاهَرَةِ:
الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي
4 - الْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي مَنْهِيٌّ عَنْهَا، قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ
الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَل الرَّجُل
بِاللَّيْل عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَيَقُول: يَا
فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ
رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ (4)
__________
(1) الفروق في اللغة ص280 - نشر دار الآفاق الجديدة.
(2) إعلام الموقعين 4 / 404 - نشر دار الجيل.
(3) مختصر منهاج القاصدين ص223 - 224، وعمدة القاري 21 / 138 - 139.
(4) حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري
10 / 486) ومسلم (4 / 2291) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(36/118)
وَقَال النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنِ
ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِهَا، بَل يُقْلِعَ
عَنْهَا وَيَنْدَمَ وَيَعْزِمَ أَنْ لاَ يَعُودَ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهَا
شَيْخَهُ أَوْ نَحْوَهُ مِمَّنْ يَرْجُو بِإِخْبَارِهِ أَنْ يُعْلِمَهُ
مَخْرَجًا مِنْهَا، أَوْ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهَا،
أَوْ يُعَرِّفُهُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهَا، أَوْ يَدْعُو لَهُ،
أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لاِنْتِفَاءِ
الْمَصْلَحَةِ، وَقَال الْغَزَالِيُّ: الْكَشْفُ الْمَذْمُومُ هُوَ الَّذِي
إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَاهَرَةِ وَالاِسْتِهْزَاءِ، لاَ عَلَى
وَجْهِ السُّؤَال وَالاِسْتِفْتَاءِ (1) ، بِدَلِيل خَبَرِ مَنْ وَاقَعَ
امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ (2) .
5 - وَجَعَل ابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ
إِفْشَاءَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمُبَاحِ (3) لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ
النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُل يُفْضِي
إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا (4)
وَالْمُرَادُ مِنْ نَشْرِ السِّرِّ ذِكْرُ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُل
وَامْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الْوِقَاعِ وَوَصْفِ تَفَاصِيل ذَلِكَ، وَمَا
يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَأَمَّا
__________
(1) فيض القدير 5 / 11.
(2) خبر: من واقع امرأته في رمضان. أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 163)
ومسلم (2 / 781) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) فيض القدير 5 / 11.
(4) حديث: " إن من أشر الناس عند الله منزلة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1060)
من حديث أبي سعيد الخدري.
(36/119)
مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْوِقَاعِ إِذَا لَمْ
يَكُنْ لِحَاجَةٍ فَذِكْرُهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَى ذِكْرِهِ
حَاجَةٌ وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَهُوَ مُبَاحٌ كَمَا لَوِ
ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ عِنِّينٌ.
(ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 6) .
الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ
6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ تَصِحُّ الصَّلاَةُ
مَعَ الْكَرَاهَةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ بِالْجَارِحَةِ، وَقَالُوا: مَنْ
صَلَّى خَلْفَ فَاسِقٍ يَكُونُ مُحْرِزًا ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ لاَ
يَنَال ثَوَابَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ إِمَامٍ تَقِيٍّ (1) ، وَلَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَاسِقُ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ
لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَقَال الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي إِمَامَةِ
الْفَاسِقِ بِالْجَوَارِحِ فَقَال ابْنُ بَزِيزَةَ: الْمَشْهُورُ إِعَادَةُ
مَنْ صَلَّى خَلْفَ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ أَبَدًا، وَقَال الأَْبْهَرِيُّ:
هَذَا إِذَا كَانَ فِسْقُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَتَرْكِ
الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَقَال
اللَّخْمِيُّ: إِنْ كَانَ فِسْقُهُ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلاَةِ
كَالزِّنَا وَغَصْبِ الْمَال أَجْزَأَتْهُ، لاَ إِنْ تَعَلَّقَ بِهَا
كَالطَّهَارَةِ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ صَلَّى خَلْفَ شَارِبِ
الْخَمْرِ أَعَادَ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي الَّذِي
تُؤَدَّى إِلَيْهِ الطَّاعَةُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ
__________
(1) مراقي الفلاح ص165، وحاشية القليوبي 1 / 234.
(36/119)
سَكْرَانَ حِينَئِذٍ (1) ، وَسُئِل ابْنُ
أَبِي زَيْدٍ عَمَّنْ يَعْمَل الْمَعَاصِيَ هَل يَكُونُ إِمَامًا؟
فَأَجَابَ: أَمَّا الْمُصِرُّ وَالْمُجَاهِرُ فَلاَ. وَالْمَسْتُورُ
الْمُعْتَرِفُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَالصَّلاَةُ خَلْفَ الْكَامِل أَوْلَى،
وَخَلْفَهُ لاَ بَأْسَ بِهَا.
وَسُئِل عَمَّنْ يُعْرَفُ مِنْهُ الْكَذِبُ الْعَظِيمُ، أَوْ قَتَّاتٌ
كَذَلِكَ، هَل تَجُوزُ إِمَامَتُهُ؟ فَأَجَابَ: لاَ يُصَلَّى خَلْفَ
الْمَشْهُورِ بِالْكَذِبِ وَالْقَتَّاتِ وَالْمُعْلِنِ بِالْكَبَائِرِ
وَلاَ يُعِيدُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَمَّا مَنْ تَكُونُ مِنْهُ
الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ فَلاَ يَتْبَعُ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ
مَالِكٍ: مَنْ هَذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟ وَلَيْسَ الْمُصِرُّ
وَالْمُجَاهِرُ كَغَيْرِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ فَاسِقٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ
كَانَ فِسْقُهُ بِالاِعْتِقَادِ أَوْ بِالأَْفْعَال الْمُحَرَّمَةِ،
وَسَوَاءٌ أَعْلَنَ فِسْقَهُ أَوْ أَخْفَاهُ (3) .
وَاخْتَارَ الشَّيْخَانِ أَنَّ الْبُطْلاَنَ مُخْتَصٌّ بِظَاهِرِ الْفِسْقِ
دُونَ خَفِيِّهِ، وَقَال فِي الْوَجِيزِ: لاَ تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ
الْمَشْهُورِ فِسْقُهُ (4) .
عِيَادَةُ الْمُجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ
7 - تُسَنُّ عِيَادَةُ مَرِيضٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُبْتَدِعٍ لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: خَمْسٌ تَجِبُ
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 92 - 93.
(2) مواهب الجليل 2 / 94.
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 257.
(4) كشاف القناع 1 / 474 - 475.
(36/120)
لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ
السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ
الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ (1) .
وَلاَ تُسَنُّ عِيَادَةُ مُتَجَاهِرٍ بِمَعْصِيَةِ إِذَا مَرِضَ
لِيَرْتَدِعَ وَيَتُوبَ، وَقَال الْبُهُوتِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا
الْحُكْمِ: وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَجَاهِرِ بِمَعْصِيَةٍ
يُعَادُ (2) .
الصَّلاَةُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعَاصِي
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى
الْفَاسِقِ (3) .
قَال ابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ وَلأَِهْل
الْفَضْل أَنْ يُصَلُّوا عَلَى الْبُغَاةِ وَأَهْل الْبِدَعِ، قَال أَبُو
إِسْحَاقَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ الرَّدْعِ، قَال: وَيُصَلِّي عَلَيْهِمُ
النَّاسُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَهِرُ بِالْمَعَاصِي وَمَنْ قُتِل فِي
قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهِمُ الإِْمَامُ وَلاَ أَهْل
الْفَضْل (4) .
وَقَال تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لأَِهْل الْخَيْرِ
أَنْ يَهْجُرُوا الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ مَيِّتًا إِذَا كَانَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 319، والآداب الشرعية 2 / 209، والفواكه
الدواني 2 / 427، والمغني 2 / 449. وحديث: " خمس تجب للمسلم. . . ". أخرجه
مسلم (4 / 1704) من حديث أبي هريرة، وهو في البخاري (فتح الباري 3 / 112)
بمعناه.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 319.
(3) نيل الأوطار 4 / 84، وكشاف القناع 2 / 123.
(4) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 2 / 240.
(36/120)
فِيهِ كَفٌّ لأَِمْثَالِهِ، فَيَتْرُكُونَ
تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ (1) .
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: لاَ يُصَلَّى عَلَى الْفَاسِقِ تَصْرِيحًا أَوْ
تَأْوِيلاً وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (2) .
(ر: جَنَائِزُ ف 40) .
السَّتْرُ عَلَى الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ السَّتْرُ فِيمَا كَانَ
حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ
وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِأَذًى أَوْ فَسَادٍ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا
سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3)
وَأَمَّا الْمُجَاهِرُ وَالْمُتَهَتِّكُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يُسْتَرَ
عَلَيْهِ، بَل يُظْهَرُ حَالُهُ لِلنَّاسِ حَتَّى يَتَوَقَّوْهُ، أَوْ
يَرْفَعُهُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ وَاجِبَهُ مِنْ
حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، مَا لَمْ يَخْشَ مَفْسَدَةً، لأَِنَّ السَّتْرَ
عَلَيْهِ يُطْمِعُهُ فِي مَزِيدٍ مِنَ الأَْذَى وَالْفَسَادِ (4) .
قَال النَّوَوِيُّ: مَنْ جَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ جَازَ
ذِكْرُهُ بِمَا جَاهَرَ بِهِ دُونَ مَنْ لَمْ يُجَاهِرْ بِهِ (5) .
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 264.
(2) نيل الأوطار 4 / 85 - ط. دار الجيل.
(3) حديث: " من ستر مسلمًا ستره الله. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1996) من
حديث ابن عمر.
(4) دليل الفالحين 2 / 15، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 266، وحاشية ابن
عابدين 3 / 143، 4 / 371، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 175.
(5) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 21 / 139.
(36/121)
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ سَتْرِ
عُيُوبِ الْمُؤْمِنِ (ر: إِفْشَاءُ السِّرِّ ف 10 وَسَتْرٌ ف 2) .
غِيبَةُ الْمُجَاهِرِ بِالْمَعْصِيَةِ
10 - الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ
إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ (1) ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ
أَجَازُوا غِيبَةَ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمُجَاهِرِ
بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ الْمَكْسِ وَجِبَايَةِ
الأَْمْوَال ظُلْمًا وَتَوَلِّي الأُْمُورِ الْبَاطِلَةِ، وَقَالُوا:
يَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ
مِنَ الْعُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ (2) .
قَال الْخَلاَّل: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُول: إِذَا
كَانَ الرَّجُل مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ (3) .
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ (4) : ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ
(بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ غِيبَةَ فِيهِمْ: الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ
بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ (5) .
__________
(1) الزواجر 2 / 4، وتفسير القرطبي 16 / 336 - 337، وتهذيب الفروق 4 / 229.
(2) دليل الفالحين 4 / 350 - 354.
(3) الآداب الشرعية 1 / 276.
(4) الآداب الشرعية 1 / 276.
(5) حديث: " ثلاثة لا غيبة فيهم. . . " رواه ابن عبد البر في بهجة المجالس
وأنس المجالس (1 / 398 نشر دار الكتب العلمية) .
(36/121)
هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي
11 - يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ
وَالْقَوْلِيَّةِ وَالاِعْتِقَادِيَّةِ، وَقِيل: يَجِبُ إِنِ ارْتَدَعَ
بِهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَقِيل: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا
إِلاَّ مِنَ السَّلاَمِ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيل: تَرْكُ
السَّلاَمِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ
كِفَايَةٍ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ، وَظَاهِرُ مَا نُقِل
عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلاَمِ وَالسَّلاَمِ مُطْلَقًا (1) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْهُ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ
وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنَ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلاَ صِلَةٌ إِذَا كَانَ
مُعْلِنًا مُكَاشِفًا (2) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ: لاَ يَحِل لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاَثٌ
فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ
فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الأَْجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ
بَاءَ بِالإِْثْمِ (3) إِذَا كَانَ الْهَجْرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ
لِلْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنِ ارْتَكَبَ الْمَهْجُورُ بِدْعَةً
أَوْ تَجَاهَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، وَالْوَعِيدُ
لاَ يَتَنَاوَلُهُ أَصْلاً، بَل هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) الآداب الشرعية 1 / 259.
(2) الآداب الشرعية 1 / 264.
(3) حديث: " لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث. . . ". أخرجه أبو داود
(5 / 214 - 215) من حديث أبي هريرة، وحسن إسناده النووي في رياض الصالحين
(ص568) .
(4) دليل الفالحين 4 / 429.
(36/122)
إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ
بِالْفِسْقِ
12 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى
الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ
الْوَلِيمَةِ فَإِنَّ الإِْجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ
وَاجِبَةٍ (1) .
وَأَمَّا الإِْجَابَةُ إِلَى دَعْوَةِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ فَقَدْ
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا: لاَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ
الْمُعْلِنِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِفِسْقِهِ، وَكَذَا
دَعْوَةُ مَنْ كَانَ غَالِبُ مَالِهِ مِنْ حَرَامٍ مَا لَمْ يُخْبِرْ
أَنَّهُ حَلاَلٌ (2) .
إِنْكَارُ مَا يُجَاهِرُ بِهِ مِنْ مَحْظُورَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ
13 - قَال ابْنُ الإِْخْوَةِ: إِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ
فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا الْمُحْتَسِبُ وَأَدَّبَهُ، وَإِنْ
كَانَ ذِمِّيًّا أُدِّبَ عَلَى إِظْهَارِهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
إِرَاقَتِهَا عَلَيْهِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُرَاقُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا
مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ، لأَِنَّهَا لاَ
تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلاَ الْكَافِرِ.
فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ مِنَ الأَْمْوَال الَّتِي يُقَرُّ الْمُسْلِمُونَ
__________
(1) المغني 7 / 11، وحاشية القليوبي 3 / 295، والفتاوى الهندية 5 / 343،
والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 337.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 343.
(36/122)
عَلَيْهَا، فَيُمْنَعُ مِنْ إِرَاقَتِهِ
وَمِنَ التَّأْدِيبِ عَلَى إِظْهَارِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ وَلَيْسَ فِي
إِرَاقَتِهِ غُرْمٌ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ شَوَاهِدَ الْحَال
فِيهِ فَيَنْهَى عَنِ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهِ وَلاَ يُرِيقُهُ
إِلاَّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ،
لِئَلاَّ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إِنْ حُوكِمَ فِيهِ (1) .
وَمِنْ قَبِيل إِنْكَارِ مَا يُجَاهَرُ بِهِ مِنْ مُبَاحَاتٍ مَا نَقَلَهُ
الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَكَل فِي
رَمَضَانَ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ (2) .
قَال ابْنُ الإِْخْوَةِ: وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلاَهِي
الْمُحَرَّمَةِ، مِثْل الزَّمْرِ وَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ آلاَتِ الْمَلاَهِي، فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ
أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلاَهِي،
وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَكْسِرَهَا إِنْ كَانَ
خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلاَهِي، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ
الْمَلاَهِي كَسَرَهَا وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي
فِيهَا لَمَّا كَانَتْ مَحْظُورَةً شَرْعًا كَانَتْ مُلْحَقَةً
بِالْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ (3) ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ
الْمَحْظُورَاتِ
__________
(1) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الأخوة ص32 - 33 - ط. دار الفنون
بكيمبرج 1937م.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 445.
(3) معالم القرية ص35.
(36/123)
فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ
عَنْهَا، وَلاَ أَنْ يَهْتِكَ الأَْسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الاِسْتِسْرَارِ
بِهَا (1) ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ
أَلَّمَ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ،
فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَل (2)
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمُجَاهَرَةِ بِالطَّاعَاتِ وَالإِْسْرَارِ بِهَا
- جَاءَ فِي قَوَاعِدِ الأَْحْكَامِ: الطَّاعَاتُ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا شُرِعَ مَجْهُورًا بِهِ، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ
وَالتَّكْبِيرِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ وَالْخُطَبِ
الشَّرْعِيَّةِ وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالأَْعْيَادِ وَالْجِهَادِ
وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الأَْمْوَاتِ، فَهَذَا لاَ يُمْكِنُ
إِخْفَاؤُهُ. فَإِنْ خَافَ فَاعِلُهُ الرِّيَاءَ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي
دَفْعِهِ إِلَى أَنْ تَحْضُرَهُ نِيَّةُ إِخْلاَصِهِ فَيَأْتِيَ بِهِ
مُخْلِصًا كَمَا شُرِعَ، فَيَحْصُل عَلَى أَجْرِ ذَلِكَ الْفِعْل وَعَلَى
أَجْرِ الْمُجَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ.
الثَّانِي: مَا يَكُونُ إِسْرَارُهُ خَيْرًا مِنْ إِعْلاَنِهِ كَإِسْرَارِ
الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ وَإِسْرَارِ أَذْكَارِهَا،
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص295.
(2) حديث: " اجتنبوا هذه القاذورة. . . ". أخرجه الحاكم (4 / 244) من حديث
ابن عمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(36/123)
فَهَذَا إِسْرَارُهُ خَيْرٌ مِنْ
إِعْلاَنِهِ.
الثَّالِثُ: مَا يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى كَالصَّدَقَاتِ،
فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ أَوْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ كَانَ
الإِْخْفَاءُ أَفْضَل مِنَ الإِْبْدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ
تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَنْ أَمِنَ
مِنَ الرِّيَاءِ فَلَهُ حَالاَنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ مِمَّنْ
يُقْتَدَى بِهِ، فَإِخْفَاؤُهَا أَفْضَل إِذْ لاَ يَأْمَنُ مِنَ الرِّيَاءِ
عِنْدَ الإِْظْهَارِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَانَ
الإِْبْدَاءُ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْفُقَرَاءِ مَعَ
مَصْلَحَةِ الاِقْتِدَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ نَفَعَ الْفُقَرَاءَ
بِصَدَقَتِهِ وَبِتَسَبُّبِهِ إِلَى تَصَدُّقِ الأَْغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ،
وَقَدْ نَفَعَ الأَْغْنِيَاءَ بِتَسَبُّبِهِ إِلَى اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي
نَفْعِ الْفُقَرَاءِ (1) .
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1 / 128 - 129، نشر دار الكتب العلمية،
وانظر إحياء علوم الدين 3 / 309 - ط. الحلبي.
(36/124)
مُجَاوَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُجَاوَرَةُ فِي اللُّغَةِ: تَقَارُبُ الْمُحَال، مِنْ قَوْلِكَ:
أَنْتَ جَارِي وَأَنَا جَارُكَ وَبَيْنَنَا جِوَارٌ، وَالْجَارُ مَنْ
يَقْرُبُ مَسْكَنُهُ مِنْكَ، وَهُوَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَضَايِفَةِ.
قَال بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْجِوَارُ قَرَابَةٌ بَيْنَ الْجِيرَانِ، ثُمَّ
اسْتُعْمِلَتِ الْمُجَاوَرَةُ فِي مَوْضِعِ الاِجْتِمَاعِ مَجَازًا
وَيُقَال: جَاوَرَهُ مُجَاوَرَةً وَجِوَارًا مِنْ بَابِ قَاتَل، وَالاِسْمُ
الْجُوَارُ بِالضَّمِّ: إِذَا لاَصَقَهُ فِي السَّكَنِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُجَاوَرَةِ:
لِلْمُجَاوَرَةِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - مُجَاوَرَةُ الْمَاءِ لِغَيْرِهِ
2 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يَضُرُّ فِي طَهُورِيَّةِ
__________
(1) المفردات، والمصباح، والفروق اللغوية.
(36/124)
الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ بِمُجَاوِرٍ
طَاهِرٍ غَيْرِ مُخْتَلِطٍ بِهِ كَالْعُودِ وَالدُّهْنِ، عَلَى اخْتِلاَفِ
أَنْوَاعِهِ، وَالشَّمْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاهِرَاتِ الصُّلْبَةِ
كَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ إِذَا لَمْ يَهْلِكْ فِي الْمَاءِ وَيَمَّعِ
فِيهِ، لأَِنَّ تَغَيُّرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ تَرَوُّحًا لاَ يَمْنَعُ
إِطْلاَقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ كَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِجِيفَةٍ
مُلْقَاةٍ عَلَى شَطِّ نَهَرٍ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذِهِ الأَْنْوَاعِ خِلاَفًا،
ثُمَّ قَال: وَفِي مَعْنَى الْمُتَغَيِّرِ بِالدُّهْنِ مَا تَغَيَّرَ
بِالْقَطِرَانِ وَالزِّفْتِ وَالشَّمْعِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ دُهْنِيَّةً
يَتَغَيَّرُ بِهَا الْمَاءُ تَغَيُّرَ مُجَاوَرَةٍ فَلاَ يَمْنَعُ
كَالدُّهْنِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْكَافُورُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: خَلِيطٌ كَالدَّقِيقِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَالثَّانِي:
مُجَاوِرٌ لاَ يَنْمَاعُ فِي الْمَاءِ فَهُوَ كَالْعُودِ فَلِذَلِكَ
قُيِّدَ الْكَافُورُ بِالصَّلاَبَةِ وَكَذَا الْقَطِرَانُ (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ
بِمُجَاوَرَةِ شَيْءٍ لَهُ فَإِنَّ تَغَيُّرَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ لاَ
يَسْلُبُهُ الطَّهُورِيَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُجَاوِرُ مُنْفَصِلاً عَنِ
الْمَاءِ أَوْ مُلاَصِقًا لَهُ، فَالأَْوَّل كَمَا لَوْ كَانَ إِلَى
جَانِبِ الْمَاءِ جِيفَةٌ أَوْ عَذِرَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا فَنَقَلَتْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 19، وفتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع 1 / 122
وما بعدها، المجموع 1 / 104 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 6، ومواهب
الجليل 1 / 45، وكشاف القناع 1 / 32، والمغني 1 / 13.
(36/125)
الرِّيحُ رَائِحَةَ ذَلِكَ إِلَى الْمَاءِ
فَتَغَيَّرَ وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا، قَال بَعْضُهُمْ: وَمِنْهُ إِذَا
سَدَّ فَمَ الإِْنَاءِ بِشَجَرٍ وَنَحْوِهِ فَتَغَيَّرَ مِنْهُ الْمَاءُ
مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةٍ لِشَيْءِ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ
الْمُجَاوِرُ الْمُلاَصِقُ فَمَثَّلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِالدُّهْنِ،
وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ وَقَيَّدَهُ بِالْمُلاَصِقِ (1) .
وَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ لَفْظُ
مُجَاوَرَةٍ وَإِنَّمَا وُجِدَ عِنْدَهُمْ لَفْظُ الْمُخَالَطَةِ، فَقَال
الشُّرُنْبُلاَلِيُّ: لاَ يَضُرُّ تَغَيُّرُ أَوْصَافِ الْمَاءِ بِجَامِدٍ
خَالَطَهُ بِدُونِ طَبْخٍ كَزَعْفَرَانٍ وَوَرَقِ شَجَرٍ.
وَفِي اللُّبَابِ عَلَى الْقُدُورِيِّ: لَوْ خَرَجَ الْمَاءُ عَنْ طَبْعِهِ
(بِالْخَلْطِ) أَوْ حَدَثَ لَهُ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ لاَ تَجُوزُ بِهِ
الطَّهَارَةُ (2) .
ب - مُجَاوَرَةُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مُجَاوَرَةِ الْحَرَمَيْنِ
الشَّرِيفَيْنِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ.
فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ
الْمُجَاوَرَةَ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ وَالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
مَكْرُوهَةٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَبِقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ قَال الْخَائِفُونَ
الْمُحْتَاطُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا فِي الإِْحْيَاءِ قَال: وَلاَ
يُظَنُّ أَنَّ كَرَاهَةَ الْقِيَامِ تُنَاقِضُ فَضْل
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 54.
(2) مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص15 واللباب للميداني علي القدوري 1 / 19
- 20 - ط. دار إحياء التراث بيروت.
