الموسوعة الفقهية الكويتية

مَحْظُورَاتٌ

انْظُرْ: إِحْرَامٌ، حَظْرٌ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 310، وروضة القضاة للسمناني 1 / 132، والمحلي على القليوبي 4 / 313 - 314، ومغني المحتاج 4 / 415 - 416.

(36/229)


مُحْكَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُحْكَمُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ إِحْكَامًا: أَتْقَنَهُ (1) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} (2) لأَِنَّ مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى لاَ إِشْكَال فِيهِ وَلاَ تَرَدُّدَ إِنَّمَا يَكُونُ مُحْكَمًا لِوُضُوحِ مُفْرَدَاتِهِ، وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهَا (3) ، يُقَال بِنَاءٌ مُحْكَمٌ: مُتْقَنٌ مَأْمُونُ الاِنْتِقَاضِ (4) .
2 - وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُحْكَمُ مَا لاَ يَحْتَمِل فِي التَّأْوِيل إِلاَّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَقِيل غَيْرُ ذَلِكَ (5) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُتَشَابِهُ:
2 - الْمُتَشَابِهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّبَهِ، وَالشِّبْهِ،
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والتعريفات.
(2) سورة هود / 1.
(3) فتح القدير للشوكاني 1 / 284 - 285 تفسير آية (7) من سورة آل عمران.
(4) التعريفات.
(5) تفسير ابن كثير 2 / 5، وجامع البيان عن تأويل القرآن 3 / 173 - 174، والبحر المحيط 1 / 450، وما بعده، وفتح القدير للشوكاني 1 / 284 - 285، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 32.

(36/230)


وَالشَّبِيهِ وَالشِّبْهُ: الْمِثْل، وَالْمُتَشَابِهَانِ: الْمُتَمَاثِلاَنِ (1) وَالْمُشْتَبِهَاتُ: الْمُشْكِلاَتُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قِيل: هُوَ مَا عَسُرَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَآيَةِ الاِسْتِوَاءِ. وَقِيل: هُوَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِل بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ: التَّضَادُّ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُحْكَمِ:
3 - الْمُرَادُ بِالْمُحْكَمِ هُنَا: هُوَ الْبَيِّنُ الْمَعْنَى الثَّابِتُ الْحُكْمِ، الْوَاضِحُ الدَّلاَلَةِ الَّذِي لاَ يَحْتَمِل النَّسْخَ فِي آيِ الْقُرْآنِ.
وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْعَمَل بِهِ قَال تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَل عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (4) وَالْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي الْكِتَابِ آيَاتٌ قَدْ أُحْكِمْنَ بِالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيل، وَأُثْبِتَتْ حُجَجُهُنَّ وَأَدِلَّتُهُنَّ عَلَى مَا جُعِلْنَ عَلَيْهِ أَدِلَّةً مِنْ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِيهَا (5) ، ثُمَّ وَصَفَ جَل ثَنَاؤُهُ تِلْكَ الآْيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ
__________
(1) التعريفات.
(2) لسان العرب.
(3) البحر المحيط 1 / 450 وما بعده، وإرشاد الفحول ص 32، وجامع البيان عن تأويل القرآن 3 / 174، وروح المعاني 3 / 82 وما بعدها.
(4) سورة آل عمران / 7.
(5) جامع البيان 3 / 170 - 172 - 174، وروح المعاني 3 / 82، والبحر المحيط 1 / 450، وإرشاد الفحول ص 32.

(36/230)


بِأَنَّهُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ عِمَادُ الدِّينِ وَالْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ مَا يَحْتَاجُ الْخَلْقُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَا كُلِّفُوا بِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، وَسَمَّاهُنَّ أُمَّ الْكِتَابِ، لأَِنَّهُنَّ مُعْظَمُ الْكِتَابِ، وَمَوْضِعُ مَفْزَعِ أَهْلِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي جَامِعَ مُعْظَمِ الشَّيْءِ: أُمَّهُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل: رَ: الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.

مُحَكَّمٌ

انْظُرْ: تَحْكِيمٌ.
__________
(1) جامع البيان عن تأويل القرآن لابن جرير 3 / 170 - ط: مكتبة وطبعة مصطفى البابي الحلبي.

(36/231)


مَحْكُومٌ عَلَيْهِ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَحْكُومُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْحُكْمِ وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ يُقَال: حَكَمْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا: إِذَا مَنَعْتَهُ مِنْ خِلاَفِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَكَمْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ: فَصَلْتُ بَيْنَهُمْ فَأَنَا حَاكِمٌ وَحَكَمٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُقْضَى عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ هُوَ الْمُكَلَّفُ: وَهُوَ مَنْ تَعَلَّقَ بِفِعْلِهِ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِالاِقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ (3) .

الأَْحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مِنْهَا:
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة (1788) .
(3) المستصفى 1 / 83، والبحر المحيط 1 / 117.

(36/231)


أ - لُزُومُ إِصْدَارِ الْقَاضِي الْحُكْمَ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ
2 - إِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ وَتَوَفَّرَتْ أَسِبَابُ الْحُكْمِ لَزِمَ الْقَاضِيَ إِصْدَارُ الْحُكْمِ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبَ الْمَحْكُومُ لَهُ ذَلِكَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (قَضَاءٌ ف 75 وَمَا بَعْدَهَا) .

ب - طَلَبُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَسْخَ الْحُكْمِ
3 - الأَْصْل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: أَنْ لاَ يُتَتَبَّعَ أَحْكَامُ الْقُضَاةِ، وَلاَ _ يُمَكَّنَ الْعَامَّةُ مِنْ خُصُومَةِ قُضَاتِهِمْ لأَِقْضِيَةِ حَكَمُوا بِهَا، وَلاَ تُسْمَعَ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ امْتِهَانًا لِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ، وَإِهَانَةً لِلْقُضَاةِ وَاتِّهَامًا لِنَزَاهَتِهِمْ، وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى رَغْبَةِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الْقَضَاءِ، وَلأَِنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ أَحْكَامِهِمْ وَكَوْنُهَا صَوَابًا، لأَِنَّهُ لاَ يُوَلَّى إِلاَّ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْوِلاَيَةِ، وَتَتَبُّعُ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ تَشْكِيكٌ فِي نَزَاهَتِهِمْ، وَاتِّهَامٌ لَهُمْ فِي عَدَالَتِهِمْ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (نَقْضٌ) .

الأَْحْكَامُ الأُْصُولِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ:
4 - لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْمُكَلَّفُ عِنْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 393 - 394، والمغني 9 / 74 - 75، وتبصرة الحكام 1 / 91، وآداب القضاء لابن أبي الدم ص 98، وبدائع الصنائع 7 / 13 والمغني 9 / 52.
(2) تبصرة الحكام 1 / 62 - 63، ومغني المحتاج 4 / 385، والمغني 9 / 58، وبدائع الصنائع 7 / 14.

(36/232)


الأُْصُولِيِّينَ - شُرُوطٌ مِنْهَا: أَحَدُهَا: الْحَيَاةُ، فَالْمَيِّتُ لاَ يُكَلَّفُ، وَلِهَذَا لَوْ وَصَل عَظْمُهُ بِنَجَسٍ لَمْ يُنْزَعْ عَلَى الصَّحِيحِ.
الثَّانِي: كَوْنُهُ مِنَ الثَّقَلَيْنِ: الإِْنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلاَئِكَةِ.
الثَّالِثُ: الْعَقْل، فَلاَ تَكْلِيفَ لِمَجْنُونٍ وَلاَ صَبِيٍّ لاَ يَعْقِل (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المستصفى 1 / 83 - 84 والبحر المحيط 1 / 344 وما بعدها.

(36/232)


مَحَلٌّ

التَّعْرِيفُ
1 - الْمَحَل فِي اللُّغَةِ: - بِفَتْحِ الْحَاءِ - مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُحَل فِيهِ، وَمِنْهُ مَحَل الإِْعْرَابِ فِي النَّحْوِ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّفْظُ الْوَاقِعُ فِيهِ مِنَ الإِْعْرَابِ لَوْ كَانَ مُعْرَبًا.
وَالْمَحِل - بِكَسْرِ الْحَاءِ - الْمَكَانُ الَّذِي يَحِل فِيهِ، وَالأَْجَل، فَمَحِل الدَّيْنِ أَجَلُهُ، وَمَحِل الْهَدْيِ يَوْمُ النَّحْرِ.
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) أَيْ وُجُوبُ نَحْرِهَا، أَوْ وَقْتُ وُجُوبِ نَحْرِهَا فِي الْحَرَمِ مُنْتَهِيَةً إِلَى الْبَيْتِ.
وَالْمَحَلَّةُ: الْمَكَانُ يَنْزِلُهُ الْقَوْمُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَحِل - بِكَسْرِ الْحَاءِ - هُوَ الْوَقْتُ وَالأَْجَل، وَبِفَتْحِ الْحَاءِ الْمَوْضِعُ وَالْمَكَانُ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى
__________
(1) سورة الحج / 33.
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، وكشاف القناع 3 / 14 ط دار المعرفة.

(36/233)


الشَّيْءِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ (1) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَل مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَلاَ - الْمَحَل بِمَعْنَى الْمَوْضِعِ وَالْمَكَانِ:
يَأْتِي الْمَحَل بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا:

أ - تَطْهِيرُ مَحَل النَّجَاسَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْصُل بِهِ طَهَارَةُ مَحَل النَّجَاسَةِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ مَرْئِيَّةً طَهُرَ الْمَحَل الْمُتَنَجِّسُ بِهَا بِزَوَال عَيْنِهَا، وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ طَهُرَ الْمَحَل بِغَسْلِهَا ثَلاَثًا وُجُوبًا مَعَ الْعَصْرِ كُل مَرَّةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحَل النَّجَاسَةِ يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ عَدَدٍ مَعَ زَوَال طَعْمِ النَّجَاسَةِ وَلَوْ عَسُرَ، وَزَوَال اللَّوْنِ وَالرِّيحِ إِنْ تَيَسَّرَ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ عَيْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ.
فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ عَيْنًا وَجَبَ بَعْدَ زَوَال عَيْنِهَا إِزَالَةُ الطَّعْمِ، فَإِنْ عَسُرَ زَوَالُهُ بِحَتٍّ أَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 138، 139، وحاشية القليوبي 2 / 256، 276، ومغني المحتاج 2 / 233، وجواهر الإِكليل 2 / 144، وكشاف القناع 3 / 300.

(36/233)


قَرْصٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ عُفِيَ عَنْهُ مَا دَامَ الْعُسْرُ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهُ إِذَا قَدَرَ، وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ اللَّوْنِ أَوِ الرِّيحِ إِنْ تَعَسَّرَ زَوَالُهُمَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسَاتُ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ مُنْقِيَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَةٌ ف 11) .

ب - فِي الْوُضُوءِ:
2 - الأَْصْل أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل أَوْ مَسْحُ مَحَل الْفَرْضِ فِي الْوُضُوءِ، كَمَا يُسَنُّ غَسْل أَوْ مَسْحُ مَا هُوَ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَشْمَلُهُ مَحَل الْفَرْضِ أَوِ السُّنَّةِ.
وَيُسَنُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الزِّيَادَةُ عَلَى مَحَل الْفَرْضِ فِي الْوُضُوءِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيل غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَحَل الْفَرْضِ لأَِنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ (2) .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ مَحَل الْوُضُوءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
__________
(1) حديث: " إن أمتي يأتون يوم القيامة. . ". أخرجه مسلم (1 / 216) من حديث أبي هريرة.
(2) مغني المحتاج 1 / 61، وشرح منتهى الإِرادات 1 / 44، وجواهر الإِكليل 1 / 17.

(36/234)


ج - النَّظَرُ إِلَى مَحَل السُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي جَمِيعِ صَلاَتِهِ لِقَوْل أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ، فَلَمَّا أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) رَمَقُوا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِمْ، لأَِنَّ جَمْعَ النَّظَرِ فِي مَوْضِعٍ أَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ، وَمَوْضِعُ سُجُودِهِمْ أَشْرَفُ وَأَسْهَل.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْخُشُوعُ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَجْعَل نَظَرَهُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ يَسَارٍ وَقَتَادَةَ (2) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا فِي غَيْرِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، أَمَّا فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ حَالَةَ التَّشَهُّدِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ إِذَا رَفَعَ مُسَبِّحَتَهُ أَنْ لاَ يُجَاوِزَ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَعَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ، لَكِنْ صَوَّبَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ، وَقَال الإِْسْنَوِيُّ: إِنَّ اسْتِحْبَابَ نَظَرِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي الصَّلاَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ.
__________
(1) سورة المؤمنون / 2.
(2) مغني المحتاج 1 / 180، وشرح منتهى الإِرادات 1 / 176، والمغني 2 / 8.

(36/234)


وَجَزَمَ الْبَغَوِيِّ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ فِي الْقِيَامِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي الرُّكُوعِ إِلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ إِلَى أَنْفِهِ، وَفِي الْقُعُودِ إِلَى حَجْرِهِ، لأَِنَّ امْتِدَادَ الْبَصَرِ يُلْهِي فَإِذَا قَصَّرَ كَانَ أَوْلَى (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: أَيْنَ أَجْعَل بَصَرِي فِي الصَّلاَةِ؟ قَال: مَوْضِعَ سُجُودِكَ، قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ ذَلِكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّ ذَلِكَ لاَ 1 أَسْتَطِيعُ؟ قَال: فَفِي الْمَكْتُوبَةِ إِذًا (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ مَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي فِي صَلاَةِ خَوْفٍ وَنَحْوِهِ، كَخَائِفِ ضَيَاعَ مَالٍ وَنَحْوِهِ، فَيَنْظُرُ إِلَى جِهَةِ الْعَدُوِّ وَإِلَى جِهَةِ مَالِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ (3) .
وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ النَّظَرَ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ وَغَيْرَهُ مِنَ الآْدَابِ، جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: مِنْ آدَابِ الصَّلاَةِ نَظَرُ الْمُصَلِّي إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ حَال قِيَامِهِ، وَإِلَى ظَهْرِ قَدَمَيْهِ حَال رُكُوعِهِ، وَإِلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ حَال سُجُودِهِ، وَإِلَى حَجْرِهِ حَال قُعُودِهِ، وَإِلَى مَنْكِبِهِ الأَْيْمَنِ عِنْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 180.
(2) حديث بعض الصحابة أنه قال: يا رسول الله أين أجعل بصري في الصلاة؟ . أورده ابن قدامة في المغني (2 / 390 - ط دار هجر) وعزاه إلى الإِفراد لأبي طالب العشاري، ولم نهتد لمن أخرجه غيره.
(3) شرح منتهى الإِرادات 1 / 176.

(36/235)


التَّسْلِيمَةِ الأُْولَى، وَإِلَى مَنْكِبِهِ الأَْيْسَرِ عِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ وَذَلِكَ لِتَحْصِيل الْخُشُوعِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَا يُنَافِي الْخُشُوعَ فَإِنَّهُ يَعْدِل إِلَى مَا يَحْصُل فِيهِ الْخُشُوعُ، ثُمَّ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى أَنَّ الْمَنْقُول فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ فِي صَلاَتِهِ إِلَى مَحَل سُجُودِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل وَالْخَرَشِيِّ: يُكْرَهُ النَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِتَأْدِيَتِهِ لاِنْحِنَائِهِ بِرَأْسِهِ وَإِنَّمَا يَجْعَل بَصَرَهُ أَمَامَهُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ بَصَرُ الْمُصَلِّي أَمَامَ قِبْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى شَيْءٍ أَوْ يُنَكِّسَ رَأْسَهُ، وَهُوَ إِذَا فَعَل ذَلِكَ خَشَعَ بَصَرُهُ وَوَقَعَ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ عَلَى مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بِضَيِّقٍ عَلَيْهِ أَنْ يَلْحَظَ بَصَرُهُ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَيْهِ، فَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَال مَالِكٌ: يَنْظُرُ أَمَامَهُ فَإِنَّهُ إِذَا أَحْنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَامِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ وَهُوَ أَشْرَفُ الأَْعْضَاءِ، وَإِنْ أَقَامَ رَأْسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ بِبَعْضِ بَصَرِهِ إِلَى الأَْرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ، وَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَقْبِل جِهَةَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَنْ يَرْفَعَ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ إِلَى
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 321.

(36/235)


السَّمَاءِ لأَِنَّهُ إِعْرَاضٌ عَنِ الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ (1) .
لَكِنْ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ جَعَل نَظَرَ الْمُصَلِّي إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ مِنَ الْمُسْتَحَبَّاتِ (2) .

