الموسوعة الفقهية الكويتية

مَرْحَلَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَرْحَلَةُ وَاحِدَةُ الْمَرَاحِل: وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْمَسَافَةُ الَّتِي يَقْطَعُهَا الْمُسَافِرُ فِي نَحْوِ يَوْمٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: سَيْرُ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ بِسَيْرِ الأَْثْقَال وَقَيَّدَ الْجُمْهُورُ الْيَوْمَ أَوِ اللَّيْلَةَ بِالاِعْتِدَال أَيْ أَلاَّ يَكُونَ مِنَ الأَْيَّامِ أَوِ اللَّيَالِيِ الطَّوِيلَةِ أَوِ الْقَصِيرَةِ وَيُعْتَبَرُ مَعَ الاِعْتِدَال زَمَنَ صَلاَةٍ وَأَكْلٍ وَنَحْوِهِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْيَوْمَ أَوِ اللَّيْلَةَ بِأَنَّهُمَا مِنْ أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَبِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ مَعَ الاِسْتِرَاحَةِ الْمُعْتَادَةِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَرِيدُ:
2 - الْبَرِيدُ فِي أَصْل اللُّغَةِ: الرَّسُول، وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَبِ: الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ: أَيْ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 1 / 266، المحلي شرح المنهاج 1 / 259، وحاشية ابن عابدين 1 / 526، 527، والشرح الصغير 1 / 651، وكشاف القناع 1 / 504، وشرح منتهى الإرادات 1 / 275.

(36/346)


رَسُولُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْطَعُهَا الْمُسَافِرُ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مِيلاً.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلاَثَةُ أَمْيَالٍ (1) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَرْحَلَةِ وَالْبَرِيدِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تُقَدَّرُ بِهِ الْمَسَافَاتُ فِي الشَّرْعِ.

ب - الْمِيل:
3 - مِنْ مَعَانِي الْمِيل عِنْدَ الْعَرَبِ: أَنَّهُ مِقْدَارُ مَدَى الْبَصَرِ مِنَ الأَْرْضِ، وَهُوَ عِنْدَ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَهْل الْهَيْئَةِ ثَلاَثَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ، وَعِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَرْبَعَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ.
وَالْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ لأَِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِقْدَارَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ أَلْفَ أُصْبُعٍ وَالإِْصْبَعُ سِتُّ شُعَيْرَاتٍ، وَلَكِنَّ الْقُدَمَاءَ يَقُولُونَ: الذِّرَاعُ اثْنَتَانِ وَثَلاَثُونَ إِصْبَعًا وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ: أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ إِصْبَعًا، فَإِذَا قُسِّمَ الْمِيل عَلَى رَأْيِ الْقُدَمَاءِ كَانَ الْمُتَحَصِّل ثَلاَثَةَ آلاَفِ ذِرَاعٍ، وَإِنْ قُسِّمَ عَلَى رَأْيِ الْمُحْدَثِينَ كَانَ الْمُتَحَصِّل أَرْبَعَةَ آلاَفِ ذِرَاعٍ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمِيل سِتَّةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمِيل أَرْبَعَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمِيل ثَلاَثَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ وَخَمْسُمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، والشرح الصغير 1 / 474.
(2) المصباح المنير ورد المحتار 1 / 527، والشرح الصغير 1 / 474، ومغني المحتاج 1 / 266، وكشاف القناع 1 / 504.

(36/347)


وَالصِّلَةُ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَرْحَلَةِ وَالْمِيل تُقَدَّرُ بِهِ الْمَسَافَاتُ فِي الشَّرْعِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَرْحَلَةِ:
اعْتَبَرَ الشَّارِعُ الْمَرْحَلَةَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:

أ - قِصَرُ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ 4 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ فِي الأَْرْضِ: السَّفَرُ، وَهُوَ قَطْعُ مَسَافَةٍ مِنَ الأَْرْضِ (1) ، وَلَيْسَ فِي الآْيَةِ قَدْرُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَلْزَمُ قَطْعُهَا لِيَقْصُرَ مِنَ الصَّلاَةِ.
وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ قَدَّرُوهَا بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ بِأَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلاً اسْتِنَادًا إِلَى بَعْضِ الآْثَارِ، وَبِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ بِمَرْحَلَتَيْنِ: وَهُمَا سَيْرُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ بِلاَ لَيْلَةٍ، أَوْ لَيْلَتَيْنِ بِلاَ يَوْمٍ مُعْتَدِلَيْنِ أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَذَلِكَ بِسَيْرِ الأَْثْقَال: أَيِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُثْقَلَةِ بِالأَْحْمَال، وَدَبِيبِ الأَْقْدَامِ عَلَى الْعَادَةِ الْمُعْتَادَةِ مِنَ النُّزُول وَالاِسْتِرَاحَةِ وَالأَْكْل وَالصَّلاَةِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 1 / 266، والمحلي شرح المنهاج 1 / 259، والشرح الصغير 1 / 475، والخرشي 1 / 56 - 57، وحاشية الزرقاني 2 / 38، والمغني 2 / 256.

(36/347)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَقَل مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَقَال: السَّرَخْسِيُّ: قَدَّرَهَا بَعْضُ مَشَائِخِنَا بِثَلاَثِ مَرَاحِل، لأَِنَّ الْمُعْتَادَ فِي السَّفَرِ فِي كُل يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ خُصُوصًا فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ أَقَل مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ بِيَوْمَيْنِ وَالأَْكْثَرُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَقَامَ الأَْكْثَرَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الْكَمَال، وَقَال السَّرَخْسِيُّ: وَلاَ مَعْنَى بِالتَّقْدِيرِ بِالْفَرَاسِخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الطُّرُقِ فِي السُّهُول وَالْجِبَال، وَالْبَحْرِ وَالْبَرِّ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ بِالأَْيَّامِ وَالْمَرَاحِل، لأَِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ ف 11) .

ب - غَيْبَةُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ
5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ لِلْمَرْأَةِ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ وَلاَ وَكِيل لَهُ حَاضِرٌ بِالْبَلَدِ أَوْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، زَوَّجَهَا سُلْطَانُ بَلَدِهَا أَوْ نَائِبُهُ لاَ سُلْطَانُ غَيْرُ بَلَدِهَا وَلاَ الأَْبْعَدُ مِنَ الْعَصَبَةِ عَلَى الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْغَائِبَ وَلِيٌّ وَالتَّزْوِيجُ حَقٌّ لَهُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ نَابَ عَنْهُ الْحَاكِمُ (2) .
__________
(1) المبسوط 1 / 235 - 236.
(2) مغني المحتاج 3 / 157.

(36/348)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَيْبَةٌ ف 2) .

ج - جَوَازُ صَرْفِ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ
6 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ بِمَسَافَةِ مَرْحَلَتَيْنِ، وَلَهُ أَخْذُهَا حَتَّى يَصِل إِلَى مَالِهِ، لأَِنَّهُ قَبْل ذَلِكَ مُعْسِرٌ (1) .
(ر: فَقِيرٌ ف 4) .

د - اشْتِرَاطُ وُجُودِ الرَّاحِلَةِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ
7 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْحَجِّ وُجُودَ الرَّاحِلَةِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ فَأَكْثَرُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ رَاحِلَةً فَلاَ يَجِبُ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ، أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِالْمَشْيِ.
(ر: حَجٌّ ف 14) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 106.

(36/348)


مُرْسَلٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُرْسَل فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَرْسَل، وَمُجَرَّدُهُ رَسْلٌ، وَالرَّسَل - بِفَتْحَتَيْنِ - الْقَطِيعُ مِنَ الإِْبِل، وَالْجَمْعُ أَرْسَالٌ. وَأَرْسَلْتُ رَسُولاً: بَعَثْتُهُ بِرِسَالَةٍ يُؤَدِّيهَا، وَأَرْسَلْتُ الطَّائِرَ مِنْ يَدِي: أَطْلَقْتُهُ، وَتَرَاسَل الْقَوْمُ: أَرْسَل بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ رَسُولاً أَوْ رِسَالَةً (1) .
وَالْمُرْسَل: يَقْتَضِي إِطْلاَقَ غَيْرِهِ لَهُ، وَالرَّسُول: يَقْتَضِي إِطْلاَقَ لِسَانِهِ بِالرِّسَالَةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالْمُرْسَل عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ كَمَا جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثَّبُوتِ هُوَ قَوْل الْعَدْل: قَال عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَذَا، وَقَال صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: هَذَا اصْطِلاَحُ الأُْصُول، وَالأَْوْلَى أَنْ يُقَال: مَا رَوَاهُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 426.

(36/349)


الْعَدْل مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ لِيَشْمَل الْمُنْقَطِعَ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَهْل الْحَدِيثِ فَالْمُرْسَل قَوْل التَّابِعِيِّ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا. وَالْمُعْضَل مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنَ الرُّوَاةِ.
وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا.
وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مِنْ دُونِ التَّابِعِيِّ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ.
وَالْكُل دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَل عِنْدَ أَهْل الأُْصُول (1) .
وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْمُرْسَل وَيُرَادُ بِهِ: الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوَكِيل
2 - مِنْ مَعَانِي الْوَكِيل فِي اللُّغَةِ: الَّذِي يَقُومُ بِالأَْمْرِ، يُقَال: وَكِيل الرَّجُل الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِهِ، سُمِّيَ وَكِيلاً لأَِنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ وَكَّل إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِ وَالْوَكِيل عَلَى هَذَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ حَافِظٌ،
__________
(1) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 174.
(2) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى 2 / 266، وتهذيب الفروق 4 / 70.

(36/349)


وَمِنْهُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (1) .
وَالْوَكِيل اصْطِلاَحًا: الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ فِيمَا يَقْبَل النِّيَابَةَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَكِيل وَالْمُرْسَل أَنَّ الْوَكِيل قَدْ يَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْمُرْسَل.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيل وَالْمُرْسَل فَقَال: قَال فِي الْبَحْرِ: وَفِي الْمِعْرَاجِ قِيل: الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّسُول وَالْوَكِيل أَنَّ الْوَكِيل لاَ يُضِيفُ الْعَقْدَ إِلَى الْمُوَكِّل، وَالرَّسُول لاَ يَسْتَغْنِي عَنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُرْسِل.
وَفِي الْفَوَائِدِ: صُورَةُ التَّوْكِيل أَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي لِغَيْرِهِ: كُنْ وَكِيلاً فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، أَوْ وَكَّلْتُكَ بِقَبْضِهِ، وَصُورَةُ الرَّسُول: أَنْ يَقُول: كُنْ رَسُولاً عَنِّي فِي قَبْضِهِ أَوْ أَرْسَلْتُكَ لِتَقْبِضَهُ، أَوْ قُل لِفُلاَنٍ: أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَيْكَ، وَقِيل: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّسُول وَالْوَكِيل فِي فَصْل الأَْمْرِ بِأَنْ قَال: اقْبِضِ الْمَبِيعَ فَلاَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الرَّسُول لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى مُرْسِلِهِ لأَِنَّهُ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ، بِخِلاَفِ الْوَكِيل فَإِنَّهُ لاَ يُضِيفُ الْعَقْدَ إِلَى الْمُوَكِّل إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ (3) .
وَجَاءَ فِي الْمَبْسُوطِ: الرَّسُول لَيْسَ لَهُ إِلاَّ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب، وأسنى المطالب 2 / 260.
(2) المغرب في ترتيب المعرب، وانظر مغني المحتاج 2 / 217.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 399، وينظر البدائع 6 / 44، 34.

(36/350)


تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا إِتْمَامُ مَا أُرْسِل بِهِ لَيْسَ إِلَيْهِ كَالرَّسُول بِالْعَقْدِ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ (1) . وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْمُرْسَل وَالْوَكِيل الْمَخْصُوصِ، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُرْسَل وَالْوَكِيل الْمُفَوَّضِ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْسَل مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الْمُرْسَل مُرَادًا بِهِ الرَّسُول:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْسَل بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الأَْحْكَامِ، وَمِنْ ذَلِكَ:

أ - انْعِقَادُ التَّصَرُّفَاتِ:
3 - لَوْ أَرْسَل شَخْصٌ رَسُولاً إِلَى رَجُلٍ، وَقَال لِلرَّسُول: إِنِّي بِعْتُ دَابَّتِي هَذِهِ مِنْ فُلاَنٍ الْغَائِبِ بِكَذَا.
فَاذْهَبْ إِلَيْهِ وَقُل لَهُ: إِنَّ فُلاَنًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ، وَقَال لِي: قُل لَهُ: إِنِّي قَدْ بِعْتُ دَابَّتِي هَذِهِ مِنْ فُلاَنٍ بِكَذَا، فَذَهَبَ الرَّسُول وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، فَقَال الْمُشْتَرِي فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: قَبِلْتُ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ، لأَِنَّ الرَّسُول سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلاَمِ الْمُرْسِل، نَاقِلٌ كَلاَمَهُ إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ وَقَبِل الآْخَرُ فِي الْمَجْلِسِ فَانْعَقَدَ الْبَيْعُ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النِّهَايَةِ أَنَّ ذَلِكَ
__________
(1) المبسوط 13 / 73.
(2) الخرشي 6 / 72.

(36/350)


يَجْرِي أَيْضًا فِي الإِْجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْكِتَابَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِرْسَالٌ ف 9، بَيْعٌ ف 25) .

ب - الضَّمَانُ
4 - قَال الدَّرْدِيرُ: الرَّسُول إِنْ كَانَ رَسُول رَبِّ الْمَال فَالدَّافِعُ لَهُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ وَلَوْ مَاتَ قَبْل الْوُصُول، وَيَرْجِعُ الْكَلاَمُ بَيْنَ رَبِّ الْمَال وَوَرَثَةِ الرَّسُول، فَإِنْ مَاتَ قَبْل الْوُصُول رَجَعَ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ فَلاَ رُجُوعَ، وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُول رَسُول مَنْ عِنْدَهُ الْمَال فَلاَ يَبْرَأُ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلاَّ بِوُصُولِهِ لِرَبِّهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، فَإِنْ مَاتَ قَبْل الْوُصُول رَجَعَ مُرْسِلُهُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُول فَلاَ رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ عَلَى الْمُرْسِل.
قَال الدُّسُوقِيُّ: أَمَّا إِذَا لَمْ يَمُتِ الْمُرْسِل وَادَّعَى أَنَّهُ أَوْصَلَهَا لِلْمُرْسَل إِلَيْهِ، وَالْمُرْسَل إِلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، لَمْ يُصَدَّقِ الرَّسُول إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ (2) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ، فَأَرْسَل إِلَيْهِ رَسُولاً يَقْبِضُهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُول دِينَارًا فَضَاعَ الدِّينَارُ مَعَ الرَّسُول، فَالدِّينَارُ مِنْ مَال الْبَاعِثِ، وَهُوَ الْمَدِينُ فَيَضِيعُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْوَكِيل لَمْ يَأْمُرْهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 138، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 10.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 426، 427.

(36/351)


الْمُرْسِل بِمُصَارَفَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُول الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنِ الدَّرَاهِمِ، فَيَكُونُ الدِّينَارُ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُول لِتَغْرِيرِهِ الْغَرِيمَ (1) ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَالٌ ف 11، وَدِيعَةٌ) .

ثَانِيًا: الْمُرْسَل مُرَادًا بِهِ الْمُهْمَل وَالْمُسَيَّبُ
5 - إِذَا كَانَ الْمُرْسَل غَيْرَ إِنْسَانٍ، بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ صَيْدًا أَطْلَقَهُ صَاحِبُهُ وَسَيَّبَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَوَال مِلْكِ صَاحِبِهِ عَنْهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَائِبَةٌ ف 4 - 5) .

ثَالِثًا: الْمُرْسَل مِنَ الْحَدِيثِ
6 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُول الْحَدِيثِ الْمُرْسَل وَالْعَمَل بِهِ عَلَى أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَالٌ ف 3) .

رَابِعًا: الْمُرْسَل مُرَادًا بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ
7 - ذَهَبَ الأُْصُولِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي الْقِيَاسِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ لَهُ، وَقِسْمٌ عُلِمَ إِلْغَاؤُهُ لَهُ، وَقِسْمٌ لاَ يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ أَوْ إِلْغَاؤُهُ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ مَا جُهِل حَالُهُ أَيْ: سَكَتَ الشَّارِعُ عَنِ اعْتِبَارِهِ وَإِهْدَارِهِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَيُلَقَّبُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 489 - 490.

(36/351)


بِالاِسْتِدْلاَل الْمُرْسَل، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مُرْسَلَةً أَيْ: لَمْ تُعْتَبَرْ وَلَمْ تَلْغُ، وَأَطْلَقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهِ اسْمَ الاِسْتِدْلاَل، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْخُوَارِزْمِيُّ بِالاِسْتِصْلاَحِ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ.
أ - مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْل الأَْكْثَرِينَ:
ب - الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَحْكِيُّ مِنْ مَالِكٍ.
ج - إِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ مُلاَئِمَةً لأَِصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُول الشَّرْعِ أَوْ لأَِصْلٍ جُزْئِيٍّ جَازَ بِنَاءُ الأَْحْكَامِ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ.
د - اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ تَخْصِيصُ الاِعْتِبَارِ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً، فَإِنْ فَاتَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ لَمْ يُعْتَبَرْ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

خَامِسًا: الْمُرْسَل مُرَادًا بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ رُسُل اللَّهِ تَعَالَى
8 - الْمُرْسَل مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُطْلَقُ عَلَى الْبَشَرِ الْمُرْسَلِينَ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَلاَئِكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِلَى الرُّسُل مِنَ الْبَشَرِ، قَال تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
__________
(1) البحر المحيط 6 / 76 - 78.

(36/352)


وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُول مِنْ قِبَل اللَّهِ تَعَالَى تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَسُولٌ ف 1، 2 وَمَا بَعْدَهَا) .

(36/352)


مَرَضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَرَضُ فِي اللُّغَةِ: السَّقَمُ، نَقِيضُ الصِّحَّةِ يَكُونُ لِلإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
وَالْمَرَضُ أَيْضًا: حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْل، قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: أَصْل الْمَرَضِ النُّقْصَانُ (1) .
وَقَال الْفَيْرُوزُ آبَادِي: الْمَرَضُ إِظْلاَمُ الطَّبِيعَةِ وَاضْطِرَابُهَا بَعْدَ صَفَائِهَا وَاعْتِدَالِهَا.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: حَالَةٌ غَيْرُ طَبِيعِيَّةٍ فِي بَدَنِ الإِْنْسَانِ تَكُونُ بِسَبَبِهَا الأَْفْعَال الطَّبِيعِيَّةُ وَالنَّفْسَانِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ غَيْرَ سَلِيمَةٍ.
وَقِيل: الْمَرَضُ مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الاِعْتِدَال الْخَاصِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصِّحَّةُ
2 - الصِّحَّةُ فِي الْبَدَنِ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تُجْرَى الأَْفْعَال مَعَهَا عَلَى الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَرَجُلٌ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) المصباح المنير، والتعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.

(36/353)


صَحِيحُ الْجَسَدِ خِلاَفُ مَرِيضٍ، وَجَمْعُهُ أَصِحَّاءُ.
وَالصِّحَّةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَوْنُ الْفِعْل مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوْ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ ثَمَرَاتِهِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَيْهِ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَبِإِزَائِهِ الْبُطْلاَنُ (1) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ الضِّدِّيَّةُ.

ب - مَرَضُ الْمَوْتِ
3 - مَرَضُ الْمَوْتِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ: مَرَضٌ وَمَوْتٌ.
أَمَّا الْمَرَضُ فَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَالْمَوْتُ: هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ مَرَضِ الْمَوْتِ اصْطِلاَحًا، وَلَكِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَرَضُ مَخُوفًا: أَيْ يَغْلِبُ الْهَلاَكُ مِنْهُ عَادَةً أَوْ يَكْثُرُ، وَأَنْ يَتَّصِل الْمَرَضُ بِالْمَوْتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْمَوْتُ بِسَبَبِهِ أَمْ بِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجِيٍّ عَنِ الْمَرَضِ كَقَتْلٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (3) .
وَعِلاَقَةُ الْمَرَضِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، إِذْ مَرَضُ الْمَوْتِ مَرَضٌ وَلَيْسَ الْعَكْسُ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) نهاية المحتاج 2 / 423 ط المكتبة الإسلامية.
(3) الجمل 4 / 53 ط. دار إحياء التراث العربي، والزيلعي 2 / 248 ط. دار المعرفة.

(36/353)


ج - التَّدَاوِي
4 - التَّدَاوِي لُغَةً: مَصْدَرُ تَدَاوَى أَيْ: تَعَاطَى الدَّوَاءَ، وَأَصْلُهُ دَوَى يُدْوِي دَوِيًّا أَيْ مَرِضَ، وَأَدْوَى فُلاَنًا يُدْوِيهِ بِمَعْنَى: أَمْرَضَهُ، وَبِمَعْنَى عَالَجَهُ أَيْضًا، فَهِيَ مِنَ الأَْضْدَادِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ التَّدَاوِي عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ التَّدَاوِي قَدْ يَكُونُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبًا لِلشِّفَاءِ وَزَوَال الْمَرَضِ.

أَقْسَامُ الْمَرَضِ
5 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الأَْمْرَاضُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَرَضٌ غَيْرُ مَخُوفٍ مِثْل: وَجَعِ الْعَيْنِ، وَالضِّرْسِ وَالصُّدَاعِ الْيَسِيرِ، وَحُمَّى سَاعَةٍ، فَهَذَا حُكْمُ صَاحِبِهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ لأَِنَّهُ لاَ يُخَافُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الأَْمْرَاضُ الْمُمْتَدَّةُ كَالْجُذَامِ وَحُمَّى الرِّبْعِ - وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ يَوْمًا وَتَذْهَبُ يَوْمَيْنِ وَتَعُودُ فِي الرَّابِعِ (3) - وَالْفَالِجُ فِي انْتِهَائِهِ، وَالسُّل فِي ابْتِدَائِهِ، وَالْحُمَّى الْغِبُّ،
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 391 وما بعدها ط. بولاق، والفواكه الدواني 2 / 439 وما بعدها ط. مصطفى البابي الحلبي، وحاشية العدوي 2 / 391 وما بعدها ط. الحلبي، وروضة الطالبين 2 / 96، وكشاف القناع 2 / 76.
(3) كشاف القناع 4 / 224.

(36/354)


فَهَذَا الْقِسْمُ: إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَعَطَايَاهُ كَالصَّحِيحِ مِنْ جَمِيعِ الْمَال، وَإِنْ أَضْنَى صَاحِبُهَا عَلَى فِرَاشِهِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَبَهْ يَقُول الأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لأَِنَّهُ مَرِيضٌ صَاحِبُ فِرَاشٍ يَخْشَى التَّلَفَ فَأَشْبَهَ صَاحِبَ الْحُمَّى الدَّائِمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي صَاحِبِ الأَْمْرَاضِ الْمُمْتَدَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ عَطِيَّتَهُ مِنْ صُلْبِ الْمَال، لأَِنَّهُ لاَ يُخَافُ تَعْجِيل الْمَوْتِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَبْرَأُ، فَهُوَ كَالْهَرَمِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَرَضٌ مَخُوفٌ يُتَحَقَّقُ تَعْجِيل الْمَوْتِ بِسَبَبِهِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ قَدِ اخْتَل مِثْل مَنْ ذَبَحَ أَوْ أُبِينَتْ حَشْوَتُهُ، فَهَذَا كَمَيِّتٍ لاَ حُكْمَ لِكَلاَمِهِ وَلاَ لِعَطِيَّتِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَبْقَى لَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتَ الْعَقْل كَمَنْ خُرِقَتْ حَشْوَتُهُ أَوِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَلَكِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَقْلُهُ صَحَّ تَصَرُّفُهُ وَتَبَرُّعُهُ، وَكَانَ تَبَرُّعُهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ عَمَّرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَتْ حَشْوَتُهُ فَقُبِلَتْ وَصِيَّتُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ ضَرْبِ ابْنِ مُلْجِمٍ أَوْصَى وَأَمَرَ وَنَهَى فَلَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلاَنِ قَوْلِهِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَرَضٌ مَخُوفٌ لاَ يُتَعَجَّل مَوْتُ صَاحِبِهِ يَقِينًا لَكِنَّهُ يُخَافُ ذَلِكَ كَالْبِرْسَامِ - هُوَ

(36/354)


بُخَارٌ يَرْتَقِي إِلَى الرَّأْسِ، وَيُؤَثِّرُ فِي الدِّمَاغِ، فَيَخْتَل عَقْل صَاحِبِهِ (1) - وَوَجَعُ الْقَلْبِ وَالرِّئَةِ وَأَمْثَالِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَسْكُنُ حَرَكَتُهَا، فَلاَ يَنْدَمِل جُرْحُهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا مَخُوفَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا حُمَّى أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَأَمَّا مَا أَشْكَل أَمْرُهُ فَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْل أَهْل الْمَعْرِفَةِ، وَهُمُ الأَْطِبَّاءُ، لأَِنَّهُمْ أَهْل الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلاَ يُقْبَل إِلاَّ قَوْل طَبِيبَيْنِ، مُسْلِمَيْنِ، ثِقَتَيْنِ، بَالِغَيْنِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَأَهْل الْعَطَايَا فَلَمْ يُقْبَل فِيهِ إِلاَّ ذَلِكَ (2) .
وَخُلاَصَةُ الْقَوْل: أَنَّ الْمَرَضَ الْمَخُوفَ بِأَنْوَاعِهِ إِنِ اتَّصَل بِهِ الْمَوْتُ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَّصِل بِهِ الْمَوْتُ، بِأَنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ، لأَِنَّهُ لَمَّا صَحَّ بَعْدَ الْمَرَضِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ (3) .
وَلِتَفْصِيل الأَْحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَرَضِ
__________
(1) المغني 6 / 285.
(2) المغني 6 / 84 وما بعدها ط. الرياض.
(3) ابن عابدين 2 / 520 ط. بولاق، وبدائع الصنائع 2 / 224 ط. الدار العربية للكتاب، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 82 - ط. دار ومكتبة الهلال، ومواهب الجليل 5 / 78 ط. دار الفكر، والجمل 4 / 53، والمغني 6 / 84 وما بعدها.

(36/355)


الْمَوْتِ، وَالْحَالاَتِ الَّتِي تَلْحَقُ بِهِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (مَرَضُ الْمَوْتِ) .

أَحْكَامُ الْمَرَضِ:
الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَرَضِ
6 - الأَْصْل أَنَّ الْمَرَضَ لاَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْحُكْمِ - أَيْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَوُجُوبَهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ - سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوِ الْعِبَادِ، وَلاَ أَهْلِيَّةَ الْعِبَارَةِ - أَيِ: التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُكْمِ - إِذْ لاَ خَلَل فِي الذِّمَّةِ وَالْعَقْل اللَّذَيْنِ هُمَا مَنَاطُ الأَْحْكَامِ، وَلِهَذَا صَحَّ نِكَاحُ الْمَرِيضِ وَطَلاَقُهُ وَإِسْلاَمُهُ، وَانْعَقَدَتْ تَصَرُّفَاتُهُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَمَا سَيَأْتِي - إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْعَجْزِ شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ، وَأُخِّرَ مَا لاَ قُدْرَةَ عَلَيْهِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ (1) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

أَوَّلاً: جَوَازُ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِلْمَرَضِ
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا تَيَقَّنَ التَّلَفَ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَوْفِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَيَمُّمٌ ف 21 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 174 ط. دار صادر، وكشف الأسرار 4 / 307 ط. دار الكتاب العربي، وقرة عيون الأخيار 2 / 127، والتلويح على التوضيح 2 / 177 ط مكتبة. محمد علي صبيح.

(36/355)


ثَانِيًا: الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِشُرُوطِهَا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَيْفِيَّةُ تَطَهُّرِ وَاضِعِ الْجَبِيرَةِ وَمَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي مُصْطَلَحِ (جَبِيرَةٌ ف 4 - 8) .

ثَالِثًا: كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الْمَرِيضِ وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ
9 - الأَْصْل فِي الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لِمَرَضٍ صَلَّى قَائِمًا مُسْتَنِدًا، ثُمَّ جَالِسًا مُسْتَقْبِلاً، ثُمَّ جَالِسًا مُسْتَنِدًا، ثُمَّ مُضْطَجِعًا عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْمَنِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ بِرِجْلَيْهِ، ثُمَّ مُضْطَجِعًا عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْسَرِ، وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الاِضْطِجَاعِ وَالاِسْتِلْقَاءِ.
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ وَكَانَ عَقْلُهُ ثَابِتًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَنْوِي الصَّلاَةَ بِقَلْبِهِ مَعَ الإِْيمَاءِ بِطَرْفِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) ، وَلِوُجُودِ مَنَاطِ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ الْعَقْل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251) ومسلم (2 / 975) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(36/356)


الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الإِْيمَاءُ بِرَأْسِهِ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلاَةُ لأَِنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْل لاَ يَكْفِي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.
وَقَال - زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الإِْيمَاءُ بِرَأْسِهِ يُومِئُ بِحَاجِبَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِعَيْنَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ سُقُوطَ الصَّلاَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَل وَهُوَ يَعْقِل فَلاَ تَسْقُطُ بَل تُقْضَى إِذَا صَحَّ اتِّفَاقًا، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّلاَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ حَتَّى لاَ يَلْزَمَهُ الإِْيصَاءُ بِهَا، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَفْطَرَ وَمَاتَ قَبْل الإِْقَامَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الْمَرِيضِ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَالسَّجَدَاتِ بِأَنْ وَصَل إِلَى حَالٍ لاَ يُمْكِنُهُ ضَبْطُ ذَلِكَ، فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الأَْدَاءُ، وَلَوْ أَدَّاهَا بِتَلْقِينِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَهُ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَرِيضَ يَفْعَل فِي
__________
(1) ابن عابدين 2 / 508 وما بعدها ط. بولاق، والخانية على هامش الفتاوى الهندية 1 / 172، والقوانين الفقهية / 63، 64 ط الدار العربية للكتاب، والوجيز 1 / 42، وأسنى المطالب 1 / 148، والمغني2 / 149، والإنصاف 2 / 308، 309 ط. دار إحياء التراث العربي، ومطالب أولي النهى 1 / 706.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 510، 511.

(36/356)


صَلاَتِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّشَهُّدِ مَا يَفْعَلُهُ الصَّحِيحُ، لأَِنَّ مُفَارَقَةَ الْمَرِيضِ الصَّحِيحَ فِيمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَأَمَّا فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ (1) .
وَإِنْ قَضَى الْمَرِيضُ فَوَائِتَ الصِّحَّةِ فِي الْمَرَضِ، قَضَاهَا كَمَا قَدَرَ قَاعِدًا أَوْ مُومِئًا.
وَإِنْ صَلَّى قَبْل الْوَقْتِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا مَخَافَةَ أَنْ يَشْغَلَهُ الْمَرَضُ عَنِ الصَّلاَةِ إِذَا حَانَ الْوَقْتُ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ (2) .
وَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ عَلَى فِرَاشٍ نَجِسٍ إِنْ كَانَ لاَ يَجِدُ فِرَاشًا طَاهِرًا، أَوْ يَجِدُهُ لَكِنْ لاَ يَجِدُ أَحَدًا يُحَوِّلُهُ إِلَى فِرَاشٍ طَاهِرٍ، يُصَلِّي عَلَى الْفِرَاشِ النَّجِسِ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ أَحَدًا يُحَوِّلُهُ، يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ، وَصَلَّى عَلَى الْفِرَاشِ النَّجِسِ لاَ تَجُوزُ صَلاَتُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهُ ثِيَابٌ نَجِسَةٌ، وَكَانَ بِحَالٍ لاَ يُبْسَطُ شَيْءٌ إِلاَّ وَيَتَنَجَّسُ مِنْ سَاعَتِهِ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، وَكَذَا إِذَا لَمْ يَتَنَجَّسِ الثَّانِي لَكِنْ تَلْحَقُهُ زِيَادَةُ مَشَقَّةٍ بِالتَّحْوِيل (3) .
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى كَيْفِيَّةِ صَلاَةِ الْمَرِيضِ مِنْ قِيَامٍ وَجُلُوسٍ وَاضْطِجَاعٍ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ الْكَلاَمُ عَلَى الْعَجْزِ الْمُؤَقَّتِ، وَطُمَأْنِينَةِ الْمَرِيضِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 137.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 138.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 138، وحاشية ابن عابدين 1 / 513.

(36/357)


سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْمَرِيضِ ف 2 - 16) .
وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ لأَِجْل الْمَرَضِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَالٌ ف 38، صَلاَةُ الْمَرِيضِ ف 11) .

رَابِعًا: التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ
10 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ: أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنَّ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْل الْمَرَضِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِي فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَال: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ تُقْبَل مِنْهُ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّى (1) .
وَقَدْ كَانَ بِلاَلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ يَأْتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَيَقُول: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَل بِالنَّاسِ (2) .
وَكُل مَا أَمْكَنَ تَصَوُّرُهُ فِي الْجُمُعَةِ مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، يُرَخِّصُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ، إِذْ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصِّحَّةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ صَلاَةِ
__________
(1) حديث: " من سمع المنادي فلم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 374) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وضعفه المنذري في " مختصر سنن أبي داود " (1 / 291) .
(2) حديث: " مروا أبا بكر فليصل بالناس ". أخرجه مسلم (1 / 313) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(36/357)


الْجُمُعَةِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ هُنَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الإِْتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا إِنْ شَقَّ عَلَيْهِ مَعَهُ الإِْتْيَانُ مَاشِيًا لاَ رَاكِبًا فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الإِْتْيَانُ، وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ غَيْرَ مُجْحِفَةٍ وَإِلاَّ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقِيل: لاَ يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اتِّفَاقًا كَالْمُقْعَدِ (2) .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالُوا: إِنْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ بِأَنْ يُرْكِبَهُ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ لِعَدَمِ تَكَرُّرِهَا دُونَ الْجَمَاعَةِ (3) .
وَلَوْ حَضَرَ الْمَرِيضُ الْجُمُعَةَ، تَنْعَقِدُ بِهِ، وَإِذَا أَدَّاهَا أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ، لأَِنَّ سُقُوطَ فَرْضِ السَّعْيِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الصَّلاَةِ بَل لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ، فَإِذَا تَحَمَّل،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 547، وفتح القدير 1 / 417، والفتاوى الهندية 1 / 144، وحاشية الدسوقي 1 / 389، والقليوبي 1 / 296، 228، وكشاف القناع 1 / 495، والمغني 1 / 631.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 547، والخانية على هامش الفتاوى الهندية 1 / 175، وحاشية الدسوقي 1 / 389، والقليوبي 1 / 228.
(3) كشاف القناع 1 / 495.

(36/358)


الْتَحَقَ فِي الأَْدَاءِ بِغَيْرِهِ، وَصَارَ كَمُسَافِرٍ صَامَ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْصِرَافُ إِذَا حَضَرَ الْجَامِعَ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ بَل تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الْمَشَقَّةُ فِي حُضُورِ الْجَامِعِ وَقَدْ حَضَرَ مُتَحَمِّلاً لَهَا، وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّل زَمَنٌ بَيْنَ دُخُول الْوَقْتِ وَالصَّلاَةِ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ مَزِيدُ مَشَقَّةٍ فِي الاِنْتِظَارِ لَزِمَهُ وَإِلاَّ لاَ.
وَيُنْدَبُ لِلْمَرِيضِ الَّذِي يَتَوَقَّعُ الْخِفَّةَ قَبْل فَوَاتِ الْجُمُعَةِ تَأْخِيرُهُ ظُهْرَهُ إِلَى الْيَأْسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ، وَيَحْصُل الْيَأْسُ بِرَفْعِ الإِْمَامِ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَزُول عُذْرُهُ قَبْل ذَلِكَ فَيَأْتِي بِهَا كَامِلاً، فَلَوْ لَمْ يُؤَخِّرْ، وَزَال عُذْرُهُ بَعْدَ فِعْلِهِ الظُّهْرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْجُمُعَةُ وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهَا (2) .
وَيُنْدَبُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لاَ يُمْكِنُ زَوَال عُذْرِهِ كَالْمَرْأَةِ وَالزَّمِنِ تَعْجِيل الظُّهْرِ لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ أَوَّل الْوَقْتِ.
وَالْمَرْضَى إِذَا فَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ يُصَلُّونَهَا ظُهْرًا فُرَادَى، وَتُكْرَهُ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ (3) .
خَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَعْضَ الأَْمْرَاضِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 417، والقليوبي 1 / 269، وكشاف القناع 1 / 495، ومطالب أولي النهى 1 / 781.
(2) القليوبي 1 / 271.
(3) الفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 1 / 177.

(36/358)


بِالذِّكْرِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْجُذْمِ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ إِنْ كَانَ رَائِحَتُهُمْ تَضُرُّ بِالْمُصَلِّينَ، وَكَانُوا لاَ يَجِدُونَ مَوْضِعًا يَتَمَيَّزُونَ فِيهِ، أَمَّا لَوْ وَجَدُوا مَوْضِعًا يَصِحُّ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَيَتَمَيَّزُونَ فِيهِ بِحَيْثُ لاَ يَلْحَقُ ضَرَرُهُمْ بِالنَّاسِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ اتِّفَاقًا، لإِِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقِّ النَّاسِ، وَمَا قِيل فِي الْجُذَامِ يُقَال فِي الْبَرَصِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُنْدَبُ لِلإِْمَامِ مَنْعُ صَاحِبِ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ (2) .
11 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُمَرِّضَ يَلْحَقُ بِالْمَرِيضِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيل: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: يَجُوزُ لِلْمُمَرِّضِ التَّخَلُّفُ إِنْ بَقِيَ الْمَرِيضُ ضَائِعًا بِخُرُوجِهِ (3) .
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَرِيبِ الْخَاصِّ وَقَالُوا: يَجُوزُ تَخَلُّفُ مُمَرِّضِ الْقَرِيبِ الْخَاصِّ عَنِ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا، كَوَلَدٍ، وَوَالِدٍ وَزَوْجٍ، وَتَخَلُّفُ مُمَرِّضِ الأَْجْنَبِيِّ عَنْهَا بِشَرْطَيْنِ: أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَأَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةُ لَوْ تُرِكَ، كَالْعَطَشِ أَوِ الْجَوْعِ، أَوِ الْوُقُوعِ فِي نَارٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 389.
(2) القليوبي 1 / 228.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 547، والفتاوى الهندية 1 / 144، 145.

(36/359)


أَوْ مَهْوَاةٍ، أَوِ التَّمَرُّغِ فِي نَجَاسَةٍ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ مُمَرِّضَ الْقَرِيبِ غَيْرَ الْخَاصِّ - كَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ - بِالأَْجْنَبِيِّ، خِلاَفًا لاِبْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ جَعَل تَمْرِيضَ الْقَرِيبِ مُطْلَقًا عُذْرًا لإِِبَاحَةِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنَ الْقَيْدَيْنِ الْمُعْتَبَرَيْنِ فِي تَمْرِيضِ الأَْجْنَبِيِّ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِمُمَرِّضِ مَرِيضٍ قَرِيبٍ بِلاَ مُتَعَهِّدٍ، أَوْ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، لَكِنَّ الْمَرِيضَ يَأْنَسُ بِهِ لِتَضَرُّرِ الْمَرِيضِ بِغَيْبَتِهِ، فَحِفْظُهُ أَوْ تَأْنِيسُهُ أَفْضَل مِنْ حِفْظِ الْجَمَاعَةِ، وَالْمَمْلُوكُ وَالزَّوْجَةُ وَكُل مَنْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ، وَالصَّدِيقُ، وَالأُْسْتَاذُ كَالْقَرِيبِ، بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ الَّذِي لَهُ مُتَعَهِّدٌ، أَمَّا الأَْجْنَبِيُّ الَّذِي لاَ مُتَعَهِّدَ لَهُ، فَالْحُضُورُ عِنْدَهُ عُذْرٌ لِجَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُتَعَهِّدُ مَشْغُولاً بِشِرَاءِ الأَْدْوِيَةِ - مَثَلاً - عَنِ الْخِدْمَةِ فَوُجُودُهُ كَالْعَدِمِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ مُمَرِّضُ الْقَرِيبِ أَوِ الرَّفِيقِ وَقَيَّدُوهُ بِأَنْ لاَ يَكُونَ مَعَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ يَتَجَمَّرُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 389.
(2) روضة الطالبين 1 / 35، 36، والقليوبي 1 / 228.

(36/359)


لِلْجُمُعَةِ فَأَتَاهُ بِالْعَقِيقِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ، قَال الرَّحِيبَانِيُّ: قَال فِي الشَّرْحِ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالأَْوْزَاعِيِّ (1) .
12 - وَيُبَاحُ لِلْمَرْضَى التَّخَلُّفُ عَنْ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الأَْعْيَانِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الأَْعْيَانِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.
وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِذْ أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ (2) .

خَامِسًا: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لِلْمَرَضِ
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لِلْمَرِيضِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: مَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةً إِلاَّ لِمِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ: صَلاَةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْل
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 702، 703، والمغني 1 / 632، 633.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 555، والفتاوى الخانية على هامش الهندية 1 / 182، وحاشية الدسوقي 1 / 396، والقوانين الفقهية / 90، وروضة الطالبين 2 / 70، والمغني 2 / 367.

(36/360)


مِيقَاتِهَا (1) وَلأَِنَّ أَوْقَاتَ الصَّلاَةِ قَدْ ثَبَتَتْ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ صَلاَةٍ عَنْ وَقْتِهَا إِلاَّ بِنَصٍّ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، إِذْ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُخْرَجَ عَنْ أَمْرٍ ثَابِتٍ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: لاَ يُجْمَعُ لِمَرَضٍ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل، وَلِخَبَرِ الْمَوَاقِيتِ فَلاَ يُخَالَفُ إِلاَّ بِصَرِيحٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ - إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لِلْمَرِيضِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَمَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ (3) .
وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ هُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِتَأْدِيَةِ كُل صَلاَةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجْمَعُ إِنْ خَافَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ إِنْ كَانَ الْجَمْعُ أَرْفَقَ بِهِ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: مَنْ خَافَ إِغْمَاءً أَوْ حُمَّى
__________
(1) حديث ابن مسعود: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها ". أخرجه مسلم (2 / 938) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 256، وحاشية الجمل 1 / 614، وروضة الطالبين 1 / 401
(3) حديث ابن عباس: " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر. . . ". أخرجه مسلم (1 / 490 - 491) .

(36/360)


نَافِضًا أَوْ دَوْخَةً عِنْدَ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ الثَّانِيَةِ - الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ - قَدَّمَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ الأُْولَى جَوَازًا عَلَى الرَّاجِحِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنَ الإِْغْمَاءِ وَمَا بَعْدَهُ وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ الثَّانِيَةَ أَعَادَ الثَّانِيَةَ بِوَقْتٍ ضَرُورِيٍّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ لِلْمَرَضِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرَضُ مِمَّا يُبِيحُ الْجُلُوسَ فِي الْفَرِيضَةِ عَلَى الأَْوْجَهِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجْمَعُ جَمْعًا صُورِيًّا، وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ، وَيَحْصُل لَهُ فَضِيلَةُ أَوَّل الْوَقْتِ (2) .
وَالْمَرِيضُ - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ - مُخَيَّرٌ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَلَهُ أَنْ يُرَاعِيَ الأَْرْفَقَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحَمُّ مَثَلاً فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَدَّمَهَا إِلَى الأُْولَى بِشُرُوطِهَا، وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فِي وَقْتِ الأُْولَى، أَخَّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ (3) .

سَادِسًا: الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ مِنْ
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 2 / 154، والشرح الصغير 1 / 489 ط. دار المعارف، والقوانين الفقهية / 87، وروضة الطالبين 1 / 401، وكشاف القناع 2 / 5 - 6، والمغني 2 / 277، والجمل 1 / 614.
(2) الحطاب 2 / 154، والشرح الصغير 1 / 489، والزرقاني 2 / 49.
(3) روضة الطالبين 1 / 402، وكشاف القناع 2 / 5 - 6، والمغني 2 / 277.

(36/361)


مُبِيحَاتِ الإِْفْطَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْمَرَضِ الَّذِي يُبِيحُ الإِْفْطَارَ: قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْمَرَضُ لاَ ضَابِطَ لَهُ، فَإِنَّ الأَْمْرَاضَ تَخْتَلِفُ: مِنْهَا مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ الصَّوْمُ، وَمِنْهَا مَا لاَ أَثَرَ لِلصَّوْمِ فِيهِ كَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَجُرْحٍ فِي الأُْصْبُعِ، وَالدُّمَّل، وَالْقُرْحَةِ الْيَسِيرَةِ، وَالْجَرَبِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَصْلُحِ الْمَرَضُ ضَابِطًا، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ (2) .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ مُطْلَقَ الْمَرَضِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلرُّخْصَةِ، لأَِنَّ الرُّخْصَةَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ تَيْسِيرًا لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِمَا، وَمِنَ الأَْمْرَاضِ مَا يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ وَيَخِفُّهُ، وَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ أَسْهَل مِنَ الأَْكْل، بَل الأَْكْل يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَمِنَ التَّعَبُّدِ التَّرَخُّصُ بِمَا يَسْهُل عَلَى الْمَرِيضِ تَحْصِيلُهُ، وَالتَّضْيِيقُ بِمَا يَشْتَدُّ عَلَيْهِ (3) .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نَوَى الْمَرِيضُ فِي رَمَضَانَ وَاجِبًا آخَرَ:
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) المغني 3 / 147.
(3) بدائع الصنائع 2 / 94 - 95.

(36/361)


فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقِيل وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَرِيضٍ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ أَنْ يَصُومَ فِي رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ قَضَاءٍ وَنَذْرٍ وَغَيْرِهِمَا (1) ، لأَِنَّ الْفِطْرَ أُبِيحَ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهِ، لَزِمَهُ الإِْتْيَانُ بِالأَْصْل (2) ، وَلأَِنَّ الرُّخْصَةَ لاِحْتِمَال تَضَرُّرِهِ وَعَجْزِهِ، فَإِذَا صَامَ انْتَفَى ذَلِكَ فَصَارَ كَالصَّحِيحِ (3) ، وَلأَِنَّ أَيَّامَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنَةٌ لِصَوْمِهِ، فَلَهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ أَوِ الصِّيَامِ عَنْ رَمَضَانَ (4) . إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَلْغُو صَوْمُهُ وَلاَ يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ سَوَاءٌ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ أَوْ لَمْ يَنْوِ (5) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلاَّ وَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ، لأَِنَّ الشَّارِعَ خَصَّ لَهُ لِيَصْرِفَهُ إِلَى مَا هُوَ الأَْهَمُّ عِنْدَهُ مِنَ الصَّوْمِ أَوِ الْفِطْرِ، فَصَارَ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَمَّا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الأَْهَمُّ عِنْدَهُ، فَيَقَعُ عَنْهُ (6) .
وَالْكَلاَمُ عَلَى خَوْفِ الْمَرِيضِ زِيَادَةَ مَرَضِهِ
__________
(1) الاختيار 1 / 127، 128، وحاشية الدسوقي 1 / 536، وروضة الطالبين 2 / 373، وكشاف القناع 2 / 312.
(2) كشاف القناع 2 / 312.
(3) الاختيار 1 / 127، 128.
(4) روضة الطالبين 2 / 373.
(5) المراجع السابقة.
(6) الاختيار 127، 128.

(36/362)


بِالصَّوْمِ، أَوْ إِبْطَاءَ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادَ عُضْوٍ، وَخَوْفِ الصَّحِيحِ الْمَرَضَ أَوِ الشِّدَّةَ أَوِ الْهَلاَكَ وَحُكْمُ الإِْفْطَارِ فِي كُل حَالَةٍ، وَكَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ، سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 26، 55، 56، 86، 87) .
وَأُلْحِقَ بِالْمَرِيضِ الْحَامِل وَالْمُرْضِعُ فَيَجُوزُ لَهُمَا الْفِطْرُ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف 62) .

الْخُرُوجُ مِنَ الاِعْتِكَافِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ
15 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ اعْتِكَافًا وَاجِبًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلاَ يُعَرِّجُ يَسْأَل عَنْهُ (2) .
وَفِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ وَلاَ يَجْلِسُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 114، 115، وابن عابدين 2 / 131، وشرح الزرقاني 2 / 224، وروضة الطالبين 2 / 406، والمغني 3 / 195.
(2) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض ". أخرجه أبو داود (2 / 836) وضعفه المنذري في " مختصر سنن أبي داود " (3 / 343) .

(36/362)


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ خَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِذَا اعْتَكَفَ الرَّجُل فَلْيَشْهَدِ الْجُمُعَةَ، وَلْيَعُدِ الْمَرِيضَ، وَلْيَحْضُرِ الْجِنَازَةَ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ (1) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الاِعْتِكَافُ تَطَوُّعًا فَفِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ رِوَايَتَانِ:
أ - يَفْسُدُ الاِعْتِكَافُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ، وَلِهَذَا قَال: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كَالاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ، وَلأَِنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلإِْتْمَامِ عَلَى أَصْل الْحَنَفِيَّةِ صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنِ الْبُطْلاَنِ كَمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ.
ب - لاَ يَفْسُدُ وَهُوَ رِوَايَةُ الأَْصْل، لأَِنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَيَخْرُجُ، فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا مَا أَقَامَ، تَارِكًا مَا خَرَجَ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَطَوُّعٌ فَلاَ يَتَحَتَّمُ وَاحِدٌ مِنْهَا، لَكِنَّ الأَْفْضَل الْمُقَامُ عَلَى اعْتِكَافِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُعَرِّجُ عَلَى
__________
(1) المغني 3 / 195.
(2) بدائع الصنائع 2 / 115، وحاشية ابن عابدين 2 / 131، 132.

(36/363)


الْمَرِيضِ، وَلَمْ يَكُنِ الاِعْتِكَافُ وَاجِبًا عَلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنَ الاِعْتِكَافِ لِلْمَرَضِ وَنَحْوِهِ فَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ: ف 33، 36، 37) .

الاِسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْمَرَضِ
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَلاَمَةَ الْبَدَنِ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ.
وَاخْتَلَفُوا هَل هِيَ شَرْطٌ لأَِصْل الْوُجُوبِ كَمَا قَال بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَوْ شَرْطٌ لِلأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ كَمَا قَال بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الصَّاحِبَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَلَكِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ لِمَانِعٍ لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ، كَزَمَانَةٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ مَهْزُول الْجِسْمِ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الثُّبُوتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ إِذَا وَجَدَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَمَالاً يَسْتَنِيبُهُ بِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ قَالَتْ يَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ
__________
(1) المغني 2 / 195، 196.

(36/363)


أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (1) .
وَقَال مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: لاَ حَجَّ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَطِيعَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (2) ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَلأَِنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَلاَ تَدْخُلُهَا مَعَ الْعَجْزِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ.
وَإِذَا عُوفِيَ مِنْ مَرَضِهِ بَعْدَ مَا أَحَجَّ غَيْرَهُ عَنْ نَفْسِهِ، يَلْزَمُهُ حَجٌّ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ هَذَا الْحَجَّ بَدَل إِيَاسٍ، فَإِذَا بَرَأَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الأَْصْل، قِيَاسًا عَلَى الآْيِسَةِ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ، ثُمَّ حَاضَتْ لاَ يُجْزِئُهَا تِلْكَ الْعِدَّةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ، وَلأَِنَّهُ أَدَّى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ ثَانٍ كَمَا لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَالاً يَسْتَنِيبُ بِهِ فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ
__________
(1) حديث: " أن امرأة من خثعم قالت:. . . ". أخرجه البخاري " فتح الباري " (3 / 378) ، ومسلم (2 / 973) واللفظ للبخاري.
(2) سورة آل عمران / 97.

