الموسوعة
الفقهية الكويتية مَدْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَدْحُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الثَّنَاءُ بِذِكْرِ أَوْصَافِ
الْكَمَال وَالأَْفْضَال خُلُقِيَّةً كَانَتْ أَوِ اخْتِيَارِيَّةً،.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّقْرِيظُ:
2 - التَّقْرِيظُ فِي اللُّغَةِ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، وَأَصْلُهُ مِنَ
الْقَرْظِ، وَهُوَ شَيْءٌ يُدْبَغُ بِهِ الأَْدِيمُ، وَإِذَا دُبِغَ بِهِ
حَسُنَ وَصَلُحَ وَزَادَتْ قِيمَتُهُ، فَشُبِّهَ مَدْحُكَ لِلإِْنْسَانِ
الْحَيِّ بِذَلِكَ، كَأَنَّكَ تَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ بِمَدْحِكَ إِيَّاهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْحِ: أَنَّ الْمَدْحَ يَكُونُ
لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَالتَّقْرِيظَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلْحَيِّ (2)
.
__________
(1) المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني، وفتح الباري 13 / 400.
(2) الفروق في اللغة ص42. نشر دار الآفاق الجديدة، والمعجم الوسيط.
(36/275)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالْمَدْحِ:
مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَدْحِ مَا يَأْتِي:
مَدْحُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ:
3 - وَرَدَ فِي مَدْحِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ
اللَّهِ (1) وَالْمِدْحَةُ - كَمَا قَال عُلَمَاءُ اللُّغَةِ - مَا
يُمْدَحُ بِهِ (2) ، وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ قَوْلَهُ
فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ مِنْ عِبَادِهِ - أَيْ
عِبَادِ اللَّهِ - بِطَاعَتِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِهِ
وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ (3) .
مَدْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
4 - دَأَبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَمَا خَصَّهُ
اللَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ:
لاَ خِلاَفَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ الْبَشَرِ
وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَل النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ
وَأَعْلاَهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبُهُمْ زُلْفَى، ثُمَّ سَاقَ أَحَادِيثَ
فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ رَبِّهِ وَالاِصْطِفَاءِ وَرِفْعَةِ الذِّكْرِ وَالتَّفْضِيل
وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَزَايَا
الرُّتَبِ وَبَرَكَةِ اسْمِهِ الطَّيِّبِ (4) ، فَرَوَى عَنْ وَاثِلَةَ
بْنِ الأَْسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ". أخرجه البخاري (الفتح 13 /
399) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) المعجم الوسيط.
(3) فتح الباري 13 / 400.
(4) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 215 - 217.
(36/275)
: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ
إِسْمَاعِيل، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ
قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمَ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمَ (1) .
وَقَال اللَّهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
(2) وَقَال جَل شَأْنُهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) وَقَال
سُبْحَانَهُ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (4) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَعْنَى هَذِهِ
الآْيَةِ: لاَ ذُكِرْتُ إِلاَّ ذُكِرْتَ مَعِي فِي الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ
وَيَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الأَْضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَوْمِ
عَرَفَةَ وَعِنْدَ الْجِمَارِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي
خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَفِي مَشَارِقِ الأَْرْضِ وَمَغَارِبِهَا (5) .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي
إِلَيْهِمْ (6) ، مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ، وَقَدْ مَدَحَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي
مَطْلَعُهَا " بَانَتْ سُعَادُ. . . " فَأَثَابَهُ عَلَى مَدْحِهِ
بِبُرْدَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) .
__________
(1) حديث: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل. . . ". أخرجه مسلم (7 /
58) .
(2) سورة الأنبياء / 107.
(3) سورة ن / 4.
(4) سورة الشرح / 4.
(5) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 23، 216 - 217.
(6) مغني المحتاج 4 / 430.
(7) حديث: " إثابة النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير. . . ". أخرجه
البيهقي في دلائل النبوة (5 / 207 - 211) قال ابن كثير في البداية والنهاية
(4 / 373) وهذا من الأمور المشهورة جداً ولكن لم أر ذلك في شيء من الكتب
المشهورة بإسناد أرتضيه فالله أعلم.
(36/276)
إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لاَ يَصِل
مَدْحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَدِّ الإِْطْرَاءِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا
عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَاهُ: لاَ تَصِفُونِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ
مِنَ الصِّفَاتِ، تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ مَدْحِي، كَمَا وَصَفَتِ
النَّصَارَى عِيسَى بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ
ابْنُ اللَّهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ وَضَلُّوا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ
مَنْ رَفَعَ أَمْرًا فَوْقَ حَدِّهِ وَتَجَاوَزَ مِقْدَارَهُ بِمَا لَيْسَ
فِيهِ فَمُعْتَدٍ آثِمٌ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ فِي أَحَدٍ لَكَانَ
أَوْلَى الْخَلْقِ بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (2) .
مَدْحُ النَّاسِ:
5 - الأَْصْل أَنَّ مَدْحَ الْغَيْرِ - كَمَا قَال الرَّاغِبُ
الأَْصْفَهَانِيُّ - لَيْسَ فِي نَفْسِهِ بِمَحْمُودٍ وَلاَ مَذْمُومٍ،
وَإِنَّمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ، فَمَنْ قَصْدُهُ
طَلَبُ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الثَّنَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يُسْتَحَبُّ فَذَلِكَ مَحْمُودٌ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ: أَنْ يَمِيل
إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرِّيهِ لِفِعْلٍ مَا يَقْتَضِيهِ، وَقَدْ
تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ طَلَبَ
__________
(1) حديث: " لا تطروني كما أطرت النصارى. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري
6 / 478) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 247 ص 277.
(36/276)
الْمَحْمَدَةَ مِنْ غَيْرِ فِعْل حَسَنَةٍ
تَقْتَضِيهَا (1) فَقَال تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} (2) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَالْمَدْحُ تَدْخُلُهُ سِتُّ آفَاتٍ: أَرْبَعٌ فِي
الْمَادِحِ، وَاثْنَتَانِ فِي الْمَمْدُوحِ.
فَأَمَّا الْمَادِحُ فَالأُْولَى: أَنَّهُ قَدْ يُفْرِطُ فَيَنْتَهِي بِهِ
إِلَى الْكَذِبِ، قَال خَالِدُ بْنُ مَعْدَانٍ: مَنْ مَدَحَ إِمَامًا أَوْ
أَحَدًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى رُءُوسِ الأَْشْهَادِ بَعَثَهُ اللَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَثَّرُ بِلِسَانِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنَّهُ
بِالْمَدْحِ مُظْهِرٌ لِلْحُبِّ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ مُضْمِرًا لَهُ وَلاَ
مُعْتَقِدًا لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ، فَيَصِيرُ بِهِ مُرَائِيًا
مُنَافِقًا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَقُول مَا لاَ يَتَحَقَّقُهُ وَلاَ سَبِيل
لَهُ إِلَى الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ.
رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً مَدَحَ رَجُلاً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ثُمَّ قَال: إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ
مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُل: أَحَسُبَ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ
يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ يُزَكِّي عَلَى
اللَّهِ أَحَدًا (3) .
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 277.
(2) سورة آل عمران / 188.
(3) حديث: " ويحك قطعت عنق صاحبك. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 /
476) ، ومسلم (4 / 2296) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه واللفظ للبخاري.
(36/277)
وَهَذِهِ الآْفَةُ تَتَطَرَّقُ إِلَى
الْمَدْحِ بِالأَْوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالأَْدِلَّةِ
كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مُتَّقٍ وَوَرِعٌ وَزَاهِدٌ وَخَيِّرٌ وَمَا يُجْرَى
مُجْرَاهُ، فَأَمَّا إِذَا قَال: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي بِاللَّيْل
وَيَتَصَدَّقُ، وَيَحُجُّ فَهَذِهِ أُمُورٌ مُسْتَيْقَنَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ: إِنَّهُ عَدْلٌ رِضًا، فَإِنَّ ذَلِكَ خَفِيٌّ فَلاَ يَنْبَغِي
أَنْ يَجْزِمَ الْقَوْل فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ خَبِرَةٍ بَاطِنَةٍ، سَمِعَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ فَقَال:
أَسَافَرْتَ مَعَهُ؟ قَال: لاَ، قَال: أَخَالَطْتُهُ فِي الْمُبَايَعَةِ
وَالْمُعَامَلَةِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ
وَمَسَاءَهُ؟ قَال: لاَ، قَال: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
لاَ أَرَاكَ تَعْرِفُهُ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَدْ يَفْرَحُ الْمَمْدُوحُ وَهُوَ ظَالِمٌ أَوْ
فَاسِقٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَغْضَبُ إِذَا مُدِحَ
الْفَاسِقُ (1) .
وَقَال الْحَسَنُ: مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِطُول الْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ
أَنْ يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ.
وَالظَّالِمُ الْفَاسِقُ يَنْبَغِي أَنْ يُذَمَّ لِيَغْتَمَّ، وَلاَ
يُمْدَحَ لِيَفْرَحَ.
وَأَمَّا الْمَمْدُوحُ فَيَضُرُّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
__________
(1) حديث: " إن الله عز وجل يغضب إذا مدح الفاسق ". أخرجه البيهقي في شعب
الإِيمان (4 / 230) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال العراقي: (إتحاف السادة
المتقين 5 / 515) . إسناده ضعيف.
(36/277)
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهِ
كِبْرًا وَإِعْجَابًا وَهُمَا مُهْلِكَانِ، قَال الْحَسَنُ: كَانَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَالِسًا وَمَعَهُ الدِّرَّةُ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ،
إِذْ أَقْبَل الْجَارُودُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَال رَجُلٌ: هَذَا سَيِّدُ
رَبِيعَةَ، فَسَمِعَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ حَوْلَهُ
وَسَمِعَهَا الْجَارُودُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ خَفَقَهُ بِالدِّرَّةِ
فَقَال: مَالِي وَلَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَال: مَالِي وَلَكَ
أَمَا لَقَدْ سَمِعْتُهَا؟ قَال: سَمِعْتُهَا فَمَهْ قَال: خَشِيتُ أَنْ
يُخَالِطَ قَلْبَكَ مِنْهَا شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُطَاطِئَ مِنْكَ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ فَرِحَ بِهِ
وَفَتَرَ وَرَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ قَل
تَشَمُّرُهُ، وَإِنَّمَا يَتَشَمَّرُ لِلْعَمَل مَنْ يَرَى نَفْسَهُ
مُقَصِّرًا، فَأَمَّا إِذَا انْطَلَقَتِ الأَْلْسُنُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ
ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ.
أَمَّا إِذَا سَلِمَ الْمَدْحُ مِنْ هَذِهِ الآْفَاتِ فِي حَقِّ الْمَادِحِ
وَالْمَمْدُوحِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، بَل رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا
إِلَيْهِ (1) .
وَقَال الْخَادِمِي: مِنَ السِّتَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِآفَاتِ اللِّسَانِ
- فِيمَا الأَْصْل فِيهِ الإِْذْنُ وَالإِْبَاحَةُ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ
- الْمَدْحُ، وَهُوَ جَائِزٌ تَارَةً وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ تَارَةً عَلَى
اخْتِلاَفِ الأَْحْوَال وَالأَْوْقَاتِ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ يَجِبُ
تَعْظِيمُهُ فَهُوَ مِنَ الْقُرْبِ وَأَعْلَى
__________
(1) إحياء علوم الدين 3 / 233 - 235.
(36/278)
الرُّتَبِ، وَجَازَ الْمَدْحُ - أَيْ
لِغَيْرِهِمْ كَمَا صَرَّحَ ابْنُ أَحْمَدَ - لأَِنَّهُ يُورِثُ زِيَادَةَ
الْمَحَبَّةِ وَالأُْلْفَةِ وَاجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ.
ثُمَّ قَال الْخَادِمِي: لَكِنْ جَوَازُهُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَدْحُ لِنَفْسِهِ لأَِنَّ تَزْكِيَةَ
النَّفْسِ لاَ تَجُوزُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1) لَكِنْ إِنْ كَانَ
يَقْصِدُ التَّحْدِيثَ بِالنِّعْمَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ جَائِزٌ بَل قَدْ
يُسْتَحَبُّ، وَفِي حُكْمِ مَدْحِ النَّفْسِ مَدْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا
مِنَ الأَْوْلاَدِ وَالآْبَاءِ وَالتَّلاَمِذَةِ وَالتَّصَانِيفِ
وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ مَدْحَ الْمَادِحِ.
وَالثَّانِي: الاِحْتِرَازُ عَنِ الإِْفْرَاطِ فِي الْمَدْحِ الْمُؤَدِّي
إِلَى الْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ، وَعَنِ الْقَوْل بِمَا لاَ يَتَحَقَّقُهُ،
وَلاَ سَبِيل لَهُ إِلَى الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ كَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ
وَالزُّهْدِ لِكَوْنِهَا مِنْ أَحْوَال الْقُلُوبِ، فَلاَ يَجْزِمُ
الْقَوْل بِمِثْلِهَا بَل يَقُول: أَحْسَبُ وَنَحْوُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَمْدُوحُ فَاسِقًا، فَعَنْ أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ إِذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ وَإِنَّمَا يَغْضَبُ
اللَّهُ لأَِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمُجَانَبَتِهِ وَإِبْعَادِهِ، فَمَنْ
مَدَحَهُ فَقَدْ وَصَل مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُقْطَعَ
__________
(1) سورة النجم / 32.
(36/278)
وَوَادَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ، مَعَ مَا
فِي مَدْحِهِ مِنِ اسْتِحْسَانِ فِسْقِهِ وَإِغْرَائِهِ عَلَى إِدَامَتِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَدْحَ لاَ يُحْدِثُ فِي
الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا أَوْ غُرُورًا، فَإِنَّ لِلْوَسَائِل
حُكْمَ الْمَقَاصِدِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ.
وَأَمَّا إِذَا أَحْدَثَ فِي الْمَمْدُوحِ كَمَالاً وَزِيَادَةَ
مُجَاهَدَةٍ وَسَعَى طَاعَةً فَلاَ مَنْعَ بَل لَهُ اسْتِحْبَابٌ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَدْحُ لِغَرَضٍ حَرَامٍ، أَوْ
مُفْضِيًا إِلَى فَسَادٍ، مِثْل مَدْحِ الأُْمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ
لِيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَال الْحَرَامِ الْمُجَازَى بِهِ مِنْهُمْ
أَوِ التَّسَلُّطِ عَلَى النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لاَ يُكْثِرُ مِنَ الْمَدْحِ
الْمُبَاحِ، وَلاَ يَتَقَاعَدُ عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهُ عِنْدَ مَسِيسِ
الْحَاجَةِ، تَرْغِيبًا لِلْمَمْدُوحِ فِي الإِْكْثَارِ مِمَّا مُدِحَ
بِهِ، أَوْ تَذْكِيرًا لَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لِيَشْكُرَهَا
وَلِيَذْكُرَهَا بِشَرْطِ الأَْمِنِ عَلَى الْمَمْدُوحِ مِنَ الْفِتْنَةِ
(2) .
وَقَدْ عَقَدَ النَّوَوِيُّ بَابًا فِي كِتَابِهِ (رِيَاضِ الصَّالِحِينَ)
بِعِنْوَانِ (كَرَاهَةُ الْمَدْحِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ
مَفْسَدَةٌ مِنْ إِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ، وَجَوَازُهُ - أَيْ بِلاَ كَرَاهَةٍ
- لِمَنْ أُمِنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ) أَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ فِي
النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ
__________
(1) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 4 / 19 - 25.
(2) قواعد الأحكام 2 / 177.
(36/279)
أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يُثْنِي
عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَال: أَهْلَكْتُمْ أَوْ
قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُل (1) وَمَا رَوَاهُ هَمَّامُ بْنُ الْحَارِثِ
عَنِ الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً جَعَل يَمْدَحُ
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَمَدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى
رُكْبَتَيْهِ فَجَعَل يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَال لَهُ
عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ، فَقَال إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي
وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ (2) وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال لِعُمَرَ: مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ
إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ (3) ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: قَال
الْعُلَمَاءُ: وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ - أَيْ فِي
النَّهْيِ وَالإِْبَاحَةِ - أَنْ يُقَال: إِنْ كَانَ الْمَمْدُوحُ عِنْدَهُ
كَمَال إِيمَانٍ وَيَقِينٌ وَرِيَاضَةُ نَفْسٍ وَمَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ
بِحَيْثُ لاَ يُفْتَتَنُ وَلاَ يَغْتَرُّ بِذَلِكَ وَلاَ تَلْعَبُ بِهِ
نَفْسُهُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ كُرِهَ مَدْحُهُ فِي وَجْهِهِ كَرَاهَةً
شَدِيدَةً، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيل تَنْزِل الأَْحَادِيثُ
الْمُخْتَلِفَةُ (4) .
__________
(1) حديث: " أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 /
476) ، ومسلم (4 / 2297) من حديث أبي موسى الأشعري.
(2) حديث: " إذا رأيتم المداحين. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2297) .
(3) حديث: " ما لقيك الشيطان سالكاً ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 41) .
(4) دليل الفالحين 4 / 584 - 588.
(36/279)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: تَأَوَّل
الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْثُوا
التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
الْمَدَّاحُونَ فِي وُجُوهِهِمْ بِالْبَاطِل وَبِمَا لَيْسَ فِيهِمْ حَتَّى
يَجْعَلُوا ذَلِكَ بِضَاعَةً يَسْتَأْكِلُونَ بِهِ الْمَمْدُوحَ
وَيَفْتِنُونَهُ (1) .
مَا يَفْعَلُهُ الْمَمْدُوحُ:
6 - قَال الْغَزَالِيُّ: عَلَى الْمَمْدُوحِ أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ
الاِحْتِرَازِ عَنْ آفَةِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَآفَةِ الْفُتُورِ، وَلاَ
يَنْجُو مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ، وَيَتَأَمَّل مَا
فِي خَطَرِ الْخَاتِمَةِ، وَدَقَائِقِ الرِّيَاءِ وَآفَاتِ الأَْعْمَال،
فَإِنَّهُ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ مَا لاَ يَعْرِفُهُ الْمَادِحُ، وَلَوِ
انْكَشَفَ لَهُ جَمِيعُ أَسْرَارِهِ وَمَا يَجْرِي عَلَى خَوَاطِرِهِ
لِكَفِّ الْمَادِحُ عَنْ مَدْحِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهَةَ
الْمَدْحِ بِإِذْلاَل الْمَادِحِ (2) ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ
التُّرَابَ (3) .
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ (4) :
أَنَّهُ إِذَا مُدِحَ الرَّجُل فِي وَجْهِهِ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ لاَ
تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ،
وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ (5) .
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 247.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 236.
(3) تقدم تخريجه ف 5.
(4) فتح الباري 10 / 478.
(5) أثر: " اللهم لا تؤاخذني بما يقولون. . . ". أخرجه البيهقي في شعب
الإِيمان (4 / 288) .
(36/280)
مَدْحُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَذِكْرُ
مَحَاسِنِهِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ فِي
الْجُمْلَةِ أَنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُزْكِيَهَا قَال الْعِزُّ بْنُ
عَبْدِ السَّلاَمِ: وَمَدْحُكَ نَفْسَكَ أَقْبَحُ مِنْ مَدْحِكَ غَيْرِكَ،
فَإِنَّ غَلَطَ الإِْنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَطِهِ
فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَإِنَّ حُبَّكَ الشَّيْءَ يَعْمِي وَيَصُمُّ، وَلاَ
شَيْءَ أَحَبُّ إِلَى الإِْنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَرَى
عُيُوبَ غَيْرِهِ وَلاَ يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيَعْذِرُ بِهِ نَفْسَهُ
بِمَا لاَ يَعْذِرُ بِهِ غَيْرَهُ وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلاَ
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1) وَقَال {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَل اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ
يَشَاءُ} (2) . وَلاَ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ إِلاَّ إِذَا دَعَتِ
الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، مِثْل أَنْ يَكُونَ خَاطِبًا إِلَى قَوْمٍ
فَيُرَغِّبَهُمْ فِي نِكَاحِهِ، أَوْ لِيُعَرِّفَ أَهْلِيَّتَهُ
لِلْوِلاَيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، لِيَقُومَ
بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً كَقَوْل يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَْرْضِ إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (3) .
وَقَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيمَا مَدَحَ
نَفْسَهُ بِهِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالأَْقْوِيَاءِ الَّذِينَ يَأْمَنُونَ
التَّسْمِيعَ وَيُقْتَدَى
__________
(1) سورة النجم / 32.
(2) سورة النساء / 49.
(3) سورة يوسف / 55.
(36/280)
بِأَمْثَالِهِمْ (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ
وَلاَ فَخْرَ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا
أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ (3) .
وَقَوْل عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَاللَّهِ مَا آيَةٌ إِلاَّ
وَأَنَا أَعْلَمُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ وَقَوْل عُثْمَانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَعَنَّيْتُ وَلاَ تَمَنَّيْتُ وَلاَ مَسِسْتُ
ذَكَرِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: التَّعَنِّي: التَّطَلِّي بِالْعِينَةِ، وَهُوَ
بَوْلٌ فِيهِ أَخْلاَطٌ تُطْلَى بِهَا الإِْبِل الْجَرْبَى (5) ،
وَالتَّمَنِّي: التَّكَذُّبُ، تَفَعُّلٌ مِنْ مَنَى يَمْنِي إِذَا قَدَرَ،
لأَِنَّ الْكَاذِبَ يَقْدِرُ الْحَدِيثَ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ يَقُولُهُ (6)
.
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ فَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشُّكْرِ
لِلَّهِ وَتَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيدِ مَا عِنْدَ الْمَفِيدِ (7) .
وَقَال: اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ مَحَاسِنِ نَفْسِهِ ضَرْبَانِ: مَذْمُومٌ
وَمَحْبُوبٌ، فَالْمَذْمُومُ: أَنْ يَذْكُرَهُ
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 2 / 177 - 178.
(2) حديث: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ". أخرجه مسلم (4 / 1782) .
(3) حديث: " أنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ". أخرجه الترمذي (5 / 585)
من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(4) الأثر: " ما تعنيت ولا تمنيت. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 113) .
(5) النهاية في غريب الحديث 3 / 315.
(6) النهاية في غريب الحديث: 4 / 367.
(7) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 474 - 475.