د - اشْتِرَاطُ الْمُحْرِمِ التَّحَلُّل فِي مَحَل الإِْحْصَارِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الاِشْتِرَاطِ فِي الإِْحْرَامِ، وَهُوَ أَنْ يَقُول الْمُحْرِمُ عِنْدَ الإِْحْرَامِ: إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ، فَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِشْتِرَاطَ فِي الإِْحْرَامِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلاَ أَثَرَ لَهُ فِي إِبَاحَةِ التَّحَلُّل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاِشْتِرَاطِ فِي الإِْحْرَامِ وَأَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي التَّحَلُّل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَارٌ ف 45 وَمَا بَعْدَهَا) .

هـ - فِي الْوَدِيعَةِ:
5 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَضْمَنُ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ إِنْ
__________
(1) حديث: " لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم. . " أخرجه مسلم (1 / 321) من حديث جابر بن سمرة.
(2) منج الجليل 1 / 164، والحطاب 1 / 549، والخرشي وحاشية العدوي عليه 1 / 293، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 312، 313 في تفسير سورة المؤمنون.

(36/236)


سَافَرَ وَأَوْدَعَهَا لِغَيْرِ زَوْجَةٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَخْشَى ضَيَاعَهَا بِبَقَائِهَا فِي مَحَلِّهَا كَانْهِدَامِ الدَّارِ وَمُجَاوَرَةِ مَنْ يَخْشَى شَرَّهُ، وَلاَ تُضْمَنُ إِنْ سَافَرَ بِالْوَدِيعَةِ وَرَدَّهَا لِمَحَل إِيدَاعِهَا ثُمَّ تَلِفَتْ (1)
وَيَجُوزُ لِلْمُودَعِ أَخْذُ أُجْرَةِ الْمَحَل الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَدِيعَةٌ) .

ثَانِيًا: الْمَحِل بِمَعْنَى الأَْجَل وَالزَّمَانِ
يَأْتِي الْمَحِل بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا:

أ - فِي السَّلَمِ:
7 - مِنْ شُرُوطِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الأَْجَل فِيهِ مَعْلُومًا وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الأَْجَل، وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - عَنْ أَجَل التَّسْلِيمِ وَوَقْتِ حُلُولِهِ بِالْمَحَل (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (سَلَمٌ ف 23 وَمَا بَعْدَهَا) .

ب - فِي الشُّفْعَةِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى
__________
(1) جواهر الإِكليل 2 / 141، 142، وحاشية الدسوقي 3 / 421، 422.
(2) جواهر الإِكليل 2 / 144.
(3) مغني المحتاج 2 / 106، 116، والمغني 4 / 325.

(36/236)


أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّهُ لاَ يَحِقُّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْحَال بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَيَّرٌ بِأَنْ يُعَجِّل الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي وَيَأْخُذَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ فِي الْحَال، أَوْ يَصْبِرَ إِلَى الْمَحِل - وَهُوَ وَقْتُ الْحُلُول - وَيَأْخُذَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا فِي الْحَال بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّ الشَّفِيعَ إِنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا وَجَبَ بِالْبَيْعِ، وَالأَْجَل لَمْ يَجِبْ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ جَوَّزْنَا لَهُ الأَْخْذَ فِي الْحَال بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل لأََضْرَرْنَا بِالْمُشْتَرِي لأَِنَّ الذِّمَمَ تَخْتَلِفُ، وَإِنْ أَلْزَمْنَاهُ الأَْخْذَ فِي الْحَال بِنَظِيرِهِ مِنَ الْحَال أَضْرَرْنَا بِالشَّفِيعِ، لأَِنَّ الأَْجَل يُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَافِعًا لِلضَّرَرَيْنِ وَجَامِعًا لِلْحَقَّيْنِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي شِرَاءِ الدَّارِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، فَإِنْ سَكَتَ إِلَى مَحِل الأَْجَل فَذَلِكَ تَسْلِيمٌ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَال: إِذَا طَلَبَ عِنْدَ حِل الأَْجَل فَلَهُ الشُّفْعَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَنِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 27، والهداية 4 / 32، ومغني المحتاج 2 / 301.

(36/237)


بِالأَْجَل إِنْ كَانَ مَلِيئًا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَقَامَ كَفِيلاً مَلِيئًا وَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل، لأَِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ بِقَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ وَالتَّأْجِيل مِنْ صِفَتِهِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّفِيعُ مُوسِرًا وَلاَ ضَمِنَهُ مَلِيءٌ فَإِنَّهُ لاَ شُفْعَةَ لَهُ، إِلاَّ أَنْ يُعَجِّل الثَّمَنَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ إِلاَّ إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ مِثْل الْمُشْتَرِي فِي الْعَدَمِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَل (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الشِّقْصِ وَتَأْجِيل الثَّمَنِ إِلَى مَحِلِّهِ وَأَبَى الشَّفِيعُ إِلاَّ الصَّبْرَ إِلَى الْمَحِل بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ عَلَى الأَْصَحِّ (2) .

ج - فِي الرَّهْنِ:
9 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ كَوْنَ الْمَرْهُونِ مَبِيعًا لَهُ عِنْدَ حُلُول الدَّيْنِ فَسَدَ الرَّهْنُ لِتَأْقِيتِهِ وَفَسَدَ الْبَيْعُ لِتَعْلِيقِهِ، وَالْمَرْهُونُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَبْل الْمَحَل - أَيْ وَقْتَ الْحُلُول - أَمَانَةٌ، لأَِنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ، وَبَعْدَهُ مَضْمُونٌ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ إِنْ رَهَنَ شَيْئًا وَاتَّفَقَ مَعَ الْمُرْتَهَنِ أَنَّهُ إِنْ جَاءَهُ بِحَقِّهِ فِي
__________
(1) الخرشي 6 / 166، وجواهر الإِكليل 2 / 158، 159، وكشاف القناع 4 / 161.
(2) مغني المحتاج 2 / 302.
(3) مغني المحتاج 2 / 137.

(36/237)


مَحِلِّهِ - أَيْ حُلُول أَجَلِهِ - وَإِلاَّ فَالرَّهْنُ لِلْمُرْتَهِنِ لِحَدِيثِ: لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ. . . (1) .
وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ (2) .

ثَالِثًا: الْمَحَل بِمَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ
10 - مَحَل الْعَقْدِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَتَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ وَآثَارُهُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعُقُودِ فَقَدْ يَكُونُ الْمَحَل عَيْنًا مَالِيَّةً كَالْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ وَالْمَرْهُونِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَحَل عَمَلاً كَعَمَل الأَْجِيرِ وَالزَّارِعِ وَالْوَكِيل، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً كَمَنْفَعَةِ الْمَأْجُورِ وَالْمُسْتَعَارِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا.
وَلِلْمَحَل شُرُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 33 - 42) .

أَثَرُ فَوَاتِ الْمَحَل
11 - يَتَرَتَّبُ عَلَى فَوَاتِ مَحَل التَّصَرُّفِ بُطْلاَنُهُ أَوِ الضَّمَانُ، وَلِذَلِكَ فُرُوعٌ وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (بَيْعٌ ف 59) . و (عَقْدٌ ف 60) وَ (فَسْخٌ ف 17) و (ضَمَانٌ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث: " لا يغلق الرهن من صاحبه. . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8 / 237) ، والبغوي في شرح السنة (8 / 184) واللفظ له، من حديث سعيد بن المسيب مرسلاً، وروي مسنداً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورجع ابن عبد الهادي في التنقيح إرساله، نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية (4 / 321) .
(2) شرح منتهى الإِرادات 2 / 165.

(36/238)


مُحَلِّلٌ

انْظُرْ: تَحْلِيلٌ.

مُحِيطٌ

انْظُرْ: إِحْرَامٌ.

مُحِيلٌ

انْظُرْ: حَوَالَةٌ.

مُحَيِّرَةٌ

انْظُرْ: مُتَحَيِّرَةٌ.

(36/238)


مُخَابَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْمُخَابَرَةِ فِي اللُّغَةِ: الْمُزَارَعَةُ عَلَى بَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ، مِنْ خَبَرْتُ الأَْرْضَ: شَقَقْتُهَا لِلزِّرَاعَةِ فَقَطْ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هِيَ الْمُزَارَعَةُ، وَهِيَ دَفْعُ أَرْضٍ وَحَبٍّ لِمَنْ يَزْرَعُهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ، أَوْ دَفْعُ حَبٍّ مَزْرُوعٍ لِمَنْ يَعْمَل عَلَيْهِ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمُتَحَصِّل (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى أَرْضٍ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالْبَذْرُ مِنَ الْعَامِل (4) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُسَاقَاةُ:
2 - الْمُسَاقَاةُ هِيَ دَفْعُ شَجَرٍ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهُ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) ابن عابدين 5 / 174.
(3) كشاف القناع 3 / 532.
(4) تحفة المحتاج 6 / 108، والمحلي شرح المنهاج 3 / 61.

(36/239)


بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهِ (1)
وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْمُخَابَرَةَ تَكُونُ عَلَى الْعَمَل عَلَى الزَّرْعِ وَتَعَهُّدُهُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَالْمُسَاقَاةُ تَكُونُ عَلَى شَجَرٍ مُثْمِرٍ بِبَعْضِ الْخَارِجِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُخَابَرَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُخَابَرَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا جَائِزَةٌ بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا فِي الْمُزَارَعَةِ، لأَِنَّ الْمُخَابَرَةَ وَالْمُزَارَعَةَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى وَاحِدٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا لاَ تَصِحُّ، وَاسْتَدَلُّوا: بِحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُخَابَرَةِ (3) .
وَحَدِيثٍ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَحْهَا أَخَاهُ فَلْيُمْسِكْهَا (4) .
وَالتَّفْصِيل وَأَدِلَّةُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ) .

مُخَادَعَةٌ

انْظُرْ: خُدْعَةٌ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 181، وكشاف القناع 3 / 532، وتحفة المحتاج 6 / 106، والمحلي على القليوبي 3 / 61.
(2) كشاف القناع 1 / 534، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 6 / 108.
(3) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ". أخرجه مسلم (3 / 1177) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) حديث: " من كانت له أرض فليزرعها. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1177) من حديث جابر بن عبد الله.

(36/239)


مَخَارِجُ الْحِيَل

التَّعْرِيفُ:
1 - مَخَارِجُ الْحِيَل مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنْ مَخَارِجَ وَحَيْلٍ.
فَالْمَخَارِجُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَخْرَجٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ وَيُقَال: وَجَدْتُ لِلأَْمْرِ مَخْرَجًا مَخْلَصًا وَفُلاَنٌ يَعْرِفُ مَوَالِجَ الأُْمُورِ وَمَخَارِجَهَا أَيْ: مُتَصَرِّفٌ خَبِيرٌ بِالأَْشْيَاءِ (1) .
وَالْمَخَارِجُ فِي اسْتِعْمَالاَتِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الْحِيَل الْمُبَاحَةُ وَالْعَمَل بِهَا لأَِنَّهَا مَخَارِجُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ حَلَّتْ بِهِ نَازِلَةٌ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ.
قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا} (2) قَال غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ.
وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الْحِيَل مَخَارِجُ مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ فَالْحَالِفُ يَضِيقُ عَلَيْهِ إِلْزَامُ مَا حَلَفَ
__________
(1) المعجم الوسيط، وتاج العروس، ولسان العرب، ومختار الصحاح، والمصباح المنير.
(2) سورة الطلاق / 2.

(36/240)


عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ بِالْحِيلَةِ مَخْرَجٌ مِنْهُ وَالرَّجُل تَشْتَدُّ بِهِ الضَّرُورَةُ إِلَى نَفَقَةٍ وَلاَ يَجِدُ مِنْ يُقْرِضُهُ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ مَخْرَجٌ بِالْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِهِمَا (1) .
وَالْحِيلَةُ لُغَةً: الْحِذْقُ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال النَّسَفِيُّ: مَا يُتَلَطَّفُ بِهِ لِدَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: غَلَبَ عَلَيْهَا بِالْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الرَّجُل إِلَى حُصُول غَرَضِهِ بِحَيْثُ لاَ يُتَفَطَّنُ لَهُ إِلاَّ بِنَوْعٍ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا جَائِزًا أَوْ مُحَرَّمًا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّخْصَةُ:
2 - الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّسْهِيل فِي الأَْمْرِ وَالتَّيْسِيرُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ وَعَجْزٍ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْمُحَرَّمِ (4) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: الرُّخْصَةُ مَا بُنِيَ عَلَى
__________
(1) الكشاف 4 / 555، وابن كثير 8 / 388 وما بعدها - ط. المنار، والمخارج في الحيل ص 87 - 88، وإعلام الموقعين 3 / 189 - 189 - ط. دار الجيل، والأشباه النظائر لابن نجيم ص 405 - ط. مكتبة الهلال.
(2) الكشاف 4 / 555، وابن كثير 8 / 388 وما بعدها - ط. المنار، والمخارج في الحيل ص 87 - 88، وإعلام الموقعين 3 / 189 - 189 - ط. دار الجيل، والأشباه النظائر لابن نجيم ص 405 - ط. مكتبة الهلال.
(3) المصباح المنير.
(4) المستصفي للغزالي 1 / 98.

(36/240)


أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَيُقَابِلُهَا الْعَزِيمَةُ (1) . وَتَشْتَرِكُ الرُّخْصَةُ مَعَ مَخَارِجِ الْحِيَل فِي التَّيْسِيرِ فِي كُلٍّ.

ب - التَّيْسِيرُ:
3 - مِنْ مَعَانِي التَّيْسِيرِ: التَّسْهِيل وَالتَّهْيِئَةُ. وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ مَخَارِجِ الْحِيَل وَالتَّيْسِيرِ أَنَّ الْمَخَارِجَ سَبَبٌ فِي التَّيْسِيرِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِوَازِ الْحِيَل.
قَال الْحَنَفِيَّةُ كَمَا قَال السَّرَخْسِيُّ - إِنَّ الْحِيَل فِي الأَْحْكَامِ الْمُخْرَجَّةِ عَنِ الآْثَامِ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتَدَل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} (3) ، وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ هَذَا تَعْلِيمُ الْمَخْرَجِ لأَِيُّوبِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً.
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال يَوْمَ الأَْحْزَابِ لِنَعِيمِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ أَسْلَمَ: إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّل عَنَّا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 176 - ط. بولاق.
(2) القاموس المحيط، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(3) سورة ص / 44.

(36/241)


إِنْ اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا الْحَرْبُ خُدْعَةٌ (1) .
وَقَال: وَالْحَاصِل أَنَّ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُل مِنَ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْحَلاَل مِنَ الْحِيَل فَهُوَ حَسَنٌ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَال فِي حَقِّ شَخْصٍ حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِل فِيهِ شُبْهَةً فَمَا كَانَ عَلَى هَذَا السَّبِيل فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَمَا كَانَ عَلَى سَبِيل الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ بِهِ (2) لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - كَمَا قَال الشَّاطِبِيُّ الْحَقِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ لِلْحِيَل أَنَّهَا: تَقْدِيمُ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ لإِِبْطَال حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلُهُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ فَمَآل الْعَمَل فِيهَا خَرْمُ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ كَالْوَاهِبِ مَالَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْل فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَإِنَّ أَصْل الْهِبَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَلَوْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ هِبَةٍ لَكَانَ مَمْنُوعًا فَإِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ أَمْرُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْقَصْدِ صَارَ مَآل الْهِبَةِ الْمَنْعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ وَلَكِنْ هَذَا بِشَرْطِ الْقَصْدِ إِلَى
__________
(1) حديث: " إنما أنت فينا رجل واحد. . . ". أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3 / 445، 446) .
(2) المبسوط 30 / 210، وإعلام الموقعين 3 / 194.
(3) سورة المائدة / 2.

(36/241)


إِبْطَال الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ (1) وَالْحِيَل فِي الدِّينِ - بِمَعْنَى قَلْبِ الأَْحْكَامِ الثَّابِتَةِ شَرْعًا إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ بِفِعْلٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ لَغْوٌ فِي الْبَاطِنِ - غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي الْجُمْلَةِ (2) .
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: وَمَرْجِعُ الأَْمْرِ فِي الْحِيَل أَنَّهَا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: لاَ خِلاَفَ فِي بُطْلاَنِهِ كَحِيَل الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ.

وَالثَّانِي: لاَ خِلاَفَ فِي جِوَازِهِ كَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِكْرَاهًا عَلَيْهَا لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَصْلَحَةً دُنْيَوِيَّةً لاَ مَفْسَدَةَ فِيهَا بِإِطْلاَقِ لاَ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآْخِرَةِ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَحَل الإِْشْكَال وَالْغُمُوضِ:
وَهُوَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ قَطْعِيٍّ لَحَاقُهُ بِالْقِسْمِ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي وَلاَ تَبَيَّنَ فِيهِ لِلشَّارِعِ مَقْصِدٌ يُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ وَلاَ ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلاَفِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَنَازَعًا فِيهِ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْحِيَل عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَقْسَامٍ بِحَسَبِ الْحَامِل عَلَيْهَا فَإِنْ تَوَصَّل بِهَا بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ إِلَى إِبْطَال حَقٍّ أَوْ إِثْبَاتِ بَاطِلٍ فَهِيَ حَرَامٌ أَوْ إِلَى إِثْبَاتِ
__________
(1) الموافقات 4 / 201.
(2) الموافقات 2 / 380.
(3) الموافقات للشاطبي 2 / 387 وما بعدها.

(36/242)


حَقٍّ أَوْ دَفْعِ بَاطِلٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ تَوَصَّل بِهَا بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ إِلَى سَلاَمَةٍ مِنْ وُقُوعٍ فِي مَكْرُوهٍ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ أَوْ إِلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ تَعَاطِي الْحِيَل فِي تَفْوِيتِ الْحُقُوقِ فَقَال بَعْضُ أَصْحَابِهِ هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَقَال كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ كَالْغَزَالِيِّ: هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَيَأْثَمُ بِقَصْدِهِ وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (1) فَمَنْ نَوَى بِعَقْدِ الْبَيْعِ الرِّبَا وَقَعَ فِي الرِّبَا وَلاَ يُخَلِّصُهُ مِنَ الإِْثْمِ صُورَةُ الْبَيْعِ وَمَنْ نَوَى بِعَقْدِ النِّكَاحِ التَّحْلِيل كَانَ مُحَلِّلاً وَدَخَل فِي الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّعْنِ، وَلاَ يُخَلِّصُهُ مِنْ ذَلِكَ صُورَةُ النِّكَاحِ وَكُل شَيْءٍ قُصِدَ بِهِ تَحْرِيمُ مَا أَحَل اللَّهُ أَوْ تَحْلِيل مَا حَرَّمَ اللَّهُ كَانَ إِثْمًا وَلاَ فَرْقَ فِي حُصُول الإِْثْمِ فِي التَّحْلِيل عَلَى الْفِعْل الْمُحَرَّمِ بَيْنَ الْفِعْل الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالْفِعْل الْمَوْضُوعِ لِغَيْرِهِ إِذَا جُعِل ذَرِيعَةً لَهُ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: تَجْوِيزُ الْحِيَل يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ مُنَاقَضَةً ظَاهِرَةً فَإِنَّ الشَّارِعَ يَسُدُّ الطَّرِيقَ إِلَى الْمُفَاسَدِ بِكُل مُمْكِنٍ
__________
(1) حديث: " وإنما لكل امرئ ما نوى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9) ومسلم (3 / 1515) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.
(2) فتح الباري 12 / 326، 328.

(36/242)


وَالْمُحْتَال يَفْتَحُ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا بِحِيلَةٍ وَالْحِيَل الْمُحَرَّمَةُ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ حَرَامٌ فَحَقِيقٌ بِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَ نَكَالَهُ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلاَل مَحَارِمِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالاِحْتِيَال وَيَدُل عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيَل الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (1) وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَنْقِيصِهَا بِسَبَبِ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ وَمِمَّا يَدُل عَلَى التَّحْرِيمِ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْحِيَل وَإِبْطَالِهَا وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى بُطْلاَنِ الْحِيَل وَتَحْرِيمِهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ لِمَا تَتَضَمَّنُ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ فَإِذَا احْتَال الْعَبْدُ عَلَى تَحْلِيل مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَإِسْقَاطِ مَا فَرَضَ اللَّهُ وَتَعْطِيل مَا شَرَعَ اللَّهُ كَانَ سَاعِيًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْفَسَادِ وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْحِيَل لاَ تَمْشِي عَلَى أُصُول الأَْئِمَّةِ بَل تَنَاقُضُهَا أَعْظَمَ مُنَاقَضَةٍ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَحِل الاِحْتِيَال
__________
(1) حديث: " ولا يجمع بين متفرق. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 330) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) إعلام الموقعين 3 / 159، 161، 163، 172، 173، 180.

(36/243)


لإِِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَإِنْ فَعَل لَمْ تَسْقُطْ.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلْتُهُ عَنِ الْحِيلَةِ فِي إِبْطَال الشُّفْعَةِ: لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنَ الْحِيَل فِي ذَلِكَ وَلاَ فِي إِبْطَال حَقِّ مُسْلِمٍ (1) .

مَخَارِجُ الْحِيَل فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ:
تَدْخُل الْحِيَل فِي الْعَدِيدِ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

الْحِيلَةُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لُبْسُهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ لَبِسَ الْمُتَوَضِّئُ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْل غَسْل الرِّجْل الأُْخْرَى ثُمَّ غَسَل الأُْخْرَى وَلَبِسَ عَلَيْهَا الْخَفَّ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ لأَِنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ عَلَى كَمَال الطَّهَارَةِ (2) وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ: أَنْ يَخْلَعَ هَذِهِ الْفَرْدَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَلْبَسَهَا (3) .

الْحِيلَةُ فِي الصَّلاَةِ
6 - مِنَ الْحِيَل فِي الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا
__________
(1) المغني 5 / 353.
(2) القوانين الفقهية / 43، وجواهر الإِكليل 1 / 24، 25 - ط. دار الباز، وحاشية الجمل 1 / 141، والمغني 1 / 282.
(3) إعلام الموقعين 3 / 204.

(36/243)


صَرَّحَ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ: بِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ مُنْفَرِدًا أَرْبَعًا فَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَالْحِيلَةُ أَنْ لاَ يَجْلِسَ عَلَى رَأْسِ الرَّابِعَةِ حَتَّى تَنْقَلِبَ هَذِهِ الصَّلاَةُ نَفْلاً وَيُصَلِّي مَعَ الإِْمَامِ.
قَال الْحَمَوِيُّ: وَإِذَا انْقَلَبَتْ هَذِهِ الصَّلاَةُ نَفْلاً يَضُمُّ إِلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِئَلاَّ يَلْزَمَ التَّنَفُّل بِالْبَتْرَاءِ (1) .

الْحِيلَةُ فِي قِرَاءَةِ الْحَائِضِ
7 - قَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ بَعْضِ آيَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً وَلَوْ كَرَّرَهُ لاَ إِعْجَازَ فِيهِ مَا لَمْ يَتَحَيَّل عَلَى قِرَاءَةٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ كَقِرَاءَةِ آيَةٍ فَأَكْثَرَ؛ لأَِنَّ الْحِيَل غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ (2) .

الْحِيلَةُ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ
8 - مِنَ الْحِيَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ السَّجْدَةِ، وَيَدَعَ آيَتَهَا أَوْ يَقْرَأَهَا سِرًّا بِحَيْثُ لاَ يُسْمِعُ نَفْسَهُ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ إِسْمَاعُ نَفْسِهِ لاَ مُجَرَّدُ تَصْحِيحِ الْحُرُوفِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذِهِ الْحِيلَةِ: فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهَا لاَ تُكْرَهُ وَقَال مُحَمِّدٌ: تُكْرَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 405 وحاشية الحموي 3 / 292 - نشر إدارة القرآن والعلوم الإِسلامية.
(2) كشاف القناع 1 / 147.
(3) ابن عابدين 5 / 156.

(36/244)


الْحِيلَةُ فِي الزَّكَاةِ
الْكَلاَمُ عَلَى الْحِيَل فِي الزَّكَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أ - فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّحَيُّل عَلَى إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بِإِبْدَال النِّصَابِ بِغَيْرِ جَنْسِهِ قَبْل نِهَايَةِ الْحَوْل فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ لأَِنَّ النِّصَابَ نَقْصٌ قَبْل تَمَامِ حَوْلِهِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى تَحْرِيمِ التَّحَيُّل لإِِسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَأَنَّهُ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُبَدَّل مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنَ النُّصُبِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 114) .

ب - فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى أَصْلِهِ وَإِنْ عَلاَ وَلاَ إِلَى فَرْعِهِ وَإِنْ سَفَل وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ وَالْحِيلَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفَقِيرِ ثُمَّ يَصْرِفُهَا الْفَقِيرُ إِلَيْهِمَا (2) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 166 - ط. دار المعرفة، وابن عابدين 2 / 21، 37 و5 / 156، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 405، 407 وجواهر الإِكليل 1 / 120، والقوانين الفقهية / 103، والجمل على شرح المنهج 2 / 231، وروضة الطالبين 2 / 190، ومغني المحتاج 1 / 379، والمغني 2 / 676 - 677، وإعلام الموقعين 3 / 308 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 2 / 63 - ط. بولاق، والقوانين الفقهية / 108، وكشاف القناع 2 / 290، والمغني 2 / 647.

(36/244)


وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ شَرْطٌ فِي مُصَارِفِ الزَّكَاةِ فَلاَ تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إِلَى بِنَاءِ نَحْوِ مَسْجِدٍ كَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلاَحِ الطُّرُقَاتِ وَكَرْيِ الأَْنْهَارِ وَالْحَجِّ وَالتَّكْفِينِ وَكُل مَا لاَ تَمْلِيكَ فِيهِ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازُ الدَّفْعِ لِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ مَعَ صِحَّةُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِفِعْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ الزَّكَاةِ وَلِلْفَقِيرِ ثَوَابُ هَذِهِ الْقُرَبِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي الزَّكَاةِ أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنِ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَال الزَّكَاةِ وَبِالْعَيْنِ مَا كَانَ قَائِمًا فِي مِلْكِهِ مِنْ نُقُودٍ وَعُرُوضٍ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عَنِ الْعَيْنِ كَجَعْلِهِ مَا فِي ذِمَّةِ مَدْيُونِهِ زَكَاةً لِمَالِهِ الْحَاضِرِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَدَاءُ دَيْنٍ عَنْ دَيْنٍ سَيُقْبَضُ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْفَقِيرَ عَنْ بَعْضِ النِّصَابِ نَاوِيًا بِهِ الأَْدَاءَ عَنِ الْبَاقِي لأَِنَّ الْبَاقِيَ يَصِيرُ عَيْنًا بِالْقَبْضِ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا الدَّيْنَ عَنِ الْعَيْنِ.
وَحِيلَةُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ فِيمَا إِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُعْسِرٍ وَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ زَكَاةً عَنْ عَيْنٍ عِنْدَهُ أَوْ عَنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ سَيَقْبِضُهُ: أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 12، 63 والأشباه والنظائر لابن نجيم / 405، 407، والقوانين الفقهية / 109 والمغني 2 / 667، وكشاف القناع 2 / 270.

(36/245)


يُعْطِيَ مَدْيُونَهُ الْفَقِيرَ زَكَاتَهُ، ثُمَّ يَأْخُذَهَا عَنْ دَيْنِهِ قَال فِي الأَْشْبَاهِ: وَهُوَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ وَاسْتَدَل ابْنُ عَابِدِينَ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: لأَِنَّهُ يَصِيرُ وَسِيلَةً إِلَى بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ حِيلَةً قَال الْحَطَّابُ: وَمَحَل الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَيْهِ وَإِلاَّ مُنِعَ اتِّفَاقًا.
وَقَال أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ حِيلَةً فَلاَ يُعْجِبْنِي قَال الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: مَعْنَى الْحِيلَةِ: أَنْ يُعْطِيَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَهَا تَمْلِيكًا صَحِيحًا، فَإِذَا شَرَطَ الرُّجُوعَ لَمْ يُوجَدْ وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى نَفْعِهِ وَإِنْ رَدَّ الْغَرِيمُ مِنْ نَفْسِهِ مَا قَبَضَهُ وَفَاءً عَنْ دَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلاَ مُوَاطَأَةٍ جَازَ لِرَبِّ الْمَال أَخْذُهُ مِنْ دَيْنِهِ لأَِنَّهُ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ كَالإِْرْثِ وَالْهِبَةِ (2) .

الْحِيلَةُ فِي الْحَجِّ
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي الْحَجِّ وَذَلِكَ كَأَنْ يَهَبَ مَالَهُ لاِبْنِهِ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا: فَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ تُكْرَهُ، وَقَال مُحَمَّدٌ: تُكْرَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (3) .
وَإِذَا خَافَ الرَّجُل لِضِيقِ الْوَقْتِ أَنْ يُحْرِمَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 12، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 407. (2) جواهر الإِكليل 1 / 138 ط دار الباز ومكتبة الهلال، والمغني 2 / 653، وكشاف القناع 2 / 288، 289.
(2) جواهر الإِكليل 1 / 138 ط دار الباز ومكتبة الهلال، والمغني 2 / 653، وكشاف القناع 2 / 288، 289.
(3) ابن عابدين 5 / 156.

(36/245)


بِالْحَجِّ فَيَفُوتَهُ فَيَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ وَدَمُ الْفَوَاتِ فَالْحِيلَةُ مِنَ الْخَلاَصِ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُحْرِمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا وَلاَ يُعَيِّنُهُ فَإِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْوَقْتُ جَعَلَهُ حَجًّا مُفْرَدًا أَوْ قِرَانًا أَوْ تَمَتُّعًا، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ جَعَلَهُ عُمْرَةً وَلاَ يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا (1) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: إِذَا أَرَادَ الآْفَاقِيُّ دُخُول مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مِنَ الْمِيقَاتِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقْصِدَ مَكَانًا آخَرَ دَاخِل الْمَوَاقِيتِ كَبُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ (2) .
وَعَلَّقَ الْحَمَوِيُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: عِبَارَةُ التَّتَارْخَانِيَّةِ: قَصَدَ مَكَانًا آخَرَ وَرَاءَ مِيقَاتٍ نَحْوَ بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ، أَوْ مَوْضِعًا آخَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِحَاجَةٍ، ثُمَّ إِذَا وَصَل إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَدْخُل مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرَطَ الإِْقَامَةَ بِذَلِكَ الْمَكَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يَعْنِي لَوْ نَوَى أَقَل مِنْ ذَلِكَ لاَ يَدْخُل بِغَيْرِ إِحْرَامٍ (3) .

الْحِيلَةُ فِي النِّكَاحِ
12 - الأَْصْل أَنَّهُ إِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ نِكَاحَ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ وَلاَ بَيِّنَةَ وَلاَ يَمِينَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلاَ يُمْكِنُهَا التَّزَوُّجُ وَلاَ يُؤْمَرُ بِتَطْلِيقِهَا لأَِنَّهُ
__________
(1) المبسوط 4 / 170.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 407.
(3) غمز عيون البصائر 2 / 694.

(36/246)


يَصِيرُ عَقْدًا بِالنِّكَاحِ فَالْحِيلَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ: أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَقُول: إِنْ كُنْتِ امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا (1) .
وَمِنَ الْحِيَل فِي بَابِ النِّكَاحِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سُئِل عَنْ أَخَوَيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَزُفَّتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى زَوْجِ أُخْتِهَا وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى أَصْبَحُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ لأَِبِي حَنِيفَةَ وَطَلَبُوا الْمَخْرَجَ مِنْهُ فَقَال: لِيُطَلِّقْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْخَوَيْنِ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً ثُمَّ يَتَزَوَّجُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَل بِهَا مَكَانَهَا فَيَكُونُ جَائِزًا لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ دُخُولٌ وَلاَ خَلْوَةٌ، وَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنَ الطَّلاَقِ لأَِنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَعِدَّتُهَا مِنَ الْوَاطِئِ لاَ تَمْنَعُ نِكَاحَهُ (2) .
وَنَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ ذَلِكَ ثُمَّ قَال: وَهَذِهِ الْحِيلَةُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَل بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا فَإِنَّهُ لاَ يُصَانُ مَاؤُهُ عَنْ مَائِهِ، وَأَمْرُهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً: فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُل بِالَّتِي طَلَّقَهَا فَالْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا وَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْهُ، فَلِلآْخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 407، والاختيار 2 / 112 - ط. دار المعرفة، والمغني 9 / 238.
(2) المبسوط للسرخسي 30 / 244 - ط. دار المعرفة، والمخارج في الحيل / 48، وإعلام الموقعين 3 / 383.
(3) إعلام الموقعين 3 / 384.

(36/246)


الْحِيلَةُ فِي الطَّلاَقِ
13 - الأَْصْل أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِقَوْل الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَالْحِيلَةُ فِي عَدَمِ وُقُوعِ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنْ يَصِل قَوْلَهُ بِالاِسْتِثْنَاءِ وَيَقُول: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (طَلاَقٌ ف 55 وَمَا بَعْدَهَا) .

الْحِيلَةُ السُّرَيْجِيَّةُ فِي الطَّلاَقِ
14 - صُورَةُ هَذِهِ الْحِيلَةِ كَمَا نَقَلَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ - أَنْ يَقُول زَوْجٌ لِزَوْجَتِهِ: كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ أَوْ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْكِ الطَّلاَقُ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلاَثًا يَقُول أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ -: إِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الطَّلاَقِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذْ لَوْ وَقَعَ لَزِمَ مَا عَلَّقَ بِهِ وَهُوَ الثَّلاَثُ وَإِذَا وَقَعَتِ الثَّلاَثُ امْتَنَعَ وُقُوعُ هَذَا الْمُنَجَّزِ فَوُقُوعُهُ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ وَمَا أَفْضَى وُجُودُهُ إِلَى عَدَمِ وُجُودِهِ لَمْ يُوجَدْ (1) .
وَأَبَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إِبْطَال هَذَا التَّعْلِيقِ فَقَال الأَْكْثَرُونَ: هَذَا التَّعْلِيقُ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ مِنَ الْقَوْل (2) .
__________
(1) المخارج في الحيل ص 1 وما بعدها.
(2) إعلام الموقعين 3 / 251، 252.

(36/247)


الْحِيلَةُ فِي الأَْيْمَانِ
15 - الأَْصْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّ إِمْكَانَ تَصَوُّرِ الْبِرِّ فِي الْمُسْتَقْبَل شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَوْ بِطَلاَقٍ وَكَذَلِكَ شَرْطُ بَقَائِهَا وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُشْتَرَطُ تَصَوُّرُ الْبِرِّ وَلِهَذَا الأَْصْل فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
قَال الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ لَمْ تَهَبِينِي صَدَاقَكِ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَال أَبُوهَا: إِنْ وَهَبْتِهِ فَأُمُّكِ طَالِقٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تَشْتَرِيَ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا مَهْرَهَا ثَوْبًا مَلْفُوفًا فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ لَمْ يَحْنَثْ أَبُوهَا لِعَدَمِ الْهِبَةِ وَلاَ الزَّوْجُ لِعَجْزِهَا عَنِ الْهِبَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ لِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالْبَيْعِ ثُمَّ إِذَا أَرَادَتِ الرُّجُوعَ رَدَّتْهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ (1) .
وَكَذَلِكَ الأَْصْل أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَلَكِيَّةُ الْمَالِكِ حَيْنَ الْحِنْثِ لاَ حَيْنَ الْحَلِفِ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَال رَجُلٌ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَمَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فَحِيلَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَبِيعَ مِلْكَهُ مِنْ رَجُلٍ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ وَيَقْبِضَهُ وَلَمْ يَرَهُ ثُمَّ يَفْعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمِلْكُ حِينَ الْحِنْثِ لاَ حِينَ الْحَلِفِ وَلاَ يَدْخُل الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَرَاهُ وَيَرْضَى بِهِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 100، 101.
(2) ابن عابدين 4 / 367.

(36/247)


الْحِيلَةُ فِي الْوَقْفِ
16 - صَرَّحَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ وَقْفَ دَارِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَخَافَ عَدَمَ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَالْحِيلَةُ: أَنْ يُقِرَّ أَنَّهَا وَقْفُ رَجُلٍ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَأَنَّهُ مُتَوَلِّيهَا وَهِيَ فِي يَدِهِ (1) .

الْحِيلَةُ فِي الْوِصَايَةِ
17 - إِذَا أَرَادَ الْمَرِيضُ الَّذِي لاَ وَارِثَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ الْقَوْل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُقِرَّ لإِِنْسَانٍ يَثِقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِدَيْنٍ يُحِيطُ بِمَالِهِ كُلِّهِ ثُمَّ يُوصِيهِ إِذَا أَخَذَ ذَلِكَ الْمَال أَنْ يَضَعَهُ فِي الْجِهَاتِ الَّتِي يُرِيدُ (2) .

الْحِيلَةُ فِي التَّرِكَةِ
18 - الأَْصْل فِي التَّرِكَةِ أَنَّ نَقْدَهَا وَعَيْنَهَا وَدَيْنَهَا شَائِعٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمُ الاِسْتِقْلاَل بِشَيْءٍ دُونَ قِسْمَةٍ مُعْتَبَرَةٍ حَتَّى لَوْ قَبَضَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنَ الدَّيْنِ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ وَإِنْ قَصَدَ الْمَدِينُ الأَْدَاءَ عَنْ حِصَّتِهِ فَقَطْ.
وَمِنْ حِيَل الاِسْتِقْلاَل - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يُحِيل بَعْضُ الْوَرَثَةِ دَائِنَهُ عَلَى
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 411.
(2) إعلام الموقعين 4 / 39، 40.

(36/248)


قَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ دَيْنِ التَّرِكَةِ، فَإِذَا وَفَّى مَدِينُ التَّرِكَةِ الْمُحْتَال عَنِ الْحَوَالَةِ اخْتَصَّ بِحِصَّتِهَا وَلَمْ يُشَارِكْ فِيهَا الْوَارِثُ الآْخَرُ (1) .

الْحِيلَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
19 - لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَهَا جَارُهَا بِالشُّفْعَةِ فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ أَعْطَاهُ بِالأَْلْفِ دِينَارٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَرَّحَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ لأَِنَّهُ مُصَارَفَةٌ بِالثَّمَنِ قَبْل الْقَبْضِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، وَرُبَّمَا أَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ 2 بَأْسَ إِذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ (2) ، فَإِنْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي: (مَا دَلَّسْتُ وَلاَ وَالَسْتُ) فَحَلَفَ، كَانَ صَادِقًا لأَِنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْغُرُورِ وَالْخِيَانَةِ وَلَمْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (3) .

الْحِيلَةُ فِي الرِّبَا وَالصَّرْفِ
20 - مِنَ الْحِيَل فِي الْبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِجَنْسِهِ مُتَفَاضِلاً كَبَيْعِ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ مُتَفَاضِلاً كَمَا
__________
(1) حاشية الجميل 3 / 307 - ط. دار إحياء التراث العربي.
(2) حديث: " لا بأس إذا افترقتما. . . ". أخرجه أحمد في المسند (2 / 139) وأبو داود (3 / 651) من حديث ابن عمر رضي الله عنه ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 26) عن الشافعي أنه ضعفه.
(3) المبسوط 30 / 239.

(36/248)


صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ: أَنْ يَبِيعَ الذَّهَبَ مِنْ صَاحِبِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ عَرْضٍ وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالْعَرْضِ الذَّهَبَ بَعْدَ التَّقَابُضِ فَيَجُوزُ وَلَوِ اتَّخَذَهُ عَادَةً قِيَاسًا بِمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِل خَيْبَرَ أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا جَنِيبًا (1) . أَوْ أَنْ يَقْرِضَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُبْرِئَهُ أَوْ أَنْ يَتَوَاهَبَا فَهَذِهِ الْحِيَل كُلُّهَا جَائِزَةٌ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَيْعِهِ وَإِقْرَاضِهِ وَهِبَتِهِ مَا يَفْعَلُهُ الآْخَرُ وَلَكِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ إِذَا نَوَيَا ذَلِكَ لأَِنَّ كُل شَرْطٍ أَفْسَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ الْعَقْدَ إِذَا نَوَاهُ كُرِهَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لَمْ يَنْعَقِدْ وَبِقَصْدِ ذَلِكَ كُرِهَ.
ثُمَّ هَذِهِ الطُّرُقُ لَيْسَتْ حِيَلاً فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِجَنْسِهِ مُتَفَاضِلاً لأَِنَّهُ حَرَامٌ بَل حِيَلٌ فِي تَمْلِيكِهِ لِتَحْصِيل ذَلِكَ (2) .

الْحِيلَةُ فِي السَّلَمِ
21 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَبْدِل عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ غَيْرَ جَنْسِهِ كَبُرٍّ عَنْ شَعِيرٍ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ هَذَا الاِسْتِبْدَال كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ: أَنْ يَفْسَخَا السَّلَمَ بِأَنْ يَتَقَايَلاَ فِيهِ
__________
(1) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر أن الجمع بالدراهم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 399) ومسلم (5 / 1215) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(2) أسنى المطالب 2 / 23.

(36/249)


ثُمَّ يُعْتَاضُ عَنْ رَأْسِ الْمَال وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَال بِكَثِيرٍ وَأَيْضًا مَعَ بَقَاءِ رَأْسِ الْمَال الأَْصْلِيِّ (1) .

الْحِيلَةُ فِي الشُّفْعَةِ:
22 - الْحِيلَةُ فِي الشُّفْعَةِ أَنْ يُظْهِرَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي الْبَيْعِ شَيْئًا لاَ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَعَهُ وَأَنْ يَتَوَاطَآ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلاَفِ مَا أَظْهَرَاهُ وَالْكَلاَمُ عَلَى الْحِيلَةِ فِي الشُّفْعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أ - الْحِيلَةُ لإِِبْطَال حَقِّ الشُّفْعَةِ
23 - الْحِيلَةُ لإِِبْطَال الشُّفْعَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلرَّفْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِدَفْعِهِ قَبْل الْوُجُوبِ:

النَّوْعُ الأَْوَّل: مِثْل أَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ: أَنَا أَبِيعُهَا مِنْكَ بِمَا أَخَذْتُ فَلاَ حَاجَةَ لَكَ فِي الأَْخْذِ فَيَقُول الشَّفِيعُ: نَعَمْ وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وِفَاقًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَرَامٌ عَلَى الرَّاجِحِ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِثْل أَنْ يَبِيعَ دَارًا إِلاَّ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْهَا فِي طُول الْحَدِّ الَّذِي يَلِي الشَّفِيعَ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ لاِنْقِطَاعِ الْجِوَارِ.
وَكَذَا إِذَا وَهَبَ مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 209 - 210 - ط. المكتبة الإِسلامية.

(36/249)


لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَهْ قَال ابْنُ سُرَيْجٍ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إِلَى أَنَّهَا تُكْرَهُ هَذِهِ الْحِيلَةُ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَالْحِيلَةُ تُنَافِيهِ وَلأَِنَّ الَّذِي يَحْتَال لإِِسْقَاطِهَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إِلَى الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا لاَ تُكْرَهُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْحِيَل بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا الْحِيَل فِي دَفْعِ شُفْعَةِ الْجَارِ فَلاَ كَرَاهَةَ فِيهَا مُطْلَقًا لأَِنَّهُ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ لاَ الإِْضْرَارَ بِالْغَيْرِ لأَِنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنِ التَّصَرُّفِ أَوْ تَمَلُّكِ الدَّارِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إِضْرَارًا بِهِ وَهُوَ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا الضَّرَرَ وَلاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ الْجَارُ فَاسِقًا يَتَأَذَّى بِهِ وَفِي اسْتِعْمَال الْحِيلَةِ لإِِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ تَحْصِيل الْخَلاَصِ مِنْ مِثْل هَذَا الْجَارِ.
وَالْفَتْوَى فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَقُيِّدَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فِي السِّرَاجِيَّةِ بِمَا إِذَا كَانَ الْجَارُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ وَاسْتَحْسَنَهُ شَرَفُ الدِّينِ الْغَزِّيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الأَْحْنَافِ فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ حَيْثُ قَال: وَيَنْبَغِي اعْتِمَادُ هَذَا الْقَوْل لِحُسْنِهِ.

(36/250)


ب - الْحِيلَةُ لِتَقْلِيل رَغْبَةِ الشَّفِيعِ
24 - إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ بِعَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا ثُمَّ يَقْبِضُ تِسْعَةَ آلاَفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَيَقْبِضُ بِالْبَاقِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ فَلَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا إِنْ شَاءَ، فَلاَ يَرْغَبُ فِي الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الثَّمَنِ (1) .
وَلِلْحِيَل الْمُسْقِطَةِ لِلشُّفْعَةِ، وَالْمُقَلِّلَةِ لِرَغْبَةِ الشَّفِيعِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْحِيَل لاَ تُفِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلاَ فِي الْمُعَامَلاَتِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل الاِحْتِيَال لإِِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَإِنْ فَعَل لَمْ تَسْقُطْ قَال أَحْمَدُ: لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنَ الْحِيَل فِي ذَلِكَ وَلاَ فِي إِبْطَال حَقِّ مُسْلِمٍ. وَبِهَذَا قَال أَبُو أَيُّوبَ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجَوزَجَانِيُّ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: لاَ تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى
__________
(1) الإِختيار 2 / 48، وابن عابدين 5 / 156 وتكملة فتح القدير 7 / 450، والمبسوط للسرخسي 14 / 131، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 405، 407، والمخارج في الحيل / 131، ونهاية المحتاج 5 / 205، وحاشية الجمل 3 / 507، والقليوبي وعميرة 3 / 47، وروضة الطالبين 5 / 115، 116، وإعلام الموقعين 3 / 119.
(2) المخارج في الحيل / 131 وما بعدها.
(3) الشرح الصغير 1 / 601.

(36/250)


الْحِيَل (1) وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَوْ سَقَطَتْ بِالتَّحَيُّل لَلَحِقَ الضَّرَرُ، فَلَمْ تَسْقُطْ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ يَقْضِيهِ عَنْهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّحَيُّل فَتَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ لأَِنَّهُ لاَ خِدَاعَ فِيهِ وَلاَ قَصَدَ بِهِ إِبْطَال حَقٍّ وَالأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُشْتَرِي فِيمَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ حِيلَةً أَمْ لاَ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ وَحَالِهِ (2) .

الْحِيلَةُ فِي الإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ
25 - الأَْصْل أَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَرَمَّةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ يُفْسِدُ الإِْجَارَةَ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَيَضُمَّ إِلَى الأُْجْرَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ الْمُؤَجِّرُ بِصَرْفِهِ إِلَى الْمَرَمَّةِ، فَيَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ وَكِيلاً بِالإِْنْفَاقِ.
وَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ خَرَاجِ الأَْرْضِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرُ جَائِزٍ، لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمَالِكِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْحِيلَةُ فِي
__________
(1) حديث: " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود. . . ". أورده ابن كثير في تفسيره (3 / 238) وعزاه إلى ابن بطه وقال: إسناده جيد.
(2) المغني 5 / 353 - 355، وكشاف القناع 4 / 135، 136، وإعلام الموقعين 3 / 379، 380، 279، ونيل المآرب 1 / 455، ومطالب أولي النهى 4 / 101 - 103.

(36/251)


جَوَازِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَزِيدَ فِي الأُْجْرَةِ بِقَدْرِهِ، ثُمَّ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي خَرَاجِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى أُجْرَتِهَا، لأَِنَّهُ مَتَى زَادَ مِقْدَارُ الْخَرَاجِ عَلَى الأُْجْرَةِ أَصْبَحَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْخَرَاجِ وَهُوَ جَائِزٌ.
وَنَظِيرُ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُؤَجِّرَ دَابَّةً، وَيَشْتَرِطَ عَلْفَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ وَالأَْجْرُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ كَمَا سَبَقَ.
وَهَذِهِ الْحِيلَةُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَالأَْجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، فَكَذَلِكَ إِجَارَةُ الدَّابَّةِ بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا (1) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَعَلَى هَذَا إِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لاَ تَنْفَسِخَ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ، فَالْحِيلَةُ: أَنْ يُقِرَّ الْمُؤَجِّرُ بِأَنَّهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ عَشْرَ سِنِينَ يَزْرَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَمَا خَرَجَ فَهُوَ لَهُ، فَلاَ تَبْطُل بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا (2) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) الأشباه والنظائر / 414، والمخارج في الحيل 19، 21، وإعلام الموقعين 3 / 345 - 346، 201.
(2) الحيل للخصاف / 40 وما بعدها، والمخارج في الحيل / 9، والمغني 5 / 468.

(36/251)


وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ غَزْلاً لآِخَرَ لِيَنْسِجَهُ لَهُ بِنِصْفِ الْغَزْل، أَوِ اسْتَأْجَرَ بَغْلاً لِيَحْمِل طَعَامَهُ بِبَعْضِهِ، أَوْ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ بُرَّهُ بِبَعْضِ دَقِيقِهِ، فَسَدَتِ الإِْجَارَةُ فِي الْكُل، لأَِنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِجُزْءِ عَمَلِهِ، وَلِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ (1) .
وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يُفْرِزَ الأَْجْرَ أَوَّلاً وَيُسَلِّمَهُ إِلَى الأَْجِيرِ، أَوْ يُسَمِّي قَفِيزًا بِلاَ تَعْيِينٍ، ثُمَّ يُعْطِيهِ قَفِيزًا مِنْهُ فَيَجُوزُ، فَلَوْ خَلَطَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَطَحَنَ الْكُل ثُمَّ أَفْرَزَ الأُْجْرَةَ، وَرَدَّ الْبَاقِيَ جَازَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ أَنْ يَطْحَنَ بِجُزْءٍ مِنْهُ (2) .

الْحِيلَةُ فِي الرَّهْنِ
26 - الأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُ مَشَاعٍ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ دَارِهِ مَشَاعًا مِنْ طَالِبِ الرَّهْنِ، وَيَقْبِضَ مِنْهُ الثَّمَنَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ، وَيَقْبِضَ الدَّارَ ثُمَّ يَفْسَخَ الْبَيْعَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ بِالثَّمَنِ (3) .
وَأَمَّا الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ فَلاَ حَاجَةَ لِلْحِيلَةِ
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 47) وأورده الذهبي في ميزان الاعتدال (4 / 306) وقال: هذا منكر، وراويه لا يعرف.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 136، والفتاوى الهندية 4 / 444، والقوانين الفقهية / 273، ونهاية المحتاج 5 / 268.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 315، 316 - ط. بولاق.

(36/252)


عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ رَهْنُ مَشَاعٍ (1)

الْحِيلَةُ فِي الْوَكَالَةِ
27 - الأَْصْل أَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيل الْمُعَيَّنِ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لأَِنَّ الآْمِرَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي شِرَائِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَدْ خَدَعَهُ بِقَبُول الْوَكَالَةِ لِيَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ.
وَالْحِيلَةُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِعَدِمِ جَوَازِ ذَلِكَ: أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِخِلاَفِ جَنْسٍ مَا أُمِرَ بِهِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ بِأَقَل مِمَّا أُمِرَ بِهِ، لأَِنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الآْمِرِ فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ آثِمًا فِي اكْتِسَابِ هَذِهِ الْحِيلَةِ لِيَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ (2) .

الْحِيلَةُ فِي الْكَفَالَةِ
28 - رَجُلٌ كَفَل بِنَفْسِ رَجُلٍ آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوَافِ بِمَا عَلَيْهِ، غَدًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال الَّذِي لِلطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبُ، فَلَمْ يُوَافِ الْمَطْلُوبَ، فَالْكَفِيل ضَامِنُ الْمَال، فَهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الأَْحْنَافِ.
وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ عِنْدَ الْجَمِيعِ:
__________
(1) القوانين الفقهية / 318، 319، والمغني 4 / 374، وكشاف القناع 34 / 326، وحاشية الجمل 3 / 267، وإعلام الموقعين 4 / 422.
(2) المبسوط للسرخسي 30 / 220، والمخارج في الحيل / 21 وما بعدها، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 415، والحيل للخصاف / 54 وما بعدها، والاختيار 2 / 159، وإعلام الموقعين 3 / 202، 381، والمغني 5 / 117، 123.

(36/252)


أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلأَْلْفِ الَّتِي عَلَى الْمَطْلُوبِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ وَافَى بِهِ غَدًا فَهُوَ بَرِيءٌ، فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الأَْحْنَافِ (1) .

الْحِيلَةُ فِي الْحَوَالَةِ
29 - الأَْصْل أَنَّ الْحَوَالَةَ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِرِضَا الْمُحْتَال (2) ، فَإِذَا أَرَادَ الْمَدِينُ أَنْ يُحِيل الدَّائِنَ عَلَى رَجُلٍ وَلَمْ يَقْبَل الدَّائِنُ الْحَوَالَةَ مَخَافَةَ أَنْ يَتْوِيَ حَقُّهُ، فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَشْهَدَ الْمَدِينُ أَنَّ الدَّائِنَ وَكِيلٌ لَهُ فِي قَبْضِ مَالِهِ عَلَى غَرِيمِهِ، وَيُقِرَّ لَهُ الْغَرِيمُ بِالْوَكَالَةِ، أَوْ أَنَّ الْحِيلَةَ يَقُول طَالِبُ الْحَقِّ (الدَّائِنُ) لِلْمُحَال عَلَيْهِ: اضْمَنْ لِي هَذَا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى غَرِيمِي، وَيَرْضَى مِنْهُ بِذَلِكَ بَدَل الْحَوَالَةِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ تَمَكَّنَ مِنْ مُطَالَبَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ (3) .

الْحِيلَةُ فِي الصُّلْحِ
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ حَالاَتِ الإِْقْرَارِ وَالإِْنْكَارِ وَالسُّكُوتِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (صُلْحٍ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَالْحِيلَةُ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ - عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ - أَنْ يَقُول رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا
__________
(1) المخارج في الحيل / 80، والحيل للخصاف / 100.
(2) الاختيار 3 / 4، والقوانين الفقهية / 322، وحاشية الجمل 3 / 372، وكشافَ القناع 3 / 386.
(3) المخارج في الحيل / 77، وإعلام الموقعين 4 / 38، 39.

(36/253)


أَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ فِي دَعْوَاكَ، وَأَنَا وَكِيلُهُ فَصَالِحْنِي عَلَى كَذَا، فَيَنْقَلِبُ حِينَئِذٍ عَلَى الإِْنْكَارِ وَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَال إِلَى الأَْجْنَبِيِّ وَقَال: صَالِحْ عَنِّي جَازَ أَيْضًا.
وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى الإِْقْرَارِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُهُ: أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً وَيُحَابِيَهُ فِيهَا بِالْقَدْرِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى إِسْقَاطِهِ بِالصُّلْحِ (1) .

الْحِيلَةُ فِي الشَّرِكَةِ
31 - الأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ، كَمَا إِذَا كَانَ لأَِحَدِهِمَا مَتَاعٌ وَمَعَ الآْخَرِ مَالٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِكَا، فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مِنْ صَاحِبِ الْمَال بِنِصْفِ ذَلِكَ الْمَال، فَيَصِيرُ الْمَال وَالْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ يَتَعَاقَدَانِ الشَّرِكَةَ عَلَى مَا يُرِيدَانِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا كَانَ مَعَ كُل وَاحِدٍ مَتَاعٌ، فَالْحِيلَةُ: أَنْ يَبِيعَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَتَاعِهِ مِنْ صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَتَاعِ صَاحِبِهِ، وَيَتَقَابَضَانِ وَيَتَّفِقَانِ وَيَشْتَرِكَانِ عَلَى مَا اتَّفَقَا (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 360.
(2) الحيل للخصاف / 58 وما بعدها، 89 وما بعدها، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 411، وروضة الطالبين 4 / 276 - 278، وإعلام الموقعين 3 / 199، 204، 356، 357، والمغني 5 / 16، 17.

(36/253)


وَلِلْحِيَل فِي الشَّرِكَةِ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْقَيِّمِ (1) .
وَلاَ حَاجَةَ إِلَى هَذِهِ الْحِيَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لأَِنَّهُ تَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ بِالْقِيمَةِ (2) .

الْحِيلَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ
32 - الأَْصْل أَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَلاَ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُقَصِّرْ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَصِحَّ (3) .
وَالْحِيلَةُ فِي تَضْمِينِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
أَنْ يُقْرِضَ رَبُّ الْمَال الْمُضَارِبَ مَا يُرِيدُ دَفْعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ عِنْدِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَيُشَارِكَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلاَ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ عَمِل أَحَدُهُمَا بِالْمَال بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَإِنْ خَسِرَ كَانَ الْخُسْرَانُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَعَلَى رَبِّ الْمَال بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَال، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الْمُلْزِمُ نَفْسَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 277، وما بعدها، وإعلام الموقعين 3 / 199، 204، 356، 357.
(2) القوانين الفقهية / 280 - 281، والمغني 5 / 16.
(3) الاختيار 3 / 24، والقوانين الفقهية / 280، وحاشية الجمل 3 / 523، والمغني 5 / 71.

(36/254)


الضَّمَانَ بِدُخُولِهِ فِي الْقَرْضِ (1) . .

الْحِيلَةُ فِي الْهِبَةِ
33 - الأَْصْل أَنَّ الْمَوْهُوبَ إِنْ كَانَ مَشْغُولاً بِمِلْكِ الْوَاهِبِ لاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ، كَمَا لَوْ وَهَبَ دَابَّةً عَلَيْهَا سَرْجُهُ، وَسَلَّمَهَا كَذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الْهِبَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، لأَِنَّ اسْتِعْمَال السَّرْجِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلدَّابَّةِ، فَكَانَتْ لِلْوَاهِبِ عَلَيْهِ يَدٌ مُسْتَعْمَلَةٌ، فَتُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْقَبْضِ.
وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يُودَعَ الشَّاغِل أَوَّلاً عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، ثُمَّ يُسَلِّمَهُ الدَّابَّةَ، فَتَصِحُّ لِشَغْلِهَا بِمَتَاعٍ فِي يَدِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ، أَوْ جِرَابًا فِيهِ طَعَامُهُ (2) .

الْحِيلَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ
الأَْصْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ بِالنِّصْفِ أَوِ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ، وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: أَنْ يَأْخُذَهَا مُزَارَعَةً، ثُمَّ يَتَنَازَعَانِ إِلَى قَاضٍ يَرَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةٌ فَيَحْكُمُ بِجِوَازِهَا عَلَيْهِمْ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا قَضَى بِهِ قَاضٍ، أَوْ
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 202، وحاشية ابن عابدين 4 / 483.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 510 - ط بولاق.

(36/254)


يَكْتُبَانِ كِتَابَ إِقْرَارٍ عَنْهُمَا يُقِرَّانِ بِذَلِكَ، فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُمَا بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الْحِيلَةِ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِحَاجَةِ النَّاسِ (1) .

الْحِيلَةُ فِي إِسْقَاطِ حَدِّ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا
35 - الأَْصْل أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ بِجَانِبِ الشُّرُوطِ الأُْخْرَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ، فَلاَ قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَال نَفْسِهِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ كَالْمُرْتَهَنِ وَالْمُسْتَأْجَرِ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَمِنَ الْحِيَل لِمَنْعِ الْقَطْعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ: أَنْ يَدَّعِيَ السَّارِقُ أَنَّ الْمَال الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُ، أَوْ سَرَقَهُ شَخْصَانِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَهُ أَوْ لَهُمَا، فَكَذَّبَهُ الآْخَرُ، لَمْ يُقْطَعْ، لأَِنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ فِي ذَاتِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الشَّرْعُ أَوِ الْحِسُّ، أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِخِلاَفِهِ، أَوْ كَذَّبَهُ الْمُقِرُّ أَوِ الْمُقَرُّ لَهُ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، أَوْ أَنَّهُ دُونَ نِصَابٍ، أَوْ أَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ لَهُ فِي الأَْخْذِ لَمْ يُقْطَعْ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
قَال أَبُو حَامِدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: هَذِهِ
__________
(1) كتاب الحيل للخصاف / 44، والاختيار 3 / 74، 75.
(2) الاختيار 4 / 102، وجواهر الإِكليل 2 / 290، والقوانين الفقهية / 351، والقليوبي وعميرة 4 / 188، ومطالب أولي النهى 6 / 243.

(36/255)


الدَّعَاوَى كُلُّهَا مِنَ الْحِيَل الْمُحَرَّمَةِ، وَيُسَمَّى مُدَّعِيهَا بِالسَّارِقِ الظَّرِيفِ كَمَا قَال الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا دَعْوَى زَوْجِيَّةِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لإِِسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا فَمِنَ الْحِيَل الْمُبَاحَةِ (1) .

الْحِيلَةُ فِي الإِْفْتَاءِ
36 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ الْحِيَل طَلَبًا لِلتَّرْخِيصِ عَلَى مَنْ يَرُومُ نَفْعَهُ، أَوِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يَرُومُ ضُرَّهُ، فَمَنْ فَعَل هَذَا فَلاَ وُثُوقَ بِهِ، وَأَمَّا، إِذَا صَحَّ قَصْدُهُ فَاحْتَسَبَ فِي طَلَبِ حِيلَةٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهَا، وَلاَ تَجُرُّ إِلَى مَفْسَدَةٍ لِيُخَلِّصَ بِهَا الْمُسْتَفْتِيَ مِنْ وَرْطَةِ يَمِينٍ وَنَحْوِهَا فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ هَذَا.
وَيَحْرُمُ سُؤَال مَنْ عُرِفَ بِالتَّسَاهُل وَاتِّبَاعِ الْحِيَل الْمَذْكُورَةِ (2) .
وَفِي وَاضِحِ ابْنِ عَقِيلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِعْلاَمُ الْمُسْتَفْتِي بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلرُّخْصَةِ كَطَالِبِ التَّخَلُّصِ مِنَ الرِّبَا فَيَرُدُّهُ إِلَى مَنْ يَرَى الْحِيَل جَائِزَةً لِلْخَلاَصِ مِنْهُ (3) . وَيَرَى ابْنُ الْقَيِّمِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ الْحِيَل الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، وَلاَ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 188.
(2) روضة الطالبين 11 / 10، وأسنى المطالب 4 / 283.
(3) نيل المآرب 2 / 224.

(36/255)


لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ، فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُهُ فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهَا وَلاَ مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ، بَل اسْتُحِبَّ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْحِنْثِ بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا، فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلاَلاً إِلَى بَيْعِ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا آخَرَ فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الرِّبَا، فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنَ الْمَآثِمِ، وَأَقْبَحُهَا مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ (1) .

مُخَارَجَةٌ

انْظُرْ: تَخَارُجٌ.
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 222.

(36/256)


مَخَاضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَخَاضُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْكَسْرِ - لُغَةٌ - وَجَعُ الْوِلاَدَةِ
يُقَال: مَخَضَتِ الْمَرْأَةُ وَكُل حَامِلٍ: دَنَا وِلاَدُهَا وَأَخَذَهَا الطَّلْقُ.
وَجَاءَ فِي التَّنْزِيل: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} (1) أَيْ أَلْجَأَهَا وَجَعُ الطَّلْقِ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوِلاَدَةُ:
2 - الْوِلاَدَةُ وَضْعُ الْوَالِدَةِ وَلَدَهَا (3) .
وَالْمَخَاضُ يَسْبِقُ الْوِلاَدَةَ.
__________
(1) سورة مريم / 23.
(2) المصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير.

(36/256)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَخَاضِ:
أ - الْمَوْتُ فِي الْمَخَاضِ:
3 - قَال الْفُقَهَاءُ: الْمَيِّتَةُ فِي الْمَخَاضِ شَهِيدَةٌ فِي الآْخِرَةِ بِمَعْنَى أَنَّ لَهَا أَجْرَ الشُّهَدَاءِ فِي الآْخِرَةِ لِحَدِيثِ رَاشِدِ بْنِ حُبَيْشٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَعْلَمُونَ مَنِ الشَّهِيدُ فِي أُمَّتِي؟ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَال عُبَادَةُ: سَانِدُونِي فَأَسْنَدُوهُ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، الصَّبَّارُ الْمُحْتَسِبُ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ، الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّهِ عَزَّ وَجَل شَهَادَةٌ، وَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ، وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ، وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ (1) وَلَكِنَّهَا تُغَسَّل وَتُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهَا (2) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي النِّفَاسِ فَقَامَ وَسَطَهَا (3) .
__________
(1) حديث راشد بن حبيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبادة بن الصامت. أخرجه أحمد (3 / 289) وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2 / 309) .
(2) حاشية القليوبي والمحلي 1 / 339، ومغني المحتاج 1 / 350، وابن عابدين 1 / 611، والمجموع 5 / 264، والمغني 2 / 536، وكشاف القناع 2 / 101.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة ماتت في النفاس. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 201) ومسلم (2 / 664) من حديث سمرة بن جندب.