(36/364)


بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّ الصَّحِيحَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَالْمَرِيضُ أَوْلَى (1) .
17 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَرِيضًا يُرْجَى زَوَال مَرَضِهِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: حَجُّ الْفَرْضِ يَقْبَل النِّيَابَةَ عِنْدَ الْعَجْزِ فَقَطْ لَكِنْ بِشَرْطِ دَوَامِ الْعَجْزِ إِلَى الْمَوْتِ لأَِنَّهُ فَرْضُ الْعُمْرِ حَتَّى تَلْزَمَ الإِْعَادَةُ بِزَوَال الْعُذْرِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ وَالْحَجَّةِ الْمَنْذُورَةِ، وَأَمَّا الْحَجُّ النَّفْل فَيَقْبَل النِّيَابَةَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَجْزٍ فَضْلاً عَنْ دَوَامِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَإِنِ اسْتَنَابَ فَحَجَّ النَّائِبُ فَشُفِيَ لَمْ يُجْزِئْهُ قَطْعًا وَإِنْ مَاتَ فَقَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا لاَ يُجْزِئُهُ.
وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَال فَأَحَجَّ عَنْهُ ثُمَّ شُفِيَ فَطَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِعَدَمِ الإِْجْزَاءِ.
وَقَالُوا: إِنَّ حَجَّ التَّطَوُّعِ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ عَنِ الْقَادِرِ قَطْعًا (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، فَإِنْ فَعَل لَمْ يُجْزِئْهُ وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ، لأَِنَّهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 142، 238، ومواهب الجليل 2 / 492، 498، 499، وروضة الطالبين 3 / 12، 13، والمغني 3 / 227، 228.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 238.
(3) روضة الطالبين 3 / 13.

(36/364)


يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الاِسْتِنَابَةُ، وَلاَ تُجْزِئُهُ إِنْ فَعَل كَالْفَقِيرِ، وَلأَِنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَجِّ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَهُوَ مِمَّنْ لاَ يُرْجَى مِنْهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ (1) .
18 - وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ فِي الطَّرِيقِ، فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَفْعُ الْمَال إِلَى غَيْرِهِ لِيَحُجَّ عَنِ الآْمِرِ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ، بِأَنْ قِيل لَهُ وَقْتَ الدَّفْعِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَرِضَ أَوْ لاَ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلاً مُطْلَقًا (2) .
وَلِلنِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَابَةٌ) .
19 - وَأَمَّا النِّيَابَةُ عَنِ الْمَرِيضِ فِي الرَّمْيِ فَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (حَجٌّ ف 66) .
20 - وَحُكْمُ طَوَافِ الْمَرِيضِ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ ف 11، 16) ، وَكَذَا حُكْمُ سَعْيِهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَعْيٌ ف 14) .

جِهَادُ الْمَرِيضِ
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى مَنْ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَال وَمَا يَلْزَمُ لَهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جِهَادٌ ف 21) .
__________
(1) المغني 3 / 229.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 242.

(36/365)


التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ لِلْمَرَضِ
22 - الْمَرَضُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ مِمَّا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالْحَدُّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرِيضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجْمَ، أَوِ الْجَلْدَ أَوِ الْقَطْعَ: فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الرَّجْمَ فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ هُوَ أَنَّهُ لاَ يُؤَخَّرُ مُطْلَقًا أَيًّا كَانَ نَوْعُ الْمَرَضِ، لأَِنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيحِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الْجَلْدَ أَوِ الْقَطْعَ وَالْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ: فَيَرَى الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَالْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَأْخِيرَهُ، وَقَال جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ: يُقَامُ الْحَدُّ وَلاَ يُؤَخَّرُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ الْجَانِي ضَعِيفًا بِالْخِلْقَةِ لاَ يَحْتَمِل السِّيَاطَ فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَال وَلاَ يُؤَخَّرُ، وَيُضْرَبُ بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ، وَشِمْرَاخِ النَّخْل، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ جَمَعَ ضِغْثًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ اسْتِدْلاَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) وَهَذَا ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ.
هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْجَلْدَ، وَأَمَّا فِي السَّرِقَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي
__________
(1) سورة النور / 2.

(36/365)


هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِئَلاَّ يَفُوتَ الْحَدُّ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (حُدُودٌ ف 41، وَجَلْدٌ ف 13) .

التَّأْخِيرُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلْمَرَضِ
23 - فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ قِصَاصِ النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ فِي التَّأْخِيرِ، فَقَالُوا: يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ مِنَ الْجَانِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِبُرْءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ خِيفَ مِنَ الْقَطْعِ مَعَهُ الْمَوْتُ، لاِحْتِمَال أَنْ يَأْتِيَ جُرْحُهُ عَلَى النَّفْسِ، فَتُؤْخَذُ النَّفْسُ فِيمَا دُونَهَا.
وَكَذَلِكَ تُؤَخَّرُ دِيَةُ الْجُرْحِ الْخَطَأِ لِبُرْئِهِ، خَوْفَ سَرَيَانِهِ لِلْمَوْتِ، فَيَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَتَنْدَرِجُ فِيهَا دِيَةُ الْجُرْحِ.
وَلاَ يُؤَخَّرُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ، لأَِنَّ الْمُحَارِبَ إِذَا اخْتِيرَ قَطْعُهُ مِنْ خِلاَفٍ، فَلاَ يُؤَخَّرُ بَل يُقْطَعُ مِنْ خِلاَفٍ، وَلَوْ أَدَّى لِمَوْتِهِ، إِذِ الْقَتْل أَحَدُ حُدُودِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَقْتَصَّ عَلَى الْفَوْرِ فِي النَّفْسِ جَزْمًا وَفِي الطَّرَفِ عَلَى الْمَذْهَبِ لأَِنَّ الْقِصَاصَ مُوجِبُ الإِْتْلاَفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 148، والاختيار 4 / 87، وفتح القدير 4 / 137، والقوانين الفقهية / 366، 361، وروضة الطالبين 10 / 99، 101، والمغني 8 / 173، وكشاف القناع 6 / 82.
(2) جواهر الإكليل 2 / 263، والزرقاني 8 / 23، والشرح الصغير 4 / 363.

(36/366)


فَيَتَعَجَّل كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى لاِحْتِمَال الْعَفْوِ.
وَيَقْتَصُّ فِي الْمَرَضِ، وَكَذَا لاَ يُؤَخَّرُ الْجَلْدُ فِي الْقَذْفِ (1) .

إِمَامَةُ الْمَرِيضِ وَالاِقْتِدَاءُ بِهِ
24 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ إِمَامَةِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ أَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ كَالرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ، وَمَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَل يُصَلِّي بِالإِْيمَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ عَلَى أَقْوَالٍ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اقْتِدَاءٌ ف 40) .

زَكَاةُ مَال الْمَرِيضِ
25 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، لأَِنَّ الصِّحَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ بِصِفَةِ عَامَّةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ فِي مَال الْمَجْنُونِ، وَالْجُنُونُ أَيْضًا مَرَضٌ، بَل مِنْ أَصْعَبِ أَمْرَاضِ النَّفُوسِ جُنُونُهَا - كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (2) -.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَال الْمَجْنُونِ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الشَّرَائِطِ الثَّلاَثَةِ فِيهِ وَهِيَ: الْحُرِّيَّةُ وَالإِْسْلاَمُ وَتَمَامُ الْمِلْكِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 42 - 43.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 547.

(36/366)


وَبِهِ قَال جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَرَبِيعَةُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ.
وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ فِي مَالِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَقَامَ الْوَلِيُّ فِيهِ مَقَامَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَالنَّفَقَاتِ وَالْغَرَامَاتِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَال الْمَجْنُونِ وَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ (2) .
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ: تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلاَ تُخَرَّجُ حَتَّى يُفِيقَ (3) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 11، وَجُنُونٌ ف 14) .

أَثَرُ مَرَضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي خَلْوَةِ النِّكَاحِ
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْخَلْوَةُ إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَرَضِ عِنْدَهُمْ فِي جَانِبِهَا: مَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، أَوْ يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ، فَالْمَرَضُ يَتَنَوَّعُ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 4، وحاشية الدسوقي 1 / 430، وأسنى المطالب 1 / 338، وروضة الطالبين 2 / 149، والمغني 2 / 621، 622، ونيل المآرب 1 / 239.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 4، والمغني 2 / 622.
(3) المغني 2 / 622.

(36/367)


بِلاَ خِلاَفٍ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِهِ فَقَدْ قِيل: إِنَّهُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا، وَقِيل: إِنَّهُ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ، وَإِنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ عَلَى كُل حَالٍ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ، قَال الْبَابَرْتِيُّ نَقْلاً عَنِ الصدر الشهيد: إِنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّ مَرَضَ الزَّوْجِ لاَ يُعَرَّى عَنْ تَكَسُّرٍ وَفُتُورٍ عَادَةً، قَال الْمَوْصِلِيُّ: وَكَذَا إِذَا كَانَ يَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ (1) .
وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى: لأَِنَّهُ لاَ عِبْرَةَ لِلْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي وُجُوبِ كَمَال الْمَهْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، وَلاَ عِبْرَةَ لِلْمَوَانِعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْخَلْوَةُ، خَلْوَةَ الاِهْتِدَاءِ، أَوْ خَلْوَةَ الزِّيَارَةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ يَجِبُ كَمَال الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ مُطْلَقًا وَلاَ عِبْرَةَ لِلْمَوَانِعِ أَيًّا كَانَتْ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خَلْوَةٌ فِي 14 - 17) .

قَسْمُ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ وَالْقَسْمُ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الْمَرِيضَ يَقْسِمُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ كَالصَّحِيحِ، لأَِنَّ الْقَسْمَ لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ وَذَلِكَ يَحْصُل مِنَ الْمَرِيضِ
__________
(1) الاختيار 3 / 103، وفتح القدير 2 / 446، وحاشية ابن عابدين 2 / 338.
(2) جواهر الإكليل 1 / 308، وأسنى المطالب 3 / 204، والمغني 6 / 325، 326.

(36/367)


كَمَا يَحْصُل مِنَ الصَّحِيحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَقَّ عَلَى الْمَرِيضِ الطَّوَافُ بِنَفْسِهِ عَلَى زَوْجَاتِهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ ف 10) .
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالصَّحِيحَةَ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ (1) .

التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ
28 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِعُيُوبٍ مِنْهَا الْمَرَضُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِيهَا.
وَذَلِكَ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (طَلاَقٌ ف 93 وَمَا بَعْدَهَا، وَجُنُونٌ ف 22، وَجُذَامٌ ف 4، وَبَرَصٌ ف 3)

طَلاَقُ الْمَرِيضِ
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ طَلاَقِ الْمَرِيضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ مَرَضَ مَوْتٍ أَمْ غَيْرَهُ مَا دَامَ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ لِلْمَرِيضِ، فَإِنْ أَثَّرَ فِيهَا دَخَل فِي بَابِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ مَوْتٍ بِخَاصَّةٍ إِذَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 399، والفتاوى الهندية 1 / 304، والفتاوى الخانية على هامش الهندية 1 / 349، والبزازية على الهندية 4 / 154، ومواهب الجليل 4 / 10، والقليوبي 3 / 300، وروضة الطالبين 7 / 345.

(36/368)


طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا فِي مَرَضِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا أَوْ رِضًا طَلاَقًا بَائِنًا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلاَقِهِ هَذَا فَإِنَّهُ يُعَدُّ فَارًّا مِنْ إِرْثِهَا حُكْمًا.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَقٌ ف 24، 66، مَرَضُ الْمَوْتِ) .

خُلْعُ الْمَرِيضِ
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَرَضَ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجِ لاَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ فِي مُقَابِل الْخُلْعِ إِذَا خَالَعَتْهُ فِي مَرَضِهَا وَمَاتَتْ، مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ رَاغِبَةً فِي مُحَابَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الْوَرَثَةِ (1) . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 98، 19 مَرَضُ الْمَوْتِ) .

حَضَانَةُ الْمَرِيضِ
31 - الْحَضَانَةُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا صِيَانَةُ الْمَحْضُونِ وَرِعَايَتُهُ وَهَذَا لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ إِذَا كَانَ الْحَاضِنُ أَهْلاً لِذَلِكَ.
وَلِهَذَا يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا خَاصَّةً لاَ تُثْبِتُ الْحَضَانَةُ إِلاَّ لِمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ، وَمِنْهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 570، وبدائع الصنائع 3 / 149، والاختيار 3 / 106، وجواهر الإكليل 1 / 332، وحاشية الدسوقي 2 / 352، 353، وروضة الطالبين 7 / 387، 388، وأسنى المطالب 3 / 247، وكشاف القناع 5 / 228، 229، والمغني 7 / 88، 89.

(36/368)


الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِشَأْنِ الْمَحْضُونِ، فَلاَ حَضَانَةَ لِمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ لِمَرَضٍ يَعُوقُ هَذِهِ الْقُدْرَةَ أَوْ عَاهَةٍ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالصَّمَمِ.
وَمِنْهَا أَنْ لاَ يَكُونَ بِالْحَاضِنِ مَرَضٌ مُعْدٍ أَوْ مُنَفِّرٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى الْمَحْضُونِ كَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَضَانَةٌ ف 14) .

إِيلاَءُ الْمَرِيضِ
32 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ الْوَطْءُ، وَيَنْعَقِدُ إِيلاَؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الطَّلاَقِ، إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَعَجَزَ عَنِ الْفَيْءِ إِلَيْهَا بِالْفِعْل - وَهُوَ الْجِمَاعُ - فَإِنَّ الْفَيْءَ يَتَأَتَّى مِنْهُ بِالْقَوْل (1) ، وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِيلاَءٌ ف 24) .

نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ وَالأَْوْلاَدُ الْمَرْضَى وَالْقَرِيبُ الْمَرِيضُ
33 - الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ قَبْل النَّقْلَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَمْكَنَهُ جِمَاعُهَا أَوْ لاَ، مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ لاَ، حَيْثُ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا إِذَا طَلَبَ نَقْلَتَهَا، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّحِيحَةِ لِوُجُودِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 546، والشرح الصغير 2 / 619، مغني المحتاج 3 / 344، ونهاية المحتاج 7 / 65.

(36/369)


التَّمْكِينِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ كَمَا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَرَضُهَا مَانِعًا مِنَ النَّقْلَةِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا، لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَإِنْ أَمْكَنَ نَقْلُهَا إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِ فَلَمْ تَنْتَقِل فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا، لِمَنْعِ نَفْسِهَا عَنِ النَّقْلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ تَقْدِرْ أَصْلاً (1) .
وَبِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ إِذَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا الْبَذْل التَّامَّ، وَالتَّسْلِيمَ الْمُمْكِنَ، وَأَمْكَنَتْهُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .
34 - وَأَمَّا نَفَقَةُ الأَْوْلاَدِ الْكِبَارِ الْمَرْضَى فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْوَلَدِ الْكَبِيرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ كَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَسْبِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقِيل: تَنْتَهِي النَّفَقَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْبُلُوغِ كَالصَّحِيحِ.
وَتَجِبُ نَفَقَةُ الأُْنْثَى مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 646، 648، والفتاوى الهندية 1 / 546.
(2) جواهر الإكليل 1 / 402، والفواكه الدواني 2 / 69، 70، ومغني المحتاج 3 / 437، وكشاف القناع 5 / 470، 471.

(36/369)


مَرِيضَةٍ، لأَِنَّ مُجَرَّدَ الأُْنُوثَةِ عَجْزٌ (1) .
35 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَرِيبَ نَفَقَةُ كُل ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
لأَِنَّهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ عَامٌّ (2) .
أَمَّا الأَْقَارِبُ الَّذِينَ يَرِثُونَ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ لِنَقْصٍ فِي الْخِلْقَةِ كَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ لاَ تَجِبُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ عَلَى الْقَرِيبِ مَا عَدَا الأَْبَوَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا فَقِيرَيْنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عَجْزُهُمَا عَنِ الْكَسْبِ، وَلاَ يَجِبُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ (4) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .

إِقْرَارُ الْمَرِيضِ وَقَضَاؤُهُ
36 - الأَْصْل أَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الإِْقْرَارِ فِي الْجُمْلَةِ، إِذِ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ، لأَِنَّ صِحَّةَ إِقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَال الْمَرِيضِ أَدَل عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 672، 665، والخانية على هامش الهندية 1 / 445، 448، والقوانين الفقهية / 227، وروضة الطالبين 9 / 84.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 681، وروضة الطالبين 9 / 84، وكشاف القناع 5 / 481.
(3) المراجع السابقة.
(4) القوانين الفقهية / 227، 228.

(36/370)


الصِّدْقِ فَكَانَ إِقْرَارُهُ أَوْلَى بِالْقَبُول (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 24) .
37 - وَأَمَّا قَضَاءُ الْمَرِيضِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْلِيَةِ الْمَرِيضِ وَكَذَلِكَ عَزْلُهُ وَطَرِيقَةُ عَزْلِهِ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 18، 63، 65) .

الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ
38 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرَضَ الْمُتَّصِل بِالْمَوْتِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، وَتُحْجَرُ عَلَى صَاحِبِ هَذَا الْمَرَضِ تَبَرُّعَاتُهُ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (مَرَضِ الْمَوْتِ) .

عِيَادَةُ الْمَرِيضِ
39 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ عَلَى أَقْوَالٍ:
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 223، وفتح القدير 7 / 8، 10، والقوانين الفقهية / 319، وروضة الطالبين 4 / 353، ونهاية المحتاج 5 / 69 - ط. مصطفى البابي الحلبي، والمغني 5 / 213.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 93، 423، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 284 ط. دار ومكتبة الهلال، والقوانين الفقهية / 327 ط الدار العربية للكتاب، وحاشية الدسوقي 3 / 307، ط. دار الفكر، والشرح الصغير 3 / 381 ط. دار المعارف، ومغني المحتاج 2 / 165 - ط. دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 3 / 416 ط. عالم الكتب، والجمل 4 / 53، وكشف الأسرار 1 / 127.

(36/370)


فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ، وَقَدْ تَصِل إِلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ بَعْضِ الأَْفْرَادِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ إِذَا قَامَ بِهَا الْغَيْرُ وَإِلاَّ وَجَبَتْ لأَِنَّهَا مِنَ الأُْمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ، إِلاَّ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَتَجِبُ عِيَادَتُهُ عَلَيْهِ عَيْنًا.
وَالتَّفْصِيل فِي (عِيَادَةٌ ف 2) .

مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ
40 - قَال الرَّمْلِيُّ: يُنْدَبُ لِلْمَرِيضِ نَدْبًا مُؤَكَّدًا أَنْ يَذْكُرَ الْمَوْتَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَأَنْ يَسْتَعِدَّ لَهُ بِالتَّوْبَةِ بِتَرْكِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَتَصْمِيمِهِ عَلَى أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ كَأَدَاءِ دَيْنٍ وَقَضَاءِ فَوَائِتَ وَغَيْرِهِمَا، وَمَعْنَى الاِسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ لِئَلاَّ يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ الْمُفَوِّتُ لَهُ.
وَيُسَنُّ لَهُ الصَّبْرُ عَلَى الْمَرَضِ، أَيْ تَرْكُ التَّضَجُّرِ مِنْهُ وَأَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرِ، وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَنْ يُوصِيَ أَهْلَهُ بِالصَّبْرِ وَتَرْكِ النَّوْحِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يُحَسِّنَ خُلُقَهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ الْمُنَازَعَةَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَسْتَرْضِيَ مَنْ لَهُ بِهِ عُلْقَةٌ كَخَادِمٍ وَزَوْجَةٍ، وَوَلَدٍ، وَجَارٍ، وَمُعَامِلٍ، وَصَدِيقٍ.
وَيُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ كَثْرَةُ الشَّكْوَى، إِلاَّ إِذَا سَأَلَهُ طَبِيبٌ أَوْ قَرِيبٌ، أَوْ صَدِيقٌ عَنْ حَالِهِ

(36/371)


فَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ، لاَ عَلَى صُورَةِ الْجَزَعِ.
وَلاَ يُكْرَهُ لَهُ الأَْنِينُ لَكِنَّ اشْتِغَالَهُ بِنَحْوِ التَّسْبِيحِ أَوْلَى مِنْهُ، فَالأَْنِينُ خِلاَفُ الأَْوْلَى (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا مَرِضَ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ وَيُكْرَهُ الأَْنِينُ لِمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ (2) .

تَدَاوِي الْمَرِيضِ
41 - التَّدَاوِي مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّدَاوِي مُبَاحٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ.
وَمَحَل الاِسْتِحْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَطْعِ بِإِفَادَتِهِ، أَمَّا لَوْ قُطِعَ بِإِفَادَتِهِ كَعَصْبِ مَحَل الْفَصْدِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ.
وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّدَاوِي أَفْضَل لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوي ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 433 وما بعدها ط. مصطفى البابي الحلبي.
(2) المغني 2 / 448.

(36/371)


عَدْوَى الْمَرَضِ
42 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ عَدْوَى الْمَرَضِ أَوْ نَفْيِهَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرَضَ لاَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ، وَإِنَّمَا بِفِعْل اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى الْقَوْل بِنَفْيِ الْعَدْوَى.
وَيَرَى فَرِيقٌ آخَرُ الْقَوْل بِإِثْبَاتِ الْعَدْوَى (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَدْوَى ف 3) .

التَّضْحِيَةُ بِالْمَرِيضَةِ
43 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الأُْضْحِيَّةِ سَلاَمَتُهَا مِنَ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ وَهِيَ الْعُيُوبُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنَّ تُنْقِصَ الشَّحْمَ أَوِ اللَّحْمَ، وَمِنْهَا الْمَرَضُ الْبَيِّنُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أُضْحِيَّةٌ ف 26 وَمَا بَعْدَهَا) .

أَخْذُ الْمَرِيضَةِ فِي الزَّكَاةِ
44 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَسَطِ مَال الزَّكَاةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّاعِي طَلَبَ خِيَارِ الْمَال، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَالِكُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ.
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 279 وما بعدها.

(36/372)


الأَْمْرُ الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ شِرَارِ الْمَال وَمِنْهُ الْمَعِيبَةُ وَالْهَرِمَةُ وَالْمَرِيضَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً أَوْ هَرِمَةً أَوْ مَرِيضَةً، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَقِيل: يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ، وَقِيل: يُخْرِجُ صَحِيحَةً مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ (1) .

حَبْسُ الْمَرِيضِ
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَبْسِ الْمَرِيضِ، وَإِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَبْسٌ ف 109 - 110) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 18، وحاشية الدسوقي 1 / 435، وشرح المنهاج 2 / 10، والمغني 2 / 600 - 603.

(36/372)


مَرَضُ الْمَوْتِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَرَضُ: سَبَقَ تَعْرِيفُهُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا.
وَالْمَوْتُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْحَيَاةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَرَضِ الْمَوْتِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي يَتَّصِل بِالْمَوْتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْتُ بِسَبَبِهِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ: هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ خَوْفُ الْمَوْتِ، وَيَعْجِزُ مَعَهُ الْمَرِيضُ عَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ خَارِجًا عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَعَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ دَاخِل دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ الْحَال قَبْل مُرُورِ سَنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) نهاية المحتاج 2 / 423 ط. المكتبة الإسلامية.
(3) انظر الأم للشافعي 4 / 35 وما بعدها (بولاق 1322 هـ) ، ومغني المحتاج 3 / 50 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 228.

(37/5)


فِرَاشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ، هَذَا مَا لَمْ يَشْتَدَّ مَرَضُهُ وَيَتَغَيَّرْ حَالُهُ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السَّنَةِ مِنْ تَارِيخِ الاِشْتِدَادِ (1) .
فَعَلَى هَذَا، يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِهِ أَنْ يَتَوَافَرَ فِيهِ وَصْفَانِ:
الْوَصْفُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا (2) ، أَيْ يَغْلِبُ الْهَلاَكُ مِنْهُ عَادَةً أَوْ يَكْثُرُ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: حَدُّ مَرَضِ الْمَوْتِ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْمَوْتُ كَانَ مَرَضُ الْمَوْتِ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ وَالْمُخِيفُ: هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَمُوتُ بِهِ، فَمَنْ قَال: مَخُوفٌ قَال: لأَِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، وَمَنْ قَال: مُخِيفٌ لأَِنَّهُ يُخِيفُ مَنْ رَآهُ (4) .
وَقَال التَّسُولِيُّ: وَمُرَادُهُ بِمَرَضِ الْمَوْتِ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي حَكَمَ أَهْل الطِّبِّ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ بِهِ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَا أَشْكَل أَمْرُهُ مِنَ
__________
(1) المادة 1595 من مجلة الأحكام، وشرح الأتاسي 2 / 408.
(2) قال ابن رشد: والأمراض التي يحجر فيها عند الجمهور هي الأمراض المخوفة (بداية المجتهد 2 / 327 ط. الحلبي) .
(3) الفتاوى الهندية 4 / 176، وانظر بدائع الصنائع 3 / 224.
(4) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص241.
(5) البهجة شرح التحفة 2 / 240، وانظر شرح الخرشي 5 / 304.

(37/5)


الأَْمْرَاضِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْل أَهْل الْمَعْرِفَةِ، وَهُمُ الأَْطِبَّاءُ، لأَِنَّهُمْ أَهْل الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلاَ يُقْبَل إِلاَّ قَوْل طَبِيبَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ثِقَتَيْنِ بَالِغَيْنِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ وَأَهْل الْعَطَايَا، فَلَمْ يُقْبَل فِيهِ إِلاَّ ذَلِكَ، وَقِيَاسُ قَوْل الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ يُقْبَل قَوْل الطَّبِيبِ الْعَدْل إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى طَبِيبَيْنِ (1) .
وَلَوِ اخْتَلَفَ الأَْطِبَّاءُ يُؤْخَذُ بِقَوْل الأَْعْلَمِ، ثُمَّ بِالأَْكْثَرِ عَدَدًا، ثُمَّ بِمَنْ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ مَخُوفٌ، لأَِنَّهُ عِلْمٌ مِنْ غَامِضِ الْعِلْمِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَأَقَرَّهُ (2) .
فَإِنْ لَمْ يَتَوَفَّرْ مَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الأَْطِبَّاءِ، كَأَنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يُرَاجِعَ أَحَدًا مِنَ الأَْطِبَّاءِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ عَجْزُ الْمَرِيضِ عَنِ الْخُرُوجِ لِمَصَالِحِهِ خَارِجَ بَيْتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَعَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ دَاخِل بَيْتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْنَاثِ عَلاَمَةٌ تَدُل عَلَى كَوْنِ الْمَرَضِ مَخُوفًا إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى رُؤْيَةِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ قَبْلَهُ، أَوْ أَنْ تُعْتَبَرَ أَيَّةُ عَلاَمَةٍ أُخْرَى تُنْبِئُ عَنْ كَوْنِهِ مَخُوفًا فِي نَظَرِ الأَْطِبَّاءِ الْعَارِفِينَ.
وَيُقْصَدُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْخُرُوجِ لِمَصَالِحِهِ خَارِجَ بَيْتِهِ: عَجْزُهُ عَنْ إِتْيَانِ الْمَصَالِحِ الْقَرِيبَةِ الْعَادِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مُحْتَرِفًا بِحِرْفَةِ شَاقَّةٍ كَالْحَمَّال
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 507 (مط. المنار بهامشه الشرح الكبير) ، والمهذب 1 / 460.
(2) نهاية المحتاج للرملي 6 / 60.

(37/6)


وَالدَّقَّاقِ وَالْحَدَّادِ وَالنَّجَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ إِقَامَتُهُ مَعَ أَدْنَى عَجْزٍ أَوْ مَرَضٍ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ لاَ يَكُونُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، إِذْ لاَ يُشْتَرَطُ فِي هَؤُلاَءِ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَل فِي حِرْفَتِهِمْ لِيُعْتَبَرُوا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، بَل عَنْ مِثْل مَا يَعْجِزُ عَنْهُ صَاحِبُ الْحِرْفَةِ الْعَادِيَّةِ (1) .
الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّصِل الْمَرَضُ بِالْمَوْتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْمَوْتُ بِسَبَبِهِ أَمْ بِسَبَبٍ آخَرَ خَارِجِيٍّ عَنِ الْمَرَضِ كَقَتْلٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ تَصَادُمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
فَإِذَا صَحَّ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ، وَتُعْتَبَرُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهِ كَتَصَرُّفَاتِ الصَّحِيحِ دُونَ فَرْقٍ، فَالْمَرِيضُ مَا دَامَ حَيًّا لاَ يَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ وَلاَ لِدَائِنِيهِ الاِعْتِرَاضُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ، أَمَّا إِذَا انْتَهَى الْمَرَضُ الْمَخُوفُ بِالْمَوْتِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّصَرُّفَ وَقَعَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ (3) .

مَا يُلْحَقُ بِمَرَضِ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ:
2 - أَلْحَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ حَالاَتٍ مُخْتَلِفَةً وَعَدِيدَةً لَيْسَ فِيهَا مَرَضٌ أَوِ اعْتِلاَل صِحَّةٍ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 2 / 408.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 2 / 448.
(3) نهاية المحتاج 6 / 59، وانظر الروضة للنووي 6 / 123، والمهذب 1 / 460، والمغني 6 / 505.

(37/6)


تَوَفَّرَ فِيهَا الْوَصْفَانِ الْمُشْتَرَطَانِ، مِنْهَا:
أ - مَا إِذَا كَانَ الشَّخْصُ فِي الْحَرْبِ وَالْتَحَمَتِ الْمَعْرَكَةُ وَاخْتَلَطَتِ الطَّائِفَتَانِ فِي الْقِتَال (1) ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَجْهَ إِلْحَاقِهِ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ تَوَقُّعَ التَّلَفِ هَاهُنَا كَتَوَقُّعِ الْمَرَضِ أَوْ أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ، وَلأَِنَّ الْمَرَضَ إِنَّمَا جُعِل مَخُوفًا لِخَوْفِ صَاحِبِهِ التَّلَفَ، وَهَذَا كَذَلِكَ (2) .
ب - مَا إِذَا رَكِبَ الْبَحْرَ، فَإِنْ كَانَ سَاكِنًا فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ، وَإِنْ تَمَوَّجَ وَاضْطَرَبَ وَهَبَّتِ الرِّيحُ الْعَاصِفُ، وَخِيفَ الْغَرَقُ، فَهُوَ مَخُوفٌ (3) ، وَكَذَا إِذَا انْكَسَرَتِ السَّفِينَةُ وَبَقِيَ عَلَى لَوْحٍ، وَخِيفَ الْغَرَقُ (4) .
ج - إِذَا قُدِّمَ لِلْقَتْل، سَوَاءٌ أَكَانَ قِصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ (5) .
د - الأَْسِيرُ وَالْمَحْبُوسُ إِذَا كَانَ مِنَ الْعَادَةِ أَنْ يُقْتَل (6) .
__________
(1) الأم 4 / 36، وبدائع الصنائع 3 / 244، وشرح الخرشي 5 / 305، والمنتقى للباجي 6 / 176.
(2) المغني 6 / 509.
(3) رد المحتار 2 / 717، والبدائع 3 / 224، ومغني المحتاج 3 / 52، والمنتقى 6 / 176، والمغني 6 / 510.
(4) رد المحتار 2 / 717، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 660.
(5) الإنصاف للمرداوي 8 / 170، والمغني 6 / 510، وبدائع الصنائع 3 / 224، ورد المحتار 2 / 717، وشرح الخرشي 5 / 305، ونهاية المحتاج 6 / 63، ومغني المحتاج 3 / 52، وجواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود 1 / 444.
(6) الأم 4 / 36، والإنصاف 8 / 170، ونهاية المحتاج 6 / 63، والمغني 6 / 510.

(37/7)


هـ - الْمَرْأَةُ الْحَامِل إِذَا أَتَاهَا الطَّلْقُ (1) .
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا أَنْ يَتَّصِل حَال خَوْفِ الْهَلاَكِ الْغَالِبِ أَوِ الْكَثِيرِ بِالْمَوْتِ، حَتَّى تُلْحَقَ بِمَرَضِ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ (2) .

حُكْمُ الأَْمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ
3 - الأَْمْرَاضُ الْمُزْمِنَةُ أَوِ الْمُمْتَدَّةُ لاَ تُعَدُّ مَرَضَ الْمَوْتِ، إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ حَال الْمَرِيضِ وَاشْتَدَّ وَخِيفَ مِنْهُ الْهَلاَكُ، فَيَكُونُ حَال التَّغَيُّرِ مَرَضَ الْمَوْتِ إِنِ اتَّصَل بِالْمَوْتِ (3) .
قَال الْكَيْسَانِيُّ: وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْفَالِجِ وَنَحْوُهُ إِذَا طَال بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ، لأَِنَّ ذَلِكَ إِذَا طَال لاَ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا، فَلَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ، إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ، فَيَكُونُ حَال التَّغَيُّرِ مَرَضَ الْمَوْتِ، لأَِنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا، فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَكَذَا الزَّمِنُ وَالْمُقْعَدُ (4) .
__________
(1) البدائع 3 / 224، ونهاية المحتاج 6 / 63، والأم 4 / 35، والإنصاف 8 / 170، والمغني 6 / 508، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 660.
(2) انظر م267 من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا.
(3) انظر المهذب 1 / 460، وشرح ابن ناجي على الرسالة 2 / 52.
(4) بدائع الصنائع 3 / 224.

(37/7)


وَجَاءَ فِي فَتَاوَى عُلَيْشٍ: قَال ابْنُ سَلْمُونَ: وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي الْمَرَضِ الْعِلَل الْمُزْمِنَةُ الَّتِي لاَ يُخَافُ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْهَا كَالْجُذَامِ وَالْهَرَمِ، وَأَفْعَال أَصْحَابِ ذَلِكَ أَفْعَال الأَْصِحَّاءِ بِلاَ خِلاَفٍ اهـ. قَال عَبْدُ الْبَاقِي: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ، كَوْنُ الْمَفْلُوجِ وَالأَْبْرَصِ وَالأَْجْذَمِ وَذِي الْقُرُوحِ مِنَ الْخَفِيفِ مَا لَمْ يُقْعِدْهُ وَيُضْنِهِ، فَإِنْ أَقْعَدَهُ وَأَضْنَاهُ وَبَلَغَ بِهِ حَدَّ الْخَوْفِ عَلَيْهِ، فَلَهُ حُكْمُ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ (1) .

الاِخْتِلاَفُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ:
4 - إِذَا طَعَنَ الْوَرَثَةُ مَثَلاً فِي تَصَرُّفَاتِ مُوَرِّثِهِمْ بِدَعْوَى صُدُورِهَا عَنْهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِمَا يَمَسُّ حُقُوقَهُمْ وَادَّعَى الْمُنْتَفِعُ أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَقَعَتْ مِنْ مُوَرِّثِهِمْ فِي صِحَّتِهِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالاَتٍ ثَلاَثٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: إِذَا خَلَتْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْبَيِّنَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل قَوْل مُدَّعِي صُدُورِهَا فِي الْمَرَضِ، لأَِنَّ حَال الْمَرَضِ أَدْنَى مِنْ حَال الصِّحَّةِ، فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ حَال الصِّحَّةِ يُحْمَل عَلَى الأَْدْنَى، وَلأَِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ، فَهِيَ حَادِثَةٌ، وَالْحَادِثُ يُضَافُ إِلَى أَقْرَبِ وَقْتٍ مِنَ الْحُكْمِ
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 361.

(37/8)


الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَالأَْقْرَبُ هَاهُنَا الْمَرَضُ الْمُتَأَخِّرُ زَمَانُهُ عَنْ زَمَانِ الصِّحَّةِ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْل مَنْ يَدَّعِي حُدُوثَهَا فِي الْمَرَضِ، إِذْ هُوَ الأَْصْل، وَلَوْ أَرَادَ مُدَّعِي الصِّحَّةِ اسْتِحْلاَفَ مُدَّعِي الْمَرَضِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ (1) .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل قَوْل مُدَّعِي صُدُورِهَا فِي الصِّحَّةِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي التَّصَرُّفِ السَّابِقِ مِنَ الْمُتَوَفَّى أَنْ يُعْتَبَرَ صَادِرًا فِي حَال صِحَّتِهِ، وَعَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِصُدُورِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَقَعُ عَبْءُ الإِْثْبَاتِ (2) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا اقْتَرَنَتْ دَعْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ وُقُوعِهَا فِي حَال الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ وُقُوعِهَا فِي الْمَرَضِ، لأَِنَّ الأَْصْل اعْتِبَارُ حَالَةِ الْمَرَضِ، لأَِنَّهُ حَادِثٌ، وَالأَْصْل إِضَافَةُ الْحَادِثِ إِلَى أَقْرَبِ وَقْتٍ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَالأَْقْرَبُ هُوَ الْمَرَضُ الْمُتَأَخِّرُ زَمَانُهُ عَنِ الصِّحَّةِ، فَلِهَذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ الرَّاجِحَةُ بَيِّنَةَ مَنْ يَدَّعِي حُدُوثَهَا فِي زَمَانِ الصِّحَّةِ، إِذِ الْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لإِِثْبَاتِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 183 ط. بولاق، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص258 ط. الحلبي، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 54، 80 والإنصاف للمرداوي 7 / 174.
(2) نهاية المحتاج 5 / 414، والبجيرمي على المنهج 3 / 274، ومغني المحتاج 3 / 50.

(37/8)


خِلاَفِ الأَْصْل (1) .
وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ الْمَرَضِ، مَثَلاً إِذَا وَهَبَ أَحَدٌ مَالاً لأَِحَدِ وَرَثَتِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَادَّعَى بَاقِي الْوَرَثَةِ أَنَّهُ وَهَبَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَادَّعَى الْمَوْهُوبُ لَهُ أَنَّهُ وَهَبَهُ فِي حَال صِحَّتِهِ، تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ (2) .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ وُقُوعِهَا فِي مَرَضِهِ عَلَى بَيِّنَةِ وُقُوعِهَا فِي صِحَّتِهِ (3) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا اقْتَرَنَتْ دَعْوَى أَحَدِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الآْخَرِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَقْدِيمِ قَوْل الْمُدَّعِي صَاحِبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى قَوْل الآْخَرِ الَّذِي خَلَتْ دَعْوَاهُ عَنِ الْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ أَقَامَ صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ بَيِّنَتَهُ عَلَى صُدُورِ التَّصَرُّفِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ.

الْهِبَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ

جَعَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِهِبَةِ الْمَرِيضِ أَحْكَامًا
تَخْتَلِفُ عَنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الصَّحِيحِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ
__________
(1) الفتاوى البزازية 5 / 453 (بهامش الفتاوى الهندية) ، وواقعات المفتين ص208، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 80، وحاشية الرملي على جامع الفصولين ص / 183.
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة / 1766.
(3) نهاية المحتاج 6 / 55، وإعانة الطالبين 3 / 213، والبجيرمي على المنهج 3 / 274.

(37/9)


مَا إِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل مَوْتِ الْمَرِيضِ الْوَاهِبِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَقْبِضْهَا قَبْلَهُ.

أَوَّلاً - هِبَةُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ الْمَقْبُوضَةُ
5 - إِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ غَيْرُ الْمَدِينِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهُ:
أ - فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضِ، وَقَبَضَ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ، وَالْمَرِيضُ الْوَاهِبُ غَيْرَ مَدِينٍ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ وَارِثٌ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ، وَلَوِ اسْتَغْرَقَتْ كُل مَالِهِ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: تَبْطُل الْهِبَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَال الْمَرِيضِ، لأَِنَّ مَالَهُ مِيرَاثٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلاَ مُجِيزَ لَهُ مِنْهُمْ، فَبَطَلَتْ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ وَرَثَةٌ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى نَفَاذِ هِبَةِ الْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِنْ حَمَلَهَا ثُلُثُ مَالِهِ، أَمَّا إِذَا زَادَتْ
__________
(1) المبسوط 12 / 103 وانظر م (877) من مجلة الأحكام العدلية.
(2) الأم 4 / 30 ط. بولاق، والمهذب 1 / 457، والمنتقى للباجي 6 / 156، والأبي على مسلم 4 / 339.

(37/9)


عَلَى الثُّلُثِ، فَيَتَوَقَّفُ الْقَدْرُ الزَّائِدُ مِنْهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَل (1) .
وَتُعْتَبَرُ إِجَازَتُهُمْ لَوْ وَقَعَتْ تَنْفِيذًا وَإِمْضَاءً لِهِبَةِ مُوَرِّثِهِمْ، إِلاَّ عَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ (2) ، وَقَوْلٍ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) ، حَيْثُ اعْتَبَرَاهَا ابْتِدَاءً عَطِيَّةً مِنْهُمْ.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ هِبَةِ الْمَرِيضِ لِلأَْجْنَبِيِّ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَالْوَصِيَّةِ (4) بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَادَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَال: لاَ، قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ؟ قَال: لاَ، قَال: الثُّلُثُ كَثِيرٌ (5) .
__________
(1) الفتاوى البزازية 6 / 241، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 85، وشرح معاني الآثار 4 / 380، ومغني المحتاج 3 / 47، والأم 4 / 30، والمهذب 1 / 460، ونهاية المحتاج 6 / 55، وكفاية الطالب الرباني 2 / 235، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 286، وانظر مادة (879) من مجلة الأحكام العدلية، ومادة (85) من مرشد الحيران.
(2) المهذب 1 / 457، ونهاية المحتاج 6 / 54
(3) البهجة شرح التحفة للتسولي 2 / 240.
(4) شرح معاني الآثار 4 / 379 وما بعدها، والباجي على الموطأ 6 / 156 وما بعدها.
(5) حديث: " عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 179) ، ومسلم (3 / 1250) واللفظ للبخاري.

(37/10)


قَال الطَّحَاوِيُّ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَعَل صَدَقَتَهُ فِي مَرَضِهِ مِنَ الثُّلُثِ، كَوَصَايَاهُ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ غَيْرُ الْمَدِينِ لِوَارِثِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَأَقْبَضَهُ إِيَّاهُ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ الْمَرِيضِ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْهُوبُ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ (2) أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَتَوَقَّفُ الْهِبَةُ عَلَى إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْهُوبُ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ - كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ - فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا بَطَلَتْ (3) . وَتُعْتَبَرُ إِجَازَتُهُمْ تَنْفِيذًا وَإِمْضَاءً لِهِبَةِ
__________
(1) شرح معاني الآثار 4 / 381.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة / 878، وانظر شرح المجلة للأتاسي 3 / 402 وما بعدها.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 402، وجامع الفصولين 2 / 181 وما بعدها، ونهاية المحتاج 5 / 408، 6 / 48، والمهذب 1 / 458، والبهجة شرح التحفة 2 / 240، وتوضيح الأحكام للتوزري 4 / 28، والمغني 6 / 286، 491، ومجلة الأحكام العدلية مادة 879.

(37/10)


مُوَرِّثِهِمْ عِنْدَهُمْ إِلاَّ عَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْلٍ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ ابْتِدَاءً عَطِيَّةً.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ الأَْظْهَرِ وَقَال: هِبَةُ الْمَرِيضِ الْمَقْبُوضَةُ لِوَارِثِ بَاطِلَةٌ مَرْدُودَةٌ (1) .

ثَانِيًا - هِبَةُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ الْمَقْبُوضَةُ
6 - إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ الْوَاهِبُ مَدِينًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا لِمَالِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ:
فَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، وَوَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَلاَ تَنْفُذُ هِبَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْهُوبُ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْوَاهِبِ أَوْ وَارِثًا لَهُ، بَل تَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، فَإِنْ أَجَازُوهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا بَطَلَتْ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا وَهَبَ مَنِ اسْتَغْرَقَتْ تَرِكَتُهُ بِالدُّيُونِ أَمْوَالَهُ لِوَارِثِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَسَلَّمَهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَلأَِصْحَابِ الدُّيُونِ إِلْغَاءُ الْهِبَةِ، وَإِدْخَال أَمْوَالِهِ فِي قِسْمَةِ الْغُرَمَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ الْوَاهِبُ مَدِينًا بِدَيْنٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ، وَقَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْمَال
__________
(1) الأم 4 / 32 ط. بولاق

(37/11)


الْمَوْهُوبَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخْرَجُ مِقْدَارُ الدُّيُونِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْهِبَةِ فِي الْمَبْلَغِ الزَّائِدِ بِنَفْسِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ خَالِيَةً عَنِ الدَّيْنِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (هِبَةٌ) .

ثَالِثًا - هِبَةُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ
7 - إِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَقْبِضِ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ حَتَّى مَاتَ الْوَاهِبُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْل الْقَبْضِ، كَمَا تَبْطُل أَيْضًا لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ صَحِيحًا وَقْتَ الْهِبَةِ، قَالُوا: وَلاَ تَنْقَلِبُ هِبَةُ الْمَرِيضِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَصِيَّةً، لأَِنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلاَتُ يُبْطِلُهَا الْمَوْتُ كَالنَّفَقَاتِ، وَلأَِنَّ الْوَاهِبَ أَرَادَ التَّمْلِيكَ فِي الْحَال لاَ بَعْدَ الْمَوْتِ، إِذِ الْهِبَةُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ الْمُنَجَّزَ فِي الْحَيَاةِ (2) .
قَال الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَهَبَ الرَّجُل فِي مَرَضِهِ الْهِبَةَ، فَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ حَتَّى مَاتَ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 880 وشروحها.
(2) المبسوط 12 / 102، ورد المحتار 4 / 710 ط. بولاق، وجامع الفصولين 2 / 180، والفتاوى البزازية 6 / 240، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 82.

(37/11)


الْوَاهِبُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ شَيْءٌ، وَكَانَتِ الْهِبَةُ لِلْوَرَثَةِ (1) .
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَلاَ تَجُوزُ هِبَةُ الْمَرِيضِ وَلاَ صَدَقَتُهُ إِلاَّ مَقْبُوضَةً، فَإِذَا قُبِضَتْ جَازَتْ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْل التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ (2) .
وَالثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَحِيحَةٌ، وَتَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَمْ يَقْبِضْهَا قَبْل مَوْتِ الْوَاهِبِ الْمَرِيضِ (3) .
جَاءَ فِي فَتَاوَى عُلَيْشٍ: مَا قَوْلُكُمْ فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ وَصَدَقَتِهِ وَسَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ، هَل تَحْتَاجُ لِحِيَازَةٍ قَبْل مَوْتِهِ، كَتَبَرُّعَاتِ الصَّحِيحِ، أَمْ لاَ؟ فَأَجَبْتُ: لاَ تَحْتَاجُ لِحَوْزٍ عَنْهُ قَبْل مَوْتِهِ، لأَِنَّهَا كَالْوَصِيَّةِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الثُّلُثِ، قَال الْبُنَانِيُّ: وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَتَبَرُّعَاتُهُ نَافِذَةٌ مِنَ الثُّلُثِ مُطْلَقًا، أَشْهَدَ أَمْ لاَ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ مُضِيُّ تَبَرُّعِهِ عَلَى حَوْزٍ وَلاَ عَلَى الإِْشْهَادِ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهُ، قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَكُل صَدَقَةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ عَطِيَّةٍ بَتَلَهُ الْمَرِيضُ لِرَجُل بِعَيْنِهِ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَمْ تُخْرَجْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى مَاتَ، فَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْ
__________
(1) الأم 3 / 285.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 400.
(3) مواهب الجليل 6 / 381، والمدونة 4 / 326، 348، والمنتقى للباجي 6 / 157، والمبسوط 12 / 102، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص49.

(37/12)


ثُلُثِهِ كَوَصَايَاهُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بَطَلَتْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ (1) .

أَدَاءُ الْمَرِيضِ حُقُوقَ اللَّهِ الْمَالِيَّةَ
8 - إِذَا أَدَّى الإِْنْسَانُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ هَذَا الأَْدَاءُ مِنَ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ وَجَبَ مَالاً مِنَ الاِبْتِدَاءِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَوْ صَارَ مَالاً فِي الْمَآل، كَالْفِدْيَةِ فِي الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ بِنَفْسِهِ لاَ يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا (2) .
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَال، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ (3) .
وَالثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَال، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ، إِلاَّ أَنْ يَتَطَوَّعُوا بِذَلِكَ (4) .
__________
(1) فتاوى عليش 2 / 242، والحطاب 6 / 56.
(2) كشف الأسرار على أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري 4 / 1430 ط. إستانبول 1307 هـ.
(3) المرجع السابق 4 / 1431.
(4) المدونة 4 / 309 ط. المطبعة الخيرية.

(37/12)


الرُّجُوعُ عَنْ هِبَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْمَرِيضِ:
9 - إِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ عَنْ هِبَتِهِ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَرِيضٌ وَقَدْ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي الصِّحَّةِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَالرُّجُوعُ فِيهَا صَحِيحٌ، وَلاَ سَبِيل لِغُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لأَِنَّ الْوَاهِبَ يَسْتَحِقُّهُ بِحَقٍّ سَابِقٍ لَهُ عَلَى حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، كَانَ رَدُّ الْمَرِيضِ لَهَا حِينَ طَلَبِ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مِنَ الْمَرِيضِ، وَتَسْرِي عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامُ هِبَةِ الْمَرِيضِ (1) .

الْكَفَالَةُ بِالْمَال فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
إِذَا كَفَل الْمَرِيضُ غَيْرَهُ بِمَالِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَدِينٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدِينًا.

أَوَّلاً - كَفَالَةُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ
10 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: كَفَالَةُ الْمَرِيضِ بِمَالِهِ دَيْنًا لِشَخْصِ عَلَى آخَرَ تُعْتَبَرُ تَبَرُّعًا بِالْتِزَامِ مَالٍ لاَ يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ عِوَضًا، وَهِيَ اسْتِهْلاَكٌ لِمَال الْمَرِيضِ، فَتَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ (2) .
__________
(1) المبسوط 12 / 105، والزيلعي 5 / 102 وما بعدها، والفتاوى الهندية 4 / 401.
(2) التاج والإكليل للمواق 5 / 97، والخرشي 6 / 22 وما بعدها، والمدونة 4 / 142، والمغني لابن قدامة 5 / 79.

(37/13)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُفَرَّقُ فِي حُكْمِ كَفَالَةِ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمَكْفُول لَهُ، وَهُوَ الدَّائِنُ، وَالْمَكْفُول عَنْهُ، وَهُوَ الْمَدِينُ، أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا وَارِثًا لَهُ:
أ - فَإِذَا كَفَل الْمَرِيضُ دَيْنًا لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْمَكْفُول لَهُ وَعَنْهُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضِ، نَفَذَتِ الْكَفَالَةُ مِنْ كُل مَال الْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَلِلدَّائِنِ الْحَقُّ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ الْمَضْمُونِ بِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ الدَّيْنُ كُل التَّرِكَةِ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ حَقٌّ فِي مُعَارَضَتِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ وَرَثَةٌ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْمَال الْمَضْمُونُ بِهِ لاَ يَتَجَاوَزُ ثُلُثَ مَالِهِ، نَفَذَ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ تَجَاوَزَ الثُّلُثَ تَوَقَّفَ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى إِجَازَتِهِمْ، فَإِنْ رَدُّوهُ بَطَل، وَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، لأَِنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ، فَيَزُول الْمَانِعُ (1) .
ب - أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَكْفُول لَهُ أَوْ عَنْهُ وَارِثًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ الضَّامِنِ وَارِثٌ سِوَاهُ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَنْفُذُ مِنْ كُل مَال الْمَرِيضِ، وَلاَ اعْتِرَاضَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُهُ، فَلاَ تَنْفُذُ هَذِهِ
__________
(1) رد المحتار 2 / 490 ط. بولاق الثالثة 1299 هـ، وبدائع الصنائع 6 / 6، وجامع الفصولين 2 / 179، وفتاوى قاضيخان 3 / 69.

