الموسوعة الفقهية الكويتية

مُحَارِبٌ

انْظُرْ: حِرَابَةٌ

مَحَارِمُ

انْظُرْ: مَحْرَمٌ

(36/175)


مُحَاسَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَاسَبَ يُقَال: حَاسَبَهُ مُحَاسَبَةً، وَحِسَابًا: نَاقَشَهُ الْحِسَابَ وَجَازَاهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُسَاءَلَةُ:
2 - الْمُسَاءَلَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ سَاءَل يُقَال سَاءَلَهُ أَيْ سَأَلَهُ، وَيُقَال تَسَاءَلُوا: سَأَل بَعْضُهُمْ بَعْضًا (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ السُّؤَال اسْتِدْعَاءُ مَعْرِفَةٍ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَاسْتِدْعَاءُ مَالٍ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَال (4) .
وَالْمُسَاءَلَةُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِل الْمُحَاسَبَةِ.
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) القليوبي 4 / 300.
(3) المعجم الوسيط.
(4) المفردات في غريب القرآن الكريم.

(36/176)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُحَاسَبَةِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُحَاسَبَةِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
أَوَّلاً: مُحَاسَبَةُ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ
3 - يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى كُل صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ خَفَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ حِسَابُهُ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (1) .
وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (حَاسِبُوا أَنَفْسَكُمْ قَبْل أَنْ تُحَاسَبُوا) ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: (حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْل حِسَابِ الشِّدَّةِ) .
وَالْمُحَاسَبَةُ تَارَةً تَكُونُ قَبْل الْعَمَل، وَتَارَةً تَكُونُ بَعْدَ الْعَمَل، وَتَارَةً قَبْلَهُ، لِلتَّحْذِيرِ (2) قَال تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (3) .

ثَانِيًا: مُحَاسَبَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَلْزَمُ مُحَاسَبَةُ نَاظِرِ الْوَقْفِ فِي كُل عَامٍ وَيَكْتَفِي الْقَاضِي مِنْهُ بِالإِْجْمَال لَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالأَْمَانَةِ، فَلَوْ كَانَ مُتَّهَمًا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى التَّعْيِينِ شَيْئًا فَشَيْئًا،
__________
(1) سورة الحشر / 18.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 4 / 572، 575، 587.
(3) سورة البقرة / 235.

(36/176)


وَلاَ يَحْبِسُهُ بَل يُهَدِّدُهُ، وَلَوِ اتَّهَمَهُ يُحَلِّفُهُ (1) .
وَإِذَا تَحَاسَبَ نَاظِرُ الْوَقْفِ مَعَ الْمُسْتَحِقِّينَ عَلَى مَا قَبَضَهُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ فِي سَنَةٍ مَعْلُومَةٍ وَمَا صَرَفَهُ مِنْ مَصَارِفِ الْوَقْفِ الضَّرُورِيَّةِ وَمَا خَصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ فَاضِل الْغَلَّةِ، وَصَدَّقَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَكَتَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ وُصُولاً بِذَلِكَ فَيَعْمَل بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ وَالصَّرْفِ وَالتَّصْدِيقِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ شَرْعًا وَلَيْسَ لَهُمْ نَقْضُ الْمُحَاسَبَةِ بِدُونِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ.
وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي عَلَى وَقْفِ بِرٍّ يَكْتُبُ مَقْبُوضَهُ وَمَصْرُوفَهُ كُل سَنَةٍ بِمَعْرِفَةِ الْقَاضِي بِمُوجِبِ دَفْتَرٍ مَمْضِيٍّ بِإِمْضَائِهِ فَيَعْمَل بِدَفَاتِرِ الْمُحَاسَبَةِ الْمُمْضَاةِ بِإِمْضَاءِ الْقُضَاةِ وَلاَ يُكَلَّفُ الْمُحَاسَبَةَ ثَانِيًا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ وَعُدِمَ كِتَابُ الْوَقْفِ، قُبِل قَوْل النَّاظِرِ إِنْ كَانَ أَمِينًا، وَإِذَا ادَّعَى النَّاظِرُ أَنَّهُ صَرَفَ الْغَلَّةَ صُدِّقَ إِنْ كَانَ أَمِينًا أَيْضًا، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شُهُودٌ فِي أَصْل الْوَقْفِ لاَ يُصْرَفُ إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ صَرَفَ عَلَى الْوَقْفِ مَالاً مِنْ مَالِهِ صُدِّقَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا فَيَحْلِفُ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 425 - ط. بولاق، والبحر الرائق 5 / 262، وتنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 206.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 203، 204.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 88 - 89.

(36/177)


وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى مُتَوَلِّي الْوَقْفِ صَرْفَ الرِّيعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ فَالْقَوْل قَوْلُهُمْ، وَلَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِالْحِسَابِ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُعَيَّنِينَ فَهَل لِلإِْمَامِ مُطَالَبَتُهُ لِلْحِسَابِ أَوْ لاَ؟ وَجْهَانِ: حَكَاهُمَا شُرَيْحٌ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ أَوْجَهُهُمَا الأَْوَّل، وَيُصَدَّقُ فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَهُ عِنْدَ الاِحْتِمَال، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي حَلَّفَهُ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ إِنْفَاقُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَادَةِ وَفِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْجِهَاتِ الْعَامَّةِ، بِخِلاَفِ إِنْفَاقِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ فَلاَ يُصَدَّقُ فِيهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يَنْصِبَ دِيوَانًا لِحِسَابِ أَمْوَال الأَْوْقَافِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّاظِرَ عَلَى الْوَقْفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا أَوْ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ، فَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ مُتَبَرِّعًا فِي نَظَرِهِ عَلَى الْوَقْفِ قُبِل قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَلاَ يُكَلَّفُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ ذَلِكَ (2) .

ثَالِثًا: مُحَاسَبَةُ الإِْمَامِ لِلْجُبَاةِ
5 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ مُحَاسَبَةُ الْجُبَاةِ تَأَسِّيًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 394.
(2) كشاف القناع 4 / 269، 277.

(36/177)


بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَل رَجُلاً مِنَ الأَْسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (جِبَايَةٌ ف 22) .

رَابِعًا: مُحَاسَبَةُ الْعُمَّال:
6 - يَجِبُ عَلَى عُمَّال الْخَرَاجِ رَفْعُ الْحِسَابِ إِلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ وَعَلَيْهِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ، أَمَّا عُمَّال الْعُشْرِ فَلاَ يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَفْعُ الْحِسَابِ وَلاَ يَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسِبَتُهُمْ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُمْ صَدَقَةٌ لاَ يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلاَةِ، وَلَوْ تَفَرَّدَ أَهْلُهَا بِمَصْرِفِهَا أَجْزَأَتْ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَفْعُ الْحِسَابِ وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ لأَِنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ، وَإِذَا حُوسِبَ مَنْ وَجَبَتْ مُحَاسَبَتُهُ مِنَ الْعُمَّال نَظَرَ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ الْعَامِل وَكَاتِبِ الدِّيوَانِ حَلِفٌ كَانَ كَاتِبُ الدِّيوَانِ مُصَدَّقًا فِي بَقَايَا الْحِسَابِ، فَإِنِ اسْتَرَابَ بِهِ وَلِيُّ الأَْمْرِ كَلَّفَهُ إِحْضَارَ شَوَاهِدِهِ فَإِنْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ سَقَطَتِ الْيَمِينُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَزُل الرِّيبَةُ وَأَرَادَ وَلِيُّ الأَْمْرِ الإِْحْلاَفَ عَلَى ذَلِكَ أَحْلَفَ الْعَامِل دُونَ
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأسد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 365) من حديث أبي حميد الساعدي.

(36/178)


كَاتِبِ الدِّيوَانِ، لأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى الْعَامِل دُونَ الْكَاتِبِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْحِسَابِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ اخْتِلاَفُهُمَا فِي دَخْلٍ فَالْقَوْل فِيهِ قَوْل الْعَامِل لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلاَفُهُمَا فِي خَرَاجٍ فَالْقَوْل فِيهِ قَوْل الْكَاتِبِ لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ.
وَإِنْ كَانَ اخْتِلاَفُهُمَا فِي مِسَاحَةٍ يُمْكِنُ إِعَادَتُهَا اعْتُبِرَتْ بَعْدَ الاِخْتِلاَفِ وَعُمِل فِيهَا عَلَى مَا يَخْرُجُ بِصَحِيحِ الاِعْتِبَارِ (1) .

خَامِسًا: مُحَاسَبَةُ الأُْمَنَاءِ
7 - قَال ابْنُ أَبِي الدَّمِ: عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الأُْمَنَاءِ وَيُحَاسِبَهُمْ عَلَى مَا هُمْ مُبَاشِرُوهُ (2) .
وَقَال السِّمْنَانِيُّ: إِذَا حُوسِبَ الأُْمَنَاءُ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَال الْيَتَامَى فَمَنْ كَانَ الْقَاضِي أَقَامَهُ قُبِل قَوْلُهُ فِيمَا يُقْبَل فِيهِ قَوْل الْوَصِيِّ، وَمَنْ لَمْ يُقِمْهُ الْقَاضِي وَصِيًّا وَإِنَّمَا جَعَلَهُ قَيِّمًا فِي الضَّيْعَةِ وَقَابِضًا وَأَنْ يُنْفِقَ عَلَى الْيَتِيمِ فِي كُل شَهْرٍ كَذَا قُبِل قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الضَّيْعَةِ إِذَا كَانَ مِثْل ذَلِكَ يُنْفَقُ فِي الْمُدَّةِ، وَفِيمَا صَارَ فِي يَدِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالأَْثْمَانِ، وَإِنِ اتُّهِمَ أَحَدٌ مِنْهُمُ اسْتُحْلِفَ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص217 - 218، والأحكام السلطانية للفراء ص256.
(2) أدب القضاة ص122.
(3) روضة القضاة 1 / 141.

(36/178)


سَادِسًا: مُحَاسَبَةُ الْوَصِيِّ وَإِجْبَارُهُ عَلَى تَقْدِيمِ بَيَانٍ
8 - إِذَا عُرِفَ الْوَصِيُّ بِالأَْمَانَةِ وَكَبِرَ الْوَرَثَةُ وَأَخْبَرَ وَصِيُّهُمْ بِأَنَّهُ أَنْفَقَ كُل مَا خَلَّفَهُ أَبُوهُمْ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى ضِيَاعِهِمْ، أَوْ قَال لَهُمْ مَا بَقِيَ عِنْدِي مِنْهُ إِلاَّ هَذَا الْقَدْرُ، وَلَمْ يُفَسِّرِ الْحَال فَأَرَادُوا مُحَاسَبَتَهُ وَبَيَانَ مَصْرِفِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ هَل أَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ، وَطَلَبُوا مِنَ الْحَاكِمِ الْمُحَاسَبَةَ، أَوْ طَلَبَ الْحَاكِمُ نَفْسُهُ ذَلِكَ فَلَهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَا لِلْحَاكِمِ لَكِنْ لَوِ امْتَنَعَ عَنْ إِعْطَائِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْل الْوَصِيِّ فِيمَا أَنْفَقَ فِي الصَّرْفِ لأَِنَّهُ إِمَّا أَمِينُهُمْ أَوْ أَمِينُ الْحَاكِمِ فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِيمَا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا أُجْبِرَ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ أَنْ يُحْضِرَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً وَيُخَوِّفَهُ فَإِنْ لَمْ يُفَسِّرْ لَمْ يَحْبِسْهُ بَل يَكْتَفِي بِيَمِينِهِ (1) .

سَابِعًا: مُحَاسَبَةُ مَنْ بِيَدِهِ التَّرِكَةُ مِنَ الْوَرَثَةِ
9 - إِذَا كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ يَحُوزُونَ التَّرِكَةَ أَوْ بَعْضًا مِنْهَا جَازَ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى مَا فِي يَدِهِمْ مِنَ التَّرِكَةِ وَنَمَائِهَا وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ بِالْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّةِ (2) .
__________
(1) الفتاوى المهدية 7 / 72 - 73، 114 - 115، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 305.
(2) الفتاوى المهدية 2 / 305 - 306.

(36/179)


مُحَاصَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحَاصَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرٌ، يُقَال: حَاصَّهُ مُحَاصَّةً وَحِصَاصًا، قَاسَمَهُ فَأَخَذَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ أَيْ نَصِيبَهُ.
وَتَحَاصَّ الْغُرَمَاءُ: اقْتَسَمُوا الْمَال بَيْنَهُمْ حِصَصًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: لَوْ ضَاقَ الْوَقْفُ عَنْ مُسْتَحِقِّيهِ لَمْ يُقَدَّمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بَل يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْمُحَاصَّةِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِسْمَةُ:
2 - الْقِسْمَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ اقْتِسَامِ الشَّيْءِ، يُقَال: اقْتَسَمَ الْقَوْمُ الشَّيْءَ بَيْنَهُمْ: أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ مِنْهُ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى النَّصِيبِ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية القليوبي 3 / 110، والشرح الكبير للدردير 3 / 271.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.

(36/179)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ جَمْعُ نَصِيبٍ شَائِعٍ فِي مُعَيَّنٍ (1) ، أَوْ هِيَ: تَمْيِيزُ الْحِصَصِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُحَاصَّةِ وَالْقِسْمَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُحَاصَّةِ لأَِنَّ الْمُحَاصَّةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَفِ الْمَال بِالْحُقُوقِ وَإِنْ كَانَ الاِثْنَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي التَّقْسِيمِ وَالإِْفْرَازِ.

ب - الْعَوْل:
3 - الْعَوْل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَال يَعُول، وَمِنْ مَعَانِيهِ الاِرْتِفَاعُ وَالزِّيَادَةُ وَالْمَيْل إِلَى الْجَوْرِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: زِيَادَةُ السِّهَامِ عَلَى الْفَرِيضَةِ فَتَعُول الْمَسْأَلَةُ إِلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَيَدْخُل النُّقْصَانُ عَلَى أَهْل الْفَرِيضَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُحَاصَّةِ وَالْعَوْل أَنَّ كُلًّا مِنَ الْغَرِيمِ فِي الْقِسْمَةِ بِالْمُحَاصَّةِ، وَالْوَارِثِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَائِلَةِ آخِذٌ أَقَل مِنْ حَقِّهِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَاصَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَاصَّةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

مُحَاصَّةُ الْغُرَمَاءِ مَال الْمُفْلِسِ
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حُجِرَ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ - وَهُوَ الَّذِي أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ -
__________
(1) الكفاية شرح الهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 347.
(2) نهاية المحتاج 8 / 269.
(3) لسان العرب.
(4) قواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.

(36/180)


فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يَتَحَاصُّونَ فِي مَالِهِ يُوَزِّعُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ دَيْنِ كُلٍّ مِنْهُمْ (1) .
قَال الدَّرْدِيرُ: تُقْسَمُ أَمْوَال الْمُفْلِسِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِنِسْبَةِ الدُّيُونِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَأْخُذُ كُل غَرِيمٍ مِنْ مَال الْمُفْلِسِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ بِأَنْ تُجْمَعَ الدُّيُونُ وَيُنْسَبَ كُل دَيْنٍ إِلَى الْمَجْمُوعِ فَيَأْخُذُ كُل غَرِيمٍ مِنْ مَال الْمُفْلِسِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ فَإِذَا كَانَ لِغَرِيمٍ عِشْرُونَ وَلآِخَرَ ثَلاَثُونَ وَلآِخَرَ خَمْسُونَ فَالْمَجْمُوعُ مِائَةٌ، وَنِسْبَةُ الْعِشْرِينَ لَهَا خُمْسٌ، وَنِسْبَةُ الثَّلاَثِينَ لَهَا خُمْسٌ وَعَشْرٌ، وَنِسْبَةُ الْخَمْسِينَ لَهَا نِصْفٌ، فَإِذَا كَانَ مَال الْمُفْلِسِ عِشْرِينَ أَخَذَ صَاحِبُ الْخَمْسِينَ نِصْفَهَا عَشَرَةً، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الثَّلاَثِينَ خُمْسَهَا وَعُشْرَهَا سِتَّةً، وَصَاحِبُ الْعِشْرِينَ خُمُسَهَا أَرْبَعَةً.
وَيَحْتَمِل طَرِيقًا آخَرَ: وَهِيَ نِسْبَةُ مَال الْمُفْلِسِ لِمَجْمُوعِ الدُّيُونِ فَلَوْ كَانَ لِشَخْصٍ مِائَةٌ وَلآِخَرَ خَمْسُونَ، وَلآِخَرَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَمَال الْمُفْلِسِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَنِسْبَةُ مَال الْمُفْلِسِ لِمَجْمُوعِ الدُّيُونِ النِّصْفُ فَيَأْخُذُ كُل غَرِيمٍ نِصْفَ دَيْنِهِ (2) .
هَذَا إِذَا كَانَتِ الدُّيُونُ مِنْ جَنْسِ مَال
__________
(1) الاختيار 2 / 99، وحاشية الدسوقي 3 / 271، ومغني المحتاج 2 / 150، وكشاف القناع 3 / 432.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 271.

(36/180)


الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، كَمَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، قَالُوا: فَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُخَالِفَةً لِجِنْسِ مَال الْمُفْلِسِ وَصِفَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَبِيعُ مَال الْمُفْلِسِ وَيَقْسِمُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْغُرَمَاءِ مَنْ دَيْنُهُ مِنْ غَيْرِ جَنْسِ الأَْثْمَانِ، وَلَيْسَ فِي مَال الْمُفْلِسِ مِنْ جَنْسِهِ وَرَضِيَ الْغَرِيمُ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ مِنَ الأَْثْمَانِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ وَطَلَبَ جَنْسَ حَقِّهِ اشْتَرَى لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ الَّتِي آلَتْ إِلَيْهِ بِالْمُحَاصَّةِ مِنْ جَنْسِ دَيْنِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ عَلَى الْمُفْلِسِ دُيُونٌ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا نَقْدٌ وَبَعْضُهَا عَرْضٌ وَبَعْضُهَا طَعَامٌ بِأَنْ كَانَ لأَِحَدِ الْغُرَمَاءِ دَنَانِيرُ وَلآِخَرَ عُرُوضٌ وَلِبَعْضِهِمْ طَعَامٌ فَإِنَّ مَا خَالَفَ النَّقْدَ مِنْ مُقَوَّمٍ وَمِثْلِيٍّ يُقَوَّمُ يَوْمَ الْحِصَاصِ (أَيْ يَوْمَ قَسْمِ الْمَال) فَإِذَا كَانَ لِغَرِيمٍ مِائَةُ دِينَارٍ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَلِغَرِيمٍ آخَرَ عَرْضٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، وَلآِخَرَ طَعَامٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَمَال الْمُفْلِسِ مِائَةٌ فَإِنَّهَا تُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَثْلاَثًا فَيَأْخُذُ صَاحِبُ النَّقْدِ ثُلُثَهَا، وَلِكُل مِنْ صَاحِبَيِ الْعَرْضِ وَالطَّعَامِ الثُّلُثُ فَيُعْطِي لِصَاحِبِ النَّقْدِ مَنَابَهُ، وَيَشْتَرِي لِصَاحِبِ الْعَرْضِ عَرْضًا مِنْ صِفَةِ عَرْضِهِ بِمَا نَابَهُ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَشْتَرِي لَهُ طَعَامًا مِنْ صِفَةِ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 269 - 272، ومغني المحتاج 2 / 151، وكشاف القناع 3 / 432، والمغني 4 / 494.

(36/181)


طَعَامِهِ بِالثُّلُثِ الثَّالِثِ، وَيَجُوزُ مَعَ التَّرَاضِي أَخْذُ الثَّمَنِ إِنْ خَلاَ مِنْ مَانِعٍ.
هَذَا تَفْصِيل الْمَالِكِيَّةِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَقُومَ الْغُرَمَاءُ بِتَفْلِيسِ الْمَدِينِ الَّذِي أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَقَسْمِ مَالِهِ بَيْنَهُمْ بِالْمُحَاصَّةِ دُونَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ (2) .

ظُهُورُ غَرِيمٍ بَعْدَ الْمُحَاصَّةِ:
5 - لَوْ تَحَاصَّ الْغُرَمَاءُ دَيْنَ الْمُفْلِسِ ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ فَلاَ تُنْقَضُ الْمُحَاصَّةُ وَيَرْجِعُ الْغَرِيمُ عَلَى الْغُرَمَاءِ بِقِسْطِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِفْلاَسٌ ف 53) .