(36/125)
الْبُقْعَةِ، لأَِنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ
عِلَّتُهَا ضَعْفُ الْخَلْقِ وَقُصُورُهُمْ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ
الْمَوْضِعِ، قَال فِي الْفَتْحِ: وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ كَوْنُ
الْجِوَارِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ كَذَلِكَ يَعْنِي مَكْرُوهًا
عِنْدَهُ، فَإِنَّ تَضَاعُفَ السَّيِّئَاتِ - أَوْ تَعَاظُمَهَا إِنْ
فُقِدَ فِيهَا - فَمَخَافَةُ السَّآمَةِ وَقِلَّةِ الأَْدَبِ الْمُفْضِي
إِلَى الإِْخْلاَل بِوُجُوبِ التَّوْقِيرِ وَالإِْجْلاَل قَائِمٌ، قَال
بَعْضُهُمْ: وَهُوَ وَجِيهٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُقَيَّدَ بِالْوُثُوقِ
اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ مِنْ حَال النَّاسِ لاَ سِيَّمَا أَهْل هَذَا
الزَّمَانِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تُكْرَهُ الْمُجَاوَرَةُ بِالْمَدِينَةِ
الْمُنَوَّرَةِ وَكَذَا بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ لِمَنْ يَثِقُ
بِنَفْسِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاخْتَارَ فِي اللُّبَابِ: أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ
بِالْمَدِينَةِ أَفْضَل مِنْهَا بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَدَمُ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ أَفْضَل.
قَال مَالِكٌ: الْقَفْل أَيِ الرُّجُوعُ أَفْضَل مِنَ الْجِوَارِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى اسْتِحْبَابِ الْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ
الشَّرِيفَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي
الْمَحْظُورَاتِ، أَوْ أَنْ تَسْقُطَ حُرْمَتُهُمَا عِنْدَهُ، لِمَا وَرَدَ
مِنْ مُضَاعَفَةِ الْعَمَل الصَّالِحِ فِيهِمَا كَحَدِيثِ: صَلاَةٌ فِي
مَسْجِدِي هَذَا
__________
(1) الخرشي 3 / 107، وحاشية العدوي 2 / 33.
(36/126)
أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا
سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاَةٌ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ صَلاَةٍ فِي هَذَا (1) وَقَال
اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} قَال الْقُرْطُبِيُّ:
جَعَلَهُ مُبَارَكًا لِتَضَاعُفِ الْعَمَل فِيهِ (2) .
قَال أَحْمَدُ: كَيْفَ لَنَا بِالْجِوَارِ بِمَكَّةَ؟ قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ
اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي
أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا كُرِهَ الْجِوَارُ بِمَكَّةَ لِمَنْ
هَاجَرَ مِنْهَا، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
جَاوَرَ بِمَكَّةَ وَجَمِيعُ أَهْل الْبِلاَدِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل
الْيَمَنِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخْرُجُ وَيُهَاجِرُ أَيْ لاَ بَأْسَ
بِهِ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ
قَال: وَالْمُقَامُ بِالْمَدِينَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْمُقَامِ
بِمَكَّةَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا مُهَاجَرُ
__________
(1) حديث: " صلاة في مسجدي هذا. . . ". أخرجه أحمد (4 / 5) من حديث عبد
الله بن الزبير، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 5) : رجاله رجال
الصحيح.
(2) عابدين 2 / 187، 256 وما بعدها، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1 /
312، والقليوبي وعميرة 2 / 126، والمغني لابن قدامة 3 / 556، وكشاف القناع
2 / 516، وتفسير القرطبي 4 / 139.
(3) حديث: " والله إنك لخير أرض الله. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 722) من
حديث عبد الله بن عدي، وقال: حديث حسن غريب صحيح.
(36/126)
الْمُسْلِمِينَ (1) وَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَصْبِرُ عَلَى لأَْوَائِهَا
وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلاَّ كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا شَفِيعًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ (2) .
ج - اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِالْمُجَاوَرَةِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ
بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ
شُبْرُمَةَ إِلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ
فَالْمُجَاوَرَةُ سَبَبٌ لِلشُّفْعَةِ عِنْدَهُمْ مِثْل الشَّرِكَةِ.
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - الْوَصِيَّةُ لِلْجَارِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَدْخُل فِي الْوَصِيَّةِ لِلْجَارِ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ
فَلأَِرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُل جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ دَارِهِ
الأَْرْبَعَةِ (3) ، لِحَدِيثِ: حَقُّ الْجِوَارِ إِلَى أَرْبَعِينَ دَارًا
هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ قُدَّامًا وَخَلْفًا
وَيَمِينًا وَشِمَالاً (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 556 في فصل خاص عقده للجوار بالمدينة، هذا لفظه
كله.
(2) حديث: " لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1004)
من حديث ابن عمر.
(3) القليوبي وعميرة 3 / 168، والمغني 6 / 124 - ط. مكتبة ابن تيمية في
القاهرة.
(4) حديث: " حق الجوار إلى أربعين دارًا. . . . ". أورده الهيثمي في المجمع
(7 / 168) وقال: رواه أبو يعلى عن شيخه محمد بن جامع العطار وهو ضعيف.
(36/127)
وَقَال الْمَحَلِّيُّ نَقْلاً عَنِ
الرَّوْضَةِ: وَيُقْسَّمُ الْمَال عَلَى عَدَدِ الدُّورِ لاَ عَلَى عَدَدِ
سُكَّانِهَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ
هَذَا نَصٌّ لاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ، إِنْ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ
يَثْبُتِ الْخَبَرُ، فَالْجَارُ هُوَ الْمُقَارِبُ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ
إِلَى الْعُرْفِ (2) .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الْمُلاَصِقُ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ هُوَ
مَنْ يَسْكُنُ فِي مَحَلَّتِهِ وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدُ الْمَحَلَّةِ،
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لَكِنَّ الصَّحِيحَ قَوْل الإِْمَامِ، وَهُوَ مِمَّا
رُجِّحَ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى الاِسْتِحْسَانِ (3) لِحَدِيثِ: الْجَارُ
أَحَقُّ بِسَقَبِهِ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَإِنَّهُ يُعْطِي
الْجَارَ وَزَوْجَتَهُ، وَأَمَّا زَوْجَةُ الْمُوصِي فَلاَ تُعْطَى
لأَِنَّهَا لَيْسَتْ جَارًا وَحَدُّ الْجَارِ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ مَا
كَانَ يُوَاجِهُهُ وَمَا لَصِقَ بِالْمَنْزِل مِنْ وَرَائِهِ وَجَانِبَيْهِ
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْجَارِ يَوْمُ الْقَسْمِ، فَلَوِ انْتَقَل
بَعْضُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ وَحَدَثَ غَيْرُهُمْ أَوْ بَلَغَ صَغِيرٌ
فَذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ، وَلَوْ كَانُوا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ قَلِيلاً
ثُمَّ كَثُرُوا أُعْطُوا جَمِيعُهُمْ (5) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .
__________
(1) المحلي بحاشية القليوبي 3 / 168.
(2) المغني 6 / 124.
(3) الدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 437 - ط. بولاق.
(4) حديث: " الجار أحق بسقبه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 437) من
حديث أبي رافع.
(5) الخرشي 8 / 176، 177.
(36/127)
هـ - مُجَاوَرَةُ الصَّالِحِينَ
6 - يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ مُجَالَسَةُ أَهْل الْخَيْرِ، وَالصَّالِحِينَ
وَمُلاَزَمَةُ مَجَالِسِهِمْ، وَالصَّبْرُ مَعَهُمْ، وَمُصَاحَبَتُهُمْ
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا} .
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَال
الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْرُدْ
هَؤُلاَءِ لاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا. قَال: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ
مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلاَلٌ وَرَجُلاَنِ لَسْتُ
أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ،
فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل (1) : {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ الصِّدِّيقِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
مُجَالَسَةُ أَهْل الْخَيْرِ وَهُمْ حِزْبُ اللَّهِ الْمُنْقَطِعُونَ
إِلَيْهِ اللاَّئِذُونَ بِهِ الْحَائِزُونَ لِشَرَفِ الْعِلْمِ
__________
(1) حديث: سعد بن أبي وقاص: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه مسلم (4 / 1878) .
(36/128)
وَالْعَمَل بِهِ مَعَ الإِْخْلاَصِ فِيهِ
مُسْتَحَبَّةٌ، لأَِنَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ،
وَلأَِنَّهُمْ هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمُ، قَال: وَأَقَل
ثَمَرَاتِ مُجَالَسَتِهِمْ حِفْظُ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ عَنِ
الْمُخَالَفَةِ لِمَوْلاَهُ عَزَّ وَجَل (1) وَعَنْ أَبِي مُوسَى
الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَثَل الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسُّوءِ كَحَامِل
الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِل الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ،
وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا
طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا
أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً (2) أَيْ فَجَلِيسُ الأَْخْيَارِ إِمَّا أَنْ
يُعْطَى بِمُجَالَسَتِهِمْ مِنَ الْفُيُوضِ الإِْلَهِيَّةِ أَنْوَاعَ
الْهِبَاتِ حِيَاءً وَعَطَاءً، وَإِمَّا أَنْ يَكْتَسِبَ مِنَ الْمَجَالِسِ
خَيْرًا وَأَدَبًا يَكْتَسِبُهَا عَنْهُ وَيَأْخُذُهَا مِنْهُ؛ وَإِمَّا
أَنْ يَكْتَسِبَ حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمُخَالَلَتِهِ، وَمُخَالَطَتِهِ،
وَأَمَّا جَلِيسُ السُّوءِ فَإِمَّا أَنْ يَحْتَرِقَ بِشُؤْمِ مَعَاصِيهِ
كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وَإِمَّا أَنْ يُدَنِّسَ ثَنَاءَهُ
بِمُصَاحَبَتِهِ (3) وَقَدْ وَرَدَ:
__________
(1) دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 2 / 219 وما بعدها.
(2) حديث: " عن أبي موسى الأشعري: " مثل الجليس الصالح. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 9 / 660) .
(3) دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 2 / 226، فتح الباري 4 / 324.
(36/128)
الرَّجُل عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ
فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِل (1) .
مَجْبُوبٌ
انْظُرْ: جَبٌّ
مُجْتَهِدٌ
انْظُرْ: اجْتِهَادٌ
مَجْذُومٌ
انْظُرْ: جُذَامٌ
__________
(1) حديث: " الرجل على دين خليله. . ". أخرجه الترمذي (4 / 589) من حديث
أبي هريرة، وحسنه.
(36/129)
مَجْرَى الْمَاءِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَجْرَى فِي اللُّغَةِ بِوَزْنِ مَفْعَلٍ: ظَرْفُ مَكَانٍ مِنْ
فَعَل جَرَى يَجْرِي: بِمَعْنَى سَال، خِلاَفُ وَقَفَ وَسَكَنَ، وَالْمَاءُ
الْجَارِي هُوَ: الْمُتَدَافِعُ فِي انْحِدَارٍ أَوْ فِي اسْتِوَاءٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَجْرَى الْمَاءِ:
أَقْسَامُ مَجْرَى الْمَاءِ
2 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ مَجْرَى الْمَاءِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْمَجْرَى الْعَامُّ وَالْمَجْرَى الْخَاصُّ.
وَأَمَّا الْمَجْرَى الْعَامُّ: وَهُوَ مَا لاَ يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ: بِأَنْ
يَكُونَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ وَلاَ صَنِيعَ لِلآْدَمِيِّينَ فِي حَفْرِهِ
وَلاَ فِي إِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ كَالأَْنْهَارِ الْكَبِيرَةِ كَالنِّيل
وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا الَّتِي لاَ تَزَاحُمَ فِيهَا لِسِعَتِهَا
وَكَثْرَةِ الْمَاءِ فِيهَا وَلاَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَحَدٌ
فَهَذَا لاَ مِلْكَ لأَِحَدٍ عَلَى رَقَبَةِ الْمَجْرَى وَلاَ حَقَّ
خَاصًّا فِي
__________
(1) المصباح المنير، والقليوبي 2 / 317.
(36/129)
الاِنْتِفَاعِ بِمَائِهِ بَل الْحَقُّ
فِيهِ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلٍّ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذِهِ
الأَْنْهَارِ بِمُخْتَلِفِ أَوْجُهِ الاِنْتِفَاعِ إِنْ لَمْ يَضُرَّ
بِتَصَرُّفِهِ مَصْلَحَةً عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ
وَلاَ لِغَيْرِهِ مَنْعُهُ إِنْ لَمْ يَضُرَّ أَحَدًا.
وَلَهُ نَصْبُ رَحًى عَلَيْهِ أَوْ دَالِيَةً أَوْ سَاقِيَةً: بِشَرْطِ
أَنْ لاَ يَضُرَّ النَّهَرَ وَأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْبِنَاءِ مِلْكًا
لَهُ أَوْ مَوَاتًا مَحْضًا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ (1) .
وَأَمَّا الْمَجْرَى الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرَى مَمْلُوكًا
بِأَنْ يَحْفِرَ نَهَرًا يَدْخُل فِيهِ الْمَاءُ مِنَ الْوَادِي الْعَظِيمِ
أَوْ مِنَ النَّهَرِ الْمُنْخَرِقِ مِنْهُ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى
إِبَاحَتِهِ لَكِنَّ مَالِكَ النَّهَرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْل يَدْخُل
مِلْكَهُ فَلَيْسَ لأَِحَدِ مُزَاحَمَتُهُ لِسَقْيِ الأَْرَضِينَ وَأَمَّا
لِلشُّرْبِ وَالاِسْتِعْمَال وَسَقْيِ الدَّوَابِّ فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ
(2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (شُرْبٌ ف 3 - 9 وَمِيَاهٌ وَنَهَرٌ) .
إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ
3 - لاَ يَجُوزُ إِجْرَاءُ مَاءٍ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ بِلاَ ضَرُورَةٍ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ بِالاِتِّفَاقِ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ
الْغَيْرِ بِلاَ إِذْنٍ وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَأَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 192، وروضة الطالبين 5 / 304، والمغني 5 / 583،
والخرشي 6 / 76، وبلغة السالك 3 / 188.
(2) روضة الطالبين 5 / 305 - 307، بدائع الصنائع 6 / 183 - 583، والخرشي 7
/ 76، والمغني 5 / 58 وما بعدها.
(36/130)
تَكُونَ لَهُ أَرْضٌ لِلزِّرَاعَةِ لَهَا
مَاءٌ لاَ طَرِيقَ لَهُ إِلَيْهَا إِلاَّ أَرْضُ جَارِهِ فَهَل لَهُ
إِجْرَاءُ الْمَاءِ فِي أَرْضِ جَارِهِ لِتَوْصِيل الْمَاءِ إِلَى أَرْضِهِ
بِغَيْرِ إِذْنِ الْجَارِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى
رِوَايَتَيْنِ لَهُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ
وَاخْتَارَهَا عِيسَى بْنُ دِينَارٍ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ الْحَاجَةِ لاَ تُبِيحُ لَهُ مَال غَيْرِهِ وَهِيَ
كَمَا لَوْ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ
لَهُ الزَّرْعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَالْبِنَاءُ فِيهَا وَلاَ
الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءِ مِنْ مَنَافِعِهَا الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ قَبْل
هَذِهِ الْحَاجَةِ فَإِنْ أُذِنَ لَهُ جَازَ (1) .
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ
خَلِيجًا لَهُ مِنَ الْعَرِيضِ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَأَبَى مُحَمَّدٌ فَقَال لَهُ الضَّحَّاكُ:
لِمَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلاً وَآخِرًا
وَلاَ يَضُرُّكَ فَأَبَى مُحَمَّدٌ فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فَقَال
مُحَمَّدٌ: لاَ فَقَال عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ
وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ: تَسْقِي بِهِ أَوَّلاً وَآخِرًا وَهُوَ لاَ
__________
(1) المغني 4 / 548، والمنتقى شرح الموطأ 6 / 32، 46، وما بعدها وروضة
الطالبين 5 / 307، 4 / 221.
(36/130)
يَضُرُّكَ. فَقَال: مُحَمَّدٌ: لاَ
وَاللَّهِ فَقَال عُمَرُ: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ
فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فَفَعَل الضَّحَّاكُ (1) .
وَلِمَالِكٍ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ حُكْمُ
الْمَسْأَلَةِ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَال النَّاسِ فَإِذَا كَانَ أَهْل
الزَّمَنِ كَأَهْل زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعُمُّهُمْ أَوْ
يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الصَّلاَحُ وَالدِّينُ وَالتَّحَرُّجُ عَمَّا لاَ
يَحِل يُقْضَى بِإِمْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ أَوْ يَغْلِبُ
عَلَيْهِمُ اسْتِحْلاَل أَمْوَال النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَجَبَ أَنْ
يُحْكَمَ بِالْمَنْعِ فِي ذَلِكَ لأَِنَّهُ قَدْ يَطُول الأَْمْرُ
فَيَدَّعِي صَاحِبُ الْمَاءِ الْمَمَرَّ فِي أَرْضِ مَنْ قُضِيَ لَهُ
بِإِمْرَارِهِ فِي أَرْضِهِ فَيَدَّعِي مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَمَرِّ أَوْ
يَدَّعِي حُقُوقًا فِيهِ فَيَشْهَدُ لَهُ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ فَيُمْنَعُ
الإِْمْرَارُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ مِنْ أَدِلَّةِ
الشَّرِيعَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْهُ
(2) .
الصُّلْحُ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ أَوْ
عَلَى سَطْحِ الْجَارِ
4 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ صَالَحَ رَجُلاً عَلَى
إِجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ
عَنْ سَطْحِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ أَرْضِهِ جَازَ إِذَا كَانَ مَا
يَجْرِي مَاءً مَعْلُومًا إِمَّا
__________
(1) أثر ابن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له. . . أخرجه مالك في الموطأ (2 /
746) .
(2) المنتقى شرح الموطأ 6 / 46، والمغني 4 / 548، وروضة الطالبين 4 / 221.
(36/131)
بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ
الْمِسَاحَةِ لأَِنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَكِبَرِهِ
وَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ
الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْرِي مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى السَّطْحِ لأَِنَّ
ذَلِكَ يَخْتَلِفُ وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ مُدَّةٍ لأَِنَّ
الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى هَذَا وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ
فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ كَمَا كَانَ فِي النِّكَاحِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَمَّا غَسَّالَةُ الثِّيَابِ وَالأَْوَانِي فَلاَ
يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى مَالٍ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ
تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْبُلْقِينِيُّ
وَشَرَطَ الْمُصَالَحَةَ عَلَى إِجْرَاءِ مَاءِ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِ
غَيْرِهِ: أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَصْرِفٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِلاَّ
بِمُرُورِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ قَالَهُ الإِْسْنَوِيُّ وَمَحِل
الْجَوَازِ فِي الثَّلْجِ إِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ لاَ فِي
سَطْحِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَلَيْسَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فِي
إِجْرَاءِ الْمَطَرِ عَلَى السَّطْحِ أَنْ يَطْرَحَ الثَّلْجَ عَلَيْهِ
وَلاَ أَنْ يَتْرُكَ الثَّلْجَ حَتَّى يَذُوبَ وَيَسِيل إِلَيْهِ وَمَنْ
أَذِنَ لَهُ فِي إِلْقَاءِ الثَّلْجِ لاَ يَجْرِي الْمَطَرُ وَلاَ
غَيْرُهُ.
وَالْمِلْكُ لَيْسَ قَيْدًا بَل يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الأَْرْضِ
الْمَوْقُوفَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ لَكِنْ يُعْتَبَرُ هُنَا التَّأْقِيتُ
لأَِنَّ الأَْرْضَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ فَلاَ يُمْكِنُهُ الْعَقْدُ
عَلَيْهَا مُطْلَقًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ
الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا أَوْ عَارِيَّةً مَعَ إِنْسَانٍ
(36/131)
لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى
إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ. وَلَمْ
يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ (1) .
تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ فِي مَجْرَاهُ
5 - إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِطَاهِرٍ فِي مَجْرَاهُ تَغَيُّرًا لاَ
يَمْنَعُ إِطْلاَقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلاَ يَسْلُبُ
الطَّهُورِيَّةَ فِي الْمَاءِ فَيَصِحُّ التَّطَهُّرُ بِهِ لِتَعَذُّرِ
صَوْنِ الْمَاءِ عَمَّا ذُكِرَ.
ر: مُصْطَلَحَ (تَغْيِيرٌ ف 3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 191، والمغني 4 / 547.
(36/132)
مَجْلِسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَجْلِسُ (بِكَسْرِ اللاَّمِ) مَوْضِعُ الْجُلُوسِ وَبِفَتْحِهَا:
مَصْدَرٌ وَالْجُلُوسُ: الْقُعُودُ وَهُوَ نَقِيضُ الْقِيَامِ.
وَالْجِلْسَةُ: الْحَال الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْجَالِسُ (1) .
وَالْجَلِيسُ: مَنْ يُجَالِسُكَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
وَجَمْعُ الْمَجْلِسِ: مَجَالِسُ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَجْلِسُ عَلَى أَهْلِهِ مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْحَال
بِاسْمِ الْمَحِل فَيُقَال: اتَّفَقَ الْمَجْلِسُ (2) .
وَتُسْتَعْمَل الْمَجَالِسُ بِمَعْنَى الْجُلُوسِ كَمَا فِي حَدِيثِ:
فَإِذَا أَتَيْتُمْ إِلَى الْمَجَالِسِ (3) . . . .
__________
(1) الصحاح للجوهري، ولسان العرب لابن منظور.
(2) المصباح المنير للفيومي.
(3) حديث: " فإذا أتيتم إلى المجالس. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 /
112) من حديث أبي سعيد الخدري.
(36/132)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَلْقَةُ:
2 - الْحَلْقَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مُسْتَدِيرُونَ كَحَلْقَةِ
الْبَابِ وَغَيْرِهَا (2) .
وَالتَّحَلُّقُ: عَلَى وَزْنِ تَفَعُّلٍ وَهُوَ تَعَمُّدُ الْجُلُوسِ
مُسْتَدِيرِينَ كَالْحَلْقَةِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الْحَلْقَةِ.
صِفَةُ الْمَجْلِسِ وَهَيْئَةُ أَهْلِهِ
3 - لَمْ تُفْرَضْ فِي الْمَجْلِسِ صِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَإِنَّمَا شُرِعَتْ
لَهُ آدَابٌ وَهُنَاكَ إِشَارَاتٌ تَدُل عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَجَالِسِ
السَّلَفِ كَانَتْ بِصِفَةِ الْحَلْقَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْشِدُ إِلَى تَوْسِعَةِ الْمَجْلِسِ فَعَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: خَيْرُ الْمَجَالِسِ
أَوْسَعُهَا (4) وَكَانَ عُمَرُ
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.
(2) لسان العرب.
(3) النهاية لابن الأثر مادة: (حلق) وحاشية عون المعبود على سنن أبي داود
لمحمد أشرف الصديفي 4 / 405.
(4) حديث: " خير المجالس أوسعها. ". أخرجه أبو داود (5 / 162) ، والحاكم (4
/ 269) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه.
(36/133)
يَقُول: يُصْفِي لَكَ وُدَّ أَخِيكَ
ثَلاَثٌ. . . وَيَعُدُّ مِنْهَا أَنْ تُوَسِّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ (1) .
أَمَّا هَيْئَةُ الْجَالِسِ مَعَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا إِلاَّ
مَا كَانَ مُفْضِيًا إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا (2) .