(37/13)


الْكَفَالَةُ إِلاَّ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ وَكَانُوا مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا، فَإِنْ أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ ثَبَتَ لِلْمَكْفُول لَهُ أَخْذُ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا، بَل يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنَ الْمَدِينِ الأَْصْلِيِّ، وَهُوَ الْمَكْفُول عَنْهُ (1) .

ثَانِيًا - كَفَالَةُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ
11 - يُفَرَّقُ فِي كَفَالَةِ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ بِمَالِهِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا لِتَرِكَتِهِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ.
أ - فَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا لِتَرِكَتِهِ، فَلاَ تَنْفُذُ كِفَالَتُهُ، وَلَوْ قَل الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ، إِلاَّ إِذَا أَبْرَأَهُ الدَّائِنُونَ الَّذِينَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِأَمْوَالِهِ قَبْل هَذِهِ الْكَفَالَةِ مِنَ الْمَال الْمَكْفُول بِهِ، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوهُ بِرِضَاهُمْ (2) .
ب - أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنُهُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخْرَجُ مِنَ التَّرِكَةِ مِقْدَارُ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ عَلَى الْمَرِيضِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْكَفَالَةِ بِالْمَبْلَغِ الزَّائِدِ عَلَى الدَّيْنِ بِنَفْسِ الْحُكْمِ عَلَى الْكَفَالَةِ فِي حَالَةِ خُلُوِّ التَّرِكَةِ عَنِ الدُّيُونِ (3) .
وَقَال الْكَيْسَانِيُّ: وَلَوْ كَفَل فِي صِحَّتِهِ،
__________
(1) رد المحتار 4 / 349، وجامع الفصولين 2 / 179، والفتاوى الهندية 3 / 289، وانظر م (1605) من مجلة الأحكام العدلية.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 289، ورد المحتار 4 / 349.
(3) مرشد الحيران: مادة / 733.

(37/14)


وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَا يُسْتَقْبَل، بِأَنْ قَال لِلْمَكْفُول لَهُ: كَفَلْتُ بِمَا يَذُوبُ لَكَ عَلَى فُلاَنٍ، ثُمَّ وَجَبَ لَهُ عَلَى فُلاَنٍ دَيْنٌ فِي حَال مَرَضِ الْكَفِيل، فَحُكْمُ هَذَا الدَّيْنِ وَحُكْمُ دَيْنِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ، حَتَّى يَضْرِبَ الْمَكْفُول لَهُ بِجَمِيعِ مَا يَضْرِبُ بِهِ غَرِيمُ الصِّحَّةِ، لأَِنَّ الْكَفَالَةَ وُجِدَتْ فِي حَال الصِّحَّةِ (1) .
وَجَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِذَلِكَ كَانَتْ فِي صِحَّتِهِ، لَزِمَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْكَفَالَةُ لِوَارِثٍ وَلاَ عَنْ وَارِثٍ، لأَِنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ فِي صِحَّتِهِ إِقْرَارٌ مِنْهُ بِمَالٍ كَانَ سَبَبُهُ فِي الصِّحَّةِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الإِْقْرَارِ بِالدَّيْنِ، فَصَحَّ إِذَا كَانَ الْمَكْفُول لَهُ أَجْنَبِيًّا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ (2) .
وَجَاءَ فِي م () مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِكَوْنِهِ قَدْ كَفَل فِي حَال صِحَّتِهِ، فَيُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُ مِنْ مَجْمُوعِ مَالِهِ، وَلَكِنْ تُقَدَّمُ دُيُونُ الصِّحَّةِ إِنْ وُجِدَتْ.

الْوَقْفُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
يُفَرَّقُ فِي الْوَقْفِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَدِينٍ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَدِينًا:
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 370، وانظر شرح المجلة للأتاسي 3 / 15، 4 / 685.
(2) فتاوى قاضيخان 3 / 69.

(37/14)


أَوَّلاً - وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ
إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ غَيْرُ الْمَدِينِ مَالَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْفُهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَارِثٍ:

أ - وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَقْفَ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ أَوْ عَلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْبِرِّ صَحِيحٌ نَافِذٌ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ أَحَدٍ إِنْ كَانَ مِقْدَارُ الْوَقْفِ لاَ يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مِقْدَارُ الْمَوْقُوفِ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ، فَيَنْفُذُ الْوَقْفُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَيَتَوَقَّفُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ (1) .

ب - وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ عَلَى الْوَارِثِ
13 - إِنْ كَانَ وَقْفُهُ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِهِمْ، ثُمَّ عَلَى جِهَةِ بِرٍّ لاَ تَنْقَطِعُ، فَيُنْظَرُ إِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ جَمِيعًا هَذَا الْوَقْفَ نَفَذَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْقُوفُ يُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ أَمْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 451، والعقود الدرية لابن عابدين 1 / 100، وجامع الفصولين 2 / 177، وفتاوى قاضيخان 3 / 316، ومغني المحتاج 2 / 377، وفتاوى عليش 2 / 217، وحاشية العدوي على شرح الخرشي 7 / 75، والدردير على خليل 4 / 81، والمدونة 4 / 346، والمغني لابن قدامة مع (الشرح الكبير) 6 / 219، وانظر المادة (33) من قانون العدل والإنصاف لقدري باشا.

(37/15)


وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ نَفَذَ وَقْفُ مَا يُخْرَجُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ أَجَازَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ، كَانَتْ حِصَّةُ الْمُجِيزِ وَقْفًا مَعَ الثُّلُثِ (1) .
وَإِنْ كَانَ وَقْفُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِهِ عَلَى مَذَاهِبَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .

ج - وَقْفُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ
14 - إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ مَالَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، وَمَاتَ وَهُوَ مَدِينٌ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَقْفُهُ كُلُّهُ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَارِثًا أَمْ غَيْرَ وَارِثٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ أَمْ مُسَاوِيًا لَهُ أَمْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ بَطَل الْوَقْفُ، وَبِيعَتِ الأَْعْيَانُ الْمَوْقُوفَةُ لِوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ (2) .
وَأَمَّا إِذَا وَقَفَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَكَانَ مَدِينًا بِدَيْنٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَيُخْرَجُ مِقْدَارُ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْوَقْفِ فِي الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ الإِْخْرَاجِ بِالْحُكْمِ عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَمَا تَكُونُ التَّرِكَةُ خَالِيَةً مِنَ الدُّيُونِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 500، والعقود الدرية لابن عابدين 1 / 102، 103.
(2) فتاوى قاضيخان 3 / 316، وجامع الفصولين 2 / 177، وواقعات المفتين ص86.

(37/15)


التَّصَرُّفَاتُ الْمَالِيَّةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
لِلتَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوَّلاً - الْبَيْعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
أ - بَيْعُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ مَالَهُ لأَِجْنَبِيٍّ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لأَِجْنَبِيٍّ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَبَيْعُهُ صَحِيحٌ نَافِذٌ عَلَى الْبَدَل الْمُسَمَّى، لأَِنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لاَ تَمَسُّ حُقُوقَ دَائِنِيهِ وَوَرَثَتِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا بَاعَهُ مَعَ الْمُحَابَاةِ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لأَِجْنَبِيٍّ وَحَابَاهُ فِي الْبَيْعِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِحَيْثُ يَحْمِلُهَا الثُّلُثُ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَنَافِذٌ عَلَى الْبَدَل الْمُسَمَّى، لأَِنَّ الْمَرِيضَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِغَيْرِ وَارِثِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّبَرُّعُ نَافِذًا، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَرَثَةُ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُحَابَاةُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ نَفَذَتْ، لأَِنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِمْ، وَقَدْ أَسْقَطُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا، فَإِنْ
__________
(1) كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1429، والأم 4 / 30، وشرح الخرشي 5 / 305، والمغني (مع الشرح الكبير) 5 / 472، وانظر م (394) من مجلة الأحكام العدلية وم (265) من مرشد الحيران.
(2) انظر شرح المجلة للأتاسي 2 / 411.

(37/16)


لَمْ يَكُنِ الْبَدَلاَنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ وَزَادَتِ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، فَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ لِلْوَرَثَةِ قِيمَةَ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ لِيُكْمِل لَهُمُ الثُّلُثَيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ إِلَى الْوَرَثَةِ وَيَأْخُذَ مَا دَفَعَهُ مِنَ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ الْفَسْخُ مُمْكِنًا، أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ - كَمَا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ - أُلْزِمَ بِإِتْمَامِ الثَّمَنِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْقِيمَةَ (1) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبَدَلاَنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ غَيْرَ النَّقْدَيْنِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُلْزِمُوا الْمُشْتَرِيَ بِأَنْ يَدْفَعَ لَهُمُ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، لأَِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى رِبَا الْفَضْل، لِهَذَا يُنْسَبُ الثُّلُثُ إِلَى الْمُحَابَاةِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِقَدْرِ النِّسْبَةِ وَيَبْطُل فِيمَا عَدَاهَا، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فِي الْقَدْرِ الْبَاقِي (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مَالَهُ لأَِجْنَبِيٍّ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل وَمِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ:
فَإِنْ قَصَدَ بِبَيْعِهِ مَالَهُ بِأَقَل مِنْ قِيمَتِهِ بِكَثِيرٍ
__________
(1) انظر (م394) من مجلة الأحكام العدلية، وم (266) من مرشد الحيران.
(2) المبسوط للسرخسي 29 / 59.

(37/16)


نَفْعَ الْمُشْتَرِي، فَمَا نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ مُحَابَاةً حُكْمُهَا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِلأَْجْنَبِيِّ، تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ إِنْ حَمَلَهَا الثُّلُثُ، وَتَبْطُل فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ إِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، وَإِنْ أَجَازُوهَا جَازَتْ، وَتَكُونُ ابْتِدَاءً عَطِيَّةً مِنْهُمْ تَفْتَقِرُ إِلَى الْحَوْزِ (1) ، وَالْوَقْتُ الْمُعْتَبَرُ فِي تَقْدِيرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ هُوَ وَقْتُ الْبَيْعِ، لاَ وَقْتُ مَوْتِ الْبَائِعِ (2) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِبَيْعِهِ مَالَهُ بِأَقَل مِنْ قِيمَتِهِ بِكَثِيرٍ نَفْعَ الْمُشْتَرِي، كَأَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ جَهْلاً بِقِيمَتِهِ، فَهُوَ غَبْنٌ يَصِحُّ مَعَهُ الْبَيْعُ عَلَى الْبَدَل الْمُسَمَّى وَيَنْفُذُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ النُّقْصَانُ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْل مِنَ الثُّلُثِ مَهْمَا بَلَغَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْمُول بِهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لِلأَْجْنَبِيِّ، وَحَابَاهُ فِي الْبَدَل، فَحُكْمُ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِلأَْجْنَبِيِّ، تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا نَفَذَتْ، وَإِلاَّ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ رَدِّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ الَّذِي دَفَعَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْوَرَثَةَ الْفَضْل
__________
(1) الخرشي على خليل 5 / 305، والبهجة على التحفة للتسولي 2 / 82.
(2) المنتقى للباجي 6 / 158.
(3) توضيح الأحكام للتوزري 3 / 74 (ط. تونس سنة 1339 هـ) .

(37/17)


عَمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا، رَدَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، لَكِنَّهُ قَدْ دَخَلَهُ عَيْبٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ أَجْنَبِيًّا فِي الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَتَنْفُذُ الْمُحَابَاةُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ إِنْ حَمَلَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ: فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ نَفَذَتْ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا - فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَدَلاَنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ، وَزَادَتِ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ - بَطَل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَسُلِّمَ لِلْمُشْتَرِي الْبَاقِي، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مَا سُلِّمَ لَهُ مِنَ الْمَبِيعِ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَدَلاَنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ غَيْرَ الثَّمَنَيْنِ، وَزَادَتِ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، فَيُنْسَبُ الثُّلُثُ إِلَى الْمُحَابَاةِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِقَدْرِ النِّسْبَةِ، وَيَبْطُل فِيمَا عَدَاهَا، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فِي الْقَدْرِ الْبَاقِي، وَإِنَّمَا فَعَل ذَلِكَ لِئَلاَّ يُفْضِيَ
__________
(1) الأم 4 / 30 وما بعدها.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 6 / 516، والإنصاف للمرداوي 7 / 175.

(37/17)


إِلَى الرِّبَا (1) .
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَإِنْ بَاعَ مَرِيضٌ قَفِيزًا لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ يُسَاوِي ثَلاَثِينَ بِقَفِيزٍ يُسَاوِي عَشَرَةً، فَأَسْقَطَ قِيمَةَ الرَّدِيءِ مِنْ قِيمَةِ الْجَيِّدِ، ثُمَّ نَسَبَ الثُّلُثَ إِلَى الْبَاقِي وَهُوَ عَشَرَةٌ مِنْ عِشْرِينَ تَجِدُهُ نِصْفَهَا، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْجَيِّدِ بِنِصْفِ الرَّدِيءِ، وَيَبْطُل فِيمَا بَقِيَ، وَهَذَا بِلاَ نِزَاعٍ (2) .

ب - بَيْعُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ مَالَهُ لأَِجْنَبِيٍّ
16 - إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لأَِجْنَبِيٍّ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَكَانَ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ نَافِذٌ عَلَى الْعِوَضِ الْمُسَمَّى، وَلاَ حَقَّ لِلدَّائِنِينَ فِي الاِعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِيَّةِ التَّرِكَةِ لاَ بِأَعْيَانِهَا، وَالْمَدِينُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ بِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ أَدْخَل فِيهِ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ الْمُسَاوِي لِقِيمَتِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ لِلْمُشْتَرِي، فَلاَ تَنْفُذُ الْمُحَابَاةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ قَلِيلَةً أَمْ كَثِيرَةً إِلاَّ بِإِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَبِيعُ تَمَامَ قِيمَتِهِ، وَلاَ اعْتِرَاضَ لِلدَّائِنِينَ عَلَيْهِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ يَلْحَقُهُمْ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَأَخْذِ مَا دَفَعَهُ مِنَ
__________
(1) الإنصاف 7 / 174 وما بعدها.
(2) الإنصاف 7 / 174.

(37/18)


الثَّمَنِ إِنْ كَانَ الْفَسْخُ مُمْكِنًا، أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ، كَمَا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ أُلْزِمَ بِإِتْمَامِ الثَّمَنِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْقِيمَةَ.
وَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لأَِجْنَبِيٍّ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَكَانَ مَدِينًا بِدَيْنٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ لِمَالِهِ، صَحَّ الْبَيْعُ وَنَفَذَ عَلَى الْبَدَل الْمُسَمَّى، أَمَّا إِذَا كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ، فَيُخْرَجُ مِقْدَارُ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَيَأْخُذُ هَذَا الْبَيْعُ حُكْمَ الْبَيْعِ فِيمَا لَوْ كَانَ الْمَرِيضُ غَيْرَ مَدِينٍ أَصْلاً بِالنِّسْبَةِ لِلْمَبْلَغِ الْبَاقِي بَعْدَ الإِْخْرَاجِ (1) .

ج - بَيْعُ الْمَرِيضِ مَالَهُ لِوَارِثٍ إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِوَارِثِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرِيضُ الْبَائِعُ غَيْرَ مَدِينٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدِينًا:

بَيْعُ الْمَرِيضِ غَيْرِ الْمَدِينِ مَالَهُ لِوَارِثٍ
17 - ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِلَى أَنَّهُ إِنْ بَاعَ الْمَرِيضُ وَارِثَهُ عَيْنًا مِنْ مَالِهِ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ بَيْعَهُ يَكُونُ صَحِيحًا نَافِذًا، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 178، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 54، وواقعات المفتين ص89، وانظر م (395) من مجلة الأحكام العدلية وم (267) من مرشد الحيران، وانظر شرح المجلة للأتاسي 2 / 414.

(37/18)


حَقُّهُمْ، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَكَانَ الْوَارِثُ وَالأَْجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءً (1) .
أَمَّا إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ وَارِثَهُ عَيْنًا مِنْ مَالِهِ وَحَابَاهُ فِي الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ حَمَل ثُلُثُ مَالِهِ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ أَمْ لَمْ يَحْمِلْهَا، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِلاَّ خُيِّرَ الْوَارِثُ بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَبِيعُ تَمَامَ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَهَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَرَثَةِ فِي الاِعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ، وَيُرَدَّ الْمَبِيعُ إِلَى التَّرِكَةِ، وَيَسْتَلِمَ الثَّمَنَ الَّذِي دَفَعَهُ لِلْمُوَرِّثِ (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْبَيْعُ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَل، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدَل مُسَاوِيًا لِمِثْل الْقِيمَةِ أَمْ كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ (3) .
وَهُوَ الْقَوْل الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، وَبِهِ قَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ وَارِثَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ دُونَ مُحَابَاةٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَنَافِذٌ عَلَى
__________
(1) كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1429، ورد المحتار 4 / 193، والمبسوط 14 / 150 واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص29، شرح المجلة للأتاسي 2 / 409.
(2) رد المحتار 4 / 193.
(3) المبسوط 14 / 150، رد المحتار 4 / 193، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 268، وكشف الأسرار 4 / 1429 وما بعدها، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص29، فتاوى قاضيخان 2 / 177، وانظر م (393) من مجلة الأحكام العدلية، وم (264) من مرشد الحيران.
(4) الإنصاف للمرداوي 7 / 172.

(37/19)


الْبَدَل الْمُسَمَّى (1) .
أَمَّا إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ وَارِثَهُ فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ حَابَاهُ فِي الثَّمَنِ كَأَنْ بَاعَهُ بِمِائَةٍ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْنِ مَثَلاً، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ كُلِّهَا إِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ، وَلاَ تُعْتَبَرُ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، وَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَنْفُذُ فِيمَا عَدَاهَا، وَتُعْتَبَرُ إِجَازَةُ الْوَرَثَةِ لِلْقَدْرِ الْمُحَابَى بِهِ ابْتِدَاءً عَطِيَّةً مِنْهُمْ تَفْتَقِرُ إِلَى حَوْزٍ، قَالُوا: وَالْمُعْتَبَرُ فِي تَقْدِيرِ مُحَابَاتِهِ لِيَوْمِ الْبَيْعِ لاَ لِيَوْمِ الْحُكْمِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِتَغَيُّرِ الأَْسْوَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ (2) .
أَمَّا إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ وَارِثَهُ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ، كَأَنْ يَقْصِدَ إِلَى خِيَارِ مَا يَمْلِكُهُ فَيَبِيعَهُ مِنْ وَلَدِهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ نَقْضُ ذَلِكَ الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ أَكْثَرَ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَبِيعَ مَا شَاءَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ إِلَى أَيِّ شَخْصٍ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَيَنْفُذَ بَيْعُهُ عَلَى الْعِوَضِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ (4) ، أَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَدَل مُحَابَاةٌ
__________
(1) المدونة 3 / 222.
(2) البهجة شرح التحفة للتسولي 2 / 82، والخرشي على خليل 5 / 305، والمنتقى للباجي 6 / 158، وتوضيح الأحكام للتوزري 3 / 74.
(3) شرح ابن سودة على التحفة 2 / 44، وشرح ابن ناجي على الرسالة 2 / 315، وتوضيح الأحكام 3 / 74، والبهجة شرح التحفة 2 / 83.
(4) نهاية المحتاج 5 / 408، والمهذب 1 / 460، والأم 7 / 97.

(37/19)


لِلْوَارِثِ، فَحُكْمُ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ حَيْثُ إِنَّ الأَْظْهَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا بَطَلَتْ، فَيَبْطُل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ (1) ، قَال الرَّمْلِيُّ: الْمَرَضُ إِنَّمَا يَمْنَعُ الْمُحَابَاةَ، وَلاَ يَمْنَعُ الإِْيثَارَ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَبِيعَ مَا شَاءَ مِنْ مَالِهِ لِوَارِثِهِ، وَيَنْفُذَ بَيْعُهُ إِذَا كَانَ بِثَمَنِ الْمِثْل (3) .
أَمَّا إِذَا حَابَى وَارِثَهُ فِي الْبَيْعِ، فَهُنَاكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ:
أَحَدُهَا: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ بَذَل الثَّمَنَ فِي كُل الْمَبِيعِ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي بَعْضِهِ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ. فَقَال: قَبِلْتُ الْبَيْعَ فِي نِصْفِهِ، أَوْ قَال: قَبِلْتُ نِصْفَهُ بِخَمْسَةٍ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَعَاقَدَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَصِحَّ كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ (4) .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ فِيمَا يُقَابِل الثَّمَنَ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 48، والبجيرمي على الخطيب 3 / 303، والمهذب 1 / 386.
(2) نهاية المحتاج 5 / 417.
(3) الإنصاف للمرداوي 7 / 172، والمغني (مطبوع مع الشرح الكبير) 5 / 472، 6 / 421، والشرح الكبير على المقنع 6 / 298.
(4) المغني 5 / 473، والإنصاف 7 / 173.

(37/20)


الْمُسَمَّى، وَتَتَوَقَّفُ الْمُحَابَاةُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا بَطَل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَصَحَّ فِيمَا بَقِيَ (1) .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَبْطُل الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ، وَيَصِحُّ فِيمَا يُقَابِل الثَّمَنَ الْمُسَمَّى، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الأَْخْذِ وَالْفَسْخِ، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ؛ لأَِنَّ الْبُطْلاَنَ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ الْمُحَابَاةِ، فَاخْتَصَّ بِمَا يُقَابِلُهَا، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ (2) .

بَيْعُ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ مَالَهُ لِوَارِثٍ
18 - اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدِينَ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ إِذَا بَاعَ مَالَهُ لِوَارِثِ بِثَمَنِ الْمِثْل، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ نَافِذٌ عَلَى الْبَدَل الْمُسَمَّى، وَلاَ حَقَّ لِلدَّائِنِينَ فِي الاِعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِيَّةِ التَّرِكَةِ لاَ بِأَعْيَانِهَا، وَالْمَرِيضُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ بِهَذَا الْبَيْعِ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ أَدْخَل فِيهِ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ الْمُسَاوِي لِقِيمَتِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَيْعِ الْمَرِيضِ الْمَدِينِ مُحَابَاةٌ لِلْوَارِثِ فِي الْبَدَل، فَلاَ تَنْفُذُ الْمُحَابَاةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ قَلِيلَةً أَمْ كَثِيرَةً إِلاَّ بِإِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، فَإِنْ
__________
(1) المغني 5 / 473.
(2) الإنصاف 7 / 172، والشرح الكبير على المقنع 6 / 298، والمغني 5 / 473.

(37/20)


أَجَازُوهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَبِيعُ تَمَامَ قِيمَتِهِ، وَلاَ اعْتِرَاضَ لِلدَّائِنِينَ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ مَا دَفَعَهُ مِنَ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ الْفَسْخُ مُمْكِنًا، أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ لِهَلاَكِ الْمَبِيعِ تَحْتَ يَدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيُلْزَمُ الْمُشْتَرِي بِإِتْمَامِ الثَّمَنِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْقِيمَةَ (1) .
19 - وَمِثْل الْبَيْعِ فِي كُل الأَْحْوَال الْمُتَقَدِّمَةِ الشِّرَاءُ، فَإِذَا اشْتَرَى الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنْ وَارِثِهِ الصَّحِيحِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَكَانَ غَيْرَ مَدِينٍ أَوْ كَانَ مَدْيُونًا اتَّبَعَتْ نَفْسَ الأَْحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي بَيْعِهِ (2) ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: صُورَةُ الْمُحَابَاةِ أَنْ يَبِيعَ الْمَرِيضُ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِخَمْسِينَ، أَوْ يَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ بِمِائَةِ، فَالزَّائِدُ عَلَى قِيمَةِ الْمِثْل فِي الشِّرَاءِ وَالنَّاقِصِ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ (3) .

ثَانِيًا - الإِْجَارَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
20 - إِذَا أَجَّرَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ إِجَارَتِهِ وَنَفَاذِهَا عَلَى الْبَدَل الْمُسَمَّى.
أَمَّا إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ الْمُسْتَأْجَرَ فِي الْبَدَل، بِأَنْ أَجَّرَهُ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل، فَلِفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) انظر كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1432.
(2) انظر شرح المجلة للأتاسي 2 / 413.
(3) الفتاوى الهندية 6 / 110.

(37/21)


فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الرَّاجِحُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ: وَهُوَ أَنَّ الإِْجَارَةَ صَحِيحَةٌ نَافِذَةٌ عَلَى الْبَدَل الْمُسَمَّى، وَتُعْتَبَرُ الْمُحَابَاةُ مِنْ رَأْسِ الْمَال لاَ مِنَ الثُّلُثِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الإِْجَارَةَ تَبْطُل بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَلاَ يَبْقَى عَلَى الْوَرَثَةِ ضَرَرٌ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لَمَّا بَطَلَتْ بِالْمَوْتِ، صَارَتِ الْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةً لَهُمْ وَفِي حَيَاتِهِ لاَ مِلْكَ لَهُمْ، فَلاَ ضَرَرَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَوْفِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ حَال حَيَاةِ الْمُؤَجِّرِ، وَلأَِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَرِيضِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الإِْرْثُ كَأَعْيَانِ التَّرِكَةِ. أَمَّا مَا لاَ يَجْرِي فِيهِ الإِْرْثُ كَالْمَنَافِعِ فَلاَ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهَا، فَيَكُونُ تَبَرُّعُهُ بِهَا نَافِذًا مِنْ كُل مَالِهِ (2) .
الثَّانِي، وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (3) ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَحَقَّقُ بِهَا الإِْضْرَارُ بِالْوَرَثَةِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَ الْمَرِيضُ مَا أُجْرَتُهُ مِائَةٌ بِأَرْبَعِينَ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَطَال مَرَضُهُ بِقَدْرِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ فَأَكْثَرَ، بِحَيْثُ
__________
(1) رد المحتار 5 / 81، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص294 (ط. الحلبي سنة 1968م) ، والفتاوى الهندية 5 / 261، والفتاوى البزازية 6 / 452.
(2) جامع الفصولين 2 / 179، ورد المحتار 5 / 81.
(3) الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 123، وجامع الفصولين 2 / 186.

(37/21)


اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنَافِعَ فِي مُدَّةِ إِجَارَتِهِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي حَابَى بِهِ وَهُوَ سِتُّونَ، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُعْتَبَرَ هَذِهِ الْمُحَابَاةُ كَالْوَصِيَّةِ (1) .

ثَالِثًا - الزَّوَاجُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الزَّوَاجِ فِي حَال مَرَضِ الْمَوْتِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ، مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَتَوْرِيثُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إِلاَّ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا، لِي فِيهِنَّ طَوْل النِّكَاحِ، لَتَزَوَّجْتُ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ (4) .
وَبِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: زَوِّجُونِي، إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَل عَزَبًا (5) .
__________
(1) الأحكام الشرعية لقدري باشا مادة 516.
(2) بدائع الصنائع 7 / 225، والزيلعي وحاشية الشلبي عليه 5 / 23، وما بعدها، والأم 4 / 31، وجواهر العقود للأسيوطي 1 / 450، والمغني 7 / 212، والشرح الكبير على المقنع 7 / 175.
(3) سورة النساء / 3.
(4) أثر ابن مسعود أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1 / 3 / 122) .
(5) الأم للشافعي 4 / 32.

(37/22)


فَإِذَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ الزَّوَاجِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ ثَبَتَ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِعُمُومِ آيَةِ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الأَْزْوَاجِ (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجَةِ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا الْمَرِيضُ مِنَ الْمَهْرِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْرٌ) .

رَابِعًا - الطَّلاَقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
22 - إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَالطَّلاَقُ وَاقِعٌ، سَوَاءٌ طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً أَوْ بَائِنَةً، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَال: لاَ يَقَعُ طَلاَقُ الْمَرِيضِ (2) .
وَمَعَ قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ بِوُقُوعِ طَلاَقِ الْمَرِيضِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا بَعْدَهُ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَقٌ ف 66) .

خَامِسًا - الإِْبْرَاءُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
23 - إِذَا أَبْرَأَ الْمَرِيضُ غَيْرُ الْمَدِينِ مَدِينًا لَهُ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْرَأُ أَجْنَبِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا:
أ - فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 213.
(2) القوانين الفقهية ص228، مطبعة النهضة بفاس عام 1935م، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 444.

(37/22)


وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَبْرَأَ الْمَرِيضُ مَدِينَهُ الأَْجْنَبِيَّ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ لاَ يَتَجَاوَزُ ثُلُثَ مَال الْمَرِيضِ، فَإِنَّ الإِْبْرَاءَ صَحِيحٌ نَافِذٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ - لأَِنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ - وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَل.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ وَارِثٌ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَنْفُذُ إِبْرَاؤُهُ لِلأَْجْنَبِيِّ، وَلَوِ اسْتَغْرَقَ كُل مَالِهِ، وَلاَ حَقَّ لأَِحَدٍ فِي الْمُعَارَضَةِ (1) .
ب - أَمَّا إِذَا كَانَ وَارِثًا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَبْرَأَ الْمَرِيضُ وَارِثَهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَكَانَ الْمَرِيضُ غَيْرَ مَدِينٍ، فَإِنَّ إِبْرَاءَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ الَّذِي أَبْرَأَهُ مِنْهُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَل.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ وَارِثٌ سِوَى الْمُبْرَأِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ الإِْبْرَاءَ يَنْفُذُ وَلَوِ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ الْمَال، لأَِنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدُوا، فَيَنْفُذُ (2) .
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 131 وما بعدها، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 50، ورد المحتار 4 / 638، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 592، ونهاية المحتاج 6 / 55، والبجيرمي على الخطيب 3 / 300، ومغني المحتاج 3 / 47، وإعانة الطالبين 3 / 212، والمغني لابن قدامة 6 / 491، وانظر م941 من مرشد الحيران والمادة (1570) من مجلة الأحكام العدلية.
(2) جامع الفصولين 2 / 186، والعقود الدرية 2 / 50، ورد المحتار 4 / 638، وقرة عيون الأخيار 2 / 132، وانظر المادة 940 من مرشد الحيران والمادة (1570) من المجلة العدلية، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 682.

(37/23)


24 - وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَتَوَقَّفُ إِبْرَاءُ الْمَرِيضِ مَدِينَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى إِجَازَةِ الدَّائِنِينَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ الَّذِي أَبْرَأَ مِنْهُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا، لأَِنَّهُمْ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ فِي مَالِهِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْرَأُ وَارِثًا لِلْمَرِيضِ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ.
أَمَّا إِذَا أَبْرَأَ الْمَرِيضُ مَدِينَهُ، وَكَانَ الْمُبْرِئُ مَدِينًا بِدَيْنٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقٍ لِتَرِكَتِهِ، فَيُخْرَجُ مِنَ التَّرِكَةِ مِقْدَارُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الإِْبْرَاءِ فِي الْقَدْرِ الْبَاقِي بَعْدَ الدَّيْنِ بِالْحُكْمِ عَلَى الإِْبْرَاءِ حَيْثُ لاَ يَكُونُ الْمَرِيضُ مَدِينًا أَصْلاً (1) .

سَادِسًا - الْخُلْعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
25 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُخَالَعَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ صَحِيحَةٌ وَنَافِذَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَرِيضُ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ أَوْ كِلَيْهِمَا (2) .
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ مِنْ بَدَل الْخُلْعِ إِذَا وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ فِي الْمَرَضِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 131، والعقود الدرية 2 / 50، 58 والمادة (567) من الأحكام الشرعية والمادة (1571) من المجلة العدلية والمادة (941) من مرشد الحيران.
(2) المغني 8 / 228، والأم 5 / 182.

(37/23)


الْوَاقِعَةِ، مَعَ تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ الْمُخَالَعُ هُوَ الْمَرِيضُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ الْمُخَالِعَةُ هِيَ الْمَرِيضَةَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ ف 18 - 19) .

سَابِعًا - الإِْقْرَارُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
26 - إِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَرَضَ مَوْتٍ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إِقْرَارُهُ بِدَيْنٍ لأَِجْنَبِيٍّ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ كُل مَالِهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ أَقَرَّ بِهَا فِي حَال صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي إِقْرَارِهِ، كَأَنْ يُقِرَّ لِوَارِثٍ قَرِيبٍ مَعَ وُجُودِ الأَْبْعَدِ أَوِ الْمُسَاوِي لَمْ يُقْبَل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 24، 25) .
27 - وَأَمَّا الإِْقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِقْرَارًا بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ

(37/24)


وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِقْرَارًا بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ:
أ - فَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِاسْتِيفَائِهِ وَجَبَ لَهُ فِي حَال الصِّحَّةِ أَوْ فِي حَال الْمَرَضِ.
فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ فِي حَال الصِّحَّةِ (1) ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَيُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنَ الدَّيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ فِي حَال الصِّحَّةِ بَدَلاً عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، أَوْ كَانَ بَدَلاً عَمَّا هُوَ مَالٌ، نَحْوُ بَدَل الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ صِحَّةٍ أَمْ لَمْ يَكُنْ (2) .
__________
(1) أي علم وجوبه في حال الصحة بالبينة، أما إذا لم يعلم ذلك إلا بقول المريض وحده، أو بقوله وقول من داين معه، بأن قال المريض لرجل بعينه: قد كنت بعتك هذا العبد في صحتي بكذا، وأنت قبضت العبد، وأنا استوفيت الثمن، وصدقه في ذلك المشتري، ولا يعرف ذلك إلا بقول وجامع الفصولين 2 / 185، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 675، 682) .
(2) بدائع الصنائع 7 / 226، والفتاوى الهندية 4 / 179، ورد المحتار 4 / 640.

(37/24)


أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا وَجَبَ لَهُ بَدَلاً عَمَّا هُوَ مَالٌ لِلْمَرِيضِ وَبَيْنَ مَا إِذَا وَجَبَ لَهُ بَدَلاً عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ لِلْمَرِيضِ:
فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْ وَجَبَ لِلْمَرِيضِ بَدَلاً عَمَّا هُوَ مَالٌ لَهُ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَل الْقَرْضِ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَيُجْعَل ذَلِكَ مِنْهُ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ، لأَِنَّهُ لَمَّا مَرِضَ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَل، لأَِنَّهُ مَالٌ، فَكَانَ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ إِبْطَالاً لِحَقِّهِمْ عَنِ الْمُبْدَل، إِلاَّ أَنْ يَصِل الْبَدَل إِلَيْهِمْ، فَيَكُونَ مُبْدَلاً مَعْنًى لِقِيَامِ الْبَدَل مَقَامَهُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالاِسْتِيفَاءِ فَلاَ وُصُول لِلْبَدَل إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ بِالاِسْتِيفَاءِ فِي حَقِّهِمْ، فَبَقِيَ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ، حَيْثُ إِنَّ الإِْقْرَارَ بِالاِسْتِيفَاءِ إِقْرَارٌ بِالدَّيْنِ، لأَِنَّ كُل مَنِ اسْتَوْفَى دَيْنًا مِنْ غَيْرِهِ، يَصِيرُ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي، ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالاِسْتِيفَاءِ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ لاَ يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَلاَ يَنْفُذُ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 227، ورد المحتار 4 / 640، والفتاوى الهندية 4 / 179، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 682، وانظر م 1603 من مجلة الأحكام العدلية.

(37/25)


وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا، مَا لَوْ أَتْلَفَ شَخْصٌ لِلْمَرِيضِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي مَرَضِهِ، فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ الْقِيمَةِ مِنْهُ، فَلاَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ، لأَِنَّ الْحَقَّ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُبْدَل فَيَتَعَلَّقُ بِالْبَدَل (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِاسْتِيفَائِهِ قَدْ وَجَبَ لِلْمَرِيضِ فِي حَالَةِ مَرَضِهِ بَدَلاً عَمَّا هُوَ لَيْسَ بِمَالٍ لَهُ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ بَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِالاِسْتِيفَاءِ، وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنَ الدَّيْنِ، لأَِنَّ هَذَا الإِْقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لَيْسَ فِيهِ مِسَاسٌ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، لأَِنَّ حَقَّهُمْ لاَ يَتَعَلَّقُ فِي الْمَرَضِ بِالْمُبْدَل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - وَهُوَ النَّفْسُ - لأَِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل التَّعَلُّقَ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِبَدَلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِهِ، فَلاَ يَكُونُ فِي الإِْقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ هَذَا الدَّيْنِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، فَيَنْفُذُ مُطْلَقًا (2) .

ب - أَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، سَوَاءٌ وَجَبَ بَدَلاً عَمَّا هُوَ مَالٌ، أَوْ بَدَلاً عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ بِالدَّيْنِ، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 227.
(2) بدائع الصنائع 7 / 227، وجامع الفصولين 2 / 184، ورد المحتار 4 / 640، والفتاوى الهندية 4 / 179، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 680.

(37/25)


الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي، فَكَانَ إِقْرَارُهُ بِالاِسْتِيفَاءِ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَاقِي الْوَرَثَةِ (1) .
جَاءَ فِي كَشْفِ الأَْسْرَارِ: لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَى الْوَارِثِ مِنْهُ، وَإِنْ لَزِمَ الْوَارِثَ الدَّيْنُ فِي حَال صِحَّةِ الْمُقِرِّ، لأَِنَّ هَذَا إِيصَاءٌ لَهُ بِمَالِيَّةِ الدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَإِنَّهَا تُسَلَّمُ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ (2) .
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ مَا لَوْ كَانَ وَارِثُهُ كَفِيلاً عَنْ أَجْنَبِيٍّ، لِلْمَرِيضِ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ كَانَ الأَْجْنَبِيُّ كَفِيلاً عَنْ وَارِثِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَائِهِ، لِتَضَمُّنِهِ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْوَارِثِ عَنِ الدَّيْنِ أَوْ عَنِ الْكَفَالَةِ (3) .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا، أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ مَهْرَهَا مِنْ زَوْجِهَا، وَلاَ يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ بِقَوْلِهَا - وَعَلَيْهَا دَيْنُ الصِّحَّةِ - ثُمَّ مَاتَتْ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا وَلاَ مَال لَهَا غَيْرُ الْمَهْرِ، لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهَا، وَيُؤْمَرُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 640، والمبسوط 18 / 81 وما بعدها، وبدائع الصنائع 7 / 227.
(2) كشف الأسرار على أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري 4 / 1430.
(3) المرجع السابق 4 / 1430، والمبسوط 18 / 81، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 682.

(37/26)


الزَّوْجُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إِلَى الْغُرَمَاءِ، فَيَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ وَارِثٌ لَهَا، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثِهِ لاَ يَصِحُّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِاسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ، صَحَّ إِقْرَارُهُ إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الإِْقْرَارِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ مِنَ الدَّيْنِ عَلَى الْوَارِثِ، لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِيهِ، فَمَدَارُ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ أَوْ عَدَمِهَا فِي الْحَالَتَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ أَوْ ثُبُوتِهَا (2) ، قَال زَرُّوقٌ: وَلاَ يَجُوزُ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنِ أَوْ بِقَبْضِهِ، يَعْنِي لأَِنَّ حُكْمَ الْوَاقِعِ فِي الْمَرَضِ كُلِّهِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ، وَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَمَدَارُ هَذِهِ الْمَسَائِل عَلَى انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَثُبُوتِهَا، فَحَيْثُ يُتَّهَمُ بِمُحَابَاةٍ يُمْنَعُ وَلاَ يَصِحُّ، وَحَيْثُ لاَ فَيَجُوزُ وَيَصِحُّ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ إِذَا كَانَ غَرِيمُهُ أَجْنَبِيًّا لاَ وَارِثًا (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 227.
(2) المدونة 4 / 110، وكفاية الطالب الرباني 2 / 342.
(3) شرح زروق على الرسالة 2 / 315 (المطبعة الجمالية بمصر 1330 هـ) .
(4) منتهى الإرادات 2 / 685.

(37/26)


الإِْقْرَارُ بِالْوَقْفِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
28 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَفَ أَرْضًا أَوْ دَارًا فِي يَدِهِ فِي صِحَّتِهِ، نَفَذَ إِقْرَارُهُ مِنْ كُل مَالِهِ إِذَا عَيَّنَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْهُمْ، نَفَذَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ وَلَمْ يُجِيزُوا الإِْقْرَارَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ، أَوْ كَانَ لَهُ وَأَجَازُوهُ نَفَذَ مِنَ الْكُل أَيْضًا (1) .
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِأَنَّ الأَْرْضَ الَّتِي فِي يَدِهِ وَقَفَهَا رَجُلٌ مَالِكٌ لَهَا عَلَى مُعَيَّنٍ، كَانَتْ وَقْفًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى مُعَيَّنٍ، كَانَتْ وَقْفًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ (2) .
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِأَرْضٍ فِي يَدِهِ أَنَّ رَجُلاً مَالِكًا لَهَا جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِلْفُقَرَاءِ، فَلاَ تَكُونُ وَقْفًا عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى وَلَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُنَازِعٌ أَصْلاً، بَل تَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ، لأَِنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِمِلْكِيَّتِهَا لِغَيْرِهِ، وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، وَالأَْصْل فِي الصَّدَقَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْمَسَاكِينِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهَا وَقْفٌ عَلَيْهِمْ مَعْنًى، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَاهُ أَنَّهَا لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لأَِنَّهُ رُجُوعٌ عَنِ الإِْقْرَارِ الأَْوَّل (3) .
__________
(1) انظر م550، 552، من قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف لمحمد قدري باشا (الطبعة الثالثة بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة 1320 هـ) .
(2) انظر م551 من قانون العدل والإنصاف.
(3) انظر م553 من قانون العدل والإنصاف لمحمد قدري باشا.

(37/27)


الإِْقْرَارُ بِالطَّلاَقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
29 - إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا فِي صِحَّتِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِقْرَارُهُ بِطَلاَقِ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ.
فَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ سَاعَةَ تَكَلَّمَ، وَتَبْدَأُ عِدَّتُهَا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ يَوْمِ الإِْقْرَارِ وَرِثَهُ الآْخَرُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ طَلاَقًا بَائِنًا (1) .
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ ثَلاَثًا أَوْ بَائِنًا، فَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَيْنَ مَا إِذَا صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا أَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ فَلاَ تَرِثُهُ، لأَِنَّ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ صَارَ كَالْمُعَايَنِ أَوْ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّهِمَا، وَلأَِنَّ الْحَقَّ فِي الْمِيرَاثِ لَهَا، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِمَا يُسْقِطُ حَقَّهَا (2) .
أَمَّا إِذَا أَنْكَرَتِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ، فَتَبْتَدِئُ عِدَّةُ الطَّلاَقِ مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ، وَتَرِثُهُ إِذَا اسْتَمَرَّتْ أَهْلِيَّتُهَا لِلإِْرْثِ مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ إِلَى وَقْتِ
__________
(1) المدونة 2 / 132، والدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 354، وشرح الخرشي 4 / 18، والمغني 7 / 233 (مطبوع مع الشرح الكبير) .
(2) رد المحتار 2 / 718، والمبسوط 6 / 165، والفتاوى الهندية 1 / 464، ومجمع الأنهر 1 / 430.

(37/27)


مَوْتِهِ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي عِدَّتِهَا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ الطَّلاَقُ بِإِقْرَارِهِ سَاعَةَ تَكَلَّمَ، وَتَسْتَقْبِل عِدَّةَ الطَّلاَقِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلاَ تَرِثُهُ بِحَالٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا طَلاَقًا بَائِنًا، فَإِمَّا أَنْ تَشْهَدَ لَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ بَيِّنَةٌ، وَإِمَّا أَلاَّ تَشْهَدَ لَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ بَيِّنَةٌ:
فَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ، فَيُعْمَل بِهِ، وَتَكُونُ الْعِدَّةُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أَرَّخَتْهُ الْبَيِّنَةُ، وَلاَ إِرْثَ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا إِذَا لَمْ تَشْهَدْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا الإِْقْرَارُ بِمَنْزِلَةِ إِنْشَائِهِ الطَّلاَقَ فِي الْمَرَضِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِإِسْنَادِهِ لِزَمَنِ صِحَّتِهِ، فَتَرِثُهُ زَوْجَتُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ أَزْوَاجًا، وَلاَ يَرِثُهَا هُوَ، وَتَبْتَدِئُ عِدَّتَهَا مِنْ يَوْمِ الإِْقْرَارِ، لاَ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ الطَّلاَقُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُقْبَل إِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِأَنَّهُ أَبَانَ امْرَأَتَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ سَاعَةَ تَكَلَّمَ، وَتَرِثُهُ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ (4) .
__________
(1) رد المحتار 2 / 718، ومجمع الأنهر 1 / 430، والمبسوط 6 / 165، والفتاوى الهندية 1 / 464.
(2) الأم 5 / 237.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 354.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 223.

(37/28)


ثَامِنًا - قَضَاءُ الْمَرِيضِ دُيُونَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ
30 - إِذَا قَضَى الْمَرِيضُ دُيُونَ بَعْضِ غُرَمَائِهِ فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ تَفِي بِكُل دُيُونِ الْمَرِيضِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَفَاذِ قَضَائِهِ هَذَا، وَلاَ حَقَّ لِبَقِيَّةِ الدَّائِنِينَ فِي الاِعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ بِهَذَا الْعَمَل عَلَى حَقِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الْقُوَّةِ أَوْ مُتَسَاوِيَةً فِيهَا (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ لاَ تَفِي بِجَمِيعِ الدُّيُونِ، وَقَضَى الْمَرِيضُ بَعْضَ دَائِنِيهِ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَلِبَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ أَنْ يُزَاحِمُوا مَنْ قَضَاهُمُ الْمَرِيضُ بِنِسْبَةِ دُيُونِهِمْ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِقَضَاءِ بَعْضِ الدُّيُونِ دُونَ بَعْضٍ، فَلاَ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ، فَكَذَا إِذَا قَضَاهَا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ قَضَى مِنْ دَائِنِيهِ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ الدَّائِنِينَ الْبَاقِينَ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ عَلَيْهِ أَوْ مُشَارَكَةُ مَنْ قَبَضَ مِنَ الدَّائِنِينَ فِيمَا قَبَضَ، لأَِنَّ الْمَرِيضَ قَدْ أَدَّى وَاجِبًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَأَدَّى ثَمَنَهُ، أَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ كَذَلِكَ وَسَلَّمَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ إِيفَاءَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ قَضَاءٌ لِبَعْضِ غُرَمَائِهِ، وَقَدْ صَحَّ عَقِيبَ الْبَيْعِ، فَكَذَلِكَ إِذَا
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 342، المدونة 4 / 108، والإقناع 3 / 42، والمغني 6 / 504.
(2) المدونة 4 / 108، ونهاية المحتاج 4 / 342.

(37/28)


تَرَاخَى عَنْهُ، إِذْ لاَ أَثَرَ لِتَرَاخِيهِ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الْقُوَّةِ، وَقَضَى الْمَرِيضُ مِنْهَا الدَّيْنَ الْقَوِيَّ، وَهُوَ دَيْنُ الصِّحَّةِ، فَلاَ حَقَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الضَّعِيفِ فِي الْمُعَارَضَةِ، لأَِنَّ حَقَّهُ مُؤَخَّرٌ، أَمَّا إِذَا قَضَى مِنْهَا الدَّيْنَ الضَّعِيفَ، وَهُوَ دَيْنُ الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْقَوِيِّ حَقُّ مُعَارَضَتِهِ، لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ.
31 - أَمَّا إِذَا كَانَتِ الدُّيُونُ مُتَسَاوِيَةً فِي الْقُوَّةِ، بِأَنْ كَانَتْ كُلُّهَا دُيُونَ صِحَّةٍ، أَوْ كَانَتْ كُلُّهَا دُيُونَ مَرَضٍ، وَقَضَى الْمَرِيضُ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ دُيُونَهُمْ، ثَبَتَ لِلْبَاقِينَ حَقُّ الاِعْتِرَاضِ عَلَى تَفْضِيلِهِ بَعْضَهُمْ عَلَى الْبَعْضِ الآْخَرِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْجَمِيعِ بِمَالِهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا قَبَضُوهُ مِنَ الْمَرِيضِ، كُلٌّ بِنِسْبَةِ دَيْنِهِ، وَلاَ يَخْتَصُّ الآْخِذُ بِمَا أَخَذَ (2) ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مَهْرًا أَوْ أُجْرَةَ شَيْءٍ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ، لأَِنَّ مَا حَصَل لِلْمَرِيضِ مِنْ مَنْفَعَةِ النِّكَاحِ وَسُكْنَى الدَّارِ لاَ يَحْتَمِل تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ، وَلاَ يَصْلُحُ لِقَضَاءِ حُقُوقِهِمْ، فَصَارَ وُجُودُ هَذَا الْعِوَضِ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ إِبْطَالاً لِحَقِّهِمْ، وَلَيْسَتْ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 342، والإقناع للحجاوي 3 / 42.
(2) بدائع الصنائع 7 / 226، وتكملة فتح القدير 7 / 6 وما بعدها، والمبسوط 18 / 28، والفتاوى البزازية 5 / 457.

(37/29)


لَهُ وِلاَيَةُ الإِْبْطَال (1) .
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِذَا أَدَّى بَدَل مَا اسْتَقْرَضَهُ فِي مَرَضِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا دَفَعَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ فِي مَرَضِهِ بِمِثْل الْقِيمَةِ (2) ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ كُلٍّ مِنَ الْقَرْضِ وَالشِّرَاءِ بِالْبَيِّنَةِ (3) .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدُّيُونِ إِذَا قَضَاهُ الْمَرِيضُ فِي مَرَضِهِ، نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ أَنْ يُشَارِكُوهُ فِيهِ، لأَِنَّ الْمَرِيضَ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُقْرِضِ وَالْبَائِعِ بِثَمَنِ الْمِثْل لَمْ يُبْطِل حَقَّ الْغُرَمَاءِ الْبَاقِينَ، لأَِنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ التَّرِكَةِ لاَ بِأَعْبَائِهَا، وَهَذَا لاَ يُعَدُّ تَفْوِيتًا لِحَقِّهِمْ، إِذْ حَصَل لَهُ مِثْل مَا دَفَعَ، فَكَانَ نَقْلاً لِحَقِّهِمْ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ النَّقْل (4) .

مُرْضِعٌ

انْظُرْ: رَضَاعٌ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 177، ورد المحتار 4 / 638، وبدائع الصنائع 7 / 226، وقرة عيون الأخيار 2 / 131، والمبسوط 28 / 78، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 684.
(2) انظر شرح المجلة للأتاسي 4 / 684.
(3) شرح المجلة للأتاسي 4 / 684.
(4) جامع الفصولين 2 / 183، ورد المحتار 4 / 638، وبدائع الصنائع 7 / 226، وقرة عيون الأخيار 2 / 131، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 683.