(36/281)
لِلاِفْتِخَارِ وَإِظْهَارِ الاِرْتِفَاعِ
وَالتَّمَيُّزِ عَلَى الأَْقْرَانِ وَشِبْهُ ذَلِكَ، وَالْمَحْبُوبُ: أَنْ
يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ آمِرًا
بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ نَاصِحًا، أَوْ مُشِيرًا
بِمَصْلَحَةٍ، أَوْ مُعَلِّمًا، أَوْ مُؤَدِّبًا، أَوْ وَاعِظًا، أَوْ
مُذَكِّرًا، أَوْ مُصْلِحًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ
شَرًّا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَذْكُرُ مَحَاسِنَهُ نَاوِيًا بِذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى قَبُول قَوْلِهِ وَاعْتِمَادِ مَا
يَذْكُرُهُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْكَلاَمَ الَّذِي أَقُولُهُ لاَ
تَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِي فَاحْتُفِظُوا بِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (1) .
مَدْحُ الْمَيِّتِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ:
8 - نَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنِ الزَّيْنِ بْنِ الْمُنِيرِ:
أَنَّ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ مَشْرُوعٌ وَجَائِزٌ مُطْلَقًا،
بِخِلاَفِ الْحَيِّ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذَا أَفْضَى إِلَى
الإِْطْرَاءِ خَشْيَةً عَلَيْهِ مِنَ الزَّهْوِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَذِكْرُ
مَحَاسِنِهِ.
وَقَال: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَرَّ بِهِ جِنَازَةٌ أَوْ رَآهَا أَنْ
يَدْعُوَ لَهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهَا بِالْخَيْرِ إِنْ كَانَتْ أَهْلاً
لِلثَّنَاءِ، وَلاَ يُجَازِفُ فِي الثَّنَاءِ.
وَنَقَل فِي الْمَجْمُوعِ عَنِ الْبَنْدَنِيجِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) الأذكار للنووي ص246 - 248.
(2) فتح الباري 3 / 229.
(3) الأذكار ص105، 146، والمجموع 5 / 281، وفتح الباري 3 / 228 - 229.
(36/281)
وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: مَرُّوا بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا
بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَال: وَجَبَتْ فَقَال عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَال: هَذَا
أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا
أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ
شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَْرْضِ (1) .
قَال الدَّاوُدِيُّ: الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْل الْفَضْل
وَالصِّدْقِ، لاَ الْفَسَقَةُ لأَِنَّهُمْ قَدْ يُثْنُونَ عَلَى مَنْ
يَكُونُ مِثْلَهُمْ، وَلاَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ عَدَاوَةٌ،
لأَِنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ لاَ تُقْبَل (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ
الثَّنَاءَ بِالْخَيْرِ لِمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْل الْفَضْل - وَكَانَ
ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ - فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ، فَإِنْ
كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ فَلاَ، وَكَذَا عَكْسُهُ قَال:
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ
فَأَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ كَانَ
دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ
أَفْعَالُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَمْ لاَ، فَإِنَّ الأَْعْمَال دَاخِلَةٌ
تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا إِلْهَامٌ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى
تَعْيِينِهَا، وَبِهَذَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ
__________
(1) حديث: " مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 228) ، ومسلم (2 / 655) من حديث أنس واللفظ للبخاري.
(2) فتح الباري 3 / 230 - 231.
(36/282)
الثَّنَاءِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَهَذَا فِي جَانِبِ الْخَيْرِ
وَاضِحٌ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ
لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جِيرَانِهِ الأَْدْنَيْنَ وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلاَثَةٌ
مِنْ جِيرَانِهِ الأَْدْنَيْنَ أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْهُ إِلاَّ
خَيْرًا إِلاَّ قَال اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ قَبِلْتُ قَوْلَكُمْ
وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (1) وَأَمَّا جَانِبُ الشَّرِّ
فَظَاهِرُ الأَْحَادِيثِ أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ إِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ
فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ شَرُّهُ عَلَى خَيْرِهِ (2) لِحَدِيثِ: إِنَّ
لِلَّهِ مَلاَئِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي
الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ (3) .
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَكَرِهَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْل
الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الإِْفْرَاطِ فِي مَدْحِ الْمَيِّتِ عِنْدَ
جِنَازَتِهِ حَتَّى كَانُوا يَذْكُرُونَ مَا هُوَ يُشْبِهُ الْمُحَال،
وَأَصْل الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ عَلَى الْمَيِّتِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ،
وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِمَا لَيْسَ فِيهِ (4) .
__________
(1) حديث: " ما من مسلم يموت فيشهد. . . ". أخرجه الرواية الأولى أحمد في
المسند (2 / 408) ، وأخرج الرواية الثانية أيضًا أحمد (3 / 242) من حديث
أنس - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 4) : ورجال أحمد رجال الصحيح.
(2) فتح الباري 3 / 288 - 231، والأذكار للنووي ص146، 150 - 151.
(3) حديث: " إن لله ملائكة. . . ". أخرج الحاكم في المستدرك (1 / 377) من
حديث أنس وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 319.
(36/282)
مَدَدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَدَدُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُمَدُّ بِهِ الشَّيْءُ، يُقَال:
مَدَدْتُهُ بِمَدَدٍ: قَوَّيْتُهُ وَأَعَنْتُهُ بِهِ، وَالْمَدَدُ
الْجَيْشُ، يُقَال: ضَمَّ إِلَيْهِ أَلْفَ رَجُلٍ مَدَدًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّدْءُ:
2 - الرِّدْءُ فِي اللُّغَةِ: الْمُعِينُ وَالنَّاصِرُ، قَال تَعَالَى
حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} (3)
يَعْنِي مُعِينًا، وَجَمْعُهُ أَرْدَاءٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الأَْرْدَاءُ: هُمُ الَّذِينَ يَخْدِمُونَ
الْمُقَاتِلِينَ فِي الْجِهَادِ، وَقِيل: هُمُ الَّذِينَ وَقَفُوا عَلَى
مَكَانٍ حَتَّى إِذَا تَرَكَ الْمُقَاتِلُونَ الْقِتَال
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 231.
(3) سورة القصص / 34.
(36/283)
قَاتَلُوا.
(ر: رِدْفٌ 1) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَدَدِ وَالرِّدْءِ مُعِينٌ وَمُسَاعِدٌ
لِلْجَيْشِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَدَدَ إِذَا لَحِقَ
بِالْجَيْشِ قَبْل انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَحِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ
فَإِنَّهُ يُسْهَمُ لَهُمْ، لِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَإِنْ
كَانَ لِحَاقُ الْمَدَدِ بِالْجَيْشِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ
وَحِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ حَضَرُوا
بَعْدَمَا صَارَتِ الْغَنِيمَةُ لِلْغَانِمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ اللِّحَاقُ
بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَقَبْل حِيَازَةِ الْغَنِيمَةِ. فَذَهَبَ
بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسْهَمُ لَهُمْ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا
الْوَقْعَةَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُمْ لأَِنَّهُمْ
حَضَرُوا قَبْل أَنْ يَمْلِكَ الْغَانِمُونَ الْغَنِيمَةَ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا لَحِقَ الْمُقَاتِلِينَ فِي دَارِ
الْحَرْبِ جَمَاعَةٌ يَمُدُّونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ شَارَكُوهُمْ فِي
الْغَنِيمَةِ، لأَِنَّ الْمُقَاتِلِينَ لَمْ يَمْلِكُوهَا قَبْل
الْقِسْمَةِ.
وَذَكَرَ فِي التَّتَارْخَانِيةِ: أَنَّهُ لاَ تَنْقَطِعُ مُشَارَكَةُ
__________
(1) المهذب 2 / 247، والمغني 8 / 419، ومواهب الجليل 3 / 370.
(36/283)
الْمَدَدِ لَهُمْ إِلاَّ بِثَلاَثٍ:
إِحْدَاهَا: إِحْرَازُ الْغَنِيمَةِ بِدَارِنَا.
الثَّانِيَةُ: قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
الثَّالِثَةُ: بَيْعُ الإِْمَامِ لَهَا ثَمَّةَ؛ لأَِنَّ الْمَدَدَ لاَ
يُشَارِكُ الْجَيْشَ فِي الثَّمَنِ (1) .
مُدٌّ
انْظُرْ: مَقَادِيرُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 231.
(36/284)
مُدُّ عَجْوَةٍ
التَّعْرِيفُ:
ا - الْمُدُّ فِي اللُّغَةِ: كَيْلٌ مِقْدَارُهُ رَطْلٌ وَثُلُثٌ عِنْدَ
أَهْل الْحِجَازِ وَهُوَ رُبُعُ صَاعٍ، لأَِنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ
أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ.
أَمَّا الْعَجْوَةُ فَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِ، قَال الْجَوْهَرِيُّ:
الْعَجْوَةُ: ضَرْبٌ مِنْ أَجْوَدِ التَّمْرِ بِالْمَدِينَةِ هِيَ
الصَّيْحَانِيَّةُ، وَبِهَا ضُرُوبٌ مِنَ الْعَجْوَةِ لَيْسَ لَهَا
عُذُوبَةُ الصَّيْحَانِيَّةِ، وَلاَ رِيِّهَا وَلاَ امْتِلاَؤُهَا، وَحَكَى
ابْنُ سَيِّدَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعَجْوَةُ بِالْحِجَازِ أُمُّ
التَّمْرِ الَّذِي إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ كَالشَّهْرَيْنِ بِالْبَصْرَةِ،
وَالنَّبْتِيِّ بِالْبَحْرَيْنِ، وَالْجُذَامِيِّ بِالْيَمَامَةِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - مُدُّ عَجْوَةٍ اسْمُ مَسْأَلَةٍ اشْتُهِرَتْ بِهَذَا الاِسْمِ.
وَصُورَتُهَا: أَنْ تَجْمَعَ صَفْقَةً رِبَوِيًّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ
وَاخْتَلَفَ الْجِنْسُ فِي الْجَانِبَيْنِ: كَمُدِّ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(36/284)
عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ
وَدِرْهَمٍ، أَوْ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمَيْنِ بِمُدَّيْنِ، أَوْ مُدٍّ
وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوِ اشْتَمَلاَ عَلَى جِنْسٍ رِبَوِيٍّ
وَانْضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُ رِبَوِيٍّ فِيهِمَا: كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ
بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ
بِدِرْهَمٍ، أَوِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ: بِأَنِ
اشْتَمَل أَحَدُهُمَا مِنْ جَنْسٍ رِبَوِيٍّ عَلَى نَوْعَيْنِ اشْتَمَل
الآْخَرُ عَلَيْهِمَا، كَمُدِّ تَمْرٍ صَيْحَانِيٍّ وَمُدٍّ بَرْنِيٍّ
بِمُدِّ تَمْرٍ صَيْحَانِيٍّ وَمُدٍّ بَرْنِيٍّ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا:
كَمُدِّ صَيْحَانِيٍّ وَمُدِّ بَرْنِيٍّ بِمُدَّيْنِ صَيْحَانِيٍّ أَوْ
بَرْنِيٍّ، أَوِ اخْتَلَفَ الْوَصْفُ فِي الْجَانِبَيْنِ بِأَنِ اشْتَمَل
أَحَدُهُمَا فِي جِنْسٍ رِبَوِيٍّ عَلَى وَصْفَيْنِ اشْتَمَل الآْخَرُ
عَلَيْهِمَا، كَصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ يَنْقُصُ قِيمَتُهَا عَنْ قِيمَةِ
الصِّحَاحِ بِصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ، أَوْ جَيِّدَةٍ وَرَدِيئَةٍ
بِجَيِّدَةٍ وَرَدِيئَةٍ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا، فَكُل هَذِهِ الصُّوَرِ
بَاطِلَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1)
، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عَبِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلاَدَةٍ
فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ
قَال لَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: - ابْتَاعَهَا رَجُلٌ
بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةِ دَنَانِيرَ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 28، وتحفة المحتاج 4 / 287، والمغني 4 / 40.
(36/285)
: لاَ حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا (1)
وَلأَِنَّ قَضِيَّةَ اشْتِمَال أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ عَلَى مَالَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يُوَزَّعَ مَا فِي الطَّرَفِ الآْخَرِ
عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَالتَّوْزِيعُ هُنَا نَشَأَ عَنِ
التَّقْوِيمِ الَّذِي هُوَ تَخْمِينٌ، وَالتَّخْمِينُ قَدْ يُخْطِئُ خَطَأً
يُؤَدِّي لِلْمُفَاضَلَةِ أَوْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ، وَإِنِ
اتَّحَدَتْ شَجَرَةُ الْمَدِينِ وَضَرْبُ الدِّرْهَمَيْنِ، فَفِي بَيْعِ
مُدٍّ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ إِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْمُدِّ عَلَى
الدِّرْهَمِ الَّذِي مَعَهُ أَوْ نَقَصَتْ يَلْزَمُ الْمُفَاضَلَةُ، وَإِنْ
سَاوَتْهُ لَزِمَ الْجَهْل (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (رِبَا ف 38) .
مُدَّعَى
انْظُرْ: دَعْوَى
__________
(1) حديث فضالة بن عبيد: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب
وخرز. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1213) والرواية الأخرى للدارقطني (3 / 3) .
(2) تحفة المحتاج 4 / 287، ومغني المحتاج 2 / 28، والمغني 4 / 40 - 41،
والقوانين الفقهية 259.
(36/285)
مُدَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - الْمُدَّةُ لُغَةً: مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ يَصْدُقُ عَلَى
الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَالْجَمْعُ مُدَدٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْمُدَّةِ عَنِ
التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْجَل:
2 - أَجَل الشَّيْءِ: مُدَّتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ، وَغَايَةُ
الْوَقْتِ فِي الْمَوْتِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالأَْجَل عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ،
فَكُل أَجَلٍ مُدَّةٌ وَلَيْسَتْ كُل مُدَّةٍ أَجَلاً.
ب - التَّوْقِيتُ:
3 - التَّوْقِيتُ لُغَةً: تَحْدِيدُ الْوَقْتِ.
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة، والمصباح المنير.
(2) الكليات 4 / 307، 308.
(3) المصباح المنير، والقاموس المحيط.
(4) المفردات في غريب القرآن.
(36/286)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَحْدِيدُ وَقْتِ
الْفِعْل ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً (ر: تَأْقِيتٌ ف 1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ التَّوْقِيتِ وَالْمُدَّةِ: أَنَّ فِي التَّوْقِيتِ
بِهَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا لِلْمُدَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُدَّةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
4 - ذَهَبَ جَهْوَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ الْمَسْحِ عَلَى
الْخُفَّيْنِ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ، وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيِهَا لِلْمُسَافِرِ (1) ، لِحَدِيثِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَال:
سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى
الْخُفَّيْنِ فَقَالَتْ: سَل عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ
كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَسَأَلْتُهُ فَقَال: جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا
وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (2) .
وَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ حَدَثَ بَعْدَ لَبْسٍ إِلَى مِثْلِهِ
فِي الثَّانِي أَوِ الرَّابِعِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ حَدَّ فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ فَلاَ
يَتَقَيَّدُ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلاَ بِأَكْثَرَ وَلاَ بِأَقَل (4) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 114 - 115، ومغني المحتاج 1 / 64 - 65، وحاشية ابن
عابدين 1 / 180.
(2) حديث: " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن. . . ".
أخرجه مسلم (1 / 232 - ط الحلبي) .
(3) المصادر السابقة.
(4) الشرح الصغير 1 / 154، وشرح الزرقاني 1 / 108.
(36/286)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (مَسَحَ
عَلَى الْخُفَّيْنِ) .
مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّتِهِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ
مُدَّتِهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَتُحْسَبُ مِنَ الْعَقْدِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ أَنْ
تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةٌ، طَالَتْ أَمْ قَصُرَتْ (2) ، وَبِهِ قَال
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (3) ، وَأَجَازَ مَالِكٌ
الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلاَثِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَتَخْتَلِفُ
الْمُدَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِ الْمَبِيعِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي خِيَارِ الشَّرْطِ (ف 8 وَمَا بَعْدَهَا) .
مُدَّةُ الإِْيلاَءِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الإِْيلاَءَ لاَ بُدَّ لَهُ
مِنْ مُدَّةٍ يَحْلِفُ الزَّوْجُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ
فِيهَا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ الإِْيلاَءِ أَكْثَرُ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 46 - 47، وتبيين الحقائق 4 / 14، ومغني المحتاج 2
/ 46 - 47.
(2) المغني 3 / 586 - 587.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 46 - 47، وتبيين الحقائق 4 / 14.
(4) الشرح الصغير 3 / 134 وما بعدها.
(36/287)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مُدَّةَ
الإِْيلاَءِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
فَلَوْ حَلَفَ: أَلاَّ يَقْرُبَ زَوْجَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ
يَكُونُ إِيلاَءً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يَكُونُ إِيلاَءً عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ
حَلَفَ الزَّوْجُ: أَلاَّ يَطَأَ زَوْجَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ كَانَ إِيلاَءً بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا حَلَفَ أَلاَ
يَقْرَبَ زَوْجَتَهُ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ
إِيلاَءً عِنْدَ الْجَمِيعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِيلاَءٍ ف 1، 14) .
مُدَّةُ الْعِدَّةِ:
7 - لِلْعِدَّةِ مُدَدٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الْعِدَّةِ
وَسَبَبِهَا، فَهُنَالِكَ الْعِدَّةُ بِالإِْقْرَاءِ، وَالْعِدَّةُ
بِوَضْعِ الْحَمْل، وَالْعِدَّةُ بِالأَْشْهُرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلِحِ (عِدَّةٌ ف 10 - 19) .
مُدَّةُ الْحَمْل:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةُ
أَشْهُرٍ،
(36/287)
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ
امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَمَّ عُثْمَانُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجْمِهَا، فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: لَوْ خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصَمْتُكُمْ، فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا (1)
وَقَال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ
(2) فَالآْيَةُ الأُْولَى حَدَّدَتْ مُدَّةَ الْحَمْل وَالْفِصَال أَيِ
الْفِطَامِ بِثَلاَثِينَ شَهْرًا، وَالثَّانِيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ
مُدَّةَ الْفِطَامِ عَامَانِ، فَبَقِيَ لِمُدَّةِ الْحَمْل سِتَّةُ
أَشْهُرٍ.
أَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْل فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا
عَلَى أَقْوَالٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلِحِ (حَمْلٌ ف 6 -
7، وَعِدَّةٌ ف 21) .
مُدَّةُ الْحَيْضِ
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ مُدَّةِ
الْحَيْضِ سِتَّةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا أَوْ سَبْعَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَدْنَى مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهَا عَلَى
أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلِحِ (حَيْضٌ ف 11، وَطُهْرٌ ف 4) .
مُدَّةُ الطُّهْرِ:
10 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِ الطُّهْرِ وَأَنَّ
غَالِبَ مُدَّتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ يَوْمًا، أَوْ ثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا بِلَيَالِيهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَل مُدَّةِ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ عَلَى
أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى
__________
(1) سورة الأحقاف / 15.
(2) سورة البقرة / 233.
(36/288)
الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى
أَنَّ أَقَل طُهْرٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
بِلَيَالِيهَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الطُّهْرِ
بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (طُهْرٌ ف 4، حَيْضٌ ف 24) .
مُدَّةُ النِّفَاسِ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِقَل النِّفَاسِ.
أَمَّا أَكْثَرُهُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ
النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا، وَغَالِبُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (نِفَاسٌ) .
مُدَّةُ الإِْجَارَةِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْجَارَةَ الَّتِي لاَ تَنْضَبِطُ
الْمَنْفَعَةُ فِيهَا إِلاَّ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ تُذْكَرُ فِيهَا
الْمُدَّةُ وَلَيْسَ لِمُدَّةِ الإِْجَارَةِ حَدٌّ أَقْصَى عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ وَقَعَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ
مَعْلُومَةً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 199، وكشاف القناع 1 / 218 / 219.
(2) مغني المحتاج 1 / 119، والشرح الصغير 1 / 216.
(36/288)
وَإِنْ قُدِّرَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ
بِسِنِينَ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَهَا حُمِل عَلَى السَّنَةِ
الْهِلاَلِيَّةِ لأَِنَّهَا مَعْهُودَةٌ فِي الشَّرْعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (إِجَارَةٌ ف 94 - 97) .
مُدَّةُ التَّأْجِيل لِلْعِنِّينِ:
13 - إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ وَثَبَتَتْ عُنَّتُهُ
ضَرَبَ لَهُ الْقَاضِي سَنَةً بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ، كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَابَعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَضَتِ
السَّنَةُ وَلاَ إِصَابَةَ عَلِمْنَا أَنَّهُ خِلْقِيٌّ، فَيُفَرِّقُ
الْقَاضِي بَيْنَهُمَا.
وَتَبْدَأُ السَّنَةُ مِنْ وَقْتِ التَّأْجِيل، وَالتَّفْصِيل فِي
مُصْطَلِحِ (عُنَّةٌ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
مُدَّةُ تَرَبُّصِ زَوْجَةِ الْغَائِبِ وَالْمَفْقُودِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّةِ تَرَبُّصِ زَوْجَةِ الْغَائِبِ
وَالْمَفْقُودِ قَبْل التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ
تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلِحِ (طَلاَقٌ ف 87 - 92، وَغَيْبَةٌ ف 3،
وَمَفْقُودٌ) .
مُدَّةُ الْخِيَارِ فِي رَدِّ الْمُصَرَّاةِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّصْرِيَةَ عَيْبٌ
تُرَدُّ بِهِ الْمُصَرَّاةُ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ
الْخِيَارِ عَلَى أَقْوَالٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلِحِ (تَصْرِيَةٍ ف 8) .
اشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ:
16 - يُشْتَرَطُ لِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول
(36/289)
بِمَشْرُوعِيَّتِهَا وَلُزُومِهَا مِنَ
الْفُقَهَاءِ: أَنْ تَكُونَ بِمُدَّةِ مَعْلُومَةٍ، فَلاَ تَصِحُّ
الْمُزَارَعَةُ إِلاَّ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً،
وَأَنْ تَكُونَ زَمَنًا يُتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، فَإِنْ
كَانَتْ زَمَنًا لاَ يُتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الزِّرَاعَةِ فَسَدَ
الْعَقْدُ، وَأَنْ تَكُونَ مُدَّةً يَعِيشُ فِيهَا أَحَدُهُمَا غَالِبًا
(1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (مُزَارَعَةٌ) .