وَهُنَاكَ هَيْئَةٌ فِي الْجُلُوسِ تَدُل عَلَى التَّكَبُّرِ
وَالتَّجَبُّرِ وَالْقَسْوَةِ نَهَى عَنْهَا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: مَرَّ بِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا جَالِسٌ وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِيَ الْيُسْرَى خَلْفَ
ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَقْعُدُ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِزِيَادَةٍ: قَال ابْنُ جُرَيْجٍ: وَضْعُ
رَاحَتَيْكَ عَلَى الأَْرْضِ (3) .
قَال الْعَظِيمَ آبَادِي: الأَْلْيَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: اللَّحْمَةُ
الَّتِي فِي أَصْل الإِْبْهَامِ وَقَال: الأَْظْهَرُ أَنْ يُرَادَ
بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ
الْمُتَكَبِّرِينَ الْمُتَجَبِّرِينَ مِمَّنْ تَظْهَرُ آثَارُ الْعُجْبِ
وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ مِنْ قُعُودِهِمْ وَمَشْيِهِمْ وَنَحْوِهِمَا (4) .
__________
(1) الجامع في السنن والآداب لابن أبي زيد / 195، والآداب للبيهقي ص102.
(2) فتح الباري 11 / 79.
(3) حديث: " أتقعد قعدة. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 177) ، وابن حبان (12
/ 488) .
(4) عون المعبود 4 / 413.
(36/133)
وَلِلْجُلُوسِ لِلأَْكْل هَيْئَاتٌ
وَآدَابٌ مُسْتَحَبَّةٌ مِنْهَا: عَدَمُ الاِتِّكَاءِ فِي الْجِلْسَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (أَكْلٌ ف 19) .
4 - وَمِمَّا عُرِفَ مِنْ هَيْئَاتِ جُلُوسِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أ - التَّرَبُّعُ فَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ
حَسْنَاءَ (1) .
ب - الاِتِّكَاءُ وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا حَدِيثُ
جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ (2) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: كُل مُعْتَمِدٍ عَلَى شَيْءٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُ
فَهُوَ مُتَّكِئٌ.
قَال الْمُهَلَّبُ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي وَالإِْمَامِ
الاِتِّكَاءُ فِي مَجْلِسِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لأَِلَمٍ يَجِدُهُ فِي
بَعْضِ أَعْضَائِهِ أَوْ لِرَاحَةٍ يَرْتَفِقُ بِذَلِكَ وَلاَ يَكُونُ
ذَلِكَ فِي عَامَّةِ جُلُوسِهِ (3) .
ج - الاِضْطِجَاعُ: وَهُوَ: وَضْعُ الْجَنْبِ عَلَى الأَْرْضِ فَقَدْ
وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ
إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر. . . ". أخرجه
أبو داود (5 / 178) .
(2) حديث: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئًا. . . ". أخرجه الترمذي
(5 / 98) وقال: هذا حديث صحيح.
(3) فتح الباري 11 / 66 - 67.
(36/134)
الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ
الأَْيْمَنِ (1) .
د - الاِحْتِبَاءُ: وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ رَافِعًا
رُكْبَتَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلَيْهِمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا (2) .
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَأَيْتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ
مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا (3) . . .
هـ - الاِسْتِلْقَاءُ هُوَ الاِضْطِجَاعُ عَلَى الْقَفَا وَوَضْعُ
الظَّهْرِ عَلَى الأَْرْضِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ نَوْمٌ أَمْ لاَ فَعَنْ
عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا
إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُْخْرَى (4) .
وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْوَقَارِ التَّامِّ فَمَا
وَرَدَ مِنَ اسْتِلْقَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ
الْجَوَازِ وَكَانَ فِي وَقْتِ الاِسْتِرَاحَةِ لاَ عِنْدَ مُجْتَمَعِ
النَّاسِ (5) .
مَكَانُ الْمَجْلِسِ
5 - تُعْقَدُ الْمَجَالِسُ فِي كُل مَكَانٍ مُنَاسِبٍ لَهَا
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر. . ". أخرجه
البخاري (3 / 43) ، ومسلم (1 / 508) ، وانظر زاد المعاد 1 / 318.
(2) أسنى المطالب 1 / 56.
(3) حديث: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة. . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 11 / 65) .
(4) حديث عباد عن عمه: " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقيًا في
المسجد. . ". أخرجه الترمذي (5 / 99، 96) وقال: حديث حسن صحيح.
(5) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري لأبي العباس القسطلاني 9 / 66.
(36/134)
مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ وَتَجَنُّبِ
الأَْمَاكِنِ الَّتِي قَدْ يُفْضِي الْجُلُوسُ بِهَا إِلَى مَفَاسِدَ
وَمَضَارَّ.
وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى
الطُّرُقَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ فَقُلْنَا
إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسٍ، قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ
وَنَتَحَدَّثُ، قَال: أَمَّا لاَ، فَأَدُّوا حَقَّهَا: غُضُّوا الْبَصَرَ
وَرُدُّوا السَّلاَمَ وَحَسِّنُوا الْكَلاَمَ (1) .
وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ " وَإِرْشَادُ السَّبِيل (2) " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ
أَيْضًا: وَتُغِيثُوا الْمَلْهُوفَ وَتُهْدُوا الضَّال (3) .
وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْفِتَنِ وَالأَْذَى.
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: أَمَّا الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ فَالْمُرُوءَةُ
وَالنَّزَاهَةُ اجْتِنَابُ الْجُلُوسِ فِيهِ، فَإِنْ جَلَسَ كَانَ عَلَيْهِ
أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ الطَّرِيقِ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَإِرْشَادُ الضَّال،
وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَجَمْعُ اللُّقَطَةِ لِلتَّعْرِيفِ، وَالأَْمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ جَلَسَ وَلَمْ يُعْطِ
الطَّرِيقَ حَقَّهَا فَقَدِ اسْتَهْدَفَ لأَِذِيَّةِ النَّاسِ (4) .
__________
(1) حديث: " اجتنبوا مجالس الصعدات. . . ". أخرجه مسلم (4 / 1704) من حديث
أبي طلحة رضي الله عنه.
(2) حديث: " وإرشاد السبيل. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 160) من حديث أبي
هريرة.
(3) حديث: " وتغيثوا الملهوف. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 161) من حديث عمر
بن الخطاب.
(4) بريقة محمودية 4 / 165، 166، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 392، 393.
(36/135)
آدَابُ الْمَجْلِسِ
مِنْ آدَابِ الْمَجْلِسِ مَا يَلِي:
أ - التَّفَسُّحُ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمُ الْجُلُوسِ وَسْطَ الْحَلْقَةِ:
6 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي
وَسْطِ الْحَلْقَةِ كَحَلْقَةِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ وَالطَّعَامِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ (1)
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِذَا كَانَ فِي الْحَلْقَةِ فَجَاءَ
رَجُلٌ فَقَعَدَ خَلْفَهُ يَتَأَخَّرُ قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: يَعْنِي
أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي وَسْطِ الْحَلْقَةِ وَيَتَوَجَّهَ
تَحْرِيمُ ذَلِكَ.
وَالْجُلُوسُ فِي وَسْطِ الْحَلْقَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَأْتِيَ حَلْقَةً
فَيَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَقْعُدَ وَسْطَ الْقَوْمِ، وَلاَ
يَقْعُدُ حَيْثُ يَنْتَهِي الْمَجْلِسُ، أَوْ أَنْ يَقْعُدَ وَسْطَ
الْحَلْقَةِ مُقَابِلاً بَيْنَ وُجُوهِ الْمُتَحَلِّقِينَ فَيَحْجُبَ
بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا لُعِنَ لأَِنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُ
وَيَذُمُّونَهُ لِتَأَذِّيهِمْ.
وَقِيل: اللَّعْنُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَجْلِسُ اسْتِهْزَاءً كَالْمُضْحِكِ
وَبِمَنْ يَجْلِسُ لأَِخْذِ الْعِلْمِ نِفَاقًا (2) .
__________
(1) حديث: " لعن من جلس وسط الحلقة ". أخرجه أبو داود (5 / 164) والترمذي
(5 / 90) من حديث حذيفة بن اليمان، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: هذا
حديث حسن صحيح.
(2) بريقة محمودية وهامشها 4 / 166، 167، والقوانين الفقهية / 433 - ط. دار
الكتاب العربي، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 457، والآداب للبيهقي / 103.
(36/135)
ب - تَجَنُّبُ إِقَامَةِ شَخْصٍ مِنْ
مَجْلِسِهِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي تَخْصِيصُ
مَكَانٍ لِنَفْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ لأَِنَّهُ يُخِل بِالْخُشُوعِ أَيْ
لأَِنَّهُ إِذَا اعْتَادَهُ ثُمَّ صَلَّى فِي غَيْرِهِ يَبْقَى بَالُهُ
مَشْغُولاً بِالأَْوَّل بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَأْلَفْ مَكَانًا
مُعَيَّنًا.
وَقَالُوا: لَيْسَ لِمَنْ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ
يُوَاظِبُ عَلَيْهِ - وَلَوْ مُدَرِّسًا - وَقَدْ شَغَلَهُ غَيْرُهُ
إِزْعَاجُ هَذَا الْغَيْرِ مِنْهُ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ مِلْكًا
لأَِحَدٍ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ
يَقُمْ عَنْهُ عَلَى نِيَّةِ الْعَوْدِ بِلاَ مُهْلَةٍ كَمَا لَوْ قَامَ
لِلْوُضُوءِ مَثَلاً وَلاَ سِيَّمَا إِذَا وَضَعَ فِيهِ ثَوْبَهُ
لِتَحَقُّقِ سَبْقِ يَدِهِ.
وَقَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: مَثَل الْمَسْجِدِ مَقَاعِدُ الأَْسْوَاقِ
الَّتِي يَتَّخِذُهَا الْمُحْتَرِفُونَ: مَنْ سَبَقَ لَهَا فَهُوَ
الأَْحَقُّ بِهَا وَلَيْسَ لِمُتَّخِذِهَا أَنْ يُزْعِجَهُ إِذْ لاَ حَقَّ
لَهُ فِيهَا مَا دَامَ فِيهَا فَإِذَا قَامَ عَنْهَا اسْتَوَى هُوَ
وَغَيْرُهُ فِيهَا مُطْلَقًا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمُرَادُ بِهَا
(بِالْمَقَاعِدِ) الَّتِي لاَ تَضُرُّ الْعَامَّةَ وَإِلاَّ أُزْعِجَ
فِيهَا مُطْلَقًا.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ فَلِلْمُصَلِّي إِزْعَاجُ
الْقَاعِدِ وَلَوْ مُشْتَغِلاً بِقِرَاءَةٍ أَوْ دَرْسٍ وَكَذَا إِذَا لَمْ
يَضِقْ لَكِنْ فِي قُعُودِ الْقَاعِدِ قَطْعٌ لِلصَّفِّ.
(36/136)
وَفِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ
لِلسَّرَخْسِيِّ: وَكَذَا كُل مَا يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَوَاءً
كَالنُّزُول فِي الرِّبَاطَاتِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلصَّلاَةِ
وَالنُّزُول بِمِنًى أَوْ عَرَفَاتٍ لِلْحَجِّ حَتَّى لَوْ ضَرَبَ
فُسْطَاطَهُ فِي مَكَانٍ كَانَ يَنْزِل فِيهِ غَيْرُهُ فَهُوَ أَحَقُّ
وَلَيْسَ لِلآْخَرِ أَنْ يُحَوِّلَهُ فَإِنْ أَخَذَ مَوْضِعًا فَوْقَ مَا
يَحْتَاجُهُ فَلِلْغَيْرِ أَخْذُ الزَّائِدِ مِنْهُ (1) .
وَسُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل يَقُومُ مِنَ الْمَجْلِسِ فَقِيل لَهُ:
إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِذَا قَامَ الرَّجُل مِنْ
مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ فَقَال: سَمِعْتُ
فِي ذَلِكَ شَيْئًا وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ إِنْ كَانَ إِتْيَانُهُ قَرِيبًا
وَإِنْ تَبَاعَدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ بَعِيدًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلاَ
أَرَى ذَلِكَ لَهُ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ مَحَاسِنِ الأَْخْلاَقِ قَال
مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ مَعْنَاهُ: إِذَا قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ لاَ
يَرْجِعَ إِلَيْهِ وَأَمَّا إِنْ قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ
إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِنْ رَجَعَ بِالْقُرْبِ فَتَحْصِيل هَذَا
أَنَّهُ إِنْ قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فَرَجَعَ
بِالْقُرْبِ حَسَنٌ أَنْ يَقُومَ لَهُ عَنْهُ مَنْ جَلَسَ بَعْدَهُ فِيهِ
وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ بِالْقُرْبِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي
الاِسْتِحْسَانِ وَإِنْ قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فَعَادَ
إِلَيْهِ بِالْقُرْبِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَوَجَبَ عَلَى مَنْ جَلَسَ فِيهِ
بَعْدَهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 445.
(36/136)
عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ
بِالْقُرْبِ حَسُنَ أَنْ يَقُومَ لَهُ عَنْهُ مَنْ جَلَسَ فِيهِ بَعْدَهُ
وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ أَحَدًا وَلَوْ فِي غَيْرِ
الْمَسْجِدِ لِيَجْلِسَ مَكَانَهُ لِخَبَرِ: نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُل
مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا
وَتَوَسَّعُوا (2) .
فَإِنْ قَامَ الْجَالِسُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَجْلَسَ غَيْرَهُ فَلاَ
كَرَاهَةَ فِي جُلُوسِ غَيْرِهِ وَأَمَّا هُوَ فَإِنِ انْتَقَل إِلَى
مَكَانٍ أَقْرَبَ إِلَى الإِْمَامِ أَوْ مِثْلِهِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِلاَّ
كُرِهَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، كَإِيثَارٍ، نَحْوُ عَالِمٍ وَقَارِئٍ؛
لأَِنَّ الإِْيثَارَ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا مَنْ أَلِفَ مِنَ
الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ أَوْ يُقْرِئُ فِيهِ قُرْآنًا أَوْ
عِلْمًا فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ سَبَقَهُ إِلَى الْقُعُودِ فِيهِ، وَفِي
مَعْنَاهُ - كَمَا قَال ابْنُ حَجَرٍ - مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ
الشَّوَارِعِ وَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ لِمُعَامَلَةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَقْعُدُ لَهُ فِي مَكَانٍ لِيَقُومَ عَنْهُ
إِذَا جَاءَ هُوَ.
وَإِذَا فُرِشَ لأَِحَدٍ ثَوْبٌ أَوْ نَحْوُهُ فَلِغَيْرِهِ تَنْحِيَتُهُ
وَالصَّلاَةُ مَكَانَهُ لاَ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ
__________
(1) البيان والتحصيل 7 / 231 - 232.
(2) حديث: " نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر. . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 11 / 62) ، ومسلم (4 / 1714) .
(36/137)
رِضَا صَاحِبِهِ، وَلاَ يَرْفَعُهُ
بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا لِئَلاَّ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ.
وَمَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ لِصَلاَةٍ
مَثَلاً ثُمَّ فَارَقَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ - بَعْدَ وُضُوءٍ مَثَلاً أَوْ
شُغْلٍ يَسِيرٍ - لاَ يَبْطُل اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ
قَعَدَ فِيهِ وَعَلَى الْقَاعِدِ أَنْ يُطِيعَهُ وُجُوبًا عَلَى الأَْصَحِّ
وَقِيل: يُسْتَحَبُّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ فَيَجْلِسَ
مَكَانَهُ وَلَوْ عَبْدَهُ الْكَبِيرَ أَوْ وَلَدَهُ الْكَبِيرَ لأَِنَّهُ
لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ دِينِيٌّ فَاسْتَوَى فِيهِ
السَّيِّدُ وَعَبْدُهُ وَالْوَالِدُ وَوَلَدُهُ، أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ
الصَّلاَةَ فِيهِ، حَتَّى الْمُعَلِّمُ وَنَحْوُهُ كَالْمُفْتِي
وَالْمُحَدِّثِ، وَمَنْ يَجْلِسُ لِلْمُذَاكَرَةِ فِي الْفِقْهِ إِذَا
جَلَسَ إِنْسَانٌ مَوْضِعَ حَلْقَتِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهُ؛ لِمَا
رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُل مِنْ مَجْلِسِهِ
وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا وَلَكِنْ
يَقُول: افْسَحُوا؛ وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ اللَّهِ وَالنَّاسُ فِيهِ
سَوَاءٌ إِلاَّ الصَّغِيرُ فَيُؤَخَّرُ.
وَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ: تَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ أَخَّرَ
مُكَلَّفًا وَجَلَسَ مَكَانَهُ؛ لِشَبَهِهِ الْغَاصِبَ إِلاَّ مَنْ جَلَسَ
بِمَوْضِعٍ يَحْفَظُهُ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ دُونَهُ لأَِنَّ
النَّائِبَ يَقُومُ بِاخْتِيَارِهِ وَلأَِنَّهُ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 268، والقليوبي 1 / 287، وفتح الباري 11 / 64.
(36/137)
قَعَدَ فِيهِ لِحِفْظِهِ لَهُ وَلاَ
يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِإِقَامَتِهِ لَكِنْ إِنْ جَلَسَ فِي مَكَانِ
الإِْمَامِ أَوْ طَرِيقِ الْمَارَّةِ أَوِ اسْتَقْبَل الْمُصَلِّينَ فِي
مَكَانٍ ضَيِّقٍ أُقِيمَ.
وَيُكْرَهُ إِيثَارُهُ غَيْرَهُ بِمَكَانِهِ الأَْفْضَل كَالصَّفِّ
الأَْوَّل وَنَحْوِهِ وَكَيَمِينِ الإِْمَامِ وَيَتَحَوَّل إِلَى مَا
دُونَهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّغْبَةِ عَنِ الْمَكَانِ الأَْفْضَل،
وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ آثَرَ بِهِ وَالِدَهُ وَنَحْوَهُ، وَلاَ يُكْرَهُ
لِلْمُؤْثَرِ قَبُول الْمَكَانِ الأَْفْضَل وَلاَ رَدُّهُ، فَلَوْ آثَرَ -
الْجَالِسُ بِمَكَانِ أَفْضَل - زَيْدًا فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ عَمْرٌو
حَرُمَ عَلَى عَمْرٍو سَبْقُهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَ مُصَلًّى
مَفْرُوشًا فَلَيْسَ لَهُ رَفْعُهُ لأَِنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ، وَلِمَا
فِيهِ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَى صَاحِبِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَالإِْفْضَاءِ إِلَى الْخُصُومَةِ، وَقَاسَهُ فِي
الشَّرْحِ عَلَى رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ، وَمَقَاعِدُ الأَْسْوَاقِ مَا لَمْ
تَحْضُرِ الصَّلاَةُ فَلَهُ رَفْعُهُ وَالصَّلاَةُ مَكَانَهُ لأَِنَّهُ لاَ
حُرْمَةَ لَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْحُرْمَةُ لِرَبِّهِ، وَلَمْ
يَحْضُرْ، وَلاَ الْجُلُوسُ وَلاَ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ.
قَال فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ إِنْ حَرُمَ رَفْعُهُ فَلَهُ فَرْشُهُ،
وَإِلاَّ كُرِهَ، وَمَنَعَ مِنَ الْفَرْشِ الشَّيْخَ لِتَحَجُّرِهِ
مَكَانًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَنْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ
لِعَارِضٍ لَحِقَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ قَرِيبًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا مَنْ
قَامَ مِنْ
(36/138)
مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ
أَحَقُّ بِهِ (1) وَقَيَّدَهُ فِي الْوَجِيزِ بِمَا إِذَا عَادَ وَلَمْ
يَتَشَاغَل بِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ صَبِيًّا قَامَ فِي صَفٍّ فَاضِلٍ
أَوْ فِي وَسْطِ الصَّفِّ ثُمَّ قَامَ لِعَارِضٍ ثُمَّ عَادَ فَيُؤَخَّرُ،
كَمَا لَوْ لَمْ يَقُمْ مِنْهُ بِالأَْوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَصِل الْعَائِدُ
إِلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّخَطِّي جَازَ لَهُ التَّخَطِّي، كَمَنْ رَأَى
فُرْجَةً لاَ يَصِل إِلَيْهَا إِلاَّ بِهِ (2) .
ج - السَّلاَمُ:
8 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ دَخَل شَخْصٌ مَجْلِسًا فَإِنْ كَانَ
الْجَمْعُ قَلِيلاً يَعُمُّهُمْ سَلاَمٌ وَاحِدٌ فَسَلَّمَ كَفَاهُ، فَإِنْ
زَادَ فَخَصَّصَ بَعْضَهُمْ فَلاَ بَأْسَ، وَيَكْفِي أَنْ يَرُدَّ مِنْهُمْ
وَاحِدٌ فَإِنْ زَادَ فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا بِحَيْثُ لاَ
يَنْتَشِرُ فِيهِمْ فَيُبْتَدَأُ أَوَّل دُخُولِهِ إِذَا شَاهَدَهُمْ،
وَتَتَأَدَّى سُنَّةُ السَّلاَمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ مَنْ يَسْمَعُهُ،
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ الرَّدُّ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِذَا جَلَسَ
سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلاَمِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ
الْبَاقِينَ (3) .
وَفِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لاَ يُسَلِّمُ الْقَاضِي عَلَى الْخُصُومِ،
وَلاَ هُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُمْ لَوْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ
لاَ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ اشْتَغَل
__________
(1) حديث: " من قام من مجلسه. . ". أخرجه مسلم (4 / 1715) من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
(2) كشاف القناع 2 / 44 - 46.
(3) فتح الباري 11 / 14 - 15، وشرح مسلم 14 / 145.
(36/138)
بِأَمْرٍ هُوَ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ (1) .
وَمَنْ قَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ أَيْضًا، فَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى
مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ،
ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الأُْولَى بِأَحَقَّ مِنَ
الآْخِرَةِ (2) .
كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ وَالدُّعَاءُ فِيهِ
9 - يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْ يَقُول: "
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا
كَانَ فِي مَجْلِسِهِ " (3) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَال قَبْل
أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ
وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ.
(4)
وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الآْجُرِيُّ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 10.
(2) حديث: " إذا انتهى أحدكم إلى مجلس. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 62) من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(3) الآداب الشرعية: 3 / 619 - 623.
(4) حديث: " من جلس في مجلس. . ". أخرجه الترمذي (5 / 494) من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه.
(36/139)
بِمَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: كَفَّارَةُ
الْمَجْلِسِ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَه إِلاَّ أَنْتَ، تُبْ عَلَيَّ وَاغْفِرْ لِي،
يَقُولُهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغَطٍ كَانَتْ
كَفَّارَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ ذِكْرٍ كَانَتْ طَابِعًا عَلَيْهِ
(1) .
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَأَبُو
الأَْحْوَصِ وَيَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ وَعَطَاءٌ قَالُوا: فِي تَأْوِيل
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (2) أَيْ:
حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ تَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ،
أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، وَقَالُوا: مَنْ قَالَهَا غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَال عَطَاءٌ: إِنْ كُنْتَ
أَحْسَنْتَ ازْدَدْتَ إِحْسَانًا، وَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ
كَفَّارَةً (3) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: عُمُومُهُ
مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا الْكَبَائِرَ، فَإِنَّهَا لاَ تُكَفَّرُ إِلاَّ
بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِالْفَضْل الإِْلَهِيِّ، وَبِمَا عَدَا تَبِعَاتِ
الْعِبَادِ، لأَِنَّ إِسْقَاطَهَا عِنْدَ التَّلَوُّثِ بِهَا مَوْقُوفٌ
عَلَى رِضَا ذِي الْحَقِّ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَادِيثَ
أُخَرَ.
__________
(1) حديث: " كفارة المجلس أن لا يقوم. . . ". أخرجه الطبراني في المعجم
الكبير (2 / 139) من حديث جبير ابن مطعم وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (10
/ 142) .
(2) سورة الطور / 48.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 621 - 623، والتفسير الكبير 28 / 229.