(36/257)


ب - تَبَرُّعُ الْمَرْأَةِ فِي الْمَخَاضِ:
4 - لاَ يَنْفُذُ تَبَرُّعُ الْمَرْأَةِ فِي مَخَاضِهَا، أَوْ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ قَبْل انْفِصَال الْمَشِيمَةِ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ.
لِخَطَرِ الْوِلاَدَةِ، فَأُعْطِيَتْ حُكْمَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فَيُوقَفُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنِ انْفَصَلْتِ الْمَشِيمَةُ وَلَمْ يَحْصُل بِالْوِلاَدَةِ جُرْحٌ أَوْ ضَرَبَانٌ شَدِيدٌ أَوْ وَرَمٌ، نَفَذَ تَبَرُّعُهَا (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 52، والمغني 6 / 86.

(36/257)


مُخَاطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُخَاطُ فِي اللُّغَةِ: مَا يَسِيل مِنَ الأَْنْفِ كَاللُّعَابِ مِنَ الْفَمِ، وَالْمَخْطَةُ: مَا يَقْذِفُ الرَّجُل مِنْ أَنْفِهِ، يُقَال: امْتَخَطَ أَيْ أَخْرَجَ مُخَاطَهُ مِنْ أَنْفِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النُّخَاعَةُ
2 - النُّخَاعَةُ بِالضَّمِّ: مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ حَلْقِهِ مِنْ مَخْرَجِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْبَلْغَمِ، أَوْ هِيَ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الْخَيْشُومِ عِنْدَ التَّنَخُّعِ.
وَالنُّخَامَةُ هِيَ النُّخَاعَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى يُقَال: تَنَخَّمَ وَتَنَخَّعَ: رَمَى بِالنُّخَامَةِ وَالنُّخَاعَةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والشرح الكبير للدردير 1 / 50.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.

(36/258)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: النُّخَاعَةُ أَوِ النُّخَامَةُ هِيَ الْفَضْلَةُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي يَلْفِظُهَا الشَّخْصُ مِنْ فِيهِ، سَوَاءٌ مِنْ دِمَاغِهِ أَوْ مِنْ بَاطِنِهِ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النُّخَاعَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُخَاطِ.

ب - اللُّعَابُ
3 - مِنْ مَعَانِي اللُّعَابِ فِي اللُّغَةِ: مَا سَال مِنَ الْفَمِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَكُلٌّ مِنَ الْمُخَاطِ وَاللُّعَابِ يَخْرُجُ مِنَ الْبَاطِنِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُخَاطَ يَخْرُجُ مِنَ الأَْنْفِ وَاللُّعَابَ مِنَ الْفَمِ.

ثَانِيًا: حُرْمَةُ تَنَاوُل الْمُخَاطِ:
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ تَنَاوُل الْمُخَاطِ، قَالُوا: إِنَّ الْمُخَاطَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا إِلاَّ أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ، وَيَحْرُمُ تَنَاوُل الإِْنْسَانِ لَهُ لاِسْتِقْذَارِهِ لاَ لِنَجَاسَتِهِ (4) .

ثَالِثًا: انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ مِنْ بَلْغَمٍ وَنُخَامَةٍ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يَنْتَقِضُ بِخُرُوجِ مُخَاطٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا نَزَل مِنَ الدِّمَاغِ، أَوْ مِنَ الْجَوْفِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيل عَدِمِ نَقْضِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي بَعْضِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَكُل مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمَا لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوءَ، إِلاَّ إِذَا انْسَدَّ الْمَخْرَجُ وَانْفَتَحَ مَنْفَذٌ مِنْ تَحْتِ السُّرَّةِ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمُعْتَادُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَبْطُل الْوُضُوءُ بِهِ (5) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 415.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(3) الشرح الكبير للدردير 1 / 50.
(4) مغني المحتاج 1 / 77، وكفاية الأخيار 1 / 64.
(5) روض الطالب 1 / 54، ونهاية المحتاج 1 / 96، والخرشي 1 / 153، والشرح الصغير 1 / 136.

(36/258)


وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ طَاهِرٌ، وَلأَِنَّهُ شَيْءٌ صَقِيلٌ لاَ يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الأَْنْجَاسِ فَكَانَ طَاهِرًا، وَخُرُوجُ شَيْءٍ طَاهِرٍ مِنَ الْمُتَوَضِّئِ لاَ يُبْطِل الْوُضُوءَ فَصَارَ كَالْبُزَاقِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ صَعِدَ الْمُخَاطُ مِنَ الْمَعِدَةِ وَكَانَ مِلْءَ الْفَمِ أَفْسَدَ الطَّهَارَةَ لاِخْتِلاَطِهِ بِالأَْنْجَاسِ، لأَِنَّ الْمَعِدَةَ مَعْدِنُ الأَْنْجَاسِ، فَيَكُونُ الْمُخَاطُ حَدَثًا يَبْطُل الْوُضُوءُ بِهِ كَالْقَيْءِ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: إِنَّ مَحَل الْخِلاَفِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَصَاحِبَيْهِ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَلْغَمُ مَخْلُوطًا بِالطَّعَامِ، وَالْغَالِبُ الطَّعَامُ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَخْلُوطًا بِالطَّعَامِ وَكَانَ الطَّعَامُ غَالِبًا نَقَضَ إِجْمَاعًا عِنْدَهُمْ (1) .

رَابِعًا: اقْتِلاَعُ الْمُخَاطِ أَوْ بَلْعُهُ فِي الصَّوْمِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَسَادِ الصَّوْمِ بِابْتِلاَعِ الْمُخَاطِ أَوْ قَلْعِهِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ لاَ يَفْسُدُ بِاقْتِلاَعِ الْمُخَاطِ وَابْتِلاَعِهِ وَإِنْ أَمْكَنَ طَرْحُهُ، وَلَوْ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى ظَاهِرِ الْفَمِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ صَعِدَ الْمُخَاطُ مِنَ الْمَعِدَةِ وَكَانَ مِلْءَ الْفَمِ أَفْسَدَ الصَّوْمَ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 27، وتبيين الحقائق 1 / 9، وحاشية ابن عابدين 1 / 94، والمغني 1 / 186.
(2) ابن عابدين 2 / 101، وحاشية الطحطاوي 1 / 458 - 459، والبحر الرائق 1 / 294، وفتح القدير 2 / 260، وتبيين الحقائق 1 / 326، والشرح الصغير 1 / 700، وشرح الزرقاني 2 / 203.

(36/260)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَبْطُل الصَّوْمُ بِخَلْعِ النُّخَامَةِ وَمَجِّهَا فِي الأَْصَحِّ، سَوَاءٌ أَقَلَعَهَا مِنْ دِمَاغِهِ، أَمْ مِنْ بَاطِنِهِ لِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ فَرُخِّصَ فِيهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يُفْطِرُ بِهِ كَالاِسْتِقَاءَةِ، وَإِنْ نَزَلَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ نَزَلَتْ بِغَلَبَةِ السُّعَال فَلاَ بَأْسَ بِهِ جَزْمًا، وَإِنْ بَقِيَتْ فِي مَحَلِّهَا فَلاَ يُفْطِرُ جَزْمًا، فَإِنْ نَزَلَتْ مِنْ دِمَاغِهِ، وَحَصَلَتْ فِي حَدِّ الظَّاهِرِ مِنَ الْفَمِ، فَإِنْ قَطَعَهَا مِنْ مَجْرَاهَا وَمَجَّهَا لَمْ يَفْسُدِ الصَّوْمُ، وَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَجِّهَا فَوَصَلَتِ الْجَوْفَ أَفْطَرَ فِي الأَْصَحِّ لِتَقْصِيرِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَصِل إِلَى حَدِّ الظَّاهِرِ مِنَ الْفَمِ - وَهُوَ مَخْرَجُ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - عِنْدَ النَّوَوِيِّ - وَمَخْرَجُ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ - بِأَنْ كَانَتْ فِي حَدِّ الْبَاطِنِ - وَهُوَ مَخْرَجُ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ، أَوْ حَصَلَتْ فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَجِّهَا لَمْ تَضُرَّ (1) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي ابْتِلاَعِ الصَّائِمِ النُّخَامَةَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يُفْطِرُ، قَال حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: إِذَا تَنَخَّمَ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ فَقَدْ أَفْطَرَ، لأَِنَّ النُّخَامَةَ مِنَ الرَّأْسِ تَنْزِل، وَلَوْ تَنَخَّعَ مِنْ جَوْفِهِ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ: أَفْطَرَ، لأَِنَّهُ أَمْكَنَ
__________
(1) تحفة المحتاج 3 / 399، ونهاية المحتاج 3 / 161، وروض الطالب 1 / 415، والمحلي والقليوبي 2 / 55.

(36/260)


التَّحَرُّزُ مِنْهَا، وَلأَِنَّهَا مِنْ غَيْرِ الْفَمِ فَأَشْبَهَ الْقَيْءَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لاَ يُفْطِرُ، قَال فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ عَلَيْكَ قَضَاءٌ إِذَا ابْتَلَعْتَ النُّخَامَةَ، وَأَنْتَ صَائِمٌ، لأَِنَّهُ مُعْتَادٌ فِي الْفَمِ غَيْرُ وَاصِلٍ مِنْ خَارِجٍ فَأَشْبَهَ الرِّيقَ (1) .

خَامِسًا: تَفْل الْمُخَاطِ فِي الْمَسْجِدِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَفْل الْفَضَلاَتِ الطَّاهِرَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ مِنْ مُخَاطٍ وَنَحْوِهِ مِنْ بُصَاقٍ وَنُخَامَةٍ مَحْظُورٌ، لِحَدِيثِ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَكَذَلِكَ قَال الصَّيْمَرِيُّ: الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ مَعْصِيَةٌ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: أَمَّا إِطْلاَقُ الرُّويَانِيِّ وَالْجُرْجَانِيِّ وَالْمَحَامِلِيِّ وَسُلَيْمٍ الرَّازِي وَغَيْرِهِمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْكَرَاهَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّحْرِيمِ، فَمَنْ بَصَقَ فِي مَسْجِدٍ فَقَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا، وَكَفَّارَتُهُ دَفْنُهُ فِي رَمْل الْمَسْجِدِ، فَلَوْ مَسَحَهَا بِخِرْقَةِ وَنَحْوِهَا كَانَ أَفَضْل.
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (3) : مَنْ
__________
(1) المغني 3 / 107.
(2) حديث: " البزاق في المسجد خطيئة ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 511) ومسلم (1 / 390) من حديث أنس بن مالك.
(3) إعلام الساجد ص 308.

(36/261)


رَأَى مَنْ يَبْصُقُ فِي الْمَسْجِدِ لَزِمَهُ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ، وَمَنْعُهُ مِنْهُ إِنْ قَدَرَ، وَمَنْ رَأَى بُصَاقًا أَوْ نَحْوَهُ كَالْمُخَاطِ فِي الْمَسْجِدِ يُزِيلُهُ بِدَفْنِهِ، أَوْ إِخْرَاجِهِ، وَيُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ مَحِلِّهِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ. فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ أَنْصَارِيَّةٌ فَحَكَّتْهَا، وَجَعَلَتْ مَكَانَهَا خَلُوقَاءَ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَسَنَ هَذَا (1) .
وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَال: إِنَّمَا يَكُونُ الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةً لِمَنْ تَفَل فِيهِ وَلَمْ يَدْفِنْهُ، لأَِنَّهُ يَقْذَرُ الْمَسْجِدَ وَيَتَأَذَّى بِهِ مَنْ يَعْلُقُ بِهِ، فَأَمَّا مَنِ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ فَفَعَل وَدَفَنَهُ فَلَمْ يَأْتِ بِخَطِيئَةٍ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ كَفَّارَةً، وَالتَّكْفِيرُ: التَّغْطِيَةُ، وَالإِْخْفَاءُ، وَالسَّتْرُ، فَكَأَنَّ دَفْنَهَا غَطَّى مَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ مِنَ الإِْثْمِ (2) .
وَقَال مَالِكٌ: إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مُحَصَّبًا فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبْصُقَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَتَحْتَ قَدَمِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْصُقَ أَمَامَهُ فِي حَائِطِ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ رَجُلٌ فِي الصَّلاَةِ وَعَنْ يَسَارِهِ رَجُلٌ بَصَقَ أَمَامَهُ، وَيَدْفِنُهُ، وَإِنْ
__________
(1) حديث: " أن النبي رأى نخامة في قبلة. . . ". أخرجه النسائي (2 / 52) وابن ماجه (1 / 251) .
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص308 - 309، وكشاف القناع 2 / 365 - 366.

(36/261)


كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى دَفْنِهِ لاَ يَبْصُقُ فِي الْمَسْجِدِ بِحَالٍ، كَانَ مَعَ النَّاسِ أَوْ وَحْدَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ مِنْ بُزَاقٍ، وَلَوْ فِي هَوَائِهِ، وَالْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُهُ حَصْبَاءَ وَنَحْوَهَا كَالتُّرَابِ وَالرَّمْل فَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَصْبَاءَ بَل كَانَتْ بَلاَطًا أَوْ رُخَامًا مَسَحَ النُّخَامَةَ بِثَوْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لأَِنَّ الْقَصْدَ إِزَالَتُهَا، وَلاَ يَكْفِي تَغْطِيَتُهَا بِحَصِيرٍ، لأَِنَّهُ لاَ إِزَالَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُزِلْهَا فَاعِلُهَا لَزِمَ غَيْرَهُ مِنْ كُل مَنْ عَلِمَ بِهَا إِزَالَتُهَا بِدَفْنٍ أَوْ مَسْحٍ تَبَعًا لِحَالَةِ الأَْرْضِ.
فَإِنْ بَدَرَهُ الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ أَخَذَهُ بِثَوْبِهِ، وَمَسَحَ بَعْضَ الثَّوْبِ بِبَعْضِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطُ عَلَى حَائِطٍ وَجَبَ أَيْضًا إِزَالَتُهُ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (مَسْجِدٌ، وَبُصَاقٌ ف 4) .

مُخَافَتَةٌ

انْظُرْ: إِسْرَارٌ.
__________
(1) جواهر الإِكليل 2 / 203، والشرح الصغير 1 / 44.
(2) كشاف القناع 2 / 365.

(36/262)


مُخَدَّرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُخَدَّرَةُ اسْمُ مَفْعُولٍ لِفِعْل خَدَّرَ، يُقَال: خَدَّرَ الشَّيْءَ: سَتَرَهُ، وَهُوَ فِي أَصْل اللُّغَةِ: اسْمٌ لِسِتْرٍ يُمَدُّ لِلْجَارِيَةِ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ.
ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي كُل مَا وَارَاكَ مِنْ بَيْتٍ وَنَحْوِهِ.
وَقَال الْفَيُّومِيُّ: لاَ يُطْلَقُ عَلَى الْبَيْتِ خِدْرٌ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِيهِ امْرَأَةٌ يُقَال: أَخَدَرَتِ الْجَارِيَةُ: لَزِمَتِ، الْخِدْرَ، وَأَخْدَرَهَا أَهْلُهَا وَخَدَّرُوهَا: سَتَرُوهَا وَصَانُوهَا عَنِ الاِمْتِهَانِ، وَالْخُرُوجِ لِحَاجَتِهَا، فَهِيَ مُخَدَّرَةٌ مَسْتُورَةٌ مَصُونَةٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْمَرْأَةُ الْمُلاَزِمَةُ لِلْخِدْرِ، وَهُوَ السِّتْرُ بِكْرًا كَانَتْ أَمْ ثَيِّبًا، وَلاَ تَبْرُزُ لِغَيْرِ الْمَحَارِمِ مِنَ الرِّجَال وَإِنْ خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَرْزَةُ:
2 - الْبَرْزَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ: تَبْرُزُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) ابن عابدين 4 / 393، وكشاف القناع 6 / 439.

(36/262)


لِلرِّجَال، وَتَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ، وَهِيَ الَّتِي أَسَنَّتْ، وَخَرَجَتْ عَنْ حَدِّ الْمَحْجُوبَاتِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْبَرْزَةُ ضِدُّ الْمُخَدَّرَةِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُخَدَّرَةِ:
إِحْضَارُ الْمُخَدَّرَةِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُخَدَّرَةَ الْحَاضِرَةَ لاَ تُكَلَّفُ الْحُضُورَ لِلدَّعْوَى عَلَيْهَا صَرْفًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَلاَ تُكَلَّفُ أَيْضًا الْحُضُورَ لِلتَّحْلِيفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظٌ بِالْمَكَانِ، فَإِنْ كَانَ أُحْضِرَتْ عَلَى الأَْصَحِّ، بَل تُوَكِّل الْمُخَدَّرَةُ أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي إِلَيْهَا نَائِبَهُ فَتُجِيبَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ إِنِ اعْتَرَفَ الْخَصْمُ أَنَّهَا هِيَ أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ مَحَارِمِهَا أَنَّهَا هِيَ، وَإِلاَّ تَلَفَّعَتْ بِنَحْوِ مِلْفَحَةٍ وَخَرَجَتْ مِنَ السِّتْرِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَعِنْدَ الْحَلِفِ تَحْلِفُ فِي مَكَانِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُحْضَرُ كَغَيْرِهَا، وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّال فِي فَتَاوِيهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً وَكَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ أَوْ زَوْجٍ
__________
(1) المصباح المنير، وكشاف القناع 6 / 439، ومغني المحتاج 4 / 417.

(36/263)


فَأَرْسَلَتْ إِلَى الْقَاضِي وَسَأَلَتْهُ الْعَدْوَى عَلَى خَصْمِهَا، فَإِنَّهُ يُنْفِذُ إِلَيْهَا شَاهِدَيْنِ وَبَعْضَ الْوُكَلاَءِ، فَتُوَكِّل فِي ذَلِكَ وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَيْهَا، وَيَدَّعِي الْوَكِيل بِمَا يَتَوَجَّهُ لَهَا مِنْ حَقٍّ، فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا يَمِينٌ فِيمَا يَقْضِي بِهِ لِلْوَكِيل لَهَا فَإِنَّهُ يُرْسِل إِلَيْهَا مَنْ يَسْأَل عَنْ ذَلِكَ وَيُسْتَوْفَى الْيَمِينُ إِنْ كَانَ الْيَمِينُ يَجِبُ عَلَيْهَا (1) .

اخْتِلاَفُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فِي التَّخْدِيرِ:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَدَاعِيَانِ فِي التَّخْدِيرِ بِأَنْ يَقُول الْمُدَّعِي إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهَا غَيْرُ مُخَدَّرَةٍ وَيَلْزَمُهَا الْحُضُورُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَقَالَتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهَا: إِنَّهَا مُخَدَّرَةٌ فَلاَ يَلْزَمُهَا شَرْعًا الْحُضُورُ فِي مَجْلِسِ الدَّعْوَى نُظِرَ: فَإِنْ، كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ الْغَالِبُ فِي نِسَائِهِمُ الْخَدْرُ صُدِّقَتْ هِيَ بِيَمِينِهَا وَإِلاَّ يُصَدَّقُ هُوَ بِيَمِينِهِ حَيْثُ لاَ بَيِّنَةَ لَهُمَا، وَهَذَا هُوَ قَوْل الْمَاوَرْدِيِّ والروياني وَهُوَ الْقَوْل الأَْوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ (2) .

التَّخْدِيرُ مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُجِيزَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 417، وروضة القضاة للسمناني 1 / 176 - 177 و188.
(2) مغني المحتاج 4 / 417.

(36/263)


وُجُوبِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ: أَنْ لاَ يَكُونَ الشَّاهِدُ مَعْذُورًا لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ كَكَوْنِ الْمَرْأَةِ مُخَدَّرَةً مَثَلاً.
فَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ لِلشَّهَادَةِ امْرَأَةً مُخَدَّرَةً لَمْ يَلْزَمْهَا الأَْدَاءُ، وَتَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهَا غَيْرُهَا، أَوْ يَبْعَثُ الْقَاضِي إِلَيْهَا مَنْ يَسْمَعُهَا دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْهَا (1) .

مُخَذَّلٌ

انْظُرْ: تَخْذِيلٌ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 392 - 393، وروضة القضاة للسمناني 1 / 188، ومغني المحتاج 4 / 45 - 452، وكشاف القناع 6 / 438 - 439.

(36/264)


مُخَنَّثٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُخَنَّثُ لُغَةً: بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا مِنَ الاِنْخِنَاثِ، وَهُوَ التَّثَنِّي وَالتَّكَسُّرِ وَذَلِكَ لِلِينِهِ وَتَكَسُّرِهِ، وَالاِسْمُ الْخَنَثُ، وَيُقَال لِلْمُخَنَّثِ: خُنَاثَةُ وَخُنَيْثَةُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ تُشْبِهُ حَرَكَاتُهُ حَرَكَاتِ النِّسَاءِ خَلْقًا أَوْ تَخَلُّقًا.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ صَاحِبِ النَّهْرِ: الْمُخَنِّثُ بِكَسْرِ النُّونِ مُرَادِفٌ لِلُوطِيِّ.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: الْمُخَنَّثُ هُوَ الْمُؤَنَّثُ مِنَ الرِّجَال وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ - (2) .
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط، والمغرب للمطرزي مادة " خنث "
(2) ابن عابدين 3 / 183، 184 - ط. دار إحياء التراث العربي، ومجمع الأنهر 2 / 189، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4 / 220 - ط. دار المعرفة، وشرح الزرقاني 8 / 90 - ط دار الفكر، وأسنى المطالب 2 / 58 ط المكتبة الإِسلامية والقليوبي 4 / 320 - ط دار إحياء الكتب العربية، ومطالب أولي النهى 5 / 14 - ط. المكتب الإِسلامي وفتح الباري 9 / 334 - 335. المكتب الإِسلامي.

(36/264)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُنْثَى:
2 - الْخُنْثَى فِي اللُّغَةِ: الَّذِي خُلِقَ لَهُ فَرْجُ الرَّجُل وَفَرْجُ الْمَرْأَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخَنَّثِ وَالْخُنْثَى: أَنَّ الْمُخَنَّثَ لاَ خَفَاءَ فِي ذُكُورِيَّتِهِ.
وَأَمَّا الْخُنْثَى فَالْحُكْمُ بِكَوْنِهِ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِتَبَيُّنِ عَلاَمَاتِ الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ فِيهِ (2) .

ب - الْفَاسِقُ:
3 - الْفَاسِقُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْفِسْقِ وَهُوَ فِي الأَْصْل خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فَسَقَ الرُّطَبُ: إِذَا خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى: الْخُرُوجِ عَنِ الطَّاعَةِ، وَعَنِ الدِّينِ، وَعَنِ الاِسْتِقَامَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْفَاسِقُ هُوَ الْمُسْلِمُ الَّذِي ارْتَكَبَ كَبِيرَةً قَصْدًا، أَوْ صَغِيرَةً مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَيْهَا بِلاَ تَأْوِيلٍ (3) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " خنث ".
(2) ابن عابدين 5 / 464 - ط. دار إحياء التراث العربي وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 489 - ط. دار الفكر، ونهاية المحتاج 6 / 31 - ط. مصطفى البابي الحلبي، والمغني لابن قدامة 6 / 253، 677 - ط. الرياض.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي، وشرح المحلى على المنهاج مع حاشية القليوبي 3 / 227.

(36/265)


وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْفَاسِقِ وَالْمُخَنَّثِ إِذَا كَانَ بِتَكَلُّفٍ وَلَمْ يَكُنْ - خِلْقَةُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، لأَِنَّ كُل مُخَنَّثٍ بِالْمَفْهُومِ الْمَذْكُورِ فَاسِقٌ، وَلَيْسَ كُل فَاسِقٍ مُخَنَّثًا.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُخَنَّثِ:
4 - الْمُخَنَّثُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّفِ التَّخَلُّقَ بِأَخْلاَقِ النِّسَاءِ وَزَيِّهِنَّ وَكَلاَمِهِنَّ وَحَرَكَاتِهِنَّ، بَل هُوَ خِلْقَةٌ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَهَذَا لاَذِمٌ عَلَيْهِ وَلاَ عَتَبَ وَلاَ إِثْمَ وَلاَ عُقُوبَةَ، لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ لاَ صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خِلْقَةً، بَل يَتَعَمَّدُ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ فِي الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال، وَبِاخْتِيَارِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ الَّذِي جَاءَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَعْنُهُ (1) .
وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ نَتَعَرَّضُ لَهَا فِيمَا يَلِي:

أ - شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ
5 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَال غَيْرِهِمْ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ. وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ الَّذِي يُبَاشِرُ الرَّدِيءَ مِنَ الأَْفْعَال، أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 183، 184 - ط. دار إحياء التراث العربي، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 189، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4 / 220 - ط. دار المعرفة، وصحيح مسلم بشرح النووي 14 / 164.

(36/265)


يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ تَعَمُّدًا لِذَلِكَ فِي تَزْيِينِهِ، وَتَكْسِيرِ أَعْضَائِهِ، وَتَلْيِينِ كَلاَمِهِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اللَّهُ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَال، والْمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ يَعْنِي الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَال (1) .
وَأَمَّا الَّذِي فِي كَلاَمِهِ لِينٌ، وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ مِنَ الأَْفْعَال الرَّدِيئَةِ فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُول الشَّهَادَةِ (2) .

ب - نَظَرُ الْمُخَنَّثِ إِلَى غَيْرِ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ
6 - صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُخَنَّثِ الَّذِي يَأْتِي بِالرَّدِيءِ مِنَ الأَْفْعَال النَّظَرُ إِلَى النِّسَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَنَّثِ الَّذِي فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ أَوْ تَكَسُّرٌ بِأَصْل الْخِلْقَةِ وَلاَ يَشْتَهِي النِّسَاءَ: فَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي تَرْكِ مِثْلِهِ مَعَ النِّسَاءِ اسْتِدْلاَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} (3) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنِ ابْنِ
__________
(1) حديث: " ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المخنثين من الرجال. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 333) .
(2) فتح القدير 6 / 34 - ط. المطبعة الأميرية، والاختيار 2 / 147 - ط. دار المعرفة، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4 / 220 - ط. دار المعرفة، والمبسوط للسرخسي 16 / 121 - ط. مطبعة السعادة، ومجمع الأنهر 2 / 189، والفتاوى الهندية 3 / 467 - ط. الأميرية، والحطاب 6 / 151، وما بعدها - ط. دار الفكر، والوجيز 2 / 249 - ط. دار المعرفة، والمغني 9 / 160، ونيل المآرب 2 / 476 ط مكتبة الفلاح.
(3) سورة النور / 31.

(36/266)


عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: {غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ} هُوَ الْمُخَنَّثُ، وَعَنْ مُجَاهَدٍ وَقَتَادَةَ: الَّذِي لاَ إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ مَنْ لاَ شَهْوَةَ لَهُ.
وَقِيل: هُوَ الْمَجْبُوبُ الَّذِي جَفَّ مَاؤُهُ، وَقِيل: الْمُرَادُ بِهِ الأَْبْلَهُ الَّذِي لاَ يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِالنِّسَاءِ، وَإِنَّمَا هَمُّهُ بَطْنُهُ، وَالأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَل عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي مُخَنَّثٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُول لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلاَنَ، فَإِنَّهَا تُقْبِل بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُلَنَّ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُمْ (1) .
قَال ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ اسْمُ هَذَا الْمُخَنَّثِ هِيتُ، وَبِهَذَا صَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ حَيْثُ قَال: إِنَّ هِيتَ الْمُخَنَّثَ كَانَ يَدْخُل بُيُوتَ أَزْوَاجِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ كَلِمَةً شَنِيعَةً أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ. وَقِيل: كَانَ اسْمُهُ مَاتِعٌ، وَقِيل: صَوَابُهُ هَنَبٌ (2) .
__________
(1) حديث أم سلمة دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث. أخرجه البخاري (الفتح 8 / 43) ومسلم (3 / 1715، 1716) واللفظ للبخاري.
(2) فتح القدير 8 / 108 - ط. المطبعة الأميرية، والمبسوط للسرخسي 16 / 131 - ط. مطبعة السعادة، وفتح الباري 8 / 43، 45 - ط. دار المعرفة. ومسلم بشرح النووي 14 / 163 - ط. المطبعة المصرية، ومطالب أولي النهى 5 / 141 - ط. المكتب الإِسلامي.

(36/266)


ج - الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُخَنَّثِ
7 - صَرَّحَ الزُّهْرِيُّ بِقَوْلِهِ: لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا، كَأَنْ يَكُونَ ذَا شَوْكَةٍ، أَوْ مِنْ جِهَتِهِ، فَلاَ تُعَطَّل الْجَمَاعَةُ بِسَبَبِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ فَالْمُخَنَّثُ؟ قَال: لاَ وَلاَ كَرَامَةَ، لاَ يُؤْتَمُّ بِهِ.
أَمَّا الْمُخَنَّثُ الَّذِي فِيهِ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ وَتَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ فَلاَ مَانِعَ مِنَ الصَّلاَةِ خَلْفَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْل خِلْقَتِهِ (1) .

د - تَعْزِيرُ الْمُخَنَّثِ:
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُخَنَّثَ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْقَاعِدَةُ أَنَّهُ لاَ تَعْزِيرَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلَكِنِ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ نَفْيُ الْمُخَنَّثِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ (2) .

هـ - حَدُّ مَنْ قَال لآِخَرَ يَا مُخَنَّثُ
9 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُحَدُّ الشَّخْصُ فِي قَوْلِهِ
__________
(1) فتح الباري 2 / 188 - ط. دار المعرفة.
(2) فتح القدير 4 / 218 - ط. المطبعة الأميرية، وصحيح مسلم بشرح النووي 14 / 163 - ط. المطبعة المصرية، والإِقناع للشربيني 2 / 182 - ط. مصطفى البابي الحلبي، وفتح الباري 9 / 334، 533. ط. دار المعرفة.

(36/267)


لِحُرٍّ عَفِيفٍ مُسْلِمٍ: يَا مُخَنَّثُ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ يَتَكَسَّرُ فِي الْقَوْل وَالْفِعْل كَالنِّسَاءِ فَلاَ يُحَدُّ بَل يُؤَدَّبُ، هَذَا إِنْ لَمْ يَخُصَّ الْعُرْفُ الْمُخَنَّثَ بِمَنْ يُؤْتَى.
وَأَمَّا إِنْ خَصَّهُ الْعُرْفُ بِهَذَا كَمَا هُوَ الآْنُ، فَيُحَدُّ مُطْلَقًا حَلَفَ أَمْ لَمْ يَحْلِفْ، لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَمُصَرٍّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ (1) .

مَخِيطٌ

انْظُرْ: إِحْرَامٌ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 330 - ط. دار الفكر، ومواهب الجليل 6 / 302 - ط. دار الفكر، وشرح الزرقاني 8 / 90، وجواهر الإِكليل 2 / 288 - ط. دار المعرفة.

(36/267)


مَخِيلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
9 - مِنْ مَعَانِي الْمَخِيلَةِ فِي اللُّغَةِ: الْكِبْرُ وَالظَّنُّ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ قَال الْعَيْنِيُّ: الْمَخِيلَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - الْكِبْرُ (2) . وَفَسَّرَ الشَّافِعِيَّةُ الْمَخِيلَةَ بِالأَْمَارَةِ عَلَى الْحَمْل (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعُجْبُ
2 - مِنْ مَعَانِي الْعُجْبِ فِي اللُّغَةِ: الزَّهْوُ (4) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: ظَنُّ الإِْنْسَانِ فِي نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ مَنْزِلَةٍ هُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَخِيلَةِ وَالْعُجْبِ: أَنَّ الْمَخِيلَةَ تُكْسِبُ النَّفْسَ الْعُجْبَ.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث، والقاموس المحيط، ولسان العرب.
(2) عمدة القاري 21 / 294.
(3) حاشية القليوبي 4 / 124.
(4) لسان العرب.
(5) الذريعة إلى مكارم الشريعة / 306.

(36/268)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَخِيلَةِ:
أَوَّلاً: الْمَخِيلَةُ بِمَعْنَى الْكِبْرِ:
3 - الْمَخِيلَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا شَرْعًا، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ (1) .
قَال الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيفِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ: هَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِفَضَائِل تَدْبِيرِ الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ، وَفِيهِ تَدْبِيرُ مَصَالِحِ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَإِنَّ السَّرَفَ يَضُرُّ فِي كُل شَيْءٍ: يَضُرُّ بِالْجَسَدِ وَيَضُرُّ بِالْمَعِيشَةِ فَيُؤَدِّي إِلَى الإِْتْلاَفِ، وَيَضُرُّ بِالنَّفْسِ إِذْ كَانَتْ، تَابِعَةً لِلْجَسَدِ فِي أَكْثَرِ الأَْحْوَال، وَالْمَخِيلَةُ تَضُرُّ بِالنَّفْسِ حَيْثُ تُكْسِبُهَا الْعُجْبَ، وَتَضُرُّ بِالآْخِرَةِ حَيْثُ تُكْسِبُ الإِْثْمَ، وَبِالدُّنْيَا حَيْثُ تُكْسِبُ الْمَقْتَ مِنَ النَّاسِ (2) .

ثَانِيًا: الْمَخِيلَةُ بِمَعْنَى الأَْمَارَةِ عَلَى الْحَمْل:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ إِذَا ادَّعَتِ الْجَانِيَةُ الْحَمْل فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ " عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ حَدِّ الزِّنَا: إِذَا شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَقَالَتْ: أَنَا حُبْلَى
__________
(1) حديث: " كلوا واشربوا. . . ". أخرجه أحمد (2 / 181) والحاكم (4 / 135) من حديث عبد الله ابن عمر وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) عمدة القاري 21 / 294، وفتح الباري 10 / 252 - 253، وفيض القدير 2 / 46.

(36/268)


تَرَى النِّسَاءُ وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهَا، فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ حَامِلٌ أَجَّلَهَا حَوْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَلِدْ رَجَمَهَا (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحَامِل إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا قَتْلٌ أَوْ جَرْحٌ يُخَافُ مِنْهُ، أَوْ لَزِمَهَا حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ عَنْهَا لِوَضْعِ الْحَمْل عِنْدَ ظُهُورِ مَخَايِلِهِ، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ دَعْوَاهَا الْحَمْل (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بَعْدَ أَنْ فَصَّلُوا الْقَوْل فِي تَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ عَنِ الْحَامِل لِوَضْعِ الْحَمْل: وَالصَّحِيحُ تَصْدِيقُهَا فِي حَمْلِهَا - إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهَا عَادَةً - بِغَيْرِ مَخِيلَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِل لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (3) أَيْ مِنْ حَمْلٍ أَوْ حَيْضٍ، وَمَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ كِتْمَانُ شَيْءٍ وَجَبَ قَبُولُهُ إِذَا أَظْهَرَهُ كَالشَّهَادَةِ، وَلِقَبُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْل الْغَامِدِيَّةِ فِي ذَلِكَ (4) .
بَل قَال الزَّرْكَشِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَال بِوُجُوبِ الإِْخْبَارِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ لِحَقِّ الْجَنِينِ، وَالْقَوْل الثَّانِي الْمُقَابِل لِلصَّحِيحِ: أَنَّهَا لاَ تُصَدَّقُ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْحَمْل، وَهِيَ مُتَّهَمَةٌ بِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى ظُهُورِ مُخَايَلَةٍ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 147، وانظر حاشية ابن عابدين 3 / 148.
(2) الخرشي 8 / 25، والتاج والإِكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 253.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) حديث قبول النبي صلى الله عليه وسلم قول الغامدية أخرجه مسلم (3 / 1323) من حديث بريدة الأسلمي.

(36/269)


أَوْ إِقْرَارِ الْمُسْتَحَقِّ.
وَعَلَى الأَْوَّل هَل تَحْلِفُ أَوْ لاَ؟ رَأْيَانِ.
أَوْجَهُهُمَا الأَْوَّل أَيْ تَحْلِفُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ قَاضِي عَجِلُونَ لأَِنَّ لَهَا غَرَضًا فِي التَّأْخِيرِ.
وَقَال الإِْسْنَوِيُّ: الْمُتَّجَهُ الثَّانِي أَيْ: عَدَمُ التَّحْلِيفِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لِغَيْرِهَا وَهُوَ الْجَنِينُ.
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلاَ أَدْرِي الَّذِي يُصَدِّقُهَا يَقُول بِالصَّبْرِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَمْل، أَمْ إِلَى ظُهُورِ الْمَخَايِل؟ وَالأَْرْجَحُ الثَّانِي، فَإِنَّ التَّأْخِيرَ أَرْبَعَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ بَعِيدٌ.
وَقَال الدَّمِيرِي: يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الزَّوْجُ مِنَ الْوَطْءِ لِئَلاَّ يَقَعَ حَمْلٌ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ وَلِيِّ الدَّمِ.
لَكِنِ الْمُتَّجَهُ عَدَمُ مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمُهِمَّاتِ وَأَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الْحَمْل وَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهَا عَادَةً كَآيِسَةٍ فَلاَ تُصَدَّقُ، كَمَا نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنِ النَّصِّ، فَإِنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ إِنِ ادَّعَتِ الزَّانِيَةُ الْحَمْل قُبِل قَوْلُهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 43 - 44 ونهاية المحتاج 7 / 289 وانظر أسنى المطالب 4 / 39.
(2) كشاف القناع 6 / 82.

(36/269)


مُدَابَرَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْمُدَابَرَةِ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ مِنَ الْخَلْفِ يُقَال: أُذُنٌ مُدَابَرَةٌ: قُطِعَتْ مِنْ خَلْفِهَا وَشُقَّتْ، وَنَاقَةٌ مُدَابَرَةٌ: شُقَّتْ مِنْ قِبَل قَفَاهَا، وَكَذَلِكَ الشَّاةُ، قَال الأَْصْمَعِيُّ: وَذَلِكَ مِنَ الإِْقْبَالَةِ.
وَالإِْدْبَارَةِ، وَهُوَ شَقٌّ فِي الأُْذُنِ ثُمَّ يُفْتَل ذَلِكَ فَإِذَا أُقْبِل بِهِ فَهُوَ الإِْقْبَالَةُ، وَإِذَا أُدْبِرَ بِهِ فَهُوَ الإِْدْبَارَةُ، وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يُقْطَعَ مِنْ مُؤَخَّرِ أُذُنِ الشَّاةِ شَيْءٌ ثُمَّ يُتْرَكَ مُعَلَّقًا لاَ يَبِينُ كَأَنَّهُ زَنَمَةٌ (1) ، وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ يُضَحَّى بِمُقَابَلَةٍ وَلاَ مُدَابَرَةٍ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " النهي عن الأضحية بالمقابلة. . . . . ". جزء من حديث سيأتي بكامله ف 5.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 2207، والشرح الصغير 2 / 144، والمغني 8 / 626.

(36/270)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّرْقَاءُ:
2 - الشَّرْقَاءُ مَشْقُوقَةُ الأُْذُنِ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ.

ب - الْخَرْقَاءُ:
3 - الْخَرْقَاءُ هِيَ الَّتِي فِي أُذُنِهَا خَرْقٌ مُسْتَدِيرٌ.

ج - الْمُقَابَلَةُ:
4 - الْمُقَابِلَةُ هِيَ الَّتِي قُطِعَ فِي أُذُنِهَا مِنْ جِهَةِ وَجْهِهَا وَتُرِكَ مُعَلَّقًا (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الأُْضْحِيَّةِ: نُدِبَ غَيْرُ مُدَابَرَةٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الأُْضْحِيَّةُ بِالْمُدَابَرَةِ وَنَحْوِهَا، كَالْمُقَابَلَةِ وَالْخَرْقَاءِ، وَالشَّرْقَاءِ
لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُْذُنَ، وَأَنْ لاَ نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ، وَلاَ مُدَابَرَةٍ، وَلاَ شَرْقَاءَ، وَلاَ خَرْقَاءَ قَال: الْمُقَابَلَةُ: مَا قُطِعَ طَرَفُ أُذُنِهَا، وَالْمُدَابَرَةُ: مَا قُطِعَ مِنْ جَانِبِ الأُْذُنِ. وَالشَّرْقَاءُ: الْمَشْقُوقَةُ، وَالْخَرْقَاءُ: الْمَثْقُوبَةُ (3) .
وَقَال الْقَاضِي: الْخَرْقَاءُ الَّتِي انْثَقَبَتْ أُذُنُهَا وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَيَحْصُل الإِْجْزَاءُ بِهَا، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهَا خِلاَفًا، وَلأَِنَّ اشْتِرَاطَ السِّلاَمَةِ مِنْ
__________
(1) المغني 8 / 626، والشرح الصغير 2 / 144.
(2) الشرح الصغير 2 / 144، والفتاوى الهندية 5 / 289، وحاشية ابن عابدين 5 / 207.
(3) حديث: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 86 - 87) وقال حديث حسن صحيح.

(36/270)


ذَلِكَ يَشُقُّ إِذْ لاَ يَكَادُ يُوجَدُ سَالِمٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَضُرُّ ثَقْبُ الأُْذُنِ وَلاَ شَقُّهَا وَلاَ خَرْقُهَا فِي الأَْصَحِّ، وَيَضُرُّ الْقَطْعُ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً (2) .
__________
(1) المغني 8 / 626.
(2) المحلي وحاشية القليوبي 4 / 252.

(36/271)


مُدَاخَلَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُدَاخَلَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَاخَل يُقَال: دَاخَلْتُ الأَْشْيَاءَ مُدَاخَلَةً وَدِخَالاً: دَخَل بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَدَاخَل الْمَكَانَ: دَخَل فِيهِ، وَدَاخَل فُلاَنًا: دَخَل مَعَهُ، وَدَاخَل فُلاَنًا فِي أُمُورِهِ شَارَكَهُ فِيهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - إِنْ بَاعَ الشَّخْصُ أَرْضًا أَوْ سَاحَةً أَوْ عَرْصَةً أَوْ رَهَنَ أَوْ أَوْصَى أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ وَقَفَ أَوْ أَصْدَقَ وَقَال: (وَبِمَا فِيهَا) دَخَل فِي الْعَقْدِ مَا فِيهَا مِنْ أَشْجَارٍ وَأَبْنِيَةٍ، وَإِنِ اسْتَثْنَاهَا بِأَنْ يَقُول: (دُونَ مَا فِيهَا) خَرَجَتْ وَلَمْ يَدْخُل شَيْءٌ مِنْهَا فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ (3) .
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) الشرح الصغير 3 / 226.
(3) روض الطالب 2 / 96، والشرح الصغير 3 / 226، وكشاف القناع 3 / 275، ورد المحتار 4 / 35.

(36/271)


وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ (1) وَإِنْ أَطْلَقَ: بِأَنْ قَال: بِعْتُكَ وَنَحْوَهُ وَلَمْ يَزِدْ دَخَل فِي الْبَيْعِ مَا فِيهَا مِنْ أَشْجَارٍ وَبِنَاءٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لِلثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ فِي الأَْرْضِ، فَأَشْبَهَتْ جُزْءًا مِنَ الأَْرْضِ فَتَتْبَعُهَا كَالشُّفْعَةِ، وَكَالْبَيْعِ كُل نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ: كَالْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالإِْصْدَاقِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: بَيْعٌ ف 35 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 40.
(2) المصادر السابقة.

(36/272)


مُدَاعَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - الْمُدَاعَبَةُ لُغَةً: الْمُمَازَحَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ تَزَوَّجَ: أَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا؟ فَقَال: بَل ثَيِّبًا، قَال: فَهَلاَّ بِكْرًا تُدَاعِبُهَا وَتُدَاعِبُكَ (1) .
وَالْمُدَاعَبَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْمُلاَطَفَةُ فِي الْقَوْل بِالْمِزَاحِ وَغَيْرِهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُلاَعَبَةُ:
2 - الْمُلاَعَبَةُ مَصْدَرُ لاَعَبَ، يُقَال: لاَعَبَهُ مُلاَعَبَةً وَلِعَابًا: لَعِبَ مَعَهُ، وَمِنْ مَعَانِي اللَّعِبِ: اللَّهْوُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} (3) وَيُقَال: لَعِبَ
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب، والنهاية لابن الأثير 2 / 118. وحديث: " أبكراً أم ثيباً؟ . . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 343) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) عمدة القاري 10 / 411 - ط. دار الطباعة العامرة، وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7 / 499.
(3) سورة يوسف / 12.

(36/272)


بِالشَّيْءِ: اتَّخَذَهُ لِعْبَةً، وَيُقَال: لَعِبَ فِي الدِّينِ، اتَّخَذَهُ سُخْرِيَّةً، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} (1) .
وَمِنْ مَعَانِيهِ: عَمِل عَمَلاً لاَ يُجْدِي عَلَيْهِ نَفْعًا، ضِدُّ جَدَّ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمُلاَعَبَةِ هِيَ أَنَّ الْمُلاَعَبَةَ أَعَمُّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ - كَمَا قَال الزُّبَيْدِيُّ - فِي حُكْمِ الْمُدَاعَبَةِ وَالْمِزَاحِ
فَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ الْمِزَاحِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَلِيل مَكَانَتِهِ وَعَظِيمِ مَرْتَبَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ حِكْمَتِهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: إِنِّي لاَ أَقُول إِلاَّ حَقًّا (4) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: هَل الْمُدَاعَبَةُ مِنْ خَوَاصِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يَتَأَسَّوْنَ بِهِ فِيهَا؟ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ خَوَاصِّهِ.
وَالْمُدَاعَبَةُ لاَ تُنَافِي الْكَمَال، بَل هِيَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ إِذَا كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى الْقَانُونِ
__________
(1) سورة الأنعام / 70.
(2) المعجم الوسيط.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) حديث: " إني لا أقول إلا حقاً ". أخرجه الترمذي (4 / 357) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.

(36/273)


الشَّرْعِيِّ، بِأَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الصِّدْقِ، وَبِقَصْدِ تَآلُفِ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ وَجَبْرِهِمْ وَإِدْخَال السُّرُورِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُمَارِ أَخَاكَ وَلاَ تُمَازِحْهُ (1) إِنَّمَا هُوَ الإِْفْرَاطُ فِيهَا وَالدَّوَامُ عَلَيْهَا، لأَِنَّهُ يُورِثُ آفَاتٍ كَثِيرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالإِْيذَاءِ وَالْحِقْدِ وَإِسْقَاطِ الْمَهَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِزَاحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الأُْمُورِ، يَقَعُ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةٍ تَامَّةٍ مِنْ مُؤَانَسَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْقَصْدِ سُنَّةٌ، إِذِ الأَْصْل مِنْ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبُ التَّأَسِّي بِهِ فِيهَا أَوْ نَدْبُهُ، إِلاَّ لِدَلِيلٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ دَلِيل هُنَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَتَعَيَّنَ النَّدْبُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ (2) .

مُدَاعَبَةُ الأَْزْوَاجِ:
4 - قَال الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ: وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى احْتِمَال الأَْذَى مِنِ امْرَأَتِهِ بِالْمُدَاعَبَةِ وَالْمِزَاحِ وَالْمُلاَعَبَةِ، فَهِيَ الَّتِي تُطَيِّبُ قُلُوبَ النِّسَاءِ، وَعَلَى الرَّجُل أَنْ لاَ يُوَافِقَهَا بِاتِّبَاعِ
__________
(1) حديث: " لا تمار أخاك ولا تمازحه ". أخرجه الترمذي (4 / 359) من حديث عبد الله بن عباس، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) اتحاف السادة المتقين لشرح إحياء علوم الدين للزبيدي 7 / 499. ط دار الفكر، وفتح الباري 10 / 526 - 527، وعمدة القاري 10 / 411. ط دار الطباعة العامرة.

(36/273)


هَوَاهَا إِلَى حَدٍّ يُفْسِدُ خُلُقَهَا وَيُسْقِطُ بِالْكُلِّيَّةِ هَيْبَتَهُ عِنْدَهَا (1) .
(ر: عِشْرَةٌ ف 8) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَفَلاَ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَتُدَاعِبُهَا وَتُدَاعِبُكَ وَفِي رِوَايَةٍ: وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ (2) .

مُدَاعَبَةُ الأَْطْفَال:
5 - جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَال: أَحْسَبُهُ فَطِيمًا - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَال: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَل النُّغَيْرُ (3) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُمَازَحَةِ وَتَكْرِيرُ الْمِزَاحِ، وَأَنَّهَا إِبَاحَةٌ سُنَّةٍ لاَ رُخْصَةٍ، وَأَنَّ مُمَازَحَةَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ جَائِزَةٌ (4) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 44.
(2) حديث: " أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ". أخرج الرواية الأولى والثالثة البخاري (الفتح 9 / 513) ومسلم (2 / 1087) وأخرج الرواية الثانية.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 582) ، ومسلم (3 / 1692) من حديث أنس بن مالك.
(4) فتح الباري 10 / 584 - ط. مكتبة الرياض الحديثة.

(36/274)


مُدَاوَاةٌ

انْظُرْ: تَدَاوِي.

مُدَبَّرٌ

انْظُرْ: تَدْبِيرٌ.

(36/274)