مُدَّةُ الصَّلْبِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَبْقَى فِيهَا
الْمُحَارَبُ الْمَصْلُوبُ عَلَى الْخَشَبَةِ بَعْدَ قَتْلِهِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ
ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَخَفِ التَّغَيُّرَ أَوِ الاِنْفِجَارَ قَبْلَهَا
وَإِلاَّ أُنْزِل وُجُوبًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ قَدْرَ مَا يَشْتَهِرُ أَمْرُهُ وَعِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ يُنْزَل إِذَا خِيفَ تُغَيِّرُهُ (3) .
(ر: حِرَابَةٌ ف 21) .
مُدَّةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ:
18 - إِذَا الْتَقَطَ إِنْسَانٌ لُقَطَةً وَجَبَ عَلَيْهِ، تَعْرِيفُهَا
سَنَةً أَوْ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لاَ
يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 236.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 213، ومغني المحتاج 4 / 182، القليوبي 4 / 200.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 349، والمغني 8 / 291.
(36/289)
الْتَقَطَهُ مِمَّا لاَ يَبْقَى عَامًا
وَلاَ يَبْقَى بِعِلاَجٍ وَلاَ غَيْرِهِ - كَالْفَاكِهَةِ الَّتِي لاَ
تُجَفَّفُ - فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَكْلِهِ وَبَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ،
فَإِنْ ظَهَرَ صَاحِبُهُ ضَمِنَهُ لَهُ وَلاَ يَجُوزُ إِبْقَاءُ هَذِهِ
اللُّقَطَةِ، فَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَلِفَتْ ضَمِنَهَا (1) ، وَإِنْ
كَانَ مِمَّا يَبْقَى بِعِلاَجٍ أَوْ غَيْرِهِ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلِحِ (لُقْطَةٌ) .
مُدَّةُ الْهُدْنَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّةِ مُوَادَعَةِ أَهْل الْحَرْبِ
وَمُهَادَنَتِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ تُنْظَرُ فِي (هُدْنَةٌ) .
مُدَّةُ الأَْمَانِ:
20 - يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُدَّةِ الأَْمَانِ أَنْ لاَ تَزِيدَ
عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي الْقَوْل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَفِي
قَوْلٍ: يَجُوزُ الأَْمَانُ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَنَةً (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: مُسْتَأْمَنٌ) .
مُدَّةُ تَحْجِيرِ الأَْرْضِ لِلْبِنَاءِ:
21 - إِذَا احْتَجَرَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَلَمْ يَبْنِ مُدَّةً يُمْكِنِ
الْبِنَاءُ فِيهَا وَلاَ أَحْيَاهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ بَطَل حَقُّهُ فِيهَا.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 319، والفتاوى الهندية 2 / 289، وحاشية الدسوقي 4 /
120، وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 411، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 319
وما بعدها.
(2) حاشية القليوبي 4 / 226 وما بعدها.
(36/290)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: بِنَاءٌ ف 12،
وَإِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 16) .
مُدَّةُ الْحَضَانَةِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّةِ الْحَضَانَةِ بِالنِّسْبَةِ لِكُل
مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (حَضَانَةٌ ف 19) .
مُدَّةُ جَوَازِ نَفْيِ الْوَلَدِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا
نَفْيُ الْوَلَدِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ -
وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ
إِلاَّ لِعُذْرٍ وَبِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، لأَِنَّهُ شُرِعَ
لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُحَقَّقٍ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ
بِالْعَيْبِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَفَى الرَّجُل وَلَدَ امْرَأَتِهِ عَقِيبَ
الْوِلاَدَةِ أَوْ فِي الْحَال الَّتِي يَقْبَل التَّهْنِئَةَ وَيَبْتَاعُ
آلَةَ الْوِلاَدَةِ صَحَّ نَفْيُهُ وَلاَعَنَ بِهِ، وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ
ذَلِكَ، لاَعَنَ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا عَنِ
امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلاَدَةِ حَتَّى قَدِمَ لَهُ النَّفْيُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِقْدَارَ مَا تُقْبَل التَّهْنِئَةُ، وَقَالاَ:
فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْقُدُومِ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ
لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَصَارَتْ حَالَةُ الْقُدُومِ
كَحَالَةِ الْوِلاَدَةِ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 518 - 519، ومغني المحتاج 3 / 380، والمغني 7 /
424.
(36/290)
مُدَّةُ حَبْسِ الْجَلاَّلَةِ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّةِ حَبْسِ الْجَلاَّلَةِ، فَقَال
الْبَعْضُ: تُحْبَسُ النَّاقَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْبَقَرَةُ
ثَلاَثِينَ، وَالشَّاةُ سَبْعَةً، وَالدَّجَاجَةُ ثَلاَثَةً، وَقِيل:
غَيْرُ ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (جَلاَّلَةٌ ف 3) .
(36/291)
مُدَرِّسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُدَرِّسُ اسْمُ فَاعِلٍ: مِنْ فِعْل: دَرَّسَ - مُضَعَّفًا -
يُقَال: دَرَّسَ يُدَرِّسُ تَدْرِيسًا: إِذَا عَلِمَ، وَالْمُدَرِّسُ:
الْمُعَلِّمُ، وَالْكَثِيرُ الدَّرْسِ وَالتِّلاَوَةِ فِي الْكِتَابِ،
وَيُقَال: دَرَسْتُ الْعِلْمَ: قَرَأْتُهُ، وَدَرَسْتُ الْكِتَابَ دَرْسًا
أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ عَلَيَّ.
وَدَرَسَتِ الرِّيحُ الأَْثَرَ وَالرَّسْمَ: مَحَتْهُ، وَيُقَال: دَرَسَ
الشَّيْءُ وَالرَّسْمُ: عَفَا وَانْمَحَى، وَيُقَال: دَرَسَ النَّاقَةَ:
رَاضَهَا حَتَّى انْقَادَتْ وَسَهُل قَوْدُهَا.
وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ التَّعْلِيمِ تَدْرِيسًا وَالْمُعَلِّمُ مُدَرِّسًا،
كَأَنَّ الْكِتَابَ يُعَانِدُ الطَّالِبَ فَيُذَلِّل لَهُ الْمُعَلِّمُ
حَتَّى يَسْهُل حِفْظُهُ، كَأَنَّهُ رَاضَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(36/291)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُعِيدُ:
2 - الْمُعِيدُ: هُوَ الَّذِي يُعِيدُ لِلطَّلِبَةِ الدَّرْسَ الَّذِي
قَرَءُوهُ عَلَى الْمُدَرِّسِ لِيَسْتَوْضِحُوهُ أَوْ يَتَفَهَّمُوا مَا
أَشْكَل.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الْمُعِيدَ عَلَيْهِ قَدْرٌ زَائِدٌ
عَلَى سَمَاعِ الدَّرْسِ مِنْ تَفْهِيمِ الطَّلِبَةِ وَنَفْعِهِمْ وَعَمَل
مَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الإِْعَادَةِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُدَرِّسِ:
وَظِيفَةُ الْمُدَرِّسِ:
3 - وَظِيفَةُ الْمُدَرِّسِ وَهِيَ التَّعْلِيمُ، مِنْ آكَدِ فُرُوضِ
الْكِفَايَاتِ وَأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَأُمُورِ الدِّينِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُصْطَلِحِ: تَعَلُّمٌ وَتَعْلِيمٌ ف 5 وَمَا
بَعْدَهَا) .
اسْتِحْقَاقُ الْمُدَرِّسِ غَلَّةَ الْوَقْفِ:
4 - قَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَفَ وَاقِفٌ شَيْئًا عَلَى
الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ اسْتَحَقَّ مَنِ اشْتَغَل بِهِ فَإِنْ تَرَكَ
الاِشْتِغَال زَال اسْتِحْقَاقُهُ؛ فَإِنْ عَادَ إِلَى الاِشْتِغَال عَادَ
اسْتِحْقَاقُهُ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا
وَعَدَمًا، وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ فِي الصَّرْفِ نَصَّبَ النَّاظِرَ
لِلْمُسْتَحِقِّ كَالْمُدَرِّسِ وَالْمُعِيدِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ أَيِ
الطَّلِبَةِ بِالْمَدْرَسَةِ
__________
(1) تحفة المحتاج 6 / 290.
(36/292)
مَثَلاً فَلاَ إِشْكَال فِي تَوَقُّفِ
الاِسْتِحْقَاقِ عَلَى نَصْبِ النَّاظِرِ لِلْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِ عَمَلاً
بِالشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ نَصْبَ النَّاظِرِ
لِلْمُسْتَحِقِّ بَل قَال: وَيَصْرِفُ النَّاظِرُ إِلَى مُدَرِّسٍ أَوْ
مُعِيدٍ أَوْ مُتَفَقِّهَةٍ بِالْمُدْرَسَةِ لَمْ يَتَوَقَّفِ
الاِسْتِحْقَاقُ عَلَى نَصْبِ النَّاظِرِ وَلاَ الإِْمَامِ، بَل لَوِ
انْتَصَبَ مُدَرِّسٌ أَوْ مُعِيدٌ بِالْمَدْرَسَةِ وَأَذْعَنَ لَهُ
الطَّلِبَةُ بِالاِسْتِفَادَةِ وَتَأَهَّل لِذَلِكَ اسْتَحَقَّ وَلَمْ
يَجُزْ مُنَازَعَتُهُ لِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ أَيِ التَّدْرِيسِ
وَالإِْعَادَةِ، وَكَذَا لَوْ قَامَ طَالِبٌ بِالْمَدْرَسَةِ مُتَفَقِّهًا
- وَلَوْ لَمْ يَنْصِبْهُ نَاصِبٌ - اسْتَحَقَّ لِوُجُودِ التَّفَقُّهِ (1)
.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُدَرِّسَ فِي الْمَدْرَسَةِ مِنَ
الشَّعَائِرِ كَالإِْمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالشَّعَائِرُ عِنْدَهُمْ
(هِيَ: مَا لاَ تَنْتَظِمُ مَصْلَحَةَ الْوَقْفِ بِدُونِهِ) كَعَمَارَةِ
الْوَقْفِ، وَالإِْمَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمُدَرِّسُ فِي
الْمَدْرَسَةِ، فَيُقَدَّمُ فِي صَرْفِ الْغَلَّةِ عَمَارَةُ الْوَقْفِ،
ثُمَّ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَمَارَةِ وَأَعَمُّ لِلْمَصْلَحَةِ
كَالإِْمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمُدَرِّسِ فِي الْمَدْرَسَةِ،
فَيُصْرَفُ إِلَيْهِمَا بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمْ.
وَقَال صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَظَاهِرُهُ تَقْدِيمُ الإِْمَامِ
وَالْمُدَرِّسِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْتَحِقِّينَ بِلاَ شَرْطٍ،
وَالتَّسْوِيَةُ بِالْعَمَارَةِ يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُمَا عِنْدَ شَرْطِ
الْوَاقِفِ: أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ رِيعُ الْوَقْفِ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 275.
(36/292)
قُسِمَ عَلَيْهِمُ الرِّيعُ بِالْحِصَّةِ،
وَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لاَ يُعْتَبَرُ.
وَتَقْدِيمُ الْمُدَرِّسِ عَلَى سَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ إِنَّمَا
يَكُونُ بِشَرْطِ مُلاَزَمَتِهِ لِلْمَدْرَسَةِ لِلتَّدْرِيسِ الأَْيَّامَ
الْمَشْرُوطَةَ فِي كُل أُسْبُوعٍ، لِهَذَا قَال: لِلْمَدْرَسَةِ،
لأَِنَّهُ إِذَا غَابَ الْمُدَرِّسُ تَعَطَّلَتِ الْمَدْرَسَةُ مِنَ
الشَّعَائِرِ، بِخِلاَفِ مُدَرِّسِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ لاَ
يَتَعَطَّل بِغَيْبَةِ الْمُدَرِّسِ (1) .
تَدْرِيسُ الْمُدَرِّسِ فِي مَدْرَسَتَيْنِ:
5 - إِذَا كَانَ الْمُدَرِّسُ يُدَرِّسُ بَعْضَ النَّهَارِ فِي مَدْرَسَةٍ
وَبَعْضَ النَّهَارِ فِي أُخْرَى، وَلاَ يَعْلَمُ شَرْطَ الْوَاقِفِ
يَسْتَحِقُّ الْمُدَرِّسُ فِي الْمَدْرَسَتَيْنِ عَطَاءَهُ مِنْ غَلَّةِ
الْوَقْفِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ يُدَرِّسُ فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ فِي هَذِهِ
الْمَدْرَسَةِ وَبَعْضِهَا فِي أُخْرَى لاَ يَسْتَحِقُّ غَلَّتَيْهِمَا
بِتَمَامِهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِي كُل
مَدْرَسَةٍ (2) .
اسْتِحْقَاقُ الْمُدَرِّسِ مَا رُتِّبَ لَهُ يَوْمَ الْبَطَالَةِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَنْبَغِي إِلْحَاقُ الْمُدَرِّسِ
بِالْقَاضِي فِي أَخْذِ مَا رُتِّبَ لَهُ يَوْمَ بَطَالَتِهِ وَاخْتَلَفُوا
فِيهَا، وَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ يَأْخُذُ لأَِنَّهَا لِلاِسْتِرَاحَةِ، وَفِي
الْحَقِيقَةِ تَكُونُ لِلْمُطَالَعَةِ
__________
(1) البحر الرائق ومنحة الخالق على هامشه 5 / 230 - 231 - 333، وابن عابدين
3 / 376 وما بعده.
(2) المراجع السابقة.
(36/293)
وَالتَّحْرِيرِ، وَفَصَّل الْبِيرِيُّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ الْمَسْأَلَةَ: فَقَال إِنْ كَانَ الْوَاقِفُ قَدْ قَدَّرَ
لِلْمُدَرِّسِ كُل يَوْمٍ دَرَّسَ فِيهِ مَبْلَغًا فَلَمْ يُدَرِّسْ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَالثُّلاَثَاءِ فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبْلَغَ،
وَيُصْرَفُ أَجْرُ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ إِلَى مَصَارِفِ الْمَدْرَسَةِ
مِنَ الْمَرَمَّةِ وَغَيْرِهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يُقَدِّرْ لِكُل
يَوْمٍ مَبْلَغًا فَإِنَّهُ يَحِل لَهُ الأَْخْذُ وَإِنْ لَمْ يُدَرِّسْ
فِيهِمَا لِلْعُرْفِ، بِخِلاَفِ غَيْرِهِمَا مِنْ أَيَّامِ الأُْسْبُوعِ
حَيْثُ لاَ يَحِل لَهُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَنْ يَوْمٍ لَمْ يُدَرِّسْ فِيهِ
مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قُدِّرَ لَهُ أَجْرٌ كُل يَوْمٍ أَوْ لاَ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إِذَا قَدَّرَ لِكُل يَوْمٍ
دَرَّسَ فِيهِ مَبْلَغًا، أَمَّا لَوْ قَال: يُعْطَى الْمُدَرِّسُ كُل
يَوْمٍ كَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى لِيَوْمِ الْبَطَالَةِ
الْمُتَعَارَفَةِ.
وَقَال أَبُو اللَّيْثِ: وَمَنْ يَأْخُذُ الأَْجْرَ مِنْ طَلَبَةِ
الْعِلْمِ فِي يَوْمٍ لاَ دَرْسَ فِيهِ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ جَائِزًا.
وَفِي الْحَاوِي: إِذَا كَانَ مُشْتَغِلاً بِالْكِتَابَةِ وَالتَّدْرِيسِ
(2) .
وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَلَى الْمُدَرِّسِينَ حُضُورَ الدَّرْسِ فِي
الْمَدْرَسَةِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً فِي كُل أُسْبُوعٍ، فَإِنَّهُ لاَ
يَسْتَحِقُّ الْعَطِيَّةَ إِلاَّ مَنْ بَاشَرَ التَّدْرِيسَ، خُصُوصًا
إِذَا قَال الْوَاقِفُ: مَنْ غَابَ عَنِ الْمَدْرَسَةِ تُقْطَعُ
عَطِيَّتُهُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ صَرْفُهُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 379 - 380.
(2) ابن عابدين 3 / 380.
(36/293)
إِلَيْهِ أَيَّامَ غَيْبَتِهِ اتِّبَاعًا
لِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ: إِنْ زَادَتْ
غَيْبَتُهُ عَنْ مُدَّةٍ حَدَّدَهَا أَخْرَجَهُ النَّاظِرُ وَقَرَّرَ
غَيْرَهُ: اتَّبَعَ شَرْطَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْزِلْهُ النَّاظِرُ وَبَاشَرَ
لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَطِيَّةَ (1) وَإِذَا لَمْ يُدَرِّسِ الْمُدَرِّسُ
لِعَدَمِ وُجُودِ طَلَبَةٍ فِي الْمَدْرَسَةِ: إِنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ
لِلتَّدْرِيسِ بِأَنْ يَحْضُرَ الْمَدْرَسَةَ الْمُعَيَّنَةَ لِتَدْرِيسِهِ
اسْتَحَقَّ الْعَطِيَّةَ (2) .
شُرُوطُ الْمُدَرِّسِ:
7 - يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُدَرِّسِ فِي الْعَطِيَّةِ الشُّرُوطُ
التَّالِيَةُ
أ - أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلتَّدْرِيسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا
لِلتَّدْرِيسِ فَلاَ يُعْطَى عَطِيَّةَ الْمُدَرِّسِ، وَلاَ يَحِل لَهُ
تَنَاوُلُهَا، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْمُتَفَقِّهُونَ الْمُنْزِلُونَ فِي
الْمَدْرَسَةِ الْعَطِيَّةَ؛ لأَِنَّ مَدْرَسَتَهُمْ شَاغِرَةٌ عَنِ
الْمُدَرِّسِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ تَنْصِيبُ مُدَرِّسٍ لَيْسَ
بِأَهْلٍ لِلتَّدْرِيسِ وَلاَ يَصِحُّ تَنْصِيبُهُ، لأَِنَّ تَصَرُّفَ
السُّلْطَانِ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ وَلاَ مَصْلَحَةَ فِي تَنْصِيبِ
غَيْرِ الأَْهْل لِلتَّدْرِيسِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الأَْهْلِيَّةَ بِمَعْرِفَةِ مَنْطُوقِ
الْكَلاَمِ وَمَفْهُومِهِ وَبِمَعْرِفَةِ الْمَفَاهِيمِ (3) .
ب - أَنْ تَكُونَ لَهُ سَابِقَةُ اشْتِغَالٍ عَلَى الْمَشَايِخِ بِحَيْثُ
صَارَ يَعْرِفُ الاِصْطِلاَحَاتِ، وَيَقْدِرُ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 246.
(2) ابن عابدين 3 / 379 - 380.
(3) الأشباه لابن نجيم 125، 389.
(36/294)
عَلَى أَخْذِ الْمَسَائِل مِنَ الْكُتُبِ.
ج - أَنْ تَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَسْأَل وَيُجِيبَ إِذَا سُئِل،
وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى سَابِقِ اشْتِغَالٍ بِالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ
بِحَيْثُ صَارَ يَعْرِفُ الْفَاعِل مِنَ الْمَفْعُول إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ مَبَادِئِ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِذَا قَرَأَ لاَ يَلْحَنُ،
وَإِذَا لَحِنَ قَارِئٌ بِحَضْرَتِهِ رَدَّ عَلَيْهِ (1) .
عَزْل الْمُدَرِّسِ:
8 - نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ: اسْتُفِيدَ مِنْ عَدَمِ
صِحَّةِ عَزْل النَّاظِرِ بِلاَ جُنْحَةٍ عَدَمُهَا لِصَاحِبِ وَظِيفَةٍ
فِي وَقْفٍ بِغَيْرِ جُنْحَةٍ وَعَدَمِ أَهْلِيَّةٍ، وَاسْتَدَل عَلَى
ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ غَيْبَةِ الْمُتَعَلِّمِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ
حُجْرَتُهُ وَوَظِيفَتُهُ عَلَى حَالِهَا إِذَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ لاَ
تَزِيدُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذَا مَعَ الْغَيْبَةِ فَكَيْفَ
الْحَضْرَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ - بَعْدَ ذِكْرِ حُكْمِ عَزْل الْوَاقِفِ النَّاظِرِ
-: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ عَزْل الْوَاقِفِ لِلْمُدَرِّسِ وَالإِْمَامِ
اللَّذَيْنِ وَلاَّهُمَا وَلاَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُهُ بِالنَّاظِرِ،
لِتَعْلِيلِهِمْ لِصِحَّةِ عَزْلِهِ بِكَوْنِهِ وَكِيلاً عَنْهُ، وَلَيْسَ
صَاحِبُ الْوَظِيفَةِ وَكِيلاً عَنِ الْوَاقِفِ، وَلاَ يُمْكِنُ مَنْعُهُ
عَنِ الْعَزْل مُطْلَقًا، لِعَدَمِ الاِشْتِرَاطِ فِي أَصْل الإِْيقَافِ،
لِكَوْنِهِمْ
__________
(1) نفس المراجع السابقة.
(36/294)
جَعَلُوا لَهُ نَصْبَ الإِْمَامِ
وَالْمُؤَذِّنِ بِلاَ شَرْطٍ (1) .
وَأَفْتَى السُّبْكِيُّ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل النَّوَوِيِّ كَمَا قَال
الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ وَلِلنَّاظِرِ
الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ عَزْل الْمُدَرِّسِ وَنَحْوُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ
مَشْرُوطًا فِي الْوَقْفِ لِمَصْلَحَةٍ وَلِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لأَِنَّهُ
كَالْوَكِيل الْمَأْذُونِ لَهُ فِي إِسْكَانِ هَذِهِ الدَّارِ لِغَيْرِهِ،
فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَنْ شَاءَ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَإِذَا سَكَنَهَا
فَقِيرٌ مُدَّةً فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ وَيُسْكِنَ غَيْرَهُ لِمَصْلَحَةٍ
وَلِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ.
وَقَال الْبُلْقِيْنِيُّ: عَزْل النَّاظِرِ مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ لاَ
يَنْفُذُ وَيَكُونُ قَادِحًا فِي نَظَرِهِ.