(36/139)
ثُمَّ قَال: وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى
هَذَا الذِّكْرِ غَفْرُ مَا كَسَبَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِمَا فِيهِ
مِنْ تَنْزِيهِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ
بِإِحْسَانِهِ، وَالشَّهَادَةِ بِتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ سُؤَال الْمَغْفِرَةِ
مِنْ جَنَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يُخَيِّبُ قَاصِدَ بَابِهِ (1) .
أَمَانَةُ الْمَجْلِسِ
10 - قَال الْخَادِمِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ: الْمَجَالِسُ بِالأَْمَانَةِ
(2) أَيْ لاَ يُشِيعُ حَدِيثَ جَلِيسِهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى
مُجَالَسَةِ أَهْل الأَْمَانَةِ وَتَجَنُّبِ أَهْل الْخِيَانَةِ، وَعَنِ
الْعَسْكَرِيِّ: يُرِيدُ أَنَّ الرَّجُل يَجْلِسُ إِلَى الْقَوْمِ
فَيَخُوضُونَ فِي حَدِيثٍ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ مَا يَكْرَهُونَ
فَيَأْمَنُونَهُ عَلَى سِرِّهِمْ، فَذَلِكَ الْحَدِيثُ كَالأَْمَانَةِ
عِنْدَهُ، وَفُسِّرَ أَيْضًا: بِأَنَّ الْمَجَالِسَ إِنَّمَا تَحْسُنُ
بِالأَْمَانَةِ لِحَاضِرِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ
فِعْلٍ.
وَقَال رَجَبُ بْنُ أَحْمَدَ: يَعْنِي جَمِيعَ الْمَجَالِسِ مَا وَقَعَ
فِيهَا مِنَ الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال مُلاَبِسٌ بِالأَْمَانَاتِ عَلَى
أَهْلِهَا دُونَ الْخِيَانَةِ، فَلاَ يَجُوزُ إِظْهَارُ مَا فِيهَا
وَإِفْشَاؤُهُ بَيْنَ النَّاسِ (3) .
__________
(1) دليل الفالحين 3 / 306.
(2) حديث: " المجالس بالأمانة. . ". أخرجه أبو داود (5 / 189) من حديث جابر
بن عبد الله، وضعفه المنذري في مختصر سنن أبي داود (7 / 210) .
(3) بريقة محمودية وبهامشه الوسيلة الأحمدية، والذريعة السرمدية 3 / 222.
(36/140)
وَقَال الْغَزَالِيُّ: إِفْشَاءُ السِّرِّ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيذَاءِ وَالتَّهَاوُنِ بِحَقِّ
الْمَعَارِفِ وَالأَْصْدِقَاءِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُل الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ
أَمَانَةٌ (1) .
وَإِفْشَاءُ السِّرِّ حَرَامٌ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ، وَلُؤْمٌ إِنْ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ (2) .
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِمَاعُ إِلَى كَلاَمِ قَوْمٍ
يَتَشَاوَرُونَ وَيَجِبُ حِفْظُ سِرِّ مَنْ يَلْتَفِتُ فِي حَدِيثِهِ
حَذَرًا مِنْ إِشَاعَتِهِ، لأَِنَّهُ كَالْمُسْتَوْدَعِ، لِحَدِيثِ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُل بِالْحَدِيثِ ثُمَّ
الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ.
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ خَطَرِ إِفْشَاءِ السِّرِّ ثَلاَثَةُ مَجَالِسَ،
وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
الْمَجَالِسُ بِالأَْمَانَةِ إِلاَّ ثَلاَثَةُ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ
حَرَامٍ، وَفَرْجٌ حَرَامٌ، وَاقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ (3) .
قَال الْخَادِمِيُّ: فَيُفْشِي مَا سَمِعَ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِإِهْرَاقِ
دَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَلْحَقُهُ مَا يَتَعَلَّقُ
__________
(1) حديث: " إذا حدث الرجل. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 189) ، والترمذي (4
/ 341) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث
حسن.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 132.
(3) حديث: " المجالس بالأمانة إلا ثلاث مجالس. . ". أخرجه أبو داود (5 /
189) من حديث جابر بن عبد الله وضعفه المنذري في مختصر سنن أبي داود (7 /
210) .
(36/140)
بِالضَّرْبِ وَالْجُرْحِ، وَيُفْشِي مَا
سَمِعَ عَنِ الزِّنَا، وَعَنْ مَجْلِسٍ يُقْتَطَعُ فِيهِ مَال مُسْلِمٍ
أَوْ ذِمِّيٍّ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ مُبِيحٍ، فَيُظْهِرُ مَا
يَتَعَلَّقُ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ أَوِ التَّلَفِ أَوِ الإِْهْدَارِ،
فَلاَ يَجُوزُ لِلسَّامِعِ كَتْمُهُ، قَال فِي الْفَيْضِ: قَال الْقَاضِي:
يُرِيدُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي إِذَا حَضَرَ مَجْلِسًا وَوَجَدَ
أَهْلَهُ عَلَى مُنْكَرٍ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِهِمْ وَلاَ يُشِيعُ مَا
يَرَى مِنْهُمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ فَإِنَّهُ
فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَإِخْفَاؤُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ (1) .
مَجَالِسُ اللَّهْوِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ حُضُورُ
مَجْلِسِ اللَّهْوِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ (2) .
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (3) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
مُجَالَسَةَ أَهْل الْكَبَائِرِ لاَ تَحِل (4) .
وَقَال الْبُخَارِيُّ: كُل لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ
اللَّهِ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: كَمَنِ الْتَهَى
__________
(1) بريقة محمودية 3 / 222.
(2) بريقة محمودية 4 / 119، 103، والفواكه الدواني 2 / 452، وحاشية العدوي
على شرح الرسالة 2 / 366، وفتح الباري 11 / 91.
(3) سورة الأنعام / 68.
(4) تفسير القرطبي 7 / 12 - 13.
(36/141)
بِشَيْءِ مِنَ الأَْشْيَاءِ الْمُطْلَقَةِ،
سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَمَنِ
اشْتَغَل بِصَلاَةِ نَافِلَةٍ أَوْ بِتِلاَوَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَفَكُّرٍ
فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ مَثَلاً حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلاَةِ
الْمَفْرُوضَةِ عَمْدًا، فَإِنَّهُ يَدْخُل تَحْتَ هَذَا الضَّابِطِ،
وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنَ الأَْشْيَاءِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا الْمَطْلُوبِ
فِعْلُهَا فَكَيْفَ حَال مَا دُونَهَا.
وَتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهْوِ فِي مُصْطَلَحِ
(لَهْوٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
مَجْلِسُ الْقَضَاءِ
12 - مَجْلِسُ الْقَضَاءِ يَسْتَقْبِل الْقَاضِي فِيهِ الْخُصُومَ
وَوُكَلاَءَهُمْ وَالشُّهُودَ وَيَسْتَمِعُ إِلَى دَعَاوِيهِمْ
وَحُجَجِهِمْ وَيُصْدِرُ فِيهِ الأَْحْكَامَ.
وَلِهَذَا الْمَجْلِسِ آدَابٌ وَأَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ
بِالْمَكَانِ وَبِالْقَاضِي وَالْمُتَقَاضِينَ وَوُكَلاَئِهِمْ
وَبِالشَّهَادَةِ وَالإِْقْرَارِ فِيهِ وَبِمَنْ يَحْضُرُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 32 37 وَمَا بَعْدَهَا) .
(36/141)
مَجْلِسُ الْحُكْمِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَجْلِسُ الْحُكْمِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: هُمَا
مَجْلِسٌ وَحُكْمٌ.
وَالْمَجْلِسُ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ الْجُلُوسِ، وَالْحُكْمُ مَصْدَرُ:
حَكَمَ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْقَضَاءُ وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَجْلِسُ الْحُكْمِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْعُدُ
فِيهِ الْقَاضِي لِفَصْل الْقَضَاءِ وَإِصْدَارِ الْحُكْمِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَجْلِسُ الْعَقْدِ:
2 - مَجْلِسُ الْعَقْدِ: هُوَ الاِجْتِمَاعُ لِلْعَقْدِ جَاءَ فِي
مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَجْلِسُ الْبَيْعِ: هُوَ
الاِجْتِمَاعُ الْوَاقِعُ لِعَقْدِ الْبَيْعِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ
__________
(1) لسان العرب.
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم ص109، 110.
(3) المادة (181) .
(36/142)
يَجْعَل مَجْلِسَ حُكْمِهِ فِي مَوْضِعٍ
بَارِزٍ لِلنَّاسِ لاَ يَكُونُ دُونَهُ حِجَابٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَنْ
يَكُونَ فِي وَسْطِ الْبَلَدِ لِيَتَسَاوَى النَّاسُ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ،
وَأَنْ يَكُونَ وَاسِعًا فَسِيحًا غَيْرَ ضَيِّقٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي
أَشْهَرِ الأَْمَاكِنِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصُونًا
عَمَّا يُؤْذِي مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَرِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا
لِلْقَضَاءِ، وَأَنْ لاَ يَحْتَجِبَ الْقَاضِي بِغَيْرِ عُذْرٍ (1) .
اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ مَجْلِسًا لِلْحُكْمِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ مَجْلِسًا
لِلْحُكْمِ:
فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي
الْمَسْجِدَ مَجْلِسَ حُكْمِهِ، بَل يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ فِي
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: الْقَضَاءُ فِي
الْمَسْجِدِ مِنَ الأَْمْرِ الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْحَقُّ، قَال مَالِكٌ:
لأَِنَّهُ يَرْضَى فِيهِ بِالدُّونِ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ أَقْرَبُ
عَلَى النَّاسِ فِي شُهُودِهِمْ وَيَصِل إِلَيْهِ الضَّعِيفُ
وَالْمَرْأَةُ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْصِل الْخُصُومَاتِ فِي الْمَسْجِدِ (2)
وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 26 وما بعدها، فتح القدير 6 / 369، المغني 9 / 45،
وكشاف القناع 6 / 32، ومغني المحتاج 4 / 387 - 390، المحلي 3 / 301 - 312،
وروض الطالب 4 / 297، وروضة القضاة للسمناني 1 / 100، والأم 6 / 198.
(2) حديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفصل في الخصومات في المسجد
يدل عليه حديث أبي هريرة أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في
المسجد فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه
أربعًا قال: أبك جنون؟ قال: لا. قال (فتح الباري 13 / 156) وبوب عليه
بقوله: باب من حكم في المسجد.
(36/142)
يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْل
الْخُصُومَاتِ.
وَلأَِنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ فَيَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِيهِ كَالصَّلاَةِ
وَالأَْحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ قَضَائِهِ حَيْثُ الْجَمَاعَةُ:
جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ
ضَرَرَ ذَلِكَ بِالنَّصَارَى وَأَهْل الْمِلَل وَالنِّسَاءِ الْحُيَّضِ،
فَيَجْلِسُ فِي رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ، وَقَال سَحْنُونٌ: فَإِنْ دَخَل
عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِجُلُوسِهِ فِي الْمَسْجِدِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ حَتَّى
شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنِ النَّظَرِ وَالْفَهْمِ فَلْيَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ فِي
الْمَسْجِدِ يَحُول بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَائِلٌ (1) .
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فِي دَارِهِ فَإِنْ
دَعَتْهُ ضَرُورَةٌ فَلْيَفْتَحْ أَبْوَابَهَا وَلْيَجْعَل سَبِيلَهَا
سَبِيل الْمَوَاضِعِ الْمُتَاحَةِ لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَلاَ
حِجَابٍ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِي
دَارِهِ وَحَيْثُ أَحَبَّ، وَقَال صَاحِبُ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ
وَعَزَاهُ إِلَى صَاحِبِ تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ: يُكْرَهُ لِلْقَاضِي
الْجُلُوسُ فِي مَنْزِلِهِ لِلْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 369، وروضة القضاة للسمناني 1 / 98، وتبصرة الحكام 1 /
26 - 27 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 312، ومطالب أولي النهى 6 / 475،
والمغني 9 / 45.
(2) تبصرة الحكام 1 / 26 - 27.
(36/143)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ
اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا لِلْحُكْمِ لأَِنَّ مَجْلِسَ الْقَاضِي
لاَ يَخْلُو عَنِ اللَّغَطِ وَارْتِفَاعِ الأَْصْوَاتِ، وَقَدْ يُحْتَاجُ
لإِِحْضَارِ الْمَجَانِينِ وَالأَْطْفَال وَالْحُيَّضِ وَالْكُفَّارِ
وَالدَّوَابِّ، وَالْمَسْجِدُ يُصَانُ عَنْ ذَلِكَ.
فَإِنِ اتَّفَقَتْ قَضِيَّةٌ أَوْ قَضَايَا وَقْتَ حُضُورِهِ فِي
الْمَسْجِدِ فَلاَ بَأْسَ بِهَا.
وَإِنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ دُونِهَا، مَنَعَ
الْخُصُومَ مِنَ الْخَوْضِ فِيهِ بِالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَل يَقْعُدُونَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَيَنْصِبُ مَنْ
يُدْخِل عَلَيْهِ خَصْمَيْنِ خَصْمَيْنِ (1) .
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَةِ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ
بِالْخُصُومِ، مِنْ تَسْوِيَةٍ فِي كُل شَيْءٍ، وَتَأْدِيبِ مَنْ أَسَاءَ
الأَْدَبَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَعَلاَقَتِهِ بِالشُّهُودِ؛ فَيُرْجَعُ
إِلَى مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 41 44 وَشَهَادَةٌ ف 36 وَمَا بَعْدَهَا
وَشَهَادَةُ الزُّورِ ف 5 - 8) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 387 - 390.
(36/143)
مَجْلِسُ الْعَقْدِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَجْلِسُ الْعَقْدِ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنْ لَفْظَيْنِ هُمَا:
مَجْلِسٌ وَالْعَقْدُ.
وَالْمَجْلِسُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ، أَمَّا الْعَقْدُ
فِي اللُّغَةِ فَهُوَ: نَقِيضُ الْحَل (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَقْدُ هُوَ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ
بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (2) .
وَمَجْلِسُ الْعَقْدِ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ الاِجْتِمَاعُ لِلْعَقْدِ،
جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: جِنْسُ الْبَيْعِ هُوَ
الاِجْتِمَاعُ الْوَاقِعُ لِعَقْدِ الْبَيْعِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَجْلِسُ الْحُكْمِ:
2 - مَجْلِسُ الْحُكْمِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْعُدُ فِيهِ الْقَاضِي
(الْحَاكِمُ) لِفَصْل الْقَضَاءِ وَإِصْدَارِ الْحُكْمِ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) التعريفات.
(3) المادة (181) .
(4) أدب القضاء لابن أبي الدم ص109 - 110.
(36/144)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَجْلِسِ
الْعَقْدِ:
يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - اتِّحَادُ مَجْلِسِ الْعَقْدِ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِيغَةِ الْعَقْدِ
اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، بِأَنْ يَقَعَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فِي
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِأَنْ أَوْجَبَ
أَحَدَهُمَا فَقَامَ الآْخَرُ مِنَ الْمَجْلِسِ قَبْل الْقَبُول أَوِ
اشْتَغَل بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلاَفَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَبِل لَمْ
يَنْعَقِدْ وَبَطَل الإِْيجَابُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 22 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - تَقَابُضُ الْعِوَضَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي الصَّرْفِ
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصَّرْفِ
تَقَابُضُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا لِحَدِيثِ:
الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْل سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا
اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ
يَدًا بِيَدٍ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 232، 5 / 131 والفتاوى الهندية 1 / 269، والبحر
الرائق 3 / 289، وابن عابدين 2 / 169، ومطالب أولي النهى 3 / 6، حاشية
القليوبي 2 / 154، والشرح الصغير 2 / 350، شرح الزرقاني 3 / 169.
(2) حديث: " الذهب بالذهب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) من حديث عبادة بن
الصامت.
(36/144)
وَالتَّفْصِيل فِي (رِبًا ف 26 وَتَقَابُضٌ
ف 4 - 5 وَصَرْفٌ ف 7 وَقَبْضٌ ف 39) .
ج - اشْتِرَاطُ تَسْلِيمِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ
5 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ: تَسْلِيمُ
رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَل
الْعَقْدُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَلَمٌ ف 16 وَقَبْضٌ ف 41) .
د - ثُبُوتُ خِيَارِ فَسْخِ الْعَقْدِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْعَاقِدَيْنِ
خِيَارَ فَسْخِ الْعَقْدِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ مَا دَامَا فِي مَجْلِسِ
الْعَقْدِ وَلَمْ يَتَفَرَّقَا بِبَدَنَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
(2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُول أَحَدُهُمَا
لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الْمَجْلِسِ ف2 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 202، والمغني 4 / 328، والمحلي مع القليوبي 2 / 245.
(2) المحلي شرح المنهاج 2 / 190 - 191، والمغني 3 / 563.
(3) حديث: " البيعان بالخيار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 328)
من حديث ابن عمر.
(36/145)
مُجْمَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُجْمَل فِي اللُّغَةِ: مِنْ أَجْمَل الأَْمْرَ أَيْ: أَبْهَمَهُ،
وَأَجْمَلْتُ الشَّيْءَ إِجْمَالاً: جَمَعْتُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ،
وَالْمُجْمَل مِنَ الْكَلاَمِ: الْمُوجَزُ، قَال الرَّاغِبُ
الأَْصْفَهَانِيُّ: وَحَقِيقَةُ الْمُجْمَل: هُوَ الْمُشْتَمِل عَلَى
جُمْلَةِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ غَيْرِ مُلَخَّصَةٍ، وَالْجُمْلَةُ:
الْكَلاَمُ الَّذِي لَمْ يُبَيَّنْ تَفْصِيلُهُ فَهُوَ مُجْمَلٌ،
وَالْحِسَابُ الَّذِي لَمْ يُفَصَّل (1) وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى
فِي التَّنْزِيل: {لَوْلاَ نُزِّل عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}
(2)
وَاصْطِلاَحًا: قَال الآْمِدِيُّ: مَا لَهُ دَلاَلَةٌ عَلَى أَحَدِ
مَعْنَيَيْنِ لاَ مَزِيَّةَ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ.
وَقَال الْقَفَّال الشَّاشِيُّ وَابْنُ فَوْرَكٍ: مَا لاَ يَسْتَقِل
بِنَفْسِهِ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ حَتَّى يُبَانَ تَفْسِيرُهُ (3)
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (4) وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (5) وَقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ بِحَقِّهَا (6) .
__________
(1) المصباح، والمفردات، المعجم الوسيط.
(2) سورة الفرقان / 32.
(3) البحر المحيط 3 / 454.
(4) سورة الأنعام / 141.
(5) سورة البقرة / 43.
(6) حديث: " إلا بحقها. . . ". أخرجه مسلم (1 / 52) من حديث أبي هريرة
والحديث نفسه في البخاري (فتح الباري 3 / 262) " إلا بحقه ".
(36/145)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُبِينُ:
2 - الْمُبِينُ مِنَ الْبَيَانِ، وَهُوَ: اللَّفْظُ الدَّال بِالْوَضْعِ
عَلَى مَعْنًى إِمَّا بِالأَْصَالَةِ وَإِمَّا بَعْدَ الْبَيَانِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِْشْكَال
إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي.
وَقَال آخَرُونَ: الْمُبِينُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُجْمِل، وَهُوَ الَّذِي
يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ هُوَ
مَا احْتَمَل أَمْرَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ مِنَ الآْخَرِ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُجْمِل وَالْمُبِينِ التَّقَابُل.
حُكْمُ الْمُجْمَل
3 - ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ حُكْمَ الْمُجْمَل التَّوَقُّفُ فِيهِ إِلَى
أَنْ يَرِدَ تَفْسِيرُهُ وَتَبْيِينُهُ، وَلاَ يَصِحُّ الاِحْتِجَاجُ
بِظَاهِرِهِ فِي شَيْءٍ يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ.
__________
(1) الذخيرة للقرافي 99، والبحر المحيط 3 / 477، وما بعدها، والفروق
اللغوية 47 - 48، والمطلع على أبواب المقنع 394، ومغني المحتاج 4 / 376.
(36/146)
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ
الإِْجْمَال مِنْ جِهَةِ الاِشْتِرَاكِ وَاقْتَرَنَ بِهِ تَبْيِينُهُ
أُخِذَ بِهِ.
وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ عُمِل بِهِ، وَإِنْ
تَجَرَّدَ عَنِ التَّبْيِينِ وَالْعُرْفِ وَجَبَ الاِجْتِهَادُ فِي
الْمُرَادِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَفِيِّ الأَْحْكَامِ الَّتِي وُكِل
الْعُلَمَاءُ فِيهَا إِلَى الاِسْتِنْبَاطِ، فَصَارَ دَاخِلاً فِي
الْمُجْمَل لِخَفَائِهِ وَخَارِجًا مِنْهُ لإِِمْكَانِ اسْتِنْبَاطِهِ،
وَمَثَّلُوا لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّفَقَةِ: {لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتَاهُ اللَّهُ} (1) حَيْثُ أَجْمَلَتِ الآْيَةُ النَّفَقَةَ فِي
أَقَلِّهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَكْثَرِهَا حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي
تَقْدِيرِهَا (2) .
وَيَتَعَلَّقُ بِالْمُجْمَل أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: وُقُوعُ الْمُجْمَل فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْمُجْمَل فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِعْلاً كَآيَاتِ الصَّلاَةِ
وَالزَّكَاةِ وَالْجُمُعَةِ حَيْثُ جَاءَتْ مُجْمَلَةً ثُمَّ بُيِّنَتْ
بِنُصُوصٍ أُخْرَى (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) سورة الطلاق / 7.
(2) البحر المحيط 3 / 456 وإرشاد الفحول ص168.
(3) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في المستصفى 2 / 32 وما بعدها،
والذخيرة للقرافي 100، والبحر المحيط للزركشي 3 / 454 وما بعدها.
(36/146)
ثَانِيًا: التَّعَبُّدُ بِالْمُجْمَل قَبْل
الْبَيَانِ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ
5 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ
بِالْخِطَابِ بِالْمُجْمَل قَبْل الْبَيَانِ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى
الْيَمَنِ وَقَال: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ
فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي
كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ
أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ
أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدَّ فِي فُقَرَائِهِمْ (1) وَتَعَبُّدُهُمْ
بِالْتِزَامِ الزَّكَاةِ قَبْل بَيَانِهَا وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعَبُّدِهِمْ
بِالْتِزَامِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قَبْل الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ
بَعْدَ الْبَيَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ قَبْل الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ
مُجْمَلاً، وَبَعْدَ الْبَيَانِ بِالْتِزَامِهِ مُفَسَّرًا.
وَقَال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: قَالُوا: إِنَّ الْتِزَامَ الْمُجْمَل قَبْل
بَيَانِهِ وَاجِبٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْتِزَامِهِ
عَلَى وَجْهَيْنِ وَذَكَرَهُمَا (2) .
قَال الْغَزَالِيُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} (3) يُفْهَمُ مِنْ أَصْل الإِْيجَابِ
__________
(1) حديث: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. . . . ". أخرجه مسلم (1 /
50) من حديث معاذ.
(2) البحر المحيط للزركشي 3 / 455.
(3) سورة الأنعام / 141.