مُحَاصَّةُ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ
6 - الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل يَحِل بِتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَصْحَابَ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ يُشَارِكُونَ أَصْحَابَ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ فِي الْمُحَاصَّةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِفْلاَسٌ ف 24) .
وَإِذَا
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 272، ومغني المحتاج 2 / 151، والمغني 4 / 494.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 263، 264.

(36/181)


وَجَدَ أَحَدُ الْغُرَمَاءِ عَيْنَ مَالِهِ الَّتِي بَاعَهَا لِلْمُفْلِسِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَجَازَ لَهُ أَنْ يُحَاصِصَ الْغُرَمَاءَ بِثَمَنِ الْعَيْنِ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ أَفْلَسَ، وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ، صُورَتُهُ: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا وَقَبَضَهُ فَلَمْ يُؤَدِّ ثَمَنَهُ حَتَّى أَفْلَسَ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ هَذَا الشَّيْءِ فَادَّعَى الْبَائِعُ بِأَنَّهُ أَحَقُّ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَادَّعَى الْغُرَمَاءُ التَّسْوِيَةَ فِي ثَمَنِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ إِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ كُلُّهَا حَالَّةً، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مُؤَجَّلاً، وَبَعْضُهَا حَالًّا يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ حَلَّتْ دُيُونُهُمْ، ثُمَّ إِذَا حَل الأَْجَل شَارَكَهُمْ أَصْحَابُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ فِيمَا قَبَضُوا بِالْحِصَصِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُقْبَضِ الْمَبِيعُ ثُمَّ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَوْلَى بِثَمَنِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ (3) .
وَلِرُجُوعِ الْغَرِيمِ فِي عَيْنِ مَالِهِ شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ شَرْطًا فَإِنْ تَخَلَّفَ
__________
(1) المغني 4 / 453، والدسوقي 3 / 283، ومغني المحتاج 2 / 158.
(2) حديث: " من أدرك ماله بعينه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 63) ومسلم (3 / 1193) من حديث أبي هريرة.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 64.

(36/182)


شَرْطٌ مِنْهَا فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ مَالِهِ وَإِنَّمَا يُحَاصِصُ الْغُرَمَاءَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِفْلاَسٌ ف 28 - 39)

مُحَاصَّةُ الْوَرَثَةِ تَرِكَةَ مُوَرِّثِهِمْ
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ شَرْعًا تَزِيدُ عَلَى أَصْل التَّرِكَةِ الْمُقَدَّرِ بِالْوَاحِدِ الصَّحِيحِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ التَّرِكَةَ لاَ تَفِي أَصْحَابَ الْفُرُوضِ، فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ فَرْضًا، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثَ فَرْضًا، وَلِلأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفَ فَرْضًا، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ زَادَتِ الْفُرُوضُ عَنْ أَصْل التَّرِكَةِ (أَيِ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ) وَهُنَا قَدْ تُسَاوَى الْوَرَثَةُ فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ أَمَرَ بِإِلْحَاقِ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا لَمْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِيرَاثِ فَيَأْخُذُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ حَقِّهِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَحَل، فَإِنْ ضَاقَ الْمَحَل تَحَاصُّوا - كَالْغُرَمَاءِ - فِي التَّرِكَةِ وَلاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ حَقِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ بِنَصٍّ ثَابِتٍ (1) .
__________
(1) شرح السراجية ص99، 100 ط. مصطفى الحلبي، والعذب الفائض 1 / 160 - 164، والفواكه الدواني 2 / 300، 301. وحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإلحاق الفرائض بأهلها. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 11) ومسلم (3 / 1233) من حديث ابن عباس.

(36/182)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَوْلٌ ف 3، وَإِرْثٌ ف 56 وَمَا بَعْدَهَا) .

مُحَاصَّةُ الْغُرَمَاءِ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ
8 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَوْ قُسِمَ مَال التَّرِكَةِ فَظَهَرَ غَرِيمٌ يَجِبُ إِدْخَالُهُ فِي الْقِسْمَةِ شَارَكَ بِالْحِصَّةِ وَلَمْ تُنْقَضِ الْقِسْمَةُ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُل بِذَلِكَ، وَقِيل تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ كَمَا لَوِ اقْتَسَمَتِ، الْوَرَثَةُ ثُمَّ ظَهَرَ وَارِثٌ آخَرُ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تُنْقَضُ عَلَى الأَْصَحِّ، قَال الرَّمْلِيُّ: وَفُرِّقَ الأَْوَّل بِأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ فِي عَيْنِ الْمَال بِخِلاَفِ حَقِّ الْغَرِيمِ فَإِنَّهُ فِي قِيمَتِهِ وَهُوَ يَحْصُل بِالْمُشَارَكَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الدُّيُونُ فَالْغُرَمَاءُ يَقْسِمُونَ التَّرِكَةَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ بِالْحِصَصِ، وَلَوْ تَوِيَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ قَبْل الْقِسْمَةِ اقْتَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَيُجْعَل التَّاوِي كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلاً، لأَِنَّ حَقَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَلَّقَ بِكُل جُزْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ (2) .
وَلَوْ وَقَعَتِ الْقِسْمَةُ ثُمَّ ظَهَرَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ مُحِيطٌ وَلَمْ تُوَفَّ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ وَلَمْ يُبْرِئِ الْغُرَمَاءَ رُدَّتِ الْقِسْمَةُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 316 - 317، وكشاف القناع 3 / 438.
(2) بدائع الصنائع 7 / 226.

(36/183)


وَكَذَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُحِيطٍ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ مَا يَفِي مِنَ الدُّيُونِ وَرَاءَ مَا قُسِمَ، لأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ فِي إِيفَاءِ حَقِّهِمْ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ أَدَّاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ جَازَتِ الْقِسْمَةُ، أَيْ تَبَيَّنَ جِوَازُهَا سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا أَوْ غَيْرَ مُحِيطٍ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَال بِخِلاَفِ مَا إِذَا ظَهَرَ لَهُ وَارِثٌ أَوِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَقَالَتْ: الْوَرَثَةُ نَحْنُ نَقْضِي حَقَّهُمَا، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تُنْقَضُ إِنْ لَمْ يَرْضَ الْوَارِثُ أَوِ الْمُوصَى لَهُ، لأَِنَّ حَقَّهُمَا فِي عَيْنِ التَّرِكَةِ فَلاَ يَنْتَقِل إِلَى مَالٍ آخَرَ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قُسِمَ مَال الْمَيِّتِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا الْمَال، قَال مَالِكٌ فِي رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا فَقُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ثُمَّ قَدِمَ قَوْمٌ فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى دَيْنٍ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ وَقَدْ أُعْدِمَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ الأَْوَّلِينَ الَّذِينَ أَخَذُوا دَيْنَهُمْ قَال مَالِكٌ: يَكُونُ لِهَؤُلاَءِ الَّذِينَ قَدِمُوا فَأَحْيَوْا عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ دَيْنًا أَنْ يَتَّبِعُوا كُل وَاحِدٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ بِمَا يَصِيرُ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِمْ إِذَا فُضَّ دَيْنُهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ قَبَضُوا دَيْنَهُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْمُحَاصَّةِ فِي مَال الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ لِهَؤُلاَءِ الَّذِينَ
__________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 376.

(36/183)


أَحْيَوْا عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ دَيْنًا أَنْ يَأْخُذُوا كُل مَا وَجَدُوا فِي يَدِ هَذَا الْغَرِيمِ مِنْ مَال الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْلَفْ مَا اقْتَضَى مِنْ دَيْنِهِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا مِقْدَارَ مَا يَصِيرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَّبِعُونَ بَقِيَّةَ الْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ لَهُمْ عَلَى كُل رَجُلٍ مِنْهُمْ مِمَّا اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ أَبَدًا إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَال الْمَيِّتِ الَّذِي أَخَذَهُ الْغُرَمَاءُ وَيُنْظَرُ إِلَى دَيْنِ الْغُرَمَاءِ الأَْوَّلِينَ وَدَيْنِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَحْيَوْا دَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ مَال الْمَيِّتِ بِالْحِصَصِ، فَمَا صَارَ لِهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَحْيَوْا عَلَى الْمَيِّتِ الدَّيْنَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا أُولَئِكَ الْغُرَمَاءَ الَّذِينَ قَبَضُوا دَيْنَهُمْ، قَبْل أَنْ يَعْلَمُوا بِهَؤُلاَءِ، وَلاَ يَتَّبِعُونَ كُل أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلاَّ بِمَا أَخَذَ مِنَ الْفَضْل عَلَى حَقِّهِ فِي الْمُحَاصَّةِ، وَيَتَّبِعُونَ الْعَدِيمَ وَالْمَلِيءَ بِمَا يَصِيرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضْل الَّذِي أَخَذُوا حَيْنَ وَقَعَتِ الْمُحَاصَّةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَحْيَوْا دَيْنَهُمْ (1) .
وَرُجُوعُ الْغَرِيمِ الطَّارِئُ عَلَى الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا الْمَال إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ مُشْتَهِرًا بِالدِّينِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْوَارِثُ أَوِ الْوَصِيُّ بِبَعْضِ الْغُرَمَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مُشْتَهِرًا بِالدَّيْنِ أَوْ عَلِمَ الْوَارِثُ أَوِ الْوَصِيُّ بِبَعْضِ الْغُرَمَاءِ فَتَعَدَّى الْوَارِثُ أَوِ الْوَصِيُّ وَأَقْبَضَ
__________
(1) المدونة 5 / 484، 485.

(36/184)


التَّرِكَةَ لِبَعْضِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنَّ الطَّارِئَ مِنَ الْغُرَمَاءِ يَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ عَلَى الْوَصِيِّ فَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ حَقِّهِ لِتَعَدِّيهِ بِالْقَسْمِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَارِثُ أَوِ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ قَبَضُوا أَوَّلاً بِقَدْرِ مَا أَخَذَ هَذَا الطَّارِئُ مِنْهُ (1) .
9 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُلُول الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل بِالْمَوْتِ أَوْ عَدَمِ حُلُولِهِ فَقَال بَعْضُهُمْ: يَحِل، وَقَال آخَرُونَ: لاَ يَحِل.
وَالتَّفْصِيل فِي (أَجَلٌ ف 95، وَتَرِكَةٌ ف 24) .

10 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا وَجَدَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ عَيْنَ مَالِهِ فِي التَّرِكَةِ كَمَنْ بَاعَ شَيْئًا وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي وَكَانَتِ الدُّيُونُ تُحِيطُ بِالتَّرِكَةِ، فَهَل لِهَذَا الْغَرِيمِ أَخْذُ عَيْنِ مَالِهِ أَمْ يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَيَتَحَاصُّونَ جَمِيعًا؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْغَرِيمَ الَّذِي وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فِي التَّرِكَةِ لاَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا بَل يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَيَتَحَاصَصْ مَعَهُمْ بِالثَّمَنِ الَّذِي لَهُ؛ لأَِنَّ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ قَدْ خَرِبَتْ بِالْمَوْتِ (2) .
__________
(1) الخرشي 5 / 274.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 44 والمبسوط 18 / 27 - 28، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 282، والخرشي 5 / 281، وكشاف القناع 3 / 426، والمغني 4 / 502.

(36/184)


وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ لاَ تَفِي بِالدِّينِ فَالْغَرِيمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال فِي رَجُلٍ أَفْلَسَ: هَذَا الَّذِي قَضَى فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ (2) ، فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ تَفِي بِالدَّيْنِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لأَِنَّ الْمَال يَفِي بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ كَالْحَيِّ الْمَلِيءِ، وَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (3) .
__________
(1) حديث: " أيما رجل باع متاعًا فأفلس. . ". أخرجه أبو داود (3 / 791 - 792) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث مرسلاً.
(2) حديث: " أيما رجل مات أو أفلس. . ". أخرجه الدارقطني (3 / 29) من حديث أبي هريرة وقد ضعفه الشوكاني في نيل الأوطار (5 / 242) .
(3) المهذب 1 / 334.

(36/185)


الْمُحَاصَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ
11 - مَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا تَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ يُجِزِ الْوَرَثَةُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَكَانَ الثُّلُثُ يَضِيقُ بِالْوَصَايَا فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُمْ يَتَحَاصُّونَ فِي مِقْدَارِ ثُلُثِ التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ مَا لِكُل مِنْهُمْ، فَيَدْخُل النَّقْصُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ، فَمَنْ أَوْصَى لِرَجُل بِثُلُثِ مَالِهِ وَلآِخَرَ بِالسَّدْسِ وَلَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا كَمَا فِي أَصْحَابِ الدُّيُونِ الَّذِينَ يَتَحَاصُّونَ مَال الْمُفْلِسِ، وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَصِيَّةٌ) .

مُحَاطَّةٌ

انْظُرْ: وَضِيعَةٌ

مُحَاقَلَةٌ

انْظُرْ: بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 374، وتكملة فتح القدير 9 / 368، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 427، والفواكه الدواني 2 / 191، والمدونة 6 / 51، 54، ومغني المحتاج 3 / 48، وكشاف القناع 4 / 340، والمغني 6 / 159.

(36/185)


مَحَبَّةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَحَبَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل إِلَى الشَّيْءِ السَّارِّ.
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْمَحَبَّةُ إِرَادَةُ مَا تَرَاهُ أَوْ تَظُنُّهُ خَيْرًا، وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: مَحَبَّةٌ لِلَّذَّةٍ كَمَحَبَّةِ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ، وَمَحَبَّةٌ لِلنَّفْعِ كَمَحَبَّةِ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (1) ، وَمَحَبَّةٌ لِلْفَضْل كَمَحَبَّةِ أَهْل الْعِلْمِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ لأَِجْل الْعِلْمِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَوَدَّةُ:
2 - الْمَوَدَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَحَبَّةُ الشَّيْءِ وَتَمَنِّي كَوْنِهِ، وَيُسْتَعْمَل فِي كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّي يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوُدِّ؛ لأَِنَّ التَّمَنِّيَ هُوَ
__________
(1) سورة الصف / 13.
(2) المفردات للأصفهاني والمعجم الوسيط، وتفسير القرطبي 4 / 59 - 60، 11 / 160 - 161.

(36/186)


تَشَهِّي حُصُول مَا تَوَدُّهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، أَنَّ الْحُبَّ يَكُونُ فِيمَا يُوجِبُهُ مَيْل الطِّبَاعِ وَالْحِكْمَةِ جَمِيعًا، وَالْوُدُّ مِنْ جِهَةِ مَيْل الطِّبَاعِ فَقَطْ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَالْمَحَبَّةُ أَعَمُّ مِنَ الْمَوَدَّةِ.

ب - الْعِشْقُ:
3 - الْعِشْقُ فِي اللُّغَةِ: الإِْغْرَامُ بِالنِّسَاءِ وَالإِْفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْعِشْقِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَعَمُّ مِنَ الْعِشْقِ.

ج - الإِْرَادَةُ:
4 - الإِْرَادَةُ فِي الأَْصْل قُوَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَهْوَةٍ وَحَاجَةٍ وَأَمَلٍ، وَجُعِل اسْمًا لِنَزُوعِ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ مَعَ الْحُكْمِ فِيهِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَل أَوْ لاَ يُفْعَل، ثُمَّ يُسْتَعْمَل مَرَّةً فِي الْمَبْدَأِ وَهُوَ نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، وَتَارَةً فِي الْمُنْتَهَى وَهُوَ الْحُكْمُ فِيهِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَل، أَوْ لاَ يُفْعَل.
وَقَدْ تُذْكَرُ الإِْرَادَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْقَصْدُ (4) ،
__________
(1) سورة الروم / 21.
(2) الفروق اللغوية / 99، والمفردات للأصفهاني والمعجم الوسيط.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والفروق اللغوية / 99.
(4) المصادر السابقة، والمفردات لمعاني القرآن.

(36/186)


وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَْرْضِ} (1) أَيْ لاَ يَقْصِدُونَهُ وَلاَ يَطْلُبُونَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالإِْرَادَةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَعَمُّ مِنَ الإِْرَادَةِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحَبَّةِ:
أ - مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
5 - أَجَمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ حُبَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحُبَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ شُرُوطِ الإِْيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (3) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُهُ بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ (4) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ
__________
(1) سورة القصص / 83.
(2) سورة البقرة / 165.
(3) سورة المائدة / 54.
(4) حديث: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 58) ، من حديث أبي هريرة.

(36/187)


حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (1) .
كَمَا أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنْجَاةٌ مِنَ النَّارِ وَمُوجِبَةٌ لِلْجَنَّةِ (2) لِحَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَال لَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا؟ قَال: حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَال: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ (3) .

ب - مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ أَفْضَل الأَْعْمَال الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ حُبَّ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَهْل الْعَدْل وَالْخَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (4) .
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} (5)
__________
(1) حديث: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 58) ، ومسلم (1 / 67) من حديث أنس بن مالك.
(2) إحياء علوم الدين 4 / 428 وما بعدها، وتفسير القرطبي 4 / 60 وما بعدها، وشرح العقيدة الطحاوية / 294، والآداب الشرعية 1 / 173، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 2 / 233.
(3) حديث الأعرابي الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: " متى الساعة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 557) ومسلم (4 / 2032) من حديث أنس والرواية الثانية أخرجها مسلم كذلك.
(4) سورة الكهف / 28.
(5) سورة الحشر / 9.

(36/187)


وَلِحَدِيثِ: قِيل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُل يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَال: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ (1) ".
وَلِحَدِيثِ: ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِْيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ (2) .
كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُبْغِضَ أَهْل الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَإِنَّ عَلَى الْمُحِبِّ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّ مَحْبُوبُهُ وَيُبْغِضَ مَا يُبْغِضُ مَحْبُوبُهُ، لِحَدِيثِ: وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ (3) .

ج - عَلاَمَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ
7 - قَال الْعُلَمَاءُ إِنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَنْ يَضَعَ لَهُ الْقَبُول فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَأَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَأَنْ يَقْبَل تَوْبَتَهُ، وَأَنْ يَتَوَلاَّهُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يَحْفَظَ جَوَارِحَهُ وَأَعْضَاءَهُ حَتَّى
__________
(1) حديث: " المرء مع من أحب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 557) ومسلم (4 / 2034) من حديث ابن مسعود.
(2) حديث: " ثلاث من كن فيه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 60) ومسلم (1 / 66) من حديث أنس.
(3) إحياء علوم الدين 4 / 436، ودليل الفالحين 2 / 231، 246 وما بعدها، والعقيدة الطحاوية / 383.

(36/188)


يُقْلِعَ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَيَسْتَغْرِقَ فِي الطَّاعَاتِ بِجَعْلِهِ لَهُ وَاعِظًا مِنْ نَفْسِهِ وَزَاجِرًا مِنْ قَلْبِهِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَل لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (3) الآْيَةَ وَلِلْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُِعِيذَنَّهُ (4) .
وَلِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيل: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيل ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيل فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْل السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُول فِي أَهْل الأَْرْضِ وَفِي رِوَايَةٍ:. . . وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَيَقُول: إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ، قَال: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيل، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْل السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ، قَال: فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَْرْضِ (5) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 473 - 476، وتفسير القرطبي 4 / 59، وما بعدها، 11 / 160 - 161، دليل الفالحين 2 / 260، وما بعدها، الآداب الشرعية 1 / 173.
(2) سورة مريم / 96.
(3) سورة المائدة / 54.
(4) الحديث القدسي: " ما تقرب إلى عبدي بشيء. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 341) من حديث أبي هريرة.
(5) المصادر السابقة، وانظر الآداب الشرعية 1 / 173، وحديث: " إذا أحب الله العبد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 461) ومسلم (4 / 2030) من حديث أبي هريرة، والرواية الثانية لمسلم.

(36/188)


د - مَحَبَّةُ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ أَوْ أَحَدِ الأَْوْلاَدِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُؤَاخَذُ إِذَا مَال قَلْبُهُ إِلَى إِحْدَى زَوْجَاتِهِ وَأَحَبَّهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَذَا إِذَا أَحَبَّ أَحَدَ أَوْلاَدِهِ أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِينَ؛ لأَِنَّ الْمَحَبَّةَ مِنَ الأُْمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ فِيهَا خِيَارٌ وَلاَ قُدْرَةٌ لَهُ عَلَى التَّحَكُّمِ فِيهَا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ فَيَعْدِل وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ (1) ، قَال التِّرْمِذِيُّ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ - يَعْنِي بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ.
وَقَال الصَّنْعَانِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ، وَمَيْل الْقَلْبِ أَمْرٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ بَل هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ.
وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَضِّل الْمَحْبُوبَ عَلَى
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لنسائه. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 437) وصوب إرساله.