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ فِي خَادِمِهِ: لاَ يَبْعُدُ أَنْ يَنْفُذَ وَإِنْ
كَانَ عَزْلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ، وَقَال فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ
فِي بَابِ الْقَضَاءِ: لاَ يَنْعَزِل أَصْحَابُ الْوَظَائِفِ الْخَاصَّةِ
كَالإِْمَامَةِ وَالإِْقْرَاءِ وَالتَّصَوُّفِ وَالتَّدْرِيسِ وَالطَّلَبِ
وَالنَّظَرِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ كَمَا أَفَتَى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ ابْنُ رَزِينٍ فَقَال: مَنْ تَوَلَّى
تَدْرِيسًا لاَ يَجُوزُ عَزْلُهُ بِمِثْلِهِ وَلاَ بِدُونِهِ وَلاَ
يَنْعَزِل بِذَلِكَ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 386، والأشباه لابن نجيم 196.
(2) مغني المحتاج 2 / 394 - 395.
(36/295)
مُدْرَسَةٌ
التَّعْرِيفُ:
أ - الْمَدْرَسَةُ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ الدَّرْسِ، قَال الرَّاغِبُ:
دَرَسْتُ الْعِلْمَ: تَنَاوَلْتُ أَثَرَهُ بِالْحِفْظِ، وَلَمَّا كَانَ
تَنَاوُل ذَلِكَ بِمُدَاوَمَةِ الْقِرَاءَةِ عَبَّرَ عَنْ إِدَامَةِ
الْقِرَاءَةِ بِالدَّرْسِ، قَال تَعَالَى: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَدْرَسَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَدْرَسَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - جَمْعُ الصَّلاَةِ لِلْمُنْقَطِعِينَ فِي مَدْرَسَةٍ:
2 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: مِمَّنْ لاَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ
جَمَاعَةٌ لاَ مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي فِعْل كُل صَلاَةٍ فِي وَقْتِهَا
الْمُخْتَارِ، كَأَهْل الزَّوَايَا وَالرُّبُطِ، وَالْمُنْقَطِعِينَ
بِمَدْرَسَةٍ إِلاَّ تَبَعًا لِمَنْ يَأْتِي لِلصَّلاَةِ مَعَهُمْ مِنْ
إِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَحَل هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ
__________
(1) سورة الأعراف / 169.
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات في غريب القرآن.
(36/295)
لَهُمْ مَنْزِلٌ يَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِ
وَإِلاَّ نُدِبَ لَهُمُ الْجَمْعُ اسْتِقْلاَلاً، وَأَفْتَى
الأَْسْنَاوِيُّ: بِأَنَّ أَهْل الْمَدَارِسِ الْمُجَاوَرَةِ لِلْمَسْجِدِ
يُنْدَبُ لَهُمُ الْجَمْعُ فِي الْمَسْجِدِ اسْتِقْلاَلاً لِمَا ثَبَتَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ إِمَامًا
وَحُجْرَتُهُ مُلْتَصِقَةٌ بِالْمَسْجِدِ وَلَهَا خَوْخَةٌ إِلَيْهِ (1) .
ب - الْوَقْفُ عَلَى الْمَدَارِسِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ
كَالْعُلَمَاءِ وَالْغُزَاةِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى جِهَةٍ لاَ
يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْقَبُول كَالْمَدَارِسِ وَالْمَسَاجِدِ وَمَا
شَابَهَ ذَلِكَ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ النَّاظِرِ، أَوْ مِنَ
الْمُسْتَحِقِّينَ لِغَلَّتِهِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ لَوِ
اشْتَرَطَ الْقَبُول لاَمْتَنَعَ صِحَّةُ الْوَقْفِ عَلَيْهِ (2) .
4 - وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَنْتَقِل مِلْكُ الْمَوْقُوفِ عَلَى
الْمَدْرَسَةِ وَنَحْوِهَا كَالْمَسْجِدِ وَالرِّبَاطِ وَالْقَنْطَرَةِ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُجَرَّدِ الْوَقْفِ (3) ، قَال الْبَهْوَتِي:
يَنْتَقِل مِلْكُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بِمُجَرَّدِ الْوَقْفِ إِلَى
اللَّهِ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ كَمَدْرَسَةٍ
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
قَال الْحَارِثِيُّ بِلاَ خِلاَفٍ، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:
وَلَوْ
__________
(1) جواهر الإِكليل 1 / 93، وحاشية الدسوقي 1 / 372.
(2) كشاف القناع 4 / 254، ومغني المحتاج 2 / 383، وجواهر الإِكليل 2 / 208،
وحاشية ابن عابدين 3 / 360.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 357 - 361، وتبيين الحقائق 3 / 325، 331، ومغني
المحتاج 2 / 389، وكشاف القناع 4 / 254.
(36/296)
جَعَل الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا، أَوْ
مَقْبَرَةً انْفَكَّ عَنْهَا اخْتِصَاصُ الآْدَمِيِّ قَطْعًا، وَمِثْلُهَا
الرِّبَاطُ وَالْمَدْرَسَةُ وَنَحْوُهُمَا (1) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الذَّاتَ
الْمَوْقُوفَةَ، بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَإِنْ كَانَ
مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِلاَّ الْمَنْفَعَةُ الْمُعْطَاةُ مِنْ غَلَّةٍ
أَوْ عَمَلٍ، لأَِنَّ الْوَقْفَ هُوَ إِعْطَاءُ الْمَنْفَعَةِ، وَقِيل:
إِلاَّ فِي الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ} (2) ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ الأَْوَّل (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (وَقْفٌ، مَسْجِدٌ) .
5 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَدْرَسَةِ
جِهَةُ قُرْبَةٍ (4) .
لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ.
وَعَلَيْهِ فَالْوُقْفُ عَلَى الْمَدْرَسَةِ صَحِيحٌ بِلاَ خِلاَفٍ حَتَّى
عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ
فِيهِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ بَل الشَّرْطُ
عِنْدَهُمْ أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ مَعْصِيَةٍ كَعَمَارَةِ
الْكَنَائِسِ وَنَحْوِهِ (5) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 254، ومغني المحتاج 2 / 389.
(2) سورة الجن / 18.
(3) الفواكه الدواني 2 / 231، وجواهر الإِكليل 2 / 211، وحاشية ابن عابدين
3 / 361، 357.
(4) حاشية ابن عابدين 3 / 360، 376، وجواهر الإِكليل 2 / 205، والقوانين
الفقهية ص364، ومغني المحتاج 2 / 380، 381، وكشاف القناع 4 / 245، والمغني
لابن قدامة 5 / 644، وروضة الطالبين 4 / 180.
(5) المراجع السابقة.
(36/296)
6 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ
إِذَا وَقَفَ الْوَاقِفُ مَدْرَسَةً وَشَرَطَ فِي وَقْفِهَا اخْتِصَاصَهَا
بِطَائِفَةٍ أَوْ بِأَهْل مَذْهَبٍ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
أَوْ بِأَهْل بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ بِأَفْرَادِ قَبِيلَةٍ
مُعَيَّنَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ خُصَّتْ بِهِمْ إِعْمَالاً لِلشَّرْطِ،
لأَِنَّ نُصُوصَ الْوَاقِفِ كَنُصُوصِ الشَّرْعِ وَشَرْطُ الْوَاقِفِ
كَنَصِّ الشَّارِعِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ فِي الْمَفْهُومِ وَالدِّلاَلَةِ وَوُجُوبِ
الْعَمَل بِهِ مَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ؛ لأَِنَّهُ مَالِكٌ، فَلَهُ
أَنْ يَجْعَل مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّهُ بِصِنْفٍ مِنَ
الأَْصْنَافِ أَوْ بِجِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً
(1) ، وَمَا لَمْ يَقَعِ الاِخْتِصَاصُ بِنَقْلَةٍ بِدْعَةٍ، قَالَهُ
الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (وَقَفَ) .
ج - فِي الْوَصِيَّةِ:
7 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِعَمَارَةِ مَسْجِدٍ أَوْ
مَصَالِحِهِ إِنْشَاءً وَتَرْمِيمًا لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ، وَفَى مَعْنَى
الْمَسْجِدِ الْمَدْرَسَةُ وَنَحْوُهَا (3) .
د - فِي الاِرْتِفَاقِ:
8 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَبَقَ فَقِيهٌ إِلَى مَدْرَسَةٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 361، 376، وجواهر الإكليل 2 / 208، ومغني المحتاج
2 / 385، وكشاف القناع 4 / 262، ومطالب أولي النهى 4 / 319 - 321.
(2) كشاف القناع 4 / 262.
(3) مغني المحتاج 3 / 42، والقليوبي وعميرة 3 / 159.
(36/297)
لَمْ يُزْعَجْ مِنْهَا سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ
الإِْمَامُ أَمْ لاَ، وَلَمْ يَبْطُل حَقُّهُ بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ
حَاجَةٍ وَنَحْوِهِ، سَوَاءٌ أَخْلَفَ فِيهِ غَيْرَهُ أَمْ مَتَاعَهُ أَمْ
لاَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ سَبَقَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ إِلَى مَدْرَسَةٍ
وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ فِيهَا عَلَى تَنْزِيل نَاظِرٍ، وَضَاقَ
الْمَكَانُ عَنِ انْتِفَاعِهِمْ جَمِيعِهِمْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ،
لأَِنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي السَّبْقِ، وَالْقُرْعَةُ مُمَيِّزَةٌ (2) .
هـ - بِنَاءُ الْمَدْرَسَةِ بِآلَةِ الْمَسْجِدِ:
9 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُعَمَّرُ بِآلَةِ الْمَسْجِدِ
مَدْرَسَةٌ، وَلاَ رِبَاطٌ، وَلاَ بِئْرٌ، وَلاَ حَوْضٌ، وَلاَ قَنْطَرَةٌ،
وَكَذَا آلاَتُ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْمْكِنَةِ لاَ يُعَمَّرُ بِهَا
مَا عَدَاهَا (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي (مَسْجِدٌ، وَقْفٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 371.
(2) كشاف القناع 4 / 196.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 369.
(36/297)
مُدْرِكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُدْرِكُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ
أَدْرَكَ الرَّجُل إِذَا لَحِقَهُ، وَتَدَارَكَ الْقَوْمُ: لَحِقَ
آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّنْزِيل:
{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ
لأُِولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا
مِنَ النَّارِ} (2) .
وَالْمُدْرِكُ اصْطِلاَحًا: هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الإِْمَامَ بَعْدَ
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (3) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ: الْمُدْرِكُ هُوَ مَنْ صَلَّى الصَّلاَةَ كَامِلَةً
مَعَ الإِْمَامِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ أَدْرَكَ جَمِيعَ
رَكَعَاتِهَا مَعَهُ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ التَّحْرِيمَةَ أَوْ
أَدْرَكَهُ فِي جُزْءٍ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى إِلَى أَنْ
قَعَدَ مَعَهُ الْقَعْدَةَ الأَْخِيرَةَ، سَوَاءٌ سَلَّمَ مَعَهُ أَوْ
قَبْلَهُ (4) .
كَمَا يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْمُدْرِكِ عَلَى مَنْ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) سورة الأعراف / 38.
(3) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 399.
(36/298)
أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الصَّلاَةِ فِي
الْوَقْتِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَسْبُوقُ:
2 - الْمَسْبُوقُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ السَّبْقِ،
وَأَصْلُهُ التَّقَدُّمُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ
الإِْمَامَ بَعْدَ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ (2) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ مَعَ
الإِْمَامِ مَحَل قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُعْتَدِلَةِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدْرِكِ وَالْمَسْبُوقِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
مُقْتَدٍ بِالإِْمَامِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُدْرِكَ مُقْتَدٍ فِي الصَّلاَةِ
كُلِّهَا وَالْمَسْبُوقُ مُقْتَدٍ فِي بَعْضِهَا.
ب - اللاَّحِقُ:
3 - اللاَّحِقُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَحِقَ، يُقَال:
لَحِقْتُ بِهِ أَلْحَقُ لِحَاقًا: أَدْرَكْتُهُ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ اصْطِلاَحٌ خَاصٌّ
بِهِمْ - بِأَنَّهُ: مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا
بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِعُذْرٍ كَغَفْلَةٍ وَزَحْمَةٍ، وَسَبْقِ حَدَثٍ
وَنَحْوِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِأَنْ سَبَقَ إِمَامَهُ فِي رُكُوعٍ
وَسُجُودٍ (5) .
__________
(1) حاشية القليوبي 1 / 123.
(2) لسان العرب، والمفردات، والفروق اللغوية، والتعريفات للجرجاني.
(3) مغني المحتاج 1 / 257، والقليوبي وعميرة 1 / 249.
(4) المصباح المنير، والصحاح للجوهري.
(5) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 138.
(36/298)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدْرِكِ
وَاللاَّحِقِ: أَنَّ الْمُدْرِكَ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلاَةِ
مَعَ الإِْمَامِ، أَمَّا اللاَّحِقُ فَقَدْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ
كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا مَعَ الإِْمَامِ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُدْرِكِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْمُدْرِكُ لِوَقْتِ الصَّلاَةِ بَعْدَ زَوَال الأَْسْبَابِ
الْمَانِعَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُدْرِكِ
لِوَقْتِهَا بَعْدَ زَوَال الأَْسْبَابِ الْمَانِعَةِ لِوُجُوبِهَا بِأَقَل
مِنْ رَكْعَةٍ وَهَى: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَالْكُفْرُ وَالصِّبَا،
وَالْجُنُونُ وَالإِْغْمَاءُ، وَالنِّسْيَانُ وَالسَّفَرُ وَالإِْقَامَةُ،
وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا زَالَتْ
هَذِهِ الأَْعْذَارُ، كَأَنْ طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ،
وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَتَذَكَّرَ النَّاسِي، وَاسْتَيْقَظَ النَّائِمُ،
وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ قَدْرُ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرُ
وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ (2) لِحَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ
رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ
الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 399.
(2) بدائع الصنائع 1 / 95 - 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 196، 238، 494،
والقوانين الفقهية ص 51، ومغني المحتاج 1 / 131، والمغني لابن قدامة 1 /
377، 396 وما بعدها.
(36/299)
تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ
الْعَصْرَ (1) ، وَلِحَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ
فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ (2) ،
وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي هَذَا إِلاَّ زُفَرُ حَيْثُ قَال: لاَ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَدَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ
مِقْدَارُ مَا يُؤَدِّي فِيهِ الْفَرْضَ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ
يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الأَْدَاءِ، " وَأَدَاءُ كُل الْفَرْضِ فِي هَذَا
الْقَدْرِ لاَ يُتَصَوَّرُ، فَاسْتَحَال وُجُوبُ الأَْدَاءِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
(3) .
وَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ فَاخْتَلَفَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ - عَدَا زُفَرُ وَمَنْ مَعَهُ -
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا
زَالَتِ الأَْسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ وُجُوبِ الصَّلاَةِ، وَقَدْ بَقِيَ
مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ قَدْرُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَوْ أَكْثَرُ
وَجَبَتِ الصَّلاَةُ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَتَجَزَّأُ، فَإِذَا وَجَبَ
الْبَعْضُ وَجَبَ الْكُل، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ إِلاَّ
قَدْرُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَجَبَتِ التَّحْرِيمَةُ، ثُمَّ تَجِبُ
بَقِيَّةُ
__________
(1) حديث: " من أدرك ركعة من الصبح. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 /
56) ومسلم (1 / 424) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " من أدرك ركعة من الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 /
57) ومسلم (1 / 423) من حديث أبي هريرة.
(3) بدائع الصنائع 1 / 95 - 97، وحاشية ابن عابدين 1 / 238.
(36/299)
الصَّلاَةِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ
التَّحْرِيمَةِ فَيُؤَدِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَّصِل بِهِ (1) ،
وَلأَِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ يَسْتَوِي فِيهِ
قَدْرُ الرَّكْعَةِ وَدُونَهَا، كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اقْتَدَى
بِمُتِمٍّ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ يَلْزَمُهُ الإِْتْمَامُ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ
الصَّلاَةِ أَنْ يُدْرِكَ مَعَ التَّكْبِيرَةِ قَدْرَ الطَّهَارَةِ عَلَى
الأَْظْهَرِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ السَّلاَمَةِ مِنَ الْمَوَانِعِ
بِقَدْرِ فِعْل الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ أَخَفُّ مَا يُمْكِنُ، فَلَوْ
عَادَ الْمَانِعُ قَبْل ذَلِكَ كَأَنْ بَلَغَ ثُمَّ جُنَّ لَمْ تَجِبِ
الصَّلاَةُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْوُجُوبِ بِمِقْدَارِ
التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ هُوَ إِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا
عَشْرًا، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّمَا
تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلاَةُ إِذَا طَهُرَتْ وَعَلَيْهَا مِنَ الْوَقْتِ
مِقْدَارُ مَا تَغْتَسِل فِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْوَقْتِ مَا
لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَغْتَسِل فِيهِ، أَوْ لاَ تَسْتَطِيعَ أَنْ
تَتَحَرَّمَ لِلصَّلاَةِ فِيهِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلاَةُ،
حَتَّى لاَ يَجِبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ.
وَالْفَرَقُ أَنَّ أَيَّامَهَا إِذَا كَانَتْ أَقَل مِنْ عَشَرَةٍ لاَ
يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 238، ومغني المحتاج 1 /
131، والمغني لابن قدامة 1 / 396.
(2) مغني المحتاج 1 / 131، والمغني لابن قدامة 1 / 396.
(3) مغني المحتاج 1 / 131 - 132.
(36/300)
الدَّمِ مَا لَمْ تَغْتَسِل أَوْ يَمْضِي
عَلَيْهَا وَقْتُ صَلاَةٍ تَصِيرُ تِلْكَ الصَّلاَةُ دَيْنًا عَلَيْهَا،
وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً بِمُجَرَّدِ الاِنْقِطَاعِ يُحْكَمُ
بِخُرُوجِهَا مِنَ الْحَيْضِ، فَإِذَا أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنَ الْوَقْتِ
يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَتْ مِنَ
الاِغْتِسَال أَوْ لَمْ تَتَمَكَّنْ، بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ أَسْلَمَ وَهُوَ
جُنُبٌ أَوْ صَبِيٍّ بَلَغَ بِالاِحْتِلاَمِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ
فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنَ
الاِغْتِسَال فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَتِ الأَْسْبَابُ الْمَانِعَةُ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ
وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ لَمْ تَجِبِ
الصَّلاَةُ، فَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدْرِكَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ
الأَْعْذَارِ قَدْرَ رَكْعَةٍ أَخَفَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ،
لِمَفْهُومِ حَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْل أَنْ
تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَلأَِنَّهُ إِدْرَاكٌ
تَعَلَّقَ بِهِ إِدْرَاكُ الصَّلاَةِ فَلَمْ يَكُنْ بِأَقَل مِنْ رَكْعَةٍ.
كَمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ لاَ تُدْرَكُ إِلاَّ بِرَكْعَةٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ إِدْرَاكُ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ بَعْدَ
زَوَال الأَْعْذَارِ وَمِقْدَارُ فِعْل الطَّهَارَةِ، وَقَال ابْنُ
الْقَاسِمِ مِنْهُمْ: لاَ تُعْتَبَرُ الطَّهَارَةُ فِي الْكَافِرِ، أَمَّا
الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1 / 96، وحاشية ابن عابدين 1 / 238.
(36/300)
عِنْدَهُمْ أَنْ يُدْرِكَ مَعَ الرَّكْعَةِ
قَدْرَ الطَّهَارَةِ عَلَى الأَْظْهَرِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ
عَقِبَ زَوَال الْعُذْرِ زَمَنٌ يَسَعُ الْوُضُوءَ إِنْ كَانَ حَدَثُهُ
أَصْغَرَ، أَوِ الْغُسْل إِنْ كَانَ حَدَثُهُ أَكْبَرَ - زِيَادَةً عَلَى
زَمَنِ الرَّكْعَةِ - لَمْ تَجِبِ الصَّلاَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1)
ثَالِثًا: حُصُول الْعُذْرِ لِلْمُدْرِكِ قَبْل فِعْل الْفَرْضِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الصَّلاَةَ هَل تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ وَهُمُ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَكُلَّمَا دَخَل الْوَقْتُ أَوْ مَضَى
مِنْهُ مَا يَسَعُ لأَِدَاءِ الْفَرْضِ - عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ -
وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَوَّل
الْوَقْتِ، أَوْ طَرَأَ عَلَى الْمُكَلَّفِ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ فِي
أَوَّل الْوَقْتِ، وَاسْتَغْرَقَ هَذَا الْمَانِعُ بَقِيَّةَ الْوَقْتِ،
فَإِنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ قَبْل حُدُوثِ الْمَانِعِ قَدْرَ الْفَرْضِ
وَقَدْرَ طُهْرٍ لاَ يَصِحُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ كَتَيَمُّمٍ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلاَةُ، فَيَقْضِيهَا عِنْدَ زَوَال
الْعُذْرِ، لأَِنَّهَا تَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَلاَ تَسْقُطُ بِمَا طَرَأَ
بَعْدَ وُجُوبِهَا، كَمَا لَوْ هَلَكَ
__________
(1) القوانين الفقهية ص51 وما بعدها، وجواهر الإِكليل 1 / 34، ومغني
المحتاج 1 / 131 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 1 / 397.
(36/301)
النِّصَابُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل
وَإِمْكَانِ الأَْدَاءِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَسْقُطُ بِهِ، وَيَجِبُ
الْفَرْضُ الَّذِي قَبْلَهَا أَيْضًا، إِنْ كَانَ يُجْمَعُ مَعَهَا
وَأَدْرَكَ قَدْرَهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِهَا، وَلاَ تَجِبُ
الصَّلاَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تُجْمَعُ مَعَهَا إِذَا خَلاَ مِنَ
الْمَوَانِعِ مَا يَسَعُهَا، لأَِنَّ وَقْتَ الأُْولَى لاَ يَصْلُحُ
لِلثَّانِيَةِ إِلاَّ إِذَا صَلاَّهُمَا جَمْعًا بِخِلاَفِ الْعَكْسِ،
وَأَيْضًا وَقْتُ الأُْولَى فِي الْجَمْعِ وَقْتٌ لِلثَّانِيَةِ تَبَعًا
بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، بِدَلِيل عَدَمِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الثَّانِيَةِ فِي
جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَجَوَازِ تَقْدِيمِ الأُْولَى، بَل وُجُوبُهُ عَلَى
وَجْهٍ فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ.