(36/147)
وَيُعْزَمُ عَلَى أَدَائِهِ وَيُنْتَظَرُ
بَيَانُهُ وَقْتَ الْحَصَادِ فَالْمُخَاطَبُ فَهِمَ أَصْل الأَْمْرِ
بِالزَّكَاةِ، وَجَهِل قَدْرَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْحَصَادِ،
وَعُرِفَ كَذَلِكَ وَقْتُ الإِْيتَاءِ وَأَنَّهُ حَقٌّ فِي الْمَال (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
6 - وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ فَقَال الْمَاوَرْدِيُّ
وَالرُّويَانِيُّ: إِنَّمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَل وَإِنْ كَانُوا
لاَ يَفْهَمُونَهُ لأَِحَدِ أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: لِيَكُونَ إِجْمَالُهُ تَوْطِئَةً لِلنَّفْسِ عَلَى قَبُول مَا
يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَدَأَ فِي تَكْلِيفِ
الصَّلاَةِ وَبَيَّنَهَا لَجَازَ أَنْ تَنْفِرَ النَّفُوسُ مِنْهَا وَلاَ
تَنْفِرَ مِنْ إِجْمَالِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل مِنَ الأَْحْكَامِ جَلِيًّا
وَجَعَل مِنْهَا خَفِيًّا لِيَتَفَاضَل النَّاسُ فِي الْعِلْمِ بِهَا
وَيُثَابُوا عَلَى الاِسْتِنْبَاطِ لَهَا، فَلِذَلِكَ جَعَل مِنْهَا
مُفَسَّرًا جَلِيًّا وَجَعَل مِنْهَا مُجْمَلاً خَفِيًّا، ثُمَّ قَال
الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنَ الْمُجْمَل مَا لاَ يَجِبُ بَيَانُهُ عَلَى
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قُلْنَا: إِنَّمَا يَجُوزُ
الْخِطَابُ بِمُجْمَلٍ يُفِيدُ فَائِدَةً مَا لأَِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) يُعْرَفُ مِنْهُ وُجُوبُ
الإِْيتَاءِ وَوَقْتُهُ وَأَنَّهُ حَقٌّ فِي الْمَال
__________
(1) المستصفى لحجة الإسلام الغزالي 1 / 374 - 376، بتصرف يسير.
(2) البحر المحيط 3 / 455.
(3) سورة الأنعام / 141.
(36/147)
فَيُمْكِنُ الْعَزْمُ فِيهِ عَلَى
الاِمْتِثَال وَالاِسْتِعْدَادِ لَهُ وَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ عَصَى
(1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَجْنُونٌ
انْظُرْ: جُنُونٌ
مُجَهِّلٌ
انْظُرْ: تَجْهِيلٌ
مَجْهُولٌ
انْظُرْ: جَهَالَةٌ
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 376، الذخيرة 102.
(36/148)
مَجُوسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَجُوسُ: فِرْقَةٌ مِنَ الْكَفَرَةِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنَّارَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أَهْل الذِّمَّةِ:
2 - الذِّمَّةُ: الأَْمَانُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ (2) .
وَالذِّمَّةُ أَيْضًا الضَّمَانُ وَالْعَهْدُ، وَعَهْدُ الذِّمَّةِ:
إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ،
وَأَهْل الذِّمَّةِ مِنْ أَهْل الْعَهْدِ (3) .
وَالْمَجُوسِيُّ يَكُونُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ إِنْ عَقَدَ
__________
(1) المعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) حديث: " ذمة المسلمين واحدة. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 275)
، ومسلم (2 / 998) من حديث علي بن أبي طالب.
(3) المصباح المنير، وكشاف القناع 3 / 116، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 2
/ 475.
(36/148)
مَعَ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَقْدَ
الذِّمَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَجُوسِ:
آنِيَةُ الْمَجُوسِيِّ
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل آنِيَةِ
الْمَجُوسِيِّ لأَِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ فَلاَ يُقَرَّبُ لَهُمْ
طَعَامٌ (1) وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَال:
سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُدُورِ
الْمَجُوسِ فَقَال: انْقُوهَا غَسْلاً وَاطْبُخُوا فِيهَا (2) .
ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ
4 - لاَ يَحِل لِلْمُسْلِمِ أَكْل ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَأَبِي بُرْدَةَ وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَطَاءٍ
وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُرَّةَ
الْهَمَذَانِيِّ وَالزُّهْرِيِّ (3) .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
__________
(1) شرح ابن العربي على الترمذي 8 / 50، والمجموع شرح المهذب 1 / 263 -
264، والمغني لابن قدامة 1 / 62 - طبعة مكتبة القاهرة.
(2) حديث: " انقوها غسلاً واطبخوا فيها. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 129) من
حديث أبي ثعلبة الخشني، وأعله بالانقطاع بين أبي ثعلبة والراوي عنه.
(3) بداية المجتهد، ونهاية المقتصد - مكتبة دار الكتب الحديثة - القاهرة 1
/ 489، البناية شرح الهداية 9 / 12 - 13، والشرح الصغير 1 / 313، والشرح
الكبير 2 / 99، والمجموع 9 / 75.
(36/149)
وَاحْتَجُّوا بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1)
لأَِنَّ إِبَاحَةَ طَعَامِ أَهْل الْكِتَابِ لِلْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي
تَحْرِيمَ طَعَامِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ (2) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَكَنٍ الأَْسَدِيِّ قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ نَزَلْتُمْ
بِفَارِسَ مِنَ النَّبَطِ فَإِذَا اشْتَرَيْتُمْ لَحْمًا فَإِنْ كَانَ مِنْ
يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَكُلُوا وَإِنْ كَانَتْ ذَبِيحَةَ
مَجُوسِيٍّ فَلاَ تَأْكُلُوا (3) .
وَخَالَفَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَبَاحَ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِ مُحْتَجًّا
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ
أَهْل الْكِتَابِ (4) وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْقُول فَلأَِنَّهُمْ يُقَرُّونَ
عَلَى الْجِزْيَةِ كَمَا يُقَرُّ لأَِهْل الْكِتَابِ فَيُقَاسُونَ
عَلَيْهِمْ فِي حِل ذَبَائِحِهِمْ (5) .
__________
(1) سورة المائدة / 5.
(2) حديث: " لا تؤكل ذبيحة المجوسي. . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6
/ 121) من حديث الحسن بن محمد بن علي مرسلاً، وأخرجه كذلك مرسلاً البيهقي
(9 / 285) وقال: هذا مرسل، وإجماع أكثر الأمة عليه يؤكده.
(3) حديث: " إنكم نزلتم بفارس. . . ". أورده ابن قدامة في المغني (13 / 297
- ط. هجر) ، وعزاه إلى الإمام أحمد ولم نهتد إليه.
(4) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (1 /
278) ، والبيهقي (9 / 189) ، وأشار البيهقي إلى انقطاعه.
(5) شرح الزرقاني على الموطأ 2 / 139.
(36/149)
صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَحْدَهُ أَوْ
بِالاِشْتِرَاكِ مَعَ الْمُسْلِمِ
أ - صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَحْدَهُ:
5 - إِذَا صَادَ الْمَجُوسِيُّ وَحْدَهُ بِسَهْمِهِ أَوْ كَلْبِهِ فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ صَيْدِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ
عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى الْقَوْل
بِتَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ
مِمَّا لَهُ زَكَاةٌ، أَمَّا مَا لَيْسَتْ لَهُ زَكَاةٌ كَالسَّمَكِ
وَالْجَرَادِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: بِحِلِّهِ.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ إِلَى حِل صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ،
كَمَا قَال بِحِل ذَبِيحَتِهِ، وَدَلِيلُهُ هُوَ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ
فِي ذَبِيحَتِهِ (1) .
ب - صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ مُشْتَرِكًا مَعَ الْمُسْلِمِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَ مَجُوسِيٌّ مَعَ
مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ فَإِنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ لاَ يُؤْكَل،
وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ تَغْلِيبِ جَانِبِ الْحُرْمَةِ عَلَى جَانِبِ الْحِل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَيْدٌ - ف 40 وَمَا بَعْدَهَا) .
نِكَاحُ الْمَجُوسِيِّ
أ - زَوَاجُ الْمُسْلِمِ بِالْمَجُوسِيَّةِ
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى حُرْمَةِ زَوَاجِ
__________
(1) البناية شرح الهداية 9 / 636، والشرح الكبير 2 / 105، قوانين الأحكام
الشرعية 198، وبداية المجتهد 479 - 480، والمغني لابن قدامة 9 / 362، 375،
376.
(36/150)
الْمُسْلِمِ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ} (1) .
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (2)
وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ إِلَى حِل نِكَاحِ الْمُسْلِمِ بِالْمَجُوسِيَّةِ
وَقَال ابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا:
يَجِبُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا أَنْ تَجُوزَ
مُنَاكَحَتُهُمْ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَجُوسَ لَهُمْ كِتَابٌ فَهُمْ مِنْ أَهْل
الْكِتَابِ (3) وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِل لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4)
.
ب - زَوَاجُ الْمَجُوسِيِّ بِالْمُسْلِمَةِ
8 - يَحْرُمُ بِالإِْجْمَاعِ زَوَاجُ الْمَجُوسِيِّ بِالْمُسْلِمَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ
وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة / 221.
(2) سورة الممتحنة / 10.
(3) المبسوط للسرخسي 4 / 211، البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم 3 /
102، وتفسير القرطبي 3 / 70، والشرح الكبير 2 / 267، والحطاب 3 / 477،
والمجموع 16 / 136، وروضة الطالبين 7 / 136، والمغني لابن قدامة 7 / 131.
(4) سورة المائدة / 5.
(5) سورة البقرة / 221.
(36/150)
وَهَذَا الْحُكْمُ لاَ اسْتِثْنَاءَ فِيهِ
بِخِلاَفِ مَا قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ} حَيْثُ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ أَهْل الْكِتَابِ (1) .
ج - إِسْلاَمُ زَوْجَةِ الْمَجُوسِيِّ:
9 - إِذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَةُ الْمَجُوسِيِّ قَبْل زَوْجِهَا فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ. وَالتَّفْصِيل فِي
(إِسْلاَمٌ ف 6) .
تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ زَوْجَتَهُ بِالْمَجُوسِيَّةِ:
10 - إِذَا ظَاهَرَ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ مِنَ امْرَأَتِهِ فَشَبَّهَهَا
بِالْمَجُوسِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ
هَذَا الظِّهَارِ عَلَى الأَْقْوَال الآْتِيَةِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَيْسَ ذَلِكَ بِظِهَارٍ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل
أَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَمْ تُشْبِهِ الأُْمَّ
فَلاَ يَكُونُ ظِهَارًا، وَبِقِيَاسِ حُرْمَةِ وَطْئِهَا عَلَى حُرْمَةِ
وَطْءِ الْحَائِضِ وَالْمُحْرِمَةِ.
الْقَوْل الثَّانِي: هُوَ ظِهَارٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ
وَقَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
__________
(1) الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية 4 / 330.
(36/151)
الْقَوْل الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ
أَنَّهُ إِنَّ شَبَّهَ الزَّوْجَةَ بِظَهْرِ الْمَجُوسِيَّةِ وَهِيَ مِنَ
الْمُحَرَّمَاتِ مُؤَقَّتًا فَهُوَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الظِّهَارِ،
إِنْ نَوَاهُ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ
شَبَّهَ الزَّوْجَةَ بِالْمَجُوسِيَّةِ دُونَ كَلِمَةِ الظَّهْرِ،
فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى الظِّهَارَ قُبِل قَوْلُهُ فِي الْفَتْوَى، وَوَجْهُ
هَذَا الْقَوْل أَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى
التَّأْبِيدِ، فَلاَ يَكُونُ اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ. وَلَمَّا
كَانَ يُقْصَدُ بَهِ الظِّهَارُ كَانَ كِنَايَةً فِيهِ (1) .
ظِهَارُ الْمَجُوسِيِّ:
11 - إِذَا ظَاهَرَ الْمَجُوسِيُّ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْل
الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
لاَ يَصِحُّ ظِهَارُهُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَحُجَّتُهُمْ: أ - قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ
مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (2) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {منكم} فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَدُل
عَلَى اخْتِصَاصِ الظِّهَارِ بِالْمُسْلِمِينَ.
ب - الْمَجُوسِيُّ لَيْسَ أَهْلاً لِلْكَفَّارَةِ فَلاَ يَصِحُّ ظِهَارُهُ
لأَِنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
__________
(1) البناية شرح الهداية 4 / 694، وروضة الطالبين 8 / 265، والشرح الكبير
على حاشية الدسوقي 2 / 433، المغني 8 / 6.
(2) سورة المجادلة / 2.
(36/151)
الْقَوْل الثَّانِي:
يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَجُوسِيِّ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، حُجَّتُهُمْ:
أ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ الآْيَةَ عَامَّةٌ فَيَدْخُل فِيهَا
الْكَافِرُ أَيْضًا، فَصَحَّ ظِهَارُهُ.
ب - الظِّهَارُ لَفْظٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَيَصِحُّ مِنَ
الْمَجُوسِيِّ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ الطَّلاَقُ.
ج - الْكَفَّارَةُ فِيهَا شَائِبَةُ غَرَامَةٍ فَيَصِحُّ مِنْهُ
الإِْعْتَاقُ (2) .
وَصِيَّةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ
12 - تَأْخُذُ كُلٌّ مِنْ وَصِيَّةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ
حُكْمَ وَصِيَّةِ الْكَافِرِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَذَلِكَ فِي
الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .
وَقْفُ الْمَجُوسِيِّ
13 - يَصِحُّ وَقْفُ الْمَجُوسِيِّ مَا دَامَ بَالِغًا عَاقِلاً أَهْلاً
لِلتَّبَرُّعِ إِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ قُرْبَةً عِنْدَ
الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ الْمَجُوسِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى
مَعْصِيَةٍ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ الْمَجُوسِ فَإِنَّ الْوَقْفَ
يَكُونُ بَاطِلاً (3) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي (وَقْفٌ)
.
__________
(1) سورة المجادلة / 3.
(2) البحر الرائق 4 / 93 - 94، وحاشية الدسوقي 2 / 439، ومغني المحتاج 3 /
352، والمغني 7 / 4.
(3) المغني 6 / 38، ومغني المحتاج 2 / 376، 380، والبحر الرائق 5 / 189 -
190، والدر المختار وحاشية رد المحتار 4 / 342، والشرح الكبير وحاشية
الدسوقي 4 / 78 - 79، والتاج والإكليل 6 / 24، ومواهب الجليل 6 / 24.
(36/152)
تَوَارُثُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُسْلِمِ
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّ لاَ يَرِثُ
الْمُسْلِمَ وَلاَ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ، لأَِنَّهُ كَافِرٌ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ وَلاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ (جِزْيَةٌ ف 28 20) .
الْقِصَاصُ بَيْنَ الْمَجُوسِيِّ وَغَيْرِهِ
15 - الْمَجُوسِيُّ كَافِرٌ، وَحُكْمُهُ فِي الْقِصَاصِ حُكْمُ الْكَافِرِ،
وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْقِصَاصِ لَهُ أَوْ مِنْهُ، وَالتَّفْصِيل
فِي (قِصَاصٌ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا)
دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ الذِّمِّيِّ أَوِ
الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (دِيَاتٌ ف 32) .
تَوْلِيَةُ الْمَجُوسِيِّ الْقَضَاءَ
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّ لاَ يَتَوَلَّى
الْقَضَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِ لأَِنَّ الْقَضَاءَ وِلاَيَةٌ بَل مِنْ
أَعْظَمِ الْوِلاَيَاتِ - وَلاَ وِلاَيَةَ لِكَافِرٍ عَلَى
__________
(1) حديث: " لا يرث المسلم الكافر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 /
50) ، ومسلم (3 / 1233) من حديث أسامة بن زيد واللفظ لمسلم.
(36/152)
مُسْلِمٍ (1) -. لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}
(2) . وَأَمَّا تَوْلِيَةُ الْمَجُوسِيِّ الْقَضَاءَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ
فَاخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف
22) .
قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْمَجُوسِ
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ
بَيْنَ الْمَجُوسِ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا وَكَانُوا أَهْل ذِمَّةٍ
أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
تَحَاكَمَ الْمَجُوسُ وَهُمْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ إِلَى الإِْمَامِ،
لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَأَهْل الذِّمَّةِ سَوَاءٌ فِي عُقُودِ الْمُعَامَلاَتِ وَالتِّجَارَاتِ
وَالْحُدُودِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يُرْجَمُونَ لأَِنَّهُمْ غَيْرُ
مُحْصَنِينَ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي مُنَاكَحَاتِهِمْ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ:
هُمْ مُقَرُّونَ عَلَى أَحْكَامِهِمْ لاَ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ فِيهَا،
إِلاَّ أَنْ يَرْضَوْا بِأَحْكَامِنَا. وَقَال مُحَمَّدٌ: إِذَا رَضِيَ
أَحَدُهُمَا حُمِلاَ جَمِيعًا عَلَى أَحْكَامِنَا، وَإِنْ أَبَى الآْخَرُ
إِلاَّ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ خَاصَّةً. وَقَال أَبُو يُوسُفَ:
يُحْمَلُونَ عَلَى أَحْكَامِنَا وَإِنْ أَبَوْا إِلاَّ فِي النِّكَاحِ
بِغَيْرِ شُهُودٍ نُجِيزُهُ إِذَا تَرَاضَوْا بِهَا (3) .
__________
(1) البحر الرائق 6 / 260، والشرح الكبير 4 / 129، 165، ومغني المحتاج 4 /
375، وكشاف القناع 6 / 295.
(2) سورة النساء / 141.
(3) تفسير الجصاص 2 / 434 - 436، والقرطبي 6 / 186.
(36/153)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَتِ
الْخُصُومَةُ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ خُيِّرَ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ
بَيْنَهُمْ وَبِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمَظَالِمِ مِنَ الْغَصْبِ
وَالتَّعَدِّي وَجَحْدِ الْحُقُوقِ.
وَإِنْ تَخَاصَمُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ رُدُّوا إِلَى أَهْل دِينِهِمْ
إِلاَّ أَنْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخُصُومَةُ
بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَرَافَعَ إِلَيْنَا مَجُوسِيٌّ ذِمِّيٌّ
أَوْ مُعَاهَدٌ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ وَمُسْلِمٌ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا
بِشَرْعِنَا قَطْعًا، طَالِبًا كَانَ الْمُسْلِمُ أَوْ مَطْلُوبًا،
لأَِنَّهُ يَجِبُ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ لاَ
يُمْكِنُ رَفْعُهُ إِلَى حَاكِمِ أَهْل الذِّمَّةِ وَلاَ تَرْكُهُمَا
مُتَنَازِعَيْنِ، فَرَدَدْنَا مَنْ مَعَ الْمُسْلِمِ إِلَى حَاكِمِ
الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ.
وَلَوْ تَرَافَعَ مَجُوسِيَّانِ ذِمِّيَّانِ وَلَمْ نَشْتَرِطْ فِي عَقْدِ
الذِّمَّةِ لَهُمَا الْتِزَامَ أَحْكَامِنَا وَجَبَ عَلَيْنَا الْحُكْمُ
بَيْنَهُمَا فِي الأَْظْهَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (2) . وَلأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الإِْمَامِ مَنْعُ الظُّلْمِ عَنْ أَهْل الذِّمَّةِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ
بَيْنَهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ وَالثَّانِي: وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ لاَ
يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْحُكْمُ بَل يَتَخَيَّرُ
__________
(1) القوانين الفقهية 196، والجامع لأحكام القرآن 6 / 184.
(2) سورة المائدة / 49.
(36/153)
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ
جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (1) .
أَمَّا لَوْ تَرَافَعَ إِلَيْنَا مَجُوسِيَّانِ شُرِطَ فِي عَقْدِ
الذِّمَّةِ لَهُمَا الْتِزَامُ أَحْكَامِنَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ
بَيْنَهُمَا جَزْمًا عَمَلاً بِالشَّرْطِ.
وَإِنْ تَرَافَعَ إِلَيْنَا ذِمِّيَّانِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا،
وَأَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ، فَيَجِبُ كَذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي الْمُسْلِمِ
الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا جَزْمًا، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لاَ يَرْضَى
مِلَّةَ الآْخَرِ.
وَاسْتَثْنَى الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ مَا لَوْ تَرَافَعَ
إِلَيْنَا أَهْل الذِّمَّةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُمْ لاَ
يُحَدُّونَ وَإِنْ رَضُوا بِحُكْمِنَا، لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ
تَحْرِيمَهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَحَاكَمَ إِلَيْنَا أَهْل الذِّمَّةِ أَيْ
وَمِنْهُمُ الْمَجُوسُ الذِّمِّيُّونَ إِذَا اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِحْضَارِهِمْ وَالْحُكْمِ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَرْكِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْل دِينٍ وَاحِدٍ
أَوْ مِنْ أَهْل أَدْيَانٍ.
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أَنَّهُ يَجِبُ
الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ - مَجُوسِيٌّ
- وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ لأَِنَّهُ
__________
(1) سورة المائدة / 42.
(2) مغني المحتاج 3 / 195.
(36/154)
يَجِبُ دَفْعُ الظُّلْمِ، كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ (1) .
شَهَادَةُ الْمَجُوسِيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ
عَلَى الْمَجُوسِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ
أَهْلٌ لِلْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَجُوسِيِّ وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ أَيْضًا فِي عَدَمِ جَوَازِ شَهَادَةِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى
الْمُسْلِمِ لاَ فِي حَضَرٍ وَلاَ سَفَرٍ وَلاَ وَصِيَّةٍ وَلاَ غَيْرِهَا.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2)
وَالْمَجُوسِيُّ لَيْسَ مِنَّا وَلَيْسَ عَدْلاً فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ
عَلَى الْمُسْلِمِ (3) . (وَانْظُرْ شَهَادَةٌ - ف 5) .
عَقْدُ الذِّمَّةِ لِلْمَجُوسِيِّ
20 - إِذَا دُعِيَ الْمَجُوسِيُّ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَأَبَى ثُمَّ دُعِيَ
إِلَى الْجِزْيَةِ فَقَبِلَهَا عُقِدَتْ لَهُمُ الذِّمَّةُ.
وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِيِّ ثَابِتٌ بِالإِْجْمَاعِ فَإِنَّ
الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَعَمِل بَهِ الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلاَ مُخَالِفٍ،
وَبِهِ يَقُول أَهْل الْعِلْمِ (4) . وَذَلِكَ
__________
(1) المغني 8 / 214 - 215.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) بدائع الصنائع 6 / 280، والشرح الكبير 4 / 165، ومغني المحتاج 4 / 427،
وكشاف القناع 6 / 417.
(4) بدائع الصنائع 7 / 110، والمغني 9 / 331، ومغني المحتاج 4 / 244،
والشرح الكبير 2 / 200 - 201.
(36/154)
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل الْكِتَابِ
(1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جِزْيَةٌ ف 28 29) .
__________
(1) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " تقدم ف4.
(36/155)
مُجُونٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُجُونُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَبَةُ وَالْغِلْظَةُ، وَهُوَ
مَصْدَرُ مَجَنَ الشَّيْءُ يَمْجُنُ مُجُونًا: صَلُبَ وَغَلُظَ،
وَالْوَصْفُ مَاجِنٌ، وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْمَاجِنِ لِصَلاَبَةِ وَجْهِهِ
وَقِلَّةِ حِيَائِهِ، وَقِيل: الْمُجُونُ. خَلْطُ الْجِدِّ بِالْهَزْل (1)
.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْمَاجِنُ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الَّذِي
يَرْتَكِبُ الْمَقَابِحَ الْمُرْدِيَةَ، وَالْفَضَائِحَ الْمُخْزِيَةَ،
وَلاَ يَمْنَعُهُ عَذْل عَاذِلِهِ وَلاَ تَقْرِيعُ مَنْ يُقَرِّعُهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ أَنْ لاَ يُبَالِيَ الإِْنْسَانُ بِمَا صَنَعَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّفَهُ:
2 - السَّفَهُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْل.
__________
(1) لسان العرب، والمغرب في ترتيب المعرب، وابن عابدين 5 / 93.