(36/189)


غَيْرِهِ بِالْعَطَايَا، أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الإِْنْسَانُ بِغَيْرِ مُسَوِّغٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُل الْمَيْل فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (1) .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيل لإِِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ (2) ، قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ الْمَيْل فِي الْقَسْمِ وَالإِْنْفَاقِ لاَ فِي الْمَحَبَّةِ، لِمَا عَرَفْتْ مِنْ أَنَّهَا مِمَّا لاَ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ (3) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأَْوْلاَدِ بِالْعَطَايَا وَنَحْوِهَا لِبَشِيرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَكُل وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ قَال: لاَ. قَال: فَأَرْجِعْهُ وَفِي رِوَايَةٍ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْل هَذَا؟ قَال: لاَ قَال فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ، وَفِي ثَالِثَةٍ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْل هَذَا؟ قَال: قَال: فَلاَ تُشْهِدْنِي إِذَنْ فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ (4) .
__________
(1) سورة النساء / 128.
(2) حديث: " من كان له امرأتان. . . ". أخرجه النسائي (7 / 63) والحاكم (2 / 186) من حديث أبي هريرة واللفظ للنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) سبل السلام 3 / 311، ومغني المحتاج 2 / 401، 3 / 251 والمغني 7 / 27، 35، وابن عابدين 2 / 98، والفواكه الدواني 2 / 45 - 46.
(4) حديث بشير: " أكل ولدك نحلت مثله. . . ". أخرج الروايتين الأولى والثانية البخاري (فتح الباري 5 / 211) ، وأخرج مسلم (3 / 1243) الرواية الثالثة.

(36/189)


هـ - مَحَبَّةُ أَهْل الْبَيْتِ
9 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ مَحَبَّةَ أَهْل بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَلاَءَ لَهُمْ مَطْلُوبَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَحَبَّتَهُمْ مِنْ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مِقْدَارِهِمْ وَتَوْقِيرَهُمْ وَحُرْمَتَهُمْ وَرِعَايَةَ مَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَالْبِرِّ لَهُمْ وَالنُّصْرَةِ لَهُمْ كَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْجَنَّةِ.
كَمَا أَنَّ بُغْضَهُمْ أَوْ كُرْهَهُمْ مَعْصِيَةٌ تُؤَدِّي بِأَصْحَابِهَا إِلَى النَّارِ، وَالأَْدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (1) ، أَيْ: لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا إِلاَّ أَنْ تَوَدُّوا قَرَابَتِي وَأَهْل بَيْتِي.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ: مِنْ قَرَابَتُكَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ وَجَبَتْ عَلَيْنَا مَوَدَّتُهُمْ؟ قَال: عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَأَبْنَاؤُهُمَا (2) .
__________
(1) سورة الشورى / 23.
(2) تفسير القرطبي 16 / 20 - 23، فتح الباري 8 / 564 - 565، الشفا 2 / 573، 605 وما بعدها، دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 2 / 195 - 202، والقوانين الفقهية / 21. وحديث: لما نزلت (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى) . أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11 / 444) وضعف إسناده السيوطي في الدر المنثور (7 / 348) .

(36/190)


وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ، رَسُول رَبِّي فَأُجِيبُ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ - قَال الرَّاوِي - فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَال: وَأَهْل بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْل بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْل بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْل بَيْتِي (1) .
وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانِ يُحِبُّونَ أَهْل الْبَيْتِ وَيُظْهِرُونَ وَلاَءَهُمْ وَاحْتِرَامَهُمْ لَهُمْ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَوَفَاءً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْل بَيْتِهِ: قَال النَّوَوِيُّ: أَيْ رَاعُوهُ وَاحْتَرِمُوهُ وَأَكْرِمُوهُ (2) .

و مَحَبَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
10 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَتَوْقِيرَهُمْ وَبِرَّهُمْ وَالْوَلاَءَ لَهُمْ وَمُعْرِفَةَ حَقِّهِمْ مَطْلُوبَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْفَضْل السَّابِقِ إِلَى الإِْيمَانِ وَالْهِجْرَةِ (3) .
__________
(1) حديث: " أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر. . ". أخرجه مسلم (4 / 1873) من حديث زيد بن أرقم.
(2) دليل الفالحين 2 / 202 - 203، والشفا 2 / 605 - 610، وتفسير القرطبي 16 / 23. وقول أبي بكر رضي الله عنه: " ارقبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته " أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 78) .
(3) فتح الباري 7 / 8 وما بعدها، وتفسير القرطبي 8 / 235 - 240، 17 / 240 - 242، 18 / 19، الشفا 2 / 615 وما بعدها.

(36/190)


وَقَال تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) .
مَحَبَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مَطْلُوبَةٌ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَقُّهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالاَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاتَّفَقَ أَهْل السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَل النَّاسِ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ (2) .
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَمَنِ انْتَقَصَ أَحَدًا مِنْهُمْ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَأَخَافُ أَنْ لاَ يَصْعَدَ لَهُ عَمَلٌ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى يُحِبَّهُمْ جَمِيعًا وَيَكُونَ قَلْبُهُ سَلِيمًا (3) .
__________
(1) سورة التوبة / 100.
(2) فتح الباري 7 / 16.
(3) الشفا 2 / 616.

(36/191)


أَمَّا مَحَبَّةُ الأَْنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَثِّ عَلَيْهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ لِمَا لَهُمْ فِي الإِْسْلاَمِ مِنَ الأَْيَادِي الْجَمِيلَةِ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي إِظْهَارِهِ وَإِيوَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيَامِهِمْ فِي مُهِمَّاتِ دِينِ الإِْسْلاَمِ حَقَّ الْقِيَامِ حُبُّهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ (1) .
وَمِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي حَقِّ الأَْنْصَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) .
وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الأَْنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ (3) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آيَةُ الإِْيمَانِ حُبُّ الأَْنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَْنْصَارِ (4) .
__________
(1) دليل الفالحين 2 / 254 - 255، والشفا 2 / 617، وفتح الباري 7 / 110 وما بعدها.
(2) سورة الحشر / 9.
(3) حديث: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 113) .
(4) حديث: " آية الإيمان حب الأنصار. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 62) من حديث أنس. وانظر فتح الباري 7 / 113 وما بعدها، وتفسير القرطبي 18 / 21، 26، والشفا 2 / 614 - 616.

(36/191)


ز - مَحَبَّةُ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
11 - قَال الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى (1) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَال: لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ (2) .
وَقَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مَحَبَّةَ لِقَاءِ اللَّهِ لاَ تَدْخُل فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرِّ نَزَل بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي (3) .
لأَِنَّ مَحَبَّةَ لِقَاءِ اللَّهِ مُمْكِنَةٌ مَعَ عَدَمِ تَمَنِّي الْمَوْتِ كَأَنْ تَكُونَ الْمَحَبَّةُ حَاصِلَةً لاَ يَفْتَرِقُ حَالُهُ فِيهَا بِحُصُول الْمَوْتِ، وَلاَ بِتَأَخُّرِهِ،
__________
(1) فتح الباري 11 / 357 - 361، وإحياء علوم الدين 4 / 675.
(2) حديث: " من أحب لقاء الله. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 357) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) حديث: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 127) ومسلم (4 / 2064) من حديث أنس واللفظ لمسلم.

(36/192)


وَأَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الاِحْتِضَارِ وَالْمُعَايَنَةِ فَلاَ تَدْخُل تَحْتَ النَّهْيِ بَل هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَمِثْلُهُ إِذَا تَمَنَّى الْمَوْتَ لِخَوْفِ فِتْنَةٍ فِي الدِّينِ، أَوْ لِتَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيل اللَّهِ أَوْ لِغَرَضٍ أُخْرَوِيٍّ آخَرَ (1) .

ح - عَلاَمَاتُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى
12 - قَال الْعُلَمَاءُ: مِنْ عَلاَمَاتِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَنْ يَتَنَعَّمَ بِالطَّاعَةِ وَلاَ يَسْتَثْقِلَهَا وَأَنْ يُؤْثِرَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَيَلْزَمَ مَشَاقَّ الْعَمَل وَيَجْتَنِبَ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَيُعْرِضَ عَنْ دَعَةِ الْكَسَل وَلاَ يَزَال مُوَاظِبًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَمُتَقَرِّبًا إِلَيْهِ بِالنَّوَافِل وَطَالِبًا عِنْدَهُ مَزَايَا الدَّرَجَاتِ كَمَا يَطْلُبُ الْمُحِبُّ مَزِيدَ الْقُرْبِ فِي قَلْبِ مَحْبُوبِهِ، وَلأَِنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لاَ يَعْصِيهِ كَمَا قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ:

تَعْصِي الإِْلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ

هَذَا لَعَمْرِي فِي الْفِعَال بَدِيعُ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأََطَعْتُهُ

إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ

قَال تَعَالَى: {قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (2) قَالُوا: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ قَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ نُحِبُّ رَبَّنَا، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّا
__________
(1) فتح الباري 11 / 360 - 361، وسبل السلام 2 / 184، 185، ومغني المحتاج 1 / 357، وإحياء علوم الدين 4 / 474 - 478.
(2) سورة آل عمران / 31.

(36/192)


لَنُحِبُّ رَبَّنَا، فَأَنْزَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل الآْيَةَ.
وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ طَاعَتُهُ لَهُمَا وَاتِّبَاعُهُ أَمْرَهُمَا (1) .

مَحْبُوسٌ

انْظُرْ: حَبْسٌ

مُحْتَسِبٌ

انْظُرْ: حِسْبَةٌ
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 60 - 61، 11 / 160 - 161، وإحياء علوم الدين 4 / 477 - 489.

(36/193)


مِحْرَابٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِحْرَابُ فِي اللُّغَةِ: الْغُرْفَةُ، وَصَدْرُ الْبَيْتِ وَأَكْرَمُ مَوَاضِعِهِ، وَمَقَامُ الإِْمَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَوْضِعُ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَلِكُ فَيَتَبَاعَدُ عَنِ النَّاسِ، وَالأَْجَمَةُ، وَعُنُقُ الدَّابَّةِ (1) .
قَال الْفَيُّومِيُّ: الْمِحْرَابُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ، وَيُقَال: هُوَ أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ، وَهُوَ حَيْثُ يَجْلِسُ الْمُلُوكُ وَالسَّادَاتُ وَالْعُظَمَاءُ وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمُصَلِّي (2) .
وَقَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدٍ: سُمِّيَ مِحْرَابًا لاِنْفِرَادِ الإِْمَامِ إِذَا قَامَ فِيهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْقَوْمِ (3) .
وَالْمِحْرَابُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَقَامُ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَالْجِهَةُ الَّتِي يُصَلِّي نَحْوَهَا الْمُسْلِمُونَ، قَال الطَّحْطَاوِيُّ، بَعْدَ تَعْرِيفِ الْقِبْلَةِ تَعْرِيفًا شَرْعِيًّا: وَتُسْمَى - أَيِ الْقِبْلَةُ - أَيْضًا مِحْرَابًا؛ لأَِنَّ مُقَابِلَهَا يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المصباح المنير.
(3) النظم المستعذب في شرح غريب المهذب، مع المهذب، 1 / 68.

(36/193)


وَالنَّفْسَ، أَيْ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِبْلَةُ:
2 - الْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجِهَةُ، يُقَال: لَيْسَ لِفُلاَنِ قِبْلَةٌ.
أَيْ جِهَةٌ، وَيُقَال: أَيْنَ قِبْلَتُكَ؟ أَيْ جِهَتُكَ، وَالْقِبْلَةُ أَيْضًا: وُجْهَةُ الْمَسْجِدِ وَنَاحِيَةُ الصَّلاَةِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْقِبْلَةُ صَارَتْ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةَ الْكَعْبَةِ لاَ يُفْهَمُ مِنْهَا غَيْرُهَا، سُمِّيَتْ قِبْلَةً لأَِنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَابِلُهَا (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالْقِبْلَةِ: أَنَّ الْمِحْرَابَ الَّذِي نُصِبَ بِاجْتِهَادِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ - فِي الْجُمْلَةِ - أَمَارَةً عَلَى الْقِبْلَةِ.

ب - الْمَسْجِدُ:
3 - الْمَسْجِدُ فِي اللُّغَةِ: بَيْتُ الصَّلاَةِ، وَمَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ، وَالْجَمْعُ مَسَاجِدُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الأَْرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا مَالِكُهَا مَسْجِدًا بِقَوْلِهِ: جَعَلْتُهَا مَسْجِدًا وَأَفْرَزَ طَرِيقَهُ وَأَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِيهِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالْمَسْجِدِ: أَنَّ
__________
(1) رد المحتار 1 / 434، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 114 والمصباح المنير.
(2) لسان العرب.
(3) مغني المحتاج 1 / 142.
(4) المصباح المنير، وقواعد الفقه.

(36/194)


الْمِحْرَابَ جُزْءٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَقَامُ الإِْمَامِ لِلصَّلاَةِ فِيهِ.

ج - الطَّاقُ:
4 - الطَّاقُ فِي اللُّغَةِ: مَا عُطِفَ مِنَ الأَْبْنِيَةِ وَجُعِل كَالْقَوْسِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمِحْرَابُ، وَالظُّلَّةُ الَّتِي عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ حَوْلَهُ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالطَّاقِ التَّرَادُفُ عَلَى الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ الأَْوَّل، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِنَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحَبَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي.

حُكْمُ اتِّخَاذِ الْمِحْرَابِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اتِّخَاذِ الْمِحْرَابِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ: اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ مُبَاحٌ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ، أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَارَهُ الآْجُرِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ تَمِيمٍ، لِيَسْتَدِل بِهِ الْجَاهِل، وَكَانَ أَحْمَدُ يَكْرَهُ كُل مُحْدَثٍ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْبَنَّاءِ عَلَيْهِ فَدَل عَلَى أَنَّهُ قَال بِهِ (3) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ اتِّخَاذَ الْمَحَارِيبِ فِي الْمَسْجِدِ
وَعِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَدُل عَلَى إِبَاحَتِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الإِْمَامَ - الرَّاتِبَ - لَوْ
__________
(1) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(2) فتح القدير 1 / 359، وقواعد الفقه.
(3) كشاف القناع 1 / 493، وتحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد للجراعي ص234.

(36/194)


تَرَكَ الْمِحْرَابَ وَقَامَ فِي غَيْرِهِ يُكْرَهُ وَلَوْ كَانَ قِيَامُهُ وَسَطَ الصَّفِّ لأَِنَّهُ خِلاَفُ عَمَل الأُْمَّةِ (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الإِْمَامَ يَقُومُ فِي الْمِحْرَابِ حَال صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ كَيْفَ اتَّفَقَ (2) .

أَوَّل مَنِ اتَّخَذَ الْمِحْرَابَ
6 - لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ مِحْرَابٌ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ فِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَأَوَّل مَنِ اتَّخَذَ الْمِحْرَابَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَحْدَثَهُ وَهُوَ عَامِل الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عِنْدَمَا أَسَّسَ مَسْجِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَدَمَهُ وَزَادَ فِيهِ، وَكَانَ هَدْمُهُ لِلْمَسْجِدِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ لِلْهِجْرَةِ، وَقِيل سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَفَرَغَ مِنْهُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ - وَهُوَ أَشْبَهُ - وَفِيهَا حَجَّ الْوَلِيدُ (3) .
وَيَعْنِي بِمِحْرَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَلاَّهُ وَمَوْقِفُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْمِحْرَابَ الْمَعْرُوفَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .

تَزْوِيقُ الْمِحْرَابِ وَوَضْعُ مُصْحَفٍ فِيهِ
7 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَزْوِيقُ مِحْرَابِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 434.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 331.
(3) تحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد ص136 - 234 وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1 / 370، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص263.
(4) المجموع 3 / 203، ومغني المحتاج 1 / 146، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1 / 383.

(36/195)


الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ فِيهِ، بِخِلاَفِ تَجْصِيصِهِ فَيُسْتَحَبُّ، وَتَعَمُّدُ مُصْحَفٍ فِي الْمِحْرَابِ أَيْ جَعْلُهُ فِيهِ عَمْدًا لِيُصَلِّيَ لَهُ، أَيْ إِلَى جِهَةِ الْمُصْحَفِ أَوْ لِيُصَلِّيَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ الْمُصْحَفُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ لَمْ تُكْرَهِ الصَّلاَةُ لِجِهَتِهِ.
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ - أَيْ مِحْرَابِهِ - آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَرْدَفَ الزَّرْكَشِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجَوَّزَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (1) .
الآْيَةَ، وَلِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْل عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ بِمَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ (2) .

قِيَامُ الإِْمَامِ فِي الْمِحْرَابِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِيَامِ الإِْمَامِ فِي الْمِحْرَابِ أَثَنَاءَ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ الْقِيَامُ فِي الْمِحْرَابِ حَال صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ
__________
(1) سورة التوبة / 18.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 255، وإعلام الساجد بأحكام المساجد 337.

(36/195)


قِيَامِ الإِْمَامِ فِي الْمِحْرَابِ حَال صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقُومَ فِي غَيْرِ الْمِحْرَابِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ وُقُوفُ الإِْمَامِ فِي الْمِحْرَابِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ تَفْصِيلٌ: لَخَّصَ ابْنُ عَابِدِينَ اخْتِلاَفَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: حَاصِلُهُ أَنَّهُ صَرَّحَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالْكَرَاهَةِ وَلَمْ يُفَصِّل، فَاخْتَلَفَ الْمَشَائِخُ فِي سَبَبِهَا: فَقِيل: كَوْنُهُ يَصِيرُ مُمْتَازًا عَنْهُمْ فِي الْمَكَانِ؛ لأَِنَّ الْمِحْرَابَ فِي مَعْنَى بَيْتٍ آخَرَ، وَذَلِكَ صَنِيعُ أَهْل الْكِتَابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ وَقَال إِنَّهُ الأَْوْجَهُ.
وَقِيل: اشْتِبَاهُ حَالِهِ عَلَى مَنْ فِي يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ.
فَعَلَى الأَْوَّل يُكْرَهُ مُطْلَقًا، وَعَلَى الثَّانِي لاَ يُكْرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الاِشْتِبَاهِ.
وَأَيَّدَ الثَّانِيَ فِي الْفَتْحِ بِأَنَّ امْتِيَازَ الإِْمَامِ فِي الْمَكَانِ مَطْلُوبٌ، وَتَقَدُّمُهُ وَاجِبٌ، وَغَايَتُهُ اتِّفَاقُ الْمِلَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَارْتَضَاهُ فِي الْحِلْيَةِ وَأَيَّدَهُ.
لَكِنْ نَازَعَهُ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْكَرَاهَةُ مُطْلَقًا، وَبِأَنَّ امْتِيَازَ الإِْمَامِ الْمَطْلُوبِ حَاصِلٌ بِتَقَدُّمِهِ بِلاَ وُقُوفٍ فِي مَكَانٍ

(36/196)


آخَرَ، وَلِهَذَا قَال فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ وَغَيْرِهَا: إِذَا لَمْ يَضِقِ الْمَسْجِدُ بِمَنْ خَلْفَ الإِْمَامِ لاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ تَبَايُنَ الْمَكَانَيْنِ.
انْتَهَى، يَعْنِي وَحَقِيقَةُ اخْتِلاَفِ الْمَكَانِ تَمْنَعُ الْجَوَازَ فَشُبْهَةُ الاِخْتِلاَفِ تُوجِبُ الْكَرَاهَةَ، وَالْمِحْرَابُ وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَصُورَتُهُ وَهَيْئَتُهُ اقْتَضَتْ شُبْهَةَ الاِخْتِلاَفِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ لأَِنَّ الْمِحْرَابَ إِنَّمَا بُنِيَ عَلاَمَةً لِمَحَل قِيَامِ الإِْمَامِ لِيَكُونَ قِيَامُهُ وَسَطَ الصَّفِّ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ، لاَ لأَِنْ يَقُومَ فِي دَاخِلِهِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ بِقَاعِ الْمَسْجِدِ لَكِنْ أَشْبَهَ مَكَانًا آخَرَ فَأَوْرَثَ الْكَرَاهَةَ، لَكِنِ التَّشَبُّهُ إِنَّمَا يُكْرَهُ فِي الْمَذْمُومِ وَفِيمَا قُصِدَ بِهِ التَّشَبُّهُ لاَ مُطْلَقًا، وَلَعَل هَذَا مِنَ الْمَذْمُومِ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْبَحْرِ لِلرَّمْلِيِّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ بَابِ الإِْمَامَةِ: الأَْصَحُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: أَكْرَهُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ أَوْ زَاوِيَةٍ أَوْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى سَارِيَةٍ؛ لأَِنَّهُ بِخِلاَفِ عَمَل الأُْمَّةِ.
وَفِيهِ أَيْضًا: السُّنَّةُ أَنْ يَقُومَ الإِْمَامُ إِزَاءَ وَسَطِ الصَّفِّ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْمَحَارِيبَ مَا نُصِبَتْ إِلاَّ وَسَطَ الْمَسَاجِدِ وَهِيَ قَدْ عُيِّنَتْ لِمَقَامِ الإِْمَامِ.
وَفِي التَّتَارْخَانِيِّةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ فِي غَيْرِ الْمِحْرَابِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَمُقْتَضَاهُ: أَنَّ الإِْمَامَ لَوْ

(36/196)


تَرَكَ الْمِحْرَابَ وَقَامَ فِي غَيْرِهِ يُكْرَهُ، وَلَوْ كَانَ قِيَامُهُ وَسَطَ الصَّفِّ، لأَِنَّهُ خِلاَفُ عَمَل الأُْمَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الإِْمَامِ الرَّاتِبِ دُونَ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الإِْمَامَ يَقِفُ فِي الْمِحْرَابِ حَال صَلاَتِهِ الْفَرِيضَةَ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَقِيل: يَقِفُ خَارِجَهُ لِيَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ، وَيَسْجُدُ فِيهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي الْمِحْرَابِ وَلَمْ يَزَل عَمَل النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ الصَّلاَةُ فِي الْمِحْرَابِ إِذَا كَانَ يُمْنَعُ الْمَأْمُومُ مُشَاهَدَتَهُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ، لأَِنَّ الإِْمَامَ يَسْتَتِرُ عَنْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ، إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ كَضِيقِ الْمَسْجِدِ وَكَثْرَةِ الْجَمْعِ فَلاَ يُكْرَهُ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلاَ يُكْرَهُ سُجُودُ الإِْمَامِ فِي الْمِحْرَابِ إِذَا كَانَ وَاقِفًا خَارِجَهُ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَحَل مُشَاهَدَتِهِ، وَيَقِفُ الإِْمَامُ عَنْ يَمِينِ الْمِحْرَابِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ وَاسِعًا نَصًّا، لِتَمَيُّزِ جَانِبِ الْيَمِينِ.
__________
(1) رد المحتار 1 / 434.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 331، والشرح الصغير1 / 442.
(3) حاشية القليوبي 1 / 136، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 364.