(37/29)


مَرْفِقٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمَرْفِقُ كَمَسْجِدٍ وَمِنْبَرٍ لُغَتَانِ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: مِرْفَقُ الإِْنْسَانِ، وَهُوَ آخِرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ الْمُتَّصِل بِالْعَضُدِ، أَوْ مُجْتَمَعُ طَرَفِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ، وَيُجْمَعُ عَلَى مَرَافِقَ.
الثَّانِي: مِرْفَقُ الدَّارِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ كُل مَا يُرْتَفَقُ بِهِ مِنْ مَطْبَخٍ، وَكَنِيفٍ وَمَصَابِّ الْمِيَاهِ، وَقِيل: مِرْفَقُ الدَّارِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ لاَ غَيْرُ، عَلَى التَّشْبِيهِ بِاسْمِ الآْلَةِ (1) .
وَالْمِرْفَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي قَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (ارْتِفَاقٌ) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْمِرْفَقَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (2)
. الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَضُدُ:
2 - يَطْلُقُ الْعَضُدُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
مَا بَيْنَ الْمِرْفَقِ
__________
(1) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير مادة " رفق "، وابن عابدين 1 / 67 ط. بولاق، ومطالب أولي النهى 1 / 119 ط. المكتب الإسلامي، وكفاية الطالب 1 / 183.
(2) ابن عابدين 1 / 67 ط. بولاق، وجواهر الإكليل 1 / 14 ط. دار الباز، والقليوبي وعميرة 3 / 301، وكفاية الطالب 1 / 153 ط. مصطفى البابي الحلبي.

(37/30)


إِلَى الْكَتِفِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَعْضَادٍ، وَمِنْهَا الْمُعِينُ وَالنَّاصِرُ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِرْفَقِ وَالْعَضُدِ الْمُجَاوَرَةُ.

ب - الْيَدُ:
3 - لِلْيَدِ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ إِطْلاَقَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ، وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تُطْلَقُ عَلَى ثَلاَثَةِ مَعَانٍ:
الْكَفُّ فَقَطْ، وَالْكَفُّ وَالذِّرَاعُ، وَالْكَفُّ وَالذِّرَاعُ وَالْعَضُدُ (3) .
فَالْمِرْفَقُ وَالْعَضُدُ وَالذِّرَاعُ جَمِيعًا مِنْ أَجَزَاءِ الْيَدِ عَلَى الإِْطْلاَقِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى الإِْطْلاَقِ الأَْوَّل وَالثَّانِي.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْمِرْفَقِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

غَسْل الْمِرْفَقِ فِي الْوُضُوءِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الْمِرْفَقَيْنِ مَعَ الْيَدَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (4) ،
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة " عضد " وتفسير ابن كثير 5 / 280 ط. دار الأندلس.
(2) سورة الكهف / 51.
(3) بداية المجتهد 1 / 12 ط. مكتبة الكليات الأزهرية، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير مادة " يدي ".
(4) سورة المائدة / 6.

(37/30)


وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} مَعَ الْمَرَافِقِ، لأَِنَّ " إِلَى " تُسْتَعْمَل بِمَعْنَى " مَعَ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (1) أَيْ مَعَ قُوَّتِكُمْ.
وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالطَّبَرِيُّ: لاَ يَجِبُ غَسْل الْمِرْفَقَيْنِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْل إِلَيْهِمَا فَلاَ يَدْخُل الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ دُخُول الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْل اسْتِحْبَابًا لِكَوْنِهِ أَحْوَطَ، لِزَوَال مَشَقَّةِ التَّحْدِيدِ (3) .
وَإِنْ خُلِقَتِ الْيَدَانِ بِلاَ مِرْفَقَيْنِ كَالْعَصَا، فَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُغْسَل إِلَى قَدْرِهِمَا مِنْ غَالِبِ النَّاسِ إِلْحَاقًا لِلنَّادِرِ بِالْغَالِبِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ غَسْلُهُمَا لِلإِْبْطِ احْتِيَاطًا، وَفِيهِ، وَفِي غَسْل الأَْقْطَعِ مِنْ مَفْصِل
__________
(1) سورة هود / 52.
(2) سورة البقرة / 187.
(3) ابن عابدين 1 / 67 ط. بولاق، والاختيار 1 / 7 ط. دار المعرفة، وفتح القدير 1 / 10 ط. الأميرية، وبدائع الصنائع 1 / 4 ط. دار الكتاب العربي، وبداية المجتهد 1 / 11، 12 ط. مكتبة الكليات الأزهرية، وجواهر الإكليل 1 / 14 ط. دار الباز، وكفاية الطالب / 153، 154، والقليوبي وعميرة 1 / 249، وأسنى المطالب 1 / 32 ط. المكتبة الإسلامية، والجمل / 112 ط. إحياء التراث العربي، والمغني 1 / 122، ونيل المآرب 1 / 63 ط. مكتبة الفلاح، وكشاف القناع 1 / 97 ط. عالم الكتب، ومطالب أولي النهى 1 / 101، 115.

(37/31)


مِرْفَقٍ، أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ تَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .

وَأَمَّا مَسْحُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ ف 11) .

كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْمِرْفَقِ فِي السُّجُودِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مِنْ سُنَنِ السُّجُودِ لِلرَّجُل غَيْرِ الْعَارِي مُجَافَاةَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فِي السُّجُودِ، بِحَيْثُ يَكُونَانِ بِعِيدَيْنِ عَنْ جَنْبَيْهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ فِي سُجُودِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ لَوْ شَاءَتْ بَهْمَةٌ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَرَّتْ (2) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ جَافَى بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى لَوْ أَنَّ بَهْمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَ يَدَيْهِ مَرَّتْ (3) ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى شِدَّةِ مُبَالَغَتِهِ فِي رَفْعِ مِرْفَقَيْهِ وَعَضُدَيْهِ (4) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 10، والفتاوى الهندية 1 / 4، وكفاية الطالب 1 / 153 ط. مصطفى البابي، وحاشية الجمل 1 / 112، والمغني 1 / 123.
(2) حديث: " كان إذا سجد لو شاءت بهمة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 357) من حديث ميمونة رضي الله عنها.
(3) حديث: " كان إذا سجد جافى بين يديه. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 554، 555) والنسائي (2 / 213) من حديث ميمونة رضي الله عنها، واللفظ لأبي داود.
(4) ابن عابدين 1 / 339 ط. بولاق، وفتح القدير 1 / 315، 316 ط. الأميرية، والاختيار 1 / 52 ط. دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 51 ط. دار الباز، والقوانين الفقهية ص66 ط. دار الكتاب العربي، وحاشية الجمل 1 / 377، 378 ط. دار إحياء التراث العربي، وأسنى المطالب 1 / 162 ط. المكتبة الإسلامية، ومطالب أولي النهى 1 / 453 ط. المكتب الإسلامي، والمغني 1 / 519، وكشاف القناع 1 / 353 ط. عالم الكتب.

(37/31)


وَقِيل: إِذَا كَانَ فِي الصَّفِّ لاَ يُجَافِي، كَيْ لاَ يُؤْذِيَ جَارَهُ (1) .
وَزَادَ الرَّحِيبَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: بِأَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُهُ فِي حَالَةِ الإِْيذَاءِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ لِحُصُول الإِْيذَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَنَصَّ أَيْضًا بِأَنَّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْتَمِدَ بِمِرْفَقَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ إِنْ طَال سُجُودُهُ لِيَسْتَرِيحَ (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ شَكَوْا إِلَيْهِ مَشَقَّةَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ: اسْتَعِينُوا بِالرُّكَبِ (3) .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَضُمُّ الْمِرْفَقَيْنِ إِلَى الْجَنْبَيْنِ فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ، لأَِنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا.
وَكَذَلِكَ الْعَارِي، فَالأَْفْضَل لَهُ الضَّمُّ وَعَدَمُ التَّفْرِيقِ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مِنْ كَمَال السُّجُودِ رَفْعَ الْمِرْفَقَيْنِ عَنِ الأَْرْضِ (5) ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ (6) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 215 ط. الأميرية.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 452، 453، وكشاف القناع 1 / 353.
(3) حديث: " استعينوا بالركب ". أخرجه أبو داود (1 / 556) والترمذي (2 / 77 - 78) من حديث أبي هريرة.
(4) ابن عابدين 1 / 339 ط. بولاق، والقوانين الفقهية / 66 ط. دار الكتاب العربي، وحاشية الجمل 1 / 337، 378، وأسنى المطالب 1 / 162 ط. المكتبة الإسلامية.
(5) المغني 1 / 520، وكشاف القناع 1 / 352.
(6) حديث: " إذا سجدت فضع كفيك. . . ". أخرجه مسلم (1 / 356) من حديث البراء بن عازب.

(37/32)


الْقِصَاصُ فِي الْمِرْفَقِ
6 - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الاِسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْيَدِ بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ بَل فِيهِ الدِّيَةُ، وَعَلَى هَذَا:
لَوْ قَطَعَ يَدَ شَخْصٍ مِنَ الْمِرْفَقِ فَلَهُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مَفْصِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ الْقَطْعُ مِنَ الْكُوعِ، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ، وَالاِقْتِصَاصُ يَكُونُ مِنْ مَحَل الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْعُدُول إِلَى غَيْرِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 11) .

دِيَةُ الْمِرْفَقِ
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ، وَوُجُوبِ نِصْفِهَا فِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَطَعَ مَا فَوْقَ الْكُوعِ أَيْ مِنْ بَعْضِ السَّاعِدِ أَوِ الْمِرْفَقِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 43) .

النَّظَرُ إِلَى مِرْفَقِيِ الْمَرْأَةِ
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِرْفَقِيِ الْمَرْأَةِ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 270 ط. الأميرية ببولاق، والاختيار 5 / 30، وابن عابدين 5 / 354 ط. بولاق، والزرقاني 8 / 18، 19 ط. دار الفكر، ومواهب الجليل 6 / 246، وروضة الطالبين 9 / 181، ونهاية المحتاج 7 / 270 ط. المكتبة الإسلامية، والمغني 7 / 707، 709، ونيل المآرب 2 / 326.

(37/32)


عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ، وَوَرَدَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْل بِجِوَازِ إِظْهَارِ ذِرَاعَيْهَا لأَِنَّهُمَا يَبْدُوَانِ مِنْهَا عَادَةً.
أَمَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ لِنَسَبٍ أَوْ سَبَبِ مُصَاهَرَةٍ أَوْ رَضَاعٍ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جِوَازَ النَّظَرِ إِلَى الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ ف 3، 6) .

مَرْهُونٌ

انْظُرْ: رَهْنٌ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 103، 104 ط. الأميرية ببولاق، وتبيين الحقائق 6 / 19 ط. دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 437، ومغني المحتاج 3 / 129 ط. مصطفى البابي الحلبي، ومطالب أولي النهى 5 / 13 ط. المكتب الإسلامي.

(37/33)


مُرُوءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُرُوءَةُ فِي اللُّغَةِ: آدَابٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَحْمِل مُرَاعَاتُهَا الإِْنْسَانَ عَلَى الْوُقُوفِ عِنْدَ مُحَاسِنِ الأَْخْلاَقِ وَجَمِيل الْعَادَاتِ (1) .
يُقَال: مَرُؤَ الرَّجُل فَهُوَ مَرِيءٌ: أَيْ ذُو مُرُوءَةٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِتَعَارِيفَ مُتَقَارِبَةٍ ضَابِطُهَا: الاِسْتِقَامَةُ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهَا صِفَةٌ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنِ ارْتِكَابِ الْخِصَال الرَّذِيلَةِ (2) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيل فِي تَفْسِيرِ الْمُرُوءَةِ أَنَّهَا تَخَلُّقُ الْمَرْءِ بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ مِنْ أَبْنَاءِ عَصْرِهِ مِمَّنْ يُرَاعِي مَنَاهِجَ الشِّرْعِ وَآدَابِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَدَالَةُ:
2 - الْعَدَالَةُ فِي اللُّغَةِ: صِفَةٌ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا
__________
(1) المصباح المنير مادة (مرؤ) .
(2) حاشية القليوبي 3 / 236.
(3) مغني المحتاج 4 / 431.

(37/33)


الاِحْتِرَازَ عَمَّا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ عَادَةً ظَاهِرًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الإِْصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنْوَاعٍ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُرُوءَةِ:
الْمُرُوءَةُ فِي الشَّهَادَةِ
3 - الْمُرُوءَةُ مِنْ لَوَازِمِ قَبُول الشَّهَادَةِ، فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ فَوْقَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَعَدَمِ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ: التَّرَفُّعُ عَنِ ارْتِكَابِ الأُْمُورِ الدَّنِيئَةِ الْمُزْرِيَةِ بِالْمَرْءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، وَهِيَ كُل مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ عُرْفًا مِنْ أَمْثَالِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ، لأَِنَّ الأُْمُورَ الْعُرْفِيَّةَ قَلَّمَا تَنْضَبِطُ، بَل تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْزْمِنَةِ وَالْبُلْدَانِ (3) .

مُسْقِطَاتُ الْمُرُوءَةِ
تَسْقُطُ الْمُرُوءَةُ بِالأُْمُورِ الدَّنِيئَةِ وَهِيَ نَوْعَانِ:
4 - أَحَدُهُمَا فِي الأَْفْعَال: كَالأَْكْل فِي السُّوقِ وَكَشْفِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَغْطِيَتِهِ مِنْ بَدَنِهِ،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 4 / 427، والمغني 9 / 167.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 382 - 383، وفتح القدير 6 / 485 - 486، ومغني المحتاج 4 / 431، والخرشي 7 / 77، والمغني 9 / 168 - 169.

(37/34)


وَكَشْفِ رَأْسِهِ فِي بَلَدٍ يُعَدُّ فِعْلُهُ خَفَّةً وَسُوءَ أَدَبٍ، وَالْبَوْل عَلَى الطَّرِيقِ وَمَدِّ رِجْلِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَالتَّمَسْخُرِ بِمَا يَضْحَكُ النَّاسُ بِهِ، وَمُخَاطَبَةُ امْرَأَتِهِ بِالْخِطَابِ الْفَاحِشِ، وَمَشْيُ الْوَاجِدِ حَافِيًا، فَفَاعِل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ وَنَحْوِهَا تَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ فَلاَ تَقْبَل شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الصَّغَائِرِ لأَِنَّهَا سُخْفٌ وَدَنَاءَةٌ، فَمَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ هَذِهِ الأَْفْعَال وَاسْتَحْسَنَهَا فَلَيْسَتْ لَهُ مُرُوءَةٌ، فَلاَ تَحْصُل الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلأَِنَّ الْمُرُوءَةَ تَمْنَعُ عَنِ الْكَذِبِ وَتَزْجُرُ عَنْهُ، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ ذُو الْمُرُوءَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا دِينٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُرُوءَةُ مَانِعَةً مِنَ الْكَذِبِ اعْتُبِرَتْ فِي الْعَدَالَةِ كَالدِّينِ، وَيُشْتَرَطُ فِي انْخِرَامِ الْعَدَالَةِ بِالأَْفْعَال الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي مَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ وَأَنْ يَتَّخِذَهَا عَادَةً، فَإِنْ فَعَلَهَا مُخْتَفِيًا أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ تَسْقُطْ بِهَا الْمُرُوءَةُ، لأَِنَّ صَغَائِرَ الْمَعَاصِي لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْعَدَالَةِ إِذَا لَمْ تَتَكَرَّرْ مِنْهُ، فَهَذَا أَوْلَى (1) .
وَتَخْتَلِفُ الْمُرُوءَةُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ، فَقَدْ يُسْتَقْبَحُ فِعْل شَيْءٍ مَا
__________
(1) المغني 9 / 168 - 169، وفتح القدير 6 / 485 - 486، وروضة القضاة للسمناني 1 / 239، والخرشي 7 / 177، والقوانين الفقهية ص203، ومغني المحتاج 4 / 431.

(37/34)


مِنْ شَخْصٍ دُونَ آخَرَ، وَفِي قُطْرٍ دُونَ آخَرَ، وَفِي حَالٍ دُونَ آخَرَ، فَحَمْل الطَّعَامِ لِلْبَيْتِ وَالْمَاءِ شُحًّا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ، بِخِلاَفِ حَمْلِهَا اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ، وَلُبْسُ فَقِيهٍ قَبَاءً أَوْ قَلَنْسُوَةً فِي بَلَدٍ لاَ يُعْتَادُ لِلْفَقِيهِ لُبْسُهَا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ، وَالتَّقَشُّفُ فِي الْمَأْكَل وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ لِلْوَاجِدِ شُحًّا يَخْرِمُهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا فَعَل ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَكَسْرًا لِلنَّفْسِ (1) .
5 - النَّوْعُ الثَّانِي: الصِّنَاعَاتُ الدَّنِيئَةُ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الاِحْتِرَافَ بِصَنِعَةٍ يَحْرُمُ الاِحْتِرَافُ بِهَا شَرْعًا تُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ وَالْعَدَالَةَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ الْمُرُوءَةِ بِالاِحْتِرَافِ بِصَنِعَةِ دَنِيئَةٍ عُرْفًا مُبَاحَةٍ شَرْعًا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِحْتِرَافَ بِصَنِعَةٍ دَنِيئَةٍ عُرْفًا تَنْخَرِمُ الْمُرُوءَةُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً شَرْعًا، كَحِجَامَةِ وَكَنْسٍ لِزِبْلٍ وَنَحْوِهِ وَدَبْغٍ وَكَقَيِّمِ حَمَّامٍ وَحَارِسٍ وَقَصَّابٍ وَإِسْكَافٍ مِمَّنْ لاَ تَلِيقُ بِهِ، وَلَيْسَتْ مِهْنَةَ آبَائِهِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهَا قُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ، لإِِشْعَارِ ذَلِكَ بِقِلَّةِ مُرُوءَتِهِ، أَمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَلِيقُ بِهِ أَوْ كَانَتْ حِرْفَةَ آبَائِهِ أَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهَا قُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ فَلاَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 431، وشرح المنهج 5 / 382، والمراجع السابقة.

(37/35)


تَسْقُطُ الْمُرُوءَةُ بِهَا فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لاَ يُعَيَّرُ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلأَِنَّهَا حِرْفَةٌ مُبَاحَةٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا النَّاسُ (1) .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ تَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ بِهَا، لأَِنَّ فِي اخْتِيَارِهِ لَهَا مَعَ اتِّسَاعِ طُرُقِ الْكَسْبِ إِشْعَارًا لِسُقُوطِ الْهِمَّةِ وَقِلَّةِ الْمُرُوءَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ: تُقْبَل شَهَادَةُ أَصْحَابِ الصَّنَائِعِ الدَّنِيئَةِ إِذَا كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمُ الصَّلاَحَ.
قَال السِّمْنَانِيُّ: مَنِ اسْتَقَامَ مِنْهُمْ فِي الطَّرِيقَةِ وَعُرِفَ بِصَدْقِ اللَّهْجَةِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ لَيْسَتِ الصَّنَاعَةُ بِضَائِرَةٍ لَهُ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمَا عَرَفْنَا بِشَهَادَتِهِمْ قِيَمَ الدَّوَابِّ وَعُيُوبَ الْحَيَوَانِ، وَلاَ بُدَّ فِي كُل صَنْعَةٍ مِنْ مَسْتُورٍ وَصَالِحٍ مُسْتَقِيمٍ، وَعَلَى هَذِهِ الأَْحْوَال وَجَدَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ تَسْقُطُ الْمُرُوءَةُ بِحِرْفَةٍ مُبَاحَةٍ، فَتُقْبَل شَهَادَةُ مَنْ صِنَاعَتُهُ دَنِيئَةٌ عُرْفًا، كَالْحَجَّامِ وَالْكَنَّاسِ وَالْحَائِكِ وَالْحَارِسِ (4) .
أَمَا مَا اتَّخَذَهُ أَرْبَابُ الدُّنْيَا مِنَ الْعَادَاتِ الَّتِي
__________
(1) الخرشي 7 / 178، ومغني المحتاج 4 / 432، والجمل على شرح المنهج 5 / 383.
(2) مغني المحتاج 4 / 432، وفتح القدير 6 / 486، وروضة القضاة 1 / 240.
(3) فتح القدير 6 / 486، وروضة القضاة 1 / 240.
(4) كشاف القناع 6 / 424.

(37/35)


لَمْ يُقَبِّحْهَا السَّلَفُ وَلاَ اجْتَنَبَهَا أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل تَقَذُّرِهِمْ مِنْ حَمْل الْحَوَائِجِ وَالأَْقْوَاتِ لِلْعِيَال، وَلُبْسِ الصُّوفِ، وَرُكُوبِ الْحِمَارِ وَحَمْل الْمَاءِ عَلَى الظَّهْرِ وَالرِّزْمَةِ إِلَى السُّوقِ فَلاَ يُعْتَبَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُرُوءَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِل الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الْمَاءَ لأَِهْلِهِ، وَيَحْمِل الرِّزْمَةَ إِلَى السُّوقِ، وَقَدْ رَكِبَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِمَارَ (1) . وَاحْتَذَى الْمَخْصُوفَ (2) مَعَ كَوْنِهِ قَدْ أُوتِيَ مَكَارِمَ الأَْخْلاَقِ فَلاَ ازْدِرَاءَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ إِسْقَاطَ مُرُوءَةٍ (3) .
__________
(1) حديث: ركوب النبي صلى الله عليه وسلم الحمار. أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 58) ، ومسلم (1 / 58) وفيه أن اسمه عُفَير من حديث معاذ بن جبل.
(2) حديث: " كان يحتذى المخصوف ". أخرجه أحمد (6 / 167) بلفظ: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله " وصححه ابن حبان (الإحسان 12 / 491) .
(3) كشاف القناع 6 / 424 - 425.

(37/36)


مُرُورٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُرُورُ لُغَةً: الاِجْتِيَازُ، يُقَال: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَعَلَيْهِ مَرًّا وَمُرُورًا وَمَمَرًّا: اجْتَزْتُ، وَمَرَّ الدَّهْرُ مَرًّا وَمُرُورًا: ذَهَبَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْوُقُوفُ:
2 - الْوُقُوفُ لُغَةً: السُّكُونُ، يُقَال: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ تَقِفُ وَقْفًا وَوُقُوفًا: سَكَنَتْ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمُرُورَ ضَدُّ الْوُقُوفِ

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُرُورِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُرُورِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُرُورَ وَرَاءَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، ومغني المحتاج 1 / 200.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومراقي الفلاح ص400.

(37/36)


سُتْرَةُ الْمُصَلِّي لاَ يَضُرُّ، وَأَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَأْثَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِْثْمِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي إِثْمِ الْمُصَلِّي أَوِ الْمَارِّ أَوْ إِثْمِهِمَا مَعًا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (سُتْرَةُ الْمُصَلِّي ف 12) .

مَوْضِعُ الْمُرُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ:
4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُكْرَهُ الْمُرُورُ فِيهِ هُوَ مَوْضِعُ صَلاَةِ الْمُصَلِّي مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، هَذَا حُكْمُ الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ كَإِنْسَانِ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ لاَ يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَالْمَسْجِدُ صَغِيرٌ كُرِهَ فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ، وَقَالُوا: الْمَسْجِدُ الْكَبِيرُ كَالصَّحْرَاءِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ لِلْمُصَلِّي سُتْرَةٌ حَرُمَ الْمُرُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ، وَلاَ يَحْرُمُ الْمُرُورُ مِنْ وَرَائِهَا، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي لِغَيْرِ سُتْرَةٍ حَرُمَ الْمُرُورُ فِي قَدْرِ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَهُوَ الأَْوْفَقُ بِيُسْرِ الدِّينِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَحْرُمُ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ
__________
(1) حديث: " لو يعلم المار بين يدي المصلي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 584) ومسلم (1 / 363) من حديث أبي جهيم، وقوله: " من الإثم " ورد في إحدى روايات البخاري كما قال ابن حجر في شرحه (1 / 585) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 104، وابن عابدين 1 / 446.

(37/37)


الْمُصَلِّي فِي قَدْرِ رَمْيَةِ حَجَرٍ أَوْ سَهْمٍ أَوْ رُمْحٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ الْمُرُورُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرُ ثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ فَأَقَل (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ الْمُرُورُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ وَلَوْ كَانَتِ السُّتْرَةُ بَعِيدَةً مِنَ الْمُصَلِّي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سُتْرَةٌ فَيَحْرُمُ الْمُرُورُ فِي قَدْرِ ثَلاَثَةِ أَذْرُعِ يَدٍ مِنْ مَوْضِعِ قَدَمِ الْمُصَلِّي (3) .

الْمُرُورُ أَمَامَ الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلاَ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ} وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ (4) } ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّائِفِينَ لأَِنَّ الطَّوَافَ صَلاَةٌ فَصَارَ كَمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُرَخَّصُ بِالْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَوْ كَانَ لِلْمَارِّ مَنْدُوحَةٌ، وَيُكْرَهُ لِلطَّائِفِ إِنْ كَانَتْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ إِنْ صَلَّى لِسُتْرَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ فَيَجُوزُ الْمُرُورُ مُطْلَقًا.
وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لاَ يُرَدُّ الْمَارُّ
__________
(1) الخرشي مع حاشية العدوي 1 / 279، والدسوقي 1 / 246.
(2) مغني المحتاج 1 / 200.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 489.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي مما يلي باب بني سهم. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 518) من حديث المطلب بن وداعة، وفي إسناده جهالة.

(37/37)


بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ، قَال أَحْمَدُ: لأَِنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا، لِكَثْرَةِ النَّاسِ وَازْدِحَامِهَا بِهِمْ، فَمَنْعُهُمْ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِمَكَّةَ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرَةٌ، وَأَلْحَقَ الْمُوَفَّقُ بِمَكَّةَ سَائِرَ الْحَرَمِ. قَال الرَّحِيبَانِيُّ: وَيُتَّجَهُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى كَلاَمُ الْمُوَفَّقِ فِي زَمَنِ الْحَجِّ لِكَثْرَةِ النَّاسِ وَاضْطِرَارِهِمْ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ فَلاَ حَاجَةَ لِلْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَكَلاَمُ أَحْمَدَ يَمْكَنُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلاَةِ فِي الْمَطَافِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ (1) .

ضَمَانُ مَا يَنْشَأُ عَنْ مُقَاتَلَةِ الْمَارِّ
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدَّى الدَّفْعُ الْمَشْرُوعُ مِنَ الْمُصَلِّي لِلْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى مَوْتِهِ - مَعَ التَّدَرُّجِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ - لاَ يَضْمَنُهُ الْمُصَلِّي وَدَمُهُ هَدَرٌ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ (2) أَيْ فِيهِ شَيْطَانٌ أَوْ هُوَ شَيْطَانُ الإِْنْسِ (3) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 427 و2 / 172، والخرشي 1 / 279، 280، مع حاشية العدوي ونهاية المحتاج 2 / 52، 53، ومطالب أولي النهى 1 / 482.
(2) حديث: " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 582) ومسلم (1 / 363) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ للبخاري.
(3) مغني المحتاج 1 / 200، ومطالب أولي النهى 1 / 483.

(37/38)


وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مُقَاتَلَةَ الْمَارِّ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِهَا، فَإِنْ أَدَّتِ الْمُقَاتَلَةُ إِلَى قَتْل الْمَارِّ كَانَ قَتْلُهُ جِنَايَةً، فَيَلْزَمُ الْمُصَلِّيَ مُوجِبُهَا مِنْ دِيَةٍ أَوْ قَوَدٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَدْفَعُ الْمُصَلِّي الْمَارَّ دَفْعًا خَفِيفًا لاَ يَشْغَلُهُ فَإِنْ كَثُرَ أَبْطَل، وَلَوْ دَفَعَهُ دَفْعًا مَأْذُونًا فِيهِ فَسَقَطَ مِنْهُ دِينَارٌ أَوِ انْخَرَقَ ثَوْبُهُ ضَمِنَ، وَلَوْ مَاتَ الْمَارُّ بِدَفْعِ الْمُصَلِّي كَانَتْ دِيَةُ الْمَارِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُصَلِّي، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّفْعُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ كَالْخَطَأِ (2) .

أَثَرُ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي فِي قَطْعِ الصَّلاَةِ وَنَقْصِهَا
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ وَلاَ يُبْطِلُهَا، وَلَوْ كَانَ بِالصِّفَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الإِْثْمَ عَلَى الْمَارِّ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ، وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ (3) ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ (4) ، وَلِحَدِيثِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 429.
(2) حاشية العدوي على الخرشي 1 / 280.
(3) حديث: " لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 460) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الزيلعي عن راويه مجالد بن سعيد: " فيه مقال " كذا في نصب الراية (2 / 76) .
(4) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 590) ومسلم (1 / 366) واللفظ لمسلم.

(37/38)


حِينَ مَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعِ الصَّلاَةَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ مِثْل ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوُا الْكَلْبَ الأَْسْوَدَ الْبَهِيمَ فَقَالُوا: إِنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي يَنْقُصُ الصَّلاَةَ وَلاَ يَقْطَعُهَا، قَال الْقَاضِي: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ الرَّدُّ فَلَمْ يَفْعَل (2) .

الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُومِينَ
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُومِينَ، وَاخْتِلاَفُهُمْ هَذَا فَرْعٌ عَنِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي سُتْرَةِ الإِْمَامِ وَفِي الإِْمَامِ، هَل يَكُونُ أَيٌّ مِنْهُمَا سِتْرَةً لِلْمَأْمُومَيْنِ أَوْ لاَ يَكُونُ؟
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُتْرَةُ الْمُصَلِّي ف 11) .

الْمُرُورُ أَمَامَ الْمُصَلِّي فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ
9 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَلَّى مُسْلِمٌ بِسُتْرَةٍ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ لَمْ يَحْرُمُ الْمُرُورُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَلَمْ يُكْرَهْ، سَوَاءٌ وَجَدَ الْمَارُّ سَبِيلاً غَيْرَهُ أَمْ لاَ (3) .
__________
(1) حديث: " أن زينب بنت أم سلمة حين مرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 305) بهذا المعنى من حديث أم سلمة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 187) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 426، والفتاوى الهندية 1 / 104، والحطاب 1 / 532 - 534، ومغني المحتاج 1 / 201، والمغني لابن قدامة 2 / 247 - 249.
(3) نهاية المحتاج 2 / 52، 53.

(37/39)


وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ فِيمَنْ صَلَّى إِلَى سُتْرَةٍ مَغْصُوبَةٍ وَمَرَّ مِنْ وَرَائِهَا كَلْبٌ أَسْوَدُ
أَحَدُهُمَا: تَبْطُل صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ نَصْبِهَا وَالصَّلاَةِ إِلَيْهَا فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا.
وَالثَّانِي: لاَ تَبْطُل لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقِي مِنْ ذَلِكَ مِثْل مُؤْخِرَةِ الرَّحْل (1) وَهَذَا قَدْ وُجِدَ (2) .

الْمُرُورُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ
10 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً ثُمَّ أَحَاطَ الإِْحْيَاءُ بِجَوَانِبِهَا الأَْرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ تَعَيَّنَ مُرُورُ الأَْوَّل فِي الأَْرْضِ الرَّابِعَةِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الإِْحْيَاءُ جَمِيعُهُ لِوَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ إِلَى أَرْضِهِ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْمُرُورُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَلَمْ يَضُرَّ وَإِنْ مَنَعَهُ (4) .

الْمُرُورُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ
11 - الطَّرِيقُ الْعَامُّ - وَهِيَ النَّافِذَةُ - مِنَ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَلِلْجَمِيعِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا بِمَا لاَ يَضُرُّ الآْخَرِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَمَنْفَعَتُهَا الأَْصْلِيَّةُ الْمُرُورُ فِيهَا لأَِنَّهَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، فَيُبَاحُ لَهُمُ الاِنْتِفَاعُ بِمَا وُضِعَ لَهُ وَهُوَ الْمُرُورُ بِلاَ خِلاَفٍ.
__________
(1) حديث: " يقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل ". أخرجه مسلم (1 / 366) من حديث أبي هريرة.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 254.
(3) رد المحتار 5 / 278.
(4) القليوبي وعميرة 1 / 311.

(37/39)


وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَرِيقٌ ف 9) .
أَمَا الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ فَمِلْكٌ لأَِهْلِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لأَِنَّهُ مِلْكُهُمْ فَأَشْبَهَ الدُّورَ.
وَأَهْلُهُ مَنْ لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِيهِ إِلَى مِلْكِهِمْ مِنْ دَارٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ فُرْنٍ أَوْ حَانُوتٍ لاَ مَنْ لاَصَقَ جِدَارُهُ الدَّرْبَ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ بَابٍ فِيهِ، لأَِنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ الاِرْتِفَاقَ فِيهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَرِيقٌ ف 21) .

الْمُرُورُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُحْدِثِ
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دُخُول الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَلَوْ مُرُورًا مِنْ بَابٍ لِبَابِ، إِلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ بُدًّا فَيَتَيَمَّمُ وَيَدْخُل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنَ الْعَبُورِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دُخُولٌ ف 6 - 8) .

الْمُرُورُ عَلَى الْعَاشِرِ
13 - يَنْصِبُ الإِْمَامُ عَلَى الْمَعَابِرِ فِي طُرُقِ الأَْسْفَارِ عَشَّارِينَ لِلْجِبَايَةِ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ بِأَمْوَال التِّجَارَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ إِذَا أَتَوْا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، فَيَأْخُذُ مِنْ أَهْل الإِْسْلاَمِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةٍ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ.

(37/40)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 155، وَعُشْرٌ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا) .

أَثَرُ الْمُرُورِ بِالْوَطَنِ فِي قَصْرِ الصَّلاَةِ
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ مُرُورَ الْمُسَافِرِ بِوَطَنِهِ يُصَيِّرُهُ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ وَيَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ مُرُورَ الْمُسَافِرِ بِوَطَنِهِ لاَ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً مُقِيمًا بِبَغْدَادَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَعَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِالنَّهْرَوَانِ، ثُمَّ رَجَعَ فَمَرَّ بِبَغْدَادَ ذَاهِبًا إِلَى الْكُوفَةِ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِذَا كَانَ يَمُرُّ بِبَغْدَادَ مُجْتَازًا لاَ يُرِيدُ الإِْقَامَةَ بِهَا (2) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ غَلَبَتْهُ الرِّيحُ بِالْمُرُورِ عَلَى وَطَنِهِ لاَ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، إِلاَّ إِذَا انْضَمَّ لِذَلِكَ دُخُولٌ أَوْ نِيَّةُ دُخُولٍ (3) .
وَلَوْ مَرَّ الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ عَلَى قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ لَهُ بِهَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ وَيُتِمُّ صَلاَتَهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ تَأَهَّل فِي بَلَدٍ فَلْيُصَل صَلاَةَ الْمُقِيمِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 103، والخرشي 2 / 61، ومواهب الجليل 2 / 148، وروضة الطالبين 1 / 383.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 291.
(3) الخرشي 2 / 61.
(4) حديث: " من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم ". أخرجه أحمد (1 / 62) من حديث عثمان بن عفان، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 156) وقال: فيه عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف.

(37/40)


وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى أَهْلٍ لَكَ أَوْ مَالٍ فَصَل صَلاَةَ الْمُقِيمِ، وَلأَِنَّهُ مُقِيمٌ بِبَلَدٍ فِيهِ أَهْلُهُ فَأَشْبَهَ الْبَلَدَ الَّذِي سَافَرَ مِنْهُ وَقَال الزُّهْرِيُّ: إِذَا مَرَّ بِمَزْرَعَةٍ لَهُ أَتَمَّ.
وَالْقَوْل الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مُرُورَ الْمُسَافِرِ عَلَى قَرْيَةٍ أَوْ بَلَدٍ لَهُ بِهَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ لاَ يُنْهِي سَفَرَهُ (1) .

الْمُرُورُ بِالْمَاءِ وَعَدَمُ الْوُضُوءِ مِنْهُ:
15 - قَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ مَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِمَاءٍ قَبْل الْوَقْتِ أَوْ كَانَ مَعَهُ الْمَاءُ فَأَرَاقَهُ قَبْل الْوَقْتِ، ثُمَّ دَخَل الْوَقْتُ وَعُدِمَ الْمَاءُ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِالطَّهَارَةِ قَبْل دُخُول الْوَقْتِ، وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَإِنْ مَرَّ بِالْمَاءِ فِي الْوَقْتِ وَأَمْكَنَهُ الْوُضُوءُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَجِدُ غَيْرَهُ، حَرُمَ لِتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِلاَ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُضُوءُ أَوْ تَوَضَّأَ ثُمَّ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَاءِ وَبُعْدِهِ عَنْهُ، أَوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَجِدُ غَيْرَهُ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُ الْمَاءُ فَأَرَاقَهُ فِي الْوَقْتِ حَرُمَ، لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى فَوَاتِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الْوَاجِبَةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 103، 104، والخرشي 2 / 61، ومواهب الجليل 2 / 148، وروضة الطالبين 1 / 383، والمغني لابن قدامة 2 / 290.

(37/41)


وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ فِي الْوَقْتِ أَوْ وَهَبَهُ فِيهِ لِغَيْرِ مُحْتَاجٍ لِشُرْبِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إِذَا مَرَّ بِمَاءٍ كَافٍ لِوُضُوئِهِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَيْقِظًا بَطَل تَيَمُّمُهُ، وَإِنْ كَانَ نَاعِسًا أَوْ نَائِمًا مُتَمَكِّنًا لَمْ يَبْطُل تَيَمُّمُهُ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُصَحَّحَةُ عَنِ الإِْمَامِ وَعَلَيْهَا الْفَتْوَى لِعَجْزِهِ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَنَّهُ يَبْطُل تَيَمُّمُهُ (2) .

حَقُّ الْمُرُورِ:
16 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ حَقِّ الْمُرُورِ تَبَعًا لِلأَْرْضِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَمَقْصُودًا وَحْدَهُ فِي رِوَايَةٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْمُضْمَرَاتِ: هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لاَ يَصِحُّ وَصَحَّحَهَا أَبُو اللَّيْثِ (3) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَسْكَنٍ بِلاَ مَمَرٍّ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَمَرٌّ، أَوْ كَانَ وَنَفَاهُ فِي بَيْعِهِ لِتَعَذُّرِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنِ اتِّخَاذِ مَمَرٍّ لَهُ مِنْ شَارِعٍ سَوَاءٌ مَلَكَهُ أَمْ لاَ، كَمَا قَالَهُ الأَْكْثَرُونَ، وَشَرَطَ الْبَغَوِيُّ عَدَمَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِذَا بِيعَ عَقَارٌ وَخُصِّصَ الْمُرُورُ إِلَيْهِ بِجَانِبٍ اشْتَرَطَ تَعْيِينُهُ، فَلَوِ احْتَفَّ بِمِلْكِهِ مِنْ كُل
__________
(1) كشاف القناع 1 / 169.
(2) ابن عابدين 1 / 171.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 118.

(37/41)


الْجَوَانِبِ، وَشَرَطَ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الْمُرُورِ إِلَيْهِ مِنْ جَانِبٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ بَطَل لاِخْتِلاَفِ الْغَرَضِ بِاخْتِلاَفِ الْجَوَانِبِ، فَإِنْ لَمْ يُخَصَّصْ بِأَنْ شَرَطَهُ مِنْ كُل جَانِبٍ، أَوْ قَال: بِحُقُوقِهَا، أَوْ أَطْلَقَ صَحَّ وَمَرَّ إِلَيْهِ مِنْ كُل جَانِبٍ، وَهَذَا مَا لَمْ يُلاَصِقِ الشَّارِعَ أَوْ مَلَكَهُ وَإِلاَّ مَرَّ مِنْهُ فَقَطْ (1) .
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 385، 386.

(37/42)


الْمَرْوَةُ

انْظُرْ: سَعْيٌ

مَرِيءٌ

انْظُرْ: بُلْعُومٌ

(37/42)


مَرِيضٌ

انْظُرْ: مَرَضٌ

مُزَابَنَةٌ

انْظُرْ: بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ

(37/43)


مُزَاحُ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ مَزَحَ يَمْزَحُ، وَالْمَزْحُ: الدُّعَابَةُ، وَالْمِزَاحُ - بِالْكَسْرِ - مَصْدَرُ مَازَحَهُ، وَهُمَا مُتَمَازِحَانِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ الْمُبَاسَطَةُ إِلَى الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّلَطُّفِ وَالاِسْتِعْطَافِ دُونَ أَذِيَّةٍ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لاَ بَأْسَ بِالْمُزَاحِ إِذَا رَاعَى الْمَازِحُ فِيهِ الْحَقَّ وَتَحَرَّى الصِّدْقَ فِيمَا يَقُولُهُ فِي مُزَاحِهِ، وَتَحَاشَى عَنْ فُحْشِ الْقَوْل، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنِّي لأََمْزَحُ وَلاَ أَقُول إِلاَّ حَقًّا (3) .
قَال الْبَرَكَوِيُّ وَالْخَادِمِيُّ: شَرْطُ جِوَازِ الْمُزَاحِ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ كَذِبٌ وَلاَ رَوْعُ مُسْلِمٍ وَإِلاَّ فَيَحْرُمُ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) قواعد الفقه للبركتي - مادة: مزح.
(3) حديث: " إني لأمزح ولا أقول. . . ". أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (12 / 391) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 89) : " إسناده حسن ".
(4) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 4 / 17.

(37/43)


وَرَوَى الْخَلاَّل عَنْ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ الْمُمَازَحَةَ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: الْمُزَاحُ بِمَا يَحْسُنُ مُبَاحٌ وَقَدْ مَزَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُل إِلاَّ حَقًّا.
وَالآْثَارُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَاحِ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْخَوْضَ فِي الْمُزَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَمِيمِ الْعَاقِبَةِ، وَمِنَ التَّوَصُّل إِلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَاسْتِجْلاَبِ الضَّغَائِنِ وَإِفْسَادِ الإِْخَاءِ، وَقَالُوا: لِكُل شَيْءٍ بَدْءٌ، وَبَدْءُ الْعَدَاوَةِ الْمُزَاحُ، وَكَانَ يُقَال: لَوْ كَانَ الْمُزَاحُ فَحْلاً مَا لَقَّحَ إِلاَّ الشَّرَّ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: لاَ تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ، وَلاَ الدَّنِيءَ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ (1) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الإِْفْرَاطُ فِي الْمُزَاحِ أَوِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُدَاوَمَةُ فَلأَِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِاللَّعِبِ وَالْهَزْل فِيهِ، وَاللَّعِبُ مُبَاحٌ وَلَكِنَّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ مَذْمُومَةٌ، وَأَمَّا الإِْفْرَاطُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ كَثْرَةَ الضَّحِكِ، وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ، وَتُورِثُ الضَّغِينَةَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال، وَتُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ، فَمَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الأُْمُورِ فَلاَ يُذَمُّ (2) .

مُزَاحُ الْقَاضِي
3 - قَال الْحَنَفِيَّةُ كَمَا جَاءَ فِي رَوْضَةِ الْقُضَاةِ
__________
(1) الآداب الشرعية 2 / 135.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 3 / 124.

(37/44)


يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إِذَا أَرَادَ الْجُلُوسَ لِلْقَضَاءِ أَنْ يَخْرُجَ وَهُوَ عَلَى أَعْدَل الأَْحْوَال: لاَ جَائِعٌ وَلاَ عَطْشَانُ وَلاَ كَضِيضٌ مِنَ الطَّعَامِ وَلاَ كَسْلاَنُ وَلاَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ وَلاَ يَمْزَحُ مَعَ خَصْمٍ، وَلاَ يُسَارُّهُ وَلاَ يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَلاَ يُؤْثِرَ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الإِْكْرَامِ وَلاَ يُمَازِحَهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْقَاضِي أَنْ لاَ يَهْزِل وَلاَ يَمْجُنَ أَيْ يَمْزَحَ لأَِنَّ ذَلِكَ يُخِل بِهَيْبَتِهِ (1) .

تَصَرُّفَاتُ الْمَازِحِ
4 - تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُ الْمَازِحِ (الْهَازِل) الْقَوْلِيَّةُ فَيَقَعُ طَلاَقُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (2) ، لِحَدِيثِ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْعِتْقُ (3) .
وَخُصَّ الثَّلاَثَةُ بِالذِّكْرِ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، لِتَأَكُّدِ أَمْرِ الأَْبْضَاعِ وَلِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ بِالْعِتْقِ.
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 1 / 96، 97، ونهاية المحتاج 8 / 248، وكشاف القناع 6 / 310.
(2) تحفة المحتاج 8 / 29، وروض الطالب 3 / 281، ومغني المحتاج 3 / 288، ومواهب الجليل 4 / 44، وحاشية ابن عابدين 4 / 207، 2 / 423.
(3) حديث: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد. . . ". أخرج الرواية الأولى أبو داود (2 / 644) ، والترمذي (3 / 490) وقال الترمذي: " حديث صحيح ". وأخرج الرواية الثانية ابن عدي في " الكامل " (6 / 2033) وضعفه، قال ابن حجر في التلخيص الحبير (3 / 209) : " ويروى بدل " العتاق " " الرجعة " قال: " هذا هو المشهور فيه ".

(37/44)


وَإِلاَّ فَكُل التَّصَرُّفَاتِ كَذَلِكَ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: كُل التَّصَرُّفَاتِ تَنْعَقِدُ بِالْهَزْل فِي الأَْصَحِّ (1) .

ادِّعَاءُ الْمُزَاحِ بَعْدَ الإِْقْرَارِ
5 - نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ شَخْصٌ لِرَجُلٍ بِحَقٍّ، ثُمَّ قَال مَزَحْتُ فَإِنْ صَدَّقَهُ بِأَنَّهُ مُزَاحٌ لَمْ يَحِل لَهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَكَانَ صَادِقًا بِالإِْقْرَارِ الأَْوَّل عِنْدَهُ وَسِعَهُ أَخْذُ مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ، وَإِنْ شَكَّ أَحْبَبْتُ لَهُ الْوُقُوفَ فِيهِ (2) .

ادِّعَاءُ الْمُزَاحِ بِالْبَيْعِ
6 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَال الْبَائِعُ أَبَيْعُكَ سِلْعَتِي بِكَذَا أَوْ أُعْطِيكَهَا بِكَذَا، فَأَجَابَهُ الْمُشْتَرِي بِمَا يَدُل عَلَى الرِّضَا، فَقَال الْبَائِعُ لَمْ أُرِدِ الْبَيْعَ إِنَّمَا أَرَدْتُ اخْتِبَارَ ثَمَنِهَا، أَوْ قَال كُنْتُ مَازِحًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَبِيعُكَهَا إِيجَابَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنِ اخْتِبَارِ الثَّمَنِ وَالْمَزْحِ، فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ، وَإِنْ نَكَل عَنِ الْيَمِينِ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ، أَمَا إِذَا أَتَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي بِأَنْ قَال بِعْتُكَهَا بِكَذَا، أَوْ قَدْ أَعْطَيْتُكَهَا بِكَذَا، أَوْ قَال قَدْ أَخَذْتُهَا بِكَذَا - كُل ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي - فَرَضِيَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَبَى الْبَائِعُ وَقَال مَا أَرَدْتُ الْبَيْعَ بَل كَانَ مَزْحًا لَمْ يَنْفَعْهُ وَلَزِمَهُ الْبَيْعُ (3)
__________
(1) تحفة المحتاج 8 / 29، وروض الطالب 3 / 281، ومغني المحتاج 3 / 288، ومواهب الجليل 4 / 44.
(2) الأم للشافعي 7 / 41.
(3) الحطاب 4 / 231 - 236.

(37/45)


مُزَاحَمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُزَاحَمَةُ - بِوَزْنِ مُفَاعَلَةٍ - وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْمُدَافَعَةُ عَلَى مَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيُقَال: زَحَمْتُهُ زَحْمًا: دَفَعْتُهُ وَضَايَقْتُهُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَزَحَمَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: تَدَافَعُوا، وَمِنْهُ قِيل عَلَى الاِسْتِعَارَةِ: تَزَاحَمَ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَال الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُزَاحَمَةِ:
تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الْمُزَاحَمَةِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الزِّحَامُ عَنِ الرُّكُوعِ
2 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ زُوحِمَ مُؤْتَمٌّ عَنْ رُكُوعٍ مَعَ إِمَامِهِ حَتَّى رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ عَنِ الرُّكُوعِ مُعْتَدِلاً مُطَمْئِنًّا قَبْل إِتْيَانِ الْمُؤْتَمِّ بِأَدْنَى الرُّكُوعِ، فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى لاَ يَتْبَعُهُ
__________
(1) المصباح المنير، وجواهر الإكليل 1 / 69.

(37/45)


فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، بَل مَتَى رَفَعَ الإِْمَامُ، مِنَ الرُّكُوعِ مُعْتَدِلاً تَرَكَ الرُّكُوعَ الَّذِي فَاتَهُ مَعَ الإِْمَامِ، وَيَنْتَقِل مَعَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، فَيَخِرُّ سَاجِدًا إِنْ كَانَ الإِْمَامُ مُتَلَبِّسًا بِهِ، وَيَقْضِي رَكْعَةً بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ، فَإِنْ خَالَفَ وَرَكَعَ وَلَحِقَهُ، بَطَلَتْ صَلاَتُهُ إِنِ اعْتَدَّ بِالرَّكْعَةِ، لأَِنَّهُ قَضَاءٌ فِي صُلْبِ الإِْمَامِ (1) .
وَإِنْ زُوحِمَ عَنِ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى رَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ قَبْل إِتْيَانِ الْمَأْمُومِ بِأَدْنَى الرُّكُوعِ اتَّبَعَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَأَدْرَكَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنْ سُجُودٍ أَوْ جُلُوسٍ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وُجُوبًا، لِثُبُوتِ مَأْمُومِيَّتِهِ بِإِدْرَاكِهِ مَعَ الإِْمَامِ الرَّكْعَةَ الأُْولَى مَا لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهَا: أَيْ لَمْ يُتِمَّ الرَّكْعَةَ، فَإِنْ ظَنَّ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُدْرِكُ الإِْمَامَ وَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ الأُْولَى مَعَهُ، أَوْ يُدْرِكُهُ قِي جُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَيَسْجُدُ الثَّانِيَةَ مَعَهُ، أَوْ يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الأُْولَى مَعَ سُجُودِ الإِْمَامِ الثَّانِيَةَ وَيَسْجُدُ هُوَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ رَفْعِ الإِْمَامِ مِنْهَا، فَإِنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ أَوْ ظَنَّهُ فَتَبِعَهُ فَرَفَعَ الإِْمَامُ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ قَبْل أَنْ يَلْحَقَهُ فِيهَا أَلْغَى مَا فَعَلَهُ وَانْتَقَل مَعَ الإِْمَامِ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ إِنْ رَكَعَ لاَ يُدْرِكُ الإِْمَامَ فِي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 69.

(37/46)


السُّجُودِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِلإِْمَامِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ الرُّكُوعَ وَيَنْتَقِل مَعَ الإِْمَامِ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَيَقْضِيهَا بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ (1) .