(2) لسان العرب.
(3) حاشية البناني على شرح الزرقاني 7 / 159.
(36/155)
وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: صِفَةٌ لاَ يَكُونُ الشَّخْصُ مَعَهَا مُطْلَقَ
التَّصَرُّفِ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُجُونِ وَالسَّفَهِ نَقْصٌ فِي
الشَّخْصِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُجُونِ:
3 - الْمُجُونُ يُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ وَيَخْرِمُ الْعَدَالَةَ فَلاَ
تُقْبَل شَهَادَةُ الْمَاجِنِ وَهُوَ مَنْ لاَ يُبَالِي مَا صَنَعَ (3)
وَلاَ يَتَرَفَّعُ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ الدَّنِيئَةِ الَّتِي يَسْتَحْيِي
مِنْهَا أَهْل الْمَرُوءَاتِ: وَذَلِكَ إِمَّا لِنَقْصِ عَقْلٍ أَوْ
قِلَّةِ مُبَالاَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ تَبْطُل الثِّقَةُ
بِقَوْلِهِ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ (4) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَاجِنِ
4 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُفْتِي الْمَاجِنَ
الَّذِي يَعْلَمُ الْحِيَل الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الْمَرْأَةِ
الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، وَيُمْنَعُ طَبِيبٌ جَاهِلٌ، وَهُوَ
الَّذِي يَسْقِي الْمَرْضَى دَوَاءً مُهْلِكًا، وَيُمْنَعُ مُكَارٍ
مُفْلِسٌ كَمَنْ يَكْرِي إِبِلاً وَلَيْسَ لَهُ إِبِلٌ وَلاَ مَالٌ
لِيَشْتَرِيَهَا بِهِ، وَإِذَا جَاءَ أَوَانُ الْخُرُوجِ يُخْفِي نَفْسَهُ،
وَمَنْعُ هَؤُلاَءِ الْمُفْسِدِينَ لِلأَْدْيَانِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) حاشية القليوبي والمحلي 3 / 364.
(3) شرح الزرقاني 7 / 159.
(4) المغني 9 / 169، وكشاف القناع 6 / 422، وما بعده، وأسنى المطالب 4 /
374.
(36/156)
وَالأَْبْدَانِ وَالأَْمْوَال دَفْعُ
إِضْرَارٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَنْعِ هُنَا حَقِيقَةَ الْحَجْرِ، وَهُوَ
الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ
الْمُفْتِيَ لَوْ أَفَتَى بَعْدَ الْمَنْعِ وَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَا
الطَّبِيبَ لَوْ بَاعَ الأَْدْوِيَةَ نَفَذَ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 93.
(36/156)
مُحَابَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحَابَاةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَابَى، يُقَال: حَابَاهُ
مُحَابَاةً وَحِبَاءً: اخْتَصَّهُ وَمَال إِلَيْهِ وَنَصَرَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
قَال الْقُهُسْتَانِيُّ: الْمُحَابَاةُ هِيَ النُّقْصَانُ عَنْ قِيمَةِ
الْمِثْل فِي الْوَصِيَّةِ بِالْبَيْعِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى قِيمَتِهِ
فِي الشِّرَاءِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُحَابَاةِ:
الْمُحَابَاةُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ:
أَوَّلاً: الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
أ - الْمُحَابَاةُ مِنَ الصَّحِيحِ:
2 - الْمُحَابَاةُ مِنَ الصَّحِيحِ غَيْرِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْمُتَبَرَّعِ لَهُ بِهَا مِنْ
جَمِيعِ مَال الْمُحَابِي، إِنْ كَانَ صَحِيحًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ
__________
(1) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 668 - ط. الحلبي.
(36/157)
تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْحَال
فَيُعْتَبَرُ حَال التَّعَاقُدِ فَإِذَا كَانَ الْمُحَابِي صَحِيحًا
حِينَئِذٍ فَلاَ حَقَّ لأَِحَدٍ فِي مَالِهِ، فَتُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ
مَالِهِ لاَ مِنَ الثُّلُثِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ إِذَا كَانَتْ مِنَ
الصَّحِيحِ، فَإِمَّا أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ قَبْضًا
مُعْتَبَرًا شَرْعًا أَمْ لاَ، فَإِنْ قَبَضَهَا قَبْضًا مُعْتَبَرًا
فَفِيهَا قَوْلاَنِ: أَرْجَحُهُمَا اخْتِصَاصُ الْمُشْتَرِي بِهَا دُونَ
غَيْرِهَا مِنَ الْوَرَثَةِ أَوِ الدَّائِنِينَ.
وَإِنْ لَمْ يَقَعْ قَبْضٌ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا ابْنُ
رُشْدٍ:
أَحَدُهَا: يَبْطُل الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ وَيُرَدُّ إِلَى الْمُشْتَرِي
مَا دَفَعَ مِنْ ثَمَنٍ وَهَذَا هُوَ مَا فِي الْوَاضِحَةِ عَنِ
الأَْخَوَيْنِ وَأَصْبَغَ، وَقَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ.
ثَانِيهَا: يَبْطُل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ مِنَ الْمَبِيعِ
وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ.
وَثَالِثُهَا: يُخَيَّرُ فِي تَمَلُّكِ جُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ بِقَدْرِ
ثَمَنِهِ وَفِي أَنْ يَدْفَعَ بَقِيَّةَ الثَّمَنِ فَيَكُونُ لَهُ جَمِيعُ
الْمَبِيعِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُحَابَاةِ فِي
__________
(1) البدائع 7 / 370، وأسنى المطالب 3 / 39 الطبعة الأولى بالطبعة الميمنية
بالقاهرة 1313، والمغني لابن قدامة 6 / 71 - طبعة مكتبة الرياض الحديثة
بالرياض.
(2) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني 5 / 356.
(36/157)
حَال الصِّحَّةِ، وَتَمَامُهَا فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ، مِثْل مَا إِذَا بَاعَ بِمُحَابَاةٍ عَلَى أَنَّ لَهُ خِيَارَ
الْفَسْخِ خِلاَل ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَمَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ فِي
مَرَضٍ طَرَأَ عَلَيْهِ خِلاَلَهَا وَمَاتَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ
خُرُوجُ الْمُحَابَاةِ مِنْ جَمِيعِ مَال الْمُحَابِي لاَ مِنَ الثُّلُثِ
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ بَاعَ بِمُحَابَاةٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ
ثُمَّ مَرِضَ وَأَجَازَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ تَرَكَ الْفَسْخَ
فِيهَا عَامِدًا، إِنْ قُلْنَا الْمِلْكُ فِيهَا لِلْبَائِعِ فَمِنَ
الثُّلُثِ يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، لأَِنَّهُ أَلْزَمَ الْعَقْدَ
فِي الْمَرَضِ بِاخْتِيَارِهِ فَأَشْبَهَ مَنْ وَهَبَ فِي الصِّحَّةِ
وَأَقْبَضَ فِي الْمَرَضِ، وَإِلاَّ فَكَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا
بِمُحَابَاةٍ ثُمَّ مَرِضَ وَوَجَدَهُ مَعِيبًا وَلَمْ يَرُدَّهُ مَعَ
الإِْمْكَانِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِتَفْوِيتٍ بَل امْتِنَاعٌ مِنَ الْكَسْبِ فَقَطْ (2) .
ب - الْمُحَابَاةُ مِنَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِغَيْرِ وَارِثِهِ
3 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمُحَابَاةُ وَلَوْ
يَسِيرَةً مِنَ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ بِدَيْنِ يُحِيطُ بِكُل مَالِهِ لَوْ
بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لأَِجْنَبِيٍّ - أَيْ غَيْرِ وَارِثٍ لَهُ -
سَوَاءٌ أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ الْمُحَابَاةَ أَمْ لاَ، وَيَكُونُ عَلَى
الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ أَنْ يُزِيل الْمُحَابَاةَ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 259.
(2) أسنى المطالب 3 / 40.
(36/158)
بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ إِلَى ثَمَنِ
الْمِثْل أَوْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ تَجُوزُ الْمُحَابَاةُ وَلَوْ
فَاحِشَةً لَكِنْ تَكُونُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ تُؤْخَذُ مِنْهُ إِنْ
وَسِعَهَا بِأَنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ مُسَاوِيَةً لِلثُّلُثِ أَوْ أَقَل
مِنْهُ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَلاَ
تَجُوزُ الزِّيَادَةُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ بِاتِّفَاقِ
الْمَذَاهِبِ (1) .
وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ كَانَ لِلْمُشْتَرِي - عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ - أَنْ يُكْمِل بَقِيَّةَ الثَّمَنِ أَوْ يَفْسَخَ
الْبَيْعَ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يُكْمِل بَقِيَّةَ
الثَّمَنِ وَيَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مَا
دَفَعَ وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ ثُلُثُ مَال الْمَيِّتِ.
وَثَانِيهَا: يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُكْمِل بَقِيَّةَ الثَّمَنِ فَيَكُونُ
لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، فَإِذَا أَبَى فَلَهُ مَا يُقَابِل ثَمَنَهُ مِنَ
الْمَبِيعِ وَثُلُثُ مَال الْمَيِّتِ.
وَثَالِثُهَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْمِل جَبْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ،
وَيَكُونُ لَهُ مَا يُقَابِل ثَمَنَهُ مِنَ الْمَبِيعِ مَعَ ثُلُثِ مَال
الْمَيِّتِ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 245، 246، والزيلعي 5 / 214، والرهوني 5 / 351،
وأسنى المطالب 3 / 39 - 40، والمغني 6 / 71، 92، 93.
(2) جامع الفصولين 2 / 245، 246، والزيلعي 5 / 214، المطبعة الأميرية
بالقاهرة 1315.
(3) حاشية الرهوني 5 / 356.
(36/158)
فَسْخِ الْبَيْعِ وَالإِْجَازَةِ فِي
الثُّلُثِ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ
عَلَيْهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْبَيْعِ
فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ وَلُزُومَهُ، قَال
ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ عِنْدِي - فِيمَا إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ
عَقَارًا لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ قِيمَتُهُ ثَلاَثُونَ بِعَشَرَةِ - أَنَّهُ
يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي
الْبَاقِي، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ مُقَابَلَةَ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ
مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِ جَمِيعِ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ
الثَّمَنِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي
ثُلُثَيِ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ لأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ
بِالْمُحَابَاةِ وَالثُّلُثَ الآْخَرَ بِالثَّمَنِ (2) .
ج - الْمُحَابَاةُ مِنَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِوَارِثِهِ
4 - إِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ مِنَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ
لِوَارِثِهِ فَلاَ تَجُوزُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهَا بَاقِي الْوَرَثَةِ،
سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ يَسِيرَةً أَوْ فَاحِشَةً لأَِنَّ
الْمُحَابَاةَ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ
لِوَارِثٍ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، اتَّفَقَ عَلَى
هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُحَابَاةَ
لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِ وَارِثٍ تَجُوزُ إِذَا كَانَتْ يَسِيرَةً - أَيْ
يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ - وَيَحْسَبُ مِنْ جَمِيعِ مَال
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 39.
(2) المغني 6 / 71، 92، 93.
(36/159)
الْمَرِيضِ كَبَيْعِهِ بِثَمَنِ الْمِثْل
(1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَبْطُل الْمُحَابَاةُ وَيَبْطُل الْبَيْعُ فِي
قَدْرِ الْمُحَابَاةِ مِنَ الْمَبِيعِ، وَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا
عَدَا قَدْرَ الْمُحَابَاةِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ بَذَل الثَّمَنَ فِي كُل الْمَبِيعِ
فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي بَعْضِهِ.
الثَّانِي: يَبْطُل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَيَصِحُّ فِيمَا
يُقَابِل الثَّمَنَ الْمُسَمَّى بَيْنَهُمَا، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ
بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ مَا يُقَابِل الثَّمَنَ، لأَِنَّ
الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَغَيْرِهَا،
وَلاَ يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، لأَِنَّ
الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ،
وَتَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ
الْمُحَابَاةُ، فَإِنْ أَجَازُوا الْمُحَابَاةَ صَحَّ الْبَيْعُ وَلاَ
خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي (2) .
وَإِنْ لَمْ يُجِزْ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْمُحَابَاةَ فَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ: يُخَيَّرُ الْوَارِثُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَإِزَالَةِ
الْمُحَابَاةِ بِإِكْمَال الثَّمَنِ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَبْطُل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ
الْمُحَابَاةِ، وَيَصِحُّ فِيمَا بَقِيَ، وَلِلْمُشْتَرِي
__________
(1) المراجع السابقة، والمهذب 1 / 453.
(2) المغني 5 / 319، 320، وكشاف القناع 2 / 492.
(3) جامع الفصولين 2 / 245 - 246، والزيلعي 5 / 214.
(36/159)
الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ
وَأَخْذِ مَا بَقِيَ بَعْدَ قَدْرِ الْمُحَابَاةِ (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ مَنْقُولَةٍ كُلُّهَا
عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ:
نَقَل أَبُو الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْطُل الْبَيْعُ وَالْمُحَابَاةُ،
وَيَرُدُّ لَهُ مَا دَفَعَ مِنَ الثَّمَنِ، وَنَقَل ابْنُ عَرَفَةَ عَنْهُ
أَنَّهُ تَبْطُل الْمُحَابَاةُ فَقَطْ، وَيَكُونُ لِلْوَارِثِ مِنَ
الْمَبِيعِ بِقَدْرِ مَا دَفَعَ مِنَ الثَّمَنِ.
وَنُقِل عَنْهُ فِي الْمَقْصِدِ الْمَحْمُودِ أَنَّ لِلْوَارِثِ أَنْ
يُكْمِل الثَّمَنَ، وَيَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ جَبْرًا عَلَى
الْوَرَثَةِ.
وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ لِبَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ أَنْ
يَأْخُذُوا مِنَ الْمُشْتَرِي (الْوَارِثِ) بَقِيَّةَ الثَّمَنِ الَّذِي
وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَابَاةُ وَيَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، قَال
صَاحِبُ الْمَقْصِدِ الْمَحْمُودِ: وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ
يَكُونَ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ جَبْرًا عَلَيْهِ.
وَالْعِبْرَةُ فِي قِيمَةِ الْمُحَابَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَوْمُ
فِعْلِهَا، فَيُنْظَرُ إِلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ يَوْمَ الْبَيْعِ لاَ
يَوْمَ يَمُوتُ الْبَائِعُ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِ
وَارِثٍ. وَدَلِيل ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ مِنْ
يَوْمِ الْبَيْعِ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْظُرَ فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ الْبَيْعِ،
فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ أَوْ نَقَصَتْ فَإِنَّمَا طَرَأَ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 39، والمغني 5 / 319، وكشاف القناع 2 / 492.
(36/160)
ذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَكُونُ لَغْوًا
لاَ اعْتِبَارَ لَهُ وَلاَ يَعْتَدُّ بِهِ (1) .
د - الْمُحَابَاةُ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ
5 - الْمُحَابَاةُ كَمَا تَكُونُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ تَكُونُ فِي
عَيْنِهِ حَتَّى لَوْ تَمَّ بَيْعُهُ بِمِثْل الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ،
وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَخْتَارَ الْبَائِعُ الْمَرِيضُ أَفَضْل مَا عِنْدَهُ
مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ، كَتُحْفَةٍ نَادِرَةٍ، فَيَبِيعُهُ
لِوَارِثِهِ بِمِثْل الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَهَذِهِ لاَ تَجُوزُ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّ الْمَرِيضَ مَمْنُوعٌ مِنْ
إِيثَارِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِالْعَيْنِ، لأَِنَّ النَّاسَ لَهُمْ
أَغْرَاضٌ فِي الْعَيْنِ فَلاَ يَمْلِكُ إِيثَارَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ
بِهَا. وَتَجُوزُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، أَوْ مَرِيضًا وَبَاعَهَا
لأَِجْنَبِيٍّ (2) .
هـ - مُحَابَاةُ الصَّبِيِّ
6 - الْمُحَابَاةُ سَوَاءٌ كَانَتْ يَسِيرَةً أَمْ فَاحِشَةً لاَ تَجُوزُ
مِنَ الصَّبِيِّ حَتَّى وَلَوْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ
لاَ بُدَّ أَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهَا مَصْلَحَتُهُ عِنْدَهُمْ،
وَالْمُحَابَاةُ لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا ذَلِكَ (3) وَعِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لَهُ - أَيْ
__________
(1) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني 5 / 351.
(2) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني 5 / 351 - 356.
(3) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 3 / 295، وكشاف القناع 2 / 229.
(36/160)
أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ - فِي التِّجَارَةِ
أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ بِاتِّفَاقِ مَشَايِخِ
الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الضَّرُورِيَّةِ
لِلتِّجَارَةِ، وَلاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ
لَهُ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِغَبْنٍ
فَاحِشٍ أَيْضًا، لأَِنَّهُ هُوَ الآْخَرُ لاَزِمٌ فِي التِّجَارَةِ،
فَيَدْخُل تَحْتَ الإِْذْنِ لَهُ بِالتِّجَارَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ: لاَ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْغَبْنَ
الْفَاحِشَ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي
التِّجَارَةِ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّبَرُّعُ (1) .
هَذَا مَا إِذَا بَاعَ الصَّبِيُّ لأَِجْنَبِيٍّ أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ،
فَإِنْ بَاعَ لأَِبِيهِ شَيْئًا أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ
فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: الْجِوَازُ وَعَدَمُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ
بَاعَ الصَّبِيُّ لِلْوَصِيِّ عَلَيْهِ أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلصَّبِيِّ لاَ يَجُوزُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ بِدُونِ خِلاَفٍ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلصَّبِيِّ وَمَعَ ذَلِكَ فِيهِمَا
مُحَابَاةٌ فَاحِشَةٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ
لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْعٍ ظَاهِرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لاَ يَجُوزُ لِمَا
فِيهِ مِنْ مُحَابَاةٍ فَاحِشَةٍ (2) .
__________
(1) جامع أحكام الصغار بهامش جامع الفصولين 1 / 205، والبدائع 7 / 194.
(2) جامع أحكام الصغار بهامش جامع الفصولين 1 / 297، والبدائع 7 / 195.
(36/161)
و - مُحَابَاةُ النَّائِبِ عَنِ الصَّغِيرِ
وَغَيْرِهِ
7 - لاَ يَمْلِكُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ وَلاَ وَصِيُّهُ
الْمُحَابَاةَ فِي مَالِهِمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَتْ
مُحَابَاةً يَسِيرَةً أَوْ مُحَابَاةً فَاحِشَةً، لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ
تَصَرُّفٌ لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَهُوَ أَمْرٌ لاَزِمٌ عَلَى مَنْ
يَتَصَرَّفُ لِلصَّغِيرِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَجَازُوا لِلأَْبِ فَقَطْ بَيْعَ مَال
وَلَدِهِ الصَّغِيرِ بِمُحَابَاةٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، بِسَبَبٍ
يُوجِبُ الْبَيْعَ أَوْ بِدُونِ سَبَبٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَيْعَهُ هَذَا
يُحْمَل عَلَى الصَّوَابِ وَالْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَفُوقُ الْمُحَابَاةَ
(1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ عَقْدُهُ فِي مَال الصَّغِيرِ
بِالْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ، وَلاَ تَجُوزُ بِالْمُحَابَاةِ
الْفَاحِشَةِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ مَعَهَا عَلَى الإِْجَازَةِ
بَعْدَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَ مُجِيزَ لَهُ أَثَنَاءَ
التَّعَاقُدِ وَيَكُونُ الْعَقْدُ فِي حَال الشِّرَاءِ بِمُحَابَاةٍ
فَاحِشَةٍ نَافِذًا عَلَى الْعَاقِدِ النَّائِبِ لاَ عَلَى الصَّغِيرِ (2)
.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الأَْبَ إِذَا
بَاعَ عَقَارَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمُحَابَاةٍ يَسِيرَةٍ يَجُوزُ
الْبَيْعُ إِذَا كَانَ الأَْبُ مَحْمُودَ السِّيرَةِ مَسْتُورَ الْحَال.
__________
(1) شرح الخرشي على مختصر خليل 5 / 313، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3
/ 300 - 301، والمهذب 1 / 328، وكشاف القناع 2 / 223، 241.
(2) جامع الفصولين 2 / 15.
(36/161)
أَمَّا إِنْ كَانَ مُفْسِدًا فَلاَ يَجُوزُ
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِضِعْفِ الْقِيمَةِ.
وَالْوَصِيُّ فِي بَيْعِ عَقَارِ الصَّغِيرِ كَالأَْبِ الْمُفْسِدِ،
وَالْقَاضِي كَالْوَصِيِّ.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى لِلْحَنَفِيَّةِ: إِذَا اشْتَرَى الْوَصِيُّ
مَال الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ يَجُوزُ إِذَا كَانَ خَيْرًا لِلصَّغِيرِ،
وَمَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ: أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً
بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَصَاعِدًا، أَوْ يَبِيعَ لَهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ مَا
يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ بِعَشَرَةِ فَقَطْ دُونَ أَيِّ زِيَادَةٍ، وَبِهِ
يُفْتَى (1) .
وَجَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْوَصِيَّ إِذَا بَاعَ
مَال الصَّغِيرِ بِمُحَابَاةٍ يَسِيرَةٍ لِمَنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ
لَهُ - كَابْنِهِ وَأَبِيهِ وَزَوْجَتِهِ - لاَ يَجُوزُ (2) .
ز - مُحَابَاةُ الْوَكِيل
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْوَكِيل بَيْعًا وَشِرَاءً بِغَبْنٍ يَسِيرٍ
أَيْ بِمَا يُتَغَابَنُ بِهِ فِي الْعُرْفِ، كَشِرَاءِ مَا يُسَاوِي
تِسْعَةً بِعَشَرَةٍ، أَوْ بَيْعِ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِتِسْعَةٍ، إِذَا
لَمْ يَكُنِ الْمُوَكِّل قَدْ قَدَّرَ قِيمَةَ الْمُثَمَّنِ لِلْوَكِيل،
وَيَخْتَلِفُ الْعُرْفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْعْيَانِ مِنَ الأَْمْوَال فَلاَ
تُعْتَبَرُ النِّسْبَةُ فِي الْمِثَال الْمَذْكُورِ، لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) آداب الأوصياء بهامش جامع الفصولين 1 / 190 - 191.
(2) جامع الفصولين 2 / 31.
(36/162)
يُمْكِنُ التَّوَقِّي وَالتَّحَرُّزُ مِنْ
ذَلِكَ فِي التَّعَامُل عَلَى الْجُمْلَةِ.
أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ، مِثْل أَنْ يَبِيعَ الْوَكِيل مَا يُسَاوِي
عَشَرَةً بِخَمْسَةٍ مَثَلاً فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَنْفُذُ الْبَيْعُ وَيَغْرَمُ الْوَكِيل
لِمُوَكِّلِهِ مَا حَابَى بِهِ، وَقِيل: يُخَيَّرُ الْمُوَكِّل فِي فَسْخِ
الْبَيْعِ وَإِجَازَتِهِ إِلاَّ إِذَا نَقَصَ الْمَبِيعُ فِي ثَمَنِهِ أَوْ
بَدَنِهِ، فَيَلْزَمُ الْوَكِيل حِينَئِذٍ الأَْكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ أَوِ
الْقِيمَةِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ فَقَطْ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ
لِمُوَكِّلِهِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ وَلاَ يَصِحُّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ بِدُونِ
خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ فَقَطْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يَصِحُّ بَيْعُ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ
لِمُوَكِّلِهِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَالْفَرْقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ
احْتِمَال التُّهْمَةِ فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ، لِجَوَازِ أَنَّ
الْوَكِيل اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ
الْفَاحِشَةُ فِي الثَّمَنِ جُعِل الشِّرَاءُ لِمُوَكِّلِهِ (2) .