(36/197)


وَنَقَل الْجِرَاعِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ وُقُوفُ الإِْمَامِ فِي الْمِحْرَابِ (1) .

تَنَفُّل الإِْمَامِ فِي الْمِحْرَابِ
9 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ التَّنَفُّل بِالْمِحْرَابِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ حَال كَوْنِهِ إِمَامًا، وَلأَِنَّهُ قَدْ يُوهِمُ غَيْرَهُ أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ فَيَقْتَدِيَ بِهِ.
وَقَالُوا: يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ الْجُلُوسُ فِي الْمِحْرَابِ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلاَةِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْكَرَاهَةِ بِتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ لِحَدِيثِ سَمُرَةِ بْنِ جُنْدَبٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَل عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ (2) ، أَيِ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ يَمِينًا أَوْ شِمَالاً وَلَمْ يَسْتَدْبِرِ الْقِبْلَةَ لِكَرَاهَةِ ذَلِكَ (3) .

دَلاَلَةُ الْمِحْرَابِ عَلَى الْقِبْلَةِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمِحْرَابَ مِنَ الأَْدِلَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْقِبْلَةُ، وَأَنَّهُ يُعْتَمَدُ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ أَوْ تَحَرِّيهَا مَعَ وُجُودِ الْمِحْرَابِ الْمُعْتَمَدِ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَيْهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
__________
(1) كشاف القناع 1 / 493، والمغني 2 / 219 - 220، وتحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد ص234.
(2) حديث سمرة بن جندب: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 33) .
(3) الشرح الصغير 1 / 442.

(36/197)


فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تُعْرَفُ الْقِبْلَةُ بِالدَّلِيل، وَهُوَ فِي الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ مَحَارِيبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمَحَارِيبُ الْقَدِيمَةُ، وَهِيَ لاَ يَجُوزُ تَحَرِّي الْقِبْلَةَ مَعَهَا، بَل تُعْتَمَدُ هَذِهِ الْمَحَارِيبُ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْقِبْلَةِ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ تَخْطِئَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَجَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَقَامُوا هَذِهِ الْمَحَارِيبَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُسْلِمُ الَّذِي يُرِيدُ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَلاَ مَا لَحِقَ بِهَا يَجْتَهِدُ فِي اسْتِقْبَال جِهَةِ الْكَعْبَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِأَنْوَارِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِجَامِعِ عَمْرٍو بِمِصْرَ الْعَتِيقَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِجْتِهَادُ الْمُؤَدِّي لِمُخَالَفَةِ مِحْرَابِهِمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مِحْرَابِهِمَا، لأَِنَّ مِحْرَابَ الْمَدِينَةِ بِالْوَحْيِ، وَمِحْرَابَ جَامِعِ عَمْرٍو بِإِجْمَاعِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوِ الثَّمَانِينَ، وَلاَ يُقَلِّدُ الْمُجْتَهِدُ مِحْرَابًا مَنْصُوبًا إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ إِلاَّ مِحْرَابًا لِمِصْرَ - أَيْ بَلَدٍ عَظِيمٍ - حَضَرَ نَصْبَ مِحْرَابِهِ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَذَلِكَ كَبَغْدَادَ وَمِصْرَ والإسكندرية، وَالْمَحَارِيبُ الَّتِي جُهِل حَال نَاصِبِيهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا قَبْل الاِسْتِثْنَاءِ، وَالْمَحَارِيبُ الَّتِي قَطَعَ الْعَارِفُونَ بِخَطَئِهَا لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ إِلَيْهَا لاَ لِمُجْتَهِدٍ وَلاَ لِغَيْرِهِ.
وَقَلَّدَ الْجَاهِل بِالأَْدِلَّةِ الَّتِي تُحَدِّدُ الْقِبْلَةَ مِحْرَابًا -
__________
(1) رد المحتار 1 / 288.

(36/198)


وَلَوْ لِغَيْرِ مِصْرَ - لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمِحْرَابُ يَجِبُ اعْتِمَادُهُ وَلاَ يَجُوزُ مَعَهُ الاِجْتِهَادُ، قَال النَّوَوِيُّ: وَاحْتَجَّ لَهُ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمَحَارِيبَ لاَ تُنْصَبُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِسَمْتِ الْكَوَاكِبِ وَالأَْدِلَّةِ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِحْرَابَ إِنَّمَا يُعْتَمَدُ بِشَرْطٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ يَكْثُرُ الْمَارُّونَ بِهَا بِحَيْثُ لاَ يُقِرُّونَهُ عَلَى الْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ لاَ يَكْثُرُ الْمَارُّونَ بِهَا لَمْ يَجُزِ اعْتِمَادُهُ، قَال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: لَوْ رَأَى عَلاَمَةً فِي طَرِيقٍ يَقِل فِيهِ مُرُورُ النَّاسِ، أَوْ فِي طَرِيقٍ يَمُرُّ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَلاَ يَدْرِي مَنْ نَصَبَهَا، أَوْ رَأَى مِحْرَابًا فِي قَرْيَةٍ لاَ يَدْرِي بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ أَوِ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ كَانَتْ قَرْيَةٌ صَغِيرَةٌ لِلْمُسْلِمَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى جِهَةٍ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخَطَأِ لأَِهْلِهَا فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي كُل هَذِهِ الصُّوَرِ وَلاَ يَعْتَمِدُهُ، وَكَذَا قَال صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: لَوْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ أَوْ قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ فِي مَسْجِدٍ فِي بَرِّيَّةٍ لاَ يَكْثُرُ بِهِ الْمَارَّةُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ، قَال: وَلَوْ دَخَل بَلَدًا قَدْ خَرِبَ وَانْجَلَى أَهْلُهُ فَرَأَى فِيهِ مَحَارِيبَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ اعْتَمَدَهَا وَلَمْ يَجْتَهِدْ، وَإِنِ احْتَمَل أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَمَل أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الْكُفَّارِ لَمْ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 44.

(36/198)


يَعْتَمِدْهَا بَل يَجْتَهِدُ، وَنَقَل الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ هَذَا التَّفْصِيل فِي الْبَلَدِ الْخِرَابِ عَنْ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ.
وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا إِذَا صَلَّى فِي مَدِينَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِحْرَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّهِ كَالْكَعْبَةِ، فَمَنْ يُعَايِنُهُ يَعْتَمِدُهُ، وَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ بِالاِجْتِهَادِ بِحَالٍ، وَفِي مَعْنَى مِحْرَابِ الْمَدِينَةِ سَائِرُ الْبِقَاعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ضُبِطَ الْمِحْرَابُ، وَكَذَا الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فَلاَ يَجُوزُ الاِجْتِهَادُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي الْجِهَةِ بِلاَ خِلاَفٍ وَأَمَّا الاِجْتِهَادُ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فَإِنْ كَانَ مِحْرَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبِلاَدِ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا يَجُوزُ.
قَال الرَّافِعِيُّ: وَبَهْ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ فِي الْكُوفَةِ خَاصَّةً، وَالثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ فِيهَا وَلاَ فِي الْبَصْرَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ دَخَلَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: الأَْعْمَى يَعْتَمِدُ الْمِحْرَابَ إِذَا عَرَفَهُ بِالْمَسِّ حَيْثُ يَعْتَمِدُهُ الْبَصِيرُ، وَكَذَا الْبَصِيرُ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّ الأَْعْمَى إِنَّمَا يَعْتَمِدُ مِحْرَابًا رَآهُ قَبْل الْعَمَى، وَلَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الأَْعْمَى مَوَاضِعُ لَمَسَهَا صَبَرَ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُخْبِرُهُ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ

(36/199)


صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَتَجِبُ الإِْعَادَةُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ أَمْكَنَ مَنْ يُرِيدُ الصَّلاَةَ أَوِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِالاِسْتِدْلاَل بِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَهُ الْعَمَل بِهِ إِذَا عَلِمَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، عُدُولاً كَانُوا أَوْ فُسَّاقًا؛ لأَِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهَا مَعَ تَكْرَارِ الأَْعْصَارِ إِجْمَاعٌ عَلَيْهَا وَلاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، قَال فِي الْمُبْدِعِ: وَلاَ يَنْحَرِفُ لأَِنَّ دَوَامَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ كَالْقَطْعِ، وَإِنْ وَجَدَ مَحَارِيبَ بِبَلَدٍ خِرَابٍ لاَ يَعْلَمُهَا لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ دَلاَلَةَ فِيهَا لاِحْتِمَال كَوْنِهَا لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا آثَارُ الإِْسْلاَمِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْبَانِي مُشْرِكًا عَمِلَهَا لِيَغِرَّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، قَال فِي الشَّرْحِ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ هَذَا الاِحْتِمَال، وَيَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ أَنَّهُ مِنْ مَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ فَيَسْتَقْبِلُهُ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَهَا لِلْكُفَّارِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَل بِهَا؛ لأَِنَّ قَوْلَهُمْ لاَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فَمَحَارِيبُهُمْ أَوْلَى.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِدْلاَل بِمَحَارِيبِ الْكُفَّارِ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ قِبْلَتَهُمْ، كَالنَّصَارَى يُعْلَمُ أَنَّ قِبْلَتَهُمُ الْمَشْرِقُ، فَإِذَا رَأَى مَحَارِيبَهُمْ فِي كَنَائِسِهِمْ عَلِمَ أَنَّهَا مُسْتَقْبِلَةُ الْمَشْرِقَ (2) .
__________
(1) المجموع 3 / 201 - 204.
(2) كشاف القناع 1 / 30 - والمغني 1 / 440.

(36/199)


مَحْرَمٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَحْرَمُ فِي اللُّغَةِ: الْحَرَامُ، وَالْحَرَامُ: ضَدُّ الْحَلاَل، وَيُقَال: هُوَ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا: إِذَا لَمْ يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا (1) وَرَحِمٌ مَحْرَمٌ: مُحَرَّمٌ تَزَوُّجُهَا (2) ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الْمَحْرَمُ: ذُو الْحُرْمَةِ.
وَمِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَال الَّذِي يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ بِهِ لِرَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ وَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ مَحَارِمُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَحْرَمُ مَنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ مُنَاكَحَتُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّحِمُ:
2 - الرَّحِمُ فِي اللُّغَةِ: (بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتَسْكِينِهَا) : وَهُوَ فِي الأَْصْل: مَوْضِعُ تَكْوِينِ الْجَنِينِ وَوِعَاؤُهُ فِي الْبَطْنِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى
__________
(1) الصحاح للجوهري
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(3) المعجم الوسيط.
(4) حاشية ابن عابدين: 2 / 145، 276 وما بعدها.

(36/200)


الْقَرَابَةِ وَأَسْبَابِهَا، وَعَلَى الأَْقَارِبِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْعَصَبَةِ وَلاَ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ، كَبَنَاتِ الإِْخْوَةِ وَبَنَاتِ الأَْعْمَامِ، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَجَمْعُهُ أَرْحَامٌ (1) . وَلأَِنَّ الرَّحِمَ نَوْعَانِ: مَحْرَمٌ، وَغَيْرُ مَحْرَمٍ، فَهُوَ إِذًا أَعَمُّ مِنْ (مَحْرَمٍ) . (ر: أَرْحَامٌ ف 1) .

ب - الْقَرِيبُ:
3 - الْقَرِيبُ فِي اللُّغَةِ: الدَّانِي فِي الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ أَوِ النَّسَبِ. وَالْجَمْعُ أَقْرِبَاءُ وَقَرَابَى، وَفِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ: الْقَرَابَةُ وَالْقُرْبَى: الْقُرْبُ فِي الرَّحِمِ (2) . أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدْ تَعَدَّدَتِ اتِّجَاهَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْقَرَابَةِ وَتَفْصِيلِهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَرَابَةٌ ف 1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْمَحْرَمِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.

ج - النَّسَبُ:
4 - النَّسَبُ: الْقَرَابَةُ، وَيُقَال: نَسَبُهُ فِي بَنِي فُلاَنٍ؛ هُوَ مِنْهُمْ. وَالْجَمْعُ أَنْسَابٌ. وَيُقَال: رَجُلٌ نَسِيبٌ: شَرِيفٌ مَعْرُوفٌ حَسَبُهُ وَأُصُولُهُ (3) . وَهُوَ نَسِيبُهُ أَيْ قَرِيبُهُ (4) .
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) المعجم الوسيط، ومختار الصحاح.
(3) المعجم الوسيط.
(4) مختار الصحاح.

(36/200)


وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: النَّسَبُ هُوَ الْقَرَابَةُ وَالرَّحِمُ، وَقَصَرَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ، وَحَصَرَهُ آخَرُونَ فِي الْبُنُوَّةِ وَالأُْبُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَمَا تَنَاسَل مِنْهُمْ.
(ر: قرابة ف2)
وَيُمْكِنُ الْقَوْل: إِنَّ بَيْنَ نَسَبٍ وَمَحْرَمٍ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالنَّسَبُ أَحَدُ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَوِ الْمَحْرَمِيَّةِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، أَيْ أَنَّهُمَا (النَّسَبُ وَالْمَحْرْمُ) يَلْتَقِيَانِ فِي هَذَا الْجَانِبِ، ثُمَّ يَفْتَرِقَانِ فِيمَا عَدَاهُ؛ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ النَّسَبَ أَوِ الْقَرَابَةَ النَّسَبِيَّةَ أَعَمُّ مِنَ الْمَحْرَمِ وَأَقْوَى؛ وَلِذَلِكَ لاَ يُقَاسُ الْمَحْرَمُ بِالرَّضَاعِ عَلَى النَّسَبِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ (1) .
وَالْمَحْرَمُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ أَعَمُّ مِنَ النَّسَبِ؛ ذَلِكَ أَنَّ التَّحْرِيمَ كَمَا يَكُونُ بِسَبَبِ لَحْمَةِ النَّسَبِ أَوْ قَرَابَةِ الدَّمِ كَذَلِكَ بِالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ.

د - الرَّضَاعُ:
5 - الرَّضَاعُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَصِّ الثَّدْيِ أَوِ الضَّرْعِ، يُقَال: رَضَعَ أُمَّهُ رَضْعًا وَرَضَاعًا وَرَضَاعَةً: امْتَصَّ ثَدْيَهَا أَوْ ضَرْعَهَا. وَيُقَال: بَيْنَهُمَا رَضَاعُ اللَّبَنِ: إِخْوَةٌ مِنَ الرَّضَاعِ، وَفُلاَنٌ رَضِيعِي: أَخِي مِنَ الرَّضَاعِ (2) .
__________
(1) المغني 11 / 309.
(2) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط.

(36/201)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ الرَّضَاعُ عَلَى مَصِّ الرَّضِيعِ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِ أُمَّهِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِوُصُول لَبَنِ امْرَأَةٍ أَوْ مَا حَصَل مِنْ لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
(ر: قرابة ف 6)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرَّضَاعِ وَالْمَحْرَمِ السَّبَبِيَّةُ؛ فَإِنَّ الرَّضَاعَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ.

هـ - الصِّهْرُ:
6 - الصِّهْرُ: الْقَرِيبُ بِالزَّوَاجِ. . . وَجَمْعُهُ أَصْهَارٌ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُصَاهَرَةِ (1) ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الصِّهْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعَنَاهُ اللُّغَوِيِّ،
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الصِّهْرِ وَالْمَحْرَمِ: أَنَّ الصِّهْرَ أَحَدُ الْمَحَارِمِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْرَمِ مِنْ أَحْكَامٍ:
تَتَّصِل بِالْمَحْرَمِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَوْضُوعِهَا أَوْ مُتَعَلَّقِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَسِبَابُ الْمَحْرَمِيَّةِ:
7 - سَبَبُ الْمَحْرَمِيَّةِ إِمَّا قَرَابَةُ النَّسَبِ، أَوِ الرَّضَاعِ، أَوِ الْمُصَاهَرَةِ وَثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ حَوْل
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) سورة الفرقان / 54.

(36/201)


ثُبُوتِ حِرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا، حَتَّى الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ.
وَهُنَاكَ مَنْ فَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ أَوْ عَدِمِ ثُبُوتِهَا (1) .

النَّظَرُ إِلَى الْمَحْرَمِ:
8 - أَبَاحَ الْفُقَهَاءُ نَظَرَ الرَّجُل إِلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنَ الْمَحْرَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (2) . أَمَّا حُدُودُ الزِّينَةِ الَّتِي يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهَا وَلَمْسُهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ لِلْمَحَارِمِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ ف 6) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ مِنْ مَحْرَمِهِ إِلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَالْعَضُدِ إِنْ أَمِنَ شَهْوَتَهُ، وَشَهْوَتُهَا أَيْضًا، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} . . . الآْيَةَ وَتِلْكَ الْمَذْكُورَاتُ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ، بِخِلاَفِ الْمَظْهَرِ
__________
(1) الموطأ 280 - 281، والأم 5 / 159 - 161، 234، وحاشيتي القليوبي وعميرة 1 / 32، 3 / 208، وفتح القدير 3 / 126 - 131، والمغني 9 / 493، وأعلام الموقعين 3 / 213.
(2) سورة النور / 31.