الزِّحَامُ عَنِ السُّجُودِ:
3 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا مَنَعَهُ الزِّحَامُ عَنِ السُّجُودِ عَلَى أَرْضٍ وَنَحْوِهَا فَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ مَتَاعٍ وَنَحْوِهِمَا فَعَل ذَلِكَ وُجُوبًا، لأَِثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ أَحَدُكُمْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ (2) ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِهِ، لأَِنَّ الأَْمْرَ فِيهِ يَسِيرٌ وَيُتَسَامَحُ فِيهِ، وَلأَِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ فِي سُجُودٍ يُجْزِئُهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُتَخَلِّفًا عَنْ مُتَابَعَةِ الإِْمَامِ بِغَيْرِ عُذْرٍ (3) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُسْجِدَ وَلَوْ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ أَوْ قَدَمِهِ انْتَظَرَ زَوَال الْعُذْرِ، وَلاَ يُومِئُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى السُّجُودِ، ثُمَّ إِنْ تَمَكَّنَ مِنَ السُّجُودِ قَبْل رُكُوعِ إِمَامِهِ فِي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 69.
(2) حديث عمر عن سيار بن المعرور قال: " سمعت عمر رضي الله عنه يخطب وهو يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى هذا المسجد ونحن معه المهاجرون والأنصار، فإذا اشتد الزحام فليسجد الرجل منكم على ظهر أخيه " رواه أحمد في المسند 1 / 32، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 3 / 182 - 183.
(3) ابن عابدين 1 / 338، ومغني المحتاج 1 / 298، والمغني 2 / 313 - 314.

(37/46)


الثَّانِيَةِ سَجَدَ وُجُوبًا تَدَارُكًا عِنْدَ زَوَال الْعُذْرِ، فَإِنْ رَفَعَ عَنِ السُّجُودِ وَالإِْمَامُ بَعْدُ قَائِمٌ قَرَأَ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنًا يَسَعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَهُوَ كَمَسْبُوقٍ، وَرَكَعَ مَعَ الإِْمَامِ إِنْ رَكَعَ قَبْل إِتْمَامِهِ الْفَاتِحَةَ، وَلاَ يَضُرُّ التَّخَلُّفُ الْمَاضِي، لأَِنَّهُ تَخَلُّفٌ بِعُذْرِ، وَإِنْ رَفَعَ عَنِ السُّجُودِ وَالإِْمَامُ رَاكِعٌ يَرْكَعُ مَعَهُ وَهُوَ مَسْبُوقٌ، لأَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ فِي مَوْضِعِ الْقِرَاءَةِ (1) . فَإِنْ كَانَ إِمَامُهُ قَدْ فَرَغَ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُسَلِّمْ وَافَقَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ كَالْمَسْبُوقِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً بَعْدَ سَلاَمِهِ لِفَوَاتِهَا كَالْمَسْبُوقِ، وَإِنْ سَلَّمَ الإِْمَامُ قَبْل أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ السُّجُودِ فَاتَتْ عَلَيْهِ الرَّكْعَةُ، وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَتِ الصَّلاَةُ صَلاَةَ جُمُعَةٍ أَتَمَّهَا ظُهْرًا، لأَِنَّهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُ رَكْعَةٌ فَيُتِمُّهَا ظُهْرًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوعُ حَتَّى رَكَعَ الإِْمَامُ فِي الرَّكْعَةِ التَّالِيَةِ يَرْكَعُ، لِظَاهِرِ خَبَرِ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا (2) ، وَلأَِنَّ مُتَابَعَةَ الإِْمَامِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَتْبَعُهُ الْمَسْبُوقُ وَيَتْرُكُ الْقِرَاءَةَ وَالْقِيَامَ، وَيُحْسَبُ رُكُوعُهُ الأَْوَّل، لأَِنَّهُ أَتَى بِهَا وَقْتَ الاِعْتِدَادِ بِالرُّكُوعِ، فَرَكْعَتُهُ مُلَفَّقَةٌ مِنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى وَمِنْ سُجُودِ الثَّانِيَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا، وَيَأْتِي بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ بِرَكْعَةٍ، وَتَصِحُّ جُمُعَتُهُ إِنْ كَانَتِ الصَّلاَةُ جُمُعَةً، لِحَدِيثِ: مَنْ أَدْرَكَ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 298 - 299، والمغني 2 / 313 - 314.
(2) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به. . . ". رواه البخاري (فتح الباري 2 / 183) ، ومسلم (1 / 308) عن عائشة وأنس.

(37/47)


الْجُمُعَةِ رَكْعَةً فَلْيُصَل إِلَيْهَا أُخْرَى (1) ، وَهَذَا قَدْ أَدْرَكَ رَكْعَةً، وَيَأْتِي بِالثَّانِيَةِ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ، فَإِنْ سَجَدَ الْمَزْحُومُ عَلَى تَرْتِيبِ صَلاَةِ نَفْسِهِ عَالِمًا بِأَنَّ وَاجِبَهُ الْمُتَابَعَةُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ زُوحِمَ عَنْ سَجْدَةٍ أَوْ سَجْدَتَيْنِ مِنَ الأُْولَى أَوْ غَيْرِهَا فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى قَامَ الإِْمَامُ لِمَا تَلِيهَا: فَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي سُجُودِهَا أَيْ لَمْ يَتَحَقَّقْهُ أَوْ يَظُنَّهُ قَبْل عَقْدِ إِمَامِهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي تَلِيهَا بِرَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِهَا - بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَهَا رَفَعَ إِمَامُهُ مِنْ رُكُوعِ الَّتِي تَلِيهَا قَبْل لُحُوقِهِ أَوْ شَكَّ فِي هَذَا - تَمَادَى وُجُوبًا عَلَى تَرْكِ السَّجْدَةِ أَوِ السَّجْدَتَيْنِ وَتَبِعَ إِمَامَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، فَإِنْ سَجَدَهَا وَلَحِقَ الإِْمَامَ فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ صَحَّتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، وَقَضَى رَكْعَةً بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ وَإِلاَّ سَجَدَهَا إِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَهَا لَحِقَ الإِْمَامَ قَبْل عَقْدِ الَّتِي تَلِيهَا، فَإِنْ تَخَلَّفَ اعْتِقَادُهُ وَعَقَدَ الإِْمَامُ الرَّكْعَةَ دُونَهُ بَطَلَتِ الرَّكْعَةُ الأُْولَى لِعَدَمِ إِتْيَانِهِ بِسُجُودِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ وَالثَّانِيَةُ لِعَدَمِ إِدْرَاكِهِ رُكُوعَهَا مَعَ الإِْمَامِ، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى تَرْكِ السَّجْدَةِ لِعَدَمِ طَمَعِهِ فِيهَا قَبْل عَقْدِ إِمَامِهِ وَلَحِقَ الإِْمَامَ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَقَضَى رَكْعَةً بَعْدَ سَلاَمِهِ فَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ رَكْعَةِ النَّقْصِ، إِذِ
__________
(1) حديث: " من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى ". رواه الحاكم في مستدركه (1 / 291) عن أبي هريرة وقال الذهبي: صحيح.
(2) مغني المحتاج 1 / 298 - 299، والمغني 2 / 313 - 314 - 315.

(37/47)


الإِْمَامُ يَحْمِلُهَا عَنْهُ إِنْ تَيَقَّنَ الْمَأْمُومُ تَرْكَ السَّجْدَةِ فَإِنْ شَكَّ فِيهِ سَجَدَ بَعْدَ السَّلاَمِ لاِحْتِمَال زِيَادَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ (1) .
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ زَحَمَهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ مَا رَكَعَ مَعَ الإِْمَامِ الرَّكْعَةَ الأُْولَى فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُسْجِدَ حَتَّى رَكَعَ الإِْمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَال مَالِكٌ: لاَ أَرَى أَنْ يُسْجِدَ وَلْيَرْكَعْ مَعَ الإِْمَامِ هَذِهِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَيُلْغِي الأُْولَى وَيُضِيفُ إِلَيْهَا أُخْرَى، قَال مَالِكٌ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَزَحَمَهُ النَّاسُ بَعْدَمَا رَكَعَ مَعَ الإِْمَامِ الأُْولَى فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَّى فَرَغَ الإِْمَامُ مِنْ صَلاَتِهِ قَال: يُعِيدُ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَإِنْ هُوَ زَحَمَهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا رَكَعَ مَعَ الإِْمَامِ الأُْولَى، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَسْجُدَ حَتَّى رَكَعَ الإِْمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَال: لاَ أَرَى أَنْ يَسْجُدَ وَلْيَرْكَعْ مَعَ الإِْمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، وَيُلْغِي الأُْولَى، وَقَال مَالِكٌ مَنْ زَحَمَهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا رَكَعَ الإِْمَامُ وَقَدْ رَكَعَ مَعَهُ رَكْعَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَسْجُدَ مَعَهُ حَتَّى سَجَدَ الإِْمَامُ وَقَامَ قَال فَيَتْبَعُهُ مَا لَمْ يَخَفْ أَنْ يَرْكَعَ الإِْمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنْ خَافَ أَنْ يَرْكَعَ الإِْمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ أَلْغَى الَّتِي فَاتَتْهُ وَدَخَل مَعَ الإِْمَامِ فِيمَا يَسْتَقْبِل، وَإِنْ هُوَ صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 69، 70.

(37/48)


أَنْ يَرْكَعَهَا مَعَ الإِْمَامِ حَتَّى فَرَغَ الإِْمَامُ مِنْ صَلاَتِهِ، قَال مَالِكٌ يَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ وَيُضِيفُ إِلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقَال مَالِكٌ إِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ السُّجُودَ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ أَعَادَ الصَّلاَةَ، قِيل لَهُ: أَفِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ؟ قَال: يُعِيدُ وَلَوْ بَعْدَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ قَال مَالِكٌ (1) .

الْمَوْتُ فِي الزِّحَامِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْمَوْتِ فِي زِحَامٍ لَوْثًا
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُعْتَبَرُ الْمَوْتُ فِي الزَّحْمَةِ لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، بَل هُوَ هَدَرٌ، وَبَهْ قَال الْحَنَابِلَةُ:
وَلَكِنَّهُمْ يُهْدِرُونَ دَمَهُ، وَدِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال، وَهَذَا قَوْل إِسْحَاقَ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2) ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّهُ قُتِل رَجُلٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ فَجَاءَ أَهْلُهُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال بَيِّنَتُكُمْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، فَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لاَ يُطَل دَمُ مُسْلِمٍ إِنْ عَلِمْتُ قَاتِلَهُ، وَإِلاَّ فَأَعْطِهِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَزَاحَمَتْ جَمَاعَةٌ مَحْصُورُونَ فِي مُضِيقٍ كَمَسْجِدٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ أَوْ جُمُعَةٍ أَوْ بَابِ الْكَعْبَةِ فَانْكَشَفُوا عَنْ قَتِيلٍ فَهُوَ
__________
(1) المدونة 1 / 146، 147.
(2) شرح الزرقاني 8 / 54، والمغني 8 / 69.
(3) أثر عمر وعلي أورده ابن قدامة في المغني (8 / 69) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم وهو النخعي وفيه انقطاع بينهما.

(37/48)


لَوْثٌ يَحِقُّ بِهِ لِوَرَثَةِ الْقَتِيل الْقَسَامَةُ لِقُوَّةِ الظَّنِّ: أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ هُنَا كَوْنُهُمْ أَعْدَاءٌ لَهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ بِحَيْثُ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ (1) .

الْمُزَاحَمَةُ عَلَى اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ
5 - قَال الْفُقَهَاءُ: إِذَا تَعَذَّرَ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ لِزِحَامِ النَّاسِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ إِنْ صَبَرَ يَسِيرًا خَفَّ الزِّحَامُ وَأَمْكَنَهُ الاِسْتِلاَمُ صَبَرَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الزِّحَامَ لاَ يَخِفُّ تَرَكَ الاِسْتِلاَمَ وَلَمْ يُزَاحِمِ النَّاسَ بَل أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ رَافِعًا يَدَهُ ثُمَّ يُقَبِّلُهَا (2) ، لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّل وَكَبِّرْ (3) .
وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ: أَنَّ الزِّحَامَ إِلَيْهِ أَفْضَل، رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُزَاحِمُ ابْنَ عُمَرَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ زَاحَمَ الْجَمَل زَحَمَهُ.
هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَال، أَمَا النِّسَاءُ فَلاَ يُخْتَارُ لَهُنَّ الاِسْتِلاَمُ وَالتَّقْبِيل، وَإِذَا حَاذَيْنَ الْحَجَرَ أَشَرْنَ إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 111، وروض الطالب 4 / 98.
(2) الحاوي الكبير 5 / 178، ومغني المحتاج 1 / 488، وابن عابدين 2 / 166، والمغني 3 / 370، والشرح الصغير 2 / 48 - 49.
(3) حديث: " يا عمر، إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر " رواه أحمد في مسنده (1 / 28) ، والبيهقي في السنن الكبرى (5 / 80) عن عمر بن الخطاب.
(4) الحاوي الكبير 5 / 178.

(37/49)


مُزَارَعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُزَارَعَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ زَرَعَ الْحَبَّ زَرْعًا وَزِرَاعَةً: بَذَرَهُ، وَالأَْرْضَ: حَرَثَهَا لِلزِّرَاعَةِ، وَزَرَعَ اللَّهُ الْحَرْثَ: أَنْبَتَهُ وَأَنْمَاهُ، وَزَارَعَهُ مُزَارَعَةً: عَامَلَهُ بِالْمُزَارَعَةِ (1) .
وَالْمُزَارَعَةُ: الْمُعَامَلَةُ عَلَى الأَْرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِعِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ.
فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا الشَّرِكَةُ فِي الزَّرْعِ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ: عَمَلٌ عَلَى أَرْضٍ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالْبَذْرُ مِنَ الْمَالِكِ (5) .
وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: دَفْعُ أَرْضٍ وَحَبٍّ لِمَنْ
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب، والمصباح المنير.
(2) الشرح الصغير 3 / 493.
(3) تكملة البحر الرائق 8 / 181، وتبيين الحقائق للزيلعي 5 / 278، وحاشية ابن عابدين 6 / 274، والمبسوط 23 / 17، وبدائع الصنائع 26 / 175، والهداية مع تكملة الفتح 9 / 462، والفتاوى الهندية 5 / 235.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 372.
(5) مغني المحتاج 2 / 324 طبعة البابي الحلبي.

(37/49)


يَزْرَعُهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ، أَوْ مَزْرُوعٍ لِيَعْمَل عَلَيْهِ بِجُزْءِ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمُتَحَصِّل (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُسَاقَاةُ:
2 - الْمُسَاقَاةُ لُغَةً: أَنْ يَسْتَعْمِل رَجُلٌ رَجُلاً فِي نَخِيلٍ أَوْ كُرُومٍ لِيَقُومَ بِإِصْلاَحِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْلُومٌ مِمَّا تُغِلُّهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ شَجَرٍ مَغْرُوسٍ مَعْلُومٍ لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ لِمَنْ يَعْمَل عَلَيْهِ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ:
أَنَّ لِلْعَامِل فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حِصَّةً شَائِعَةً مِنَ الإِْنْتَاجِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَقَعُ عَلَى الزَّرْعِ كَالْحُبُوبِ، وَالْمُسَاقَاةُ تَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ كَالنَّخِيل.

ب - الإِْجَارَةُ:
3 - الإِْجَارَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِلأُْجْرَةِ، وَهِيَ كِرَاءُ الأَْجِيرِ، وَنُقِل عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ يُقَال: أَجَّرَ وَآجَرَ إِجَارًا وَإِجَارَةً، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ مَصْدَرًا وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ.
وَالإِْجَارَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى تَمْلِيكِ مَنْفَعَةٍ بِعِوَضٍ.
(ر: إِجَارَةٌ ف 1 - 2) .
__________
(1) منتهى الإرادات 1 / 471، وانظر كشاف القناع 3 / 532، والمغني 5 / 416.
(2) مختار الصحاح.
(3) منتهى الإرادات لابن النجار 1 / 471.

(37/50)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ: أَنَّ الْمُزَارَعَةَ فَرْعٌ مِنَ الإِْجَارَةِ، إِلاَّ أَنَّ الأُْجْرَةَ فِي الإِْجَارَةِ مُعَيَّنَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَقْدِ، أَمَا فِي الْمُزَارَعَةِ فَهِيَ جُزْءٌ مِنَ النَّاتِجِ.

حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ إِلَى اتِّجَاهَيْنِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالْحَنَابِلَةُ (2) ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (3) ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جِوَازِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، وَمَشْرُوعِيَّتِهَا، وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَطَاوُوسٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَْسْوَدِ، وَمُوسَى بْنُ طَلْحَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلٍ (4) .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْحَسَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَإِسْحَاقَ، وَآخَرِينَ (5) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 372، والخرشي 6 / 63.
(2) المغني 5 / 416، ومنتهى الإرادات 1 / 471، والمقنع 2 / 191، وكشاف القناع 3 / 532، وزاد المعاد لابن القيم 3 / 144.
(3) بدائع الصنائع 6 / 175، وتبيين الحقائق 5 / 278، وتكملة البحر الرائق 8 / 181، وابن عابدين 6 / 275، والمبسوط 23 / 17، والفتاوى الهندية 5 / 235، وحاشية سعدي جلبي مع تكملة الفتح 9 / 462.
(4) المغني 5 / 416.
(5) المحلي 8 / 217، وصحيح مسلم 10 / 210.

(37/50)


وَالْمَعْقُول.
فَمِنَ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَل أَهْل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ (1) .
أَمَا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجَمَعَ الصَّحَابَةُ قَوْلاً وَعَمَلاً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَارَعَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ (2) .
فَالْمُزَارَعَةُ شَرِيعَةٌ مُتَوَارَثَةٌ، لِتَعَامُل السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (3) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول، فَقَالُوا: إِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ شَرِكَةٍ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ الأَْرْضُ، وَعَمَلٌ مِنَ الآْخَرِ وَهُوَ الزِّرَاعَةُ، فَيَجُوزُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الْحَاجَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَال قَدْ لاَ يَهْتَدِي إِلَى الْعَمَل، وَالْمُهْتَدِي إِلَيْهِ قَدْ لاَ يَجِدُ الْمَال، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا (4) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى عَدَمِ جِوَازِ الْمُزَارَعَةِ مُطْلَقًا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَالْمَعْقُول.
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 10) ، ومسلم (3 / 1186) .
(2) المغني 5 / 418.
(3) بدائع الصنائع 6 / 175، وتبيين الحقائق 5 / 278.
(4) تبيين الحقائق 5 / 278، وتكملة البحر الرائق 8 / 181، وحاشية ابن عابدين 6 / 275، والمبسوط 23 / 17، والهداية مع تكملة الفتح 9 / 463.

(37/51)


أَمَا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُ فَقَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا وَأَنْفَعُ، قَال: قُلْنَا: وَمَا ذَلِكَ؟ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلاَ يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلاَ بِرُبُعٍ وَلاَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى (1) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ (2) وَالاِسْتِئْجَارُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ - الْمُزَارَعَةُ - فِي مَعْنَاهُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَكُونُ الاِسْتِئْجَارُ لِبَعْضِ الْخَارِجِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ الاِسْتِئْجَارَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ اسْتِئْجَارٌ بِبَدَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْدُومٍ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ (3) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الأَْرْضِ مُزَارَعَةً إِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَرْضًا وَشَجَرًا،
__________
(1) حديث: " من كانت له أرض فليزرعها أو فليُزرعها أخاه. . ". أخرجه مسلم (3 / 1181) ، وأبو داود (3 / 689) واللفظ لأبي داود.
(2) حديث: " نهى عن قفيز الطحان ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5 / 339) والدارقطني (3 / 47) وضعفه الذهبي في ميزان الاعتدال (4 / 306) بقوله: هذا منكر، وراويه لا يعرف.
(3) بدائع الصنائع 6 / 175، وتبيين الحقائق 5 / 278، وتكملة البحر الرائق 8 / 181.

(37/51)


فَيَكُونُ مِقْدَارُ الْبَيَاضِ مِنَ الأَْرْضِ ثُلُثَ مِقْدَارِ الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ السَّوَادُ مِقْدَارَ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْجَمِيعِ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ تُعْطَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَالنِّصْفِ عَلَى مَا يُعْطَى بِهِ ذَلِكَ السَّوَادُ (1) .
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَال: إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ تَبَعًا لِلثَّمَرِ، وَكَانَ الثَّمَرُ أَكْثَرَ ذَلِكَ، فَلاَ بَأْسَ بِدُخُولِهَا فِي الْمُسَاقَاةِ، اشْتَرَطَ جُزْءًا خَارِجًا مِنْهَا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَحَدَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ، أَعْنِي أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ كِرَاءِ الأَْرْضِ الثُّلُثَ مِنَ الثَّمَرِ فَمَا دُونَهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِطَ رَبُّ الأَْرْضِ أَنْ يَزْرَعَ الْبَيَاضَ لِنَفْسِهِ، لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا عَلَيْهِ (2) .
وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْرْضِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ النَّخِيل أَوِ الْعِنَبِ إِذَا كَانَ بَيَاضُ الأَْرْضِ أَقَل، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَالأَْصَحُّ جَوَازُهَا أَيْضًا، وَقِيل: لاَ تَجُوزُ، وَلَكِنَّهُمْ مَنَعُوهَا مُطْلَقًا فِي الأَْرْضِ الْبَيْضَاءِ (3) ، كَمَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ.

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَارَعَةِ
5 - شُرِعَتِ الْمُزَارَعَةُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا، لأَِنَّ مُلاَّكَ الأَْرْضِ قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ زَرْعَهَا وَالْعَمَل
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 276، والمدونة الكبرى 9 / 552، والشرح الصغير هامش بلغة السالك 2 / 260.
(2) بداية المجتهد 2 / 276.
(3) نهاية المحتاج 5 / 245 - 247، ومغني المحتاج 2 / 323، 324، والأم 3 / 239، والمهذب للشيرازي 1 / 393، 394، وحاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 3 / 162، 163، وروضة الطالبين 5 / 168.

(37/52)


عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّهُمْ قَدْ يُرِيدُونَ تَأْجِيرَهَا بِجُزْءٍ مِنَ الْمَحْصُول وَلَيْسَ بِأُجْرَةٍ نَقْدِيَّةٍ، وَمِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ فَالْعُمَّال يَحْتَاجُونَ إِلَى الزَّرْعِ وَلاَ مَال لَهُمْ يَتَمَلَّكُونَ بِهِ الأَْرْضَ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الزِّرَاعَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ جِوَازَ الْمُزَارَعَةِ، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، بَل إِنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا آكَدُ مِنْهَا فِي الْمُضَارَبَةِ، لأَِنَّ حَاجَةَ الإِْنْسَانِ إِلَى الزَّرْعِ آكَدُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُقْتَاتًا، وَلِكَوْنِ الأَْرْضِ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ بِالْعَمَل عَلَيْهَا بِخِلاَفِ الْمَال (1) .

أَرْكَانُ الْمُزَارَعَةِ
6 - أَرْكَانُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ هِيَ أَرْكَانُ الْعَقْدِ بِصِفَّةٍ عَامَّةٍ.
وَهِيَ - عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا مِنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْعَاقِدَانِ، وَمَحَل الْعَقْدِ، وَالصِّيغَةُ، أَيِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول الدَّالاَّنِ عَلَى التَّرَاضِي.
وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصِّيغَةُ فَقَطْ (2) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ أَرْكَانَ الْمُزَارَعَةِ أَرْبَعَةٌ: أَرْضٌ، وَبَذْرٌ، وَعَمَلٌ، وَبَقَرٌ. (3)

حَقِيقَةُ الْمُزَارَعَةِ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، وَهَل هُوَ إِجَارَةٌ، أَوْ شَرِكَةٌ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ
__________
(1) المبسوط 23 / 17، والمغني 5 / 421.
(2) بدائع الصنائع 6 / 176، وتبيين الحقائق 5 / 278، وتكملة البحر الرائق 8 / 181، والفتاوى الهندية 5 / 235.
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 274.

(37/52)


الاِثْنَيْنِ؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إِجَارَةً، ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً، فَفِيهَا مَعْنَى الإِْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الإِْجَارَةِ فَلأَِنَّ الإِْجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَالْمُزَارَعَةُ كَذَلِكَ، لأَِنَّ الْبَذْرَ إِنْ كَانَ مِنْ قِبَل رَبِّ الأَْرْضِ فَالْعَامِل يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ بِعِوَضٍ هُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَل الْعَامِل فَصَاحِبُ الأَْرْضِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ مِنَ الْعَامِل بِعِوَضٍ هُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ، فَكَانَتِ الْمُزَارَعَةُ اسْتِئْجَارًا، إِمَّا لِلْعَامِل، وَإِمَّا لِلأَْرْضِ، وَالأُْجْرَةُ فِيهَا بَعْضُ الْخَارِجِ مِنْهَا.
وَأَمَّا أَنْ فِيهَا مَعْنَى الشَّرِكَةِ، فَلأَِنَّ الْخَارِجَ مِنَ الأَْرْضِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ صَاحِبِهَا وَبَيْنَ الْمُزَارِعِ حَسَبَ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا شَرِكَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الزَّرْعِ (2) .
وَجَاءَ فِي مُوَاهِبِ الْجَلِيل: قَال فِي التَّوْضِيحِ: الْمُزَارَعَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالإِْجَارَةِ، قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالأَْقْرَبُ عِنْدِي أَنَّهَا شَرِكَةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 177 - 178، وتبيين الحقائق 5 / 280، تكملة البحر الرائق 8 / 182، والهداية مع تكملة الفتح 9 / 465.
(2) الشرح الصغير 2 / 178، ومواهب الجليل 5 / 176 - 177، وحاشية الدسوقي 3 / 372.

(37/53)


حَقِيقَةً، وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا: لاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ (1) .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ أَنَّهَا شَرِكَةُ عَمَلٍ وَإِجَارَةٌ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ غَلَّبَ الشَّرِكَةَ عَلَى الإِْجَارَةِ، وَالْبَعْضَ غَلَّبَ الإِْجَارَةَ عَلَى الشَّرِكَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنْ جَنْسِ الْمُشَارَكَاتِ وَلَيْسَتْ مِنْ جَنْسِ الْمُؤَجَّرَاتِ، وَهِيَ نَظِيرُ الْمُضَارَبَةِ (3) .

صِفَةُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ
8 - يُرَادُ بِصِفَةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أَيْ مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ لاَزِمَةٌ فِي جَانِبٍ مَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ، فَلاَ يَمْلِكُ فَسْخَهَا بِدُونِ رِضَا الآْخَرِ إِلاَّ بِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ مِنْ إِتْمَامِهَا، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ لاَزِمَةً فِي جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ قَبْل إِلْقَاءِ بَذْرِهِ فِي الأَْرْضِ، فَيَمْلِكُ فَسْخَهَا بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَمَل إِلاَّ بِإِتْلاَفِ مَالِهِ - وَهُوَ الْبَذْرُ - بِإِلْقَائِهِ فِي الأَْرْضِ فَيَهْلِكُ فِيهَا، وَلاَ يَدْرِي إِنْ كَانَ يَنْبُتُ أَمْ لاَ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ.
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 176، 177.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 372.
(3) المغني 5 / 423، والمقنع 2 / 192، 193.

(37/53)


وَلَكِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأَْرْضِ، إِلاَّ بِعُذْرٍ طَارِئٍ يَحُول دُونَ إِتْمَامِ الْعَقْدِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ لاَزِمَةٍ قَبْل إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأَْرْضِ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهَا، فَالْمُزَارَعَةُ لاَ تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلاَ بِالْعَمَل فِي الأَْرْضِ قَبْل إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِيهَا - أَيْ زَرْعِهَا - وَلَوْ كَانَ الْعَمَل كَثِيرًا كَحَرْثِ الأَْرْضِ وَتَسْوِيَتِهَا وَرَيِّهَا بِالْمَاءِ.
وَجَزَمَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ: بِلُزُومِ الْمُزَارَعَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ سَحْنُونٍ (2) .
وَمَرْجِعُ الْخِلاَفِ بَيْنَهُمْ، أَنَّ الْمُزَارَعَةَ شَرِكَةُ عَمَلٍ وَإِجَارَةٍ، فَمَنْ غَلَّبَ الشَّرِكَةَ قَال بِعَدَمِ لُزُومِهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ شَرِكَةَ الْعَمَل لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِالْعَمَل، وَمَنْ غَلَّبَ الإِْجَارَةَ قَال: بِلُزُومِهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهَا تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ عَمَلٌ، وَتَلْزَمُ بِالْبَذْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عَمَلٌ (3) .
وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - وَهُوَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 183 وما بعدها، وتبيين الحقائق 5 / 278، 279، وحاشية ابن عابدين 6 / 274، والفتاوى الهندية 5 / 237.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 372، والخرشي 6 / 63.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 372.

(37/54)


الْمَذْهَبُ - أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ (1) ، لأَِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرَّهُمْ بِخَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَكُونَ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَطْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَقَال لَهُمُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا (2) ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ لاَزِمًا لَمَا جَازَ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ وَلاَ جَعَل الْخِيَرَةَ لِنَفْسِهِ فِي مُدَّةِ إِقْرَارِهِمْ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَلَوْ قَدَّرَ لَمَا تُرِكَ نَقْلُهُ، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الإِْخْلاَل بِنَقْلِهِ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلاَهُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ (3) ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ لَمَا جَازَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا، وَلأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى جُزْءٍ مِنْ نَمَاءِ الْمَال فَكَانَ جَائِزًا كَالْمُضَارَبَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُزَارَعَةَ لاَزِمَةٌ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَامَّةَ فِي الْعُقُودِ هِيَ اللُّزُومُ (4) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (5) .

شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ
شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ بِالْبَذْرِ، أَوْ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، أَوْ بِالأَْرْضِ، أَوْ بِمَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْمُزَارَعَةُ، أَوْ بِالْمُدَّةِ.
__________
(1) المغني 5 / 404، وكشاف القناع 3 / 537.
(2) حديث: " نقركم على ذلك ما شئنا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 21) ، ومسلم (3 / 1187) .
(3) أثر إجلاء عمر رضي الله عنه لليهود عن خيبر. أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 21) ، ومسلم (3 / 1187) .
(4) المغني 5 / 404.
(5) سورة المائدة / 1.

(37/54)


أَوَّلاً: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ:
9 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 28 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثَانِيًا: مَا يَخُصُّ الْبَذْرَ:
10 - الْبَذْرُ: هُوَ كُل حَبٍّ يُزْرَعُ فِي الأَْرْضِ (1) ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، بِأَنْ يُبَيِّنَ جِنْسَهُ، وَنَوْعَهُ، وَوَصْفَهُ (2) .
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ إِعْلاَمَ جِنْسِ الأُْجْرَةِ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا إِلاَّ بِبَيَانِ جِنْسِ الْبَذْرِ.
وَأَنَّ حَال الْمَزْرُوعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَرُبَّ زَرْعٍ يَزِيدُ فِي الأَْرْضِ، وَرُبَّ آخَرَ يَنْقُصُهَا، وَقَدْ يَكْثُرُ النُّقْصَانُ وَقَدْ يَقِل فَوَجَبَ الْبَيَانُ وَالتَّحْدِيدُ، حَتَّى يَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إِلَى الْتِزَامِهِ.
وَإِذَا عَيَّنَ صَاحِبُ الأَْرْضِ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الزَّرْعِ كَالْقُطْنِ أَوِ الْقَمْحِ أَوِ الأُْرْزِ مَثَلاً وَجَبَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِزِرَاعَتِهِ، فَإِذَا خَالَفَ وَقَامَ بِزِرَاعَةِ نَوْعٍ آخَرَ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) بدائع الصنائع 6 / 177، وتبيين الحقائق 5 / 279، وحاشية ابن عابدين 6 / 276، والمبسوط 23 / 19، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، ومنتهى الإرادات 2 / 346، وكشاف القناع 3 / 542.

(37/55)


وَإِمْضَائِهِ، لِعَدَمِ الْتِزَامِ الْمُزَارِعِ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ.
أَمَّا لَوْ أَطْلَقَ صَاحِبُ الأَْرْضِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الزَّرْعِ، بِأَنْ قَال لِلْمُزَارِعِ: ازْرَعْ فِيهَا مَا شِئْتَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَشَاءُ، لأَِنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الأَْمْرَ إِلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ الَّذِي قَدْ يَنْجُمُ عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَرَضِيَ أَيْضًا بِأَنْ تَكُونَ حِصَّتُهُ النِّسْبَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَحْصُولٍ تُنْتِجُهُ الأَْرْضُ (1) .
إِلاَّ أَنَّ لِرَبِّ الأَْرْضِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَلاَّ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَضُرُّ بِأَرْضِهِ أَوْ شَجَرِهِ - إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا شَجَرٌ - فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَلاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.
(ر: شَرْطٌ ف 19، 20)

تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْبَذْرِ
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَحْدِيدِ مِقْدَارِ الْبَذْرِ الَّذِي يُزْرَعُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، لأَِنَّ هَذَا تُحَدِّدُهُ حَاجَةُ الأَْرْضِ إِلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْبَذْرِ لأَِنَّهَا مُعَاقَدَةٌ عَلَى عَمَلٍ، فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مَعْلُومِ الْجَنْسِ وَالْقَدْرِ كَالأُْجْرَةِ (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 279.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 276.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 346، وكشاف القناع 3 / 542.

(37/55)


الطَّرَفُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْبَذْرُ
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُزَارِعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا مَعًا، فَوَجَبَ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ، لأَِنَّ عَدَمَ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ: يُحَكَّمُ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ إِنِ اتَّحَدَ وَإِلاَّ فَسَدَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ أَيٍّ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا مَعًا، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ مُقَابِل الأَْرْضِ (2) لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى كِرَاءِ الأَْرْضِ بِمَمْنُوعٍ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ الأَْرْضِ بِطَعَامٍ كَالْعَسَل، أَوْ بِمَا تُنْبِتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْهُمَا مَعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ خَلْطِ مَا أَخَرَجَاهُ مِنْ بَذْرٍ.
فَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْخَلْطُ حَقِيقَةً وَلاَ حُكْمًا، وَهُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى، فَلَوْ بَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَذْرَهُ فِي جِهَةٍ أَوْ فَدَّانٍ غَيْرَ الآْخَرِ، جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ عِنْدَهُمْ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ أَنْ يَتَمَاثَل الْبَذْرَانِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 177، وحاشية ابن عابدين 6 / 275، 293، والمبسوط 23 / 19، والهداية مع تكملة الفتح 9 / 464.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 373، 374، والخرشي 6 / 63 وما بعدها.

(37/56)


جِنْسًا وَصِنْفًا، فَلَوْ أَخَرَجَ أَحَدُهُمَا قَمْحًا، وَالآْخَرُ شَعِيرًا - مَثَلاً - فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ لاَ تَصِحُّ، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا أَنْبَتَهُ بَذْرُهُ وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الأَْكْرِيَةِ، وَقِيل: يَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ.
وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ لِسَحْنُونٍ - وَهُوَ قَوْل خَلِيلٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ - أَنَّهُ يُشْرَطُ الْخَلْطُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
فَالْخَلْطُ الْحَقِيقِيُّ يَكُونُ بِضَمِّ بَذْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى بَذْرِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يُبْذَرُ الْجَمِيعُ فِي الأَْرْضِ.
أَمَّا الْحُكْمِيُّ فَيَكُونُ بِأَنْ يَحْمِل كُلٌّ مِنْهُمَا بَذْرَهُ إِلَى الأَْرْضِ وَيَبْذُرَهُ بِهَا بِدُونِ تَمَيُّزٍ لأَِحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِنْ تَمَيَّزَ بَذْرُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الأَْرْضِ انْتَفَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لِكُل مِنْهُمَا مَا أَنْبَتَهُ حَبُّهُ، وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الأَْكْرِيَةِ وَيَتَقَاصَّانِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُهُمْ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهِيَ أَقْوَى دَلِيلاً.
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُهُ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الإنصاف 5 / 483.

(37/56)


ثَالِثًا: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ (قِسْمَةُ الْمَحْصُول)
13 - يُقْصَدُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ:
الْمَحْصُول الَّذِي سَيُقْسَمُ عَلَى أَطْرَافِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ شُرُوطٌ هِيَ:
أ - أَنْ يُبَيِّنَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ نَصِيبَ مَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، فَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الأُْجْرَةِ مُفْسِدٌ لِلإِْجَارَةِ، فَكَذَلِكَ السُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الْخَارِجِ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، وَقَالُوا - أَيِ الْحَنَفِيَّةُ -: يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ نَصِيبَ مَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ، لأَِنَّهُ أُجْرَةُ عَمَلِهِ أَوْ أَرْضِهِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَسَمَّى مَا لِلآْخَرِ جَازَ، لأَِنَّ مَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، أَمَّا صَاحِبُ الْبَذْرِ فَيَسْتَحِقُّ بِمِلْكِهِ الْبَذْرَ فَلاَ يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُهُ بِتَرْكِ الْبَيَانِ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ سَمَّى نَصِيبَ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَلَمْ يُسَمِّ مَا لِلآْخَرِ، فَفِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا لاَ حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ وَتَرَكُوا مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَمَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ فَبِدُونِ الشَّرْطِ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَلَكِنْ فِي الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ: الْخَارِجُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالتَّنْصِيصُ عَلَى

(37/57)


نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ بَيَانًا بِأَنَّ الْبَاقِيَ لِلآْخَرِ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُزَارَعَةِ، فَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنَ الأَْرْضِ لأَِحَدِهِمَا فَقَطْ، فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، لأَِنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لاَزِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ وَكُل شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لَهَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، فَالْمُزَارَعَةُ تَنْعَقِدُ إِجَارَةً فِي الاِبْتِدَاءِ، وَتَقَعُ شَرِكَةً فِي الاِنْتِهَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
ج - أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ ذَاتِهَا، فَلَوْ شَرَطَا أَنْ تَكُونَ الْحِصَّةُ مِنْ مَحْصُول أَرْضٍ أُخْرَى بَطَلَتِ الْمُزَارَعَةُ، لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ وَلَيْسَتْ كَالإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ.
د - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنَ الْخَارِجِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، سَوَاءٌ بِالتَّسَاوِي أَوْ بِالتَّفَاوُتِ حَسَبَ الاِتِّفَاقِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالنِّصْفِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ تَرْكَ التَّقْدِيرِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مِقْدَارِ الأُْجْرَةِ فِي الإِْجَارَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ والْحَنَابِلَةَ فِي الْمَذْهَبِ اشْتَرَطُوا التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ
__________
(1) المبسوط 23 / 23، وتبيين الحقائق 5 / 279، 280، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، وحاشية ابن عابدين 6 / 275، 276.

(37/57)


مِنْهُمَا مُتَسَاوِيًا، فَإِنْ كَانَ مُتَفَاضِلاً فَعَلَى قَدْرِ بَذْرِ كُلٍّ (1) .
هـ - أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَارِجِ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْجُمْلَةِ كَالنِّصْفِ أَوِ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لأَِحَدِهِمَا كَمِّيَّةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْمَحْصُول كَعَشَرَةِ أَرَادِبَّ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ خَمْسَةِ قَنَاطِيرَ مِنَ الْقُطْنِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ فِيهَا مَعْنَى الإِْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ - كَمَا سَبَقَ - وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الإِْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْخَارِجِ لأَِحَدِهِمَا يَنْفِي لُزُومَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، لاِحْتِمَال أَنَّ الأَْرْضَ لاَ تُخْرِجُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ فَلاَ يَبْقَى لِلطَّرَفِ الآْخَرِ شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْبَذْرِ لِنَفْسِهِ وَالْبَاقِي يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ لاِحْتِمَال أَنَّ الأَْرْضَ لاَ تُنْتِجُ إِلاَّ قَدْرَ الْبَذْرِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ، وَيُحْرَمُ الآْخَرُ مِنَ الْمَحْصُول، فَيَنْتَفِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَلأَِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ فِي الْحَقِيقَةِ شَرَطَ قَدْرَ الْبَذْرِ لَهُ لاَ عَيْنَ بَذْرِهِ، لأَِنَّ عَيْنَهُ تَهْلِكُ فِي التُّرَابِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ يَكُونُ بِمَثَابَةِ اشْتِرَاطِ كَمِّيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمَحْصُول لَهُ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 373، وكشاف القناع 3 / 344.

(37/58)


الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ زَرْعُ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الأَْرْضِ، وَلِلْمُزَارِعِ زَرْعُ النَّاحِيَةِ الأُْخْرَى، وَمِثْل هَذَا الاِتِّفَاقِ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ مَا عَلَى السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِل إِمَّا مُنْفَرِدًا أَوْ بِالإِْضَافَةِ إِلَى نَصِيبِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قِيسٍ الأَْنْصَارِيِّ قَال: سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ (2) وَإِقْبَال الْجَدَاوِل وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (3) .
وَبِأَنَّ اشْتِرَاطَ زَرْعِ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ يَمْنَعُ لُزُومَ الشَّرِكَةِ فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ شَيْءٌ مَعْلُومٌ وَقَدْ يَتْلَفُ زَرْعُ مَا عُيِّنَ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْغَلَّةِ دُونَ صَاحِبِهِ.

رَابِعًا: مَا يَخُصُّ الأَْرْضَ (مَحَل الْمُزَارَعَةِ) :
14 - الْمَزْرُوعُ فِيهِ هُوَ: الأَْرْضُ، وَقَدِ اشْتَرَطَ
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر الهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 469.
(2) الماذيانات جمع (ماذيان) وهو أصغر من النهر، فارسي معرب، وقيل: ما يجتمع فيه ماء السيل ثم يسقى منه الأرض (المغرب) .
(3) حديث: " لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون. . ". أخرجه مسلم (3 / 1183) .

(37/58)


الْفُقَهَاءُ فِيهَا شُرُوطًا هِيَ:
أ - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مَحَل الْمُزَارَعَةِ مَعْلُومَةً أَيْ مُعَيَّنَةً تَعْيِينًا نَافِيًا لِلْجَهَالَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ (1) .
ب - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، بِأَنْ كَانَتْ سَبِخَةً، أَوْ نَزَّةً، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَيْهَا لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ اسْتِئْجَارٍ، وَالأُْجْرَةُ فِيهَا بَعْضُ الْخَارِجِ، وَالأَْرْضُ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ لاَ تَجُوزُ إِجَارَتُهَا، فَلاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي الْمُدَّةِ، وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا وَقْتَ التَّعَاقُدِ لِعَارِضٍ مُؤَقَّتٍ كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ أَوْ فِي زَمَنِ الْفَيَضَانِ، أَوْ كَثْرَةِ الثُّلُوجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي هِيَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَال فِي مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ صَحِيحًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
ج - التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْعَامِل لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَل فِيهَا بِلاَ مَانِعٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ لَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَعًا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ
وَالتَّخْلِيَةُ أَنْ يَقُول صَاحِبُ الأَْرْضِ لِلْعَامِل:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 178، والفتاوى الهندية 5 / 236، والمبسوط 23 / 42، وكشاف القناع 3 / 542.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 275، والفتاوى الهندية 5 / 235.

(37/59)


سَلَّمْتُ إِلَيْكَ الأَْرْضَ، وَمِنَ التَّخْلِيَةِ أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ فَارِغَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ قَدْ نَبَتَ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَابِلاً لِعَمَل الزِّرَاعَةِ بِأَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ الْعَمَل بِالزِّيَادَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ لأَِنَّ مَا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَمَل بِالزِّيَادَةِ عَادَةً لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُزَارَعَةِ (1) .

جِوَازُ الْمُزَارَعَةِ بِالأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ نَقْدًا
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَنْفَعَتِهَا فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ: لَوِ اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ أَرْضًا مِنَ الْغَيْرِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَال، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِهَذَا الْمُسْتَأْجَرِ أَنْ يَدْفَعَ هَذِهِ الأَْرْضَ مُزَارَعَةً إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِعْيَارَ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةُ الأَْرْضِ مَمْلُوكَةً لِمَنْ يُزَارِعُ عَلَيْهَا، أَمَّا مَلَكِيَّةُ رِقْبَتِهَا فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِذَلِكَ (2) .

خَامِسًا: مَا يَخُصُّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ:
16 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ مَقْصُودًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا إِجَارَةُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 275، والفتاوى الهندية 5 / 235، وبدائع الصنائع 6 / 178، وتبيين الحقائق 5 / 279، وتكملة البحر الرائق 8 / 181، ومنتهى الإرادات 1 / 471، وكشاف القناع 3 / 534.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 284، والمبسوط 23 / 76، وحاشية الدسوقي 3 / 376، والخرشي 6 / 65، والمغني 5 / 413، وكشاف القناع 3 / 541.

(37/59)


الأَْمْرُ الأَْوَّل: مَنْفَعَةُ الْعَامِل، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِل لِيَزْرَعَ لَهُ أَرْضَهُ بِنِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمَحْصُول.

الأَْمْرُ الثَّانِي: مَنْفَعَةُ الأَْرْضِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِل، لأَِنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأَْرْضِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا يَدْفَعُهُ لِصَاحِبِهَا.
وَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الاِسْتِئْجَارِ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ.
أَمَّا مَنْفَعَةُ الْمَاشِيَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الآْلاَتِ اللاَّزِمَةِ لِلزِّرَاعَةِ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِلْعَقْدِ، أَوْ مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا، فَإِنْ جُعِلَتْ تَابِعَةً لَهُ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَقْصُودَةً فَسَدَتْ.
وَوَجْهُ عَدَمِ جِوَازِ جَعْل مَنْفَعَةِ الْمَاشِيَةِ مَقْصُودَةً فِي الْعَقْدِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إِجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً، وَلاَ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْمَاشِيَةِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِل، وَأَنَّ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ - لأَِنَّ الأُْجْرَةَ مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مَعَ انْعِدَامِهَا مَجْهُولَةٌ فَيَقْتَصِرُ جَوَازُهَا عَلَى الْمَحَل الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الآْلَةُ تَابِعَةً، فَإِذَا جُعِلَتْ مَقْصُودَةً يَرُدُّ إِلَى الْقِيَاسِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 179 - 180، والمبسوط 23 / 20، 108، وتبيين الحقائق 5 / 280، 281، والفتاوى الهندية 5 / 236.

(37/60)


سَادِسًا: مَا يَخُصُّ الْمُدَّةَ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَحْدِيدُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بِمُدَّةِ مُعَيَّنَةٍ فَإِذَا لَمْ تُحَدَّدْ لَهُ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ مَجْهُولَةً فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالإِْجَارَةُ لاَ تَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ، فَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ.
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُدَّةُ كَافِيَةً لِلزِّرَاعَةِ وَجَنْيِ الْمَحْصُول، وَتَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ بِشَرْطِ تَعْيِينِ الْمُدَّةِ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ بِلاَ بَيَانِ مُدَّةٍ وَتَقَعُ عَلَى أَوَّل زَرْعٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مُدَّةٍ لِلْمُزَارَعَةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ لأَِهْل خَيْبَرَ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَلَوْ قَدَّرَ لَمْ يُتْرَكْ نَقْلُهُ، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الإِْخْلاَل بِنَقْلِهِ.
وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلاَهُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ لَمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 180، وتكملة البحر الرائق 8 / 181، وحاشية ابن عابدين 6 / 275، وتبيين الحقائق 5 / 279، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 464، والفتاوى الهندية 5 / 236.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 275، وعمدة القاري 12 / 168.

(37/60)


جَازَ لَهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا (1) .

شُرُوطُ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
18 - لاَ يُجِيزُ الشَّافِعِيَّةُ الْمُزَارَعَةَ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَلَى الْبَيَاضِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ النَّخِيل أَوِ الْعِنَبِ الَّذِي تَمَّتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ وَأَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِعَقْدِ الْمُسَاقَاةِ.
وَحَتَّى تَتَحَقَّقَ هَذِهِ التَّبَعِيَّةُ اشْتَرَطُوا مَا يَلِي:
أ - اتِّحَادُ الْعَامِل: وَمَعْنَى اتِّحَادِ الْعَامِل أَنْ يَكُونَ عَامِل الْمُسَاقَاةِ هُوَ عَامِل الْمُزَارَعَةِ نَفْسَهُ، فَإِذَا كَانَ مُخْتَلِفًا لاَ يَجُوزُ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ، لأَِنَّ إِفْرَادَ الْمُزَارَعَةِ بِعَامِلٍ يُخْرِجُهَا عَنِ التَّبَعِيَّةِ.
ب - تَعَسُّرُ الإِْفْرَادِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَسَّرَ إِفْرَادُ النَّخِيل أَوِ الْعِنَبِ مَحَل الْمُسَاقَاةِ، وَإِفْرَادُ الْبَيَاضِ بِالزِّرَاعَةِ، لأَِنَّ التَّبَعِيَّةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ بِخِلاَفِ تَعَسُّرِ أَحَدِهِمَا.
ج - اتِّصَال الْعَقْدَيْنِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ لاَ يَفْصِل الْعَاقِدَانِ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ التَّابِعَةِ لَهَا، بَل يَأْتِيَانِ بِهِمَا عَلَى الاِتِّصَال لِتَحْصُل التَّبَعِيَّةُ.
وَيُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْعَقْدِ بِأَنْ يَشْمَلَهُمَا عَقْدٌ وَاحِدٌ حَتَّى تَتَحَقَّقَ التَّبَعِيَّةُ، فَلَوْ قَال صَاحِبُ الأَْرْضِ لِلْعَامِل: سَاقَيْتُكَ عَلَى النِّصْفِ، فَقَال لَهُ: قَبِلْتُ، ثُمَّ زَارَعَهُ صَاحِبُ الأَْرْضِ عَلَى الْبَيَاضِ، لاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ، لأَِنَّ تَعَدُّدَ الْعَقْدِ يُزِيل التَّبَعِيَّةَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
__________
(1) المغني 5 / 404، 405، وكشاف القناع 3 / 537.

(37/61)


وَفِي مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ يَجُوزُ الْفَصْل بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ لِحُصُولِهِمَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ.
د - تُقَدَّمُ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ: فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ تَقَدُّمِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ فَلاَ تَتَقَدَّمُ الْمُزَارَعَةُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْمُسَاقَاةِ عَقِبَهَا، لأَِنَّ التَّابِعَ - الْمُزَارَعَةَ - لاَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَتْبُوعِ وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ، يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْمُسَاقَاةِ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ مَوْقُوفَةً عَلَى انْعِقَادِ الْمُسَاقَاةِ فَإِنْ عَقَدَا الْمُسَاقَاةَ بَعْدَهَا بَانَ صِحَّتُهَا، وَإِلاَّ لاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ (1) .

الشُّرُوطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ
19 - الشُّرُوطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ هِيَ:
أ - شَرْطُ كَوْنِ الْمَحْصُول النَّاتِجِ مِنَ الأَْرْضِ كُلِّهِ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَ لِرَبِّ الأَْرْضِ أَمْ كَانَ لِلْمُزَارِعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
ب - الشَّرْطُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ يَشْتَرِطُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ كَمِّيَّةً مُحَدَّدَةً مِنَ الْمَحْصُول، أَوْ زَرْعَ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 245، 246، ومغني المحتاج 2 / 323، 324، والأم 3 / 239، وحاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 3 / 162، 163.
(2) بدائع الصنائع 6 / 180، وحاشية الدسوقي 3 / 373، وكشاف القناع 3 / 544.