وَنَقَل الأَْتْقَانِيُّ عَنْ خُوَاهِرْ زَادَهْ: أَنَّ جَوَازَ عَقْدِ
الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ يَكُونُ فِي سِلْعَةٍ يُحْتَاجُ
فِيهَا إِلَى مُسَاوَمَةٍ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ،
__________
(1) شرح الخرشي 6 / 90، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 391، والمهذب
1 / 354، وأسنى المطالب 2 / 268، وكشاف القناع 2 / 239 - 240.
(2) جامع الفصولين 2 / 30، والبدائع 7 / 194.
(36/162)
وَلَيْسَ لَهَا ثَمَنٌ مَعْرُوفٌ
وَمُحَدَّدٌ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ سِعْرُهَا مَعْلُومًا
أَوْ مُحَدَّدًا كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا زَادَ
الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ عَلَى ذَلِكَ السِّعْرِ لاَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّل،
سَوَاءٌ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ، لأَِنَّ هَذَا لاَ يَحْتَاجُ
إِلَى رَأْيٍ أَوْ تَقْوِيمٍ، لِلْعِلْمِ بِهِ، قَال فِي بُيُوعِ
التَّتِمَّةِ: وَبِهِ يُفْتَى (1) .
وَالْوَكِيل بِالْبَيْعِ إِذَا بَاعَ لِمَنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ
لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ
يَسِيرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ:
يَجُوزُ بَيْعُهُ لَهُمْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ لاَ فَاحِشٍ.
وَإِنْ صَرَّحَ الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل بِالْبَيْعِ لِمَنْ لاَ تُقْبَل
شَهَادَتُهُ لَهُ، وَأَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفَ مَعَ مَنْ يَشَاءُ جَازَ
بَيْعُهُ لَهُمْ بِدُونِ خِلاَفٍ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ
يَبِيعَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ
لَهُ ذَلِكَ حَتَّى وَإِنْ صَرَّحَ الْمُوَكِّل لَهُ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ
حُكْمُ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ إِذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ (2) .
ثَانِيًا: الْفَسْخُ لِلْمُحَابَاةِ:
9 - جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ تَصَرُّفٌ
__________
(1) الزيلعي 4 / 272، وحاشية سعدي على العناية والهداية " تكملة فتح القدير
" 6 / 75.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 589.
(36/163)
يَحْتَمِل الْفَسْخَ فِي نَفْسِهِ فِي
الْجُمْلَةِ فَيُفْسَخُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ
وَالإِْقَالَةِ - إِذْ هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - فَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ مُحْتَمِلَةً
لِلْفَسْخِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
ثَالِثًا: الْمُحَابَاةُ فِي الإِْجَارَةِ
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي إِجَارَةِ
الْمَرِيضِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَلاَ تُعْتَبَرُ مِنَ
الثُّلُثِ. قَال الشُّرُنْبُلاَلِيُّ: مَرِيضٌ أَجَّرَ دَارَهُ بِأَقَل
مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل قَالُوا: جَازَتِ الإِْجَارَةُ مِنْ جَمِيعِ
مَالِهِ وَلاَ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّهُ لَوْ أَعَارَهَا وَهُوَ
مَرِيضٌ جَازَتْ، وَالإِْجَارَةُ بِأَقَل مِنْ أَجْرِ الْمِثْل أَوْلَى (2)
.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَجَّرَ مَرِيضٌ مِلْكَهُ بِدُونِ أُجْرَةِ
الْمِثْل فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ مُعْتَبَرٌ مِنَ الثُّلُثِ، بِخِلاَفِ مَا
لَوْ أَجَّرَهُ فِي الصِّحَّةِ فَلاَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ
بَل مِنْ رَأْسِ الْمَال (3) .
رَابِعًا: الْمُحَابَاةُ فِي الشُّفْعَةِ
11 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ إِذَا بَاعَ
دَارًا لَهُ مَثَلاً وَحَابَى الْمُشْتَرِيَ: بِأَنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ
وَقِيمَتُهَا ثَلاَثَةُ آلاَفٍ فَفِيهَا. التَّفْصِيل الآْتِي:
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 373.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 679 - 680.
(3) أسنى المطالب 3 / 40.
(36/163)
إِنْ بَاعَهَا لِوَارِثٍ مِنْ وَرَثَتِهِ
وَشَفِيعُهَا غَيْرُ وَارِثٍ فَلاَ شَكَّ أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ أَصْلاً
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ بَيْعَهَا لِلْوَارِثِ بِدُونِ مُحَابَاةٍ
فَاسِدٌ عِنْدَهُ، فَبَيْعُهَا بِالْمُحَابَاةِ أَوْلَى، وَلاَ شُفْعَةَ
فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الْبَيْعُ جَائِزٌ، لَكِنْ يَدْفَعُ
الْمُشْتَرِي قَدْرَ الْمُحَابَاةِ، فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ، قَال صَاحِبُ
الْمَبْسُوطِ: الأَْصَحُّ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِ وَارِثٍ، فَكَذَلِكَ لاَ شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ بِنَفْسِ
الصَّفْقَةِ مَعَ غَيْرِ الْوُرَّاثِ بَعْدَ تَحَوُّلِهَا إِلَيْهِ، أَوْ
بِصَفْقَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مُقَدَّرَةٍ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ بَيْعًا
لِلْوَارِثِ بِالْمُحَابَاةِ، وَسَوَاءٌ أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ الشُّفْعَةَ
أَوْ لَمْ يُجِيزُوا، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ مَحَلُّهَا الْعَقْدُ
الْمَوْقُوفُ، وَالشِّرَاءُ وَقَعَ نَافِذًا مِنَ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ
الْمُحَابَاةَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ - قَدْرُ الثُّلُثِ، وَهِيَ
نَافِذَةٌ فِي الأَْلْفَيْنِ مِنَ الثَّلاَثَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ - غَيْرِ
الْوَارِثِ فَانْتَفَتْ إِجَازَةُ الْوَرَثَةِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي،
فَتَنْتِفِي فِي حَقِّ الشَّفِيعِ أَيْضًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ شُفْعَةَ لَهُ، وَالثَّانِيَةُ: لَهُ الشُّفْعَةُ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 14، والفتاوى الهندية 5 / 196.
(36/164)
وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ أَجْنَبِيًّا:
غَيْرَ وَارِثٍ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِأَلْفَيْنِ.
وَإِذَا بَرِئَ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِالْمُحَابَاةِ
وَالشَّفِيعُ وَارِثُهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ إِلَى
وَقْتِ الْبُرْءِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ
الْمَرَضَ إِذَا زَال وَشُفِيَ مِنْهُ الْمَرِيضُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ قَدْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ
وَلَمْ يُطْلِبِ الشُّفْعَةَ حَتَّى بَرَأَ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ فَلاَ
شُفْعَةَ لَهُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الْمَرِيضُ دَارًا وَحَابَى الْبَائِعَ بِأَنِ
اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ، وَلَهُ سِوَى ذَلِكَ أَلْفٌ
أُخْرَى، ثُمَّ مَاتَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا
الشُّفْعَةُ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا حَابَّاهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ
صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الأَْجْنَبِيِّ، فَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا
الشُّفْعَةُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الرُّهُونِيِّ عَلَى شَرْحِ
الزُّرْقَانِيِّ (2) أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَكُونُ
لَهُ جُزْءٌ فِي دَارٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، قِيمَتُهُ ثَلاَثُونَ
دِينَارًا، فَيَبِيعُهُ لِرَجُلٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَهُوَ مَرِيضٌ؟
قَال: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، إِذَا مَاتَ الْبَائِعُ وَلَمْ يُجِزِ
الْوَرَثَةُ الْمُحَابَاةَ يُقَال لِلْمُشْتَرِي: زِدِ الثَّمَنَ عَشَرَةً
أُخْرَى وَخُذِ الدَّارَ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ مُعَارَضَةُ ذَلِكَ،
فَإِنْ فَعَل الْمُشْتَرِي ذَلِكَ فَلِلشَّفِيعِ - إِنْ كَانَ - أَنْ
يَأْخُذَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 196.
(2)
5 / 349.
(36/164)
الدَّارَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَإِنْ
أَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ عَشَرَةً وَأَبَتِ الْوَرَثَةُ
تَسْلِيمَهُ الدَّارَ كَمَا أَوْصَى الْمَيِّتُ قِيل لِلْوَرَثَةِ:
أَعْطُوهُ ثُلُثَ الْجُزْءِ الْمُبَاعِ لَهُ بِدُونِ أَنْ يَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ بَاعَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ جُزْءًا مِنْ
عَقَارٍ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ، وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ، بَطَل
الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ، لأَِنَّهُ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ.
فَإِنِ اخْتَارَ الشَّفِيعُ - وَارِثًا كَانَ أَوْ أَجْنَبِيًّا - أَنْ
يَأْخُذَ النِّصْفَ بِالأَْلْفِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي
تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، لأَِنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهُ بِأَلْفٍ، وَإِنْ لَمْ
يَأْخُذْهُ الشَّفِيعُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ
لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ بَاعَ لأَِجْنَبِيٍّ وَحَابَاهُ وَالشَّفِيعُ وَارِثٌ، وَاحْتَمَل
الثُّلُثُ الْمُحَابَاةَ فَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِي نِصْفِ الشِّقْصِ بِالأَْلْفِ،
وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَبْقَى النِّصْفُ لِلْمُشْتَرِي بِلاَ
ثَمَنٍ، لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ لِلْمُشْتَرِي
تَصِحُّ، لأَِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ، وَلاَ تَصِحُّ لِلشَّفِيعِ لأَِنَّهُ
وَارِثٌ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ وَهَبَ لِلْمُشْتَرِي النِّصْفَ وَبَاعَ لَهُ
النِّصْفَ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ النِّصْفَ بِجَمِيعِ
الثَّمَنِ وَيَبْقَى النِّصْفُ لِلْمُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنٍ.
الثَّانِي: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ بِالأَْلْفِ
(36/165)
وَيَدْفَعُ إِلَى الشَّفِيعِ الْوَارِثِ
بِدُونِ مُحَابَاةٍ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي.
الثَّالِثُ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ تَعَلَّقَتْ
بِالْكُل، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَل فِي نِصْفِهِ.
الرَّابِعُ: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ، لأَِنَّ إِثْبَاتَ
الشُّفْعَةِ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَال الْمَبِيعِ، وَإِذَا بَطَل الْبَيْعُ
سَقَطَتِ الشُّفْعَةُ.
الْخَامِسُ: - وَهُوَ الصَّحِيحُ - يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ
بِالأَْلْفِ وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْجَمِيعَ بِالأَْلْفِ، لأَِنَّ
الْمُحَابَاةَ وَقَعَتْ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ، وَالْمُشْتَرِي
أَجْنَبِيٌّ، فَصَحَّتِ الْمُحَابَاةُ لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حِيلَةً عَلَى
مُحَابَاةِ الْوَارِثِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ
الْوَسَائِل لَهَا حُكْمُ الْغَايَاتِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الشِّقْصِ -
النَّصِيبِ - وَالْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ أَجْنَبِيَّانِ - غَيْرُ
وَارِثَيْنِ - وَلَمْ يُجِزِ الْوَارِثُ الْبَيْعَ صَحَّ الْبَيْعُ فِي
ثُلُثَيِ الشِّقْصِ فَقَطْ بِثُلُثَيِ الثَّمَنِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ.
أَمَّا إِذَا مَلَكَ الْبَائِعُ الْمَرِيضُ غَيْرَ هَذَا الشِّقْصِ -
السَّهْمِ وَالنَّصِيبِ - وَاحْتَمَل الثُّلُثُ الْمُحَابَاةَ، وَأَجَازَ
الْوَرَثَةُ الْبَيْعَ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ، وَيَأْخُذُ
الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِكُل الثَّمَنِ (1) .
__________
(1) المهذب 1 / 379، وأسنى المطالب 2 / 367 - 368.
(36/165)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ بَيْعَ
الْمَرِيضِ بِالْمُحَابَاةِ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ
أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لِوَارِثٍ بَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ
لأَِنَّهَا فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ
لِوَارِثٍ لاَ تَجُوزُ، وَيَبْطُل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ مِنَ
الْمَبِيعِ، وَهَل يَصِحُّ فِيمَا عَدَاهُ؟ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ بَذَل الثَّمَنَ فِي كُل
الْمَبِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي بَيْعِهِ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذَا
الثَّوْبَ بِعَشَرَةِ، فَقَال: قَبِلْتُ الْبَيْعَ فِي نِصْفِهِ، أَوْ
قَال: قَبِلْتُهُ بِخَمْسَةٍ، أَوْ قَال: قَبِلْتُ نِصْفَهُ بِخَمْسَةٍ،
وَلأَِنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
تُوَاجَبَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْطُل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَيَصِحُّ
فِيمَا يُقَابِل الثَّمَنَ الْمُسَمَّى، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ
الأَْخْذِ وَالْفَسْخِ لأَِنَّ الصِّفَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ،
وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا
بِالصِّحَّةِ لأَِنَّ الْبُطْلاَنَ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ الْمُحَابَاةِ
فَاخْتَصَّ بِمَا يُقَابِلُهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْجَمِيعِ وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ
الْوَرَثَةِ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَتَيْنِ، وَتَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَكَذَلِكَ
الْمُحَابَاةُ لَهُ، فَإِنْ أَجَازُوا الْمُحَابَاةَ صَحَّ الْبَيْعُ فِي
الْجَمِيعِ وَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الأَْخْذَ
بِهِ لأَِنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ رَدُّوا
(36/166)
بَطَل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ
وَصَحَّ فِيمَا بَقِيَ، وَلاَ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ الأَْخْذَ قَبْل
إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ، لأَِنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَلِّقٌ
بِالْمَبِيعِ فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ، وَلَهُ أَخْذُ مَا صَحَّ
الْبَيْعُ فِيهِ. وَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا وَاخْتَارَ الشَّفِيعُ الأَْخْذَ
بِالشُّفْعَةِ قُدِّمَ الشَّفِيعُ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى
الْمُشْتَرِي وَجَرَى مَجْرَى الْمَعِيبِ إِذَا رَضِيَهُ الشَّفِيعُ
بِعَيْبِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا وَالشَّفْيِعُ
أَجْنَبِيٌّ: فَإِنْ لَمْ تَزِدِ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ صَحَّ
الْبَيْعُ، وَلِلشَّفِيعِ الأَْخْذُ بِهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ
الْبَيْعَ حَصَل بِهِ فَلاَ يَمْنَعُ مِنْهَا كَوْنُ الْمَبِيعِ
مُسْتَرْخَصًا، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ فَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ
أَصْل الْمُحَابَاةِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ
وَارِثًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ
وَقَعَتْ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا تَمَكُّنُ الْوَارِثِ مِنْ
أَخْذِهَا.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ الْبَيْعُ وَلاَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ (1) .
الْمُحَابَاةُ فِي التَّبَرُّعَاتِ الْمَالِيَّةِ
أَوَّلاً: الْمُحَابَاةُ فِي الْوَصِيَّةِ
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) المغني 5 / 319 - 320.
(36/166)
أَنَّ الْمُحَابَاةَ لاَ تُقَدَّمُ عَلَى
غَيْرِهَا مِنَ الْوَصَايَا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تُقَدَّمُ الْمُحَابَاةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصَايَا لِلْعِبَادِ
أَوْ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرَبِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَبِنَاءِ
الْمَسَاجِدِ فَيَبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحَابِي قَبْل
كُل وَصِيَّةٍ، ثُمَّ يَتَقَاسَمُ أَهْل الْوَصَايَا فِيمَا يَبْقَى مِنْ
ثُلُثِ تَرِكَةِ الْمُحَابِي، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ
بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ
تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ ضَمَانٍ وَهُوَ الْبَيْعُ، إِذْ هُوَ عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ فِيهِ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ، وَأَمَّا
الْوَصِيَّةُ فَتَبَرُّعٌ، فَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِعَقْدٍ أَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ.
وَلأَِنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْوَصَايَا الَّتِي لِلْعِبَادِ عَلَى
الْبَعْضِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُرَجِّحِ وَلَمْ يُوجَدْ، لأَِنَّ
الْوَصَايَا كُلَّهَا اسْتَوَتْ فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، لأَِنَّ
سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْل سَبَبِ صَاحِبِهِ،
وَالاِسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الاِسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ (2) .
وَلَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَتَاعٍ مُعَيَّنٍ أَوْ حَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ
تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ وَالْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى السَّوِيَّةِ،
إِذْ لاَ مُرَجِّحَ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكُ
__________
(1) الحطاب 6 / 378، 380، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 4 / 392، والمهذب 1
/ 453، 454، والمغني 6 / 73.
(2) البدائع 7 / 381، 373.
(36/167)
الْعَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى لَوْ
قَال الشَّخْصُ: أَوْصَيْتُ لِفُلاَنٍ بِمِائَةٍ، وَلِفُلاَنٍ بِثُلُثِ
مَالِي فَالْوَصِيَّةُ بِالْمِائَةِ الْمُرْسَلَةِ تُقَدَّمُ عَلَى
الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْمَال.
جَاءَ هَذَا فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ، قَال صَاحِبُ جَامِعِ
الْفُصُولَيْنِ: مَعَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَرَجَّحَ الْمُحَابَاةُ
لأَِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ بِخِلاَفِ الْوَصِيَّةِ وَلَوْ بِمُعَيَّنٍ (1)
.
ثَانِيًا: الْمُحَابَاةُ فِي الْهِبَةِ
تَنَاوَل كَلاَمُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَمْرَيْنِ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: مُحَابَاةُ وَتَفْضِيل الْوَالِدِ بَعْضَ أَوْلاَدِهِ
بِهِبَتِهِ
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْنْسَانَ مُطَالَبٌ
بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ فِي الْهِبَةِ بِدُونِ مُحَابَاةٍ
وَتَفْضِيلٍ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ
بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي نَحَلْتُ - أَيْ
أَعْطَيْتُ بِغَيْرِ عِوَضٍ - ابْنِي هَذَا غُلاَمًا كَانَ لِي، فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُل وَلَدِكَ
نَحَلْتَهُ مِثْل هَذَا؟ فَقَال: لاَ فَقَال: فَأَرْجِعْهُ وَفِي
رِوَايَةٍ: فَلاَ تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ
وَفِي ثَالِثَةٍ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ (2)
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 260.
(2) حديث النعمان بن بشير: " أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
. . . ". أخرجه الرواية الأولى والثانية مسلم (3 / 1242، 1243) ، وأخرج
الرواية الثالثة البخاري (فتح الباري 5 / 211) ومسلم (3 / 1243) .
(36/167)
وَلأَِنَّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ
تَأْلِيفَ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّفْضِيل يَزْرَعُ الْكَرَاهِيَةَ
وَالنُّفُورَ بَيْنَهُمْ فَكَانَتِ التَّسْوِيَةُ أَوْلَى.
وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ التَّفْضِيل - فِي الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ -
إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ تَدْعُو إِلَيْهِ مِثْل اخْتِصَاصِ أَحَدِ
أَوْلاَدِهِ بِمَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ أَوْ كَثْرَةِ عَائِلَتِهِ أَوِ
اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْفَضَائِل.
أَوِ اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمْ بِمَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْهِبَةِ عَنْهُ
لِفِسْقِهِ أَوْ يَسْتَعِينُ بِمَا يَأْخُذُهُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ
أَوْ يُنْفِقُهُ فِيهَا، فَيَمْنَعُ عَنْهُ الْهِبَةَ وَيُعْطِيهَا لِمَنْ
يَسْتَحِقُّهَا.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَابِلَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ
حَاجَةٌ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّفْضِيل حِينَئِذٍ وَتَجِبُ عَلَيْهِ
التَّسْوِيَةُ - إِنْ فَعَل - إِمَّا بِرَدِّ مَا فَضَّل بِهِ الْبَعْضَ،
وَإِمَّا بِإِتْمَامِ نَصِيبِ الآْخَرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ، وَيَجُوزُ التَّفْضِيل قَضَاءً، لأَِنَّ
الْوَالِدَ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، لاَ حَقَّ لأَِحَدٍ فِيهِ،
إِلاَّ أَنَّهُ يَكُونُ آثِمًا فِيمَا صَنَعَ بِدُونِ دَاعٍ لَهُ،
لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ} (1) .
__________
(1) سورة النحل / 90.
(36/168)
وَلُزُومُ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ:
أ - أَنْ يَهَبَ كُل مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَهُ.
ب - أَلاَّ يُطَالِبَ أَوْلاَدُهُ الآْخَرُونَ بِمَنْعِهِ كُل ذَلِكَ
مَخَافَةَ أَنْ تَعُودَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ افْتِقَارِهِ،
فَلَهُمْ رَدُّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ وَإِبْطَالَهُ، وَأَمَّا إِذَا وَهَبَ
الشَّيْءَ الْيَسِيرَ فَذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ.
وَكَيْفِيَّةُ التَّسْوِيَةِ الْمَطْلُوبَةِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ - أَنْ يُعْطِيَ الأُْنْثَى مِثْل مَا يُعْطِي الذَّكَرَ
تَمَامًا بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: التَّسْوِيَةُ أَنْ يَقْسِمَ
بَيْنَ أَوْلاَدِهِ عَلَى حَسَبِ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، فَيُجْعَل
لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، لأَِنَّ ذَلِكَ نَصِيبُهُ مِنَ
الْمَال لَوْ مَاتَ عَنْهُ الْوَاهِبُ (1) .
الأَْمْرُ الثَّانِي: الْمُحَابَاةُ فِي الْهِبَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
14 - جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ: لَوْ وَهَبَ
مَرِيضٌ شَيْئًا قِيمَتُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ لِرَجُلٍ صَحِيحٍ عَلَى أَنْ
يُعَوِّضَهُ شَيْئًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَتَقَابَضَا، ثُمَّ مَاتَ
الْمَرِيضُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَلاَ مَال لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ الشَّيْءِ
الَّذِي وَهَبَهُ، وَرَفَضَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا مَا صَنَعَ
الْوَاهِبُ، كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ فَسَخَ
الْهِبَةَ
__________
(1) البدائع 6 / 127، والفتاوى الهندية 4 / 391، وحاشية العدوي على شرح أبي
الحسن 2 / 228 - 229، وأسنى المطالب 2 / 483، والمغني 5 / 664 - 667.
(36/168)
وَرَدَّ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ كُلَّهُ
وَأَخَذَ عِوَضَهُ. وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ثُلُثَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ
إِلَى الْوَرَثَةِ وَسَلَّمَ لَهُ ثُلُثَيْهِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ
الْعِوَضِ شَيْئًا. وَإِنْ عَرَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي
الْعِوَضِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْمُحَابَاةِ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ
يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ (1) .
وَجَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ لِلشَّافِعِيَّةِ: يُنْفِذُ الأَْوَّل
فَالأَْوَّل مِنَ التَّبَرُّعَاتِ الْمُرَتَّبَةِ الْمُنْجَزَةِ
كَالإِْبْرَاءِ وَالإِْعْتَاقِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ حَتَّى يُتِمَّ
الثُّلُثَ عِنْدَ ضِيقِهِ عَنْهَا، ثُمَّ يُبْقِي بَاقِيَ تَبَرُّعَاتِهِ
مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلاَ أَثَرَ لَهِبَةٍ بِدُونِ
مُحَابَاةٍ قَبْل الْقَبْضِ، فَلاَ تُقَدَّمُ عَلَى مَا تَأَخَّرَ عَنْهَا
مِنْ نَحْوِ وَقْفٍ أَوْ مُحَابَاةٍ فِي بَيْعٍ أَوْ نَحْوِهِ قَبْل قَبْضِ
الْمَوْهُوبِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ، بِخِلاَفِ
الْمُحَابَاةِ فِي بَيْعٍ أَوْ نَحْوِهِ، لأَِنَّهَا فِي ضِمْنِ
مُعَاوَضَةٍ (2) .