أَمَّا الطَّهَارَةُ الَّتِي يُمْكِنُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ فَلاَ
يُعْتَبَرُ مُضِيُّ زَمَنٍ يَسَعُهَا.
وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ فِعْل الْفَرْضِ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلاَ وُجُوبَ فِي ذِمَّتِهِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ
فِعْلِهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِهَا مَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يُصَلِّيَ فِيهِ، كَمَا لَوْ طَرَأَ الْعُذْرُ قَبْل دُخُول الْوَقْتِ،
وَكَمَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
(1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ
ثُمَّ جُنَّ أَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَزِمَ الْقَضَاءُ - بَعْدَ زَوَال
الْعُذْرِ - لأَِنَّهَا صَلاَةٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ قَضَاؤُهَا
إِذَا فَاتَتْهُ كَالَّتِي أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا،
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 132 - 133، والمغني لابن قدامة 1 / 373 وما بعدها.
(36/303)
وَفَارَقَتِ الَّتِي طَرَأَ الْعُذْرُ
قَبْل دُخُول وَقْتِهَا: فَإِنَّهَا لَمْ تَجِبْ، وَقِيَاسُ الْوَاجِبِ
عَلَى غَيْرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالُوا: وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ
مِنْ وَقْتِ الأُْولَى مِنْ صَلاَتَيِ الْجَمْعِ قَدْرًا تَجِبُ بِهِ ثُمَّ
جُنَّ، أَوْ كَانَتِ امْرَأَةٌ فَحَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ ثُمَّ زَال
الْعُذْرُ بَعْدَ وَقْتِهَا لَمْ تَجِبِ الثَّانِيَةُ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ، وَلاَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا.
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَالأُْخْرَى: يَجِبُ وَيَلْزَمُ
قَضَاؤُهَا، لإِِنَّهَا إِحْدَى صَلاَتَيِ الْجَمْعِ فَوَجَبَتْ
بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِ الأُْخْرَى كَالأُْولَى (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَارِضِ
أَوِ الْعُذْرِ بَعْدَ إِدْرَاكِ الْوَقْتِ وَقَبْل فِعْل الصَّلاَةِ
يَسْقُطُ الْفَرْضُ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّلاَةَ
لاَ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ
فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ
إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل، حَتَّى أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي
أَوَّل الْوَقْتِ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي
وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَتَجِبُ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، فَإِذَا
لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْل حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا
يَسَعُ أَدَاءَ الْفَرْضِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلأَْدَاءِ فِعْلاً.
قَالُوا: فَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ فِي
__________
(1) المغني 1 / 373، 397.
(36/303)
آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ جُنَّ الْعَاقِل أَوْ
أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (1) ،
وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ لاَ يَلْزَمُهُمُ
الْفَرْضُ، لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ
يُوجَدِ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ فَيَسْتَدْعِي الأَْهْلِيَّةَ فِيهِ
لاِسْتِحَالَةِ الإِْيجَابِ عَلَى غَيْرِ الأَْهْل وَلَمْ يُوجَدْ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُدْرِكُ لِوَقْتِ الصَّلاَةِ إِنْ حَصَل لَهُ
عُذْرٌ كَالْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ غَيْرِ
النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ (قَبْل أَدَاءِ الصَّلاَةِ) وَقَدْ بَقِيَ مِنْ
طُلُوعِ الشَّمْسِ مَثَلاً رَكْعَةٌ سَقَطَ الصُّبْحُ، وَإِنْ حَصَل
وَالْبَاقِي لِلْغُرُوبِ أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا يَسَعُ أُولَى
الْمُشْتَرِكَتَيْنِ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوِ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ وَرَكْعَةً مِنْ ثَانِيَتِهِمَا سَقَطَتَا، وَإِنْ كَانَ
أَقَل مِنْ هَذَا أَسْقَطَ الثَّانِيَةَ فَقَطْ.
وَلاَ يُقَدَّرُ الطُّهْرُ فِي الإِْسْقَاطِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلاَفًا
لِلَّخْمِيِّ (2) .
رَابِعًا: مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ وَالْجُمُعَةُ
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ
الإِْمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ وَكَبَّرَ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ رَكَعَ، فَإِنْ
وَصَل الْمَأْمُومُ إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ الْمُجْزِئِ قَبْل أَنْ
__________
(1) سقوط الفرض بالردة خاص بالحنفية انظر بدائع الصنائع 1 / 95، وحاشية ابن
عابدين 1 / 494.
(2) البدائع 1 / 95، وحاشية ابن عابدين 1 / 494، والفتاوى الهندية 1 / 51،
وجواهر الإِكليل 1 / 34.
(36/304)
يَرْفَعَ الإِْمَامُ عَنْ حَدِّ الرُّكُوعِ
الْمُجْزِي فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، وَحُسِبَتْ لَهُ، وَحَصَلَتْ لَهُ
فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ وَأَدْرَكَ بِهَا صَلاَةَ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ:
مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الأَْخِيرَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ
الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الأُْخْرَى فَلْيُصَل، الظُّهْرَ أَرْبَعًا
(1) .
أَمَّا الْجَمَاعَةُ ذَاتُهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا
تُدْرَكُ بِهِ عَلَى مَذَاهِبَ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ
(صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ ف14) .
__________
(1) حديث: " من أدرك الركوع من الركعة الآخرة. . . ". أخرجه الدارقطني (2 /
12) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده النووي في المجموع (4 / 215) .
(36/304)
مُدْمِنٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُدْمِنُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَدْمَنَ، يُقَال:
أَدْمَنَ الشَّرَابَ وَغَيْرَهُ: أَدَامَهُ وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ (1) .
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ هُوَ الَّذِي يُعَاقِرُ
شُرْبَهَا وَيُلاَزِمُهُ وَلاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُصِرُّ:
2 - الْمُصِرُّ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَصَرَّ عَلَى الأَْمْرِ
إِصْرَارًا: ثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ (4) ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل
الإِْصْرَارُ فِي الآْثَامِ، يُقَال: أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ (5) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) النهاية لابن الأثير 2 / 135.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 466.
(4) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(5) المعجم الوسيط.
(36/305)
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) ، قَال
الْقُرْطُبِيُّ: الإِْصْرَارُ هُوَ الْعَزْمُ بِالْقَلْبِ عَلَى الأَْمْرِ
وَتَرْكُ الإِْقْلاَعِ عَنْهُ، وَقَال قَتَادَةُ: الإِْصْرَارُ: الثُّبُوتُ
عَلَى الْمَعَاصِي (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُدْمِنِ وَالْمُصِرِّ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ
وَخُصُوصٌ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُدْمِنِ:
شَهَادَةُ الْمُدْمِنِ عَلَى الصَّغَائِرِ:
3 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ قَبُول شَهَادَةِ مَنْ يُدْمِنُ
عَلَى صَغِيرَةٍ، وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ كَبِيرَةً
وَأَدْمَنَ عَلَى الصَّغِيرَةِ لاَ يُعَدُّ مُجْتَنِبًا الْمَحَارِمَ (3) .
وَعَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الإِْدْمَانِ هُنَا بِلَفْظِ الإِْصْرَارِ (ر:
إِصْرَارٌ ف 1 - 2) .
قَال الْغَزَالِيُّ: آحَادُ هَذِهِ الصَّغَائِرِ الَّتِي لاَ تُرَدُّ
الشَّهَادَةُ بِهَا لَوْ وَاظَبَ عَلَيْهَا لأََثَّرَ فِي رَدِّ
الشَّهَادَةِ، كَمَنِ اتَّخَذَ الْغِيبَةَ وَثَلْبَ النَّاسِ عَادَةً،
وَكَذَلِكَ مُجَالَسَةُ الْفُجَّارِ وَمُصَادَقَتُهُمْ (4) .
شَهَادَةُ مُدْمِنِ الْخَمْرِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 67 - 68.
(2) تفسير القرطبي 4 / 211.
(3) كشاف القناع 6 / 419، والتاج والإكليل 6 / 150، ومغني المحتاج 4 / 427،
وحاشية ابن عابدين 4 / 377
(4) إحياء علوم الدين 4 / 32 ط. مصطفى الحلبي.
(36/305)
شَهَادَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ وَشَارِبِ كُل
مُسْكِرٍ (1)
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ قَبُول شَهَادَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ بِمَا
إِذَا أَرَادَ الإِْدْمَانَ فِي النِّيَّةِ، يَعْنِي يَشْرَبُ وَمِنْ
نِيَّتِهِ أَنْ يَشْرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا وَجَدَهُ، قَال
السَّرَخْسِيُّ: وَيُشْتَرَطُ مَعَ الإِْدْمَانِ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ
لِلنَّاسِ أَوْ يَخْرُجَ سَكْرَانَ فَيَسْخَرُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ، حَتَّى
إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ فِي السِّرِّ لاَ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ (2) ،
فَإِنَّ الْمُتَّهَمَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي بَيْتِهِ مَقْبُول
الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً (3) ، وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّةِ نَقْلاً عَنِ الْمُحِيطِ: قَال فِي الأَْصْل: وَلاَ تَجُوزُ
شَهَادَةُ مُدْمِنِ السُّكْرِ وَأَرَادَ بِهِ فِي سَائِرِ الأَْشْرِبَةِ
(4) .
ثِيَابُ مُدْمِنِ الْخَمْرِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى
الْقَوْل الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ
مُدْمِنِي الْخَمْرِ طَاهِرَةٌ وَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا،
لأَِنَّهُ - كَمَا قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ - لَمْ يُكْرَهْ مِنْ ثِيَابِ
أَهْل الذِّمَّةِ إِلاَّ السَّرَاوِيل مَعَ اسْتِحْلاَلِهِمُ الْخَمْرَ
فَهَذَا أَوْلَى (5) ، وَقَال فِي
__________
(1) العناية شرح الهداية 6 / 35، والشرح الصغير 4 / 240، مغني المحتاج 4 /
427، وكشاف القناع 6 / 420.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 466، وشرح آداب القاضي للخصاف 3 / 34.
(3) العناية شرح الهداية 6 / 35.
(4) الفتاوى الهندية 3 / 466.
(5) المجموع 1 / 206، 264، ومطالب أولي النهى 1 / 58، وحاشية ابن عابدين 1
/ 234.
(36/306)
الْفَتْحِ: قَال بَعْضُ الْمَشَايِخِ
(مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ) : تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي ثِيَابِ الْفَسَقَةِ
لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَّقُونَ الْخُمُورَ (1) ، وَقَال جَمَاعَاتٌ مِنَ
الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِنَجَاسَةِ ثِيَابِ مُدْمِنِي
الْخَمْرِ وَالْقَصَّابِينَ وَشَبَهِهِمْ مِمَّنْ يُخَالِطُ النَّجَاسَةَ
وَلاَ يَتَصَوَّنُ مِنْهَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: ثِيَابُ شَارِبِ الْخَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ أَوْ
ظَنِّهَا، لاَ إِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا فَإِنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاَةُ
فِيهَا تَقْدِيمًا لِلأَْصْل عَلَى الْغَالِبِ (3) .
أَكْل الأَْفْيُونِ لِلْمُدْمِنِ عَلَيْهِ
6 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: سُئِل ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ عَمَّنِ
ابْتُلِيَ بِأَكْل نَحْوِ الأَْفْيُونِ، وَصَارَ إِنْ لَمْ يَأْكُل مِنْهُ
هَلَكَ، فَأَجَابَ: إِنْ عُلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا حَل لَهُ، بَل وَجَبَ
لاِضْطِرَارِهِ إِلَى إِبْقَاءِ رُوحِهِ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ،
وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّدْرِيجُ فِي تَنْقِيصِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى
يَزُول تَوَلُّعُ الْمَعِدَةِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْعُرَ، فَإِنْ
تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ فَاسِقٌ، ثُمَّ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ
الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ قَوْلَهُ: وَقَوَاعِدُنَا لاَ تُخَالِفُهُ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 234.
(2) المجموع 1 / 206، 264.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 61 ط دار الفكر.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 297.
(36/306)
مَدْهُوشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَدْهُوشُ لُغَةً: مَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ حَيَاءً أَوْ خَوْفًا أَوْ
غَضَبًا، وَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ دُهِشَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَعْتُوهُ
2 - الْمَعْتُوهُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ نَقَصَ عَقْلُهُ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ
أَوْ دَهَشٍ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ كَانَ قَلِيل الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلاَمِ
فَاسِدَ التَّدْبِيرِ (3) .
وَالْمَعْتُوهُ كَالْمَدْهُوشِ فِي حُكْمِ تَصَرُّفَاتِهِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَدْهُوشِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَدْهُوشِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مِنْهَا:
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وقواعد الفقه للبركتي، وابن عابدين 2
/ 426.
(2) لسان العرب.
(3) التعريفات للجرجاني.
(36/307)
أ - طَلاَقُ الْمَدْهُوشِ
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ زَائِل الْعَقْل غَيْرَ
الْمُتَعَدِّي بِزَوَال عَقْلِهِ لاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ كَالْمَجْنُونِ
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَدْهُوشَ
(1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: جَعَل الْمَدْهُوشَ فِي الْبَحْرِ دَاخِلاً فِي
الْمَجْنُونِ، وَقَال: سُئِل الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ عَمَّنْ طَلَّقَ
زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَهُوَ مُغْتَاظٌ مَدْهُوشٌ،
فَأَجَابَ: بِأَنَّ الدَّهَشَ مِنْ أَقْسَامِ الْجُنُونِ فَلاَ يَقَعُ
طَلاَقُهُ إِذَا كَانَ يَعْتَادُهُ بِأَنْ عُرِفَ مِنْهُ الدَّهَشُ
مَرَّةً، وَيُصَدَّقُ بِلاَ بُرْهَانٍ.
وَقَال: فَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيل عَلَيْهِ فِي الْمَدْهُوشِ
وَنَحْوِهِ إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الْخَلَل فِي أَفْعَالِهِ
وَأَقْوَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَتِهِ، كَكُل مَنِ اخْتَل عَقْلُهُ
لِكِبَرٍ أَوْ مُصِيبَةٍ حَلَّتْ بِهِ أَوْ لِمَرَضٍ، فَمَا دَامَ فِي حَال
غَلَبَةِ الْخَلَل فِي الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال لاَ تُعْتَبَرُ
أَقْوَالُهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُهَا وَيُرِيدُهَا، لأَِنَّ هَذِهِ
الْمَعْرِفَةَ وَالإِْرَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لِعَدَمِ حُصُولِهَا
عَنْ إِدْرَاكٍ صَحِيحٍ، كَمَا لاَ تُعْتَبَرُ مِنَ الصَّبِيِّ الْعَاقِل
(2) . (ر: طَلاَقٌ ف22) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 426 - 427، والفتاوى الهندية 1 / 353.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 427.
(36/307)
ب - سُكُوتُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَهَشٍ
عَنْ جَوَابِ دَعْوَى الْمُدَّعِي
4 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى لِغَيْرِ دَهْشَةٍ أَوْ
غَبَاوَةٍ جُعِل حُكْمُهُ كَمُنْكِرِ لِلْمُدَّعَى بِهِ نَاكِلاً عَنِ
الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بَعْدَ
أَنْ يَقُول لَهُ الْقَاضِي: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ
نَاكِلاً، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِنَحْوِ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ شَرَحَ
لَهُ، ثُمَّ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ (1) .
مَدِينٌ
انْظُرْ: دَيْنٌ
مَدِينَةٌ
انْظُرْ: مِصْرٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 468.
(36/308)
الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمَدِينَةُ لُغَةً: الْمِصْرُ الْجَامِعُ، عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةَ،
مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ أَيْ: أَقَامَ فِيهِ، وَقِيل:
مَفْعَلَةٌ لأَِنَّهَا مِنْ دَانَ، وَالْجَمْعُ: مُدُنٌ، وَمَدَائِنُ (1) .
وَغَلَبَ إِطْلاَقُ " الْمَدِينَةِ " مُعَرَّفًا بِأَل لَدَى
الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَدِينَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَيَكْثُرُ أَنْ يُقَال: " الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ "
إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا مُنَوَّرَةٌ بِأَنْوَارِ سَاكِنِهَا عَلَيْهِ
أَفْضَل الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمُ (2) .
أَسْمَاءُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
2 - كَانَتِ الْمَدِينَةُ تُسَمَّى قَبْل الإِْسْلاَمِ يَثْرِبَ،
فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْمَدِينَةَ
" وَقَال: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُل الْقُرَى. يَقُولُونَ يَثْرِبَ
وَهِيَ الْمَدِينَةُ. تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ
الْحَدِيدِ (3) .
__________
(1) القاموس المحيط ومختار الصحاح.
(2) جواهر الإكليل 1 / 267.
(3) حديث: " أمرت بقرية تأكل القرى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 87،
ومسلم 2 / 1006) من حديث أبي هريرة.
(36/308)
وَنَهَى أَنْ تُسَمَّى يَثْرِبَ، فَقَدْ
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَمَّى
الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةُ، هِيَ
طَابَةُ (1) .
وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ " طَيْبَةُ " بِسُكُونِ
الْيَاءِ، وَيُقَال أَيْضًا: " طَيِّبَةٌ " مُشَدَّدَةُ الْيَاءِ وَدَارُ
الْهِجْرَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءٍ، قِيل: إِنَّهَا تَبْلُغُ
الأَْرْبَعِينَ (2) .
وَتَقَعُ الْمَدِينَةُ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: شَرْقِيَّ
الْمَدِينَةِ وَهِيَ حَرَّةُ وَاقِمٍ، وَالأُْخْرَى: غَرْبِيَّهَا وَهِيَ
حَرَّةُ الْوَبَرَةِ. وَالْحَرَّةُ: أَرْضٌ مُكْتَسِيَةٌ بِحِجَارَةٍ
سَوْدَاءَ بُرْكَانِيَّةٍ، وَيُحِيطُ بِهَا مِنَ الشِّمَال جَبَل أُحُدٍ،
وَمِنَ الْجُنُوبِ جَبَل عَيْرٍ. وَتَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ عَشْرُ مَرَاحِل،
وَيُحْرِمُ أَهْلُهَا وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ (3) .
فَضْل الْمَدِينَةِ
3 - الْمَدِينَةُ مُهَاجَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِيهَا مَثْوَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا انْتَشَرَ
الإِْسْلاَمُ فِي الْعَالَمِ، وَلَهَا فَضَائِل كَثِيرَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا
بِإِيجَازٍ:
__________
(1) حديث: " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله. . . ". أخرجه أحمد (4 /
285) من حديث البراء بن عازب، وفي إسناده راو متكلم فيه، ذكر الذهبي في
ترجمته من الميزان (2 / 425) هذا الحديث من مناكيره.
(2) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 1 / 109، وفتح الباري 4 /
69 - 71 طبعة النهضة المصرية، ومتن الإيضاح للنووي ص156.
(3) معجم البلدان لياقوت الحموي / مدينة يثرب.
(36/309)
أ - مُضَاعَفَةُ الْبَرَكَةِ فِيهَا فَعَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اجْعَل بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا
بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ (1) .
ب - تَفْضِيل الإِْقَامَةِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا فَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ
أَبِي زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ
يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ،
وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ
الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ
وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ. وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ،
فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ
لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (2) .
ج - تَغْلِيظُ ذَنْبِ مَنْ يَكِيدُ أَهْلَهَا: فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَرَادَ أَهْل الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ
اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ (3) .
د - حِمَايَتُهَا مِنْ دُخُول الدَّجَّال وَالطَّاعُونِ:
__________
(1) حديث: " اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة ". أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 68) ، ومسلم (2 / 994) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 14 -
90) ، ومسلم (2 / 1009) واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " من أراد أهل المدينة بسواء أذابه الله. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 94) ، ومسلم (2 / 1008) واللفظ لمسلم.
(36/309)
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ، لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ
وَلاَ الدَّجَّال (1) .
هـ - إِنَّهَا مَجْمَعُ الإِْيمَانِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ
الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا (2) .
وَيَأْرِزُ أَيْ: يَنْضَمُّ وَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِيهَا.
حَرَمُ الْمَدِينَةِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ مِثْل
مَكَّةَ، فَيَحْرُمُ صَيْدُهَا وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا إِلاَّ مَا
اسْتُنْبِتَ لِلْقَطْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهَا حَرَمٌ،
فَلاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا، وَلِكُلٍّ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ أَدِلَّتُهُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ
ف28) .
5 - وَقَدْ فَرَّعَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى إِثْبَاتِ
صِفَةِ الْحَرَمِ لِلْمَدِينَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ نَقْل تُرَابِ الْحَرَمِ
وَأَحْجَارِهِ إِلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَقَالُوا: إِنَّ الأَْوْلَى أَنْ
لاَ يَدْخُل تُرَابُ الْحِل وَأَحْجَارُهُ الْحَرَمَ، وَعِلَّةُ
__________
(1) حديث: " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 95) . ومسلم (2 / 1005) .
(2) حديث: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 4 / 93) .
(36/310)
ذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَمَّا
جَعَلَهَا اللَّهُ حَرَمًا آمِنًا حَرُمَ بِذَلِكَ كُل شَيْءٍ ثَابِتٍ
مُسْتَقِرٍّ فِيهَا، وَأَمَّا أَنَّ الأَْوْلَى عَدَمُ إِدْخَال تُرَابِ
الْحِل وَأَحْجَارِهِ فَلِئَلاَّ تَحْدُثَ لَهَا حُرْمَةٌ لَمْ تَكُنْ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إِلَى إِدْخَالِهَا إِلَى
الْحَرَمِ، لِمِثْل بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ
وَتَفْضِيل الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ (2) .
وَذَهَبَ الإِْمَامُ مَالِكٌ إِلَى تَفْضِيل الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
عَلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَتَفْضِيل الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيل مَكَّةَ وَحَرَمِهَا
بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ
حَمْرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَال:
وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى
اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ (3) .
__________
(1) المهذب والمجموع 7 / 436 - 439، والفروع: 3 / 481 - 482، وإعلام الساجد
في أحكام المساجد ص245.
(2) ابن عابدين 2 / 256، ومغني المحتاج 1 / 482، والمغني 3 / 556.
(3) حديث عبد الله بن عدي: " أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا
على الحزورة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 722) وقال: حديث حسن غريب صحيح.
(36/310)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ: مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ
إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ
غَيْرَكِ (1) .
فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلاَّنِ عَلَى تَفْضِيل مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ
الْبُلْدَانِ وَمِنْهَا الْمَدِينَةُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (2) وَفِي
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
زِيَادَةُ: وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ
صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا (3) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيل
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ عَلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ
الشَّرِيفِ.
وَاسْتَدَل مَالِكٌ بِأَدِلَّةٍ فِي فَضْل الْمَدِينَةِ مِنْهَا مَا سَبَقَ
إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا الْقَرْيَةُ
الَّتِي تَأْكُل الْقُرَى، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى زِيَادَةِ فَضْل
الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا
لِمَكَّةَ أَوْ
__________
(1) حديث: " ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 723)
وقال: حديث حسن غريب.
(2) حديث: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 63) ، ومسلم (2 / 1012) .
(3) حديث: " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا ".
أخرجه أحمد (4 / 5) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 5) : رجاله رجال
الصحيح.
(36/311)
أَشَدَّ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهَا لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَفُضَلاَءِ
الصَّحَابَةِ، وَلاَ يَخْتَارُ لَهُمْ إِلاَّ أَفْضَل الْبِقَاعِ (2) .
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْخِلاَفَ لَيْسَ فِي الْكَعْبَةِ
الْمُعَظَّمَةِ، فَإِنَّهَا أَفْضَل مِنَ الْمَدِينَةِ كُلِّهَا، إِلاَّ
الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ الْجَسَدِ الشَّرِيفِ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضَ نَقَل
الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَفْضَل الأَْرْضِ، وَالْخِلاَفُ فِيمَا سِوَاهُ (3) .
مَشَاهِدُ الْمَدِينَةِ
7 - مَشَاهِدُ الْمَدِينَةِ مَوَاضِعُ ذَاتُ فَضْلٍ، وَمَأْثُرَةٍ
تَارِيخِيَّةٍ، اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ زِيَارَتَهَا، وَهِيَ نَحْوُ
ثَلاَثِينَ مَوْضِعًا يَعْرِفُهَا أَهْل الْمَدِينَةِ وَمِنْ أَهَمِّهَا
مَا يَلِي:
أ - الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ
8 - وَهُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الإِْسْلاَمِ بَعْدَ مَسْجِدِ
قُبَاءٍ، وَالصَّلاَةُ فِيهِ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ
__________
(1) حديث: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 7 / 262) ، ومسلم (2 / 1003) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) انظر الاستدلالات في المنتقى للباجي شرح الموطأ: 7 / 197، هداية
السالك: 1 / 46 - 47.
(3) وفاء الوفا للسمهودي 1 / 28، وابن عابدين 2 / 257، ومغني المحتاج 1 /
482.
(36/311)
فِي أَيِّ مَسْجِدٍ آخَرَ سِوَى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مَعَالِمُ
مِنْهَا: الرَّوْضَةُ الشَّرِيفَةُ وَالْمِنْبَرُ وَالْمِحْرَابُ،
وَالْحُجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي تَشَرَّفَتْ بِضَمِّ رُفَاتِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُفَاتِ صَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُنْظَرُ فِي (الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ،
وَزِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف4) .
ب - مَسْجِدُ قُبَاءٍ:
9 - وَهُوَ أَوَّل مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الإِْسْلاَمِ، وَأَوَّل مَنْ وَضَعَ
أَسَاسَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمِّيَ
بِاسْمِ قُبَاءٍ، قَرْيَةٍ تَبْعُدُ عَنِ الْمَدِينَةِ قَدْرَ ثَلاَثَةِ
أَمْيَالٍ تَقْرِيبًا.
وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَالصَّلاَةُ فِيهِ كُل
أُسْبُوعٍ، وَأَفْضَلُهُ يَوْمُ السَّبْتِ (1) ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُل سَبْتٍ رَاكِبًا
وَمَاشِيًا (2) .
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلاَةُ
فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ (3) .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
__________
(1) المجموع 8 / 276.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت راكبًا
وماشيًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 69) ، ومسلم (2 / 1017) .
(3) حديث: " الصلاة في مسجد قباء كعمرة ". أخرجه الترمذي (2 / 146) من حديث
أسيد بن ظهر الأنصاري، وقال: حديث حسن غريب.
(36/312)
كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ
وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقَال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ فِي
أَصْحَابِهِ يَنْقُلُونَ حِجَارَتَهُ عَلَى بُطُونِهِمْ وَيُؤَسِّسُهُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . (1) .
ج - الْبَقِيعُ
- وَيُقَال لَهُ: بَقِيعُ الْغَرْقَدِ، لِوُجُودِ شَجَرِ الْغَرْقَدِ فِيهِ
(2) ، وَكَانَ مَقْبَرَةَ أَهْل الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَقَعُ إِلَى
الشَّرْقِ مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ
(3) ، مِنْ أَصَحِّهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
جِبْرِيل أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْل بَقِيعِ الْغَرْقَدِ
فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. . . (4) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا
مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ
آخِرِ اللَّيْل إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ
قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ،
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لأَِهْل بَقِيعِ الْغَرْقَدِ (5) .
__________
(1) الدرة الثمينة في تاريخ المدينة: 2 / 380.
(2) الغرقد: نبات من الفصيلة الصنوبرية يرتفع قدر متر ويتكاتف حتى يغطي ما
تحته.
(3) انظر طائفة منها في هداية السالك: 1 / 118 - 119، والإيضاح للنووي
ص162.
(4) حديث: " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يأمرك. .
. ". أخرجه مسلم (2 / 671) .
(5) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها. . .
". أخرجه مسلم (2 / 669) .
(36/312)
قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَخْرُجَ زَائِرُ الْمَدِينَةِ كُل يَوْمٍ إِلَى الْبَقِيعِ خُصُوصًا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلاَمِ عَلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَفِي الْبَقِيعِ قُبُورُ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ، كَانَتْ قَدْ بُنِيَتْ عَلَيْهِمْ قِبَابٌ، وَقَدْ أُزِيلَتْ،
لَكِنَّ أَهْل الْخِبْرَةِ يَعْرِفُونَ مَوَاضِعَهُمْ، مِنْهُمْ: عُثْمَانُ
بْنُ عَفَّانَ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا إِلَى الْغَرْبِ، وَشَرْقِيُّهُ قَبْرُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ وَبَعْضِ أَهْل الْبَيْتِ
فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، كَقَبْرِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَمَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْرَاهِيمَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ابْنِهِ إِلَى جَنْبِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَإِلَى
جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَثَمَّةَ مَوْضِعُ قُبُورِ مَنْ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ مِنْ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا (2) .
د - جَبَل أُحُدٍ وَقُبُورُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَهُ
11 - أُحُدٌ جَبَلٌ عَظِيمٌ يُطِل عَلَى الْمَدِينَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ
لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ جِبَالٍ أُخَرَ هُنَاكَ، وَبِاسْمِهِ
سُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ
بَدْرٍ الْكُبْرَى، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَعَل ظَهْرَ جَيْشِهِ إِلَى جَبَل أُحُدٍ.
__________
(1) المجموع 8 / 275 طبعة دار الفكر.
(2) هداية السالك: 1 / 94، 95.
(36/313)
وَوَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ (1) كَمَا جَاءَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَال: اثْبُتْ
أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ (2) .
وَتُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ شُهَدَاءِ أُحُدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَدْ
أُحِيطَتْ، قُبُورُهُمْ بِسِيَاجٍ، وَأُعْلِمَ عَلَى قَبْرِ سَيِّدِ
الشُّهَدَاءِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعَلاَمَةِ قَبْرٍ
كَبِيرَةٍ، وَمَعَهُ فِي الْقَبْرِ الْمُجَدَّعُ فِي اللَّهِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيل لَهُ: الْمُجَدَّعُ
لأَِنَّهُ دَعَا يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقَاتِل وَيُسْتَشْهَدَ وَيُقْطَعَ
أَنْفُهُ وَأُذُنُهُ وَيُمَثَّل بِهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَجَابَ
اللَّهُ دُعَاءَهُ.
وَإِلَى جَانِبِهِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَاعِيَةُ
الإِْسْلاَمِ فِي الْمَدِينَةِ وَثَمَّةَ بَاقِي الشُّهَدَاءِ، وَلاَ
يُعْرَفُ قَبْرُ أَحَدٍ مِنْهُمْ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ حَوْل
حَمْزَةَ فِي بُقْعَةِ الْمَوْقِعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعِدَّتُهُمْ سَبْعُونَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْبَاقِي
مِنَ الأَْنْصَارِ، مِنْهُمْ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ غَسِيل
الْمَلاَئِكَةِ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
خَادِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " أُحُد جبل يحبنا ونحبه ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 377) ،
ومسلم (2 / 1011) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان
". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 220) .
(36/313)
وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمَالِكُ بْنُ
سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ جَمِيعًا (1) .
وَيُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ بِالصِّيغَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْل الْقُبُورِ،
نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّلاَمِ عَلَى أَهْل الْبَقِيعِ.
مَذْرُوعَاتٌ
انْظُرْ: مِثْلِيَّاتٌ
مَذْهَبٌ
انْظُرْ: تَقْلِيدٌ
مُذَهَّبٌ
انْظُرْ: آنِيَةٌ
__________
(1) هداية السالك 2 / 1396 - 1397، والمجموع 8 / 276 طبعة دار الفكر.
(36/314)
مَذْيٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمَذْيُ وَالْمَذِيُّ لُغَةً: مَاءٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عِنْدَ
الْمُلاَعَبَةِ أَوِ التَّذَكُّرِ وَيَضْرِبُ إِلَى الْبَيَاضِ، وَقَال
الرَّافِعِيُّ: فِيهِ ثَلاَثُ لُغَاتٍ، الأُْولَى: سُكُونُ الذَّال،
وَالثَّانِيَةُ: كَسْرُهَا مَعَ التَّثْقِيل (تَثْقِيل الْيَاءِ) ،
وَالثَّالِثَةُ: الْكَسْرُ مَعَ التَّخْفِيفِ، وَالْمَذَّاءُ فَعَّالٌ
لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ الْمَذْيِ مِنْ مَذَى يَمْذِي (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَنِيُّ:
2 - الْمَنِيُّ فِي اللُّغَةِ مُشَدَّدُ الْيَاءِ: مَاءُ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ، وَجَمْعُهُ مُنْيٌ، وَفِي التَّنْزِيل: {أَلَمْ يَكُ
نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} (3) وَقَال صَاحِبُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير،
والمعجم الوسيط، ومعجم متن اللغة مادة (مذي)
.
(2) المبسوط 1 / 71، والفتاوى الهندية 1 / 10، وقواعد الفقه للبركتي ص476،
وكفاية الطالب 1 / 107، وأسهل المدارك 1 / 61، وشرح المنهاج 1 / 70،
والمغني مع الشرح 1 / 731.
(3) سورة القيامة / 38.
(36/314)
الزَّاهِرِ: سُمِّيَ الْمَنِيُّ مَنِيًّا
لأَِنَّهُ يُمْنَى أَيْ يُرَاقُ وَيُدْفَقُ، وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتْ مِنًى:
لِمَا يُمْنَى بِهَا، أَيْ يُرَاقُ مِنْ دِمَاءِ النُّسُكِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْمَاءُ الْغَلِيظُ الدَّافِقُ الَّذِي
يَخْرُجُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الشَّهْوَةِ (2) .
وَقَال صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: الْمَنِيُّ هُوَ الْمَاءُ
الأَْبْيَضُ الَّذِي يَنْكَسِرُ الذَّكَرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَيَتَوَلَّدُ
مِنْهُ الْوَلَدُ (3) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ أَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ
بِشَهْوَةٍ مَعَ الْفُتُورِ عَقِيبَهُ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَيَخْرُجُ عَنْ
شَهْوَةٍ لاَ بِشَهْوَةٍ وَلاَ يَعْقُبُهُ فُتُورٌ (4) .
ب - الْوَدْيُ
3 - الْوَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّال الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ
وَتَشْدِيدِهَا الْمَاءُ الثَّخِينُ الأَْبْيَضُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي
إِثْرِ الْبَوْل (5) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(6) .
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والزاهر، والمصباح.
(2) المغني مع الشرح الكبير 1 / 197.
(3) دستور العلماء 3 / 361.
(4) المجموع شرح المهذب 2 / 141، فتح القدير 1 / 42.
(5) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير، والزاهر، والصحاح.
(6) حاشية العدوي 1 / 115، وكفاية الطالب 1 / 107، والزاهر ص49، وقواعد
الفقه 476، وأسهل المدارك 1 / 62.
(36/315)
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ
عِنْدَ الشَّهْوَةِ وَيَكُونُ مَاءً رَقِيقًا، أَمَّا الْوَدْيُ فَلاَ
يَخْرُجُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ وَإِنَّمَا عَقِبَ الْبَوْل وَيَكُونُ
ثَخِينًا.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَذْيِ مِنْ أَحْكَامٍ
أ - نَجَاسَتُهُ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ لِلأَْمْرِ بِغَسْل
الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْوُضُوءِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَيْثُ قَال: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَل
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ،
فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ، فَسَأَلَهُ فَقَال: يَغْسِل
ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ (1) .
وَلأَِنَّهُ - كَمَا قَال الشِّيرَازِيُّ - خَارِجٌ مِنْ سَبِيل الْحَدَثِ
لاَ يُخْلَقُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَهُوَ كَالْبَوْل (2) .
ب - كَيْفِيَّةُ التَّطَهُّرِ مِنَ الْمَذْيِ
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى
جَوَازِ إِزَالَةِ الْمَذْيِ بِالاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوِ
الاِسْتِجْمَارِ بِالأَْحْجَارِ مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ
لِمَا رَوَى
__________
(1) حديث علي: " كنت رجلاً مذاءً ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 379)
ومسلم (1 / 247) واللفظ لمسلم.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 46، والاختيار 1 / 32، وأسهل المدارك 1 / 61،
والمجموع 2 / 144، وجواهر الإكليل 1 / 9، والشرح الكبير 1 / 56، والمهذب 1
/ 53، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 160، ونيل الأوطار 1 / 51.
(36/315)
سَهْل بْنُ حُنَيْفٍ قَال كُنْتُ أَلْقَى
مِنَ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً فَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْهُ الْغُسْل،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال: إِنَّمَا يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ (1) وَلأَِنَّهُ
خَارِجٌ لاَ يُوجِبُ الاِغْتِسَال أَشْبَهَ الْوَدْيَ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ بِالْحَجَرِ فَيَتَعَيَّنُ غَسْلُهُ
بِالْمَاءِ، فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ خَرَجَ الْمَذْيُ بِلَذَّةِ مُعْتَادَةٍ
يُغْسَل وُجُوبًا وَإِلاَّ كَفَى فِيهِ الْحَجَرُ مَا لَمْ يَكُنْ سَلَسًا
لاَزِمًا كُل يَوْمٍ وَلَوْ مَرَّةً وَإِلاَّ عُفِيَ عَنْهُ (3) .
ج - نَقْضُ الْوُضُوءِ بِهِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَذْيِ يَنْقُضُ
الْوُضُوءَ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى
أَنَّ خُرُوجَ الْمَذْيِ مِنَ الأَْحْدَاثِ الَّتِي تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ
وَتُوجِبُ الْوُضُوءَ وَلاَ تُوجِبُ الْغُسْل (4) ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث سهل بن حنيف: " كنت ألقى من المذي شدة. . . ". أخرجه أبو داود (1
/ 145) والترمذي (1 / 197) واللفظ له، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح
".
(2) الطحطاوي على الدرر 1 / 164، وسراج السالك شرح أسهل المدارك 1 / 74،
والمجموع 2 / 100، 101، ومغني المحتاج 1 / 45، وشرح منتهى الإرادات 1 /
102.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 112، وسراج السالك 1 / 74، ومغني المحتاج 1 / 45.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 9 - 10، والخرشي 1 / 92، والمجموع 2 / 143 - 144،
والحاوي الكبير 1 / 263، والمغني 1 / 168 - 170.
(36/316)
فِيمَا سَبَقَ، وَلِحَدِيثِ سَهْل بْنِ
حُنَيْفٍ قَال: كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً وَكُنْتُ
أُكْثِرُ مِنْهُ الْغُسْل فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّمَا يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ
الْوُضُوءُ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي
مِنْهُ؟ قَال: يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ
ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْهُ (1) .
د - الْغُسْل مِنْهُ:
7 - إِذَا اسْتَيْقَظَ إِنْسَانٌ مِنْ نَوْمِهِ وَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ أَوْ
فَخِذِهِ بَلَلاً وَلَمْ يَتَذَكَّرِ احْتِلاَمًا فَقَدْ نَصَّ
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل لاِحْتِمَال
انْفِصَالِهِ عَنْ شَهْوَةٍ ثُمَّ نَسِيَ وَرَقَّ هُوَ بِالْهَوَاءِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْل، وَلَوْ تَيَقَّنَ
أَنَّهُ مَذْيٌ لاَ يَجِبُ اتِّفَاقًا، قَال أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ:
لَوْ أُغْشِيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا، أَوْ كَانَ سَكْرَانَ
فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا لاَ غُسْل عَلَيْهِ، وَلاَ يُشْبِهُ النَّائِمَ
إِذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ مَذْيًا حَيْثُ كَانَ عَلَيْهِ
الْغُسْل إِنْ تَذَكَّرَ الاِحْتِلاَمَ بِالإِْجْمَاعِ لأَِنَّهُ فِي
النَّوْمِ ظَهَرَ تَذَكُّرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهُ مَنِيٌّ
رَقَّ بِالْهَوَاءِ أَوْ لِلْغِذَاءِ فَاعْتَبَرْنَاهُ مَنِيًّا
احْتِيَاطًا وَلاَ كَذَلِكَ السَّكْرَانُ وَالْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ،
لأَِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِمَا هَذَا السَّبَبُ (2) .
__________
(1) حديث سهل بن حنيف: " كنت ألقى من المذي شدة. . . ". تقدم في الفقرة
السابقة.
(2) فتح القدير 1 / 42، والفتاوى الهندية 1 / 14 - 15، والشرح الصغير 1 /
163، وروضة الطالبين 1 / 84.
(36/316)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ شَكَّ مَنْ
وَجَدَ بِفَرْجِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ فَخِذِهِ شَيْئًا مِنْ بَلَلٍ أَوْ
أَثَرَ مَذْيٍ أَوْ مَنِيٍّ وَكَانَ شَكُّهُ مُسْتَوِيًا اغْتَسَل وُجُوبًا
لِلاِحْتِيَاطِ كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ،
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ لاَ
يَلْزَمُهُ إِلاَّ الْوُضُوءُ مَعَ غَسْل ذَكَرِهِ وَإِنْ تَرَجَّحَ
لَدَيْهِ أَحَدُهُمَا عَمِل بِمُقْتَضَى الرَّاجِحِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ احْتَمَل كَوْنَ الْخَارِجِ
مَنِيًّا أَوْ غَيْرَهُ كَوَدْيٍ أَوْ مَذْيٍ تَخَيَّرَ بَيْنَ الْغُسْل
وَالْوُضُوءِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَإِنْ جَعَلَهُ مَنِيًّا اغْتَسَل أَوْ
غَيْرَهُ تَوَضَّأَ وَغَسَل مَا أَصَابَهُ، لأَِنَّهُ إِذَا أَتَى
بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا بَرِئَ مِنْهُ يَقِينًا وَالأَْصْل بَرَاءَتُهُ
مِنَ الآْخَرِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ: إِذَا
وَجَدَ بَلَّةً اغْتَسَل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِهِ بَرْدَةٌ أَوْ لاَعَبَ
أَهْلَهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ فَأَرْجُو أَلاَّ
يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ انْتَشَرَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل
بِتَذَكُّرٍ أَوْ رُؤْيَةٍ لاَ غُسْل عَلَيْهِ لأَِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ
يُحْتَمَل أَنَّهُ مَذْيٌ وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُهُ فَلاَ يُوجِبُ الْغُسْل
مَعَ الشَّكِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْغُسْل،
لِخَبَرِ عَائِشَةَ، وَلأَِنَّ
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي عليه 1 / 131.
(2) مغني المحتاج 1 / 70.
(36/317)
الظَّاهِرَ أَنَّهُ احْتِلاَمٌ، ثُمَّ قَال
ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي
مَوَاضِعَ (1) .
هـ - أَثَرُهُ فِي الصَّوْمِ:
8 - إِذَا أَمْذَى الصَّائِمُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَقُبْلَةٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ
فِكْرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فِطْرِهِ بِذَلِكَ عَلَى
أَقْوَالٍ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف44) .
مَرْأَةٌ
انْظُرِ: امْرَأَةٌ
__________
(1) المغني 1 / 203.
(36/317)
مُرَابَحَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُرَابَحَةُ فِي اللُّغَةِ: تَحْقِيقُ الرِّبْحِ، يُقَال: بِعْتُ
الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً، أَوِ اشْتَرَيْتُهُ مُرَابَحَةً: إِذَا سَمَّيْتَ
لِكُل قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي
تَعْرِيفِهَا، لَكِنَّهَا مُتَّحِدَةٌ فِي الْمَعْنَى وَالْمَدْلُول،
وَهِيَ: نَقْل مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل، بِالثَّمَنِ الأَْوَّل
مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ (2) .
فَالْمُرَابَحَةُ مِنْ بُيُوعِ الأَْمَانَاتِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى
الإِْخْبَارِ عَنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ وَتَكْلِفَتِهَا الَّتِي قَامَتْ
عَلَى الْبَائِعِ.
وَصُورَتُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هِيَ أَنْ يُعَرِّفَ صَاحِبُ
السِّلْعَةِ الْمُشْتَرِيَ بِكَمِ اشْتَرَاهَا، وَيَأْخُذَ مِنْهُ رِبْحًا
إِمَّا عَلَى الْجُمْلَةِ، مِثْل أَنْ يَقُول: اشْتَرَيْتُهَا بِعَشَرَةٍ
وَتُرْبِحُنِي دِينَارًا أَوْ
__________
(1) الصحاح للجوهري.
(2) الهداية مع فتح القدير 6 / 494، ودرر الحكام 2 / 180، وبدائع الصنائع 7
/ 3193 ط. الإمام بالقاهرة، والقوانين الفقهية لابن جزي ص263، والشرح
الصغير 3 / 215، ومغني المحتاج 2 / 77، والمهذب 1 / 382 - ط. ثالثة.