(37/61)


وَلِلآْخَرِ زَرْعُ النَّاحِيَةِ الأُْخْرَى، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا (1) ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعُودُ إِلَى جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَالْمُضَارَبَةَ مَعَ جَهَالَةِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَالإِْجَارَةَ مَعَ جَهَالَةِ الأُْجْرَةِ، كَمَا أَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَلاَّ تُخْرِجَ الأَْرْضُ إِلاَّ الْقَدْرَ الَّذِي اشْتَرَطَهُ أَحَدُهُمَا لَهُ.
ج - شَرْطُ الْعَمَل عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ وَحْدَهُ، أَوِ اشْتِرَاكُهُ مَعَ الْمَزَارِعِ فِي الْعَمَل، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) . أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالْمُزَارَعَةُ شَرِكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي كُل شَيْءٍ مِنْ أَرْضٍ وَعَمَلٍ وَنَفَقَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (3) .
وَوَجْهُ عَدَمِ جَوَازِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، أَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ وَكُل شَرْطٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ فَاسِدًا كَمَا سَبَقَ.
أَمَّا لَوِ اسْتَعَانَ الْمُزَارِعُ بِصَاحِبِ الأَْرْضِ فِي الْعَمَل فَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ جَائِزًا عَلَى سَبِيل التَّبَرُّعِ مِنْهُ فَقَطْ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 180، والمبسوط 23 / 61، والمغني 5 / 426، 427، ومنتهى الإرادات 1 / 474، 475، وكشاف القناع 3 / 544، والدسوقي 3 / 373.
(2) بدائع الصنائع 6 / 180، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، والفتاوى الهندية 5 / 236، والمغني 5 / 423، والمقنع 2 / 192، 193.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 372.
(4) المبسوط 23 / 28.

(37/62)


د - شَرْطُ كَوْنِ الْمَاشِيَةِ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ، لأَِنَّ فِيهِ جَعْل مَنْفَعَةِ الْمَاشِيَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا مَقْصُودَةً فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
هـ - شَرْطُ الْحَمْل وَالْحِفْظِ عَلَى الْمُزَارِعِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْمَحْصُول بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَل الْمُزَارَعَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
و شَرْطُ حِفْظِ الزَّرْعِ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ قَبْل الْحَصَادِ، لأَِنَّ هَذَا يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْعَامِل وَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ - كَمَا سَبَقَ - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
ز - شَرْطُ الْحَصَادِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْبَيْدَرِ (4) ، وَالدِّيَاسِ، وَالتَّذْرِيَةِ عَلَى الْعَامِل، لأَِنَّ الزَّرْعَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذْ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَمَاؤُهُ وَصَلاَحُهُ (5) .
وَالأَْصْل أَنَّ كُل عَمَلٍ يَحْتَاجُ الزَّرْعُ إِلَيْهِ قَبْل تَنَاهِيهِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى إِصْلاَحِهِ، مِنَ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ، وَحَفْرِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 180، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، والمبسوط 23 / 22، والفتاوى الهندية 5 / 236.
(2) بدائع الصنائع 6 / 180، وتكملة البحر الرائق 8 / 186، ومنتهى الإرادات 1 / 473، المقنع 2 / 194.
(3) المبسوط 23 / 109، ومنتهى الإرادات 1 / 473، والمقنع 2 / 194.
(4) البيدر هو: الجرن (المعجم الوسيط) .
(5) بدائع الصنائع 6 / 180، وتبيين الحقائق 5 / 283، وتكملة البحر الرائق 8 / 186، وحاشية ابن عابدين 6 / 281، والمبسوط 23 / 36، والفتاوى الهندية 5 / 236.

(37/62)


الأَْنْهَارِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَتَسْوِيَةِ الْمُسَنَّاةِ (1) فَعَلَى الْمُزَارِعِ، لأَِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الزَّرْعِ وَهُوَ النَّمَاءُ لاَ يَحْصُل بِدُونِهِ عَادَةً، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ عَمَل الْمُزَارَعَةِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ.
وَكُل عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ تَنَاهِي الزَّرْعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ قَبْل قِسْمَةِ الْحَبِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِخُلُوصِ الْحَبِّ وَتَنْقِيَتِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِ الْخَارِجِ، أَيْ يَتَحَمَّل مِنْ نَفَقَاتِهِ بِنِسْبَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَحْصُول، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل الْمُزَارَعَةِ.
وَكُل عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنَ الْحَمْل وَنَحْوِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لإِِحْرَازِ الْمَقْسُومِ فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَجَازَ شَرْطَ الْحَصَادِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَى الزَّارِعِ، لِتَعَامُل النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ (3) ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (4) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (5) وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (6) .
__________
(1) المسناة: سد يبنى لحجز ماء السيل أو النهر به مفاتح للماء تفتح على قدر الحاجة (المعجم الوسيط) .
(2) المراجع السابقة للحنفية.
(3) بدائع الصنائع 6 / 181، وتبيين الحقائق 5 / 283، والمبسوط 23 / 36، وتكملة البحر الرائق 8 / 186، والفتاوى الهندية 5 / 237.
(4) حاشية ابن عابدين 6 / 282.
(5) منتهى الإرادات 1 / 473، وكشاف القناع 3 / 544.
(6) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 496.

(37/63)


ح - اشْتِرَاطُ صَاحِبِ الأَْرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ عَمَلاً يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إِلَى مَا بَعْدَ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ كَبِنَاءِ حَائِطٍ وَحَفْرِ النَّهَرِ الْكَبِيرِ وَرَفْعِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إِلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
ط - شَرْطُ الْكِرَابِ (2) عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الْعَامِل.
أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ فَإِنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الْعَامِل فَالْعَقْدُ فِي جَانِبِ رَبِّ الأَْرْضِ، يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ الأَْرْضِ فَلُزُومُ الْعَقْدِ فِي جَانِبِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأَْرْضِ وَالْكِرَابُ يَسْبِقُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَل الزِّرَاعَةِ فِي أَرْضٍ مَكْرُوبَةٍ (مَقْلُوبَةٍ) نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (3) .
ي - اشْتِرَاطُ الْبَذْرِ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْعَامِل مَعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 181، والمبسوط 23 / 39، والفتاوى الهندية 5 / 237، ومنتهى الإرادات 1 / 473.
(2) الكراب: تقليب الأرض للحراث، تقول: كرب الأرض كَرْباً وكِرَاباً قَلَبَهَا للحرث وأثارها للزرع (المعجم الوسيط، ولسان العرب) .
(3) المبسوط 23 / 109.
(4) حاشية ابن عابدين 6 / 275، 276، والمبسوط 23 / 19، وبدائع الصنائع 6 / 177.

(37/63)


ك - اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) ، بِأَنْ لاَ يَأْخُذَ كُلٌّ مِنَ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِ، كَمَا سَبَقَ.
ل - شَرْطُ التِّبْنِ لِمَنْ لاَ يَكُونُ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَهَذَا لاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعُ أَنْ يُقْسَمَ التِّبْنُ وَنَحْوُهُ كَالْحَطَبِ وَقَشِّ الأُْرْزِ وَالدَّرِيسِ بَيْنَهُمَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، لأَِنَّهُ مُقَرِّرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الزَّرْعِ مِنْ مَعَانِيهِ وَلاَزِمٌ مِنْ لَوَازِمِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ (2) .
الثَّانِي: أَنْ يَسْكُتَا عَنْهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، قَال أَبُو يُوسُفَ: يَفْسُدُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ التِّبْنِ وَالْحَبِّ مَقْصُودٌ مِنَ الْعَقْدِ، فَكَانَ السُّكُوتُ عَنِ التِّبْنِ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ عَنِ الْحَبِّ وَهَذَا مُفْسِدٌ بِالإِْجْمَاعِ فَكَذَا هَذَا.
وَيَرَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَدَمَ الْفَسَادِ إِذَا سَكَتَا عَنْ ذِكْرِ التِّبْنِ، وَيَكُونُ التِّبْنُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ الأَْرْضِ أَمِ الْمُزَارِعَ، لأَِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ لاَ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ شَرْطُ التِّبْنِ لأَِحَدِهِمَا وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إِلَى قَوْل
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 373، والخرشي 6 / 63، وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 6 / 181، وتبيين الحقائق 5 / 281، 282، وحاشية ابن عابدين 6 / 277، والخرشي 6 / 66.

(37/64)


أَبِي يُوسُفَ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: التِّبْنُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا تَبَعًا لِلْحَبِّ، لأَِنَّ التِّبْنَ كَالْحَبِّ كُلٌّ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ مِنْ نِتَاجِ الأَْرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ عَلَى حَسَبِ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لِتَقْسِيمِ الْحَبِّ ذَاتِهِ لأَِنَّهُ تَابِعٌ لَهُ (2) .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يَكُونَ التِّبْنُ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ جَازَ هَذَا الشَّرْطُ وَيَكُونُ لَهُ، لأَِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لِكَوْنِهِ نَمَاءُ مِلْكِهِ فَالشَّرْطُ لاَ يَزِيدُهُ إِلاَّ تَأْكِيدًا.
وَإِنْ شَرَطَاهُ لِمَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ لِلتِّبْنِ بِالْبَذْرِ لاَ بِالشَّرْطِ، لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَنَمَاءُ مِلْكِ الإِْنْسَانِ مِلْكُهُ، فَصَارَ شَرْطُ كَوْنِ التِّبْنِ لِمَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْحَبِّ لَهُ، وَذَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، كَذَا هَذَا (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التِّبْنَ يُقْسَمُ بَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ عَلَى مَا تَعَامَلاَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ التِّبْنَ كَالْحَبِّ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمَا كَمَا يُقْسَمُ الْحَبُّ، وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا يُصَابُ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلاَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 277، وانظر المبسوط 23 / 61.
(3) بدائع الصنائع 6 / 181، وتكملة البحر الرائق 8 / 184، والمبسوط 23 / 61، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 470، والفتاوى الهندية 5 / 237.

(37/64)


تُخْرِجُ الأَْرْضُ إِلاَّ التِّبْنَ، فَلَوِ اسْتَقَل بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الآْخَرَ لَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَارِجِ شَيْئًا، وَهَذَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ كَمَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ، أَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ كَمِّيَّةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْمَحْصُول (1) .

صُوَرٌ مِنَ الْمُزَارَعَةِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ صُوَرٍ مِنَ الْمُزَارَعَةِ: مِنْهَا الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ مَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَ صِحَّتِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا، وَمِنْهَا الْفَاسِدَةُ، وَهِيَ الَّتِي فَقَدَتْ شَرْطًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ الصُّوَرِ.

صُوَرٌ مِنَ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ
21 - أَنْ يَكُونَ الْعَمَل مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنْ أَرْضٍ وَبَذْرٍ وَمَاشِيَةٍ وَآلاَتٍ وَنَفَقَاتٍ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَفِيَّةُ (2) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (3) ، وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
وَوَجْهُ صِحَّتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ صَاحِبَ الأَْرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِل لاَ غَيْرُ، لِيَعْمَل
__________
(1) الخرشي 6 / 66.
(2) بدائع الصنائع 6 / 179، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، وحاشية ابن عابدين 6 / 278، والمبسوط 23 / 19.
(3) الخرشي 6 / 66.
(4) منتهى الإرادات 1 / 471، والمغني 5 / 423.

(37/65)


لَهُ فِي أَرْضِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا، الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ الشَّرِكَةِ، فَإِنْ عَقَدَا بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ لاَ تَصِحُّ لأَِنَّهَا إِجَارَةٌ بِجُزْءٍ مَجْهُولٍ، وَإِنْ أَطْلَقَا الْقَوْل فَقَدْ حَمَلَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى الإِْجَارَةِ فَمَنَعَهَا، وَحَمَلَهَا سَحْنُونٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فَأَجَازَهَا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الأَْوَّل أَيْ: حَمْلُهَا عَلَى الإِْجَارَةِ، فَلاَ تَجُوزُ.
22 - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةِ (2) ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ وَالْعَمَل مِنَ الْعَامِل كَانَتِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً (3) ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل فِي الْمُزَارَعَةِ فَقَدْ عَامَل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل خَيْبَرَ عَلَى هَذَا.
وَوَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِل يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأَْرْضِ لاَ غَيْرُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهَا الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ (4) .
23 - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَمَل وَالْمَاشِيَةُ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ وَهُوَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 179، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، وحاشية ابن عابدين 6 / 278، والمبسوط 23 / 19 والهداية مع تكملة الفتح 9 / 469.
(2) الخرشي 6 / 66.
(3) منتهى الإرادات 1 / 474.
(4) بدائع الصنائع 6 / 179، وحاشية ابن عابدين 6 / 278، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، والمبسوط 23 / 20.

(37/65)


الْمُزَارِعُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَوَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِل لاَ غَيْرُ مَقْصُودًا، فَأَمَّا الْبَذْرُ فَغَيْرُ مُسْتَأْجَرٍ مَقْصُودًا وَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الأُْجْرَةِ بَل هِيَ تَوَابِعُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْعَامِل، لأَِنَّهُ آلَةٌ لِلْعَمَل فَلاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ لِلْعَمَل، فَكَانَ الْعَقْدُ عَقْدًا عَلَى عَمَلٍ جَيِّدٍ، وَالأَْوْصَافُ لاَ قِسْطَ لَهَا مِنَ الْعِوَضِ فَأَمْكَنَ أَنْ تَنْعَقِدَ إِجَارَةً ثُمَّ تَتِمَّ شَرِكَةً بَيْنَ مَنْفَعَةِ الأَْرْضِ وَمَنْفَعَةِ الْعَامِل (2) .
24 - أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْجَمِيعِ، أَرْضًا وَعَمَلاً وَبَذْرًا وَمَاشِيَةً وَنَفَقَاتٍ، لأَِنَّ أَحَدَهُمَا لاَ يَفْضُل صَاحِبَهُ بِشَيْءِ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
وَوَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، نَصَّ عَلَيْهِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَال: وَإِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاشْتَرَطَا عَلَى أَنْ يَعْمَلاَ فِيهَا جَمِيعًا سَنَتَهُمَا هَذِهِ بِبَذْرِهِمَا وَبَقَرِهِمَا، فَمَا
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 376، والخرشي 6 / 66، ومنتهى الإرادات 1 / 474، والمغني 5 / 423.
(2) بدائع الصنائع 6 / 189.
(3) المبسوط 23 / 107، والفتاوى الهندية 5 / 229، وحاشية الدسوقي 3 / 376، والخرشي 6 / 65، والمغني 5 / 428، 429، والمقنع 2 / 194.

(37/66)


خَرَجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامِلٌ فِي نَصِيبِهِ مِنَ الأَْرْضِ بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا مِنَ الْخَارِجِ مِنْهُ، فَإِنِ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا ثَلاَثًا كَانَ فَاسِدًا، لأَِنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ كَأَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَهُ مِنَ الأَْرْضِ وَالْبَذْرِ إِلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً بِثُلُثِ الْخَارِجِ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَعْمَل هُوَ مَعَهُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَلأَِنَّ مَا شُرِطَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ يَكُونُ أُجْرَةً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَإِنَّمَا يَعْمَل فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، فَلاَ يَسْتَوْجِبُ الأَْجْرَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمَا وَالْخَارِجُ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا، لأَِنَّ الَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَ الْخَارِجِ كَأَنَّهُ أَعَارَ شَرِيكَهُ ثُلُثَ نَصِيبِهِ مِنَ الأَْرْضِ وَأَعَانَهُ بِبَعْضِ الْعَمَل وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَوِ اشْتَرَطَا أَنَّ الْخَارِجَ نِصْفَانِ كَانَ فَاسِدًا، لأَِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ ثُلُثُ الْبَذْرِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ بَعْضَ الْخَارِجِ مِنْ بَذْرِ شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ وَالْعَامِل فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لاَ يَسْتَوْجِبُ الأَْجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ يَصِيرُ دَافِعًا سُدُسَ الأَْرْضِ مِنْ شَرِيكِهِ مُزَارَعَةً بِجَمِيعِ الْخَارِجِ مِنْهُ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، ثُمَّ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ بَذْرِهِمَا، وَعَلَى صَاحِبِ ثُلُثَيِ الْبَذْرِ أَجْرُ مِثْل سُدُسِ الأَْرْضِ لِشَرِيكِهِ، لأَِنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الأَْرْضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ

(37/66)


الزَّرْعِ طَيِّبًا لاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لأَِنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا سُدُسُ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ يُدْفَعُ مِنْهُ رُبُعُ بَذْرِهِ الَّذِي بَذَرَهُ، وَمَا غَرِمَ مِنَ الأَْجْرِ وَالنَّفَقَةِ فِيهِ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْل، لأَِنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ الزَّرْعِ طَيِّبًا لاَ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ لأَِنَّهُ رَبَّاهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَوْ كَانَتِ الأَْرْضُ لِثَلاَثَةٍ فَاشْتَرَكُوا عَلَى أَنْ يَزْرَعُوهَا بِبَذْرِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَالِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يَفْضُل صَاحِبَيْهِ بِشَيْءٍ (2) .
25 - إِذَا قَابَل بَذْرَ أَحَدِهِمَا عَمَلٌ مِنَ الآْخَرِ، وَكَانَتِ الأَْرْضُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً، وَتَسَاوَتْ قِيمَةُ الْعَمَل وَالْبَذْرِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَكُونُ صَحِيحَةً، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ (3) .
26 - إِذَا قَابَل الأَْرْضَ وَبَعْضَ الْبَذْرِ عَمَلٌ مِنَ الآْخَرِ مَعَ بَعْضِ الْبَذْرِ، نَصَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ (4) .
وَشَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ لاَ يَنْقُصَ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ عَنْ نِسْبَةِ
__________
(1) المبسوط 23 / 107، 108.
(2) المغني 5 / 428، 429.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 376، والخرشي 6 / 65.
(4) حاشية الدسوقي 3 / 376، والخرشي 6 / 66.

(37/67)


بَذْرِهِ بِأَنْ زَادَ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى بَذْرِهِ أَوْ سَاوَاهُ عَلَى الأَْقَل.
مِثَال الزِّيَادَةِ: أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا الأَْرْضَ وَثُلُثَيِ الْبَذْرِ، وَالثَّانِي الْعَمَل وَثُلُثَ الْبَذْرِ، عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلٌّ نِصْفَ الرِّبْحِ، فَفِي هَذَا الْمِثَال يَكُونُ الْعَامِل قَدْ أَخَذَ أَزْيَدَ مِنْ نِسْبَةِ مَالِهِ مِنَ الْبَذْرِ فَتَكُونُ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً.
وَمِثَال الْمُسَاوَاةِ: أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الثُّلُثَيْنِ مِنَ الرِّبْحِ وَيَأْخُذَ الْعَامِل الثُّلُثَ، فَفِي هَذَا الْمِثَال يَكُونُ الْعَامِل قَدْ أَخَذَ مَا يُسَاوِي مِثْل نِسْبَةِ مَالِهِ مِنَ الْبَذْرِ فَتَكُونُ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً كَذَلِكَ.
أَمَّا لَوْ أَخَذَ الْعَامِل أَقَل مِنَ الثُّلُثِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَكُونُ فَاسِدَةً، لأَِنَّهُ أَخَذَ أَقَل مِنْ نِسْبَةِ مَالِهِ مِنَ الْبَذْرِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ لاَ تَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ الْبَذْرَ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا كَمَا سَبَقَ.
27 - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ وَالْمَاشِيَةُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَمَل وَالْبَذْرُ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ (1) ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الأَْرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ جَازَ، وَجُعِلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَاشِيَةِ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِل، فَكَذَا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ وَالْمَاشِيَةُ مِنْ جَانِبٍ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 179، وتبيين الحقائق 5 / 281، والمبسوط 23 / 20.

(37/67)


فَإِنَّهَا تَجُوزُ، وَتُجْعَل مَنْفَعَةُ الدَّوَابِّ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الأَْرْضِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لاَ تَجُوزُ (1) ، لأَِنَّ الْعَامِل هُنَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأَْرْضِ وَالْمَاشِيَةِ جَمِيعًا مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ هُنَا لاِخْتِلاَفِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الْمَاشِيَةِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الأَْرْضِ فَبَقِيَتْ أَصْلاً بِنَفْسِهَا، فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا لِلْمَاشِيَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ أَصْلاً وَمَقْصُودًا، وَاسْتِئْجَارُ الْمَاشِيَةِ مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ لاَ يَجُوزُ.

صُوَرٌ مِنَ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ
28 - أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ وَالدَّوَابُّ مِنْ جَانِبٍ، وَالأَْرْضُ وَالْعَمَل مِنَ الْجَانِبِ، الآْخَرِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) ، لأَِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلأَْرْضِ وَالْعَامِل مَعًا بِبَعْضِ الْمَحْصُول، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْعَامِل مَعًا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، لأَِنَّهُ عَلَى خِلاَفِ مَوْرِدِ الأَْصْل.
29 - أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ طَرَفٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنَ الطَّرَفِ، الآْخَرِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) ، وَوَجْهُ فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ وَجْهُ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) بدائع الصنائع 6 / 179، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، وتبيين الحقائق 5 / 280، وحاشية ابن عابدين 6 / 278، ومنتهى الإرادات 1 / 474، وكشاف القناع 3 / 543.
(3) المراجع السابقة.

(37/68)


فَسَادِ الصُّورَةِ الأُْولَى، حَيْثُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْعَمَل فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا عَلَى خِلاَفِ مَوْرِدِ الشَّرْعِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْل بِالْجِوَازِ فِي الصُّورَتَيْنِ (1) .
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، أَنَّ اسْتِئْجَارَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ الاِنْفِرَادِ فَكَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الاِجْتِمَاعِ.
30 - أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَذْرِ مِنَ الْمُزَارِعِ، وَالْبَعْضُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (2) .
وَوَجْهُ فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا صَاحِبَهُ فِي قَدْرِ بَذْرِهِ، فَيَجْتَمِعُ اسْتِئْجَارُ الأَْرْضِ وَالْعَامِل فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ.
وَوَجْهُ فَسَادِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْبَذْرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَامِل طِبْقًا لِظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ الْمَال كُلَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَالْمُضَارَبَةِ.
وَلَكِنْ هَذِهِ الصُّورَةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَشْتَرِكَ صَاحِبُ الأَْرْضِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 179.
(2) بدائع الصنائع 6 / 179، وحاشية ابن عابدين 6 / 278، والمبسوط 23 / 30، 31، ومنتهى الإرادات 1 / 474، وكشاف القناع 3 / 543.

(37/68)


وَالْمُزَارَعُ فِي الْبَذْرِ كَمَا سَبَقَ (1) .
50 31 - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَذْرُ وَالْمَاشِيَةُ مِنْ جَانِبٍ، بِأَنْ دَفَعَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَرْضَهُ إِلَى الْمُزَارِعِ لِيَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَمَاشِيَتِهِ مَعَ رَجُلٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنَ الأَْرْضِ فَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ، وَثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَالْمَاشِيَةِ، وَثُلُثُهُ لِذَلِكَ الْعَامِل الآْخَرِ، هَذِهِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَالْمُزَارِعُ الأَْوَّل، وَفَاسِدَةٌ فِي حَقِّ الْمُزَارِعِ الثَّانِي، وَيَكُونُ ثُلُثُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ وَثُلُثَاهُ لِلْمَزَارِعِ الأَْوَّل، وَلِلْعَامِل الآْخَرِ أَجْرُ مِثْل عَمَلِهِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ الْمُزَارَعَةُ فِي حَقِّ الْكُل، لأَِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ وَهُوَ الْمُزَارِعُ الأَْوَّل جَمَعَ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الأَْرْضِ وَالْعَامِل، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ بِكَوْنِهِ خِلاَفَ مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَمَعَ ذَلِكَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا فِي حَقِّ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الأَْوَّل، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لأَِنَّ الْعَقْدَ فِيمَا بَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الأَْوَّل وَقَعَ اسْتِئْجَارًا لِلأَْرْضِ لاَ غَيْرُ وَهَذَا جَائِزٌ، وَفِيمَا بَيْنَ الْمُزَارِعَيْنِ وَقَعَ اسْتِئْجَارُ الأَْرْضِ وَالْعَامِل جَمِيعًا وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَقْدِ الْوَاحِدِ جِهَتَانِ، جِهَةُ الصِّحَّةِ وَجِهَةُ الْفَسَادِ خُصُوصًا فِي حَقِّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 376، والخرشي 6 / 65.

(37/69)


شَخْصَيْنِ، فَيَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا وَفَاسِدًا فِي حَقِّ الآْخَرِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْبَذْرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَقَعُ صَحِيحَةً فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، لأَِنَّ صَاحِبَ الأَْرْضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلَيْنِ مَعًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْعَامِلَيْنِ لاَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ كَانَ النَّمَاءُ عَلَى الشَّرْطِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
32 - إِذَا قَال صَاحِبُ الأَْرْضِ لِرَجُلٍ: أَنَا أَزْرَعُ الأَْرْضَ بِبَذْرِي، وَعَوَامِلِي، وَيَكُونُ سَقْيُهَا مِنْ مَائِكَ، وَالزَّرْعُ بَيْنَنَا، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ تَصِحُّ، لأَِنَّ مَوْضِعَ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل مِنْ أَحَدِهِمَا وَالأَْرْضُ مِنَ الآْخَرِ، وَلَيْسَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاءِ هُنَا أَرْضٌ وَلاَ عَمَلٌ، لأَِنَّ الْمَاءَ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُشْتَرَى وَلاَ يُسْتَأْجَرُ، فَكَيْفَ تَصِحُّ بِهِ الْمُزَارَعَةُ؟
وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كُلٌّ مِنَ الْقَاضِي وَابْنُ قُدَامَةَ، وَعَلَّل الأَْخِيرُ هَذَا الاِخْتِيَارَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.
وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ، لأَِنَّ الْمَاءَ أَحَدُ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الزَّرْعُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا كَالأَْرْضِ وَالْعَمَل، وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 180.

(37/69)


الرِّوَايَةَ أَبُو بَكْرٍ وَنَقَلَهَا عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ وَحَرْبٌ (1) .
33 - إِذَا قَال صَاحِبُ الأَْرْضِ لآِخَرَ: أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي هَذِهِ بِنِصْفِ بَذْرِكَ وَنِصْفِ مَنْفَعَتِكَ وَمَنْفَعَةِ مَاشِيَتِكَ، وَأَخْرَجَ الْمُزَارِعُ الْبَذْرَ كُلَّهُ لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ، لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَجْهُولَةٌ وَإِذَا جُهِلَتْ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَهَا أُجْرَةً لأَِرْضٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ، وَيَكُونُ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِلْمُزَارِعِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْل الأَْرْضِ.
وَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُ الْمَنْفَعَةِ وَضَبْطُهَا بِمَا لاَ تَخْتَلِفُ مَعَهُ مَعْرِفَةُ الْبَذْرِ جَازَ وَكَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا.
وَقِيل: لاَ يَصِحُّ أَيْضًا، لأَِنَّ الْبَذْرَ عِوَضٌ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَبِيعًا وَمَا حَصَل فِيهِ قَبْضٌ.
وَإِنْ قَال لَهُ: آجَرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي بِنِصْفِ مَنْفَعَتِكَ وَمَنْفَعَةِ مَاشِيَتِكَ، وَأَخْرَجَا الْبَذْرَ مَعًا، فَهِيَ كَالصُّورَةِ السَّابِقَةِ، إِلاَّ أَنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى كُل حَالٍ، نَصَّ عَلَى كُل ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
50 34 - إِذَا اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي عَقْدِ مُزَارَعَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِهِمُ الأَْرْضُ، وَمِنَ الثَّانِي الْمَاشِيَةُ، وَمِنَ الثَّالِثِ الْبَذْرُ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْعَمَل فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَسَادِ
__________
(1) المغني 5 / 427، ومنتهى الإرادات 1 / 474، والمقنع 2 / 194، وكشاف القناع 3 / 545.
(2) المغني 5 / 425، وكشاف القناع 3 / 543، 544.

(37/70)


هَذِهِ الصُّورَةِ (1) .
وَلَوِ اشْتَرَكَ ثَلاَثَةٌ: مِنْ أَحَدِهِمُ الأَْرْضُ، وَمِنَ الثَّانِي الْبَذْرُ، وَمِنَ الثَّالِثِ الْمَاشِيَةُ وَالْعَمَل، عَلَى أَنْ يُقْسَمَ الْمَحْصُول بَيْنَهُمْ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ (3) .

آثَارُ الْمُزَارَعَةِ
تَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ آثَارٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِهَا.

أَوَّلاً: الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ
35 - إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ صِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ انْعَقَدَتْ صَحِيحَةً وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الآْثَارُ الآْتِيَةُ:
أ - عَلَى الْمُزَارِعِ كُل عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال الْمُزَارَعَةِ مِمَّا يَحْتَاجُ الزَّرْعُ إِلَيْهِ لِنَمَائِهِ وَصَلاَحِ حَالِهِ، كَالرَّيِّ وَالْحِفْظِ وَتَطْهِيرِ الْمَرَاوِي الدَّاخِلِيَّةِ وَالتَّسْمِيدِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، لأَِنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ قَدْ تَنَاوَل هَذِهِ الأَْشْيَاءَ فَيَكُونُ مُلْزَمًا بِهَا.
ب - عَلَى الْمُزَارِعِ تَقْلِيبُ الأَْرْضِ بِالْحَرْثِ (الْكِرَابِ) إِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 179، وتكملة البحر الرائق 8 / 182، وحاشية ابن عابدين 6 / 279، والمبسوط 23 / 15، 16.
(2) المغني 5 / 428، ومنتهى الإرادات 1 / 474، والمقنع 2 / 194.
(3) بدائع الصنائع 6 / 180.
(4) بدائع الصنائع 6 / 182، وابن عابدين 6 / 281، والفتاوى الهندية 5 / 237، ومنتهى الإرادات 1 / 472، وكشاف القناع 3 / 540.

(37/70)


صَحِيحٌ فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِطَاهُ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ أَيْضًا إِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ لاَ تُخْرِجُ زَرْعًا أَصْلاً بِدُونِهِ، أَوْ كَانَ مَا تُخْرِجُهُ قَلِيلاً لاَ يُقْصَدُ مِثْلُهُ بِالْعَمَل، لأَِنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ يَقَعُ عَلَى الزِّرَاعَةِ الْمُعْتَادَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ مِمَّا تُخْرِجُ الزَّرْعَ بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى الْحَرْثِ زَرْعًا مُعْتَادًا يُقْصَدُ مِثْلُهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمُزَارِعُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
وَعَلَى هَذَا إِذَا امْتَنَعَ الْمُزَارِعُ عَنْ سَقْيِ الأَْرْضِ بِالْمَاءِ، وَقَال: أَتْرُكُهَا حَتَّى تُسْقَى مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا لاَ يَكْتَفِي بِمَاءِ الْمَطَرِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّيِّ بِالْمَاءِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ يَقَعُ عَلَى الزِّرَاعَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ، وَيَخْرُجُ زَرْعًا مُعْتَادًا بِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُلْزَمُ الْعَامِل بِمَا فِيهِ صَلاَحُ الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ مِنَ السَّقْيِ وَالْحَرْثِ وَنَحْوِهِمَا (3) .
ج - عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمُزَارِعِ لِيَزْرَعَهَا أَوْ يَعْمَل عَلَيْهَا إِذَا كَانَ بِهَا نَبَاتٌ، لأَِنَّ عَدَمَ التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْعَامِل وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 182، والمبسوط 23 / 38، 39.
(2) بدائع الصنائع 6 / 182، والمبسوط 23 / 38، 39.
(3) كشاف القناع 3 / 540.

(37/71)


د - عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ، الأَْعْمَال الأَْسَاسِيَّةُ الَّتِي يَبْقَى أَثَرُهَا وَمَنْفَعَتُهَا إِلَى مَا بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ، كَبِنَاءِ حَائِطٍ وَإِجْرَاءِ الأَْنْهَارِ الْخَارِجِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
هـ - عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ خَرَاجُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَلاَ دَفْعُهُ مِنَ الْمَحْصُول وَالْبَاقِي يُقْسَمُ عَلَيْهِمَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْخَرَاجَ مَبْلَغٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَال، فَاشْتِرَاطُ دَفْعِ هَذَا الْمَبْلَغِ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّيعِ مَعَ حُصُولِهِ، لِجَوَازِ أَلاَّ يَحْصُل إِلاَّ ذَلِكَ الْقَدْرُ أَوْ دُونَهُ.
و عَلَى الْمُزَارِعِ وَصَاحِبِ الأَْرْضِ مَعًا، كُل مَا كَانَ مِنْ بَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّرْعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا كَثَمَنِ السَّمَادِ وَقَلْعِ الْحَشَائِشِ الْمُضِرَّةِ، وَعَلَيْهِمَا أَيْضًا أُجْرَةُ الْحَصَادِ، وَحَمْل الْمَحْصُول إِلَى الْجُرْنِ، وَالدِّيَاسُ، وَالتَّذْرِيَةُ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْعْمَال لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَال الْمُزَارَعَةِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهَا الْمُزَارِعُ وَحْدَهُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 181، والمبسوط 23 / 39، ومنتهى الإرادات 1 / 473، وكشاف القناع 3 / 540.
(2) المبسوط 23 / 33، ومنتهى الإرادات 1 / 473، وكشاف القناع 3 / 541.

(37/71)


وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ الأَْخِيرَةَ عَلَى الْمُزَارِعِ لِتَعَامُل النَّاسِ بِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ز - يُقْسَمُ مَحْصُول الأَْرْضِ بَيْنَ صَاحِبِهَا وَالْمُزَارِعِ عَلَى حَسَبِ الاِتِّفَاقِ الْمُبْرَمِ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُزَارِعِ وَصَاحِبِ الأَْرْضِ، حَمْل نَصِيبِهِ مِنَ الْمَحْصُول وَحِفْظُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، لأَِنَّهُ بِانْتِهَاءِ قِسْمَةِ الْمَحْصُول يَنْتَهِي عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ، فَكُل عَمَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَحَمَّل صَاحِبُهُ نَفَقَاتِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
ح - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مَا جَازَ إِنْشَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ جَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ فَلاَ، أَمَّا الْحَطُّ فَجَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا (3) .
وَعَلَى هَذَا فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمُزَارِعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ.
وَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُزَارِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَصَادِ - وَالْبَذْرِ مِنْ قِبَل الْعَامِل - فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لاَ تَجُوزُ مِنَ الْعَامِل، وَإِنَّمَا يَنْقَسِمُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 182، تكملة البحر الرائق 8 / 186، وحاشية ابن عابدين 6 / 281، الهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 477، والفتاوى الهندية 5 / 237.
(2) بدائع الصنائع 6 / 180، وتكملة البحر الرائق 8 / 186.
(3) بدائع الصنائع 6 / 182، وتكملة البحر الرائق 8 / 184، والمبسوط 23 / 43، 44، والفتاوى الهندية 5 / 237.

(37/72)


الْمَحْصُول عَلَى حَسَبِ الاِتِّفَاقِ الْمُبْرَمِ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ زَادَ صَاحِبُ الأَْرْضِ فِي نَصِيبِ الْمُزَارِعِ، وَرَضِيَ بِهَا الْمُزَارِعُ، جَازَتِ الزِّيَادَةُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُزَارِعَ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى زَادَ عَلَى الأُْجْرَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ عَمَل الْمُزَارَعَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُمَا لَوْ أَنْشَآ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ الْحَصَادِ لاَ يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِيبِ لاَ تَجُوزُ بَعْدُ، أَمَّا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ حَطَّ صَاحِبُ الأَْرْضِ مِنَ الأُْجْرَةِ، وَالْحَطُّ لاَ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِل، أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ فَزَادَ صَاحِبُ الأَْرْضِ مِنْ نَصِيبِ الْمُزَارِعِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لاَ تَجُوزُ، وَلَكِنْ إِنْ زَادَ الْمُزَارِعُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الأَْرْضِ جَازَتِ الزِّيَادَةُ لِمَا ذُكِرَ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ أَيِّهِمَا بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ أَيٍّ مِنْهُمَا، لأَِنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِل إِنْشَاءَ الْعَقْدِ، فَيَحْتَمِل الزِّيَادَةَ، بِخِلاَفِ الأَْمْرِ بَعْدَ الْحَصَادِ فَإِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل إِنْشَاءَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَحْتَمِل الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَطُّ فَجَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ أَيْ قَبْل الْحَصَادِ وَبَعْدَهُ.
ط - إِذَا لَمْ تُخْرِجُ الأَْرْضُ شَيْئًا فَلاَ يَسْتَحِقُّ

(37/72)


أَحَدُهُمَا تُجَاهَ الآْخَرِ أَيَّ شَيْءٍ، لاَ أَجْرَ الْعَمَل لِلْعَامِل وَلاَ أُجْرَةَ الأَْرْضِ لِصَاحِبِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الْعَامِل أَمْ كَانَ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ، لأَِنَّهَا إِمَّا إِجَارَةٌ أَوْ شَرِكَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةً فَالْوَاجِبُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ مِنْهَا هُوَ الْمُسَمَّى - وَهُوَ مَعْدُومٌ - فَلاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ شَرِكَةً فَالشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ هُنَا خَارِجٌ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ غَيْرَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .

ثَانِيًا: الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ
36 - إِذَا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ لِفِقْدَانِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الآْثَارُ التَّالِيَةُ:
أ - عَدَمُ وُجُوبِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَال الْمُزَارَعَةِ عَلَى الْمُزَارِعِ، لأَِنَّ وُجُوبَهُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ، فَلاَ يُطَالَبُ الْمُزَارِعُ بِأَيِّ عَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ.
ب - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبَذْرِ الْخَارِجَ كُلَّهُ مِنَ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُهُ هُوَ الْمُزَارِعَ أَمْ رَبَّ الأَْرْضِ (2) ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ لِصَاحِبِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ الْخَارِجَ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ، لاَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 182، وتكملة البحر الرائق 8 / 184، والهداية مع شروحها 9 / 470.
(2) بدائع الصنائع 6 / 182، والفتاوى الهندية 5 / 229، والمقنع 2 / 193.

(37/73)


بِالشَّرْطِ لِوُقُوعِ الاِسْتِغْنَاءِ بِالْمِلْكِ عَنِ الشَّرْطِ، وَاسْتِحْقَاقُ الأَْجْرِ الْخَارِجِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْعَقْدُ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ وَلاَ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ أَخَذَ الْخَارِجَ كُلَّهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِلْعَامِل أَجْرُ مِثْل عَمَلِهِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ صَاحِبَ الأَْرْضِ يَكُونُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِل، فَإِذَا فَسَدَتِ الإِْجَارَةُ وَجَبَ لَهُ أَجْرُ مِثْل عَمَلِهِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الْعَامِل فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ كُلَّهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ أُجْرَةُ مِثْل أَرْضِهِ، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ أَيْضًا (2) .
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِل يَكُونُ مُسْتَأْجِرًا لِلأَْرْضِ، فَإِذَا فَسَدَتِ الإِْجَارَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْل أَجْرِ الأَْرْضِ لِصَاحِبِهَا.
وَهَل يَطِيبُ النَّاتِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ عِنْدَمَا يَسْتَحِقُّهُ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ وَغَرِمَ لِلْعَامِل أَجْرَ مِثْل عَمَلِهِ، فَإِنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ مِنَ الأَْرْضِ يَكُونُ طَيِّبًا لَهُ، لأَِنَّهُ نَاتِجٌ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ - فِي مِلْكِهِ -
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 182، والمبسوط 23 / 16، والخرشي 6 / 67، وحاشية الدسوقي 3 / 377، ونهاية المحتاج 5 / 247، وحاشية البجيرمي 3 / 163، والمغني 5 / 425، 426، ومنتهى الإرادات 1 / 475، والمقنع 2 / 193.
(2) المراجع السابقة.

(37/73)


وَهُوَ الأَْرْضُ - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الْعَامِل، وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ وَغَرِمَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ أَجْرَ مِثْل أَرْضِهِ، فَإِنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لاَ يَكُونُ طَيِّبًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ مِنَ الزَّرْعِ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ مِثْل الأَْرْضِ وَيَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ سُلِّمَ لَهُ بِعِوَضٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْل عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ بَذْرِهِ لَكِنْ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَبَثِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (2) .

ج - وَلاَ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدِ اسْتِعْمَالٌ لِلأَْرْضِ، لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ إِجَارَةٍ، وَالأُْجْرَةُ فِي الإِْجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِحَقِيقَةِ الاِسْتِعْمَال وَلاَ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ، لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فِيهَا حَقِيقَةً، إِذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْمَوَانِعِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلاَفِ الإِْجَارَةِ الصَّحِيحَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (3) .
د - إِذَا اسْتَعْمَل الْمُزَارِعُ الأَْرْضَ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْل وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 182، والمبسوط 23 / 22.
(2) بدائع الصنائع 6 / 182، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 472، والفتاوى الهندية 5 / 239.
(3) بدائع الصنائع 6 / 182.
(4) بدائع الصنائع 6 / 183.

(37/74)


هـ - وَأَجْرُ الْمِثْل فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَالِغًا مَا بَلَغَ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الأُْجْرَةُ وَهِيَ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِيهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَهُمَا مَعًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُزَارَعَةُ إِذَا وَقَعَتْ فَاسِدَةً بِأَنِ اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا فَإِنَّهَا تُفْسَخُ قَبْل الْعَمَل، فَإِنْ فَاتَتْ بِالْعَمَل وَتَسَاوَيَا فِيهِ فَإِنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمَا، لأَِنَّهُ تَكَوَّنَ عَنْهُ وَيَتَرَادَّانِ غَيْرَ الْعَمَل، كَمَا لَوْ كَانَتِ الأَْرْضُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْبَذْرُ مِنَ الآْخَرِ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْبَذْرِ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ بِمِثْل نِصْفِ بَذْرِهِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الأَْرْضِ عَلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ بِأُجْرَةِ نِصْفِ أَرْضِهِ.
وَإِذَا وَقَعَتْ فَاسِدَةً وَلَمْ يَتَكَافَآ فِي الْعَمَل، بَل كَانَ الْعَامِل أَحَدَهُمَا فَقَطْ، فَالزَّرْعُ كُلُّهُ يَكُونُ لِلْعَامِل، لأَِنَّهُ نَشَأَ عَنْ عَمَلِهِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الأَْرْضِ لِصَاحِبِهَا وَأُجْرَةُ الْبَقَرِ لِصَاحِبِهِ أَوْ مَكِيلَةُ الْبَذْرِ لِصَاحِبِهِ إِنْ كَانَ الْعَامِل هُوَ صَاحِبَ الأَْرْضِ، لَكِنَّ شَرْطَ اخْتِصَاصِ الْعَامِل بِالزَّرْعِ: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ الْعَمَل إِمَّا بَذْرٌ وَالأَْرْضُ لِلآْخَرِ، أَوْ أَرْضٌ وَالْبَذْرُ لِلآْخَرِ، وَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى عَمَلِهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْضٍ أَوْ بَذْرٍ أَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 183، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 471.

(37/74)


بَقَرٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، لأَِنَّهُ أَجِيرٌ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَتِ الأَْرْضُ وَالْبَذْرُ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَالْعَمَل مِنْ أَحَدِهِمَا فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْعَمَل، سَوَاءٌ كَانَ مُخْرِجُ الْبَذْرِ صَاحِبَ الأَْرْضِ أَوْ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ مُخْرِجَ الْبَذْرِ كِرَاءَ أَرْضِ صَاحِبهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُخْرِجَ الْبَذْرِ فَعَلَيْهِ لَهُ مِثْل بَذْرِهِ.
قَال الْعَدَوِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ: إِذَا فَاتَتْ بِالْعَمَل سِتَّةَ أَقْوَالٍ:
الرَّاجِحُ مِنْهَا أَنَّهُ لِمَنِ اجْتَمَعَ لَهُ شَيْئَانِ مِنْ ثَلاَثَةِ أُصُولٍ: الْبَذْرِ وَالأَْرْضِ وَالْعَمَل، فَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً وَاجْتَمَعَ لِكُل وَاحِدٍ شَيْئَانِ مِنْهَا أَوِ انْفَرَدَ كُلٌّ وَاحِدٍ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْهَا كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلاَثًا، وَإِنِ اجْتَمَعَ لِوَاحِدٍ شَيْئَانِ مِنْهَا دُونَ صَاحِبَيْهِ كَانَ لَهُ الزَّرْعُ دُونَهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدٌ، وَنَقَل شَيْخُنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ الْبَاقِي أَنَّهُ الْمُفْتَى بِهِ، وَمِثْل ذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ شَيْئًا لِشَخْصَيْنِ مِنْهُمْ فَالزَّرْعُ لَهُمَا دُونَ الثَّالِثِ، فَالصُّوَرُ أَرْبَعٌ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي ثَلاَثِ صُوَرٍ:
الأُْولَى: أَنْ تَجْتَمِعَ الثَّلاَثَةُ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ اثْنَانِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ تَجْتَمِعَ الثَّلاَثَةُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْ شَخْصَيْنِ مِنْهُمْ وَيَجْتَمِعُ لِلشَّخْصِ الثَّالِثِ اثْنَانِ.
الثَّالِثةُ: أَنْ تَجْتَمِعَ الثَّلاَثَةُ لِوَاحِدٍ وَيَجْتَمِعَ اثْنَانِ لِوَاحِدٍ وَيَنْفَرِدَ الثَّالِثُ بِوَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ

(37/75)


مَنْ لَهُ اثْنَانِ يُسَاوِي مَنْ لَهُ ثَلاَثَةٌ لأَِنَّ مَنْ لَهُ ثَلاَثَةٌ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ اثْنَانِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ: إِنْ أُفْرِدَتْ أَرْضٌ بِالْمُزَارَعَةِ فَالْمُغَل لِلْمَالِكِ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَعَلَيْهِ لِلْعَامِل أُجْرَةُ عَمَلِهِ وَدَوَابِّهِ وَآلاَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ، وَسَلَّمَ الزَّرْعَ لِبُطْلاَنِ الْعَقْدِ، وَلاَ يَمْكَنُ إِحْبَاطُ عَمَلِهِ مَجَّانًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يُسَلَّمِ الزَّرْعُ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل لِلْمَالِكِ شَيْءٌ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي تَوْجِيهِ الْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الزَّرْعَ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، لأَِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ يَنْمُو كَأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَيَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيل كَوْنِ الأُْجْرَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الزَّرْعَ لِصَاحِبِهِ: أَيْ لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا سُمِّيَ، فَإِذَا فَاتَ رَجَعَ إِلَى بَدَلِهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِل فَالزَّرْعُ لَهُ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْل الأَْرْضِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ فَالزَّرْعُ لَهُ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْل الْعَامِل، وَلَوْ دَفَعَ بَذْرًا لِصَاحِبِ أَرْضٍ يَزْرَعُهَا فِيهَا وَمَا يَخْرُجُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ فَاسِدٌ، لأَِنَّ الْبَذْرَ لَيْسَ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ وَلاَ مِنَ الْعَامِل فَالزَّرْعُ لِمَالِكِ الْبَذْرِ وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الأَْرْضِ وَالْعَمَل، وَقِيل: يَصِحُّ (3) .
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 6 / 67 - 68.
(2) نهاية المحتاج 5 / 247.
(3) المقنع 2 / 193.

(37/75)


الضَّمَانُ فِي الْمُزَارَعَةِ
37 - الْمُزَارِعُ أَمِينٌ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَحْصُولٍ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِهِ أَمِينًا، أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ مَحْصُولٍ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ إِذَا هَلَكَ بِدُونِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، كَمَا فِي سَائِرِ عُقُودِ الأَْمَانَاتِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ قَصَّرَ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ.
وَإِذَا قَصَّرَ فِي سَقْيِ الأَْرْضِ حَتَّى هَلَكَ الزَّرْعُ بِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ إِذَا كَانَتِ الْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةً لِوُجُوبِ الْعَمَل عَلَيْهِ فِيهَا، وَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُ بِالتَّقْصِيرِ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُهُ لِعَدَمِ إِيجَابِهِ عَلَيْهِ فِيهَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: أَكَّارٌ (2) تَرَكَ السَّقْيَ عَمْدًا حَتَّى يَبِسَ ضَمِنَ وَقْتَ مَا تَرَكَ السَّقْيَ قِيمَتَهُ نَابِتًا فِي الأَْرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّرْعِ قِيمَةٌ قُوِّمَتِ الأَْرْضُ مَزْرُوعَةً وَغَيْرَ مَزْرُوعَةٍ، فَيَضْمَنُ فَضْل مَا بَيْنَهُمَا (3) .
وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الأَْرْضِ الْحَصَادَ فَتَغَافَل حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَ، إِلاَّ أَنْ يُؤَخِّرَ تَأْخِيرًا مُعْتَادًا.
وَإِنْ تَرَكَ تَأْخِيرَ الزَّرْعِ حَتَّى أَكَلَهُ الدَّوَابُّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 283، والمبسوط 23 / 127، والفتاوى الهندية 5 / 261.
(2) الأكار: الحراث (المعجم الوسيط) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 283، نقلاً عن السراجية.

(37/76)


كَانَ ضَامِنًا لَهُ، هَذَا قَبْل الإِْدْرَاكِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، لأَِنَّ الْحِفْظَ بَعْدَهُ لَيْسَ عَلَى الْمُزَارِعِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .

مَا يُفْسَخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ
38 - يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بِالْعُذْرِ الاِضْطِرَارِيِّ، وَبِصَرِيحِ الْفَسْخِ وَدَلاَلَتِهِ، وَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَبِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَبِاسْتِحْقَاقِ الأَْرْضِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

أَوَّلاً: الْعُذْرُ الاِضْطِرَارِيُّ الَّذِي يَحُول دُونَ مُضِيِّ الْعَقْدِ:
الْعُذْرُ الاِضْطِرَارِيُّ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُزَارِعِ.

أ - الْعُذْرُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ:
39 - أَمَّا الْعُذْرُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ فَهُوَ الدَّيْنُ الْفَادِحُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ صَاحِبُ الأَْرْضِ قَضَاءَهُ إِلاَّ مِنْ ثَمَنِهَا، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَهَذَا، بِيعَتِ الأَْرْضُ لِسَدَادِ هَذَا الدَّيْنِ وَفُسِخَ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ إِذَا أَمْكَنَ فَسْخُهُ، بِأَنْ كَانَ قَبْل زِرَاعَةِ الأَْرْضِ، أَوْ بَعْدَهَا وَلَكِنَّ الزَّرْعَ بَلَغَ الْحَصَادَ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ لِرَبِّ الأَْرْضِ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُهُ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 282، 283، والفتاوى الهندية 5 / 267.

(37/76)


فَيَبِيعُ الْقَاضِي الأَْرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَفْسَخُ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ، وَلاَ تَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْعُذْرِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْفَسْخُ بِأَنْ كَانَ الزَّرْعُ بَقْلاً، فَإِنَّ الأَْرْضَ لاَ تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إِلاَّ بَعْدَ بُلُوغِ الزَّرْعِ الْحَصَادَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، لأَِنَّ فِي الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِبْطَال حَقِّ الْمُزَارِعِ، وَفِي الاِنْتِظَارِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ تَأْخِيرَ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ لِلْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى.
فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الأَْرْضِ مَحْبُوسًا بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ مِنْ حَبْسِهِ إِلَى غَايَةِ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ، لأَِنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ وَهُوَ الْمَطْل وَهُوَ غَيْرُ مُمَاطِلٍ قَبْل الإِْدْرَاكِ، لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا عَنْ بَيْعِ الأَْرْضِ شَرْعًا، وَالْمَمْنُوعُ مَعْذُورٌ، فَإِذَا أَدْرَكَ الزَّرْعُ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إِلَى الْحَبْسِ مَرَّةً أُخْرَى لِيَبِيعَ أَرْضَهُ وَيُؤَدِّيَ دَيْنَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِلاَّ فَيَبِيعُ الْقَاضِي (2) .