ثَالِثًا: الْمُحَابَاةُ فِي الإِْعَارَةِ
15 - الإِْعَارَةُ مِنَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ تُعْتَبَرُ مِنَ
الْمُحَابَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ أَطْمَاعُ الْوَرَثَةِ
فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ إِعَارَةُ دَارِهِ مَثَلاً إِذَا كَانَتْ
مَنَافِعُ الدَّارِ أَزْيَدَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ.
__________
(1) جامع الفصولين 4 / 401.
(2) 3 / 40 - 41، والمغني 6 / 72.
(36/169)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْقَضَتْ
مُدَّةُ إِعَارَةِ الدَّارِ وَلَوْ فِي مَرَضِ الْمُعِيرِ وَاسْتَرَدَّهَا
اعْتُبِرَتِ الأُْجْرَةُ مِنَ الثُّلُثِ لِكَوْنِهَا تَبَرُّعًا بِمَا
تَمْتَدُّ إِلَيْهِ أَطْمَاعُ الْوَرَثَةِ.
وَمِنَ الْمُحَابَاةِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْوَصِيَّةُ
بِالإِْعَارَةِ، أَمَّا إِعَارَةُ الْمَرِيضِ نَفْسِهُ فَلَيْسَتْ مِنَ
الْمُحَابَاةِ، لأَِنَّهَا امْتِنَاعٌ مِنَ التَّحْصِيل، وَلَيْسَتْ
تَفْوِيتًا لِلْحَاصِل، وَلاَ مَطْمَعَ لِلْوَرَثَةِ فِي عَمَلِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِعَارَةُ الْمَرِيضِ لِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ
مَالِهِ إِعَارَةً مُنَجَّزَةً لاَ تُعْتَبَرُ مِنَ الْمُحَابَاةِ
فَتَجُوزُ، وَتَكُونُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَلاَ تُعْتَبَرُ مِنَ
الثُّلُثِ (2) .
وَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالإِْعَارَةِ وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ
الرُّجُوعُ (3) .
الْمُحَابَاةُ فِي الزَّوَاجِ
أَوَّلاً: الْمُحَابَاةُ فِي الْمَهْرِ
16 - الْمَرِيضَةُ مَرَضَ الْمَوْتِ إِذَا نَقَصَتْ مِنْ مَهْرِهَا لَمْ
يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ تَزَوَّجَتْ بِأَقَل مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا
فَمَاتَتْ وَوَرِثَهَا الزَّوْجُ، فَمَا نَقَصَ مِنَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 438، وأسنى المطالب 3 / 40،
وكشاف القناع 2 / 492.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 6 / 680.
(3) ابن عابدين 6 / 686.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 313.
(36/169)
الْمَهْرِ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ،
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِوَرَثَةِ الزَّوْجَةِ طَلَبُ تَكْمِيل مَهْرِ
الْمِثْل. وَإِنْ لَمْ يَرِثْهَا - بِأَنْ مَاتَ قَبْلَهَا أَوْ كَانَ
مُسْلِمًا وَهِيَ ذِمِّيَّةٌ - فَالنَّاقِصُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْل لاَ
يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَةِ الزَّوْجِ، وَلاَ يَكْمُل مَهْرُ الْمِثْل
(1) .
وَإِذَا وَهَبَتِ الْمَرِيضَةُ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا وَمَاتَتْ مِنْ
مَرَضِهَا هَذَا لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً أَوْ مَرِيضَةً وَبَرَأَتْ مِنْ مَرَضِهَا بَعْدَ
الْهِبَةِ فَإِنَّ هِبَتَهَا تَنْفُذُ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، مَعَ
تَفْصِيلٍ فِي كَوْنِ ذَلِكَ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَ الدُّخُول
وَغَيْرِهِ (3) .
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لِلْبَالِغَةِ
الرَّشِيدَةِ الرِّضَا بِأَقَل مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَاسْتَثْنَى
الْمَالِكِيَّةُ الْبِكْرَ الْمُهْمَلَةَ - وَهِيَ الَّتِي لاَ أَبَ لَهَا
وَلاَ وَصِيَّ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا، وَلاَ نَائِبَ مِنْ جِهَةِ
الْقَاضِي، وَلاَ يُعْلَمُ كَوْنُهَا رَشِيدَةً أَمْ سَفِيهَةً - فَلاَ
يَجُوزُ رِضَاهَا بِأَقَل مِنْ مَهْرِ الْمِثْل عِنْدَهُمْ، وَإِذَا
رَضِيَتْ فَلاَ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ الرِّضَا.
وَهَذَا قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا الأُْنْثَى الْمَعْلُومَةُ السَّفَهِ فَلَيْسَ لَهَا الرِّضَا
بِأَقَل مِنْ مَهْرِ الْمِثْل، وَيُنْقَضُ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 39.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 402.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 402، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 330،
والخرشي 3 / 335، وأسنى المطالب 3 / 218 وكشاف القناع 3 / 86.
(36/170)
تَصَرُّفُهَا اتِّفَاقًا (1) .
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ بِأَزْيَدَ مِنْ مَهْرِ
الْمِثْل ثُمَّ مَاتَ وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً مِنَ الْوَرَثَةِ
فَالزَّائِدُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْل - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ لاَ يَنْفُذُ إِلاَّ إِذَا
أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ كَذِمِّيَّةِ وَهُوَ مُسْلِمٌ
فَالزَّائِدُ عَنْ مَهْرِ الْمِثْل يَكُونُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَةِ
الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَزَوَّجَ فِي صِحَّةٍ، ثُمَّ مَرِضَ
فَفَرَضَ لِزَوْجَتِهِ مَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْل، ثُمَّ دَخَل
بِهَا وَمَاتَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ حِينَئِذٍ مَهْرُ الْمِثْل
مِنْ رَأْسِ مَال الْمَيِّتِ، وَيَبْطُل الزَّائِدُ، إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ
الْوَرَثَةُ (3) .
ثَانِيًا: الْمُحَابَاةُ فِي الْخُلْعِ
17 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَالَعَتْ مَرِيضَةٌ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزَّائِدُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْل
مُحَابَاةٌ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ
لِلأَْجْنَبِيِّ لاَ لِلْوَارِثِ، لِخُرُوجِ الزَّوْجِ عَنِ الإِْرْثِ
بِسَبَبِ الْخُلْعِ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 294، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 321،
والخرشي 3 / 320.
(2) أسنى المطالب 3 / 39، والمغني 6 / 93.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 321، وشرح الخرشي 3 / 320.
(4) أسنى المطالب 3 / 247.
(36/170)
مُحَاذَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحَاذَاةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُقَابَلَةُ، يُقَال: حَاذَيْتُهُ
مُحَاذَاةً مِنْ بَابِ قَاتَل (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: كَوْنُ الشَّيْئَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ بِحَيْثُ لاَ
يَخْتَلِفَانِ فِي الْجِهَاتِ.
قَال الْبَرَكَتِيُّ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَاذَاةِ
السَّاقُ وَالْكَعْبُ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَاذَاةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
لِلْمُحَاذَاةِ أَحْكَامٌ وَرَدَتْ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ
الْفِقْهِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: الْمُحَاذَاةُ فِي الصَّلاَةِ
أ - مُحَاذَاةُ الْقِبْلَةِ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ
الْفَرِيضَةُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَتَصِحُّ
فَوْقَهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ أَمَامَهُ شَاخِصٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ صَلاَةُ النَّفْل فَوْقَ
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 1 / 152، وقواعد الفقه للبركتي.
(36/171)
الْكَعْبَةِ وَأَمَّا السُّنَنُ
وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ فَلاَ تَجُوزُ صَلاَتُهَا فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ
عَلَى الرَّاجِحِ، لَكِنَّهَا إِنْ صُلِّيَتْ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ لاَ
تُعَادُ بِخِلاَفِ الْفَرْضِ فَإِنَّهُ يُعَادُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِبْلَةِ الْعَرْصَةُ لاَ
الْبِنَاءُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ
الْكَعْبَةُ الَّتِي هِيَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ، وَلِذَا لَوْ نُقِل
الْبِنَاءُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَصُلِّيَ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ بَل
تَجِبُ الصَّلاَةُ إِلَى أَرْضِهَا (2) .
وَقَالُوا: تَصِحُّ الصَّلاَةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ
وَلَوْ بِلاَ سُتْرَةٍ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ
الْكَعْبَةِ جَازَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ
الْمُشَرَّفَةِ نُظِرَ: إِنْ وَقَفَ عَلَى طَرَفِهَا وَاسْتَدْبَرَ
بَاقِيَهَا لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ، لِعَدَمِ اسْتِقْبَال
شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ
فَوَقَفَ عَلَى طَرَفِ الْعَرْصَةِ وَاسْتَدْبَرَ بَاقِيَهَا لَمْ تَصِحَّ
صَلاَتُهُ، وَلَوْ وَقَفَ خَارِجَ الْعَرْصَةِ وَاسْتَقْبَلَهَا صَحَّ
بِلاَ خِلاَفٍ.
أَمَّا إِذَا وَقَفَ فِي وَسْطِ السَّطْحِ أَوِ الْعَرْصَةِ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ شَاخِصٌ لَمْ تَصِحَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 229، والروض المربع 1 / 101 المطبعة السلفية.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 290.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 612، والفتاوى الهندية 1 / 63.
(36/171)
صَلاَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ
(1) .
وَمَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ مُسْتَقْبِلاً مِنْ
بِنَائِهَا قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَإِنْ خَرَجَ
بَعْضُهُ عَنْ مُحَاذَاةِ الشَّاخِصِ، وَكَذَا إِذَا اسْتَقْبَل شَاخِصًا
مُتَّصِلاً بِالْكَعْبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا كَشَجَرَةٍ نَابِتَةٍ
وَعَصًا مُسَمَّرَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْرَ قَامَتِهِ طُولاً وَعَرْضًا
لأَِنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَعْبَةِ، أَوْ إِلَى مَا هُوَ
كَالْجُزْءِ مِنْهَا، حَتَّى وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ مُحَاذَاةِ
الشَّاخِصِ، لأَِنَّهُ مُوَاجِهٌ بِبَعْضِهِ جُزْءًا مِنَ الْكَعْبَةِ
وَبِبَاقِيهِ هَوَاءَ الْكَعْبَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الشَّاخِصُ
أَقَل مِنْ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ
كَسُتْرَةِ الْمُصَلِّي فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرُهَا الَّذِي هُوَ مِثْل
مُؤَخِّرَةِ الرَّحْل.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ لَوِ
اسْتَقْبَل الشَّاخِصَ الْمَذْكُورَ فِي حَال قِيَامِهِ دُونَ بَقِيَّةِ
صَلاَتِهِ، كَأَنِ اسْتَقْبَل خَشَبَةً عَرْضُهَا ثُلُثَا ذِرَاعٍ
مُعْتَرِضَةً فِي بَابِ الْكَعْبَةِ تُحَاذِي صَدْرَهُ فِي حَال قِيَامِهِ
دُونَ بَقِيَّةِ صَلاَتِهِ أَنَّهَا تَصِحُّ، ثُمَّ قَال: بَل الَّذِي
يَنْبَغِي أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلاَّ فِي
الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهَا لأَِنَّهُ فِي حَال
سُجُودِهِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَوْ وَقَفَ خَارِجَ
الْعَرْصَةِ وَلَوْ عَلَى جَبَلٍ أَجْزَأَهُ وَلَوْ بِغَيْرِ شَاخِصٍ
__________
(1) المجموع 3 / 197 وما بعدها.
(36/172)
لأَِنَّهُ يُعَدُّ مُحَاذِيًا إِلَيْهَا
بِخِلاَفِ الْمُصَلَّى فِيهَا، وَلَوْ خَرَجَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ
بِبَعْضِ بَدَنِهِ بِأَنْ وَقَفَ بِطَرَفِهَا وَخَرَجَ عَنْهُ بِبَعْضِهِ
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَكَذَا لَوِ امْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ بِقُرْبِ
الْكَعْبَةِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمُحَاذَاةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ،
لأَِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقْبِلاً لَهَا وَلاَ شَكَّ أَنَّهُمْ إِذَا
بَعُدُوا عَنْهَا حَاذَوْهَا وَصَحَّتْ صَلاَتُهُمْ، وَإِنْ طَال
صَفُّهُمْ، لأَِنَّ صَغِيرَ الْحَجْمِ كُلَّمَا زَادَ بُعْدُهُ زَادَتْ
مُحَاذَاتُهُ كَغَرَضِ الرُّمَاةِ (1) .
وَلَوْ أُزِيل الشَّاخِصُ الَّذِي كَانَ يُحَاذِيهِ فِي أَثَنَاءِ
صَلاَتِهِ لَمْ يَضُرَّ؛ لأَِنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لاَ
يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ (2) .
ب - الْمُحَاذَاةُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُسَنُّ
لِلْمُصَلِّي عِنْدَ افْتِتَاحِ صَلاَتِهِ رَفْعُ يَدَيْهِ عِنْدَ
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ (3) .
وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ،
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 144 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج 1 / 145.
(3) حديث: " كان يرفع يديه حذو منكبه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2
/ 218 - ط. السلفية) .
(36/172)
الرَّفْعِ (1) ، وَالتَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ ف 57 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج - الصَّلاَةُ فِي مُحَاذَاةِ النَّجَاسَةِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ صَلَّى وَفِي
مُحَاذَاتِهِ نَجَاسَةٌ.
فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ نَجَسٌ يُحَاذِي
صَدْرَ الْمُصَلِّي فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى
الصَّحِيحِ، لِعَدَمِ مُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ لِبَدَنِهِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ لأَِنَّهُ
مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَكَانَ صَلاَتِهِ، فَتَعَيَّنَ طَهَارَتُهُ
كَالَّذِي يُلاَقِيهِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَةٌ) .
د - مُحَاذَاةُ الْمَأْمُومِ إِمَامَهُ فِي الصَّلاَةِ
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْمَأْمُومُ فِي
عُلُوٍّ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ كَصُفَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ وَسْطَ دَارٍ مَثَلاً،
وَإِمَامُهُ فِي سُفْلٍ كَصَحْنِ تِلْكَ الدَّارِ أَوْ عَكْسِهِ شُرِطَ
مَعَ وُجُوبِ اتِّصَال صَفٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ: مُحَاذَاةُ
بَعْضِ بَدَنِ الْمَأْمُومِ بَعْضَ بَدَنِ الإِْمَامِ، بِأَنْ يُحَاذِيَ
رَأْسُ الأَْسْفَل قَدَمَ الأَْعْلَى مَعَ اعْتِدَال قَامَةِ الأَْسْفَل
حَتَّى لَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 324، 319، وحاشية الطحاوي على مراقي الفلاح 152،
وجواهر الإكليل 1 / 50، ومغني المحتاج 1 / 152، 164، 165، والمغني لابن
قدامة 1 / 469 - 470، 497، 507.
(2) مغني المحتاج 1 / 190.
(36/173)
كَانَ قَصِيرًا، لَكِنَّهُ لَوْ كَانَ
مُعْتَدِلَهَا لَحَصَلَتِ الْمُحَاذَاةُ صَحَّ الاِقْتِدَاءُ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ قَاعِدًا وَلَوْ قَامَ لَحَاذَى كَفَى، أَمَّا إِذَا
كَانَا فِي الْمَسْجِدِ فَيَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ مُطْلَقًا (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يَجُوزُ عَدَمُ إِلْصَاقِ مَنْ
عَلَى يَمِينِ الإِْمَامِ أَوْ يَسَارِهِ بِمَنْ حَذْوَهُ أَيْ خَلْفَ
ظَهْرِ الإِْمَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْجِوَازِ (عِنْدَهُمْ) خِلاَفُ
الأَْوْلَى لأَِنَّهُ تَقْطِيعٌ لِلصَّفِّ وَوَصْلُهُ مُسْتَحَبٌّ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِذَا جَاءَ
الْمَأْمُومُ وَلَمْ يَجِدْ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً انْتَظَرَ حَتَّى
يَجِيءَ آخَرُ فَيَقِفَانِ خَلْفَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ حَتَّى رَكَعَ
الإِْمَامُ يَخْتَارُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فَيَجْذِبُهُ وَيَقِفَانِ خَلْفَهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ عَالَمًا يَقِفُ
الصَّفَّ بِحِذَاءِ الإِْمَامِ لِلضَّرُورَةِ (3) .
هـ - صَلاَةُ الرَّجُل فِي مُحَاذَاةِ امْرَأَةٍ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَفْسُدُ
بِمُحَاذَاةِ الْمُصَلِّي امْرَأَةً سَوَاءٌ كَانَتْ فِي صَلاَةٍ أَوْ لَمْ
تَكُنْ فِي صَلاَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَوْ لَيْسَ
بَيْنَهُمَا كَمَا لاَ تَفْسُدُ لِمُحَاذَاةِ غَيْرِ الْمَرْأَةِ.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 250 - 251.
(2) جواهر الإكليل 1 / 80.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 382، والفتاوى الهندية 1 / 88 - 89.
(36/173)
إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلإِْنْسَانِ
أَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَا يَشْغَلُهُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً
أَوِ امْرَأَةً أَوْ غَيْرَهُمَا، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ اسْتُحِبَّ
لِلْمُصَلِّي أَنْ يَجْعَل فِي مُحَاذَاتِهِ سَاتِرًا يَحُول بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمَارَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الرَّجُل تَفْسُدُ إِذَا
حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ فِي صَلاَتِهِ.
وَقَالُوا: لَوْ قَامَتِ امْرَأَةٌ وَسْطَ الصَّفِّ تُفْسِدُ صَلاَةَ
وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهَا وَصَلاَةَ وَاحِدٍ عَنْ يَسَارِهَا وَصَلاَةَ
وَاحِدٍ خَلْفَهَا بِحِذَائِهَا.
وَشُرُوطُ الْمُحَاذَاةِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تِسْعَةٌ:
أ - كَوْنُ الْمَرْأَةِ مُشْتَهَاةً وَلَوْ كَانَتْ مَحْرَمًا لِلرَّجُل
أَوْ زَوْجَةً لَهُ، أَوْ كَانَتْ مَاضِيًا كَعَجُوزٍ شَوْهَاءَ.
ب - كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ بِالسَّاقِ وَالْكَعْبِ فِي الأَْصَحِّ وَفِي
الدُّرِّ: الْمُعْتَبَرُ الْمُحَاذَاةُ بِعُضْوٍ وَاحِدٍ.
ج - كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي أَدَاءِ رُكْنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ مَا
اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي الْفَتْحِ وَجَزَمَ بِهِ الْحَلَبِيُّ
أَوْ قَدَّرَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: إِنَّ قَلِيل الْمُحَاذَاةِ وَكَثِيرَهَا مُفْسِدٌ
وَنُسِبَ إِلَى أَبِي يُوسُفَ.
د - كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلاَةٍ مُطْلَقَةٍ وَلَوْ بِالإِْيمَاءِ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 533، مغني المحتاج 1 / 200، وكشاف القناع 1 / 329،
والمغني لابن قدامة 2 / 249، وما بعدها، وسبل السلام 1 / 267، وما بعدها.
(36/174)
فَلاَ تَبْطُل صَلاَةُ الْجِنَازَةِ إِذْ
لاَ سُجُودَ لَهَا، فَهِيَ لَيْسَتْ بِصَلاَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا
هِيَ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ.
هـ - كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلاَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مِنْ حَيْثُ
التَّحْرِيمَةُ وَذَلِكَ بِاقْتِدَاءِ الْمُصَلِّي وَالْمَرْأَةِ بِإِمَامٍ
أَوِ اقْتِدَائِهَا بِهِ.
و كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ فِي مَكَانٍ مُتَّحِدٍ وَلَوْ حُكْمًا، فَلَوِ
اخْتَلَفَ الْمَكَانُ بِأَنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ
بِحَيْثُ لاَ يُحَاذِي شَيْءٌ مِنْهُ شَيْئًا مِنْهَا لاَ تَفْسُدُ
الصَّلاَةُ.
ز - كَوْنُ الْمُحَاذَاةِ بِلاَ حَائِلٍ قَدْرَ ذِرَاعٍ فِي غِلَظِ
أُصْبُعٍ، أَوْ فُرْجَةٌ تَسَعُ رَجُلاً.
ح - عَدَمُ إِشَارَةِ الْمُصَلِّي إِلَيْهَا لِتَتَأَخَّرَ عَنْهُ فَإِنْ
لَمْ تَتَأَخَّرْ بِإِشَارَاتِهِ فَسَدَتْ صَلاَتُهَا لاَ صَلاَتُهُ وَلاَ
يُكَلَّفُ بِالتَّقَدُّمِ عَنْهَا لِكَرَاهَتِهِ.
ط - وَتَاسِعُ شُرُوطِ الْمُحَاذَاةِ الْمُفْسِدَةِ: أَنْ يَكُونَ
الإِْمَامُ قَدْ نَوَى إِمَامَتَهَا فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لاَ تَكُونُ فِي
الصَّلاَةِ فَانْتَفَتِ الْمُحَاذَاةُ (1) .
ثَانِيًا: الْمُحَاذَاةُ فِي الْحَجِّ
7 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَجِبُ عَلَى الطَّائِفِ أَنْ يَجْعَل
الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجَرِ الأَْسْوَدِ
مُحَاذِيًا لَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فِي مُرُورِهِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً
بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَيَكْتَفِي بِمُحَاذَاةِ جُزْءٍ مِنَ
__________
(1) مراقي الفلاح 180 - 181.
(36/174)
الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ
كَمَا اكْتَفَى بِمُحَاذَاةِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِجُزْءٍ مِنَ الْكَعْبَةِ
فِي الصَّلاَةِ.
وَصِفَةُ الْمُحَاذَاةِ: أَنْ يَسْتَقْبِل الْبَيْتَ وَيَقِفَ عَلَى
جَانِبِ الْحَجَرِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ بِحَيْثُ يَصِيرُ
جَمِيعُ الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْكِبُهُ الأَْيْمَنُ عِنْدَ
طَرَفِهِ ثُمَّ يَنْوِي الطَّوَافَ وَيَمُرُّ مُسْتَقْبِلاً إِلَى جِهَةِ
يَمِينِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الْحَجَرَ قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:
وَالْمُحَاذَاةُ الْوَاجِبَةُ تَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ
الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ لاَ بِالْحَجَرِ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ -
وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - أَنَّهُ نُحِّيَ مِنْ مَكَانِهِ وَجَبَتْ
مُحَاذَاةُ الرُّكْنِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالطَّوَافِ مِنْ جَانِبِ
الْحَجَرِ الَّذِي يَلِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فَيَكُونُ مَارًّا عَلَى
جَمِيعِ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ خِلاَفِ مَنْ
يَشْتَرِطُ الْمُرُورَ كَذَلِكَ عَلَيْهِ، وَشَرْحُهُ أَنْ يَقِفَ
مُسْتَقْبِلاً عَلَى جَانِبِ الْحَجَرِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ
الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَمْشِي كَذَلِكَ مُسْتَقْبِلاً حَتَّى
يُجَاوِزَ الْحَجَرَ فَإِذَا جَاوَزَهُ انْفَتَل وَجَعَل يَسَارَهُ إِلَى
الْبَيْتِ وَهَذَا فِي الاِفْتِتَاحِ خَاصَّةً، وَلَوْ أَخَذَ عَنْ
يَسَارِهِ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الإِْسَاءَةِ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 485، وما بعدها وانظر الخرشي 1 / 314، وكشاف القناع 2
/ 478 وما بعدها.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 235.
(36/175)
|