(36/318)
دِينَارَيْنِ، وَإِمَّا عَلَى التَّفْصِيل
وَهُوَ أَنْ يَقُول: تُرْبِحُنِي دِرْهَمًا لِكُل دِينَارٍ أَوْ نَحْوِهِ
(1) ، أَيْ إِمَّا بِمِقْدَارٍ مُقَطَّعٍ مُحَدَّدٍ، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ
عَشْرِيَّةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّوْلِيَةُ:
2 - التَّوْلِيَةُ نَقْل مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل بِالثَّمَنِ
الأَْوَّل مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ
بُيُوعِ الأَْمَانَاتِ.
ب - الْوَضِيعَةُ:
3 - الْوَضِيعَةُ هِيَ: الْبَيْعُ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل، مَعَ
نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ (4) .
وَيُقَال لَهَا أَيْضًا: الْمُوَاضَعَةُ وَالْمُخَاسَرَةُ وَالْمُحَاطَّةُ،
فَهِيَ مُضَادَّةٌ لِلْمُرَابَحَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْمُرَابَحَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ
وَمَشْرُوعِيَّتِهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ
الْبَيْعَ} (5) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (6) وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعٌ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ
الْعَاقِدَيْنِ، فَكَانَ دَلِيل شَرْعِيَّةِ
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص263.
(2) الشرح الصغير 3 / 215.
(3) فتح القدير شرح الهداية 6 / 495.
(4) درر الحكام 2 / 180، والمراجع السابقة.
(5) سورة البقرة / 275.
(6) سورة النساء / 29.
(36/318)
الْبَيْعِ مُطْلَقًا بِشُرُوطِهِ
الْمَعْلُومَةِ هُوَ دَلِيل جَوَازِهَا.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ تَوَافَرَتْ فِي هَذَا الْعَقْدِ شَرَائِطُ
الْجَوَازِ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إِلَى هَذَا النَّوْعِ
مِنَ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْغَبِيَّ الَّذِي لاَ يَهْتَدِي فِي
التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فِعْل الْخَبِيرِ
الْمُهْتَدِي، وَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِمِثْل مَا اشْتَرَى الْبَائِعُ،
وَبِزِيَادَةِ رِبْحٍ، فَوَجَبَ الْقَوْل بِجَوَازِهَا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، فَجَازَ الْبَيْعُ
بِهِ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، وَكَذَا الرِّبْحُ
مَعْلُومٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال: وَرِبْحُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (1) .
وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ بِأَنَّهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى، أَوِ
الأَْحَبُّ خِلاَفُهُ، وَالْمُسَاوَمَةُ أَحَبُّ إِلَى أَهْل الْعِلْمِ
مِنْ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ، وَبَيْعِ الاِسْتِئْمَانِ وَالاِسْتِرْسَال،
وَأَضْيَقُهَا عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، لأَِنَّهُ يَتَوَقَّفُ
عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ قَل أَنْ يَأْتِيَ بِهَا الْبَائِعُ عَلَى
وَجْهِهَا (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِّيتُ كَرَاهَتَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ
__________
(1) فتح القدير 6 / 497، والمهذب 1 / 382 - ط. ثالثة، والمغني 4 / 199 - ط
الرياض.
(2) الشرح الصغير 3 / 215 وما بعدها، ومواهب الجليل للحطاب 4 / 488 وما
بعدها.
(36/319)
يَسَارٍ وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ حَال الْعَقْدِ فَلَمْ
يَجُزْ (1) .
شُرُوطُ الْمُرَابَحَةِ
5 - يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي كُل
الْبُيُوعِ مَعَ إِضَافَةِ شُرُوطٍ أُخْرَى تَتَنَاسَبُ مَعَ طَبِيعَةِ
هَذَا الْعَقْدِ وَهِيَ: أَوَّلاً: شُرُوطُ الصِّيغَةِ: 6 - يُشْتَرَطُ فِي
صِيغَةِ الْمُرَابَحَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي كُل عَقْدٍ وَهِيَ ثَلاَثَةُ
شُرُوطٍ: وُضُوحُ دَلاَلَةِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَتَطَابُقُهُمَا،
وَاتِّصَالُهُمَا. (ر: مُصْطَلَحَ: عَقْدٌ ف5) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُرَابَحَةِ
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُرَابَحَةِ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الأَْوَّل صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا،
لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، لأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ
بِالثَّمَنِ الأَْوَّل مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ -
وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ -
لَكِنْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أَوْ بِمِثْلِهِ،
لاَ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ،
وَهَذَا لاَ يَتَّفِقُ مَعَ مُقْتَضَى عَقْدِ الْمُرَابَحَةِ الْقَائِمِ
عَلَى مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ الأَْوَّل ذَاتِهِ، لاَ الْقِيمَةِ أَوِ
الْمِثْل (2) .
__________
(1) المغني 4 / 199 - ط. الرياض، ومغني المحتاج 2 / 77.
(2) بدائع الصنائع 7 / 3197 - ط. الإمام بالقاهرة.
(36/319)
ب - الْعِلْمُ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل:
يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الأَْوَّل مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي
الثَّانِي، صِحَّةُ الْمُرَابَحَةِ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِالثَّمَنِ شَرْطٌ
فِي صِحَّةِ الْبُيُوعِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الثَّمَنَ الأَْوَّل فَسَدَ
الْعَقْدُ (1) .
ج - أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال، وَبَيَانُ
ذَلِكَ: أَنَّ رَأْسَ الْمَال إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلِيًّا
كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ،
أَوْ يَكُونَ قِيَمِيًّا لاَ مِثْل لَهُ كَالْعَدَدِيَّاتِ
الْمُتَفَاوِتَةِ.
فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا جَازَ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ
الأَْوَّل، سَوَاءٌ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ
جَعَل الرِّبْحَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال فِي الْمُرَابَحَةِ أَوْ مِنْ
خِلاَفِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الثَّمَنُ الأَْوَّل مَعْلُومًا
وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا.
وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا لاَ مِثْل لَهُ مِنَ الْعُرُوضِ، فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ لَيْسَ ذَلِكَ الْعَرَضُ فِي
مِلْكِهِ، لأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل،
فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ الأَْوَّل مِثْل جِنْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ
يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ
عَلَى قِيمَتِهِ، وَعَيْنُهُ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَقِيمَتُهُ مَجْهُولَةٌ
تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لاِخْتِلاَفِ أَهْل التَّقْوِيمِ فِيهَا.
وَأَمَّا بَيْعُهُ مِمَّنِ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3193 - 3197 ط. الإمام أو 5 / 220 - 222 - ط أولى
مصر، والمغني 4 / 199 - ط. الرياض، ومغني المحتاج 2 / 77، وجواهر الإكليل 2
/ 57.
(36/320)
فَيُنْظَرُ:
فَإِنْ جَعَل الرِّبْحَ شَيْئًا مُفْرَدًا عَنْ رَأْسِ الْمَال مَعْلُومًا
كَالدِّرْهَمِ وَثَوْبٍ مُعَيَّنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ، لأَِنَّ
الثَّمَنَ الأَْوَّل مَعْلُومٌ وَالرِّبْحَ مَعْلُومٌ.
وَإِنْ جَعَل الرِّبْحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَال بِأَنْ قَال: بِعْتُكَ
الثَّمَنَ الأَْوَّل بِرِبْحِ دِرْهَمٍ فِي الْعَشَرَةِ لاَ يَجُوزُ،
لأَِنَّهُ جَعَل الرِّبْحَ جُزْءًا مِنَ الْعَرَضِ، وَالْعَرَضُ لَيْسَ
مُتَمَاثِل الأَْجْزَاءِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّقَوُّمِ،
وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ لأَِنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ،
هَذَا تَفْصِيل الْحَنَفِيَّةِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الثَّمَنَ الْعَرَضُ إِمَّا
أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ لاَ يَكُونَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ السِّلْعَةِ مُرَابَحَةً سَوَاءٌ
كَانَ الْعَرَضُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ أَوِ الْقِيَمِيَّاتِ وَهَذَا عِنْدَ
أَشْهَبَ خِلاَفًا لاِبْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ فَعِنْدَهُ
يَجُوزُ بَيْعُ السِّلْعَةِ الَّتِي ثَمَنُهَا عَرَضٌ مِثْلِيٌّ، سَوَاءٌ
كَانَتْ بِيَدِ الْمُشْتَرِي أَمْ لاَ.
كَمَا يَتَّفِقُ ابْنُ الْقَاسِمِ مَعَ أَشْهَبَ فِي الْمَنْعِ فِي أَحَدِ
التَّأْوِيلَيْنِ إِذَا كَانَ الْعَرَضُ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَذَلِكَ
بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ بَيْعُ الإِْنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ
وَأَنَّهُ مِنَ السَّلَمِ الْحَال،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 221، فتح القدير 5 / 254، والبحر الرائق 6 / 118.
(36/320)
وَيُرَادُ بِهِ السَّلَمُ الَّذِي لَيْسَ
فِيهِ أَجَلٌ لِمُدَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
أَمَّا التَّأْوِيل الآْخَرُ لاِبْنِ الْقَاسِمِ: فَإِنَّ الْعَرَضَ
الْمُتَقَوِّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ
قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَإِنَّ بَيْعَ السِّلْعَةِ مُرَابَحَةً
يَجُوزُ.
وَإِنْ كَانَ الْعَرَضُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا
فَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ عَلَى بَيْعِ السِّلْعَةِ
الْمُشْتَرَاةِ بِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، فَرَأَى أَشْهَبُ
الْمَنْعَ كَمَا لَوْ كَانَ لَيْسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، أَمَّا عِنْدَ
ابْنِ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ بِمِثْل ذَلِكَ الْعَرَضِ
وَزِيَادَةٍ وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْقِيمَةِ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى بِعَرَضٍ وَأَرَادَ أَنْ
يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ إِذَا اسْتَخْدَمَ
لَفْظَ: بِعْتُ بِمَا اشْتَرَيْتُ، أَوْ بِعْتُ بِمَا قَامَ عَلَيَّ،
وَهُنَا يَجِبُ إِخْبَارُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ
قِيمَتُهُ كَذَا، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ الاِقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ
الْقِيمَةِ، لأَِنَّ الْبَائِعَ بِالْعَرَضِ يُشَدِّدُ فَوْقَ مَا
يُشَدِّدُ الْبَائِعُ بِالنَّقْدِ.
وَقَال الإِْسْنَوِيُّ: إِذَا قَال: بِعْتُكَ بِمَا قَامَ عَلَيَّ أَخْبَرَ
بِالْقِيمَةِ دُونَ حَاجَةٍ لِذِكْرِ الْعَرَضِ (2) .
وَمِثْل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ نَجِدُهُ
__________
(1) الخرشي 5 / 172، ومنح الجليل 2 / 182.
(2) فتح العزيز 9 / 11، ومغني المحتاج 2 / 79.
(36/321)
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
د - أَلاَّ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الْعَقْدِ الأَْوَّل مُقَابَلاً
بِجِنْسِهِ مِنْ أَمْوَال الرِّبَا، وَأَمْوَال الرِّبَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ: كُل مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: كُل
مَطْعُومٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: كُل مَكِيلٍ
وَمَوْزُونٍ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَرَيَانِ الرِّبَا فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا يَحِل مَحَلَّهُمَا مِنَ الأَْوْرَاقِ
النَّقْدِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، كَأَنِ اشْتَرَى الْمَكِيل
أَوِ الْمَوْزُونَ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بِجِنْسِهِ، مِثْلاً
بِمِثْلٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، لأَِنَّ
الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل وَزِيَادَةٍ، وَالزِّيَادَةُ
فِي أَمْوَال الرِّبَا تَكُونُ رِبًا، لاَ رِبْحًا، فَإِنِ اخْتَلَفَ
الْجِنْسُ فَلاَ بَأْسَ بِالْمُرَابَحَةِ، كَأَنِ اشْتَرَى دِينَارًا
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ ثَوْبٍ
بِعَيْنِهِ، جَازَ، لأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل
وَزِيَادَةٍ، وَلَوْ بَاعَ دِينَارًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، أَوْ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَثَوْبٍ، كَانَ جَائِزًا بِشَرْطِ التَّقَابُضِ،
فَهَذَا مِثْلُهُ (2) .
هـ - أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا الْعِلْمُ بِالرِّبْحِ ضَرُورِيٌّ،
لأَِنَّهُ بَعْضُ الثَّمَنِ، وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
الْبُيُوعِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 4 / 263، وكشاف القناع 3 / 232.
(2) المبسوط 13 / 82، 89، وبدائع الصنائع 5 / 222.
(36/321)
مَجْهُولاً حَال الْعَقْدِ، لَمْ تَجُزِ
الْمُرَابَحَةُ.
وَلاَ فَرْقَ فِي تَحْدِيدِ الرِّبْحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارًا
مَقْطُوعًا أَوْ بِنِسْبَةٍ عَشْرِيَّةٍ فِي الْمِائَةِ، وَيُضَمُّ
الرِّبْحُ إِلَى رَأْسِ الْمَال وَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ
حَالًّا نَقْدِيًّا أَوْ مُقَسَّطًا عَلَى أَقْسَاطٍ مُعَيَّنَةٍ فِي
الشَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ مَثَلاً (1) .
الْحَطِيطَةُ وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ:
8 - لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً وَانْعَقَدَ الْبَيْعُ عَلَى ثَمَنٍ
مُسَمًّى ثُمَّ طَرَأَتْ زِيَادَةٌ أَوْ حَطٌّ عَلَى الثَّمَنِ
الْمُسَمَّى، وَتَمَّ قَبُول هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ، ثُمَّ
أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَ السِّلْعَةِ مُرَابَحَةً فَهَل يُخْبِرُ
بِالثَّمَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؟ أَمْ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِهِ بَعْدَ
الزِّيَادَةِ أَوِ الْحَطِّ؟
فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ: فَالزِّيَادَةُ أَوِ الْحَطُّ قَدْ يُتَّفَقُ
عَلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ، فَإِنْ
حَصَل ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَوِ الْحَطُّ
يُلْحَقُ بِالثَّمَنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي
ذَلِكَ (2) .
لَكِنَّ أَبَا عَلِيٍّ الطَّبَرِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَقُول: إِذَا
قُلْنَا يَنْتَقِل الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لاَ يُلْحَقُ
الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل (3) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ قَدِ اتُّفِقَ عَلَيْهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3195 - ط. الإمام، والشرح الصغير 3 / 215، ومغني
المحتاج 2 / 77 وما بعدها، والمغني 4 / 199 - ط. الرياض.
(2) المغني والشرح الكبير 4 / 260.
(3) المهذب 1 / 296.
(36/322)
بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ:
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي يُعْطِيهَا
الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ الأَْوَّل فِي الثَّمَنِ الأَْوَّل تَلْتَحِقُ
بِأَصْل الْعَقْدِ فَيَبِيعُ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً بِالثَّمَنِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَطَّ
الْبَائِعُ الأَْوَّل عَنِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنَ الثَّمَنِ فَإِنَّ
الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِالأَْصْل، فَإِذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً
فَإِنَّ ثَمَنَ الْمُرَابَحَةِ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ، وَكَذَلِكَ
الْحَال لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الأَْوَّل عَنِ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا
بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً، فَإِنَّ هَذَا الْحَطَّ يَلْحَقُ رَأْسَ
الْمَال الَّذِي بَاعَ بِهِ مَعَ حَطِّ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ، لأَِنَّ
الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْل الْعَقْدِ، وَقَضِيَّةُ الْحَطِّ مِنَ
الرِّبْحِ أَنَّ الرِّبْحَ يَنْقَسِمُ عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِذَا
حُطَّ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ فَلاَ بُدَّ مِنْ حَطِّ حِصَّتِهِ مِنَ
الرِّبْحِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ تَجَاوَزَ الْبَائِعُ الأَْوَّل عَنْ
نُقُودٍ زَائِفَةٍ ظَهَرَتْ فِي الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَلَمَهُ وَرَضِيَ
بِهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَى الْمُشْتَرِي - يَعْنِي أَنَّهُ حَطَّهَا -
وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ الأَْوَّل شَيْئًا مِنَ الثَّمَنِ
وَأَرَادَ هَذَا الْمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لِمَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا تَجَاوَزَ عَنْهُ
الْبَائِعُ أَوْ حَطَّهُ أَوْ وَهَبَ لَهُ إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ أَوِ
الْحَطِيطَةُ مُعْتَادَةً بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ لَمْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 222.
(36/322)
تَكُنْ مُعْتَادَةً أَوْ وَهَبَ لَهُ
جَمِيعَ الثَّمَنِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَجِبِ
الْبَيَانُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ
الْكَذِبِ، وَعَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَحَطَّ
الْبَائِعُ مُرَابَحَةً مَا وُهِبَ لَهُ مِنَ الثَّمَنِ دُونَ رِبْحِهِ
لَزِمَتِ الْمُشْتَرِيَ وَهُوَ قَوْل سَحْنُونٍ وَالْقَوْل عِنْدَ أَصْبَغَ
أَنَّهَا لاَ تَلْزَمُهُ حَتَّى يَحُطَّ رِبْحَهُ (1) .
وَالْقَوْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوِ الْحَطَّ
بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لاَ يَلْتَحِقُ بِأَصْل الْعَقْدِ لأَِنَّ ذَلِكَ
هِبَةٌ وَتَبَرُّعٌ، وَهَذَا قَوْل زُفَرَ أَيْضًا.
وَيُضِيفُ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا
كَانَتْ صِيغَةُ الْمُرَابَحَةِ: بِعْتُكَ بِمَا اشْتَرَيْتُ، أَمَّا إِذَا
كَانَتِ الصِّيغَةُ: بِعْتُكَ بِمَا قَامَ عَلَيَّ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ
وَالْحَطَّ يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَال فَيُخْبِرُ الْبَائِعُ بِهِ وَإِنْ
حَطَّ الْبَائِعُ الأَْوَّل كُل الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً بِلَفْظِ: بِعْتُ بِمَا قَامَ عَلَيَّ،
وَإِنَّمَا هُوَ يُقَدِّرُ ثَمَنًا وَلاَ يَجِبُ الإِْخْبَارُ عَنِ
الْحَال، أَمَّا إِذَا جَرَى الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ جَرَيَانِ
الْمُرَابَحَةِ فَإِنَّ الْحَطَّ لاَ يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ،
وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَلْحَقُ كَمَا فِي
التَّوْلِيَةِ وَالإِْشْرَاكِ (2) .
__________
(1) الخرشي 5 / 176 - 177، ومنح الجليل 2 / 188.
(2) المهذب 1 / 296، وفتح العزيز 9 / 10، ومغني المحتاج 2 / 78، وانظر رأي
زفر في بدائع الصنائع 5 / 223.
(36/323)
وَقَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ عَنِ
الشَّافِعِيَّةِ نَجِدُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا (1) .
نَمَاءُ الْمَبِيعِ
9 - إِنْ حَدَثَ فِي الْمَبِيعِ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ كَالْوَلَدِ
وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ وَالصُّوفِ وَالْكَسْبِ، لَمْ يَبِعْهُ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ (2) مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ: لأَِنَّ الزِّيَادَةَ
الْمُتَوَلِّدَةَ مِنَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَهُمْ، حَتَّى تَمْنَعَ
الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ
لِلْحَال.
وَكَذَا لَوْ هَلَكَ نَمَاءُ الْمَبِيعِ بِفِعْل الْبَائِعِ أَوْ بِفِعْل
أَجْنَبِيٍّ وَوَجَبَ الأَْرْشُ (التَّعْوِيضُ) لأَِنَّهُ صَارَ مَبِيعًا
مَقْصُودًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، ثُمَّ الْمَبِيعُ بَيْعًا غَيْرَ
مَقْصُودٍ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَالْمَبِيعُ
مَقْصُودًا أَوْلَى، وَلَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَهُ أَنْ
يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لأَِنَّهُ إِنْ هَلَكَ طَرَفٌ
مِنْ أَطْرَافِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ
بَيَانٍ، فَالْوَلَدُ أَوْلَى، لأَِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالطَّرَفِ.
وَلَوِ اسْتَغَل الْوَلَدَ وَالأَْرْضَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ
مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَيْسَتْ
بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنَ الْمَبِيعِ، لاَ تَكُونُ مَبِيعَةً بِالإِْجْمَاعِ،
وَلِهَذَا لاَ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، فَلَمْ يَكُنْ بِبَيْعِ
الدَّارِ أَوِ الأَْرْضِ حَابِسًا جُزْءًا مِنَ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 4 / 260، والإنصاف 4 / 441.
(2) بدائع الصنائع 5 / 223، 224.
(36/323)
الْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ
مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَيِّنُ الْبَائِعُ مُرَابَحَةً وِلاَدَةَ
الدَّابَّةِ وَإِنْ بَاعَ وَلَدَهَا مَعَهَا، وَكَذَا الصُّوفُ إِنْ جُزَّ،
فَإِنْ تَوَالَدَتِ الْغَنَمُ لَمْ يَبِعْ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ،
وَإِنْ جُزَّ الصُّوفُ فَلْيُبَيِّنْهُ، سَوَاءٌ تَمَّ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ
كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَ الشِّرَاءِ أَمْ لاَ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ
يَوْمَئِذٍ تَامًّا، فَقَدْ صَارَ لَهُ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَهَذَا
نُقْصَانٌ مِنَ الْغَنَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامًّا فَلَمْ يَنْبُتْ
إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ تَتَغَيَّرُ فِيهَا الأَْسْوَاقُ، أَمَّا إِنْ
حَلَبَ الْغَنَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ فِي
الْمُرَابَحَةِ، لأَِنَّ الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ يَطُول
الزَّمَانُ أَوْ تَتَغَيَّرَ الأَْسْوَاقُ، فَلْيُبَيِّنْ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَدَثَتْ مِنَ الْعَيْنِ فَوَائِدُ فِي
مِلْكِهِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ لَمْ يَحُطَّ ذَلِكَ مِنَ
الثَّمَنِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، وَإِنْ أَخَذَ ثَمَرَةً
كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ لَبَنًا كَانَ مَوْجُودًا حَال
الْعَقْدِ، حَطَّ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ،
وَقَابَلَهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَأَسْقَطَ مَا قَابَلَهُ، وَإِنْ
أَخَذَ وَلَدًا كَانَ مَوْجُودًا حَال الْعَقْدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ
الْحَمْل لَهُ حُكْمٌ، فَهُوَ كَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ، وَإِنْ قُلْنَا:
لاَ حُكْمَ لَهُ، لَمْ يَحُطَّ مِنَ الثَّمَنِ شَيْئًا (2) .
__________
(1) التاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب 4 / 493.
(2) المهذب 1 / 296 - ط. ثالثة.
(36/324)
وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ (1)
الشَّافِعِيَّةَ فِي النَّمَاءِ، فَقَالُوا: إِنْ تَغَيَّرَتِ السِّلْعَةُ
بِزِيَادَةٍ لِنَمَائِهَا كَالسِّمَنِ وَتَعْلِيمِ صَنْعَةٍ، أَوْ يَحْصُل
مِنْهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِنْ
أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً، أَخْبَرَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ
زِيَادَةٍ، لأَِنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ، وَإِنْ أَخَذَ
النَّمَاءَ الْمُنْفَصِل، أَخْبَرَ بِرَأْسِ الْمَال، وَلَمْ يَلْزَمْهُ
تَبْيِينُ الْحَال، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ تَبْيِينُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاقَ.
إِضَافَةُ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل شَيْئًا إِلَى الْمَبِيعِ
- قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُلْحَقَ بِرَأْسِ الْمَال
أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْغَسَّال وَالْفَتَّال
وَالْخَيَّاطِ وَالسِّمْسَارِ وَسَائِقِ الْغَنَمِ وَالْكِرَاءِ، وَعَلَفِ
الدَّوَابِّ، وَيُبَاعَ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الْكُل،
اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ
أَنَّهُمْ يُلْحِقُونَ هَذِهِ الْمُؤَنَ بِرَأْسِ الْمَال، وَيَعُدُّونَهَا
مِنْهُ، وَعُرْفُ الْمُسْلِمِينَ وَعَادَتُهُمْ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ، جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ الْمَوْقُوفِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. مَا رَأَى
الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ
الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ (2) ثُمَّ إِنَّ
الصَّبْغَ وَأَمْثَالَهُ يَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ: وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلاَفِ الْمَكَانِ،
__________
(1) المغني 4 / 201 - ط. الرياض.
(2) حديث: " ما رأى المسلمون حسنًا. . . ". أخرجه أحمد (1 / 379) ، وحسنه
السخاوي في المقاصد الحسنة (ص367) .
(36/324)
وَيَقُول: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَلاَ
يَقُول اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا، كَيْلاَ يَكُونَ كَاذِبًا. وَأَمَّا
أُجْرَةُ الرَّاعِي وَالطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ
وَالْبَيْطَارِ وَفِدَاءِ الْجِنَايَةِ وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
تَعْلِيمِ صَنَاعَةٍ أَوْ قُرْآنٍ أَوْ شِعْرٍ، فَلاَ يُلْحَقُ بِرَأْسِ
الْمَال، وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل
الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل لاَ غَيْرَ، لأَِنَّ الْعَادَةَ مَا
جَرَتْ مِنَ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْمُؤَنِ بِرَأْسِ الْمَال
(1) .
وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا، فَقَالُوا: وَحَسِبَ الْبَائِعُ
عَلَى الْمُشْتَرِي رِبْحَ مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِالسِّلْعَةِ، أَيْ
مُشَاهَدَةٌ بِالْبَصَرِ، كَصَبْغٍ وَطَرْزٍ وَقَصْرٍ وَخِيَاطَةٍ وَفَتْلٍ
لِحَرِيرٍ وَغَزْلٍ وَكَمْدٍ - بِسُكُونِ الْمِيمِ أَيْ: دَقِّ الثَّوْبِ
لِتَحْسِينِهِ - وَتَطَرِّيهِ، أَيْ جَعْل الثَّوْبِ فِي الطَّرَاوَةِ
لِيَلِينَ وَتَذْهَبَ خُشُونَتُهُ، وَكَذَا عَرْكُ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ
لِيَلِينَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَيْنٌ قَائِمٌ كَأُجْرَةِ حَمْل
وَشَدِّ وَطَيِّ ثِيَابٍ وَنَحْوِهَا حَسِبَ أَصْلَهُ فَقَطْ دُونَ
رِبْحِهِ إِنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ (2) .
وَكَذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَدْخُل فِي الثَّمَنِ أُجْرَةُ
الْكَيَّال وَالدَّلاَّل وَالْحَارِسِ وَالْقَصَّارِ وَالرَّفَّاءِ
وَالطَّرَّازِ وَالصَّبَّاغِ وَقِيمَةُ الصَّبْغِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 223، وفتح القدير 6 / 498.
(2) الشرح الصغير 3 / 217، ومواهب الجليل للحطاب 4 / 489 وما بعدها.
(36/325)
الْمُرَادَةِ لِلاِسْتِرْبَاحِ، قَائِلاً:
قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَلاَ يَقُول: اشْتَرَيْتُ بِكَذَا، أَوْ ثَمَنُهُ
كَذَا، لأَِنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، لَكِنْ لَوْ قَصَّرَ بِنَفْسِهِ أَوْ كَال
أَوْ حَمَل أَوْ تَطَوَّعَ بِهِ شَخْصٌ، لَمْ تَدْخُل أُجْرَتُهُ (1) .
وَعِبَارَةُ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا عَمِل الْمُشْتَرِي الأَْوَّل عَمَلاً
فِي السِّلْعَةِ، كَأَنْ يُقَصِّرَهَا أَوْ يَرْفُوهَا أَوْ يَجْعَلَهَا
ثَوْبًا أَوْ يَخِيطَهَا، وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً، أَخْبَرَ
بِالْحَال عَلَى وَجْهِهِ، سَوَاءٌ عَمِل ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوِ
اسْتَأْجَرَ مَنْ عَمِل، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ
قَال: يُبَيِّنُ مَا اشْتَرَاهُ وَمَا لَزِمَهُ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُول:
تَحَصَّلَتْ عَلَيَّ بِكَذَا (2) .
تَعَيُّبُ الْمَبِيعِ أَوْ نَقْصُهُ
11 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَدَثَ بِالسِّلْعَةِ
عَيْبٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ
يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً يُنْظَرُ: إِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلَهُ
أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَقَال زُفَرُ: لاَ يَبِيعُهَا
مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ، وَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْل
أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ بِإِجْمَاعِ
الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى بَائِعِ الْمُرَابَحَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 78، والمهذب 1 / 295.
(2) المغني 4 / 201.
(3) بدائع الصنائع 5 / 223.
(36/325)
تَبْيِينُ مَا يُكْرَهُ فِي ذَاتِ
الْمَبِيعِ أَوْ وَصْفِهِ كَأَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ مُحَرَّقًا أَوِ
الْحَيَوَانُ مَقْطُوعَ عُضْوٍ وَتَغَيَّرَ الْوَصْفُ كَكَوْنِ الْعَبْدِ
يَأْبَقُ أَوْ يَسْرِقُ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يُكْرَهُ فِي ذَاتِ
الْمَبِيعِ أَوْ وَصْفِهِ كَانَ كَذِبًا أَوْ غِشًّا، فَإِنْ تَحَقَّقَ
عَدَمُ كَرَاهَتِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْبَيَانُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَلْزَمُ الْبَائِعَ أَنْ يَصْدُقَ فِي بَيَانِ
الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ تُنْقِصُ الْقِيمَةَ
أَوِ الْعَيْنَ، لأَِنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، وَلأَِنَّ
الْحَادِثَ يَنْقُصُ بِهِ الْمَبِيعُ، وَلاَ يَكْفِي فِيهِ تَبْيِينُ
الْعَيْبِ فَقَطْ لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الشِّرَاءِ
وَأَنَّ الثَّمَنَ الْمَبْذُول كَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَعَ الْعَيْبِ،
وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَيْبٌ قَدِيمٌ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ
أَوْ رَضِيَ بِهِ وَجَبَ بَيَانُهُ أَيْضًا، وَلَوْ أَخَذَ أَرْشَ عَيْبٍ
وَبَاعَ بِلَفْظِ: قَامَ عَلَيَّ حَطَّ الأَْرْشَ، أَوْ بِلَفْظِ: مَا
اشْتَرَيْتُ، ذَكَرَ صُورَةَ مَا جَرَى بِهِ الْعَقْدُ مَعَ الْعَيْبِ
وَأَخْذِ الأَْرْشِ، لأَِنَّ الأَْرْشَ الْمَأْخُوذَ جُزْءٌ مِنَ
الثَّمَنِ، وَإِنْ أَخَذَ الأَْرْشَ عَنْ جِنَايَةٍ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ
الْمَبِيعِ، وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ وَنَقَصَ ثَلاَثِينَ، وَأَخَذَ مِنَ
الْجَانِي نِصْفَ الْقِيمَةِ خَمْسِينَ، فَالْمَحْطُوطُ مِنَ الثَّمَنِ
الأَْقَل مِنْ أَرْشِ النَّقْصِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ إِنْ بَاعَ بِلَفْظِ:
قَامَ عَلَيَّ، وَإِنْ كَانَ نَقْصُ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ مِنَ الأَْرْشِ
كَسِتِّينَ حَطَّ مَا أَخَذَ
__________
(1) الدسوقي 3 / 164.
(36/326)
مِنَ الثَّمَنِ ثُمَّ أَخْبَرَ مَعَ
إِخْبَارِهِ بِقِيَامِهِ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ
بَاعَ بِلَفْظِ: مَا اشْتَرَيْتُ ذَكَرَ الثَّمَنَ وَالْجِنَايَةَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَغَيَّرَتِ السِّلْعَةُ بِنَقْصٍ كَمَرَضٍ
أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ تَلَفِ بَعْضِهَا أَوْ بِوِلاَدَةٍ أَوْ عَيْبٍ، أَوْ
أَخَذَ الْمُشْتَرِي بَعْضَهَا كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ الْمَوْجُودِ
وَنَحْوِهِ، أَخْبَرَ بِالْحَال عَلَى وَجْهِهِ، بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ
أَخَذَ أَرْشَ الْعَيْبِ أَوِ الْجِنَايَةِ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى
وَجْهِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي لأَِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الصِّدْقِ
وَنَفْيِ التَّغْرِيرِ بِالْمُشْتَرِي وَالتَّدْلِيسِ عَلَيْهِ، وَقَال
أَبُو الْخَطَّابِ: يَحُطُّ أَرْشَ الْعَيْبِ مِنَ الثَّمَنِ، وَيُخْبِرُ
بِالْبَاقِي: لأَِنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ عِوَضُ مَا فَاتَ بِهِ، فَكَانَ
ثَمَنُ الْمَوْجُودِ هُوَ مَا بَقِيَ، وَفِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَحُطُّهُ مِنَ الثَّمَنِ كَأَرْشِ الْعَيْبِ،
وَالثَّانِي: لاَ يَحُطُّهُ كَالنَّمَاءِ (2) .
تَعَدُّدُ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ:
12 - إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ مَثَلاً، ثُمَّ بَاعَهُ
بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ، أَخْبَرَ عِنْدَ بَيْعِهِ
ثَانِيَةً مُرَابَحَةً أَنَّهُ بِعَشَرَةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ (أَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) لأَِنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَيْسَ
فِيهِ تُهْمَةٌ وَلاَ تَغْرِيرٌ بِالْمُشْتَرِي، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ
يَرْبَحْ فِيهِ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 79.
(2) المغني 4 / 201.
(36/326)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً إِلاَّ
أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَهُ، أَوْ يُخْبِرَ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ عَلَيْهِ
خَمْسَةٌ وَيَقُول: قَامَ عَلَيَّ بِخَمْسَةٍ، لأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ
تُضَمُّ فِيهَا الْعُقُودُ، فَيُخْبِرُ بِمَا تَقُومُ عَلَيْهِ، كَمَا
تُضَمُّ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ (1) .
ظُهُورُ الْخِيَانَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ
13 - إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي الْمُرَابَحَةِ بِإِقْرَارِ
الْبَائِعِ فِي عَقْدِ الْمُرَابَحَةِ، أَوْ بِبُرْهَانٍ عَلَيْهَا أَوْ
بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ، فَإِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ
أَوْ فِي قَدْرِهِ.
فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً،
ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل، وَلَمْ يُبَيِّنْ
أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً، ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ
الْخِيَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ،
وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، لأَِنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى
الأَْمَانَةِ، إِذْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ عَلَى أَمَانَةِ
الْبَائِعِ فِي الإِْخْبَارِ عَنِ الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَكَانَتْ
صِيَانَةُ الْبَيْعِ الثَّانِي عَنِ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلاَلَةً،
فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْخِيَارُ، كَمَا فِي حَالَةِ
عَدَمِ تَحَقُّقِ سَلاَمَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ.
__________
(1) فتح القدير 6 / 501 - ط. بيروت، والمهذب 1 / 296 - ط. ثالثة، والمغني 4
/ 205 - ط. الرياض، ومواهب الجليل للحطاب والمواق بهامشه 4 / 493.
(2) بدائع الصنائع 7 / 3206 - ط. الإمام، وفتح القدير 6 / 507.
(36/327)
وَكَذَا إِذَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ
الشَّيْءَ الْمَبِيعَ كَانَ بَدَل صُلْحٍ فَلِلْمُشْتَرِي الثَّانِي
الْخِيَارُ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي
الْمُرَابَحَةِ، بِأَنْ قَال: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ، وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ
كَذَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ، فَقَال أَبُو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ
بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ
يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنَ
الثَّمَنِ، فَلاَ يَلْزَمُ بِدُونِهِ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ،
لِوُجُودِ الْخِيَانَةِ، كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ
سَلاَمَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ
الْخِيَانَةِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ جُزْءٌ
مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ، لأَِنَّ الثَّمَنَ الأَْوَّل
أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ
تَبَيَّنَ أَنَّ تَسْمِيَةَ قَدْرِ الْخِيَانَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَتَلْغُو
التَّسْمِيَةُ فِي قَدْرِ الْخِيَانَةِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ لاَزِمًا
بِالثَّمَنِ الْبَاقِي (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَذَبَ الْبَائِعُ بِالزِّيَادَةِ فِي
الثَّمَنِ، لَزِمَ الْمُبْتَاعَ الشِّرَاءُ إِنْ حَطَّهُ الْبَائِعُ عَنْهُ
وَحَطَّ رِبْحَهُ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَحُطَّهُ وَرِبْحَهُ عَنْهُ،
خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَالرَّدِّ (2) .
__________
(1) المبسوط 13 / 86، وبدائع الصنائع 7 / 3206 - ط. الإمام وما بعدها - ط.
أولى، وفتح القدير 5 / 256، والدر المختار 4 / 163.
(2) الشرح الصغير 3 / 224.
(36/327)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلْيَصْدُقِ
الْبَائِعُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَالأَْجَل وَالشِّرَاءِ بِالْعَرَضِ
وَبَيَانِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، فَلَوْ قَال: بِمِائَةٍ، فَبَانَ
بِتِسْعِينَ، فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ يَحُطُّ الزِّيَادَةَ وَرِبْحَهَا
وَأَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِالإِْخْبَارِ بِخِلاَفِ
الْوَاقِعِ فِي الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ
قَبُول الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وَفَسْخِ الْعَقْدِ، أَيْ
يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ وَالرَّدِّ،
لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَل عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الْتِزَامِهِ فَلَمْ
يَلْزَمْهُ كَالْمَعِيبِ، أَمَّا الإِْخْبَارُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ
الْمَال فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالزِّيَادَةِ
وَحَطِّهَا مِنَ الرِّبْحِ (2) .
الْبَيْعُ مُرَابَحَةً لِلآْمِرِ بِالشِّرَاءِ
- نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ: إِذَا أَرَى الرَّجُل الرَّجُل
السِّلْعَةَ، فَقَال: اشْتَرِ هَذِهِ، وَأُرْبِحُكَ فِيهَا كَذَا،
فَاشْتَرَاهَا الرَّجُل، فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ وَالَّذِي قَال: أُرْبِحُكَ
فِيهَا بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَحْدَثَ فِيهَا بَيْعًا، وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَهُ.
وَهَكَذَا إِنْ قَال: اشْتَرِ لِي مَتَاعًا وَوَصَفَهُ لَهُ، أَوْ مَتَاعًا
أَيَّ مَتَاعٍ شِئْتَ، وَأَنَا أُرْبِحُكَ فِيهِ، فَكُل هَذَا سَوَاءٌ،
يَجُوزُ الْبَيْعُ الأَْوَّل، وَيَكُونُ فِيمَا أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ
بِالْخِيَارِ، وَسَوَاءٌ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 79.
(2) المغني 4 / 198 وما بعدها 206.
(36/328)
فِي هَذَا مَا وَصَفَ، إِنْ كَانَ قَال:
ابْتَعْهُ وَأَشْتَرِيهِ مِنْكَ بِنَقْدٍ أَوْ دَيْنٍ، يَجُوزُ الْبَيْعُ
الأَْوَّل، وَيَكُونُ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الآْخَرِ، فَإِنْ
جَدَّدَاهُ جَازَ.
وَإِنْ تَبَايَعَا بِهِ عَلَى أَنْ أَلْزَمَا أَنْفُسَهُمَا الأَْمْرَ
الأَْوَّل، فَهُوَ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَل شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ
تَبَايَعَاهُ قَبْل تَمَلُّكِ الْبَائِعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى مَخَاطِرِهِ أَنَّكَ إِذَا اشْتَرَيْتَهُ عَلَى
كَذَا، أُرْبِحُكَ فِيهِ كَذَا (1) .
وَهَذَا مُصَرَّحٌ بِهِ أَيْضًا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَالُوا:
مِنَ الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ: أَنْ يَقُول: أَعِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا
تَبِيعُهُ مِنِّي بِدَيْنٍ؟ فَيَقُول: لاَ، فَيَقُول: ابْتَعْ ذَلِكَ،
وَأَنَا أَبْتَاعُهُ مِنْكَ بِدَيْنٍ، وَأُرْبِحُكَ فِيهِ، فَيَشْتَرِي
ذَلِكَ، ثُمَّ يَبِيعُهُ مِنْهُ عَلَى مَا تَوَاعَدَا عَلَيْهِ (2) .
مُرَابَطَةٌ
انْظُرْ: جِهَادٌ
__________
(1) الأم 3 / 33، طبعة مصورة عن بولاق 1321 هـ. الدار المصرية للتأليف
والترجمة.
(2) مواهب الجليل للحطاب 4 / 404 - ط دار الفكر - بيروت، والبيان والتحصيل
لابن رشد الجد 7 / 86 - 89.
(36/328)
مُرَاجَعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُرَاجَعَةُ فِي اللُّغَةِ لَهَا عِدَّةُ مَعَانٍ، مِنْهَا أَنَّهَا
تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا: مُرَاجَعَةُ الرَّجُل أَهْلَهُ بَعْدَ
الطَّلاَقِ، وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهَا: الْمُعَاوَدَةُ فِي الْكَلاَمِ
(1) .
وَالْمُرَاجَعَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، أَشْهَرُهَا
وَأَهَمُّهَا: اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ وَعَوْدَةِ الزَّوْجَةِ
الْمُطَلَّقَةِ لِلْعِصْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ، أَوْ رَدِّ
الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلاَقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ
(2) ، وَمِنْهَا: مُعَاوَدَةُ النَّظَرِ فِي الأَْمْرِ، وَمِنْهَا:
مُرَاجَعَةُ الْمُفْلِسِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْمُرَاجَعَةِ بِاخْتِلاَفِ
مُتَعَلَّقِهَا:
مُرَاجَعَةُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ:
2 - الأَْصْل فِي مُرَاجَعَةِ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ طَلاَقًا
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) بدائع الصنائع 3 / 181، والبناية على الهداية 4 / 591، والخرشي 4 / 79،
ومغني المحتاج 3 / 335، وكشاف القناع 5 / 341.
(36/329)
رَجْعِيًّا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ
أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَهِيَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا
إِصْلاَحًا} .
وَتَكُونُ الْمُرَاجَعَةُ وَاجِبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً
فِي حَالَةِ حَيْضٍ.
وَتُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (رَجْعَةٌ ف4 وَمَا بَعْدَهَا) .
الْمُرَاجَعَةُ بِمَعْنَى مُعَاوَدَةِ النَّظَرِ فِي الأَْمْرِ
3 - جَاءَ فِي حَدِيثِ فَرْضِ الصَّلاَةِ لَيْلَةَ الإِْسْرَاءِ
وَالْمِعْرَاجِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً فَرَاجَعْتُ بِذَلِكَ
حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَال: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى
أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً، قَال: فَارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعَنِي فَوَضَعَ
شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَال:
رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ
شَطْرَهَا (1) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ: فَفِي
الْمُرَاجَعَةِ الأُْولَى وَضَعَ خَمْسًا
__________
(1) حديث: " فرض الله على أمتي خمسين صلاة. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 1 / 459) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(36/329)
وَعِشْرِينَ، ثُمَّ قَال: وَدَلَّتْ
مُرَاجَعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ فِي طَلَبِ
التَّخْفِيفِ تِلْكَ الْمَرَّاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الأَْمْرَ
فِي كُل مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ بِخِلاَفِ
الْمَرَّةِ الأَْخِيرَةِ فَفِيهَا مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ (1) لِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا يُبَدَّل الْقَوْل لَدَيَّ} .
مُرَاجَعَةُ الْمُفْلِسِ
4 - قَال الشَّرْقَاوِيُّ: إِنْ أَقَرَّ الْمُفْلِسُ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ
جِنَايَةٍ قُبِل مُطْلَقًا، أَوْ بِدَيْنِ مُعَامَلَةٍ فَإِنْ أَسْنَدَ
وُجُوبَهُ لِمَا قَبْل الْحَجْرِ قُبِل أَيْضًا، أَوْ لِمَا بَعْدَهُ
وَقَيَّدَهُ بِمُعَامَلَةٍ كَمَا هُوَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يُقْبَل
فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ، أَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِمُعَامَلَةٍ وَلاَ
غَيْرِهَا رُوجِعَ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْوُجُوبَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ
بِمُعَامَلَةٍ وَلاَ جِنَايَةٍ وَلاَ بِمَا قَبْل الْحَجْرِ وَلاَ بِمَا
بَعْدَهُ رُوجِعَ أَيْضًا، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَتُهُ لَمْ يُقْبَل
(2) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 1 / 462 - 463.
(2) حاشية الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 137.
(36/330)
|