(36/202)


وَنَحْوِهِ (1) .
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلاَ بَأْسَ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ مِنْ أُمِّهِ وَابْنَتِهِ الْبَالِغَةِ وَأُخْتِهِ وَكُل ذِي رَحَمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ كَالْجَدَّاتِ وَالأَْوْلاَدِ وَأَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالاَتِ إِلَى شَعَرِهَا وَصَدْرِهَا وَذَوَائِبِهَا وَثَدْيِهَا وَعَضُدِهَا وَسَاقِهَا، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا، وَلاَ إِلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إِلَى أَنْ يُجَاوِزَ الرُّكْبَةَ وَكَذَلِكَ كُل ذَاتِ مَحْرَمٍ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ كَزَوْجَةِ الأَْبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ، وَزَوْجَةِ الاِبْنِ وَأَوْلاَدِ الأَْوْلاَدِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَابْنَةِ الْمَرْأَةِ الْمَدْخُول بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَل بِأُمِّهَا فَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ.
وَإِنَّ كَانَتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَى اخْتَلَفُوا فِيهَا قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَثْبُتُ فِيهَا إِبَاحَةُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ.
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: تَثْبُتُ إِبَاحَةُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي الْمُحِيطِ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ جِوَازَ النَّظَرِ مِنَ الْمَحْرَمِ إِلَى الذِّرَاعَيْنِ وَالشَّعْرِ وَمَا فَوْقَ النَّحْرِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ (3) ، فَفِي شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ: وَعَوْرَةُ الْحُرَّةِ مَعَ رَجُلٍ مَحْرَمٍ لَهَا نَسَبًا أَوْ صِهْرًا أَوْ رَضَاعًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 235، والمبسوط 10 / 149، وبدائع الصنائع 5 / 120، 121.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 328.
(3) مواهب الجليل 1 / 500.

(36/202)


غَيْرُ الْوَجْهِ وَالأَْطْرَافِ أَيِّ أَطْرَافِ الذِّرَاعَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَمَا فَوْقَ النَّحْرِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِشَعْرِ الرَّأْسِ وَالذِّرَاعِ مِنَ الْمَنْكِبِ إِلَى طَرَفِ الأُْصْبُعِ الْوُسْطَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرَى ثَدْيَهَا وَلاَ صَدْرَهَا وَلاَ سَاقَهَا بِخِلاَفِ شَعْرِهَا، وَتَرَى الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَحْرَمِ نَسَبًا أَوْ صِهْرًا أَوْ رَضَاعًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا كَرَجُلٍ مَعَ مِثْلِهِ، فَتَرَى مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا: لاَ يَجُوزُ تَرْدَادُ النَّظَرُ وَإِدَامَتُهُ إِلَى شَابَّةٍ مِنْ مَحَارِمِهِ أَوْ غَيْرِهِنَّ إِلاَّ لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ كَشَهَادَةٍ وَنَحْوِهَا، وَيُقَيَّدُ أَيْضًا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَإِلاَّ حَرُمَ حَتَّى لَبِنْتِهِ وَأُمِّهِ (2) .
أَمَا الشَّافِعِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ - عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ - بِشَرْطِ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا يَبْدُو مِنْهَا عِنْدَ الْمِهْنَةِ فَقَطْ، وَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى النَّظَرِ إِلَى مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ: وَلاَ يَنْظُرُ مِنْ مَحْرَمِهِ بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ، أَيْ يَحْرُمُ نَظَرُ ذَلِكَ وَيَحِل نَظَرُ مَا سِوَاهُ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ
__________
(1) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 178، وشرح الخرشي على مختصر خليل 1 / 248.
(2) شرح الزرقاني على خليل 1 / 178.
(3) كفاية الأخبار 2 / 44، 46، ونهاية المحتاج 6 / 191.

(36/203)


أَوْ آبَائِهِنَّ} الآْيَةَ، وَالزِّينَةُ مُفَسَّرَةٌ بِمَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَقِيل: يَحِل نَظَرُ مَا يَبْدُو فِي الْمِهْنَةِ، أَيِ الْخَدْمَةِ فَقَطْ كَالرَّأْسِ وَالْعُنُقِ وَالْوَجْهِ وَالْكَفِّ وَالسَّاعِدِ وَطَرَفِ السَّاقِ، إِذْ لاَ ضَرُورَةَ إِلَى غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ الْمَحْرَمُ بِالنَّسَبِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُبَاحُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا كَالْوَجْهِ وَالرِّقْبَةِ وَالرَّأْسِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَالسَّاقِ (2) .
وَفِي الإِْنْصَافِ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْصْحَابِ (3) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمُ النَّظَرُ إِلَى السَّاقِ وَالصَّدْرِ لِلتَّوَقِّي لاَ لِلتَّحْرِيمِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، كَالرِّقْبَةِ وَالرَّأْسِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا يُسْتَرُ غَالِبًا، كَالصَّدْرِ وَالظَّهْرِ وَنَحْوِهِمَا.
قَال الأَْثْرَمُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُل يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوِ امْرَأَةِ ابْنِهِ؟ فَقَال: هَذَا فِي الْقُرْآنِ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (4) إِلاَّ لِكَذَا وَكَذَا. قُلْتُ: فَيَنْظُرُ إِلَى سَاقِ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَصَدْرِهَا؟ قَال: لاَ مَا يُعْجِبُنِي.
ثُمَّ قَال: أَنَا
__________
(1) شرح منهاج الطالبين على هامش القليوبي وعميرة 3 / 208 - 209، والمجموع 16 / 140.
(2) كشاف القناع 5 / 11.
(3) الإنصاف 8 / 20.
(4) سورة النور / 31.

(36/203)


أَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ إِلَى مِثْل هَذَا، وَإِلَى كُل شَيْءٍ لِشَهْوَةِ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ: كَرَاهِيَةُ أَحْمَدَ النَّظَرُ إِلَى سَاقِ أُمِّهِ وَصَدْرِهَا عَلَى التَّوَقِّي؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى الشَّهْوَةِ. يَعْنِي أَنَّهُ يُكْرَهُ وَلاَ يَحْرُمُ.
وَمَنَعَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ النَّظَرَ إِلَى شَعْرِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ (1) .
أَمَّا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا: لَهَا النَّظَرُ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَالأُْخْرَى: لاَ يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ مِنَ الرَّجُل إِلاَّ إِلَى مِثْل مَا يُنْظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا (2) .

مَسُّ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَحْرَمِ يَجُوزُ مَسُّهُ إِذَا أُمِنَتِ الشَّهْوَةُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ قَبَّل ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا (3) .

هَل الْكَافِرُ أَوِ الذِّمِّيُّ مَحْرَمٌ؟
10 - لَمْ يَشْتَرِطِ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا (4) .
__________
(1) المغني 9 / 491 - 492.
(2) المغني 9 / 506.
(3) حديث: " كان إذا قدم من سفر قبل. . ". أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (5 / 67) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات وفي بعضهم ضعف لا يضر.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 145، وحاشية العدوي بهامش الخرشي 1 / 248، ومغني المحتاج 3 / 133، والمغني 3 / 192، 193 مع الشرح الكبير.

(36/204)


إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ اسْتَثْنَى بَعْضَ الأَْحْكَامِ وَمِنْهُمُ الإِْمَامُ أَحَمْدُ حَيْثُ إِنَّهُ يَعُدُّ الْكَافِرَ مَحْرَمًا فِي النَّظَرِ دُونَ السَّفَرِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: لاَ تُسَافِرُ الْمُسْلِمَةُ مَعَ أَبِيهَا الْكَافِرِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ نَصًّا، وَإِنْ كَانَ مَحْرَمًا فِي النَّظَرِ (1) ، وَمُقْتَضَاهُ إِلْحَاقُ سَائِرِ الْقَرَابَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ الْكَفَّارِ بِالأَْبِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْمَحْرَمِيَّةِ يَقْتَضِي الْخَلْوَةَ بِهَا، فَيَجِبُ أَنْ لاَ تَثْبُتَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ، كَالْحَضَانَةِ لِلطِّفْل، وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا أَنْ يَفْتِنَهَا عَنْ دِينِهَا كَالطِّفْل (2) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَدَخَل عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَطَوَتْ فِرَاشَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لِئَلاَّ يَجْلِسَ عَلَيْهِ (3) وَلَمْ تُحْتَجَبْ مِنْهُ، وَلاَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْمَجُوسِيَّ مِنَ السَّفَرِ مَعَ مَحْرَمِهِ، قَال الْمَوْصِلِيُّ: الْمَحْرَمُ: كُل مَنْ لاَ يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ لِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ،
__________
(1) كشاف القناع 5 / 12.
(2) المغني مع الشرح الكبير 3 / 192، 193.
(3) أثر: " أن أبا سفيان أتى المدينة وهو مشرك فدخل على ابنته أم حبيبة. . ". أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8 / 99 - 100) من حديث الزهري مرسلاً.

(36/204)


إِلاَّ الْمَجُوسِيَّ الَّذِي يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ نِكَاحِهَا، وَالْفَاسِقَ لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ (1) .

نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ
11 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ:

الأَْوَّل: أَنَّ الْعَبْدَ كَالأَْجْنَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِسَيِّدَتِهِ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ، وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
جَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَالْعَبْدُ فِيمَا يَنْظُرُ مِنْ سَيِّدَتِهِ كَالْحُرِّ الأَْجْنَبِيِّ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلاَّ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَنَا (2) .
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الأَْصَحُّ أَنَّ نَظَرَ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ كَالنَّظَرِ إِلَى مَحْرَمٍ، وَالثَّانِي يَحْرُمُ نَظَرُهُمَا إِلَى بَعْضِهِمَا كَغَيْرِهِمَا (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مَحْرَمًا لِسَيِّدَتِهِ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا، وَلاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَهُوَ كَالأَْجْنَبِيِّ (4) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ خَادِمِهَا ضَيْعَةٌ (5) .
__________
(1) الاختيار 1 / 141.
(2) المبسوط 10 / 157، والحطاب 2 / 522، 523.
(3) مغني المحتاج 3 / 130.
(4) المغني مع الشرح الكبير 3 / 193.
(5) حديث: " سفر المرأة مع خادمها ضيعة ". أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7 / 334) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 214) .

(36/205)


الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ عَبْدَ الْمَرْأَةِ كَالْمَحْرَمِ لَهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، يَقُول الْمَرْدَاوِيُّ: الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ لِلْعَبْدِ النَّظَرَ مِنْ مَوْلاَتِهِ إِلَى مَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ الرَّجُل مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ وَهَبَهُ لَهَا، قَال: وَعَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَال: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ، إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلاَمُكِ (2) .

الْمَحْرَمُ وَغَسْل الْمَيِّتِ وَدَفْنُهُ:
12 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَحَارِمَ يُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الأُْمُورِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ وَصَلاَةٍ عَلَيْهِ وَدَفْنٍ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّمُ الزَّوْجَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْوَصِيَّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَفِي الْغَسْل وَالدَّفْنِ.
__________
(1) الإنصاف 8 / 20، وينظر مغني المحتاج 3 / 130، والحطاب 2 / 522، 523.
(2) حديث: " إنه ليس عليك بأس. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 359) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(36/205)


وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 41) و (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 11) وَ (دُفُنٌ ف 6) .

لَمْسُ الْمَحْرَمِ وَأَثَرُهُ عَلَى الْوُضُوءِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لَمْسَ الرَّجُل امْرَأَةً مَحْرَمًا لاَ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ.
أَمَّا إِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَإِنَّهُ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ مُطْلَقًا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مَسٍّ - لَمْسٍ - وُضُوءٍ) .

سَفَرُ الْمَرْأَةِ بِدُونِ مَحْرَمٍ:
أ - سَفَرُ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ الْفَرْضِ بِدُونِ مَحْرَمٍ
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ لِغَيْرِ الْفَرْضِ كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَالزِّيَارَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالسِّياحَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الأَْسْفَارِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.
قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، إِلاَّ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تُهَاجِرَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ

(36/206)


لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ، وَالْفَرَقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِقَامَتَهَا فِي دَارِ الْكُفْرِ حَرَامٌ إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ إِظْهَارَ الدِّينِ وَتَخْشَى عَلَى دِينِهَا وَنَفْسِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّأَخُّرُ عَنِ الْحَجِّ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَجِّ هَل هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي (1) .
وَمُسْتَنَدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتَتَبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا. قَال: فَانْطَلَقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ (2) .
وَلَفْظُ الْمَرْأَةِ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ النِّسَاءِ، هَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَجَالَّةَ أَيِ الْعَجُوزُ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى فَلَهَا أَنْ تُسَافِرَ كَيْفَ شَاءَتْ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: سَفَرٌ ف 17) .

ب - سَفَرُ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ بِدُونِ مَحْرَمٍ
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ حَجِّ
__________
(1) شرح النووي على مسلم 9 / 104.
(2) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 142 - 143) ، ومسلم (2 / 978) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم.
(3) انظر شرح النووي على مسلم 9 / 104، وفتح الباري 4 / 91، وإحكام الأحكام 3 / 19، وكفاية الطالب الرباني 2 / 344، ونيل الأوطار 5 / 16.

(36/206)


الْفَرِيضَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ أَوْ رُفْقَةٌ مَأْمُونَةٌ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا إِذَا وَجَدَتْ زَوْجًا أَوْ مَحْرَمًا أَوْ رُفْقَةً مَأْمُونَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلاَّ إِذَا وَجَدَتْ زَوْجًا أَوْ مَحْرَمًا، وَلاَ يُعْتَدُّ بِالرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ.
إِلاَّ أَنَّ لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلَيْنِ فِي حُكْمِ الْمَحْرَمِ:
قَوْلٌ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبٍ، وَقَوْلٌ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبِ أَدَاءٍ (1) .
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا إِذَا امْتَنَعَ عَنْ مُرَافَقَتِهَا بِدُونِهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٌّ ف 28) .

الْمَحْرَمُ وَالْمُعَامَلاَتُ:
أ - التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَحَارِمِ فِي الْبَيْعِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفَرَّقُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ صَغِيرٍ غَيْرِ بَالِغٍ وَذِي رَحَمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْمَنْعَ مِنَ الْبَيْعِ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا خَاصَّةً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ إِذَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 145، 146، والخرشي 1 / 287، والقليوبي 2 / 89، وكشاف القناع 2 / 394.

(36/207)


كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِقٌّ ف 39) .

ب - الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ إِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَا رَحَمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْوَاهِبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدِمِ جِوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ إِلَى الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ابْنًا، فَيَجُوزُ لِلأَْبِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لاَبْنِهِ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لَذِي رَحَمٍ مَحْرَمٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ، وَإِنْ نَزَل، فَيَجُوزُ لِلأُْصُول الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبُوهُ لِفُرُوعِهِمْ دُونَ سَائِرِ الْمَحَارِمِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْحَامٌ ف 140) وَ (هِبَةٌ) .

نِكَاحُ الْمَحَارِمِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ، فَإِنَّ تَزَوَّجَ ذَاتَ مَحْرَمِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالإِْجْمَاعِ، فَإِنْ وَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ

(36/207)


الشُّبْهَةُ مِنْهُ لِلْعَقْدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحِ) (وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ) .

الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَحَارِمِ فِي النِّكَاحِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَحَارِمِ فِي النِّكَاحِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدٍ، أَوْ أُمَّتَيْنِ فِي وَطْءٍ لَوْ فَرَضَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَكَرًا لَمْ تَحِل لِلأُْخْرَى، كَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ، وَمُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ) .

حَضَانَة الْمَحْرَمِ
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْحَاضِنِ الذَّكَرِ مَعَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْضُونِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْرَمًا لَهَا إِذَا كَانَتِ الْمَحْضُونَةُ مُشْتَهَاةً كَالْعَمِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا كَابْنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 284، 285، ونهاية المحتاج 6 / 278، والمغني 6 / 573، وجواهر الإكليل 1 / 289.
(2) سورة النساء / 23.
(3) حديث: " لا تنكح المرأة على عمتها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(36/208)


الْعَمِّ أَوْ كَانَتْ مُشْتَهَاةً فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي حَضَانَتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْضُونَةِ غَيْرُهُ فَلاَ تَسْقُطُ حَضَانَتُهُ، وَإِنَّمَا يُعَيِّنُ أَمِينَةً تُوضَعُ عِنْدَهَا.
أَمَّا الْحَاضِنُ الأُْنْثَى فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَعَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْمَحْضُونِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَةٌ ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .

تَغْلِيظُ الدِّيَةِ بِقَتْل الْمَحْرَمِ
21 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَغْلُظُ فِيهَا دِيَةُ الْقَتْل الْخَطَأِ قَتْل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّغْلِيظِ فِي قَتْل الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (دِيَاتٍ ف 14) .

قَطْعُ الْمَحْرَمِ بِالسَّرِقَةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، أَصْلاً كَانَ أَوْ فَرْعًا أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْعَمِّ وَالْخَال.
أَمَّا الْمَحْرَمُ غَيْرُ الرَّحِمِ كَالأَْخِ مِنَ الرَّضَاعِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ

(36/208)


الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ الْقَطْعِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ بَيْنَ الأَْقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ السَّارِقُ أَصْلاً لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ كَالأَْبِ وَالْجَدِّ.
فَإِنْ كَانَ السَّارِقُ فَرْعًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَلاَ يُقْطَعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُقْطَعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 15) .

مُحَرَّمَ

انْظُرِ: الأَْشْهُرَ الْحُرُمَ.

(36/209)


مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحَرَّمَاتُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مُحَرَّمٍ، وَالْمُحَرَّمُ وَالْمُحَرَّمَةُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَرَّمَ، يُقَال: حَرَّمَ الشَّيْءَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ: جَعَلَهُ حَرَامًا، وَالْمُحَرَّمُ: ذُو الْحُرْمَةِ، وَالْمَحْرَمُ كَذَلِكَ: ذُو الْحُرْمَةِ، وَمِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَال: الَّذِي يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ بِهِ لِرَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ (1) .
وَالنِّكَاحُ: مَصْدَرُ نَكَحَ، يُقَال: نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ تَنْكِحُ نِكَاحًا: تَزَوَّجَتْ (2) .
قَال الأَْزْهَرِيُّ: أَصْل النِّكَاحِ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ الْوَطْءُ، وَقِيل لِلتَّزَوُّجِ نِكَاحٌ، لأَِنَّهُ سَبَبُ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .

أَنْوَاعُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ:
2 - الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ النِّسَاءِ نَوْعَانِ
أ - مُحَرَّمَاتٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَهُنَّ اللاَّئِي تَكُونُ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) لسان العرب لابن منظور.
(3) مغني المحتاج 3 / 174.

(36/209)


حُرْمَةُ نِكَاحِهِنَّ مُؤَبَّدَةً، لأَِنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ ثَابِتٌ لاَ يَزُول، كَالأُْمُومَةِ، وَالْبُنُوَّةِ، وَالأُْخُوَّةِ.
ب - مُحَرَّمَاتٌ عَلَى التَّأْقِيتِ، وَهُنَّ مَنْ تَكُونُ حُرْمَةُ نِكَاحِهِنَّ مُؤَقَّتَةً؛ لأَِنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ غَيْرُ دَائِمٍ، وَيُحْتَمَل الزَّوَال كَزَوْجَةِ الْغَيْرِ، وَمُعْتَدَّتِهِ، وَالْمُشْرِكَةِ بِاللَّهِ.

أَوَّلاً: الْمُحَرَّمَاتُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا
3 - أَسْبَابُ تَأْبِيدِ حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِالنِّسَاءِ ثَلاَثَةٌ، هِيَ:
أ - الْقَرَابَةُ.
ب - الْمُصَاهَرَةُ.
ج - الرَّضَاعُ.

أ - الْمُحَرَّمَاتُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ:
يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ
4 - الأَْصْل مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ عَلاَ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الأُْمُّ، وَأُمُّ الأُْمِّ، وَإِنْ عَلَتْ، وَأُمُّ الأَْبِ، وَأُمُّ الْجَدِّ، وَإِنْ عَلَتْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) .
وَتَحْرِيمُ الأُْمِّ بِهَذِهِ الآْيَةِ وَاضِحٌ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْجَدَّاتِ فَوَاضِحٌ أَيْضًا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ لَفْظَ الأُْمِّ يُطْلَقُ عَلَى الأَْصْل، فَيَشْمَل الْجَدَّاتِ، فَيَكُونُ تَحْرِيمُهُنَّ ثَابِتًا بِالآْيَةِ كَتَحْرِيمِ
__________
(1) سورة النساء / 23.