ب - الْعُذْرُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْمُزَارِعِ:
40 - وَأَمَّا الْعُذْرُ الاِضْطِرَارِيُّ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْمُزَارِعِ فَنَحْوُ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ، لأَِنَّهُ مُعْجِزٌ عَنِ الْعَمَل، وَنَحْوُ السَّفَرِ الْبَعِيدِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَنَحْوُ تَرْكِهِ حِرْفَتَهُ إِلَى حِرْفَةٍ أُخْرَى، لأَِنَّ مِنَ الْحِرَفِ مَا لاَ يُغْنِي مِنْ جَوْعٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 183، وحاشية ابن عابدين 6 / 280، والهداية مع التكملة 9 / 474، والفتاوى الهندية 5 / 260.
(2) بدائع الصنائع 6 / 184، وتبيين الحقائق 5 / 282، وتكملة البحر الرائق 8 / 185، والمبسوط 23 / 44، 45، والهداية مع التكملة 9 / 475، والفتاوى الهندية 5 / 260.

(37/77)


فَيَكُونُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الاِنْتِقَال إِلَى غَيْرِهَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .

ثَانِيًا: فَسْخُ الْمُزَارَعَةِ صَرَاحَةً أَوْ دَلاَلَةً
41 - تَنْفَسِخُ الْمُزَارَعَةُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِلَفْظِ الْفَسْخِ أَوِ الإِْقَالَةِ، لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الإِْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِصَرِيحِ الْفَسْخِ وَالإِْقَالَةِ.
أَمَّا الدَّلاَلَةُ: فَكَأَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ لِعَدَمِ لُزُومِهِ فِي حَقِّهِ قَبْل إِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الأَْرْضِ، فَكَانَ بِسَبِيل مِنَ الاِمْتِنَاعِ عَنِ الْمُضِيِّ فِيهِ بِدُونِ عُذْرٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا مِنْهُ دَلاَلَةً، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (2) .

ثَالِثًا: انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ:
42 - إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الْمُحَدَّدَةُ لِعَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فُسِخَ الْعَقْدُ لأَِنَّهَا إِذَا انْقَضَتْ فَقَدِ انْتَهَى الْعَقْدُ وَهُوَ مَعْنَى الاِنْفِسَاخِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (3) .

رَابِعًا: مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تُفْسَخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ صَاحِبُ الأَْرْضِ، أَوِ الْمُزَارِعُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْل زِرَاعَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 184، وحاشية ابن عابدين 6 / 280، والفتاوى الهندية 5 / 260.
(2) بدائع الصنائع 6 / 184، والمبسوط 23 / 25، 26.
(3) بدائع الصنائع 6 / 184، وحاشية ابن عابدين 6 / 280، والفتاوى الهندية 5 / 260.

(37/77)


الأَْرْضِ أَمْ كَانَتْ بَعْدَهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الزَّرْعُ بَقْلاً أَمْ بَلَغَ الْحَصَادَ (1) .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ أَفَادَ الْحُكْمَ لِلْعَاقِدِ خَاصَّةً دُونَ وَارِثِهِ، لأَِنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ، وَالأَْصْل أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ فَإِنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لَهُ لاَ لِغَيْرِهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَقَالُوا: إِنَّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُزَارِعِ مُتَابَعَةَ الْعَمَل إِذَا كَانَ الْمُزَارِعُ هُوَ الْمُتَوَفَّى، وَكَانَ الزَّرْعُ قَدْ أَدْرَكَ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا: هَذَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمُزَارِعُ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتَهُ ذَلِكَ (2) .

خَامِسًا: اسْتِحْقَاقُ أَرْضِ الْمُزَارَعَةِ
44 - إِذَا اسْتُحِقَّتْ أَرْضُ الْمُزَارَعَةِ قَبْل زِرَاعَتِهَا أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ وَفُسِخَ الْعَقْدُ، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل عَلَى الَّذِي دَفَعَهَا إِلَيْهِ لِيَزْرَعَهَا، حَتَّى وَلَوْ كَانَ عَمِل فِيهَا بَعْضَ الأَْعْمَال الَّتِي تَسْبِقُ الزَّرْعَ كَالْحَرْثِ وَالتَّسْوِيَةِ وَالتَّسْمِيدِ بِالسَّمَادِ.
وَلَوِ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الزَّرْعِ وَقَبْل الْحَصَادِ أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقْلَعَا الزَّرْعَ، وَخُيِّرَ الْمُزَارِعُ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ الزَّرْعِ عَلَى حَالِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 184، وتبيين الحقائق 5 / 282، وتكملة البحر الرائق 8 / 185، وحاشية ابن عابدين 6 / 280، والمبسوط 23 / 45، والفتاوى الهندية 5 / 260، والهداية مع التكملة 9 / 473.
(2) كشاف القناع 3 / 538 - 539، وشرح منتهى الإرادات 2 / 345.

(37/78)


وَيَكُونَ النِّصْفُ الآْخَرُ لِلَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ الأَْرْضَ مُزَارَعَةً، وَبَيْنَ تَضْمِينِ الَّذِي دَفَعَ الأَْرْضَ نِصْفَ قِيمَةِ الزَّرْعِ نَابِتًا وَتَرَكَ لَهُ الزَّرْعَ كُلَّهُ.
وَيَضْمَنُ الْمُسْتَحِقُّ نُقْصَانَ الأَْرْضِ لِلزَّارِعِ خَاصَّةً، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي دَفَعَ الأَْرْضَ إِلَيْهِ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ الآْخَرَ، وَفِي قَوْلِهِ الأَْوَّل - وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الدَّافِعَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الزَّارِعَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الزَّارِعَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ، لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي غَرَّهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ (1) .

الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْفَسْخِ
الْفَسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل زَرْعِ الأَْرْضِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ.

أ - الْفَسْخُ قَبْل الزَّرْعِ:
45 - إِذَا كَانَ الْفَسْخُ قَبْل الزَّرْعِ فَإِنَّ الْعَامِل لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، أَيًّا كَانَ سَبَبُ الْفَسْخِ أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ أَمْ كَانَ بِدَلاَلَتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ أَثَرَ الْفَسْخِ يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَقْبِل بِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ لاَ فِي الْمَاضِي، فَلاَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَالْوَاجِبُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ هُوَ الْحِصَّةُ الْمُسَمَّاةُ، وَهِيَ بَعْضُ نَمَاءِ الأَْرْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ، فَلاَ يَجِبُ لِلْعَامِل أَيُّ شَيْءٍ.
__________
(1) المبسوط 23 / 54، 55.

(37/78)


وَقِيل: إِنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ هُوَ حُكْمُ الْقَضَاءِ.
فَأَمَّا دِيَانَةً فَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ.
إِرْضَاءُ الْعَامِل فِيمَا لَوِ امْتَنَعَ الأَْوَّل عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ قَبْل الزِّرَاعَةِ، وَلاَ يَحِل لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ التَّغْرِيرَ وَهُوَ حَرَامٌ (1) .

ب - الْفَسْخُ بَعْدَ الزَّرْعِ
أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ مَا زُرِعَتِ الأَْرْضُ، فَإِنَّ هَذَا الْفَسْخَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل ذَلِكَ.

الْحَالَةُ الأُْولَى: الْفَسْخُ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ:
46 - إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ وَبُلُوغِهِ مَبْلَغَ الْحَصَادِ، فَإِنَّ النَّمَاءَ يُقْسَمُ بَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ حَسَبَ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا (2) .

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَسْخُ قَبْل الإِْدْرَاكِ:
47 - أَمَّا إِنْ كَانَ الْفَسْخُ قَبْل إِدْرَاكِ الزَّرْعِ بِأَنْ كَانَ لاَ زَال بَقْلاً، فَإِنَّ الزَّرْعَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ النِّسْبَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا كَالْحَالَةِ الأُْولَى. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَسْخُ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً أَوْ بِانْقِضَاءِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 184، 185، وتبيين الحقائق 5 / 283، وتكملة البحر 8 / 185، والمبسوط 3 / 47، والهداية مع التكملة 9 / 473.
(2) بدائع الصنائع 6 / 184، 185، والمبسوط 23 / 47، 48.

(37/79)


الْمُدَّةِ، لأَِنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْعَمَل فِيمَا بَقِيَ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْل نِصْفِ الأَْرْضِ لِصَاحِبِهَا.
وَوَجْهُ قِسْمَةِ الزَّرْعِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل لاَ فِي الْمَاضِي، فَبَقِيَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ قَبْل الاِنْفِسَاخِ، وَوَجْهُ كَوْنِ الْعَمَل عَلَيْهِمَا مَعًا فِيمَا بَقِيَ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ أَنَّهُ عَمَلٌ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَمَل فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا مَعًا.
أَمَّا وَجْهُ وُجُوبِ أَجْرِ مِثْل نِصْفِ الأَْرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ: فَهُوَ أَنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ وَفِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ، وَفِي التَّرْكِ بِغَيْرِ أَجْرٍ ضَرَرٌ بِصَاحِبِ الأَْرْضِ فَكَانَ التَّرْكُ بِنِصْفِ أَجْرِ الْمِثْل رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.
وَإِنْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ إِذْنِ الآْخَرِ وَبِغَيْرِ أَمْرٍ مِنَ الْقَاضِي كَانَ مُتَطَوِّعًا وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلاً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْمُزَارِعِ.
أَمَّا لَوْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ أَخْذَهُ بَقْلاً، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ ثَلاَثَةُ خِيَارَاتٍ:
الأَْوَّل: قَلْعُ الزَّرْعِ وَقِسْمَتُهُ بَيْنَهُمَا.
الثَّانِي: إِعْطَاءُ الْمُزَارِعِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنَ الزَّرْعِ وَتَرْكُهُ فِي الأَْرْضِ حَتَّى يَبْلُغَ الْحَصَادَ.
الثَّالِثُ: الإِْنْفَاقُ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَالِهِ

(37/79)


الْخَاصِّ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُزَارِعِ بِحِصَّتِهِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.
نَصَّ عَلَى كُل ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) ، هَذَا إِذَا كَانَ الْفَسْخُ صَرِيحًا أَوْ دَلاَلَةً أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.

أَثَرُ مَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ
إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الَّذِي مَاتَ هُوَ صَاحِبَ الأَْرْضِ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الْمُزَارِعَ (2) .

أ - مَوْتُ صَاحِبِ الأَْرْضِ:
48 - إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الأَْرْضِ وَالزَّرْعُ مَا زَال بَقْلاً، فَإِنَّ الأَْرْضَ تُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ حَتَّى وَقْتِ الْحَصَادِ، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَةِ صَاحِبِ الأَْرْضِ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: أَنَّ فِي التَّرْكِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ نَظَرًا وَرِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَفِي الْقَلْعِ إِضْرَارًا بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُزَارِعُ، وَيَكُونُ الْعَمَل عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً لِبَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْرِيرًا حَتَّى الْحَصَادِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ (3) .

ب - مَوْتُ الْمُزَارِعِ
49 - أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي مَاتَ هُوَ الْمُزَارِعَ، وَكَانَ
__________
(1) المبسوط 23 / 47، 48 وبدائع الصنائع 6 / 184، 185، والهداية مع التكملة 9 / 476.
(2) بدائع الصنائع 6 / 184، وحاشية ابن عابدين 6 / 284، والمبسوط 23 / 45، 46، 49، والفتاوى الهندية 5 / 254.
(3) بدائع الصنائع 6 / 184، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 477.

(37/80)


الزَّرْعُ لاَ يَزَال بَقْلاً، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ الْحَقُّ فِي الْحُلُول مَحَل مُوَرِّثِهِمْ فِي الْعَمَل بِنَفْسِ الشَّرْطِ الَّذِي تَمَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ رَضِيَ ذَلِكَ الأَْخِيرُ أَمْ أَبَى، لأَِنَّ فِي قَلْعِ الزَّرْعِ إِضْرَارًا بِهِمْ وَلاَ ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ مِنْ تَرْكِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، بَل قَدْ يَكُونُ فِي تَرْكِهِ فَائِدَةٌ لَهُ.
وَإِذَا تُرِكَ الزَّرْعُ تَحْتَ أَيْدِي الْوَرَثَةِ لاَ أَجْرَ لَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ، لأَِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى حُكْمِ عَقْدِ مُوَرِّثِهِمْ تَقْدِيرًا، فَكَأَنَّهُ يَعْمَل هُوَ، وَإِذَا عَمِل هُوَ كَانَ عَمَلُهُ بِدُونِ أَجْرٍ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَمَلُهُمْ.
وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَل، لأَِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ بَقِيَ تَقْدِيرًا بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ حَتَّى لاَ يُضَارُوا مِنَ الْفَسْخِ.
فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ الْعَمَل بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ عَلَى الشَّرْطِ، وَكَانَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ نَفْسُ الْخِيَارَاتِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ. وَهِيَ:
- قِسْمَةُ الزَّرْعِ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا.
- إِعْطَاءُ الْوَرَثَةِ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ مِنَ الزَّرْعِ بَقْلاً.
- الإِْنْفَاقُ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَال نَفْسِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِحِصَّتِهِمْ، لأَِنَّ فِيهِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 184، والهداية مع تكملة فتح القدير 9 / 477.

(37/80)


الاِخْتِلاَفُ حَوْل شَرْطِ الأَْنْصِبَاءِ أَوْ صَاحِبِ الْبَذْرِ:
50 - إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَوِ الْمُزَارِعُ أَوْ مَاتَا جَمِيعًا، فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا مَعَ وَرَثَةِ الآْخَرِ فِي شَرْطِ الأَْنْصِبَاءِ، فَإِنَّ الْقَوْل يَكُونُ قَوْل صَاحِبِ الْبَذْرِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) لأَِنَّ الأَْجْرَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْمَشْرُوطِ - وَأَنْكَرَهَا هُوَ - كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ، فَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ بِاللَّهِ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الآْجِرِ، لأَِنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةُ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي صَاحِبِ الْبَذْرِ مَنْ هُوَ؟ كَانَ الْقَوْل قَوْل الْمُزَارِعِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ كَانَ حَيًّا، وَقَوْل وَرَثَتِهِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ إِنْ كَانَ مَيِّتًا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخَارِجَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ أَوْ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ، فَالْقَوْل قَوْل ذِي الْيَدِ مَعَ الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ خَارِجٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الإِْثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَاخْتَلَفَا، فَأَقَامَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَ، وَأَقَامَ الْمُزَارِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْبَذْرِ، وَأَنَّهُ شَرَطَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ
__________
(1) المبسوط 23 / 89، 156.

(37/81)


الثُّلُثَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْخَارِجُ الْمُحْتَاجُ إِلَى الإِْثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَل رَبِّ الأَْرْضِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ، لأَِنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَةٍ (1) .

التَّوْلِيَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالشَّرِكَةُ فِيهَا:
51 - إِذَا دَفَعَ شَخْصٌ أَرْضَهُ إِلَى آخَرَ لِيَزْرَعَهَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا الْمُزَارِعُ بِدَوْرِهِ إِلَى آخَرَ مُزَارَعَةً أَوْ يُشَارِكَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ أَوْ يَكُونَ مِنَ الْمُزَارِعِ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ، فَإِمَّا أَنْ يَقُول لِلْمَزَارِعِ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَإِمَّا أَلاَّ يَقُول لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ مُزَارَعَةً، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الآْخَرِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ الأَْوَّل.
وَإِنْ لَمْ يَقُل لَهُ: اعْمَل فِيهَا بِرَأْيِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ لِيَزْرَعَهَا، فَإِذَا خَالَفَ وَأَعْطَاهَا لآِخَرَ لِيَزْرَعَهَا مُنَاصَفَةً - وَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ - كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ الأَْوَّل وَالْمُزَارِعِ الثَّانِي نِصْفَيْنِ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ، وَلِصَاحِبِ الأَْرْضِ أَنْ يُضَمِّنَ بَذْرَهُ
__________
(1) المبسوط 23 / 156.

(37/81)


أَيَّهُمَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ نُقْصَانُ الأَْرْضِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ يُضَمِّنُ الثَّانِيَ خَاصَّةً، ثُمَّ لِلثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الأَْوَّل بِمَا ضَمِنَ لأَِنَّهُ غَرَّهُ.
ب - إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَلَمْ يَقُل لَهُ: اعْمَل فِيهِ بِرَأْيِكَ، فَأَشْرَكَ فِيهِ رَجُلاً آخَرَ بِبَذْرٍ مِنْ قِبَل ذَلِكَ الرَّجُل، وَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلاَ بِالْبَذْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَعَمِلاَ عَلَى هَذَا، فَجَمِيعُ الْخَارِجِ بَيْنَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَلاَ شَيْءَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ لَهُ الْمُزَارِعُ وَحْدَهُ ثَمَنَ بَذْرِهِ، وَضَمَانُ النُّقْصَانِ فِي الأَْرْضِ عَلَى الاِثْنَيْنِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْمَل بِرَأْيِهِ وَيُشَارِكَ مَنْ أَحَبَّ - وَكَانَتِ الْمِلَّةُ بِحَالِهَا - فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا، نِصْفُهُ لِلْمُزَارِعِ الآْخَرِ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي بَيْنَ الأَْوَّل وَبَيْنَ رَبِّ الأَْرْضِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الرُّبُعُ.
ج - إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الْعَامِل فَدَفَعَ الأَْرْضَ مُزَارَعَةً لآِخَرَ بِالنِّصْفِ جَازَتْ، سَوَاءٌ قَال لَهُ صَاحِبُ الأَْرْضِ: اعْمَل بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُل، وَيُقْسَمُ الْخَارِجُ بَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ الآْخَرِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْمُزَارِعِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الآْخَرِ (1) .
__________
(1) المبسوط 23 / 70، 77، والفتاوى الهندية 5 / 250 وما بعدها.

(37/82)


الْوَكَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ
الْوَكَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُزَارِعِ.

الْحَالَةُ الأُْولَى: الْوَكَالَةُ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ:
52 - إِذَا وَكَّل صَاحِبُ الأَْرْضِ رَجُلاً بِأَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ لآِخَرَ مُزَارَعَةً، جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ لِلْوَكِيل أَنْ يَدْفَعَهَا لَهُ وَيَشْتَرِطَ أَيَّةَ حِصَّةٍ مِنَ الْخَارِجِ لِرَبِّ الأَْرْضِ، لأَِنَّ الْمُوَكِّل حَيْنَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَكُونُ قَدْ فَوَّضَ الأَْمْرَ إِلَيْهِ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْحِصَّةِ مَعَ الْمُزَارِعِ، فَبِأَيَّةِ حِصَّةٍ دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ مُمْتَثِلاً لأَِمْرِهِ مُحَصِّلاً لِمَقْصُودِهِ.
وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَدْفَعَهَا بِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَابَى فِيهِ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، لأَِنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيل يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ.
فَإِنْ دَفَعَهَا مَعَ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَالْوَكِيل عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلاَ شَيْءَ مِنْهُ لِرَبِّ الأَْرْضِ، أَيْ أَنَّ الْوَكَالَةَ تَكُونُ بَاطِلَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لأَِنَّ الْوَكِيل صَارَ غَاصِبًا لِلأَْرْضِ بِمُخَالَفَتِهِ الْمُوَكِّل، وَغَاصِبُهَا إِذَا دَفَعَهَا مُزَارَعَةً كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَلِصَاحِبِ الأَْرْضِ تَضْمِينُ الْوَكِيل أَوِ الْمُزَارِعِ نُقْصَانَ الأَْرْضِ فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ الأَْوَّل وَقَوْل مُحَمَّدٍ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُزَارِعَ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيل بِمَا ضَمِنَ، لأَِنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ. وَفِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ الآْخَرِ: يَضْمَنُ الْمُزَارِعُ

(37/82)


خَاصَّةً، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ، فَأَمَّا الْوَكِيل فَغَاصِبٌ وَالْعَقَارُ عِنْدَهُ لاَ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُزَارِعُ عَلَى الْوَكِيل لِلْغُرُورِ.
فَإِنْ كَانَ حَابَى فِيهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، فَالْخَارِجُ بَيْنَ الْمُزَارِعِ وَرَبِّ الأَْرْضِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَكِيل هُوَ الَّذِي قَبَضَ نَصِيبَ الْمُوَكِّل لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ الأَْرْضَ.
وَإِنَّمَا وَجَبَ نَصِيبُ رَبِّ الأَْرْضِ بِعَقْدِهِ فَهُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَهُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الأَْرْضِ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلاَّ بِوَكَالَةٍ مِنَ الْوَكِيل (1) .
وَإِذَا وَكَّلَهُ وَلَمْ يُحَدِّدْ لَهُ مُدَّةً لِلْمُزَارَعَةِ جَازَ لِلْوَكِيل أَنْ يَدْفَعَهَا مُزَارَعَةً سَنَتَهُ الأُْولَى، فَإِنْ دَفَعَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ يَدْفَعْ هَذِهِ السَّنَةَ الأُْولَى، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ قِيَاسًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ التَّوْكِيل مُطْلَقٌ عَنِ الْوَقْتِ فَفِي أَيِّ سَنَةٍ وَفِي أَيِّ مُدَّةٍ دَفَعَهَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُخَالِفًا لِمَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ فَجَازَ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ دَفْعَ الأَْرْضِ مُزَارَعَةً يَكُونُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنَ السَّنَةِ عَادَةً وَالتَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ فِي الْوَكَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَإِذَا دَخَلَهُ التَّقْيِيدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَل عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ، وَهُوَ وَقْتُ الزِّرَاعَةِ مِنَ السَّنَةِ الأُْولَى (2) .
__________
(1) المبسوط 23 / 137.
(2) المبسوط 23 / 137.

(37/83)


الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوْكِيل مِنَ الْمُزَارِعِ:
53 - إِذَا وَكَّل رَجُلٌ آخَرَ بِأَنْ يَأْخُذَ لَهُ هَذِهِ الأَْرْضَ مُزَارَعَةً هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُوَكِّل كَانَتِ الْوَكَالَةُ جَائِزَةً (1) ، وَتَسْرِي أَحْكَامُ الْوَكَالَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى هُنَا أَيْضًا، أَيْ أَنَّ الْوَكِيل يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي التَّعَامُل، كَمَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالشِّرْعِ، فَلاَ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْمُوَكِّل.
هَذَا إِذَا كَانَ التَّوْكِيل مُطْلَقًا عَنِ الْقُيُودِ، أَمَّا إِذَا قَيَّدَ الْمُوَكِّل - سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الأَْرْضِ أَمِ الْمُزَارِعُ - وَكِيلَهُ بِقَيْدٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيل الاِلْتِزَامُ بِهِ (2) فَإِذَا خَالَفَهُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمُخَالَفَةُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَكِّل فَإِنَّهَا تَكُونُ نَافِذَةً فِي حَقِّهِ، لأَِنَّهَا تُعْتَبَرُ مُوَافَقَةً ضِمْنِيَّةً، فَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ بِالْمَعَانِي لاَ بِالأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.
فَلَوْ وَكَّل صَاحِبُ الأَْرْضِ رَجُلاً لِيَدْفَعَ لَهُ أَرْضَهُ لآِخَرَ مُزَارَعَةً بِالثُّلُثِ مَثَلاً، فَدَفَعَهَا الْوَكِيل لَهُ بِالنِّصْفِ، فَإِنَّ الْوَكِيل هُنَا يَكُونُ قَدْ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ، وَلَكِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ صَحِيحًا، لأَِنَّ الْمُخَالَفَةَ لِخَيْرِ الْمُوَكِّل وَمَصْلَحَتِهِ، فَقَدْ عَقَدَ لَهُ بِالنِّصْفِ بَدَلاً مِنَ الثُّلُثِ.
__________
(1) المبسوط 23 / 139.
(2) المبسوط 23 / 141، والفتاوى الهندية 5 / 266.

(37/83)


لِذَلِكَ لاَ تَبْطُل الْوَكَالَةُ إِذَا أَجَازَ الْمُوَكِّل تَصَرُّفَ وَكِيلِهِ الْمَخَالِفِ، لأَِنَّ الإِْجَازَةَ اللاَّحِقَةَ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ (1) وَهَذَا كُلُّهُ طِبْقًا لِلْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْوَكَالَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَةٌ) .

الْكَفَالَةُ فِي الْمُزَارَعَةِ
54 - إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ لآِخَرَ أَرْضًا لَهُ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ، وَضَمِنَ رَجُلٌ آخَرُ لِرَبِّ الأَْرْضِ الزِّرَاعَةَ مِنَ الزَّارِعِ كَانَ الضَّمَانُ بَاطِلاً، لأَِنَّ الْمُزَارِعَ مُسْتَأْجِرٌ لِلأَْرْضِ عَامِلٌ وَالْمُزَارَعَةُ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِرَبِّ الأَْرْضِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الأَْصِيل لِلْمَضْمُونِ لَهُ.
فَإِذَا كَانَ الضَّمَانُ شَرْطًا فِي الْمُزَارَعَةِ كَانَتْ فَاسِدَةً، لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ لِلأَْرْضِ، فَتَبْطُل بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَبَطَل الضَّمَانُ.
وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ جَازَ الضَّمَانُ وَالْمُزَارَعَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لأَِنَّ رَبَّ الأَْرْضِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْعَامِل، وَقَدْ صَارَتْ إِقَامَةُ الْعَمَل مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ، وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي تَسْلِيمِهِ، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ أَوْ مَقْصُودًا بَعْدَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
__________
(1) المبسوط 23 / 139، 141، والفتاوى الهندية 5 / 266.

(37/84)


وَإِنْ تَعَنَّتَ الزَّارِعُ أَخَذَ الْكَفِيل بِالْعَمَل، لأَِنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِإِيفَاءِ مَا كَانَ عَلَى الأَْصِيل وَهُوَ عَمَل الزِّرَاعَةِ.
فَإِذَا عَمِل الْكَفِيل وَبَلَغَ الزَّرْعُ الْحَصَادَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُزَارِعُ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، لأَِنَّ الْكَفِيل كَانَ نَائِبًا عَنْهُ فِي إِقَامَةِ الْعَمَل، وَيَسْتَحِقُّ الْكَفِيل أَجْرَ مِثْل عَمَلِهِ إِنْ كَانَ كَفَلَهُ بِأَمْرِهِ، لأَِنَّهُ الْتَزَمَ الْعَمَل بِأَمْرِهِ وَقَدْ أَوْفَاهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَمِثْلُهُ هُوَ أَجْرُ الْمِثْل.
وَلاَ يَجُوزُ ضَمَانُ الْمُزَارِعِ إِذَا كَانَ رَبُّ الأَْرْضِ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَل بِنَفْسِهِ، لأَِنَّ مَا الْتَزَمَهُ الْعَامِل هُنَا لاَ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، وَهُوَ عَمَل الْمُزَارِعِ بِنَفْسِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْكَفِيل إِبْقَاءُ ذَلِكَ، فَيَبْطُل الضَّمَانُ وَتَبْطُل مَعَهُ الْمُزَارَعَةُ أَيْضًا لَوْ كَانَ شَرَطَا فِيهَا.
وَإِذَا ضَمِنَ الْكَفِيل لِرَبِّ الأَْرْضِ حِصَّتَهُ مِنَ الْخَارِجِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَصِحُّ سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل رَبِّ الأَْرْضِ أَمْ كَانَ مِنْ قِبَل الْمُزَارِعِ، لأَِنَّ نَصِيبَ صَاحِبِ الأَْرْضِ مِنَ الْخَارِجِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ.
وَالْكِفَالَةُ بِالأَْمَانَةِ لاَ تَصِحُّ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الأَْصْل، ثُمَّ تَبْطُل الْمُزَارَعَةُ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (1) .
__________
(1) المبسوط 23 / 127، وحاشية ابن عابدين 6 / 283، والفتاوى الهندية 5 / 268.

(37/84)


مُزَارَعَةُ الأَْرْضِ الْعَشْرِيَّةِ
55 - لَوْ زَارَعَ بِالأَْرْضِ الْعَشْرِيَّةِ فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل الْعَامِل فَعَلَى قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ كَمَا فِي الإِْجَارَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ فِي الزَّرْعِ كَالإِْجَارَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا (1) .

الْمُزَارَعَةُ فِي الأَْرْضِ الْمَرْهُونَةِ
56 - إِذَا رَهَنَ إِنْسَانٌ عِنْدَ آخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا الْمُرْتَهِنُ زَارَعَهُ الرَّاهِنُ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ وَالْبَذْرُ مِنَ الْمُرْتَهِنِ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَيَقْتَسِمَانِ الْخَارِجَ عَلَى الشَّرْطِ، لأَِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ وَهُوَ الدَّائِنُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَأْجِرٌ لِلأَْرْضِ، وَالْمُرْتَهِنُ إِذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنَ الرَّاهِنِ بَطَل عَقْدُ الرَّهْنِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ أَلْزَمُ مِنَ الرَّهْنِ، وَقَدْ طَرَأَ الاِثْنَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ الثَّانِي رَافِعًا لِلأَْوَّل، فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يُعِيدَهَا رَهْنًا.
وَإِنْ مَاتَ الْمَدِينُ الرَّاهِنُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنِ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غُرَمَائِهِ لِبُطْلاَنِ عَقْدِ الرَّهْنِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْمَدِينِ الرَّاهِنِ فَإِنَّ
__________
(1) فتح القدير 2 / 8، دار صادر بيروت.

(37/85)


الْمُزَارَعَةَ تَكُونُ جَائِزَةً أَيْضًا وَلَكِنَّ الرَّهْنَ لاَ يَبْطُل، وَيَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَ الأَْرْضَ فِي الرَّهْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الزَّرْعِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ هُنَا يَرِدُ عَلَى عَمَل الْمُزَارِعِ فَلاَ يَبْطُل بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .

أَخْذُ الْمَأْذُونِ لَهُ الأَْرْضَ مُزَارَعَةً
57 - يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الأَْرْضَ مُزَارَعَةً، لأَِنَّ فِيهِ تَحْصِيل الرِّبْحِ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ لِلأَْرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُل خَارِجٌ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلاَفِ الاِسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الأَْرْضِ فَهُوَ آجِرٌ نَفْسَهُ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ لِعَمَل الزِّرَاعَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ بِالدَّرَاهِمِ جَازَ فَكَذَا هَذَا (2) .

اشْتِرَاطُ عَدَمِ بَيْعِ النَّصِيبِ أَوْ هِبَتِهِ:
58 - إِذَا اشْتَرَطَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنْ لاَ يَبِيعَ الآْخَرُ نَصِيبَهُ أَوْ يَهَبَهُ جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ وَبَطَل الشَّرْطُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لأَِحَدِ الْعَامِلَيْنِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ (3) .
__________
(1) المبسوط 23 / 159، والفتاوى الهندية 5 / 264.
(2) العناية على الهداية 7 / 337.
(3) فتح القدير 5 / 215، 216.

(37/85)


مُزَايَدَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُزَايَدَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّنَافُسُ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِ السِّلْعَةِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْبَيْعِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: أَنْ يُنَادَى عَلَى السِّلْعَةِ وَيَزِيدُ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ زَائِدٍ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا (2) .
وَمُعْظَمُ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ وَرَدَ بِشَأْنِ (بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ) لأَِنَّهُ أَغْلَبُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الْمُزَايَدَةُ، وَبَيْعُ الْمُزَايَدَةِ هُوَ - كَمَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ - بَيْعٌ الْتَزَمَ مُشْتَرِيهِ ثَمَنَهُ عَلَى قَبُول الزِّيَادَةِ (3) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَوْمٌ ف 3) .
وَلِعَقْدِ الْمُزَايَدَةِ - أَوْ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ - أَسْمَاءٌ أُخْرَى، مِنْهَا: بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ، وَبَيْعُ الدَّلاَلَةِ، وَبَيْعُ
__________
(1) القاموس وشرحه تاج العروس، ومعجم مقاييس اللغة، والمعجم الوسيط مادة (زيد) ، وأساس البلاغة للزمخشري 198.
(2) القوانين الفقهية ص 175، 262، وانظر فتح القدير 6 / 108 ط. دار إحياء التراث، والفتاوى الهندية 3 / 210، والدسوقي على شرح الدردير لمختصر خليل 3 / 159، ومغني المحتاج 2 / 37.
(3) حدود ابن عرفة بشرح الرصاع 2 / 383.

(37/86)


الْمُنَادَاةِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (بَيْعَ الْفُقَرَاءِ) لِوُقُوعِهِ عَلَى بَيْعِ أَثَاثِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَبَيْعُ مَنْ كَسَدَتْ بِضَاعَتُهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى بَيْعِ السِّلَعِ غَيْرِ الرَّائِجَةِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّجْشُ:
2 - النَّجْشُ لُغَةً: الإِْثَارَةُ.
وَاصْطِلاَحًا: الزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ مِمَّنْ لاَ يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيُغَرِّرَ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي النَّجْشِ مِنْ إِثَارَةِ رَغْبَةِ الْغَيْرِ فِي السِّلْعَةِ وَلَوْ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِمَّا يُقَدِّرُهُ الْمُشْتَرِي.
فَالنَّجْشُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْمُزَايَدَةِ فِي الصُّورَةِ بِوُقُوعِ الزِّيَادَةِ مِنَ النَّاجِشِ، وَيَخْتَلِفُ عَنْهَا فِي انْتِفَاءِ قَصْدِ النَّاجِشِ الشِّرَاءَ (2) .

ب - الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ الْغَيْرِ:
3 - الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ الْغَيْرِ هُوَ أَنْ يَعْرِضَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةَ غَيْرِهِ وَقَدْ رَكَنَ إِلَيْهِ، وَيَتَحَقَّقُ بِأَنْ يَقُول لِمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً وَهُوَ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ: افْسَخْ بَيْعَكَ وَأَنَا أَبِيعُكَ مِثْل السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ أَقَل، فَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ الْغَيْرِ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمُزَايَدَةِ بِأَنَّهُ يَقَعُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 210، وحاشية ابن عابدين 4 / 133، وكشاف القناع 3 / 183.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط، وعمدة القاري 11 / 259، وفتح الباري 4 / 353 - 355، وجواهر الإكليل 2 / 26، ومغني المحتاج 2 / 37.

(37/86)


بَعْدَ الرُّكُونِ لإِِتْمَامِ الصَّفْقَةِ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْعَقْدُ وَالرِّضَا.
أَمَّا الْمُزَايَدَةُ فَهِيَ: عُرُوضٌ لِلشِّرَاءِ تَقَعُ قَبْل الرُّكُونِ بَيْنَ مَالِكِ السِّلْعَةِ وَمَنْ يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا أَوَّلاً (1) .

ج - السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ:
4 - الْمُرَادُ مِنَ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ أَنْ يَتَّفِقَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ وَالرَّاغِبُ فِيهَا عَلَى الْبَيْعِ، وَلَمْ يَعْقِدَاهُ، فَيَقُول آخَرُ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ: أَنَا أَشْتَرِيهَا بِأَكْثَرَ، أَوْ يَقُول لِلرَّاغِبِ فِي السِّلْعَةِ: أَنَا أَبِيعُكَ خَيْرًا مِنْهَا بِأَرْخَصَ، فَالسَّوْمُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمُزَايَدَةِ أَيْضًا فِي وُقُوعِهِ بَعْدَ الرُّكُونِ خِلاَفًا لِلْمُزَايَدَةِ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ، وَحِكْمَةُ التَّشْرِيعِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للأبي 4 / 178، والتمهيد لابن عبد البر 14 / 317 و18 / 191، ومعالم السنن للخطابي 2 / 69، ومغني المحتاج 2 / 37.
(2) عمدة القاري 11 / 257، والبيان والتحصيل لابن رشد الجد 8 / 475، والروضة للنووي 3 / 413.
(3) بدائع الصنائع 5 / 222، وحاشية ابن عابدين 5 / 102، والبحر الرائق 6 / 108، وفتح القدير 6 / 108 ط. دار إحياء التراث، والمقدمات الممهدات لابن رشد 2 / 138، ومواهب الجليل 4 / 239، وميارة على التحفة 2 / 69، وشرح العمليات ص 319، وتحفة المحتاج 4 / 313، ونهاية المحتاج 3 / 468، ومغني المحتاج 2 / 37، وكشاف القناع 2 / 183، والمغني 4 / 236.

(37/87)


وَهُوَ أَنَّهُ بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا بَيْعَ مَنْ يَزِيدُ وَقَال مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْحِلْسَ وَالْقَدَحَ فَقَال رَجُلٌ أَخَذْتُهُمَا بِدِرْهَمٍ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ فَبَاعَهُ مِنْهُ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا أَيْضًا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُزَايَدَةِ.
وَذَهَبَ النَّخَعِيُّ إِلَى كَرَاهَتِهِ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهُوَيْهِ إِلَى كَرَاهَتِهِ فِيمَا عَدَا بَيْعَ الْغَنَائِمِ وَالْمَوَارِيثِ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ الْخَوْلاَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ (3) ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَحَدٍ حَتَّى يَذَرَ إِلاَّ الْغَنَائِمَ وَالْمَوَارِيثَ (4) .
وَقَال عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لاَ يَرَوْنَ بَأْسًا
__________
(1) حديث: " من يشتري هذا الحلس والقدح؟ . . . ". أخرجه أبو داود (2 / 292) ، والترمذي (3 / 522) من حديث أنس بن مالك ونقل ابن حجر في التلخيص الحبير (3 / 15) عن ابن القطان تضعيفه.
(2) فتح الباري 4 / 354.
(3) حديث: " أنه نهى عن بيع المزايدة ". أخرجه البزار (كشف الأستار 2 / 90) من حديث سفيان بن وهب، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (4 / 354) .
(4) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أحد. . ". أخرجه ابن الجارود في المنتقى (ص 198) ، والدارقطني (3 / 11) من حديث ابن عمر.

(37/87)


فِي بَيْعِ الْغَنَائِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ الْمُزَايَدَةِ فِي بَيْعِ مَال الْمُفْلِسِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَوَقُّعِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَتَطْيِيبِ نُفُوسِ الْغُرَمَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُحْضِرَهُمْ فِيهِ (1) .

رُكْنُ الْمُزَايَدَةِ (كَيْفِيَّةُ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي الْمُزَايَدَةِ) :
6 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ هُوَ الصِّيغَةُ - كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ - أَوْ هُوَ الصِّيغَةُ مَعَ الأَْطْرَافِ (الْعَاقِدِينَ وَالْمَحَل: الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ) كَمَا قَال الْجُمْهُورُ ثُمَّ إِنَّ الصِّيغَةَ هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول.
وَفِي الْمُزَايَدَةِ إِذَا نَادَى الدَّلاَّل عَلَى السِّلْعَةِ فَإِنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْحَاضِرِينَ هُوَ إِيجَابٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ إِيجَابَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَالْقَبُول هُوَ مُوَافَقَةُ الْبَائِعِ - أَوِ الدَّلاَّل الْمُفَوَّضِ مِنْهُ - عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مَا، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَالإِْيجَابُ هُوَ مُوَافَقَةُ الْبَائِعِ وَالدَّلاَّل وَقَدْ تَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْقَبُول فَهُوَ كَقَوْلِهِ بِعْنِيهِ بِكَذَا (2) .

إِلْزَامُ جَمِيعِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْمُزَايَدَةِ بِالشِّرَاءِ - فِي مَجْلِسِ الْمُنَادَاةِ - وَلَوْ زِيدَ عَلَيْهِمْ:
7 - صَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ، وَقَال:
إِنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ - أَيْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ - وَنَقَلَهُ عَنْ أَبِي
__________
(1) كشاف القناع 4 / 432.
(2) مواهب الجليل 4 / 237 - 239.

(37/88)


جَعْفَرِ بْنِ رِزْقٍ أَيْضًا بِأَنَّ كُل مَنْ زَادَ فِي السِّلْعَةِ لَزِمَتْهُ بِمَا زَادَ إِنْ أَرَادَ صَاحِبُهَا أَنْ يُمْضِيَهَا لَهُ بِمَا أَعْطَى فِيهَا مَا لَمْ يَسْتَرِدَّ سِلْعَتَهُ فَيَبِيعُ بَعْدَهَا أُخْرَى أَوْ يُمْسِكُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ الْمُنَادَاةِ.
وَقَدْ عَلَّل ابْنُ رُشْدٍ ذَلِكَ بِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ لاَ يُحِبُّ مُمَاطَلَةَ الَّذِي زَادَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، فَلَيْسَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ بِهَا وَإِنْ وَجَدَهَا إِبْرَاءً لِمَنْ قَبْلَهُ، وَرَبَطَ الدُّسُوقِيُّ ذَلِكَ بِالْعُرْفِ فَقَال: وَلِلْبَائِعِ إِلْزَامُ الْمُشْتَرِي فِي الْمُزَايَدَةِ وَلَوْ طَال الزَّمَانُ أَوِ انْفَضَّ الْمَجْلِسُ حَيْثُ لَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ بِعَدَمِ إِلْزَامِهِ، كَمَا عِنْدَنَا بِمِصْرَ أَنَّ الرَّجُل لَوْ زَادَ فِي السِّلْعَةِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ صَاحِبُهَا أَوِ انْفَضَّ الْمَجْلِسُ فَإِنَّهُ لاَ يُلْزِمُهُ بِهَا وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنِ السِّلْعَةُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي (1) ، وَإِلاَّ كَانَ لِرَبِّهَا إِلْزَامُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ الْعَادَةَ بِتُونُسَ فِي أَيَّامِهِ عَدَمُ اللُّزُومِ، وَذَكَرَ الْحَطَّابُ أَنَّ الْعُرْفَ بِمَكَّةَ فِي زَمَنِهِ جَرَى عَلَى عَدَمِ الإِْلْزَامِ أَيْضًا (2) .

إِلْزَامُ جَمِيعِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْمُزَايَدَةِ بِالشِّرَاءِ بَعْدَ مَجْلِسِ الْمُنَادَاةِ
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعُرْفُ اللُّزُومَ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، أَوِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْبَائِعُ فَيَلْزَمُ
__________
(1) البيان والتحصيل لابن رشد 8 / 475 - 476، والدسوقي 3 / 5، والزرقاني 5 / 6، والحطاب 4 / 237 - 239.
(2) الحطاب 4 / 238 - 239.

(37/88)


الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ فِي مَسْأَلَةِ الْعُرْفِ بِمِقْدَارِ مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّرْطِ فِي الأَْيَّامِ الْمَشْرُوطَةِ، وَبَعْدَهَا بِقُرْبِ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا إِذَا حَصَل الاِشْتِرَاطُ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى السِّلْعَةِ أَيَّامًا (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الزُّرْقَانِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْبَيْعِ الْمُطْلَقِ حَيْثُ لاَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ فِيهِ بِتَرَاخِي الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ، أَوْ بِحُصُول فَاصِلٍ يَقْتَضِي الإِْعْرَاضَ عَمَّا كَانَ الْمُتَبَايِعَانِ فِيهِ إِلاَّ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَ السِّلْعَةَ لِمَنْ شَاءَ حَيْثُ اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ذَلِكَ أَوْ جَرَى بِهِ عُرْفُ إِمْسَاكِهَا حَتَّى انْقَضَى مَجْلِسُ الْمُنَادَاةِ، قَال الْمَازِرِيُّ: بَعْضُ الْقُضَاةِ أَلْزَمَ بَعْضَ أَهْل الأَْسْوَاقِ فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، مَعَ أَنَّ عَادَتَهُمُ الاِفْتِرَاقُ عَلَى غَيْرِ إِيجَابٍ اغْتِرَارًا بِظَاهِرِ ابْنِ حَبِيبٍ وَحِكَايَةِ غَيْرِهِ، فَنَهَيْتُهُ عَنْ هَذَا لأَِجْل مُقْتَضَى عَوَائِدِهِمْ، وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَلْتَزِمَ الْبَيْعَ إِلاَّ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ شَرْطُهُ، وَلَوْ كَانَ الْعُرْفُ بِخِلاَفِهِ، لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ (2) .

خِيَارُ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْيجَابِ فِي الْمُزَايَدَةِ:
9 - الرُّجُوعُ عَنِ الْمُزَايَدَةِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ قَبْل زِيَادَةِ آخَرَ عَلَى مَا دَفَعَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا، فَإِنْ وَقَعَ الرُّجُوعُ قَبْل زِيَادَةَ آخَرَ عَلَى مَا دَفَعَهُ
__________
(1) الحطاب 4 / 238 - 239.
(2) الزرقاني 5 / 6، والحطاب 4 / 238 - 239.

(37/89)


مِنْ ثَمَنٍ فَإِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ عَنْ غَيْرِهِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْيجَابِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلْمُوجِبِ حَقَّ الرُّجُوعِ قَبْل أَنْ يَقَعَ الْقَبُول لإِِيجَابِهِ، وَلاَ يَرِدُ هُنَا الْخِلاَفُ الْمَنْقُول عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا لَوْ رَبَطَ الإِْيجَابَ بِوَقْتٍ، وَأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَقَيَّدُ بِوَقْتِهِ فَلاَ يَمْلِكُ الْمُوجِبُ الرُّجُوعَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي لُزُومِ الْمُزَايَدَةِ لِجَمِيعِ الْمُشْتَرِكِينَ فِيهَا يُغْنِي عَنْ مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْل (1) .

خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْمُزَايَدَةِ
10 - قَال الْحَطَّابُ: جَرَتِ الْعَادَةُ بِمَكَّةَ أَنَّ مَنْ رَجَعَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ (2) .

الزِّيَادَةُ بَعْدَ بَتِّ الْبَيْعِ لأَِحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْمُزَايَدَةِ
11 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي السِّلْعَةِ إِذَا تَوَقَّفَ الْمَالِكُ أَوِ الدَّلاَّل عَنِ النِّدَاءِ - لأَِنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ الْبَيْعِ - لِعَدَمِ وُصُول السِّلْعَةِ إِلَى قِيمَتِهَا وَكَفِّ الْحَاضِرِينَ عَنِ الزِّيَادَةِ.
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الرُّكُونِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَال يُنَادِي عَلَى سِلْعَتِهِ فَطَلَبَهَا إِنْسَانٌ بِثَمَنٍ، فَكَفَّ عَنِ
__________
(1) الحطاب 4 / 238 - 239.
(2) المرجع السابق.

(37/89)


النِّدَاءِ وَرَكَنَ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ الرَّجُل، فَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا اسْتِيَامٌ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُفَّ عَنِ النِّدَاءِ فَلاَ بَأْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَزِيدَ.
وَإِنْ كَانَ الدَّلاَّل هُوَ الَّذِي يُنَادِي عَلَى السِّلْعَةِ وَطَلَبَهَا إِنْسَانٌ بِثَمَنٍ فَقَال الدَّلاَّل: حَتَّى أَسْأَل الْمَالِكَ فَلاَ بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَزِيدَ، فَإِنْ أَخْبَرَ الدَّلاَّل الْمَالِكَ فَقَال: بِعْهُ وَاقْبِضِ الثَّمَنَ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَزِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَال الْحَطَّابُ: وَسَوَاءٌ تَرَكَ السِّمْسَارُ الثَّوْبَ عِنْدَ التَّاجِرِ أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ وَجَاءَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ فَقَال لَهُ رَبُّهُ: بِعْهُ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ تَاجِرٌ آخَرُ أَنَّهُ لِلأَْوَّل، وَأَمَّا لَوْ قَال لَهُ رَبُّ الثَّوْبِ لَمَّا شَاوَرَهُ: اعْمَل فِيهِ بِرَأْيِكَ فَرَجَعَ السِّمْسَارُ وَنَوَى أَنْ يَبِيعَهُ مِنَ التَّاجِرِ فَزَادَ فِيهِ تَاجِرٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَعْمَل فِيهِ بِرَأْيِهِ وَيَقْبَل الزِّيَادَةَ إِنْ شَاءَ وَلاَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِالنِّيَّةِ (1) .
وَاسْتَظْهَرَ الشَّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ حَيْثُ لَمْ يُعَيِّنِ الدَّلاَّل الْمُشْتَرِيَ، ثُمَّ قَال: بَل لاَ يَبْعُدُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ وَإِنْ عَيَّنَهُ (2) .

زِيَادَةُ اثْنَيْنِ مَبْلَغًا مُتَمَاثِلاً:
12 - ذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 210 - 211، وفتح القدير 6 / 107، والحطاب 4 / 239، والروضة للنووي 3 / 413، والمبدع 4 / 44.
(2) الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 313.

(37/90)


لَوْ زَادَ اثْنَانِ مَبْلَغًا مُتَمَاثِلاً وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا غَيْرُهُمَا فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي السِّلْعَةِ، وَقَال عِيسَى: هِيَ لِلأَْوَّل، وَلاَ أَرَى لِلصَّائِحِ أَنْ يَقْبَل مِنْ أَحَدٍ مِثْل الثَّمَنِ الَّذِي قَدْ أَعْطَاهُ غَيْرُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا قَدْ أَعْطَيَاهُ فِيهِ دِينَارًا مَعًا فَهُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ (1) .

خِيَارُ الْعَيْبِ فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ الْمُشْتَرِي لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ السَّلاَمَةُ.
وَبَيْعُ الْمُزَايَدَةِ مِنَ الْبُيُوعِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْعَيْبِ كَبَقِيَّةِ الْبُيُوعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ ف 20 - 25) .

الْمُطَالَبُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ
14 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرُّجُوعَ بِخِيَارِ الْعَيْبِ يَكُونُ عَلَى أَصْحَابِ السِّلَعِ، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي يَبِيعُ فِيمَنْ يَزِيدُ يَسْتَأْجِرُ عَلَى الصِّيَاحِ، فَيُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ أَوْ خَرْقٌ أَوْ عَيْبٌ، قَال: لَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، وَإِنَّمَا هُوَ أَجِيرٌ آجَرَ نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْعُهْدَةُ عَلَى أَرْبَابِ السِّلَعِ فَلْيَتْبَعُوهُمْ، فَإِنْ وَجَدُوا
__________
(1) البيان والتحصيل 8 / 475.

(37/90)


أَرْبَابَهَا وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تِبَاعَةٌ (1) .

دَعْوَى الْغَبْنِ فِي الْمُزَايَدَةِ
15 - مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ حَقَّ لِمُدَّعِي الْغَبْنِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَوْ كَانَ الْغَبْنُ خَارِجًا عَنِ الْمُعْتَادِ إِلاَّ إِذَا تَوَافَرَتْ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمَغْبُونُ جَاهِلاً بِثَمَنِ الْمِثْل فِي السُّوقِ لِمَا بَاعَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ، أَمَّا الْعَارِفُ بِالْقِيَمِ فَلاَ يُخْتَلَفُ فِي إِمْضَائِهِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ - كَمَا قَال الْمَازِرِيُّ - إِنَّمَا فَعَلَهُ لِغَرَضٍ، وَأَقَل مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْوَاهِبِ لِمَالِهِ.
ب - أَنْ يَدَّعِيَ قَبْل مُضِيِّ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ، وَقَدْ نَصَّ الْوَزَّانِيُّ فِي إِحْدَى فَتَاوِيهِ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ وَغَيْرِهِ، وَأَيَّدَ فَتْوَاهُ بِكَلاَمٍ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ التَّسُولِيُّ أَنَّهُ لاَ يُسْمَعُ الاِدِّعَاءُ بِالْغَبْنِ فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ، لِمَا يَتَوَافَرُ فِيهِ مِنَ الإِْشْهَارِ وَحُضُورِ الْمُتَزَايِدِينَ، قَال ابْنُ عَاتٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَكْرَى نَاظِرُ الْحَبْسِ (الْوَقْفِ) عَلَى يَدِ الْقَاضِي رِيعَ الْحَبْسِ بَعْدَ النِّدَاءِ عَلَيْهِ وَالاِسْتِقْصَاءِ ثُمَّ جَاءَتْ زِيَادَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْضُ الْكِرَاءِ، وَلاَ قَبُول الزِّيَادَةِ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ فِي الْكِرَاءِ غَبْنًا عَلَى الْحَبْسِ فَتُقْبَل الزِّيَادَةُ وَلَوْ مِمَّنْ كَانَ
__________
(1) المدونة 3 / 339، ولباب اللباب لابن راشد القفصي 156.

(37/91)


حَاضِرًا، وَإِذَا حَصَل التَّنَاكُرُ فِي دَعْوَى الْجَهْل فَتُقْبَل بَيِّنَةُ مَنْ يَدَّعِي الْمَعْرِفَةَ، لأَِنَّهَا بَيِّنَةٌ نَاقِلَةٌ عَنِ الأَْصْل الَّذِي هُوَ الْجَهْل فَتَقَدَّمَ (1) .
ج - أَنْ يَكُونَ الْغَبْنُ فَاحِشًا بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل قَدْرَ الثُّلُثِ فَأَكْثَرَ.
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلْغَبْنِ وَحْدَهُ تَأْثِيرًا مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ التَّغْرِيرُ، وَهُوَ لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُزَايَدَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَهُمْ.

النَّجْشُ فِي الْمُزَايَدَةِ:
16 - النَّجْشُ فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ - كَالنَّجْشِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْبُيُوعِ، حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ خَدِيعَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا بَلَغَتِ السِّلْعَةُ قِيمَتَهَا.
وَفِي حُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ وَحُكْمِهِ الْوَضْعِيِّ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 128) .

مُشَارَكَةُ الدَّلاَّل فِي الشِّرَاءِ مَعَ بَعْضِ مَنْ يَزِيدُ دُونَ عِلْمِ الْبَائِعِ
17 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لاَ يَجُوزُ لِلدَّلاَّل الَّذِي هُوَ
__________
(1) الحطاب 4 / 371، والمواق 4 / 468 - 472، والمعيار للونشريسي 5 / 38، وميارة على تحفة الحكام لابن عاصم 2 / 38، وتحفة الحذاق بنشر ما تضمنته لامية الزقاق 303.

(37/91)


وَكِيل الْبَائِعِ فِي الْمُنَادَاةِ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِمَنْ يَزِيدُ بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَزِيدُ وَيَشْتَرِي فِي الْمَعْنَى، وَهَذَا خِيَانَةٌ لِلْبَائِعِ، وَمَنْ عَمِل مِثْل هَذَا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَمْ يُنْصَحْ لِلْبَائِعِ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ وَإِنْهَاءِ الْمُنَادَاةِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا يَئُول إِلَى بَيْعِ الْوَكِيل مِنْ نَفْسِهِ مَا وُكِّل بِبَيْعِهِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ فَمَنَعَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، لأَِنَّ الْعُرْفَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُوجَبَ لِغَيْرِهِ فَحَمَل الْوَكَالَةَ عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ إِذْنَ الْمُوَكَّل يَقْتَضِي الْبَيْعَ مِمَّنْ يَسْتَقْصِي فِي الثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَفِي الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ لاَ يَسْتَقْصِي فِي الثَّمَنِ فَلَمْ يَدْخُل فِي الإِْذْنِ وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِاسْتِثْنَاءِ مَا لَوِ اشْتَرَى بَعْضَ مَا وُكِّل بِبَيْعِهِ بِسِعْرِهِ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا زَادَ عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ أَوْ وَكَّل مَنْ يَبِيعُ وَكَانَ هُوَ أَحَدَ الْمُشْتَرِينَ (1) وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا: إِذَا تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الدَّلاَّلِينَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي شِرَاءِ مَا يَبِيعُونَهُ، فَإِنَّ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ تَعْزِيرًا بَلِيغًا يَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْخِيَانَةِ، وَمِنْ تَعْزِيرِهِمْ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 69، والكافي لابن عبد البر 2 / 791، وانظر المهذب مع تكملة المجموع 14 / 122، والمبدع شرح المقنع 4 / 367، والمغني 5 / 119. ومجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 305.

(37/92)


مِهْنَةِ الدَّلاَلَةِ فِي السُّوقِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ (1) .

التَّوَاطُؤُ عَلَى تَرْكِ الْمُزَايَدَةِ بَعْدَ سِعْرٍ مُحَدَّدٍ
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَتَابَعَهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ التَّوَاطُؤَ عَلَى تَرْكِ الْمُزَايَدَةِ إِنْ تَمَّ بَيْنَ أَحَدِ الْحَاضِرِينَ وَآخَرَ، بِأَنْ يَسْأَلَهُ تَرْكَ الْمُزَايَدَةِ فَهُوَ لاَ بَأْسَ بِهِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَظِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَال يَجْعَلُهُ لِمَنْ كَفَّ عَنِ الزِّيَادَةِ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: كُفَّ عَنِ الزِّيَادَةِ وَلَكَ دِينَارٌ أَوْ قَال لَهُ: كُفَّ عَنِ الزِّيَادَةِ وَنَحْنُ شَرِيكَانِ فِي السِّلْعَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَابَ الْمُزَايَدَةِ مَفْتُوحٌ وَإِنَّمَا تَرَكَ أَحَدُهُمَا مُزَايَدَةَ الآْخَرِ.
أَمَّا إِنْ تَمَّ التَّوَاطُؤُ بَيْنَ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ عَلَى الْكَفِّ عَنِ الزِّيَادَةِ فَلاَ يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْبَائِعِ. وَمِثْل تَوَاطُؤِ الْجَمِيعِ تَصَرُّفُ مَنْ حُكْمُهُمْ كَمَجْمُوعَةٍ مُتَحَكِّمَةٍ فِي سُوقِ الْمُزَايَدَةِ أَوْ شَيْخِ السُّوقِ.
وَالْهَدَفُ مِنَ التَّوَاطُؤِ قَدْ يَكُونُ الاِشْتِرَاكُ بَيْنَهُمْ فِي تَمَلُّكِ السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ بِأَقَل مِنْ قِيمَتِهَا لاِقْتِسَامِهَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَخْصِيصِ سِلْعَةٍ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِيَشْتَرِيَهَا بِأَقَل مِنْ قِيمَتِهَا دُونَ مُنَازَعَةِ الآْخَرِينَ لَهُ، وَفِي الْحَالَتَيْنِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ وَبَخْسٌ لِسِلْعَتِهِ قَال اللَّهُ تَعَالَى:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 305.

(37/92)


00 {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (1) فَإِنْ وَقَعَ التَّوَاطُؤُ الْمَمْنُوعُ خُيِّرَ الْبَائِعُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْضَاءِ، فَإِنْ هَلَكَتِ السِّلْعَةُ فَلَهُ الأَْكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ (2) .

مَزْبَلَةٌ

انْظُرْ: زِبْلٌ
__________
(1) سورة هود / 85.
(2) فتاوى ابن تيمية 29 / 304، والشرح الصغير للدردير 3 / 106، والتيسير في أحكام التسعير للمجيلدي 87.

(37/93)


مُزْدَلِفَةُ

التَّعْرِيفُ:
1 - قَال أَهْل اللُّغَةِ: الزُّلْفَةُ وَالزُّلْفَى: الْقُرْبَةُ وَالْحُظْوَةُ، وَأَزْلَفَهُ: قَرَّبَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: ازْدَلَفَ إِلَى اللَّهِ بِرَكْعَتَيْنِ وَمِنْهُ: مُزْدَلِفَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لاِقْتِرَابِهَا إِلَى عَرَفَاتٍ.
وَقِيل: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَزْلَفْتُ الشَّيْءَ جَمَعْتُهُ.
وَحَدُّهَا فِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَكَانٌ بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ وَوَادِي مُحَسِّرٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول: مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إِلَى قَرْنِ مُحَسِّرٍ، فَمَا عَلَى يَمِينِ ذَلِكَ وَشِمَالِهِ مِنَ الشِّعَابِ فَهُوَ مِنًى.
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: الْمُزْدَلِفَةُ مَا بَيْنَ وَادِي مُحَسِّرٍ وَمَأْزِمَيْ عَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْحَدَّانِ مِنْهَا، وَيَدْخُل فِي الْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعُ تِلْكَ الشِّعَابِ الْقَوَابِل وَالظَّوَاهِرِ وَالْجِبَال الدَّاخِلَةِ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ (1) .
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للأصفهاني، وحاشية ابن عابدين 2 / 176، ومغني المحتاج 1 / 497، والمغني لابن قدامة 3 / 421، والمطلع على أبواب المقنع ص 195، وتفسير القرطبي 2 / 421، والمجموع للنووي 8 / 128.

(37/93)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - مِنًى:
2 - مِنًى: مَوْضِعٌ قُرْبَ مَكَّةَ، وَيُقَال: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ ثَلاَثَةُ أَمْيَالٍ، يَنْزِلُهُ الْحُجَّاجُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَسُمِّيَ مِنًى لِمَا يُمْنَى بِهِ مِنَ الدِّمَاءِ أَيْ يُرَاقُ، وَأَمْنَى الرَّجُل أَوِ الْحَاجُّ بِالأَْلِفِ: أَتَى مِنًى (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَبَيْنَ مِنًى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.

ب - الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ:
3 - الْمَشْعَرُ، بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا: جَبَلٌ صَغِيرٌ آخِرَ مُزْدَلِفَةَ، اسْمُهُ قُزَحُ بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالزَّايِ.
وَسُمِّيَ مَشْعَرًا: لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّعَائِرِ وَهِيَ مَعَالِمُ الدِّينِ وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَوُصِفَ بِالْحَرَامِ لأَِنَّهُ يَحْرُمُ فِيهِ الصَّيْدُ وَغَيْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذُو الْحُرْمَةِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُزْدَلِفَةَ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا، أَوْ جَمِيعُ الْمُزْدَلِفَةِ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْمُزْدَلِفَةِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمجموع للنووي 8 / 129.
(2) تفسير القرطبي 2 / 421، والمجموع للنووي 8 / 130.
(3) المجموع 8 / 152.

(37/94)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمُزْدَلِفَةَ:
الْمَبِيتُ فِي مُزْدَلِفَةَ لِلْحَاجِّ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَبِيتِ فِي مُزْدَلِفَةَ لِلْحَاجِّ لَيْلَةَ النَّحْرِ
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ، وَمِنْ هَؤُلاَءِ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: عَلْقَمَةُ وَالأَْسْوَدُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَالسُّبْكِيُّ قَالُوا: الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ فَرْضٌ أَوْ رُكْنٌ لاَ يَصِحُّ الْحَجُّ إِلاَّ بِهِ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (1) .
وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، فَلَوْ تَرَكَهُ الْحَاجُّ صَحَّ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ (3) ، لِحَدِيثِ: الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ مَنْ جَاءَ قَبْل الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 135، والمجموع للنووي 8 / 134، 150، وروضة الطالبين 3 / 99، ومغني المحتاج 1 / 499.
(2) حديث: " من فاته المبيت بالمزدلفة. . ". أورده النووي في المجموع (8 / 150) ثم قال: ليس بثابت ولا معروف " ولم يعزه إلى أي مصدر.
(3) المجموع للنووي 8 / 123 - 150، والمغني لابن قدامة 3 / 421 وما بعدها.

(37/94)


فَتَمَّ حَجُّهُ (1) ، يَعْنِي: مَنْ جَاءَ عَرَفَةَ.

5 - وَيَحْصُل الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِالْحُضُورِ فِي أَيَّةِ بُقْعَةٍ كَانَتْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، لِحَدِيثِ: مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ (2) .
كَمَا أَنَّ هَذَا الْمَبِيتَ يَحْصُل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِالْحُضُورِ فِي مُزْدَلِفَةَ فِي سَاعَةٍ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل أَجْزَأَهُ وَحَصَل الْمَبِيتُ وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الدَّفْعُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْل نِصْفِ اللَّيْل وَلَوْ بِيَسِيرٍ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا فَقَدْ تَرَكَ الْمَبِيتَ، فَإِنْ عَادَ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ الْمَبِيتُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْ مُزْدَلِفَةَ إِلاَّ فِي النِّصْفِ الأَْخِيرِ مِنَ اللَّيْل فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (3) .
وَوُجُوبُ الدَّمِ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ خَاصٌّ فِيمَنْ تَرَكَهُ بِلاَ عُذْرٍ، أَمَّا مَنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ كَمَنِ انْتَهَى إِلَى عَرَفَاتٍ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَاشْتَغَل بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
__________
(1) حديث: " الحج عرفة، من جاء قبل الصبح من ليلة. . ". أخرجه أبو داود (2 / 486) ، والترمذي (3 / 228) ، والحاكم في المستدرك (2 / 278) ، واللفظ لأبي داود، ونقل الترمذي عن وكيع أنه قال: " هذا الحديث أم المناسك "، وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح ".
(2) حديث: " مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا. . . ". أخرجه أحمد في المسند (1 / 219) ، والطبراني في " المعجم الكبير " (11 / 424) ، واللفظ للطبراني، وقال أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (3 / 274) : " إسناده صحيح ".
(3) المجموع للنووي 8 / 135، والمغني لابن قدامة 3 / 422.

(37/95)


عَنِ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَالْمَرْأَةِ لَوْ خَافَتْ طُرُوءَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، فَبَادَرَتْ إِلَى مَكَّةَ بِالطَّوَافِ، وَكَمَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ لِلرُّكْنِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ بِلاَ مَشَقَّةٍ فَفَاتَهُ الْمَبِيتُ وَكَالرُّعَاةِ وَالسُّقَاةِ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِمْ لِتَرْكِ الْمَبِيتِ (1) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ لِحَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الإِْبِل فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجِينَ عَنْ مِنًى (2) ، وَأَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْل سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ بِقَدْرِ حَطِّ الرِّحَال، سَوَاءٌ حَطَّتْ بِالْفِعْل أَمْ لاَ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِل فِيهَا بِهَذَا الْقَدْرِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ بِلاَ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، أَمَّا إِنْ تَرَكَهُ بِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 136، ومغني المحتاج 1 / 500، وكشاف القناع 2 / 497.
(2) حديث: " أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة. . ". أخرجه مالك في الموطأ (1 / 408) ، وأبو داود (2 / 498) والترمذي (3 / 281) واللفظ لمالك، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث: " رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه. . ". أخرجه البخاري " فتح الباري " (3 / 490 - 491) ، ومسلم (2 / 953) .
(4) جواهر الإكليل 1 / 180 - 181، والقوانين الفقهية ص 132.

(37/95)


وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمَبِيتُ فِي مُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ إِلَى الْفَجْرِ، لاَ وَاجِبَةٌ (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِمُزْدَلِفَةَ وَالْبَيْتُوتَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إِنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْوُقُوفُ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَيُصَلِّي صَلاَةَ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ، ثُمَّ يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْأَلُهُ حَوَائِجَهُ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى مِنًى (2) .

تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ إِلَى مِنًى:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ تَقْدِيمُ الضُّعَفَاءِ مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل لِيَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْل زَحْمَةِ النَّاسِ (3) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ تَدْفَعُ قَبْلَهُ، وَقَبْل حُطَمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً فَأَذِنَ لَهَا (4) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال:
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 136، ورد المحتار على الدر المختار 2 / 178 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 2 / 136، ورد المحتار على الدر المختار 2 / 178 وما بعدها.
(3) بدائع الصنائع 2 / 136، وحاشية ابن عابدين 2 / 178، وجواهر الإكليل 1 / 180، والمجموع للنووي 8 / 139 - 140، ومغني المحتاج 1 / 500، وروضة الطالبين 3 / 99، والمغني لابن قدامة 3 / 422، وكشاف القناع 2 / 497.
(4) حديث: " استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 526) ، ومسلم (2 / 939) .

(37/96)


{أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ (1) .

الْجَمْعُ بَيْنَ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلْحَاجِّ فِي مُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَاجَّ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي مُزْدَلِفَةَ جَمْعًا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، لأَِنَّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا فَلاَ تَحْتَاجُ لِلإِْعْلاَمِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى إِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِهَذَا الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ جَمَاعَةٌ، فَلَوْ صَلاَّهُمَا مُنْفَرِدًا جَازَ وَلَكِنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهِ سُنَّةٌ.
وَلِلْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ عِنْدَهُمْ شُرُوطٌ هِيَ:
أ - الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ.
ب - تَقْدِيمُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ عَلَيْهِ.
ج - الزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ، وَالْوَقْتُ، فَالزَّمَانُ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَالْمَكَانُ مُزْدَلِفَةُ، وَالْوَقْتُ وَقْتُ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ، فَلاَ يَجُوزُ هَذَا الْجَمْعُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، وَلاَ فِي غَيْرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ.
فَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي عَرَفَاتٍ أَوْ فِي الطَّرِيقِ أَعَادَهُمَا، لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
__________
(1) حديث: " أنا ممن قدّم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 526) ، ومسلم (2 / 941) .

(37/96)


رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: دَفَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَل الشِّعْبَ فَبَال، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةُ فَقَال: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أَقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُل إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أَقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى وَلَمْ يُصَل بَيْنَهُمَا (1) .
قَال الشَّهَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: هَذَا فِيمَا إِذَا ذَهَبَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ طَرِيقِهَا، أَمَّا إِذَا ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ دَفَعَ الإِْمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَجَمَعَ الإِْمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ جَمْعَ تَأْخِيرٍ وَقَصَرُوا الْعِشَاءَ، إِلاَّ أَهْل الْمُزْدَلِفَةِ فَيُتِمُّونَهَا مَعَ جَمْعِهَا بِالْمَغْرِبِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ سُنَّةٌ إِنْ وَقَفَ مَعَ الإِْمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَقِفْ مَعَهُ بِأَنْ لَمْ يَقِفْ أَصْلاً، أَوْ وَقَفَ وَحْدَهُ فَلاَ يَجْمَعُ، لاَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلاَ بِغَيْرِهَا وَيُصَلِّي كُل صَلاَةٍ فِي مُخْتَارِهَا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ.
وَإِنْ عَجَزَ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مَعَ الإِْمَامِ عَنِ السَّيْرِ مَعَهُ، لِضَعْفِهِ أَوْ ضَعْفِ دَابَّتِهِ، فَيَجْمَعُ
__________
(1) حديث: " دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 523) .
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 176 - 179.

(37/97)


بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَغْيِبِ الشَّفَقِ الأَْحْمَرِ فِي مُزْدَلِفَةَ أَوْ قَبْلَهَا إِنْ كَانَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَنَفَرَ مِنْهَا مَعَ الإِْمَامِ وَتَأَخَّرَ عَنْهُ لِعُذْرٍ بِهِ (1) .
وَإِنْ قَدَّمَ الْعِشَاءَيْنِ عَلَى الشَّفَقِ الأَْحْمَرِ، أَوْ عَلَى النُّزُول بِمُزْدَلِفَةَ أَعَادَهُمَا نَدْبًا إِنْ صَلاَّهُمَا بَعْدَ الشَّفَقِ قَبْل وُصُولِهِ مُزْدَلِفَةَ، وَوُجُوبًا إِنْ قَدَّمَهُمَا عَلَى الشَّفَقِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ، لأَِنَّهَا بَاطِلَةٌ، لِصَلاَتِهَا قَبْل وَقْتِهَا، أَمَّا الْمَغْرِبُ فَيُعِيدُهَا نَدْبًا إِنْ بَقِيَ وَقْتُهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا صَلَّى فِي الْمُزْدَلِفَةِ فَلاَ يُعِيدُ، وَإِنَّمَا الإِْعَادَةُ عِنْدَهُ لِمَنْ صَلَّى قَبْل الْمُزْدَلِفَةِ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: السُّنَّةُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحُجَّاجُ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ وَيَجْمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَخْشَ الْحَاجُّ فَوَاتَ وَقْتِ الاِخْتِيَارِ لِلْعِشَاءِ، وَهُوَ ثُلُثُ اللَّيْل فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَنِصْفُهُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ.
وَجَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ لِلْحَاجِّ الْمُسَافِرِ دُونَ غَيْرِهِ، لأَِنَّ الْجَمْعَ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ السَّفَرِ لاَ بِسَبَبِ النُّسُكِ.
قَالُوا: وَالسُّنَّةُ إِذَا وَصَلُوا مُزْدَلِفَةَ أَنْ يُصَلُّوا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 180 - 181، والقوانين الفقهية ص 132.
(2) جواهر الإكليل 1 / 181.

(37/97)


قَبْل حَطِّ الرِّحَال وَيُنِيخُ كُل إِنْسَانٍ جَمَلَهُ وَيَعْقِلُهُ، ثُمَّ يُصَلُّونَ (1) ، لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ تَوَضَّأَ، ثُمَّ أَقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُل إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أَقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلاَّهَا وَلَمْ يُصَل بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
قَال الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ تَرَكَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَصَلَّى كُل وَاحِدٍ فِي وَقْتِهَا أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوْ جَمَعَ وَحْدَهُ لاَ مَعَ الإِْمَامِ، أَوْ صَلَّى إِحْدَاهُمَا مَعَ الإِْمَامِ وَالأُْخْرَى وَحْدَهُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، أَوْ صَلاَّهُمَا فِي عَرَفَاتٍ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ قَبْل الْمُزْدَلِفَةِ جَازَ، وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ.
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ أَقَامَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلاَ يُؤَذِّنُ لِلثَّانِيَةِ، وَيُؤَذِّنُ لِلأُْولَى فِي الأَْصَحِّ (2) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: السُّنَّةُ لِمَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ أَنْ
__________
(1) المجموع للنووي 8 / 133 - 134، ومغني المحتاج 1 / 498، وروضة الطالبين 3 / 98 - 100.
(2) المجموع للنووي 8 / 133 وما بعدها.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالمزدلفة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 891) .

(37/98)


لاَ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَصِل مُزْدَلِفَةَ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَيُقِيمَ لِكُل صَلاَةٍ إِقَامَةً لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: دَفَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَل فَبَال، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةُ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ مُزْدَلِفَةَ نَزَل، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُل إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَل بَيْنَهُمَا.
وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةِ الأُْولَى فَلاَ بَأْسَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَال: جَمَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ: صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلاَثًا وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ (1) ، وَإِنْ أَذَّنَ لِلأُْولَى وَأَقَامَ ثُمَّ أَقَامَ لِلثَّانِيَةِ فَحَسَنٌ، فَإِنَّهُ يُرْوَى فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْفَوَائِتِ وَالْمَجْمُوعَاتِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالَّذِي اخْتَارَ الْخِرَقِيُّ إِقَامَةً لِكُل صَلاَةٍ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ آخِرُ
__________
(1) حديث: " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء. . . ". أخرجه مسلم (2 / 938) .

(37/98)


قَوْلَيْ أَحْمَدَ، لأَِنَّهُ رِوَايَةُ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ هُوَ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِهِمَا عَلَى إِقَامَةٍ لِكُل صَلاَةٍ، وَاتَّفَقَ أُسَامَةُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الصَّلاَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ (1) .

الْوُقُوفُ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَالدُّعَاءُ فِيهِ
8 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ بَعْدَ بَيَاتِهِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ الْفَجْرِ مُغَلِّسًا فِي أَوَّل وَقْتِهَا (2) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ: حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حَيْنَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ فَلَمْ يَزَل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ (3) .
ثُمَّ يَأْتِي الْحَاجُّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ (جَبَل قُزَحَ) وَيَقِفُ عِنْدَهُ فَيَدْعُو اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَحْمَدُهُ
__________
(1) المغني 3 / 419 ط. الرياض.
(2) جواهر الإكليل 1 / 181، والمجموع للنووي 8 / 123، 141، 142، ومغني المحتاج 1 / 499 - 501، والمغني لابن قدامة 3 / 420 - 421، وكشاف القناع 2 / 496 - 498.
(3) حديث جابر. . . سبق تخريجه ف (7) .

(37/99)


وَيُكَبِّرُهُ وَيُهَلِّلُهُ، وَيُوَحِّدُهُ، وَيُكْثِرُ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَمِنَ الذِّكْرِ، لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَرَقِيَ عَلَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ وَهَلَّلَهُ وَكَبَّرَهُ وَوَحَّدَهُ (1) .
وَيَدْعُو اللَّهَ بِمَا أَحَبَّ، وَيَخْتَارُ الدَّعَوَاتِ الْجَامِعَةَ وَالأُْمُورَ الْمُبْهَمَةَ وَيُكَرِّرُ دَعَوَاتِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا وَقَفْتَنَا فِيهِ وَأَرَيْتَنَا إِيَّاهُ فَوَفِّقْنَا بِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِكَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
وَيُكْثِرُ مِنْ قَوْلِهِ: " اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "، ثُمَّ لاَ يَزَال يَدْعُو مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا (3) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَمْ يَزَل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا (4) .
__________
(1) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المعشر الحرام فرقى عليه. . . ". أخرجه مسلم (2 / 891) .
(2) سورة البقرة / 198 - 199.
(3) انظر المراجع السابقة كلها.
(4) حديث جابر. . . سبق تخريجه ف (7) .

(37/99)


9 - وَلَوْ فَاتَتْ سُنَّةُ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لَمْ تُجْبَرْ بِدَمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَسَائِرِ الْهَيْئَاتِ وَالسُّنَنِ، وَلاَ إِثْمَ عَلَى الْحَاجِّ بِهَذَا التَّرْكِ، وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ.
وَلاَ تَحْصُل هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِالْوُقُوفِ فِيهِ قَبْل صَلاَةِ الصُّبْحِ، لأَِنَّهُ خِلاَفُ السُّنَّةِ.

10 - وَالسُّنَّةُ الدَّفْعُ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِلَى مِنًى قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ السَّيْرِ مِنْهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ (1) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ (2) .
قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ، وَأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ فَأَفَاضَ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ (3) وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخَّرَ فِي الْوَقْتِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ، فَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنِّي أَرَاهُ يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ فَدَفَعَ وَدَفَعَ النَّاسُ مَعَهُ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 499 - 501، والمجموع 8 / 123، 142، 151، وجواهر الإكليل 1 / 181، والقوانين الفقهية ص 132، والمغني 3 / 423.
(2) سبق تخريجه ف (7) .
(3) حديث: " إن المشركين كانوا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 531) .
(4) الأثر: " إن عبد الله بن الزبير أخر في الوقت حتى كادت الشمس أن تطلع. . . ". أورده ابن قدامة في المغني (3 / 423) ولم يعزه لأي مصدر ولم نهتد لمن أخرجه.

(37/100)


وَقَال النَّوَوِيُّ وَقَدِ اسْتَبْدَل النَّاسُ بِالْوُقُوفِ عَلَى قُزَحَ " الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " الْوُقُوفَ عَلَى بِنَاءٍ مُسْتَحْدَثٍ فِي وَسَطِ الْمُزْدَلِفَةِ، وَفِي حُصُول أَصْل هَذِهِ السُّنَّةِ بِالْوُقُوفِ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَحْدَثِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ مِمَّا سِوَى قُزَحَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لاَ يَحْصُل بِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (1) ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ بَل الصَّوَابُ أَنَّهَا تَحْصُل، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ الْمُجَرَّدِ، وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ (2) ، وَجَمْعٌ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ وَالْمُرَادُ: وَقَفْتُ عَلَى قُزَحَ (3) ، وَجَمِيعُ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ لَكِنَّ أَفَضْلَهَا قُزَحُ، لِمَا أَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ وَأَفْضَلُهَا مَوْقِفُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ
__________
(1) حديث: " لتأخذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943) .
(2) حديث جابر: " نحرت ههنا ومنى كلها منحر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 893) .
(3) المجموع 8 / 141 - 142، وانظر المغني 3 / 423.

(37/100)


وَاجِبٌ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ لاَ سُنَّةٌ وَالْبَيْتُوتَةُ بِمُزْدَلِفَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ إِلَى الْفَجْرِ لاَ وَاجِبَةٌ (1) .
وَرُكْنُ الْوُقُوفِ الْكَيْنُونَةُ فِي مُزْدَلِفَةَ سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْل نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْل غَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ مَحْمُولاً وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ، لِحُصُولِهِ كَائِنًا بِهَا، عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَمَكَانُ الْوُقُوفِ أَجْزَاءُ الْمُزْدَلِفَةِ أَيُّ جُزْءٍ كَانَ وَلَهُ أَنْ يَنْزِل فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِل فِي وَادِي مُحَسِّرٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ وَادِيَ مُحَسِّرٍ (2) ، وَلَوْ وَقَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَالأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ خَلْفَ الإِْمَامِ عَلَى الْجَبَل الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الإِْمَامُ وَهُوَ جَبَل قُزَحَ. وَأَمَّا زَمَانُ الْوُقُوفِ فَمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمَنْ حَصَل بِمُزْدَلِفَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ، سَوَاءٌ بَاتَ بِهَا أَوْ لاَ، فَإِذَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ عَنْ وَقْتِهِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَدْرُ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا الْوُقُوفِ عِنْدَهُمْ سَاعَةٌ وَلَوْ لَطِيفَةً وَقَدْرُ السُّنَّةِ امْتِدَادُ الْوُقُوفِ إِلَى الإِْسْفَارِ جِدًّا (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 178.
(2) حديث: " إلا وادي محسر ". تقدم تخريجه في فقرة (5) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 236، والفتاوى الهندية 1 / 230 - 231، وحاشية ابن عابدين 2 / 178 - 189.

(37/101)


وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ لاَ مِنْ سُنَنِهِ، قَال الأُْبِّيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْل: وَالسُّنِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تُفْهَمُ مِنْ قَوَاعِدِ عِيَاضٍ (1) .

لَقْطُ حَصَيَاتِ الرَّجْمِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَخْذُ حَصَى الْجِمَارِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ (2) ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: الْقُطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ. . . (3) " الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى مِنْ مُزْدَلِفَةَ (4) .
وَلأَِنَّ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَبَلاً فِي أَحْجَارِهِ رَخَاوَةٌ، وَلأَِنَّ مِنَ السُّنَّةِ إِذَا أَتَى الْحَاجُّ إِلَى مِنًى أَنْ لاَ يُعَرِّجَ عَلَى غَيْرِ الرَّمْيِ، فَسُنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى مِنْ مُزْدَلِفَةَ حَتَّى لاَ يَشْغَلَهُ عَنْهُ، لأَِنَّ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 181.
(2) بدائع الصنائع 2 / 156، وجواهر الإكليل 1 / 181، والمجموع للنووي 8 / 137، ومغني المحتاج 1 / 500، والمغني لابن قدامة 3 / 424.
(3) حديث: " التقط لي حصى ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1008) ، والحاكم في المستدرك (1 / 466) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ".
(4) حديث: " أمر ابن عباس أن يأخذ الحصى. . . ". أورده الكاساني في بدائع الصنائع (2 / 156) ولم نهتد لمن أخرجه.

(37/101)


الرَّمْيَةَ تَحِيَّةٌ لَهُ كَمَا أَنَّ الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَعَلَيْهِ فِعْل الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيِ الإِْجْمَاعِ، وَإِنْ رَمَى بِحَصَاةٍ أَخَذَهَا مِنَ الطَّرِيقِ، أَوْ مِنَ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ.
وَالإِْسَاءَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالأَْخَذِ مِنَ الْجَمْرَةِ، أَمَّا الأَْخْذُ مِنَ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ مِنًى فَلَيْسَ فِيهَا إِسَاءَةٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لَقْطُ الْحَصَيَاتِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ أَيِّ مَحَلٍّ إِلاَّ الْعَقَبَةَ فَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ (2) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لَقْطَهَا مِنَ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ كَانَ وَقَالُوا: يُكْرَهُ لَقْطُهَا مِنَ الْحِل لِعُدُولِهِ عَنِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ، وَلَقْطُهَا مِنْ كُل مَكَانٍ نَجِسٍ وَمِمَّا رُمِيَ بِهِ (3) .
وَقَال أَحْمَدُ: خُذِ الْحَصَى مِنْ حَيْثُ شِئْتَ (4) .
__________
(1) انظر المراجع المذكورة.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 46، والشرح الصغير 2 / 59.
(3) مغني المحتاج 1 / 500.
(4) المغني 3 / 425.

(37/102)


مُزَفَّتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُزَفَّتُ - بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَالْفَاءِ - فِي اللُّغَةِ: الْوِعَاءُ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ - بِكَسْرِ الزَّايِ - وَهُوَ الْقَارُ.
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَنْتَمُ:
2 - الْحَنْتَمُ فِي اللُّغَةِ: جِرَارٌ مَدْهُونَةٌ خُضْرٌ كَانَتْ تُحْمَل الْخَمْرُ فِيهَا إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا فَقِيل لِلْخَزَفِ كُلِّهِ حَنْتَمٌ، وَاحِدَتُهَا حَنْتَمَةٌ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال الْعَدَوِيُّ: الْحَنْتَمُ مَا طُلِيَ مِنَ الْفَخَّارِ بِالزُّجَاجِ كَالأَْصْحُنِ الْخُضْرِ الْمَعْرُوفَةِ (3) .
__________
(1) القاموس المحيط وقواعد الفقه للبركتي، وكفاية الطالب الرباني 2 / 390 ط. دار المعرفة.
(2) النهاية لابن الأثير، والمغرب.
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 390.

(37/102)


وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَنْتَمَ وَالْمُزَفَّتَ يَشْتَرِكَانِ فِي سُرْعَةِ اشْتِدَادِ الأَْنْبِذَةِ فِيهِمَا (1) .

النَّقِيرُ:
3 - النَّقِيرُ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي اللُّغَةِ: خَشَبَةٌ تُنْقَرُ وَيُنْبَذُ فِيهَا (2) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، قَال الْعَدَوِيُّ: النَّقِيرُ هُوَ جِذْعُ النَّخِيل يُنْقَرُ وَيُجْعَل ظَرْفًا كَالْقَصْعَةِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ هُوَ إِسْرَاعُ الإِْسْكَارِ إِلَى مَا انْتُبِذَ فِيهِمَا (4) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
الاِنْتِبَاذُ فِي الْمُزَفَّتِ
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الاِنْتِبَاذُ - وَهُوَ أَنْ يُجْعَل فِي الْمَاءِ حَبَّاتٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لِيَحْلُوَ وَيُشْرَبَ (5) - فِي الْمُزَفَّتِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْوْعِيَةِ وَيَجُوزُ الشُّرْبُ مِنْهَا مَا لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال كُنْتُ
__________
(1) النهاية لابن الأثير 1 / 448، والعناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 166 ط. الأميرية.
(2) المصباح المنير، والنهاية لابن الأثير 5 / 104.
(3) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 390 ط. دار المعرفة.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 185.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 185.

(37/103)


نَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَْشْرِبَةِ أَنْ لاَ تَشْرَبُوا إِلاَّ فِي ظُرُوفِ الأُْدُمِ فَاشْرَبُوا فِي كُل وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا (1) ". وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ النَّهْيِ وَلاَ حُكْمَ لِلْمَنْسُوخِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ (3) كَانَ الاِنْتِبَاذُ فِي هَذِهِ الأَْوْعِيَةِ (الْمُزَفَّتِ وَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ) مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا فِيهَا وَلاَ نَعْلَمُ بِهِ لِكَثَافَتِهَا فَتُتْلِفُ مَالِيَّتَهُ، وَرُبَّمَا شَرِبَهُ الإِْنْسَانُ ظَانًّا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا فَيَصِيرُ شَارِبًا لِلْمُسْكِرِ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِإِبَاحَةِ الْمُسْكِرِ فَلَمَّا طَال الزَّمَانُ وَاشْتُهِرَ تَحْرِيمُ الْمُسْكِرِ وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نَفُوسِهِمْ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُبِيحَ لَهُمُ الاِنْتِبَاذُ فِي كُل وِعَاءٍ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مُسْكِرًا، وَهَذَا صَرِيحُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةُ الْمَذْكُورِ (4) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: النَّهْيُ عَنِ الأَْوْعِيَةِ إِنَّمَا كَانَ قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ فَلَمَّا قَالُوا: لاَ نَجِدُ بُدًّا مِنَ الاِنْتِبَاذِ فِي الأَْوْعِيَةِ قَال: " انْتَبِذُوا وَكُل مُسْكِرٍ
__________
(1) حديث بريدة: " كنت نهيتكم عن الأشربة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1585) .
(2) المجموع 2 / 566 نشر المكتبة السلفية، والمغني لابن قدامة 8 / 318 نشر مكتبة الرياض الحديثة.
(3) حديث أبي هريرة: " إنه نهى عن المزفت. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1537 - 1538) .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 159.

(37/103)


حَرَامٌ (1) وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُل شَيْءٍ نُهِيَ عَنْهُ بِمَعْنَى النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ، كَالنَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ (2) ، فَلَمَّا قَالُوا لاَ بُدَّ لَنَا مِنْهَا، قَال: أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ (3) ".
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى كَرَاهَةِ الاِنْتِبَاذِ فِي الْمُزَفَّتِ (4) .
قَال الْعَدَوِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَل مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ بِكَرَاهَةِ الاِنْتِبَاذِ فِي الْمُزَفَّتِ، وَالنَّهْيُ فِي هَاتَيْنِ: أَعْنِي الدُّبَّاءَ وَالْمُزَفَّتَ وَلَوْ كَانَ الْمَنْبُوذُ شَيْئًا وَاحِدًا، وَأَمَّا تَنْبِيذُ شَيْئَيْنِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَوْ فِي نَحْوِ الصِّينِيِّ، وَمَحَل نَهْيِ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ احْتَمَل الإِْسْكَارَ لاَ أَنْ قُطِعَ بِهِ أَوْ بِعَدَمِهِ بِأَنْ قَصُرَ الزَّمَنُ وَإِلاَّ حَرُمَ فِي الأَْوَّل وَجَازَ فِي الثَّانِي (5) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُزَفَّتَ إِنِ انْتُبِذَ فِيهِ قَبْل
__________
(1) حديث: " انتبذوا وكل مسكر حرام ". أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " كما في كنز العمال (5 / 530، 531) وأخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (8 / 311) بلفظ: " فانبذوا ولا أحل مسكرا ".
(2) نيل الأوطار للشوكاني 9 / 71 ط. دار الجيل.
(3) حديث: " اعطوا الطريق حقه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 8، ومسلم 3 / 1675) .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 186، وفتح الباري 10 / 58 ط. السلفية، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 390، المغني لابن قدامة 8 / 318.
(5) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 390.

(37/104)


اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَمْرِ فَلاَ إِشْكَال فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ، وَإِنِ اسْتُعْمِل فِيهِ الْخَمْرُ ثُمَّ انْتُبِذَ فِيهِ، يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لاَ يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتُشْرَبَ الْخَمْرُ فِيهِ بِخِلاَفِ الْعَتِيقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَل ثَلاَثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُل مَرَّةٍ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِل غَسْل مَا لاَ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، وَقِيل عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُمْلأَُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إِذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ (1) .
وَقَال شَيْخُ الإِْسْلاَمِ أَبُو بَكْرٍ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ (2) : هَذَا مِثْل ظَرْفِ الْخَمْرِ بَعْدَمَا صُبَّ مِنْهُ الْخَمْرُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُصَبَّ مِنْهُ الْخَمْرَ حَتَّى صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا مَا حَال الظَّرْفِ؟ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ هَذَا فِي الأَْصْل (3) .
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُول: مَا يُوَارِي الإِْنَاءَ مِنَ الْخَل لاَ شَكَّ أَنَّهُ يَطْهُرُ، لأَِنَّ مَا يُوَارِي الْخَل مِنَ الإِْنَاءِ فِيهِ أَجْزَاءُ الْخَل وَأَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَمَّا أَعْلَى الْحَبِّ الَّذِي انْتُقِصَ مِنَ الْخَمْرِ قَبْل صَيْرُورَتِهِ خَلًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا، لأَِنَّ مَا يُدَاخِل أَجْزَاءَ الْحَبِّ مِنَ الْخَمْرِ لَمْ يَصِرْ خَلًّا بَل يَبْقَى
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 48، وانظر البحر الرائق 8 / 249.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 48.
(3) البناية 9 / 556.

(37/104)


فِيهِ كَذَلِكَ خَمْرًا فَيَكُونُ نَجِسًا فَيَجِبُ أَنْ يُغْسَل أَعْلاَهُ بِالْخَل حَتَّى يَطْهُرَ الْكُل، لأَِنَّ غَسْل النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِمَا سِوَى الْخَمْرِ مِنَ الْمَائِعَاتِ الَّتِي تُزِيل النَّجَاسَةَ جَائِزٌ عِنْدَنَا - أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فَإِذَا غَسَل أَعْلَى الْحَبِّ بِالْخَل صَارَ مَا دَخَل فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ الْحَبُّ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُفْعَل هَكَذَا حَتَّى مُلِئَ مِنَ الْعَصِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْجُسُ الْعَصِيرُ وَلاَ يَحِل شُرْبُهُ، لأَِنَّهُ عَصِيرٌ خَالَطَهُ خَمْرٌ إِلاَّ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا (1) .
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 6 / 49، وانظر البناية 9 / 556 - 557.

(37/105)


مُزَكِّي

التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُزَكِّي: اسْمُ فَاعِلٍ لِلْفِعْل: زَكَّى، وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ وَبِالْهَمْزَةِ: يُقَال زَكَّى فُلاَنٌ الشَّاهِدَ تَزْكِيَةً، فَهُوَ مُزَكٍّ: نِسْبَةً إِلَى الزَّكَاءِ، وَهُوَ الصَّلاَةُ وَزَكَّى عَنْ مَالِهِ: فَهُوَ مُزَكٍّ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهُ، وَزَكَا الرَّجُل - بِالتَّخْفِيفِ - يَزْكُو: صَلُحَ، وَطَهُرَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اسْمٌ يُطْلِقُهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْ يَخْبُرُ بِبَوَاطِنِ أَحْوَال الشَّاهِدِ وَيَعْلَمُ مِنْهُ مَا لاَ يَعْلَمُ عَنْهُ غَيْرُهُ لِطُول عِشْرَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، وَيَشْهَدُ بِمَا يَعْلَمُ عَنْهُ مِنْ تَعْدِيلٍ أَوْ جَرْحٍ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَبْعَثُهُمُ الْقَاضِي لِبَحْثِ أَحْوَال الشُّهُودِ، لأَِنَّهُمْ سَبَبُ التَّزْكِيَةِ، وَيُسَمَّى أَصْحَابُ الْمَسَائِل (2) .
__________
(1) المصباح المنير مادة زكا.
(2) مغني المحتاج 4 / 403 وما بعده، والمحلي على القليوبي 4 / 306، وتحفة المحتاج 10 / 156، والمغني 9 / 63 - 64.

(37/105)


الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُزَكِّي:
اتِّخَاذُ الْقَاضِي الْمُزَكِّينَ
2 - قَال الشَّافِعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَاكِمِ مُزَكُّونَ، وَهُمْ: مَنْ يَعْرِفُونَ الشُّهُودَ، وَيُخْبِرُونَ بِبَوَاطِنِ أَحْوَالِهِمْ، فَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ لِيُبَيِّنُوا حَال الشُّهُودِ وَأَصْحَابِ الْمَسَائِل وَهُمُ: الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ الْحَاكِمُ إِلَى الْمُزَكِّينَ لِيَبْحَثُوا عَنْ أَحْوَال الشُّهُودِ وَيَسْأَلُوا عَنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَحْوَالَهُمْ، وَرُبَّمَا يُفَسِّرُ أَصْحَابُ الْمَسَائِل بِالْمُزَكِّينَ (1)
شُرُوطُ الْمُزَكِّي
3 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُزَكِّي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا حُرًّا ذَكَرًا عَدْلاً وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُزَكَّى عَدَاوَةٌ فِي جَرْحٍ، وَعَدَمُ بُنُوَّةٍ أَوْ أُبُوَّةٍ فِي تَعْدِيلٍ.
عَارِفًا الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيل، وَأَسْبَابَهَا، لِئَلاَّ يَجْرَحَ عَدْلاً، وَيُزَكِّيَ فَاسِقًا، خَبِيرًا بِحَقِيقَةِ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ لِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ قَدِيمَةٍ (2) .

عَدَدُ مَنْ يُقْبَل فِي التَّزْكِيَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ شُهُودِ التَّزْكِيَةِ
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 403، وشرح المحلي 4 / 306 وما بعدها.
(2) تحفة المحتاج 10 / 159، والمحلي وحاشية القليوبي 4 / 317.

(37/106)


الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا عَدْلاَنِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ (1) .

رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ عَنْ تَعْدِيل الشُّهُودِ
5 - إِذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عَنْ تَعْدِيل شُهُودِ قَتْلٍ أَوْ حَدٍّ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، لأَِنَّهُمْ أَلْجَئُوا الْقَاضِيَ إِلَى الْحُكْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْقَتْل، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْعُ الضَّمَانِ لأَِنَّهُمْ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِل، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ (2) ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَغْرَمُ الْمُزَكِّي شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ وَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ إِنْ رَجَعَ عَنْ تَعْدِيل شُهُودِ قَتْل عَمْدٍ أَوْ زِنَى مُحْصَنٍ بَعْدَ قَتْلِهِ بِالْقِصَاصِ، أَوِ الرَّجْمِ لأَِنَّهُمْ لَمْ يُتْلِفَا مَالاً فَيَغْرَمَاهُ، وَلاَ نَفْسًا فَيُطَالَبَا دِيَةً أَوْ قِصَاصًا (3) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلِحِ. (تَزْكِيَةٌ ف 19، وَقَضَاءٌ ف 46) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 474، والشرح الصغير 4 / 259، وتبصرة الحكام 1 / 205، وحاشية الجمل 5 / 356، والمغني 9 / 67.
(2) مغني المحتاج 4 / 457، المنهج على الجمل 5 / 405، وابن عابدين 4 / 398.
(3) جواهر الإكليل 2 / 245.

(37/106)


مِزْمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِزْمَارُ بِكَسْرِ الْمِيمِ لُغَةً: آلَةُ الزَّمْرِ، وَالزِّمَارَةُ حِرْفَةُ الزَّمَّارِ، وَالْمَزْمُورُ مَا يُتَرَنَّمُ بِهِ مِنَ الأَْنَاشِيدِ وَالْجَمْعُ مَزَامِيرُ، وَمَزَامِيرُ دَاوُدَ: مَا كَانَ يَتَرَنَّمُ بِهِ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنَ الزَّبُورِ وَضُرُوبِ الدُّعَاءِ (1) .
وَالْمِزْمَارُ اصْطِلاَحًا: هُوَ الآْلَةُ الَّتِي يُزَمَّرُ فِيهَا وَهُوَ مِنَ الْقَصَبِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَعَازِفُ:
2 - الْمَعَازِفُ لُغَةً: الْمَلاَهِي كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ، الْوَاحِدُ: عَزْفٌ أَوْ مِعْزَفٌ كَمِنْبَرِ وَمِعْزَفَةٌ كَمِكْنَسَةِ وَالْعَازِفُ: اللاَّعِبُ بِهَا وَالْمُغَنِّي.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالْمَعَازِفُ أَعَمُّ مِنَ الْمِزْمَارِ.
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وإتحاف السادة المتقين 6 / 502.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) القاموس المحيط، وقواعد الفقه.

(37/107)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَال آلاَتِ اللَّهْوِ كَالْمِزْمَارِ وَالْعُودِ وَغَيْرِهِمَا مُحَرَّمٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (1) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ اسْتِعْمَال الْمِزْمَارِ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكِيَارَاتِ وَالْمَعَازِفَ (2) ".

حُكْمُ الاِسْتِمَاعِ لِلْمِزْمَارِ وَنَحْوِهِ مِنَ الآْلاَتِ النَّفْخِيَّةِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ جِوَازِ الاِسْتِمَاعِ لِلْمِزْمَارِ وَغَيْرِهِ مِنْ آلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ (3) .
جَاءَ فِي الزَّوَاجِرِ قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا الْمَزَامِيرُ وَالأَْوْتَارُ وَالْكُوبَةُ فَلاَ يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِ سَمَاعِهَا وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ مَنْ يُبِيحُ ذَلِكَ وَكَيْفَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 198 و 5 / 222 - 223، وحاشية الدسوقي 4 / 18، 336، والقليوبي على شرح المنهاج 2 / 158، 3 / 33 و4 / 187، والمغني 4 / 322، ومطالب أولي النهى 5 / 253.
(2) حديث: " إن الله عز وجل بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق. . ". أخرجه أحمد في " المسند " (5 / 257) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5 / 69) : " ضعيف ".
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 222 - 223، والفتاوى الهندية 5 / 352، والمغني 9 / 173.

(37/107)


لاَ يَحْرُمُ وَهُوَ شِعَارُ أَهْل الْخُمُورِ وَالْفُسُوقِ وَمُهَيِّجُ الشَّهَوَاتِ وَالْفَسَادِ وَالْمُجُونِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُشَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَلاَ فِي تَفْسِيقِ فَاعِلِهِ وَتَأْثِيمِهِ (1) .
(ر: اسْتِمَاعٌ ف 29)

حُكْمُ بَيْعِ الْمِزْمَارِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمِزْمَارِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْمَعَازِفِ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (مَعَازِفُ) .

حُكْمُ تَعَلُّمِ النَّفْخِ فِي الْمِزْمَارِ
6 - لاَ يَجُوزُ تَعَلُّمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ كَتَعَلُّمِ النَّفْخِ فِي الْمِزْمَارِ، وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى تَعْلِيمِهَا، حَرَامٌ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (مَعَازِفُ) .

حُكْمُ صِنَاعَةِ الْمِزْمَارِ وَشَهَادَةِ صَانِعِهِ
7 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ مُحَرَّمَةً كَصَانِعِ الْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ فَلاَ شَهَادَةَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ يَكْثُرُ فِيهَا الرِّبَا كَالصَّائِغِ وَالصَّيْرَفِيِّ وَلَمْ يَتَوَقَّ ذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ (3) .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي 2 / 193.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 30 - 31 وروضة الطالبين 10 / 225، ومطالب أولي النهى 2 / 499.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 170.

(37/108)


سَرِقَةُ الْمِزْمَارِ وَكَسْرِهِ لِمُسْلِمٍ
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْمِزْمَارِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْمِزْمَارِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ إِلاَّ أَنْ تُسَاوِيَ بَعْدَ كَسْرِهَا نِصَابًا (1)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (مَعَازِفَ) .

شَهَادَةُ الْمُسْتَمِعِ لِلْمِزْمَارِ
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسْتَمِعِ لِلْمِزْمَارِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلِحِ (مَعَازِفُ) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 432، بدائع الصنائع 7 / 67 - 69، حاشية الدسوقي 4 / 336، ومغني المحتاج 4 / 173، وكشاف القناع 6 / 78، 130.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 382 - 384، وبدائع الصنائع 6 / 269، وجواهر الإكليل 2 / 233، والقوانين الفقهية ص 313، وروضة الطالبين 3 / 252، وكفاية الأخيار ص 172، والمغني لابن قدامة 9 / 173.

(37/108)


مُسَابِقَةٌ

انْظُرْ: سِبَاقٌ

مَسَاجِدُ

انْظُرْ: مَسْجِدٌ

(37/109)