(36/210)


الأُْمَّهَاتِ، أَوْ تَكُونُ حُرْمَةُ الْجَدَّاتِ بِدَلاَلَةِ النَّصِّ؛ لأَِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالاَتِ، وَهُنَّ أَوْلاَدُ الْجَدَّاتِ، فَتَكُونُ حُرْمَةُ الْجَدَّاتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
5 - الْفَرْعُ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ نَزَل، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْبِنْتُ وَمَا تَنَاسَل مِنْهَا، وَبِنْتُ الاِبْنِ وَإِنْ نَزَل، وَمَا تَنَاسَل مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} .
وَتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ بِنَصِّ الآْيَةِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ بَنَاتِ أَوْلاَدِهِنَّ فَثَابِتٌ بِالإِْجْمَاعِ، أَوْ بِدَلاَلَةِ النَّصِّ، لأَِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَنَاتِ الأَْخِ، وَبَنَاتِ الأُْخْتِ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ بَنَاتِ الْبَنَاتِ، وَبَنَاتِ الأَْوْلاَدِ وَإِنْ نَزَلْنَ أَقْوَى قَرَابَةً مِنْ بَنَاتِ الأَْخِ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الإِْنْسَانِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهُ مِنَ الزِّنَا بِصَرِيحِ الآْيَةِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} لأَِنَّهَا بِنْتُهُ حَقِيقَةً، وَلُغَةً، وَمَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ، وَلِهَذَا حُرِّمَ ابْنُ الزِّنَا عَلَى أُمِّهِ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي زَنَيْتُ بِامْرَأَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَأَنْكِحُ ابْنَتَهَا قَال: لاَ أَرَى ذَلِكَ، وَلاَ يَصْلُحُ أَنَّ تَنْكِحَ امْرَأَةً تَطْلُعُ مِنِ ابْنَتِهَا عَلَى مَا تَطْلُعُ عَلَيْهِ مِنْهَا (1) فَالْبِنْتُ مِنَ الزِّنَا جُزْءٌ مِنَ الزَّانِي،
__________
(1) حديث: " إني زنيت بامرأة. . . ". قال في فتح القدير: هو مرسل ومنقطع وفيه أبو بكر بن عبد الرحمن بن أم حكيم (فتح القدير 3 / 129 نشر دار إحياء التراث) .

(36/210)


فَهِيَ بِنْتُهُ وَإِنْ لَمْ تَرِثْهُ، وَلَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْبُنُوَّةَ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ هِيَ الْبُنُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفَرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (1) . وَبِهِ قَال اللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (2) .
وَالْمُزَنِيِّ بِهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ، وَلِذَلِكَ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَخْتَلِيَ بِهَا وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ وَلاَ تَوَارُثَ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ أُخْتُهُ مِنَ الزِّنَا وَبِنْتُ أَخِيهِ وَبِنْتُ أُخْتِهِ وَبِنْتُ ابْنِهِ مِنَ الزِّنَا، بِأَنْ زَنَى أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ أُخْتُهُ أَوِ ابْنُهُ فَأُولِدُوا بِنْتًا، فَإِنَّهَا تُحَرَّمُ عَلَى الأَْخِ وَالْعَمِّ وَالْخَال وَالْجَدِّ (3) .
__________
(1) حديث: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 292) ومسلم (2 / 1080) من حديث عائشة.
(2) بدائع الصنائع 2 / 257، ومغني المحتاج3 / 175، وحاشية الدسوقي 2 / 250، وشرح الزرقاني 3 / 204، والمغني 6 / 578.
(3) فتح القدير 3 / 126، وبدائع الصنائع 2 / 257، ومغني المحتاج 3 / 175، والدسوقي 2 / 250، والزرقاني 3 / 204، والمغني 6 / 578.

(36/211)


وَالْمَنْفِيَّةُ بِلِعَانِ لَهَا حُكْمُ الْبِنْتِ، فَلَوْ لاَعَنَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ، فَنَفَى الْقَاضِي نَسَبَ ابْنَتِهَا مِنَ الرَّجُل، وَأَلْحَقَهَا بِالأُْمِّ فَتَحْرُمُ عَلَى نَافِيهَا وَلَوْ لَمْ يَدْخُل بِأُمِّهَا؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَنْتِفِ عَنْهُ قَطْعًا بِدَلِيل لُحُوقِهَا بِهِ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَلأَِنَّهَا رَبِيبَةٌ فِي الْمَدْخُول بِهَا، وَتَتَعَدَّى حُرْمَتُهَا إِلَى سَائِرِ مَحَارِمِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ) .
6 - فُرُوعُ الأَْبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ نَزَلْنَ، وَهُنَّ الأَْخَوَاتُ، سَوَاءٌ أَكُنَّ شَقِيقَاتٍ، أَمْ لأَِبٍ، أَمْ لأُِمٍّ، وَفُرُوعُ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل أَخَوَاتُهُ جَمِيعًا وَأَوْلاَدُ أَخَوَاتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفُرُوعُهُمْ، مَهْمَا تَكُنِ الدَّرَجَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَْخِ وَبَنَاتُ الأُْخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِل أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (2) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 119، ومغني المحتاج 3 / 175، وكشاف القناع 5 / 69.
(2) سورة النساء / 23، 24.

(36/211)


وَتَحْرِيمُ فُرُوعِ بَنَاتِ الأَْخِ وَبَنَاتِ الأُْخْتِ ثَابِتٌ بِنَصِّ الآْيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ بَنَاتِ الأَْخِ وَبَنَاتِ الأُْخْتِ يَشْمَلُهُنَّ، أَوْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا بِالإِْجْمَاعِ إِذَا كَانَ لَفْظُ بَنَاتِ الأَْخِ وَبَنَاتِ الأُْخْتِ مَقْصُورًا عَلَيْهِمَا (1) .
7 - فُرُوعُ الأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ إِذَا انْفَصَلْنَ بِدَرَجَةِ وَاحِدَةٍ، وَهُنَّ الْعَمَّاتُ، وَالْخَالاَتُ، سَوَاءٌ أَكُنَّ شَقِيقَاتٍ أَمْ لأَِبٍ، أَمْ لأُِمٍّ، وَكَذَلِكَ عَمَّاتُ الأَْصْل، وَإِنْ عَلاَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ} وَتَحْرِيمُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالاَتِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَأَمَّا أُخْتُ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَتْ فَتَحْرِيمُهَا ثَابِتٌ إِمَّا بِالنَّصِّ، لأَِنَّ لَفْظَ الْعَمَّةِ يَشْمَل أُخْتَ الأَْبِ، وَأُخْتَ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَتْ، وَإِمَّا بِالإِْجْمَاعِ إِذَا كَانَ لَفْظُ الْعَمَّةِ مَقْصُورًا عَلَى أُخْتِ الأَْبِ، وَكَذَا تَحْرِيمُ الْخَالَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَمِثْل أُخْتِ الأُْمِّ أُخْتُ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَتْ، وَتَحْرِيمُهَا ثَابِتٌ إِمَّا بِالنَّصِّ لأَِنَّ لَفْظَ الْخَالَةِ يَشْمَل أُخْتَ الأُْمِّ وَأُخْتَ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَتْ، وَإِمَّا بِالإِْجْمَاعِ إِذَا كَانَ لَفْظُ الْخَالَةِ مَقْصُورًا عَلَى أُخْتِ الأُْمِّ.
أَمَّا بَنَاتُ الأَْعْمَامِ وَالأَْخْوَال، وَبَنَاتُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالاَتِ، وَفُرُوعُهُنَّ، فَيَجُوزُ التَّزَوُّجُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 256، 257، والفواكه الدواني 2 / 36، 37، ومغني المحتاج 3 / 174، 175، وكشاف القناع 5 / 69.

(36/212)


بِهِنَّ، لِعَدَمِ ذِكْرِهِنَّ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} (2) .
وَمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحِل لأُِمَّتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِل خَاصٌّ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، فَشَمِل الْحُكْمُ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا (3) .

حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ
8 - أَمَرَ الإِْسْلاَمُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْحِرْصِ عَلَى الرَّوَابِطِ الَّتِي تَرْبِطُ الأَْفْرَادَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَحِمَايَتِهَا مِنَ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ، وَقَدْ قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ نِكَاحَ هَؤُلاَءِ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ لأَِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَخْلُو مِنْ مُبَاسَطَاتٍ تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَادَةً، وَبِسَبَبِهَا تَجْرِي الْخُشُونَةُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، فَكَانَ النِّكَاحُ سَبَبًا لِقَطْعِ الرَّحِمِ، مُفْضِيًا إِلَيْهِ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَقَال: تَخْتَصُّ الأُْمَّهَاتُ بِمَعْنَى
__________
(1) سورة النساء / 24.
(2) سورة الأحزاب / 50.
(3) بدائع الصنائع 2 / 257.

(36/212)


آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ احْتِرَامَ الأُْمِّ، وَتَعْظِيمَهَا وَاجِبٌ، وَلِهَذَا أَمَرَ الْوَلَدَ بِمُصَاحَبَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لَهُمَا، وَالْقَوْل الْكَرِيمِ، وَنَهَى عَنِ التَّأْفِيفِ لَهُمَا، فَلَوْ جَازَ النِّكَاحُ، وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجِ وَطَاعَتِهِ، وَخِدْمَتِهِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهَا لَلَزِمَهَا ذَلِكَ، وَإِنَّهُ يُنَافِي الاِحْتِرَامَ، فَيُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُضِ (1) .

ب - الْمُحَرَّمَاتُ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ:
يَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ
9 - زَوْجَةُ الأَْصْل وَهُوَ الأَْبُ، وَإِنْ عَلاَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعَصَبَاتِ كَأَبِي الأَْبِ، أَمْ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ كَأَبِي الأُْمِّ، وَبِمُجَرَّدِ عَقْدِ الأَْبِ عَلَيْهَا عَقْدًا صَحِيحًا تُصْبِحُ مُحَرَّمَةً عَلَى فَرْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) .
وَلاَ يَدْخُل فِي التَّحْرِيمِ أُصُول هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَلاَ فُرُوعُهَا.
وَكَمَا تَدُل الآْيَةُ عَلَى حُرْمَةِ زَوْجَةِ الأَْبِ، تَدُل عَلَى حُرْمَةِ زَوْجَةِ الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ، لأَِنَّ لَفْظَ الأَْبِ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ، وَلأَِنَّ زَوَاجَ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ الآْبَاءُ يَتَنَافَى مَعَ الْمُرُوءَةِ، وَتَرْفُضُهُ
__________
(1) انظر المراجع السابقة.
(2) سورة النساء / 22.

(36/213)


مَكَارِمُ الأَْخْلاَقِ وَتَأْبَاهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ.
10 - أَصْل الزَّوْجَةِ وَهِيَ أُمُّهَا وَأُمُّ أُمِّهَا، وَأُمُّ أَبِيهَا وَإِنْ عَلَتْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (1) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أُصُول الزَّوْجَةِ تُحَرَّمُ مَتَى دَخَل الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا عَقَدَ الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا، بِأَنْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا قَبْل الدُّخُول بِهَا.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءُ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الزَّوْجَةِ كَافٍ فِي تَحْرِيمِ أُصُولِهَا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يَدْخُل بِهَا، أَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا (2) وَهَذَا مَعْنَى قَوْل الْفُقَهَاءِ: الْعَقْدُ عَلَى الْبَنَاتِ يُحَرِّمُ الأُْمَّهَاتِ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ النَّصَّ الدَّال عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) حديث: " أيما رجل تزوج امرأة. . . ". أخرجه البيهقي (السنن الكبرى 7 / 10) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بهذا المعنى، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف (التلخيص الحبير 3 / 166) .

(36/213)


مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ الدُّخُول لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَرْطٌ وَلاَ اسْتِثْنَاءٌ، وَأَنَّ الدُّخُول فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} رَاجِعٌ إِلَى: {وِرِبِائِبُكُمُ} لاَ إِلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فَيَبْقَى النَّصُّ عَلَى حُرْمَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، سَوَاءٌ دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل، وَمَا دَامَ النَّصُّ جَاءَ مُطْلَقًا فَيَجِبُ بَقَاؤُهُ عَلَى إِطْلاَقِهِ مَا لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُقَيِّدُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} : أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَهُ اللَّهُ، أَيْ أَطْلِقُوا مَا أَطْلَقَ اللَّهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: الآْيَةُ مُبْهَمَةٌ، لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الدُّخُول وَعَدِمِهِ.
وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ أُصُول الزَّوْجَةِ لاَ تُحَرَّمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تُحَرَّمُ بِالدُّخُول بِهَا مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، ثُمَّ عَطَفَ الرَّبَائِبَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ أَتَى بِشَرْطِ الدُّخُول، وَلِذَا يَنْصَرِفُ شَرْطُ الدُّخُول إِلَى أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَإِلَى الرَّبَائِبِ، فَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إِلاَّ بِالدُّخُول (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَوْ لَمَسَهَا،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 258، والمغني لابن قدامة 6 / 569 - ط: عاطف والناشر مكتبة الجمهورية العربية بمصر، وفتح القدير3 / 118، 119، والأم 5 / 24، والفواكه الدواني 2 / 38.

(36/214)


أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أُصُولُهَا، وَفُرُوعُهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لَمْ تَحِل لَهُ أُمُّهَا وَلاَ بِنْتُهَا (1) وَتُحَرَّمُ الْمَرْأَةُ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ؛ لأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِالزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَلاَ تُحَرَّمُ أُصُولُهَا وَلاَ فُرُوعُهَا عَلَى ابْنِ الزَّانِي وَأَبِيهِ.
وَتُعْتَبَرُ الشَّهْوَةُ عِنْدَهُمْ عِنْدَ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَهَى بَعْدَ التَّرْكِ لاَ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ.
وَحَدُّ الشَّهْوَةِ فِي الرَّجُل أَنْ تَنْتَشِرَ آلَتُهُ أَوْ تَزْدَادَ انْتِشَارًا إِنْ كَانَتْ مُنْتَشِرَةً.
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلاً عَنِ التَّبْيِينِ: وُجُودُ الشَّهْوَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا يَكْفِي عِنْدَ الْمَسِّ أَوِ النَّظَرِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يَنْزِل، حَتَّى لَوْ أَنْزَل عِنْدَ الْمَسِّ أَوِ النَّظَرِ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، قَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَكُونُ التَّحْرِيمُ بِالزِّنَا دُونَ الْمُقَدِّمَاتِ.
وَمَنَاطُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوَطْءُ، حَلاَلاً كَانَ أَوْ حَرَامًا، فَلَوْ زَنَى رَجُلٌ بِأُمِّ زَوْجَتِهِ أَوْ بِنْتِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ حُرْمَةً
__________
(1) حديث: " من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له. . . ". أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4 / 165) من حديث أم هانئ، وقال ابن حجر في فتح الباري (9 / 156) : حديث ضعيف.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 274 - 275.

(36/214)


مُؤَبَّدَةً، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسَيْهِمَا، وَإِلاَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَيْقَظَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ لِيُجَامِعَهَا، فَوَصَلَتْ يَدُهُ إِلَى ابْنَةٍ مِنْهَا، فَقَرَصَهَا بِشَهْوَةٍ، وَهِيَ مِمَّنْ تُشْتَهَى يَظُنُّ أَنَّهَا أُمُّهَا، حَرُمَتْ عَلَيْهِ الأُْمُّ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً (1) .
وَلَمْ يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ حُصُول الزِّنَا قَبْل الزَّوَاجِ أَوْ بَعْدَهُ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ الرَّاجِحِ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الزِّنَا لاَ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، فَلاَ تُحَرَّمُ بِالزِّنَا عِنْدَهُمَا أُصُول الْمَزْنِيِّ بِهَا، وَلاَ فُرُوعُهَا عَلَى مَنْ زَنَى بِهَا، كَمَا لاَ تُحَرَّمُ الْمَزْنِيُّ بِهَا عَلَى أُصُول الزَّانِي، وَلاَ عَلَى فُرُوعِهِ، فَلَوْ زَنَى رَجُلٌ بِأُمِّ زَوْجَتِهِ أَوِ ابْنَتِهَا لاَ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا ثُمَّ يَنْكِحُ ابْنَتَهَا، أَوِ الْبِنْتَ ثُمَّ يَنْكِحُ أُمَّهَا، فَقَال: لاَ يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلاَل، إِنَّمَا يَحْرُمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ حَلاَلٍ (2) وَأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ نِعْمَةٌ، لأَِنَّهَا تُلْحِقُ الأَْجَانِبَ بِالأَْقَارِبِ، وَالزِّنَا مَحْظُورٌ، فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ، لِعَدَمِ الْمُلاَءَمَةِ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِمُحَمِّدِ بْنِ الْحَسَنِ:
__________
(1) ملتقى الأبحر 1 / 324، والمغني 6 / 576 - 577، وكشاف القناع 5 / 72.
(2) حديث: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 268) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عثمان بن عبد الرحمن الزهري وهو متروك.

(36/215)


وَطْءٌ حُمِدْتَ بِهِ وَأَحْصَنْتَ، وَوَطْءٌ رُجِمْتَ بِهِ، أَحَدُهُمَا نِعْمَةٌ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، وَأَوْجَبَ بِهِ حُقُوقًا، وَالآْخِرُ نِقْمَةٌ، فَكَيْفَ يَشْتَبِهَانِ (1) ؟ .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مِثْل قَوْل الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ يُحَرِّمُ، وَقَال سَحْنُونٌ: أَصْحَابُ مَالِكٍ يُخَالِفُونَ ابْنَ الْقَاسِمِ فِيمَا رَوَاهُ، وَيَذْهَبُونَ إِلَى مَا فِي (الْمُوَطَّأِ) مِنْ أَنَّ الزِّنَا لاَ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ (2) .

11 - فُرُوعُ الزَّوْجَةِ، وَهُنَّ بَنَاتُهَا، وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ نَزَلْنَ، لأَِنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا بِشَرْطِ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُل فَلاَ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ فُرُوعُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَتْ عَنْهُ قَبْل الدُّخُول بِهَا، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْل الْفُقَهَاءِ: الدُّخُول بِالأُْمَّهَاتِ يُحَرِّمُ الْبَنَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَذَلِكَ عُطِفَ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَحْرِيمَ التَّزَوُّجِ بِالرَّبَائِبِ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 42، وإعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 3 / 256، ومغني المحتاج 3 / 178.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2 / 29 - ط: الخانجي، والفواكه الدواني 2 / 42.

(36/215)


نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
وَالرَّبَائِبُ جَمْعُ رَبِيبَةٍ، وَرَبِيبُ الرَّجُل، وَلَدُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، سُمِّيَ رَبِيبًا لَهُ؛ لأَِنَّهُ يَرُبُّهُ أَيْ يَسُوسُهُ، وَالرَّبِيبَةُ ابْنَةُ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا بِنَصِّ الآْيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي الْحِجْرِ أَمْ لَمْ تَكُنْ، وَهِيَ تَحْظَى بِمَا تَحْظَى بِهِ الْبِنْتُ الصُّلْبِيَّةُ مِنْ عَطْفٍ وَرِعَايَةٍ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ وَبَنَاتِ الرَّبِيبِ فَثَابِتٌ بِالإِْجْمَاعِ. وَوَصْفُ الرَّبِيبَةِ بِأَنَّهَا فِي الْحِجْرِ لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ، بَل خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لِبَيَانِ قُبْحِ التَّزَوُّجِ بِهَا، لأَِنَّهَا غَالِبًا تَتَرَبَّى فِي حِجْرِهِ كَابْنِهِ وَابْنَتِهِ، فَلَهَا مَا لِبِنْتِهِ مِنْ تَحْرِيمٍ.

12 - زَوْجَةُ الْفَرْعِ أَيْ زَوْجَةُ ابْنِهِ، أَوِ ابْنِ ابْنِهِ، أَوِ ابْنِ بِنْتِهِ، مَهْمَا بَعُدَتِ الدَّرَجَةُ، سَوَاءٌ دَخَل الْفَرْعُ بِزَوْجَتِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُل بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ: {وَحَلاَئِل أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} وَالْحَلاَئِل جَمْعُ حَلِيلَةٍ وَهِيَ الزَّوْجَةُ، سُمِّيَتْ حَلِيلَةً؛ لأَِنَّهَا تَحِل مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُ تَحِل، وَقِيل: حَلِيلَةٌ بِمَعْنَى مُحَلَّلَةً، وَلأَِنَّهَا تَحِل لِلاِبْنِ، وَقَيَّدَتِ الآْيَةُ أَنْ يَكُونَ الأَْبْنَاءُ مِنَ الأَْصْلاَبِ، لإِِخْرَاجِ الأَْبْنَاءِ بِالتَّبَنِّي، فَلاَ تُحَرَّمُ زَوْجَاتُهُمْ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا أَبْنَاءَهُ مِنَ الصُّلْبِ، وَعَلَى هَذَا قَصَرَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ فَهْمَهُمْ لِلآْيَةِ، وَلَمْ يُخْرِجُوا بِهَا زَوْجَةَ الاِبْنِ الرَّضَاعِيِّ، بَل هِيَ مُحَرَّمَةٌ كَزَوْجَةِ الاِبْنِ

(36/216)


الصُّلْبِيِّ (1) ، مُسْتَنِدِينَ إِلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضْعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (2) .
أَمَّا أُصُول زَوْجَةِ الْفَرْعِ، وَفُرُوعُهَا، فَغَيْرُ مُحَرَّمَاتٍ عَلَى الأَْصْل، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّ زَوْجَةِ فَرْعِهِ أَوْ بِابْنَتِهَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ فِي زَوْجَةِ الأَْصْل، وَأَصْل الزَّوْجَةِ، وَزَوْجَةِ الْفَرْعِ، وَفَرْعِ الزَّوْجَةِ بِشَرْطِ الدُّخُول بِأُمِّهَا تَثْبُتُ كَذَلِكَ بِالدُّخُول فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ الْفَاسِدِ، وَبِالدُّخُول بِشُبْهَةٍ، كَمَا إِذَا عَقَدَ رَجُلٌ زَوَاجَهُ بِامْرَأَةٍ، ثُمَّ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُهَا فَدَخَل بِهَا، كَانَ هَذَا الدُّخُول بِشُبْهَةٍ، وَبِالدُّخُول بِمِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا إِذَا وَاقَعَ السَّيِّدُ جَارِيَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا، وَتَحْرُمُ هِيَ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ (3) .

ج - الْمُحَرَّمَاتُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ
13 - يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ:
أ - أُصُول الشَّخْصِ مِنَ الرَّضَاعِ، أَيْ أُمُّهُ
__________
(1) المهدية وشروحها فتح القدير والعناية 3 / 120، 121، والفواكه الدواني 2 / 38، وكشاف القناع 5 / 71، ومغني المحتاج 3 / 177.
(2) حديث: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 253) ومسلم (2 / 1072) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) بدائع الصنائع 2 / 260، وملتقى الأبحر 1 / 324، وفتح القدير 3 / 121، ومغني المحتاج 3 / 177، وكشاف القناع 5 / 72، وحاشية الدسوقي 2 / 251.

(36/216)


رَضَاعًا وَأُمُّهَا، وَإِنْ عَلَتْ، وَأُمُّ أَبِيهِ رَضَاعًا وَأُمُّهَا وَإِنْ عَلَتْ، فَإِذَا رَضَعَ طِفْلٌ مِنِ امْرَأَةٍ صَارَتْ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَصَارَ زَوْجُهَا الَّذِي كَانَ السَّبَبُ فِي دَرِّ لَبَنِهَا أَبًا مِنَ الرَّضَاعِ.
ب - فُرُوعُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، أَيْ بِنْتُهُ رَضَاعًا، وَبِنْتُهَا وَإِنْ نَزَلَتْ، وَبِنْتُ ابْنِهَا رَضَاعًا وَبِنْتُهَا، وَإِنْ نَزَلَتْ، فَإِذَا رَضَعَتْ بِنْتٌ مِنِ امْرَأَةٍ صَارَتِ ابْنَةً رَضَاعًا مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَلِزَوْجِهَا الَّذِي كَانَ السَّبَبَ فِي دَرِّ لَبَنِهَا.
ج - فُرُوعُ أَبَوَيْهِ مِنَ الرَّضَاعِ أَيْ أَخَوَاتُهُ رَضَاعًا، وَبَنَاتُهُنَّ، وَبَنَاتُ إِخْوَتِهِ رَضَاعًا، وَبَنَاتُهُنَّ، وَإِنْ نَزَلْنَ، فَإِذَا رَضَعَ طِفْلٌ مِنِ امْرَأَةٍ صَارَتْ بَنَاتُهَا أَخَوَاتٍ لَهُ، وَحَرُمْنَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ الْبِنْتُ الَّتِي رَضَعَتْ مَعَهُ، أَوِ الْبِنْتُ الَّتِي رَضَعَتْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.
د - فُرُوعُ جَدَّيْهِ إِذَا انْفَصَلْنَ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ عَمَّاتُهُ، وَخَالاَتُهُ رَضَاعًا، وَهَؤُلاَءِ يُحَرَّمْنَ نَسَبًا، فَكَذَلِكَ يُحَرَّمْنَ رَضَاعًا.
وَأَمَّا بَنَاتُ عَمَّاتِهِ وَأَعْمَامِهِ رَضَاعًا، وَبَنَاتُ خَالاَتِهِ وَأَخْوَالِهِ رَضَاعًا، فَلاَ يُحَرَّمْنَ عَلَيْهِ (1) .
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْمُصَاهَرَةِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 4، وفتح القدير 3 / 121، وحاشية الدسوقي 2 / 503، 504، والفواكه الدواني 2 / 38، 89، ومغني المحتاج 3 / 176، 177، 418، وكشاف القناع 5 / 70، 71، والمغني 6 / 571.

(36/217)


الرَّضَاعَ يُنْشِئُ صِلَةَ أُمُومَةٍ وَبُنُوَّةٍ بَيْنَ الْمُرْضِعِ وَالرَّضِيعِ، فَتَكُونُ الَّتِي أَرْضَعَتْ كَالَّتِي وَلَدَتْ، كُلٌّ مِنْهُمَا أُمٌّ، فَأُمُّ الزَّوْجَةِ رَضَاعًا كَأُمِّهَا نَسَبًا، وَبِنْتُهَا رَضَاعًا كَبِنْتِهَا نَسَبًا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ زَوْجُ الْمُرْضِعِ أَبًا لِلرَّضِيعِ، وَالرَّضِيعُ فَرْعٌ لَهُ، فَزَوْجَةُ الأَْبِ الرَّضَاعِيِّ كَزَوْجَةِ الأَْبِ النَّسَبِيِّ، وَزَوْجَةُ الاِبْنِ الرَّضَاعِيِّ كَزَوْجَةِ الاِبْنِ النَّسَبِيِّ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَهُنَّ: أ - الأُْمُّ الرَّضَاعِيَّةُ لِلزَّوْجَةِ، وَأُمُّهَا، وَإِنْ عَلَتْ، سَوَاءٌ دَخَل بِالزَّوْجَةِ أَوْ لَمْ يَدْخُل بِهَا ب - الْبِنْتُ الرَّضَاعِيَّةُ لِلزَّوْجَةِ، وَبِنْتُهَا، وَإِنْ نَزَلَتْ، وَبِنْتُ ابْنِهَا الرَّضَاعِيِّ وَبِنْتُهَا، وَإِنْ نَزَلَتْ بِشَرْطٍ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَل بِالزَّوْجَةِ. ج - زَوْجَاتُ الأَْبِ الرَّضَاعِيِّ، وَأَبِي الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ، بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ. د - زَوْجَاتُ الاِبْنِ الرَّضَاعِيِّ، وَابْنِ ابْنِهِ، وَإِنْ نَزَل بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ. وَتَحْرِيمُ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (رَضَاعٍ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا) .

كَيْفِيَّةُ مُعْرِفَةِ قَرَابَةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمَةِ
15 - تُعْرَفُ قَرَابَاتُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمَةِ كُلِّهَا،
__________
(1) المراجع السابقة، والمغني 6 / 569، 570.

(36/217)


بِأَنْ يُفْرَضَ انْتِزَاعُ الرَّضِيعُ مِنْ أُسْرَتِهِ النَّسَبِيَّةِ، وَوَضْعُهُ، وَفُرُوعُهُ فَقَطْ فِي أُسْرَتِهِ الرَّضَاعِيَّةِ، بِوَصْفِهِ ابْنًا رَضَاعِيًّا لِمَنْ أَرْضَعَتْهُ، وَلِزَوْجِهَا الَّذِي دَرَّ لَبَنَهَا بِسَبَبِهِ، فَكُل صِلَةٍ تَتَقَرَّرُ لَهُ أَوْ لِفُرُوعِهِ بِهَذَا الْوَضَعِ الْجَدِيدِ فَهِيَ الَّتِي تُجْعَل أَسَاسًا لِلتَّحْرِيمِ أَوِ التَّحْلِيل بِالرَّضَاعِ.
أَمَّا صِلَةُ الأُْسْرَةِ الرَّضَاعِيَّةِ بِأُسْرَةِ الرَّضِيعِ النَّسَبِيَّةِ بِسَبَبِ رَضَاعِهِ فَلاَ أَثَرَ لَهَا فِي تَحْرِيمٍ أَوْ تَحْلِيلٍ، وَلِهَذَا لاَ يَثْبُتُ لأَِقَارِبِهِ النَّسَبِيِّينَ غَيْرُ فُرُوعِهِ مِثْل مَا يَثْبُتُ لَهُ هُوَ بِهَذَا الرَّضَاعِ.
هَذَا، وَتُوجَدُ صُوَرٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرِّمَةً مِنَ النَّسَبِ مِنْهَا
أ - أُمُّ الأَْخِ أَوِ الأُْخْتِ مِنَ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الزَّوَاجُ بِهَا لأَِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ الزَّوَاجُ بِأُمِّ الأَْخِ أَوِ الأُْخْتِ مِنَ النَّسَبِ؛ لأَِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ أُمُّهُ، أَوْ تَكُونَ زَوْجَةُ أَبِيهِ فَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الصِّلَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي صُورَةِ أُمِّ الأَْخِ أَوِ الأُْخْتِ رَضَاعًا.
ب - أُخْتُ الاِبْنِ رَضَاعًا، فَإِنَّهَا لاَ تُحَرَّمُ عَلَى الأَْبِ الرَّضَاعِيِّ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أُخْتَ هَذَا الاِبْنِ أَوِ الْبِنْتِ الرَّضَاعِيَّةِ أُخْتًا لَهُ مِنَ النَّسَبِ أَمْ أُخْتًا لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، لأَِنَّهَا سَتَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ.
فَإِذَا رَضَعَ طِفْلٌ مِنِ امْرَأَةٍ فَلأَِبِي هَذَا الطِّفْل أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ، وَهِيَ

(36/218)


أُخْتُ ابْنِهِ مِنَ الرَّضَاعِ، أَمَّا أُخْتُ الاِبْنِ أَوِ الْبِنْتِ نَسَبًا، فَلاَ يَجُوزُ لأَِنَّهَا سَتَكُونُ بِنْتُهُ أَوْ بِنْتُ زَوْجَتِهِ الْمَدْخُول بِهَا.
ج - جَدَّةُ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ رَضَاعًا، فَيَجُوزُ لِلأَْبِ الرَّضَاعِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِعَدَمِ وُجُودِ عِلاَقَةٍ تَرْبِطُهَا بِهِ فِي حِينِ أَنَّ جَدَّةَ الاِبْنِ أَوِ الْبِنْتِ نَسَبًا، إِمَّا أَنْ تَكُونَ أُمَّهُ هُوَ فَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أُمَّ زَوْجَتِهِ فَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ أَيْضًا (1) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْحُرْمَةُ تَسْرِي مِنَ الْمُرْضِعَةِ وَالْفَحْل إِلَى أُصُولِهِمَا وَفُرُوعِهِمَا وَحَوَاشِيهِمَا وَمِنَ الرَّضِيعِ إِلَى فُرُوعِهِ فَقَطْ (2) .
وَمَتَى ثَبَتَ الرَّضَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسَيْهِمَا، وَإِلاَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ فَاسِدٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رَضَاع ف 27 - 34) .

ثَانِيًا: الْمُحَرَّمَاتُ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا
التَّحْرِيمُ عَلَى التَّأْقِيتِ يَكُونُ فِي الأَْحْوَال الآْتِيَةِ:

الأَْوَّل: زَوْجَةُ الْغَيْرِ وَمُعْتَدَّتُهُ
16 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ تَعَلَّقَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 405 - 407، وفتح القدير 3 / 311، 314، ومغني المحتاج 3 / 176، وكشاف القناع 5 / 443، 444، والفواكه الدواني 2 / 40، 89، 90، وحاشية الدسوقي 2 / 504.
(2) مغني المحتاج 3 / 418.

(36/218)


حَقُّ غَيْرِهِ بِهَا بِزَوَاجٍ أَوْ عِدَّةٍ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ، أَوْ دُخُولٍ فِي زَوَاجٍ فَاسِدٍ، أَوْ دُخُولٍ بِشُبْهَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) عَطْفًا عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (2) وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ الْمُتَزَوِّجَاتُ مِنْهُنَّ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا أَمْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ غَيْرِهِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ أَوْ وَفَاةٍ.
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا مَنْعُ الإِْنْسَانِ مِنَ الاِعْتِدَاءِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّزَوُّجِ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ مُعْتَدَّتِهِ، وَحِفْظُ الأَْنْسَابِ مِنَ الاِخْتِلاَطِ وَالضَّيَاعِ.
وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِعِدَّةِ الطَّلاَقِ عِدَّةَ الدُّخُول فِي زَوَاجٍ فَاسِدٍ، وَعِدَّةَ الدُّخُول بِشُبْهَةٍ؛ لأَِنَّ النَّسْل مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ثَابِتُ النَّسَبِ (3) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْغَيْرِ آثَارٌ مِنْهَا:

أ - التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا:
17 - نِكَاحُ مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ يُعْتَبَرُ مِنَ الأَْنْكِحَةِ
__________
(1) سورة النساء / 24.
(2) سورة النساء / 23.
(3) بدائع الصنائع 4 / 268، 269، وحاشية الدسوقي 2 / 251، 252، والفواكه الدواني 2 / 34، 35، والمهذب 2 / 46، وكشاف القناع 5 / 82.

(36/219)


الْفَاسِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهَا وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّ طُلَيْحَةَ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْدٍ الثَّقَفِيِّ فَطَلَّقَهَا فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَضَرَبَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِمِخْفَقَةٍ ضَرْبَاتٍ ثُمَّ قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُل بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الأَْوَّل، وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَل بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجِهَا الأَْوَّل، ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنَ الآْخَرِ وَلَمْ يَنْكِحْهَا أَبَدًا.

ب - وُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ فِي عِدَّتِهَا إِذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْل الدُّخُول
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي هَذَا النِّكَاحِ بِالدُّخُول (أَيْ بِالْوَطْءِ) وَعَلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ كَذَلِكَ، لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَال: بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فِي عِدَّتِهَا، فَأَرْسَل إِلَيْهِمَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَعَاقَبَهُمَا،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 350، 351، والفواكه الدواني 2 / 35، وكشاف القناع 5 / 425، والمهذب 2 / 152.

(36/219)


وَقَال: لاَ تَنْكِحْهَا أَبَدًا وَجَعَل صَدَاقَهَا فِي بَيْتِ الْمَال، وَفَشَا ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَبَلَغَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: يَرْحَمُ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا بَال الصَّدَاقِ وَبَيْتِ الْمَال! إِنَّمَا جَهِلاَ فَيَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إِلَى السُّنَّةِ. قِيل: فَمَا تَقُول أَنْتَ فِيهِمَا؟ فَقَال: لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَل مِنْ فَرْجِهَا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلاَ جَلْدَ عَلَيْهِمَا، وَتُكْمِل عِدَّتَهَا مِنَ الأَْوَّل، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنَ الثَّانِي عِدَّةً كَامِلَةً ثَلاَثَةَ أَقْرَاءٍ ثُمَّ يَخْطُبُهَا إِنْ شَاءَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَال: أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا الْجَهَالاَتِ إِلَى السُّنَّةِ، قَال الْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحَهَا وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ، وَفِي اتِّفَاقِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُمَا مَا يَدُل عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لاَ يُوجِبُ الْحَدَّ، إِلاَّ أَنَّهُ مَعَ الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَعَ الْعِلْمِ بِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ (1) .

الثَّانِي: التَّزَوُّجُ بِالزَّانِيَةِ:
19 - التَّزَوُّجُ بِالزَّانِيَةِ إِنْ كَانَ الْعَاقِدُ عَلَيْهَا هُوَ الزَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ، وَجَازَ الدُّخُول عَلَيْهَا فِي الْحَال سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَامِلاً أَمْ غَيْرَ حَامِلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِذْ لاَ حُرْمَةَ لِلْحَمْل مِنَ الزِّنَا.
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 194، 195.

(36/220)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ، حِفَاظًا عَلَى حُرْمَةِ النِّكَاحِ مِنِ اخْتِلاَطِ الْمَاءِ الْحَلاَل بِالْحَرَامِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ عَلَيْهَا غَيْرَ الزَّانِي، وَكَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ، جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَالدُّخُول بِهَا فِي الْحَال عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَيَرَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى الْمَزْنِيِّ بِهَا، وَيُكْرَهُ الدُّخُول بِهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لاِحْتِمَال أَنْ تَكُونَ قَدْ حَمَلَتْ مِنَ الزَّانِي (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَقْدُ الزَّوَاجِ عَلَيْهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَعْتَدَّ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلأَِنَّهَا قَبْل الْعِدَّةِ يُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ حَامِلاً فَيَكُونَ نِكَاحُهَا بَاطِلاً، كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ.
وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً صَحَّ الْعَقْدُ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ قُرْبَانُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَهَذَا رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يَسْقِي مَاءَهُ وَلَدَ غَيْرِهِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 291، 292، ومغني المحتاج 3 / 388، والمهذب 2 / 146، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 / 169، 170.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. . ". أخرجه الترمذي (3 / 428) من حديث رويفع بن ثابت وقال: حديث حسن.

(36/220)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَوَطْؤُهَا إِنْ كَانَ الْعَاقِدُ عَلَيْهَا غَيْرَ زَانٍ كَمَا هُوَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلزَّانِي إِذْ لاَ حُرْمَةَ لِلْحَمْل مِنَ الزِّنَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو يُوسُفَ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى الزَّانِيَةِ الْحَامِل، احْتِرَامًا لِلْحَمْل (1) إِذْ لاَ جِنَايَةَ مِنْهُ، وَلاَ يَحِل الدُّخُول بِهَا حَتَّى تَضَعَ، فَإِذَا مُنِعَ الدُّخُول مُنِعَ الْعَقْدُ، وَلاَ يَحِل الزَّوَاجِ حَتَّى تَضَعَ الْحَمْل.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِلزَّوَاجِ مِنَ الزَّانِيَةِ غَيْرَ الْعِدَّةِ أَنْ تَتُوبَ مِنَ الزِّنَا.
وَإِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلاً وَقْتَ الْعَقْدِ، بِأَنْ أَتَتْ بِالْوَلَدِ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ الْحَمْل مِنْ غَيْرِ زِنًا، إِذْ يُحْمَل حَال الْمُؤْمِنِ عَلَى الصَّلاَحِ (2) .

الثَّالِثُ: الْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثًا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ طَلَّقَهَا
20 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلَّقَهَا ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ، لأَِنَّهُ اسْتَنْفَدَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ عَدَدِ طُلَقَاتِهَا، وَبَانَتْ مِنْهُ بَيْنُونَةً كُبْرَى، وَصَارَتْ لاَ تَحِل لَهُ إِلاَّ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا،
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 601 - 603، وحاشية ابن عابدين 2 / 291، 292، والفواكه الدواني 2 / 34، 97، وحاشية الدسوقي 2 / 471، ومغني المحتاج 3 / 388، والمهذب 2 / 146، وكشاف القناع 5 / 83.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 291، 292.

(36/221)


مِنْهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا زَوْجٌ آخَرُ زَوَاجًا صَحِيحًا، وَدَخَل بِهَا حَقِيقَةً، ثُمَّ فَارَقَهَا هَذَا الآْخَرُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) ثُمَّ قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2) .
وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ أَنَّ الزَّوَاجَ الثَّانِي لاَ يُحِلُّهَا لِلأَْوَّل إِلاَّ إِذَا دَخَل بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي دُخُولاً حَقِيقِيًّا، وَكَانَ الزَّوَاجُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ، وَانْتَهَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ الدُّخُول (3) ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رَفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْل هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَال: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 229.
(2) سورة البقرة / 230.
(3) مغني المحتاج 3 / 182، والفواكه الدواني 2 / 61، وكشاف القناع 5 / 84، وبدائع الصنائع 2 / 264، وزاد المعاد لابن القيم 4 / 66.
(4) حديث عائشة: " جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 249) ومسلم (2 / 1055 - 1056) واللفظ لمسلم.

(36/221)


الرَّابِعُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ تَدِينُ بِدِينٍ سَمَاوِيٍّ
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لاَ تَدِينُ بِدِينٍ سَمَاوِيٍّ، وَلاَ تُؤْمِنُ بِرَسُولٍ، وَلاَ كِتَابٍ إِلَهِيٍّ، بِأَنْ تَكُونَ مُشْرِكَةً تَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ كَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (1) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجُوسِ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلاَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ (2) .
وَالْمُشْرِكَةُ مَنْ لاَ تُؤْمِنُ بِكِتَابٍ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ بِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُل الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (3) .

الْخَامِسُ: التَّزَوُّجُ بِالْمُرْتَدَّةِ
22 - الْمُرْتَدَّةُ: مَنْ رَجَعَتْ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ
__________
(1) سورة البقرة / 221.
(2) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب. . . ". أورده ابن حجر في التلخيص (3 / 172) وعزاه إلى عبد الرزاق وقال: هو مرسل وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف، وأخرجه البيهقي من حديث الحسن بن حمد بن علي بلفظ " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل منه، ومن أبى ضربت عليه الجزية على أن لا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة " قال البيهقي: هذا مرسل وإجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده (السنن الكبرى 9 / 192) .
(3) المغني 6 / 589، 591، 592، والبدائع 2 / 270، والفواكه الدواني 2 / 42، والمهذب 2 / 45.

(36/222)


اخْتِيَارًا دُونَ إِكْرَاهٍ عَلَى تَرْكِهِ، وَلاَ تَقِرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي اعْتَنَقَتْهُ، وَلَوْ كَانَ دِينًا سَمَاوِيًّا، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُرْتَدَّةِ لاَ بِمُسْلِمٍ وَلاَ بِكَافِرٍ غَيْرِ مُرْتَدٍّ وَمُرْتَدٍّ مِثْلِهِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّةَ تَرَكَتِ الإِْسْلاَمَ، وَتُضْرَبُ وَتُحْبَسُ حَتَّى تَعُودَ إِلَى الإِْسْلاَمِ أَوْ تَمُوتَ، فَكَانَتِ الرِّدَّةُ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ، وَالْمَيِّتُ لاَ يَكُونُ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ (1) وَلأَِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ، وَلاَ عِصْمَةَ لِلْمُرْتَدَّةِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيُمْهَل لِيَتُوبَ، وَتُزَال شُبْهَتُهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَيَرْجِعُ إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّ أَبَى قُتِل بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الإِْمْهَال.
وَالْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ مَأْمُورَةٌ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَبِرِدَّتِهَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً، وَالنِّكَاحُ مُخْتَصٌّ بِمَحَل الْحِل ابْتِدَاءً، فَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا لأَِحَدٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ جِوَازِ نِكَاحِ الْمُرْتَدَّةِ، كَمَا قَالُوا بِفَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَيَكُونُ الْفَسْخُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ وَإِنْ رَجَعَتِ الْمُرْتَدَّةُ إِلَى الإِْسْلاَمِ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرْتَدَّةَ لاَ تَحِل لأَِحَدٍ، لاَ لِمُسْلِمِ؛ لأَِنَّهَا كَافِرَةٌ لاَ تَقِرُّ، وَلاَ لِكَافِرٍ أَصْلِيٍّ لِبَقَاءِ عَلَقَةِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ لِمُرْتَدٍّ لأَِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 270.
(2) مواهب الجليل للحطاب 3 / 479، 480.

(36/222)


الْقَصْدَ مِنَ النِّكَاحِ الدَّوَامُ (1) وَالْمُرْتَدُّ لاَ دَوَامَ لَهُ.
ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لاَ يَحِل نِكَاحُهَا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ يَنْفَسِخُ بِالرِّدَّةِ وَيَمْتَنِعُ اسْتِمْرَارُهُ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ ابْتِدَاءً (2) .
أَمَّا أَهْل الْكِتَابِ - وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى - فَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَائِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) .

السَّادِسُ: الْجَمْعُ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمَا
23 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ، بِحَيْثُ لَوْ فَرَضْتَ أَيَّتَهُمَا ذَكَرًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الأُْخْرَى، وَذَلِكَ كَالأُْخْتَيْنِ، فَإِنَّنَا لَوْ فَرَضْنَا إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لاَ تَحِل لِلأُْخْرَى، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، أَوْ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 189، 190.
(2) المغني 6 / 592 مكتبة الجمهورية العربية - مصر.
(3) سورة المائدة / 5.

(36/223)


الأُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) وَلِحَدِيثِ أَبِي هَرِيرَةَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوِ الْعَمَّةُ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا، أَوِ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا، أَوِ الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا (2) وَعَلَيْهِ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ كَمَا لاَ يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الَّتِي فِي عِصْمَتِهِ، كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ زَوْجَتِهِ الَّتِي طَلَّقَهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا، أَوْ طَلاَقًا بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى، أَوْ كُبْرَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ حُكْمًا (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ ذُكِرْنَ إِنَّمَا يَكُونُ حَال قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً، أَوْ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، أَمَّا لَوْ كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى فَقَدِ انْقَطَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ، فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَ مُطَلَّقَتِهِ طَلاَقًا بَائِنًا فِي عِدَّتِهَا، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مَحْرَمَيْنِ (4) .
وَإِذَا جَمَعَ الرَّجُل بَيْنَ أُخْتَيْنِ مَثَلاً، فَإِنْ
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) حديث أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها. . ". أخرجه الترمذي (3 / 424) وقال: حسن صحيح.
(3) بدائع الصنائع 2 / 262 - 264، وكشاف القناع 5 / 75، وفتح القدير 3 / 124، 132 - ط: دار إحياء التراث.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 255، والأم للشافعي 5 / 403، والمهذب 2 / 44

(36/223)


تَزَوَّجَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ يَأْتِيهِمَا مَانِعٌ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلاً إِذْ لاَ أَوْلَوِيَّةَ لإِِحْدَاهُمَا عَنِ الأُْخْرَى (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ بِإِحْدَاهُمَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، بِأَنْ كَانَتْ زَوْجَةً لِلْغَيْرِ مَثَلاً، وَالأُْخْرَى لَيْسَ بِهَا مَانِعٌ، فَإِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِيَةِ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَبَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأُْخْرَى.
وَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهُمَا بِعَقْدَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، مُسْتَكْمِلَيْنِ أَرْكَانَ الزَّوَاجِ وَشُرُوطِهِ، وَعُلِمَ أَسْبَقُهُمَا، فَهُوَ الصَّحِيحُ وَالآْخَرُ بَاطِلٌ لأَِنَّ الْجَمْعَ حَصَل بِهِ.
وَإِذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا فَقَطِ الأَْرْكَانَ وَالشُّرُوطَ فَهُوَ الصَّحِيحُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الأَْوَّل أَمِ الثَّانِي.
كَمَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْل عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ} (2) وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ جَمْعٌ، فَيَكُونُ حَرَامًا، وَبِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يُجْمِعْنَ مَاءَهُ فِي
__________
(1) فتح القدير 3 / 123، وحاشية الدسوقي 2 / 254، ومغني المحتاج 3 / 180.
(2) سورة النساء / 23.

(36/224)


رَحِمِ أُخْتَيْنِ (1) . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: (كُل شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْحَرَائِرِ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الإِْمَاءِ إِلاَّ الْجَمْعُ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ) وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: (مَا أُحِبُّ أَنْ أُحِلَّهُ، وَلَكِنْ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَأَمَّا أَنَا فَلاَ أَفْعَلُهُ) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَقَوْل عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ) عَنَى بِآيَةِ التَّحْلِيل قَوْلَهُ عَزَّ وَجَل: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وَذَلِكَ مِنْهُ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيِ الْحِل وَالْحُرْمَةِ فَلاَ يَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ التَّعَارُضِ.
وَقَال: وَأَمَّا قَوْل عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَالأَْخْذُ بِالْمُحَرَّمِ أَوْلَى عِنْدَ التَّعَارُضِ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ، لأَِنَّهُ يَلْحَقُهُ الْمَأْثَمُ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَلاَ مَأْثَمَ فِي تَرْكِ الْمُبَاحِ،
__________
(1) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين ". ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير (3 / 166) وقال: لا أصل له. وقال: وفي الباب حديث أم حبيبة في الصحيحين أنها قالت يا رسول الله: انكح أختي قال: " لا تحل لي ". انظر (فتح الباري 9 / 158. ط. السلفية ومسلم 2 / 1072) .
(2) سورة المؤمنون / 6.

(36/224)


وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي الإِْبْضَاعِ الْحُرْمَةُ، وَالإِْبَاحَةُ بِدَلِيلٍ، فَإِذَا تَعَارَضَ دَلِيل الْحِل وَالْحُرْمَةِ تَدَافُعًا فَيَجِبُ الْعَمَل بِالأَْصْل.
وَكَمَا لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ لاَ يَجُوزُ فِي الدَّوَاعِي مِنَ اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ، لأَِنَّ الدَّوَاعِيَ إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ (1) .

السَّابِعُ: الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ
24 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ فِي عِصْمَتِهِ، فَلاَ يَتَزَوَّجُ بِخَامِسَةٍ مَا دَامَتْ فِي عِصْمَتِهِ أَرْبَعٌ سِوَاهَا، إِمَّا حَقِيقَةً بِأَنْ لَمْ يُطَلِّقْ إِحْدَاهُنَّ، وَإِمَّا حُكْمًا، كَمَا إِذَا طَلَّقَ إِحْدَاهُنَّ وَلاَ تَزَال فِي عِدَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ الطَّلاَقُ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ أَجَازُوا التَّزَوُّجَ بِخَامِسَةٍ إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الزَّوْجَاتِ الأَْرْبَعِ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الْبَائِنَ يَقْطَعُ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَلاَ يَكُونُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ فِي عِصْمَتِهِ (3) .
وَدَلِيل عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 264.
(2) بدائع الصنائع 2 / 263.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 255، ومغني المحتاج 2 / 182.

(36/225)


زَوْجَاتٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (1) .
وَقَدْ أَيَّدَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ غَيْلاَنَ الثَّقَفِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا (2) .

الثَّامِنُ: الزَّوْجَةُ الْمُلاَعَنَةُ
25 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَوْجَتَهُ الَّتِي لاَعَنَهَا، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، مَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى اتِّهَامِهِ لَهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَانٌ) .

التَّاسِعُ: تَزَوُّجُ الأَْمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ
26 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالأَْمَةِ بِشُرُوطٍ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ) .

مُحَسِّرٌ

انْظُرْ: وَادِي مُحَسِّرٍ.
__________
(1) سورة النساء / 3.
(2) حديث: " أن غيلان الثقفي كان عنده عشر نسوة. . ". أخرجه البيهقي (7 / 183) وقال عنه ابن حجر في التلخيص (3 / 293) : رجال إسناده ثقات.

(36/225)


مُحَصَّبٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحَصَّبُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَزْنِ: مُفَعَّلٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْفَتْحِ مِنَ الْحَصَبَا، وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ: اسْمُ مَكَانٍ تَكْثُرُ فِيهِ الْحَصْبَاءُ.
وَالْمُحَصَّبُ أَوْ وَادِي الْمُحَصَّبِ: مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ، يُسْمَى أَيْضًا الأَْبْطَحَ، مِنَ الْبَطْحَاءِ وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ، وَكَانَ مَسِيلاً لِوَادِي مَكَّةَ تَجْرُفُ إِلَيْهِ السُّيُول الرِّمَال وَالْحَصَى (1) ، وَقَدْ أَصْبَحَ الآْنَ مَكَانًا عَامِرًا بِالأَْبْنِيَةِ، يَقَعُ بَيْنَ الْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ وَجَبَّانَةِ الْمُعَلَّى، فِي مِنْطَقَتِهِ شَارِعٌ وَاسِعٌ يَحْمِل اسْمَ الأَْبْطَحَ.
وَيَتَعَلَّقُ بِالْمُحَصَّبِ هَذَا حُكْمٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ هُوَ التَّحْصِيبُ
وَلِلتَّفْصِيل: (حَجٌّ ف 7) .
__________
(1) معجم البلدان 5 / 62 - ط: دار صادر، وتاريخ مكة للأزرقي 2 / 129.

(36/226)


مَحْضَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَحْضَرُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ: بِمَعْنَى الْحُضُورِ وَالشُّهُودِ.
يُقَال: كَلَّمْتُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ فُلاَنٍ، وَبِحَضْرَتِهِ: أَيْ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الَّذِي كَتَبَ الْقَاضِي فِيهِ دَعْوَى الْخَصْمَيْنِ مُفَصَّلاً، وَلَمْ يَحْكُمْ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بَل كَتَبَهُ لِلتَّذَكُّرِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّجِل:
2 - السِّجِل لُغَةً: الْكِتَابُ يُدَوَّنُ فِيهِ مَا يُرَادُ حِفْظُهُ يُقَال: سَجَّل الْقَاضِي: قَضَى وَحَكَمَ وَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي السِّجِل (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: السِّجِل: كِتَابُ الْحُكْمِ وَقَدْ سَجَّل عَلَيْهِ الْقَاضِي (4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(4) قواعد الفقه للبركتي.

(36/226)


وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحْضَرِ وَالسِّجِل: أَنَّ الْمَحْضَرَ لاَ يَتَضَمَّنُ النَّصَّ عَلَى الْحُكْمِ وَإِنْفَاذِهِ، أَمَا السِّجِل فَفِيهِ حُكْمُ الْقَاضِي.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي كِتَابَةُ مَحْضَرٍ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ الَّتِي تُرْفَعُ أَمَامَهُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ، وَلاَ يُمْكِنُ حِفْظُهَا إِلاَّ بِالْكِتَابَةِ (1) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا، تُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطٌ تَفْصِيلُهَا فِي (قَضَاءٌ ف 43) .
وَمَحَل اسْتِحْبَابِ كِتَابَةِ الْمَحْضَرِ: إِذَا لَمْ يَطْلُبْ مَنْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ كِتَابَتَهُ، فَإِنْ سَأَل أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ الْقَاضِيَ كِتَابَةَ مَا جَرَى أَمَامَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَكَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ، كَأَنْ يَتَرَافَعَ خَصْمَانِ إِلَى الْقَاضِي فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالْمُدَّعَى بِهِ أَوْ نَكَل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ، وَرَدَّ عَلَى الْمُدَّعِي وَحَلَفَ، وَسَأَل الْقَاضِيَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَا جَرَى أَمَامَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ، فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ إِجَابَتُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ وَثِيقَةٌ لَهُ كَالإِْشْهَادِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَيْنِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 12، والمغني 9 / 72 وما بعده، وكشاف القناع 6 / 319، ومغني المحتاج 4 / 388، الزرقاني 7 / 292، وتبصرة الحكام 1 / 188.

(36/227)


رُبَّمَا نَسِيَا الشَّهَادَةَ، أَوْ نَسِيَا الْخَصْمَيْنِ فَلاَ يَذْكُرْهُمَا إِلاَّ ذَوِي خَطَّيْهِمَا (1) ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي إِجَابَتُهُ، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ لاَ تُثْبِتُ حَقًّا (2) .
وَيُسْتَحَبُّ نُسْخَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَالأُْخْرَى تُحْفَظُ فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ (3) .

ثَمَنُ الْوَرَقِ الَّذِي تُكْتَبُ فِيهِ الْمَحَاضِرُ:
4 - ثَمَنُ الْوَرَقِ الَّذِي تُكْتَبُ فِيهِ الْمَحَاضِرُ وَالسِّجِلاَّتُ وَغَيْرُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال، لأَِنَّهُ مِنَ الْمَصَالِحِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ، أَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ فَعَلَى مَنْ لَهُ الْعَمَل مِنْ مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ كِتَابَةَ مَا جَرَى فِي خُصُومَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَلاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ (4) .

صِيغَةُ الْمَحْضَرِ
5 - إِنِ اخْتَارَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ مَحْضَرًا، أَوْ سَأَلَهُ مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ كِتَابَتَهُ: ذَكَرَ فِيهِ مَا يَأْتِي: أ - اسْمُ الْقَاضِي الَّذِي جَرَتِ الْخُصُومَةُ أَمَامَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَنَسَبَهُ، وَمَكَانَ وِلاَيَتِهِ، وَتَارِيخَ إِقَامَةِ الدَّعْوَى، وَأَنَّهَا أَقِيمَتْ أَمَامَهُ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَحُكْمِهِ.
__________
(1) المغني 9 / 73، مغني المحتاج 4 / 394.
(2) مغني المحتاج 4 / 394.
(3) المراجع السابقة.
(4) مغني المحتاج 4 / 390، والمغني 9 / 76.

(36/227)


ب - اسْمُ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ كَانَ يَعْرِفُهُمَا بِاسْمَيْهِمَا وَنَسَبَيْهِمَا وَيَرْفَعُ نَسَبَيْهِمَا حَتَّى يَتَمَيَّزَا. وَإِنْ كَانَ لاَ يَعْرِفُهُمَا: كَتَبَ: حَضَرَ عِنْدِي فِي مَجْلِسِ حُكْمِي: مُدَّعٍ ذَكَرَ: أَنَّهُ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ الْفُلاَنِيُّ وَأَحْضَرَ مَعَهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ذَكَرَ: أَنَّهُ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ الْفُلاَنِيُّ وَيَرْفَعُ نَسَبَيْهِمَا، وَيَذْكُرُ أَهَمَّ صِفَاتِهِمَا كَالْغَمَمِ، وَالنَّزْعِ، وَلَوْنِ الْعَيْنِ، وَصِفَةِ الأَْنْفِ، وَالْفَمِ، وَالْحَاجِبَيْنِ، وَاللَّوْنِ، وَالطُّول، وَالْقِصَرِ.
ج - الْمُدَّعَى بِهِ، وَنَوْعُهُ وَصِفَتُهُ.
د - أَقْوَال الْمُدَّعِي.
هـ - أَقْوَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ، فَإِنْ أَقَرَّ كَتَبَ: أَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى بِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ كَتَبَ إِنْكَارَهُ، وَإِنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ذَكَرَهَا، وَإِنْ كَتَبَ الْمَحْضَرَ بِطَلَبٍ مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي كِتَابَتِهِ ذَكَرَ فِي الْمَحْضَرِ أَنَّهُ كَتَبَهُ اسْتِجَابَةً لِرَغْبَتِهِ وَذَكَرَ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ أُقِيمَتْ أَمَامَهُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ.
و أَسَمَاءُ الشُّهُودِ وَأَنْسَابُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ ذَكَرَ فِي الْمَحْضَرِ.
ز - فَإِنِ اسْتَحْلَفَ الْمُنْكِرَ ذَكَرَ فِي الْمَحْضَرِ.
ح - فَإِنْ حَلَفَ وَسَأَل الْقَاضِيَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَرًا لِئَلاَّ يَحْلِفَ ثَانِيًا أَجَابَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَأَل ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَجَابَ طَلَبَهُ.

(36/228)


ط - وَإِنْ نَكَل عَنِ الْيَمِينِ كَتَبَ: فَعُرِضَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَنَكَل مِنْهَا، هَذِهِ صُورَةُ الْمَحْضَرِ.
وَإِنِ اشْتَمَل الْمَحْضَرُ أَسِبَابَ الْحُكْمِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى ثُبُوتِهَا أَمَامَ الْقَاضِي، وَسَأَل صَاحِبُ الْحَقِّ الْقَاضِيَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْمَحْضَرِ، لَزِمَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِهِ وَيُنْفِذَهُ، فَيَقُول بَعْدَ ثُبُوتِ أَسِبَابِ الْحُكْمِ بِالْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْمَحْضَرِ: حَكَمْتُ لَهُ بِهِ، وَأَلْزَمْتُهُ الْحَقَّ.
لأَِنَّ الْحُكْمَ مِنْ لَوَازِمِ الثُّبُوتِ (1) .
__________
(1) المغني 9 / 73، 74 - 75، وبدائع الصنائع 7 / 12، وتبصرة الحكام 1 / 91، والفتاوى الهندية 6 / 160.

(36/228)


مُحْضِرٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحْضِرُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَنْ يُحْضِرُ الْخَصْمَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي (1) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ مُحْضِرًا لِيُحْضِرَ الْخَصْمَ بَعْدَ الإِْعْذَارِ إِلَيْهِ، وَلَوْ جَبْرًا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (دَعْوَى ف 59، وَ 60 وَ 61) .

أُجْرَةُ الْمُحْضِرِ:
3 - مُؤْنَةُ الْمُحْضِرِ عَلَى الطَّالِبِ بِالإِْحْضَارِ ابْتِدَاءً، فَإِنِ امْتَنَعَ وَأَحْضَرَهُ الْمُحْضِرُ جَبْرًا فَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ لِتَعَدِّيهِ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْحُضُورِ.
وَمَحَل وُجُوبِ مُؤْنَةِ الْمُحْضِرِ عَلَى الطَّالِبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَال،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 310.

(36/229)


فَإِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ فِيهِ فَلاَ تَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .