الموسوعة الفقهية الكويتية

مُسَارَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسَارَقَةُ - بِوَزْنِ مُفَاعَلَةٍ: مَصْدَرٌ لِفِعْل سَارَقَ يُسَارِقُ مُسَارَقَةً، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ النَّظَرُ مُسْتَخْفِيًا وَالسَّمْعُ كَذَلِكَ: إِذَا طَلَبَ غَفْلَةً لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ أَوْ يَتَسَمَّعَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

أَحْكَامُ الْمُسَارَقَةِ:
أ - مُسَارَقَةُ النَّظَرِ:
2 - الأَْصْل فِي مُسَارَقَةِ النَّظَرِ إِلَى الآْخَرِينَ الْحُرْمَةُ؛ لأَِنَّهَا تَجَسُّسٌ وَالتَّجَسُّسُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (2)) ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَاخْتِلاَسِ النَّظَرِ فِي الْمَنَازِل فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآْنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) "
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(2) سورة الحجرات / 12.
(3) حديث: " من استمع إلى حديث قوم وهم له. . . ". رواه البخاري (فتح الباري 12 / 427) .

(37/109)


، وَلِخَبَرِ: لَوِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ، حَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ (1) ".
و (مَنْ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْعُقَلاَءِ فَتَشْمَل الرَّجُل وَالْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى، لأَِنَّ الرَّمْيَ الْوَارِدَ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ لِلتَّكْلِيفِ، بَل لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِوَازِ الرَّمْيِ عَلَى مُسَارِقِ النَّظَرِ فِي الْبُيُوتِ
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الرَّمْيُ عَلَى النَّاظِرِ وَيَضْمَنُ إِنْ فَقَأَ عَيْنَهُ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ.
جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُهُ ضَمِنَ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالأَْخَفِّ، وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلاَفٌ (3) ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِدُونِ فَقْءِ الْعَيْنِ فَفَقَأَهَا ضَمِنَ (4) .
__________
(1) حديث: " لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 216) واللفظ له، ومسلم (3 / 1699) .
(2) مغني المحتاج 4 / 198، والمغني 8 / 335.
(3) تبصرة الحكام 2 / 304.
(4) ابن عابدين 5 / 351.

(37/110)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِنْ نَظَرَهُ فِي دَارِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِمِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ ثُقْبٍ عَمْدًا فَرَمَاهُ بِخَفِيفٍ كَحَصَاةِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ أَصَابَ قُرْبَ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ فَهَدَرٌ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي جِوَازِ الرَّمْيِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ:
1 - أَنْ يَنْظُرَ فِي كُوَّةٍ أَوْ ثُقْبٍ، فَإِنْ نَظَرَ مِنْ بَابٍ مَفْتُوحٍ فَلاَ يَرْمِيهِ لِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِهِ.
2 - وَأَنْ تَكُونَ الْكُوَّةُ صَغِيرَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً أَوْ شُبَّاكًا وَاسِعًا فَهِيَ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ رَمْيُهُ لِتَقْصِيرِ صَاحِبِ الدَّارِ، إِلاَّ أَنْ يُنْذِرَهُ فَلاَ يَرْتَدِعَ فَيَرْمِيَهُ.
وَحُكْمُ النَّظَرِ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ، وَالْمُؤَذِّنِ مِنَ الْمَنَارَةِ كَالْكُوَّةِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الأَْصَحِّ إِذْ لاَ تَفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ (1) .
- أَنْ لاَ يَكُونَ النَّاظِرُ أَحَدَ أُصُولِهِ الَّذِينَ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمْ وَلاَ حَدَّ قَذْفٍ، فَلاَ يَجُوزُ رَمْيُهُ فِي هَذِهِ الْحَال لأَِنَّ الرَّمْيَ نَوْعٌ مِنَ الْحَدِّ فَإِنْ رَمَاهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ ضَمِنَ.
4 - أَنْ لاَ يَكُونَ النَّظَرُ مُبَاحًا لَهُ لِخِطْبَةٍ بِشَرْطِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
5 - أَنْ لاَ يَكُونَ لِلنَّاظِرِ فِي الْمَوْضِعِ مَحْرَمٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 198، وتحفة المحتاج 9 / 189، والمغني 8 / 335.

(37/110)


لَهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ رَمْيُهُ وَضَمِنَ إِنْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جَرَحَهُ؛ لأَِنَّ لَهُ فِي النَّظَرِ شُبْهَةً.
قِيل: وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ اسْتِتَارِ الْحُرُمِ، فَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ بِالثِّيَابِ أَوْ فِي مُنْعَطَفٍ لاَ يَرَاهُنَّ النَّاظِرُ فَلاَ يَجُوزُ رَمْيُهُ لِعَدَمِ اطِّلاَعِهِ عَلَيْهِنَّ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِعُمُومِ الأَْخْبَارِ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ النَّظَرِ.
وَقِيل: يُشْتَرَطُ إِنْذَارُهُ قَبْل رَمْيِهِ، وَالأَْصَحُّ عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ (1) .
6 - أَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ النَّظَرَ كَأَنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ وَقَعَ نَظَرُهُ اتِّفَاقًا فَإِنَّهُ لاَ يَرْمِيهِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ صَاحِبُ الدَّارِ، وَيَضْمَنُ إِنْ رَمَاهُ فَأَعْمَاهُ أَوْ جَرَحَهُ فَمَاتَ بِسِرَايَةٍ.
فَإِنْ رَمَاهُ وَادَّعَى الْمَرْمِيُّ عَدَمَ الْقَصْدِ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الرَّامِي، لأَِنَّ الاِطِّلاَعَ وَقَعَ وَالْقَصْدُ بَاطِنٌ لاَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ.
7 - أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ عَنِ النَّظَرِ قَبْل الرَّمْيِ.
فَلاَ يَجُوزُ الرَّمْيُ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ عَنِ الْمُسَارَقَةِ (2) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مِلْكًا لِلْمَنْظُورِ فَلِلْمُسْتَأْجَرِ رَمْيُ مَالِكِ الدَّارِ إِذَا سَارَقَهُ النَّظَرَ (3) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) مغني المحتاج 4 / 198، وتحفة المحتاج 9 / 189 - 190، والمغني 8 / 335 - 336.
(3) المصادر السابقة.

(37/111)


وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (تَجَسَّسٌ ف 13) .

ب - مُسَارَقَةُ النَّظَرِ مِمَّنْ يُرِيدُ الْخِطْبَةَ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَظَرِ الْخَاطِبِ لِمَنْ يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ لِمَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا، كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْمُرَادِ خِطْبَتُهَا أَوْ إِذْنِهَا أَوْ إِذْنِ وَلِيِّهَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَيَجُوزُ لِمَنْ يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا أَنْ يَنْظُرَ خِلْسَةً لإِِطْلاَقِ الأَْخْبَارِ وَاكْتِفَاءً بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَلِئَلاَّ تَتَزَيَّنَ فَيَفُوتَ غَرَضُهُ (1) ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ:
وَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا (2) ".

ج - مُسَارَقَةُ السَّمْعِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُسَارَقَةَ السَّمْعِ - وَهُوَ التَّنَصُّتُ عَلَى أَحَادِيثِ أُنَاسٍ بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ وَرِضَاهُمْ - مُحَرَّمٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ السَّارِقُ فِي الآْخِرَةِ لِحَدِيثِ: مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآْنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) ".
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 128، والمغني 6 / 552 - 553.
(2) حديث جابر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها ". رواه أبو داود (2 / 565) .
(3) سبق تخريجه فقرة (2) .

(37/111)


وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ رَمْيُهُ لِعَدَمِ وُرُودِ نَصٍّ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرَّمْيِ فِيهِ، وَلأَِنَّ السَّمْعَ لَيْسَ كَالْبَصَرِ فِي الاِطِّلاَعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ (1) .
(ر: اسْتِرَاقُ السَّمْعِ ف 4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 198.

(37/112)


مُسَاقَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسَاقَاةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ السَّقْيِ - بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ - وَهِيَ دَفْعُ النَّخِيل وَالْكُرُومِ إِلَى مَنْ يَعْمُرُهُ وَيَسْقِيهِ وَيَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِل سَهْمٌ (نَصِيبٌ) وَالْبَاقِي لِمَالِكِ النَّخِيل.
وَأَهْل الْعِرَاقِ يُسَمُّونَهَا الْمُعَامَلَةَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال الْجُرْجَانِيُّ: هِيَ دَفْعُ الشَّجَرِ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهُ بِجُزْءٍ مِنْ ثَمَرِهِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُزَارَعَةُ:
2 - الْمُزَارَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الزِّرَاعَةِ (3) ، وَتُسَمَّى مُخَابِرَةً مِنَ الْخَبَارِ - بِفَتْحِ الْخَاءِ - وَهِيَ الأَْرْضُ اللَّيِّنَةُ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) المغرب للمطرزي ص 207، ونيل الأوطار 5 / 273، وبدائع الصنائع 6 / 175.
(4) كشاف القناع 3 / 532.

(37/112)


وَالْمُزَارَعَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ الشَّجَرُ، وَمَوْضُوعَ الْمُزَارَعَةِ الْبَذْرُ وَالزَّرْعُ.

ب - الْمُنَاصَبَةُ:
3 - الْمُنَاصَبَةُ وَتُسَمَّى الْمُغَارَسَةَ (2) : وَهِيَ دَفْعُ أَرْضٍ بَيْضَاءَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَغْرِسَ فِيهَا وَتَكُونَ الأَْرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا (3) . أَوْ هِيَ كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ دَفْعُ الشَّجَرِ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَهُ ثَمَرٌ مَأْكُولٌ بِلاَ غَرْسٍ مَعَ أَرْضِهِ لِمَنْ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَل عَلَيْهِ حَتَّى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ ثَمَرِهِ أَوْ مِنْهُمَا.
وَتَخْتَلِفُ الْمُسَاقَاةُ عَنِ الْمُنَاصَبَةِ فِي أَنَّ الشَّجَرَ فِي الْمُسَاقَاةِ مَغْرُوسٌ، وَفِي الْمُنَاصَبَةِ غَيْرُ مَغْرُوسٍ (4) .

ج - الإِْجَارَةُ:
4 - الإِْجَارَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلأُْجْرَةِ، وَهِيَ كِرَاءُ الأَْجِيرِ (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ (6) .
__________
(1) الدر المختار مع حاشية رد المحتار 5 / 174.
(2) كشاف القناع 3 / 532، وشرح منتهى الإرادات 2 / 343.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 183.
(4) كشاف القناع 3 / 532.
(5) المغرب، ومقاييس اللغة.
(6) تبيين الحقائق للزيلعي 5 / 105.

(37/113)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الإِْجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ هِيَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ أَعَمُّ مِنَ الإِْجَارَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهَا جَائِزَةٌ شَرْعًا، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (1) ، وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، وَالشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ (4) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا (5) ".
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مِنْ حَيْثُ الشَّرِكَةُ فِي النَّمَاءِ فَقَطْ دُونَ الأَْصْل (6) .

الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ.
__________
(1) القوانين الفقهية 284، والكافي لابن عبد البر 2 / 106، والمدونة 4 / 2.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 343، وكشاف القناع 3 / 532.
(3) نهاية المحتاج 5 / 247.
(4) المبسوط 23 / 18، وحاشية ابن عابدين 5 / 174، 181.
(5) حديث ابن عمر: " أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبير اليهود. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 462) ، ومسلم (3 / 1186) واللفظ للبخاري.
(6) نهاية المحتاج 5 / 244، 245، والحاوي 9 / 164، وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 242، والقوانين الفقهية 269، وبدائع الصنائع 6 / 175، 185، والمبسوط 23 / 18، وحاشية ابن عابدين 5 / 181.

(37/113)


الْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا، وَلاَ يُكَارِهَا بِثُلُثٍ وَلاَ رُبُعٍ وَلاَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى (2) "، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي الْمُزَارَعَةِ غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ - وَهُوَ الْكِرَاءُ بِجُزْءٍ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ - وَارِدٌ فِي الْمُسَاقَاةِ أَيْضًا (3) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (4) "، وَغَرَرُ الْمُسَاقَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ وَعَدَمِهَا، وَبَيْنَ قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، فَكَانَ الْغَرَرُ أَعْظَمُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْل بِإِبْطَالِهَا أَحَقُّ (5) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ (6) "، وَالْمَعْنَى الَّذِي نَهَى لأَِجَلِهِ عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ مَوْجُودٌ فِي الْمُسَاقَاةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 185، والمبسوط 23 / 17، 18، وحاشية ابن عابدين 5 / 181.
(2) حديث: " من كانت له أرض فليزرعها. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1181) ، والنسائي (7 / 42) واللفظ للنسائي.
(3) بدائع الصنائع 6 / 175، والاختيار 3 / 75.
(4) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ". أخرجه مسلم (3 / 1153) .
(5) الحاوي للماوردي 9 / 163.
(6) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان ". أخرجه الدارقطني (3 / 47) وضعفه الذهبي في (ميزان الاعتدال) (4 / 306) وقال: (هذا منكر ورجله لا يعرف) .

(37/114)


لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارُ الْعَامِل بِبَعْضِ مَا يُخْرِجُ مِنْ عَمَلِهِ (1) .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ فِي الْمَعْقُول: أَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (2) .

صِفَّةُ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مِنْ حَيْثُ اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ ابْتِدَاءً فَوْرَ انْعِقَادِهَا مِنْ حَيْثُ لُزُومُ الْعَقْدِ أَوْ جَوَازُهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) ، وَالْمَالِكِيَّةُ (4) ، وَالشَّافِعِيَّةُ (5) ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (6) إِلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَإِنَّهُ لاَ خِيَرَةَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي فَسْخِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: -
أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي التَّنْفِيذِ.
- وَأَنَّهَا كَالإِْجَارَةِ مِنْ حَيْثُ وُرُودُ الْعَقْدِ عَلَى عَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ مَعَ بَقَائِهَا.
- وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً غَيْرَ لاَزِمَةٍ وَفَسَخَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 175، والاختيار 3 / 75.
(2) بدائع الصنائع 6 / 185.
(3) المبسوط 23 / 101، بدائع الصنائع 6 / 186.
(4) الشرح الكبير للدردير 3 / 545، 546.
(5) مغني المحتاج 2 / 329.
(6) كشاف القناع 3 / 537، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 564، 565، 569.

(37/114)


الْمَالِكُ الْعَقْدَ قَبْل ظُهُورِ الثِّمَارِ فَقَدْ فَاتَ عَمَل الْعَامِل وَذَهَبَ سُدًى (1) .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَهُوَ قَوْل السُّبْكِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فِي مُعَامَلَةِ أَهْل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَوَرَدَ فِيهِ: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا (3) "، وَلَوْ كَانَتْ عَقْدًا لاَزِمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَل الْخِيَرَةَ إِلَيْهِ فِي مُدَّةِ إِقْرَارِهِمْ، وَلَمَا جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى جُزْءٍ مِنْ نَمَاءِ الْمَال فَكَانَتْ جَائِزَةً غَيْرَ لاَزِمَةٍ كَالْمُضَارَبَةِ (4) .
وَتَفَرَّعَ عَلَى الْقَوْل بِاللُّزُومِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الاِسْتِقْلاَل بِفَسْخِ الْمُسَاقَاةِ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ وَلاَ الاِمْتِنَاعَ مِنَ التَّنْفِيذِ إِلاَّ بِرِضَا الطَّرَفِ الآْخَرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَالِكِ الشَّجَرِ إِخْرَاجُ الْعَامِل إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ (5) .
وَكَذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَوْل " بِعَدَمِ اللُّزُومِ "
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 329، وبدائع الصنائع 6 / 186، وحاشية الدسوقي 3 / 545، 546.
(2) مغني المحتاج 3 / 330، وكشاف القناع 3 / 537.
(3) حديث: " نقركم بها على ذلك ما شئنا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 252) ومسلم (3 / 1187 - 1188) واللفظ لمسلم.
(4) كشاف القناع 3 / 537.
(5) المبسوط 23 / 101، وبدائع الصنائع 6 / 187، ورد المحتار 5 / 181 ط. بولاق، والشرح الكبير للدردير 3 / 545 - 546.

(37/115)


أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخَهَا مَتَى شَاءَ وَلَوْ قَبْل الْعَمَل، وَأَنَّهَا لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى ضَرْبِ مُدَّةٍ يَحْصُل الْكَمَال فِيهَا، وَأَنَّهَا تَبْطُل بِمَا تَبْطُل بِهِ الْوَكَالَةُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْجُنُونِ وَالْحَجْرِ وَالْعَزْل (1) .

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
7 - الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْمُسَاقَاةِ تَحْقِيقُ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعُ الْحَاجَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الشَّجَرَ وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِ اسْتِثْمَارِهِ أَوْ لاَ يَتَفَرَّغُ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إِلَى الاِسْتِثْمَارِ وَيَتَفَرَّغُ لَهُ وَلاَ يَمْلِكُ الشَّجَرَ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِل (2) .

أَرْكَانُ الْمُسَاقَاةِ
8 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُ الْمُسَاقَاةِ خَمْسَةٌ وَهِيَ: الأَْوَّل: الْعَاقِدَانِ، وَالثَّانِي: الصِّيغَةُ، وَالثَّالِثُ: مُتَعَلِّقُ الْعَمَل (الشَّجَرُ) ، وَالرَّابِعُ: الثِّمَارُ، الْخَامِسُ: الْعَمَل، وَزَادَ ابْنُ رُشْدٍ: الْمُدَّةَ فَهِيَ سِتَّةٌ.
وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَارِدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، مَعَ مُلاَحَظَةِ أَنَّ الرُّكْنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 537، والشرح الكبير مع المغني 5 / 566.
(2) حاشية البجيرمي مع المنهج 3 / 175، والشرح الكبير في ذيل المغني لابن قدامة 5 / 556، ودرر الحكام 3 / 504.

(37/115)


وَالْبَوَاقِي أَطْرَافٌ (1) .
وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

الرُّكْنُ الأَْوَّل: الْعَاقِدَانِ:
وَيُرَادُ بِهِمَا الْعَامِل وَالْمَالِكُ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَامِل فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ عَاقِلاً أَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَجُوزُ مُزَارَعَةُ وَمُسَاقَاةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ (3) : تَصِحُّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ وَلِصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَسَفِيهٍ بِالْوِلاَيَةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ لِلاِحْتِيَاجِ إِلَى ذَلِكَ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الصِّيغَةُ:
10 - الْمُرَادُ بِهَا الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِكُل مَا يُنْبِئُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُسَاقَاةِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عُلِمَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي قَضِيَّةِ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ أَمِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْدِ (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 150، والمنهاج مع مغني المحتاج 2 / 323، وبداية المجتهد 2 / 319، والقوانين الفقهية 284 - 289، وحاشية الدسوقي 3 / 539 - 550، وكشاف القناع 3 / 532، 540، وشرح منتهى الإرادات 2 / 343 - 347، والاختيار 3 / 79 - 80، وبدائع الصنائع 6 / 176، 185، وما بعدها.
(2) مغني المحتاج 2 / 323، وبدائع الصنائع 6 / 185، وكشاف القناع 3 / 532.
(3) مغني المحتاج 2 / 323.
(4) روضة الطالبين 5 / 157.

(37/116)


الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمَحَل وَشُرُوطُهُ:
يُقْصَدُ بِالْمَحَل هُنَا: مُتَعَلَّقُ الْعَمَل فِي الْمُسَاقَاةِ، أَيْ مَا يَقُومُ الْعَامِل بِسَقْيِهِ وَرِعَايَتِهِ مُقَابِل جُزْءٍ مِنَ الْعُمُرِ.
وَيَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الْمُسَاقَاةِ شُرُوطًا هِيَ:

أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِجِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى جِوَازِهَا فِي النَّخْل وَاخْتَلَفُوا فِي جِوَازِهَا فِي: الْعِنَبِ، وَالشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرِ، وَكَذَا الْبُقُول وَالرِّطَابُ وَنَحْوُهَا.
وَتَبِعَ ذَلِكَ اخْتِلاَفُ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ بِكُل مَحَلٍّ عَلَى حِدَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ نَوْعٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الشَّجَرِ، فَالْمُثْمِرُ وَغَيْرُ الْمُثْمِرِ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَتَصِحُّ فِي الْحَوَرِ، وَالصَّفْصَافِ وَفِيمَا يُتَّخَذُ لِلسَّقْفِ وَالْحَطَبِ، كَمَا أَنَّهُ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِي الرِّطَابِ، وَجَمِيعِ الْبُقُول، قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ وَشَرْحِهِ: وَتَصِحُّ فِي الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ وَالرِّطَابِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا جَمِيعُ الْبُقُول، وَأُصُول الْبَاذِنْجَانِ وَالنَّخْل، وَتَصِحُّ فِي نَحْوِ الْحَوَرِ وَالصَّفْصَافِ مِمَّا لاَ

(37/116)


ثَمَرَةَ لَهُ، وَالْبُقُول غَيْرُ الرِّطَابِ، فَالْبُقُول مِثْل الْكُرَّاتِ وَالسِّلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالرِّطَابُ كَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالسَّفَرْجَل وَالْبَاذِنْجَانِ (1) فَإِنْ سَاقَى عَلَيْهَا قَبْل الْجُذَاذِ، كَانَ الْمَقْصُودُ الرَّطْبَةَ فَيَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى أَوَّل جَزَّةٍ، وَإِنْ سَاقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ جُذَاذِهَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبَذْرَ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْبَذْرِ، كَمَا يَقْصِدُ الثَّمَرَ مِنَ الشَّجَرِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ وَحْدَهُ (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الْجِوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ، وَأَثَرُ خَيْبَرَ لاَ يَخُصُّهَا لأَِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الأَْشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا (3) .
13 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الشَّجَرُ الَّذِي يُسَاقَى عَلَى قِسْمَيْنِ:

الْقَسْمُ الأَْوَّل: مَا لَهُ أُصُولٌ ثَابِتَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطَانِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُثْمِرُ فِي عَامِهِ، فَلاَ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ فِي صِغَارِ الأَْشْجَارِ، قَال عِيَاضٌ (4) : مِنْ شُرُوطِ الْمُسَاقَاةِ: أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ فِي أَصْلٍ يُثْمِرُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذَوَاتِ
__________
(1) تنوير الأبصار مع الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 183 ط. بولاق، وانظر الهداية 4 / 60.
(2) العناية على الهداية 8 / 399.
(3) الهداية 4 / 60، وتبيين الحقائق 5 / 283، 285، والاختيار 3 / 80.
(4) التاج والإكليل 5 / 372.

(37/117)


الأَْزْهَارِ وَالأَْوْرَاقِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ.
وَقَال ابْنُ غَازِي (1) : وَقَوْلُهُمْ يُثْمِرُ أَوْ ذِي ثَمَرٍ - أَخْرَجَ بِهِ الشَّجَرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الإِْطْعَامِ كَالْوَدِيِّ فَإِنَّ مُسَاقَاتَهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ، صَرَّحَ بِهِ اللَّخْمِيُّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُخَلِّفُ وَهُوَ الَّذِي إِذَا قُطِفَ مِنْهُ ثَمَرَةٌ لاَ يُثْمِرُ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مُعْظَمُ أَشْجَارِ الْفَاكِهَةِ بِخِلاَفِ الْمَوْزِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُخَلِّفُ إِذَا نَبَتَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ بِجَانِبِ الأُْولَى مِنْ قَبْل أَنْ تُقْطَعَ هَذِهِ الثَّمَرَةُ، فَالثَّمَرَةُ الثَّانِيَةُ يَنَالُهَا شَيْءٌ مِنْ عَمَل الْعَامِل، وَلاَ تَتَّضِحُ فِي الْعَامِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْعَمَل، فَلاَ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ فِي مِثْل هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشَّجَرِ (2) .

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَتْ لَهُ أُصُولٌ ثَابِتَةٌ كَالْمَقَاثِيِّ وَالزَّرْعِ، وَهَذَا تَصِحُّ مُسَاقَاتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالشُّرُوطِ التَّالِيَةِ:
- أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَعْدَ ظُهُورِهَا.
- وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِ ثَمَرِهَا.
- وَأَنْ يَعْجَزَ رَبُّ الأَْرْضِ عَنْ تَعَهُّدِهَا.
- وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُخَلِّفُ بَعْدَ قَطْفِهِ.
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 372.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 539، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 5 / 373.

(37/117)


- وَأَنْ يُخَافَ مَوْتُهَا لَوْ تُرِكَ الْعَمَل فِيهَا (1) .
14 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ فِي النَّخْل وَالْكَرْمِ دُونَ غَيْرِهِمَا، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ (أَخَذَ صَدَقَةَ ثَمَرَتِهَا بِالْخَرْصِ، وَثَمَرُهَا مُجْتَمِعٌ بَائِنٌ مِنْ شَجَرِهِ لاَ حَائِل دُونَهُ يَمْنَعُ إِحَاطَةَ النَّاظِرِ إِلَيْهِ، وَثَمَرُ غَيْرِهَا مُتَفَرِّقٌ بَيْنَ أَضْعَافِ وَرَقٍ لاَ يُحَاطُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إِلاَّ عَلَى النَّخْل وَالْكَرْمِ (2) ،
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الشَّجَرِ مِنَ النَّبَاتِ مُثْمِرًا عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:

الْقَسْمُ الأَْوَّل: لاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ: النَّخْل وَالْكَرْمُ.

وَالْقَسْمُ الثَّانِي: مَا لاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي بُطْلاَنِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ، وَهُوَ مَا لاَ سَاقَ لَهُ، كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَاذِنْجَانِ، وَالْبُقُول الَّتِي لاَ تَثْبُتُ فِي الأَْرْضِ وَلاَ تُجَزُّ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلاَ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ عَلَى الزَّرْعِ.
فَإِنْ كَانَتْ تَثْبُتُ فِي الأَْرْضِ وَتُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَالْمَذْهَبُ الْمَنْعُ وَهُوَ الأَْصَحُّ (3) .
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 541 - 542، والقوانين الفقهية ص 284.
(2) الحاوي للماوردي 9 / 169، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 61.
(3) الحاوي 9 / 169، وروضة الطالبين 5 / 150 - 151.

(37/118)


وَالْقَسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ شَجَرًا، فَفِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجِوَازُ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي الأَْشْجَارِ مَعْنَى النَّخْل مِنْ بَقَاءِ أَصْلِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا كَانَتْ كَالنَّخْل فِي جِوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ شَجَرٌ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِفْرَادُهَا عَنْ حُكْمِ النَّخْل، وَلأَِنَّ الْمُسَاقَاةَ مُشْتَقَّةُ الاِسْمِ مِمَّا يَشْرَبُ بِسَاقٍ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَبِهِ قَال فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى الشَّجَرِ بَاطِلَةٌ، اخْتِصَاصًا بِالنَّخْل وَالْكَرْمِ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْفَرَقِ بَيْنَ النَّخْل وَالْكَرْمِ وَبَيْنَ الشَّجَرِ:
وَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ: اخْتِصَاصُ النَّخْل وَالْكَرْمِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا دُونَ مَا سِوَاهُمَا مِنْ جَمِيعِ الأَْشْجَارِ.
وَالثَّانِي: بُرُوزُ ثَمَرِهِمَا وَإِمْكَانُ خَرْصِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الأَْشْجَارِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ النَّخْل شَجَرٌ قَلِيلٌ فَسَاقَاهُ عَلَيْهِمَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ فِيهِمَا، وَكَانَ الشَّجَرُ تَبَعًا، كَمَا تَصِحُّ الْمُخَابَرَةُ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ النَّخْل وَيَكُونُ تَبَعًا.
15 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، وَفِي الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَلْتَقُونَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ

(37/118)


فِي سَائِرِ الأَْشْجَارِ، دُونَ غَيْرِهَا، وَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ الأَْشْجَارُ مُثْمِرَةً وَثَمَرُهَا مَقْصُودٌ كَالْجَوْزِ وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ بِذِكْرِ الثَّمَرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي " مُعَامَلَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل خَيْبَرَ " (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا مَا لاَ ثَمَرَ لَهُ مِنَ الشَّجَرِ كَالصَّفْصَافِ وَالْحَوَرِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَهُ ثَمَرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ كَالصَّنَوْبَرِ وَالأَْرْزِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلأَِنَّ الْمُسَاقَاةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ، وَهَذَا لاَ ثَمَرَةَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْصَدُ وَرَقُهُ كَالتُّوتِ وَالْوَرْدِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الثَّمَرِ وَلأَِنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَرَّرُ كُل عَامٍ وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ بِجُزْءٍ مِنْهُ فَيَثْبُتُ لَهُ مِثْل حُكْمِهِ (3) .

16 - وَمُسَاقَاةُ الْوَدِيِّ وَصِغَارِ الشَّجَرِ تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الاِتِّفَاقِ بِالْجُمْلَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الْوَدِيُّ مَغْرُوسًا
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 393.
(2) حديث ابن عمر " في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 462) ، ومسلم (3 / 1186) ولفظ مسلم فيه التصريح بذكر " الثمر ".
(3) المغني 5 / 394.

(37/119)


وَسَاقَاهُ عَلَيْهِ وَشَرَطَ لَهُ جُزْءًا عَلَى الْعَمَل فَإِنْ قَدَّرَ فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ مُدَّةً يُثْمِرُ الْوَدِيُّ فِيهَا غَالِبًا صَحَّ الْعَقْدُ وَإِلاَّ بِأَنْ قَدَّرَ مُدَّةً لاَ يُثْمِرُ فِيهَا غَالِبًا فَلاَ تَصِحُّ لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِوَضِ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى شَجَرَةٍ لاَ تُثْمِرُ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَعَمِل الْعَامِل لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً إِنْ عَلِمَ أَنَّهَا لاَ تُثْمِرُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ.
وَيُرْجَعُ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لأَِهْل الْخَبِرَةِ بِالشَّجَرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا سَاقَاهُ عَلَى وَدِيِّ النَّخْل أَوْ صِغَارِ الشَّجَرِ إِلَى مُدَّةٍ يَحْمِل فِيهَا غَالِبًا وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ صَحَّ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ عَمَل الْعَامِل يَكْثُرُ وَنَصِيبُهُ يَقِل وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ صِحَّتَهَا كَمَا لَوْ جَعَل لَهُ سَهْمًا مِنْ أَلْفِ سَهْمٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: الْمُسَاقَاةُ عَقْدٌ جَائِزٌ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لاَزِمٌ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَل الْمُدَّةَ زَمَنًا يَحْمِل فِيهِ غَالِبًا فَيَصِحُّ (2) .
ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ صَحَّتْ وَحَمَل فِيهَا فَلَهُ مَا شَرَطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِل فِيهَا فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 326.
(2) المغني 5 / 413 - 414.

(37/119)


الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهَا إِلَى زَمَنٍ لاَ يَحْمِل فِيهِ غَالِبًا فَلاَ يَصِحُّ، وَإِنْ عَمِل فِيهَا فَهَل يَسْتَحِقُّ الأَْجْرَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ حَمَل فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا جَعَل لَهُ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مَا شُرِطَ فِيهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَل الْمُدَّةَ زَمَنًا: يَحْتَمِل أَنْ يَحْمِل فِيهَا وَيَحْتَمِل أَنْ لاَ يَحْمِل فَهَل يَصِحُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَصِحُّ اسْتَحَقَّ الأَْجْرَ.
وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ فَحَمَل فِي الْمُدَّةِ اسْتَحَقَّ مَا شُرِطَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِل فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا (1) .
وَقَال: وَإِنْ شَرَطَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ وَنِصْفَ الأَْصْل لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي النَّمَاءِ وَالْفَائِدَةِ، فَإِذَا شَرَطَ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الأَْصْل لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ اشْتِرَاكَهُمَا فِي رَأْسِ الْمَال، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَل لَهُ جُزْءًا مِنْ ثَمَرَتِهَا مُدَّةَ بَقَائِهَا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ جَعَل لَهُ ثَمَرَةَ عَامٍ بَعْدَ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّهُ خَالَفَ مَوْضُوعَ الْمُسَاقَاةِ (2) .

ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ مَحَل الْمُسَاقَاةِ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا:
17 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَحَل الْمُسَاقَاةِ مَعْلُومًا
__________
(1) المغني 5 / 414.
(2) المغني 5 / 414.

(37/120)


مُعَيَّنًا لأَِنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ ابْتِدَاءً وَشَرِكَةٌ انْتِهَاءً، فَكَمَا تُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّةُ مَحَل الإِْجَارَةِ تُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّةُ مَحَل الْمُسَاقَاةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالإِْشَارَةِ أَوِ الْوَصْفِ أَوِ التَّحْدِيدِ، أَوِ الرُّؤْيَةِ (1) .

ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ الشَّجَرُ بِحَيْثُ يَزِيدُ ثَمَرُهُ بِالسَّقْيِ وَالتَّعَهُّدِ:
18 - أَوْرَدَ هَذَا الشَّرْطَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ سَحْنُونَ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، كَمَا فِي الرَّوْضَةِ (2) .

رَابِعًا: التَّخْلِيَةُ:
19 - التَّخْلِيَةُ بِمَعْنَى تَسْلِيمِ الشَّجَرِ إِلَى الْعَامِل وَانْفِرَادِ الْعَامِل بِوَضْعِ الْيَدِ فِي الْحَدِيقَةِ، وَذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَل مَتَى شَاءَ (3) .

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الثِّمَارُ:
20 - وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْهُ ب (الْخَارِجِ) وَلَهُ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 534، والقوانين الفقهية 184، وبداية المجتهد 2 / 320، وبدائع الصنائع 6 / 177، 186، والمغني 5 / 400، وروضة الطالبين 5 / 151، والحاوي 9 / 165، وانظر حاشية البجيرمي وشرح المنهج 3 / 175.
(2) بدائع الصنائع 6 / 186، والقوانين الفقهية ص 184، وروضة الطالبين 5 / 152، والمغني 5 / 400.
(3) شرح المحلي على المنهاج 3 / 68، حاشية البجيرمي على المنهج 3 / 175.

(37/120)


1 - أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِل، لاَ أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لاَزِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ وَكُل شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لِلشَّرِكَةِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ (2) .
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى جَوَازِ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِل أَوِ الْمَالِكِ (3) .
وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْحَةٌ لاَ مُسَاقَاةٌ (4) .
ب - أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَارِجِ جُزْءًا مَعْلُومَ الْقَدْرِ كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ (5) ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ كَوْنَ التَّعْيِينِ بِالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْبَلَدِ (6) .
ج - أَنْ يَكُونَ الاِشْتِرَاكُ فِي الْخَارِجِ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ لاَ عَلَى التَّعْيِينِ أَوِ الْعَدَدِ (7) .
وَمُحَصَّل هَذَا اشْتِرَاطُ كَوْنِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الثَّمَرَةِ جُزْءًا شَائِعًا مَعْلُومًا، وَذَلِكَ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْمُسَاقَاةِ، وَهُوَ الْعَمَل فِي الشَّجَرِ لِقَاءَ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَرِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 186، والقوانين الفقهية 184، وكشاف القناع 3 / 535، وحاشية الدسوقي 3 / 540، ومغني المحتاج مع المنهاج 2 / 326.
(2) بدائع الصنائع 6 / 177.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 540.
(4) بداية المجتهد 2 / 318.
(5) المراجع السابقة.
(6) حاشية الدسوقي 3 / 540.
(7) بدائع الصنائع 6 / 186، والقوانين الفقهية 184، وكشاف القناع 3 / 535، والدسوقي 3 / 540، ومغني المحتاج 2 / 326.

(37/121)


الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْعَمَل:
يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَل ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ هِيَ:

أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْعَامِل وَحْدَهُ بِدُونِ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْمَالِكِ.
21 - هَذَا الشَّرْطُ - فِي الْجُمْلَةِ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (1) حَتَّى يَفْسُدَ الْعَقْدُ بِوَجْهٍ عَامٍّ بِاشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَل وَمُؤْنَتِهِ وَلَوَازِمِهِ عَلَى الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهُوَ: أَنَّ الْعَمَل عَلَى الْعَامِل، كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ إِذَا شَرَطَ فِيهَا الْعَمَل عَلَى رَبِّ الْمَال.

ثَانِيًا: أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِل مَا لاَ يَدْخُل فِي جِنْسِ عَمَلِهِ.
22 - قَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْجُمْلَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَامِل هُوَ السَّقْيُ وَالإِْبَارُ وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِيهَا اشْتِرَاطُ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ زِيَادَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَلاَ شَيْئًا مِنَ الأَْشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُسَاقَاةِ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 155، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 3 / 546، بدائع الصنائع 6 / 186، والمغني لابن قدامة 5 / 565 وما بعدها، كشاف القناع 3 / 540.
(2) روضة الطالبين 5 / 155، والمغني 5 / 401، 402، وبداية المجتهد 2 / 318.

(37/121)


ثَالِثًا: أَنْ يَنْفَرِدَ الْعَامِل بِالْحَدِيقَةِ:
23 - مِنْ شُرُوطِ الْعَمَل: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْعَامِل بِالْيَدِ فِي الْحَدِيقَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَل مَتَى شَاءَ فَلَوْ شَرَطَا كَوْنَهُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ الْمَالِكُ الدُّخُول عَلَيْهِ، جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا دَخَل، كَانَتِ الْحَدِيقَةُ فِي يَدِهِ، يَتَعَوَّقُ بِحُضُورِهِ عَنِ الْعَمَل (1) .

مَا يَلْزَمُ الْعَامِل فِي الْمُسَاقَاةِ وَالاِشْتِرَاطُ عَلَيْهِ
فِي ضَبْطِ مَا عَلَى الْعَامِل بِالْعِقْدِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِ وَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ، وَمَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ التَّفْصِيل التَّالِي:
24 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ ضَابِطَيْنِ:

الضَّابِطُ الأَْوَّل: أَنَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ قَبْل إِدْرَاكِ الثَّمَرِ مِنَ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ، فَهُوَ عَلَى الْعَامِل، وَمَا بَعْدَ الإِْدْرَاكِ كَالْجُذَاذِ وَهُوَ الْقَطْفُ، وَحِفْظُهُ فَهُوَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ قَطْفَ الثَّمَرِ عَلَى الْعَامِل لَمْ يَجُزْ لأَِنَّهُ لاَ عُرْفَ فِيهِ (2) .

الضَّابِطُ الثَّانِي: أَنَّ مَا لاَ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُدَّةِ الْعَقْدِ فَهُوَ عَلَى الْعَامِل، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَمَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَهَا كَغَرْسِ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 155.
(2) الهداية 4 / 58، وحاشية ابن عابدين 5 / 185.

(37/122)


الأَْشْجَارِ وَنَصْبِ الْعَرَائِشِ، وَإِلْقَاءِ السِّرْقِينِ، فَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِل يُفْسِدُ الْعَقْدَ (1) .
25 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَأَرْجَعُوا الأَْمْرَ إِلَى الْعُرْفِ، فَقَرَّرُوا: أَنَّ كُل مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الثَّمَرُ عُرْفًا يَجِبُ عَلَى الْعَامِل وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَفْصِيل الْعَمَل، وَيُحْمَل عَلَى الْعُرْفِ إِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا، وَإِلاَّ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ (2) .
وَلَهُمْ ضَابِطٌ تَفْصِيلِيٌّ قَرِيبٌ مِنْ ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - أَنَّ مَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَلاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِصْلاَحِهَا لاَ يَلْزَمُ الْعَامِل بِالْعِقْدِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ كَسَدِّ الْحِيطَانِ وَإِصْلاَحِ مَجَارِي الْمِيَاهِ (3) .
ب - مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَيَبْقَى بَعْدَهَا أَوْ يَتَأَبَّدُ، كَحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ سَاقِيَةٍ أَوْ بِنَاءِ بَيْتٍ يُخَزِّنُ فِيهِ الثَّمَرَ، أَوْ غَرْسِ فَسِيلٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ (4) ، وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهَدِ (5) : وَأَمَّا مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِصْلاَحِ الثَّمَرِ وَيَبْقَى بَعْدَ الثَّمَرِ فَيَدْخُل عِنْدَهُ بِالشَّرْطِ فِي الْمُسَاقَاةِ لاَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ.
ج - مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّمَرَةِ وَلاَ يَبْقَى أَوْ لاَ يَتَأَبَّدُ
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار 5 / 185، والهداية 4 / 58.
(2) مواهب الجليل 5 / 375.
(3) القوانين الفقهية ص 184، وبداية المجتهد 2 / 319.
(4) القوانين الفقهية ص 184.
(5) بداية المجتهد 2 / 317 - 318.

(37/122)


فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِل بِالْعِقْدِ، كَالسَّقْيِ وَالْحَفْرِ، وَالتَّنْقِيَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالْجُذَاذِ وَشِبْهِ ذَلِكَ (1) .
26 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ أَوَسْعُ - وَيَلْتَقُونَ بِالْجُمْلَةِ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - وَفْقَ الْبَيَانِ التَّالِي:
قَال فِي الْحَاوِي (2) : قَال الشَّافِعِيُّ: وَكُل مَا كَانَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرِ مِنْ إِصْلاَحِ الْمَاءِ وَطَرِيقِهِ وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَإِبَارِ النَّخْل، وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْل وَنَحْوِهِ جَازَ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِل، فَأَمَّا شَدُّ الْحَظَائِرِ فَلَيْسَ فِيهِ مُسْتَزَادٌ وَلاَ صَلاَحَ فِي الثَّمَرَةِ فَلاَ يَجُوزُ شَرْطُهُ عَلَى الْعَامِل.

قَال الْمَاوَرْدِيُّ: الْعَمَل الْمَشْرُوطُ فِي الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ
أَحَدُهَا: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْل.
وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْل دُونَ الثَّمَرَةِ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْل وَالثَّمَرَةِ.
وَالرَّابِعُ: مَا لاَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَلاَ النَّخْل.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الأَْوَّل: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى
__________
(1) القوانين الفقهية 184، وبداية المجتهد 2 / 218.
(2) الحاوي 9 / 178 - 179 ط. دار الفكر.

(37/123)


الثَّمَرَةِ دُونَ النَّخْل، فَمِثْل إِبَارِ النَّخْل وَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ وَلِقَاطِهَا رُطَبًا وَجُذَاذُهَا ثَمَرًا، فَهَذَا الضَّرْبُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِل، وَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
أ - قِسْمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَهُوَ كُل مَا لاَ تَحْصُل الثَّمَرَةُ إِلاَّ بِهِ كَالتَّلْقِيحِ وَالإِْبَارِ.
ب - وَقِسْمٌ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ كُل مَا فِيهِ مُسْتَزَادٌ لِلثَّمَرَةِ وَقَدْ تَصْلُحُ بِعَدَمِهِ، كَتَصْرِيفِ الْجَرِيدِ وَتَدَلِّيهِ الثَّمَرَةَ.
ج - قِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ كُل مَا تَكَامَلَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَهُ كَاللِّقَاطِ وَالْجُذَاذِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْعَامِل إِلاَّ بِشَرْطٍ لِتَكَامُل الثَّمَرَةِ بِعَدِمِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِل بِغَيْرِ شَرْطٍ، لأَِنَّ الثَّمَرَةَ لاَ تَسْتَغْنِي عَنْهُ وَإِنْ تَكَامَلَتْ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْل دُونَ الثَّمَرَةِ، فَمِثْل شَدِّ الْحَظَائِرِ وَحَفْرِ الآْبَارِ وَشَقِّ السَّوَّاقِي وَكَرْيِ الأَْنْهَارِ، فَكُل هَذَا مِمَّا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْل دُونَ الثَّمَرَةِ، فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِل، وَكَذَا مَا شَاكَلَهُ مِنْ عَمَل الدَّوَالِيبِ وَنَحْوِهَا.
فَإِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلاً وَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً.

(37/123)


وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَبْطُل الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ، حَمْلاً عَلَى الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ فِي الرَّهْنِ تَبْطُل وَلاَ يَبْطُل مَعَهَا الرَّهْنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْل وَالثَّمَرَةِ، فَكَالسَّقْيِ وَالإِْثَارَةِ وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ بِالنَّخْل. إِلَى مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا فِيهِ صَلاَحُ النَّخْل وَمُسْتَزَادٌ فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا لاَ تَصْلُحُ الثَّمَرَةُ إِلاَّ بِهِ، كَالسَّقْيِ فِيمَا لاَ يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنَ النَّخْل حَتَّى يُسْقَى سَيْحًا فَهُوَ عَلَى الْعَامِل، كَنَخْل الْبَصْرَةِ فَهُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ شُرُوطِ هَذَا الْفَصْل سَوَاءٌ، وَهُوَ الضَّرْبُ الثَّانِي فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ، وَفِيهِ لأَِصْحَابِنَا ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِل بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ تَأْكِيدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلاَحِ النَّخْل وَزِيَادَةِ الثَّمَرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ النَّخْل، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِل مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ لأَِنَّهُ بِصَلاَحِ النَّخْل أَخَصُّ مِنْهُ بِصَلاَحِ الثَّمَرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِل لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّمَرَةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى رَبِّ النَّخْل لِمَا فِيهِ مِنْ صَلاَحِ النَّخْل فَلَمْ يَتَنَافَ الشَّرْطَانِ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى

(37/124)


الْعَامِل لَزِمَهُ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَى رَبِّ النَّخْل لَزِمَهُ، وَإِنْ أَغْفَل لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْعَامِل فَلأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ أَوْ مِنْ شُرُوطِهِ، وَأَمَّا رَبُّ النَّخْل فَلأَِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى تَثْمِيرِ مَالِهِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا لاَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّخْل وَلاَ عَلَى الثَّمَرَةِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِل أَنْ يَبْنِيَ لَهُ قَصْرًا أَوْ يَخْدِمَهُ شَهْرًا أَوْ يَسْقِيَ لَهُ زَرْعًا، فَهَذِهِ شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ، وَتَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ لأَِنَّهُ لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِهِ، وَلاَ تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ فِي مَصْلَحَتِهِ (1) .
27 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُ الْعَامِل بِإِطْلاَقِ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ مَا فِيهِ صَلاَحُ الثَّمَرَةِ وَزِيَادَتُهَا مِثْل حَرْثِ الأَْرْضِ تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْبَقَرِ الَّتِي تَحْرُثُ وَآلَةُ الْحَرْثِ وَسَقْيِ الشَّجَرِ وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَإِصْلاَحِ طُرُقِ الْمَاءِ وَتَنْقِيَتِهَا وَقَطْعِ الْحَشِيشِ الْمُضِرِّ وَالشَّوْكِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ الْيَابِسِ وَزِبَارِ الْكَرْمِ وَقَطْعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى قَطْعِهِ وَتَسْوِيَةِ الثَّمَرِ وَإِصْلاَحِ الأَْجَاجِينِ وَهِيَ الْحُفَرُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ عَلَى أُصُول النَّخْل وَإِدَارَةِ الدُّولاَبِ، وَالْحِفْظِ لِلثَّمَرِ فِي الشَّجَرِ وَبَعْدَهُ حَتَّى يُقْسَمَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُشَمَّسُ فَعَلَيْهِ تَشْمِيسُهُ.
وَعَلَى رَبِّ الْمَال مَا فِيهِ حِفْظُ الأَْصْل كَسَدِّ
__________
(1) الحاوي 9 / 179 - 180 ط. دار الفكر.

(37/124)


الْحِيطَانِ وَإِنْشَاءِ الأَْنْهَارِ وَعَمَل الدُّولاَبِ وَحَفْرِ بِئْرِهِ وَشِرَاءِ مَا يُلَقَّحُ بِهِ.
وَعَبَّرَ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ عَنْ هَذَا بِعَبَّارَةٍ أُخْرَى فَقَال: كُل مَا يَتَكَرَّرُ كُل عَامٍ فَهُوَ عَلَى الْعَامِل وَمَا لاَ يَتَكَرَّرُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَال، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْعَمَل، فَأَمَّا شِرَاءُ مَا يُلَقِّحُ بِهِ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْمَال وَإِنْ تَكَرَّرَ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَمَل.
وَإِنْ أَطْلَقَا الْعَقْدَ وَلَمْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِنْ شَرَطَا عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِمَّا يَلْزَمُ الآْخِرَ، فَقَال الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِل جَازَ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يُخِل بِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ وَلاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ فَصَحَّ كَتَأْجِيل الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَلْزَمُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَمَل مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّوَاكُل فَيَخْتَل الْعَمَل، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَا عَلَى رَبِّ الْمَال أَكْثَرَ الْعَمَل، لأَِنَّ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ فَإِذَا لَمْ يَعْمَل أَكْثَرَ الْعَمَل كَانَ وُجُودُ

(37/125)


عَمَلِهِ كَعَدِمِهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.
فَأَمَّا الْجُذَاذُ وَالْحَصَادُ وَاللِّقَاطُ فَهُوَ عَلَى الْعَامِل، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْحَصَادِ، لأَِنَّهُ مِنَ الْعَمَل فَكَانَ عَلَى الْعَامِل كَالتَّشْمِيسِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْجُذَاذِ أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ عَلَى الْعَامِل فَجَائِزٌ لأَِنَّ الْعَمَل عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْهُ فَعَلَى رَبِّ الْمَال بِحِصَّتِهِ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ (1) .

مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُ الْمُسَاقَاةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ، وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ وَقْتَ إِدْرَاكِ الثَّمَرِ مَعْلُومٌ وَقَلَّمَا يُتَفَاوَتُ فِيهِ فَيَدْخُل فِيهِ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَلأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ لَمْ يَضْرِبُوا مُدَّةً لأَِهْل خَيْبَرَ.
وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تُذْكَرَ الْمُدَّةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الإِْجَارَةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَصَحَّ تَوْقِيتُهَا وَلأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ كَالْوَكَالَةِ فَلَمْ يُشْتَرَطِ التَّوْقِيتُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ مُعْرِفَةُ الْعَمَل جُمْلَةً لاَ تَفْصِيلاً بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ كَسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَلاَ تَصِحُّ مُطْلَقَةً وَلاَ مُؤَبَّدَةً لأَِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ
__________
(1) المغني 5 / 401 - 403.

(37/125)


فَأَشْبَهَتِ الإِْجَارَةَ. (1)
بَيَانُ الْمُدَّةِ:
29 - قَال الْحَنَفِيَّةُ (2) : الْمُسَاقَاةُ كَالْمُزَارَعَةِ فِي الْخِلاَفِ وَالْحُكْمِ وَفِي الشُّرُوطِ إِلاَّ الْمُدَّةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُذْكَرَ الْمُدَّةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الإِْجَارَةِ، وَفِي الاِسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا، وَتَقَعُ عَلَى أَوَّل ثَمَرَةٍ تَخْرَجُ، لأَِنَّ وَقْتَ إِدْرَاكِ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ قَلِيلٌ وَيَدْخُل فِيهِ الْمُتَيَقَّنُ، بِخِلاَفِ الزَّرْعِ فِيهِ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً رَبِيعًا وَخَرِيفًا وَغَيْرَ ذَلِكَ.
أ - فَفِي حَال ذِكْرِ الْمُدَّةِ: إِنْ ذَكَرَ مُدَّةً يُثْمِرُ الشَّجَرُ خِلاَلَهَا صَحَّتِ الْمُسَاقَاةُ، وَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً لاَ يُثْمِرُ خِلاَلَهَا فَسَدَتْ، وَإِنْ ذَكَرَ مُدَّةً يُحْتَمَل أَنْ يُثْمِرَ الشَّجَرُ خِلاَلَهَا وَأَنْ لاَ يُثْمِرَ تَصِحُّ أَيْضًا لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ إِنْ خَرَجَ الثَّمَرُ خِلاَل هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُحْتَمَلَةِ صَحَّتْ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا فَسَدَتْ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فِي الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الثَّمَرُ أَصْلاً صَحَّ الْعَقْدُ لأَِنَّ الذَّهَابَ كَانَ بِآفَةٍ لاَ بِسَبَبِ فَسَادِ تَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا فَلاَ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْمُدَّةِ.
ب - وَفِي حَال عَدَمِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ يَقَعُ الْعَقْدُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 182، والاختيار 3 / 79، والشرح الصغير 3 / 718، 719، ومغني المحتاج 2 / 327، وكشاف القناع 3 / 538.
(2) الاختيار 3 / 79، والهداية 4 / 44 - 45، ودرر الحكام 2 / 328، والدر المختار ورد المحتار 5 / 182.

(37/126)


صَحِيحًا وَيَنْصَرِفُ إِلَى أَوَّل ثَمَرَةٍ تَخْرَجُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ لاَ إِلَى مَا بَعْدَهُ لأَِنَّهُ مَشْكُوكٌ، وَمِثْل الشَّجَرِ فِي ذَلِكَ الرِّطَابُ، إِذَا دَفَعَهَا مُسَاقَاةً حَتَّى يُدْرِكَ بَذْرُهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ لأَِنَّ لإِِدْرَاكِ الْبَذْرَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً.
أَمَّا لَوْ دَفَعَهَا رَيْثَمَا يَذْهَبُ أُصُولُهَا وَيَنْقَطِعُ نَبْتُهَا فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْمُسَاقَاةَ، إِذْ لَيْسَ لِذَلِكَ أَمَدٌ مَعْلُومٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَهَابِ الأُْصُول وَأَطْلَقَ جَازَ الْعَقْدُ وَانْصَرَفَ إِلَى أَوَّل جَزَّةٍ (1) .
30 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَمَذْهَبُهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَجَائِزٌ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ عَامًا وَاحِدًا وَعَامَيْنِ وَأَعْوَامًا مِنَ الْجُذَاذِ إِلَى الْجُذَاذِ عَلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِمَّا يُخْرِجُ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فِيهَا.
وَلَوْ سَاقَاهُ إِلَى أَجَلٍ فَانْقَضَى الأَْجَل وَفِي النَّخْل ثَمَرٌ لَمْ يَجُزْ جُذَاذُهُ، وَلَمْ يَحِل بَيْعُهُ فَهُوَ عَلَى مُسَاقَاتِهِ حَتَّى يُجَزَّ، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لَهُ.
وَإِنَّمَا الْمُسَاقَاةُ إِلَى الْجُذَاذِ وَإِلَى الْقِطَافِ، لاَ إِلَى الأَْجَل.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَكَرِهَ مَالِكٌ الْمُسَاقَاةَ فِيمَا طَال مِنَ السِّنِينَ وَانْقِضَاءُ السِّنِينَ فِيهَا هُوَ بِالْجُذَاذِ لاَ بِالأَْهِلَّةِ (2) .
__________
(1) الهداية 4 / 59، والاختيار 3 / 79 - 80 والمراجع السابقة.
(2) مواهب الجليل 5 / 378، والكافي 2 / 108، وبداية المجتهد 2 / 320.

(37/126)


31 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ بِسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الإِْطْلاَقُ فِيهَا وَلاَ التَّأْبِيدُ، وَرَتَّبُوا عَلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَحْكَامًا مِنْ حَيْثُ إِدْرَاكُ الثَّمَرِ وَعَدَمُ إِدْرَاكِهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً، فَإِنْ وَقَّتَ بِالشُّهُورِ أَوِ السِّنِينَ الْعَرَبِيَّةِ فَذَاكَ، وَلَوْ وَقَّتَ بِالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهَا جَازَ إِذَا عَلِمَاهَا.
فَإِنْ أَطْلَقَا لَفْظَ السَّنَةِ انْصَرَفَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ.
وَإِنْ وَقَّتَ بِإِدْرَاكِ الثَّمَرَةِ فَهَل يَبْطُل كَالإِْجَارَةِ أَمْ يَصِحُّ لأَِنَّهُ الْمَقْصُودُ؟
وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَوَّلُهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ (1) ، وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ الثَّانِيَ حَيْثُ قَال: وَلْيُعْرَفِ الْعَمَل جُمْلَةً، فَإِنْ عُرِفَ بِإِدْرَاكِ الثِّمَارِ جَازَ عَلَى الأَْصَحِّ (2) .
وَلَوْ قَال: سَاقَيْتُكَ سَنَةً وَأَطْلَقَ فَهَل يُحْمَل عَلَى السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَمْ سَنَةِ الإِْدْرَاكِ وَجْهَانِ: زَعَمَ أَبُو الْفَرْجِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ أَصَحَّهُمَا: الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا بِالأَْوَّل أَوْ وَقَّتَ بِالزَّمَانِ، فَأَدْرَكَتِ الثِّمَارُ وَالْمُدَّةُ بَاقِيَةٌ لَزِمَ الْعَامِل أَنْ يَعْمَل فِي تِلْكَ الْبَقِيَّةِ وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ.
وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَعَلَى الشَّجَرِ طَلْعٌ أَوْ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 156.
(2) الوجيز 1 / 228.

(37/127)


بَلَحٌ فَلِلْعَامِل نَصِيبُهُ مِنْهَا وَعَلَى الْمَالِكِ التَّعَهُّدُ إِلَى الإِْدْرَاكِ.
وَإِنْ حَدَثَ الطَّلْعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَلاَ حَقَّ لِلْعَامِل فِيهِ (1) .
وَلَوْ سَاقَاهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَفِي صِحَّتِهِ أَقْوَالٌ، فَعَلَى الْقَوْل بِالْجِوَازِ هَل يَجِبُ بَيَانُ حِصَّةِ كُل سَنَةٍ، أَمْ يَكْفِي قَوْلُهُ سَاقَيْتُكَ عَلَى النِّصْفِ لاِسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ كُل سَنَةٍ؟ قَوْلاَنِ أَوْ وَجْهَانِ كَالإِْجَارَةِ.
وَقِيل: يَجِبُ هُنَا قَطْعًا لِكَثْرَةِ الاِخْتِلاَفِ فِي الثَّمَرِ (2) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَلَوْ سَاقَاهُ عَلَى نَخْلِهِ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرَةَ سَنَةٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ عَيَّنَ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهَا لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَإِنْ عَيَّنَهَا فَقَدْ شَرَطَ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ فِيهَا.
وَلَوْ جَعَل لَهُ نِصْفَ الثَّمَرَةِ فِي سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الْعَشَرَةِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ لِلْجَهْل بِهَا، وَإِنْ عَيَّنَهَا نَظَرَ: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ السَّنَةِ الأَْخِيرَةِ بَطَلَتِ الْمُسَاقَاةُ، لأَِنَّهُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ بَعْدَ حَقِّهِ مِنَ الثَّمَرَةِ عَمَلاً لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَإِنْ كَانَتِ السَّنَةَ الأَْخِيرَةَ فَفِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صَحِيحَةٌ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَل
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 156.
(2) روضة الطالبين 7 / 156، وانظر الحاوي 9 / 170 - 171 ط. دار الفكر.

(37/127)


فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي بَعْضِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لأَِنَّهُ يَعْمَل فِيهَا مُدَّةً تُثْمِرُ فِيهَا وَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ثَمَرِهَا وَبِهَذَا الْمَعْنَى خَالَفَ السَّنَةَ الْوَاحِدَةَ (1) .
وَإِذَا سَاقَاهُ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَطْلَعَتْ ثَمَرَةُ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ بَعْدَ تَقَضِّيهَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِل فِي ثَمَرَةِ تِلْكَ السَّنَةِ حَقٌّ، لِتَقَضِّي مُدَّتِهِ وَزَوَال عَقْدِهِ، وَلَوْ أَطْلَعَتْ قَبْل تَقَضِّي تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ تَقَضَّتْ وَالثَّمَرَةُ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا - وَهِيَ بَعْدُ طَلْعٌ أَوْ بَلَحٌ - كَانَ لَهُ حَقُّهُ مِنْهَا لِحُدُوثِهَا فِي مُدَّتِهِ.
فَإِنْ قِيل: إِنَّهُ أَجِيرٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْهَا طَلْعًا أَوْ بَلَحًا، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ إِلَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَإِنْ قِيل: إِنَّهُ شَرِيكٌ، كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهَا إِلَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَتَنَاهِي الثَّمَرَةِ (2) .
32 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدْ قَال الْبُهُوتِيُّ: وَيَصِحُّ تَوْقِيتُ مُسَاقَاةٍ كَوَكَالَةٍ وَشَرِكَةٍ وَمُضَارَبَةٍ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَوْقِيتُ الْمُسَاقَاةِ لأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِبْقَاؤُهُ وَفَسْخُهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّوْقِيتِ كَالْمُضَارَبَةِ.
وَيَصِحُّ تَوْقِيتُهَا إِلَى جُذَاذٍ وَإِلَى إِدْرَاكٍ وَإِلَى مُدَّةٍ تَحْتَمِلُهُ لاَ إِلَى مُدَّةٍ لاَ تَحْتَمِلُهُ لِعَدَمِ
__________
(1) الحاوي 9 / 171 ط. دار الفكر.
(2) الحاوي للماوردي 9 / 171 ط. دار الفكر.

(37/128)


حُصُول الْمَقْصُودِ بِهَا (1) .
وَإِنْ سَاقَاهُ إِلَى مُدَّةٍ تَكْمُل فِيهَا الثَّمَرَةُ غَالِبًا فَلَمْ تَحْمِل الثَّمَرَةُ تِلْكَ السَّنَةَ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى ذَلِكَ (2) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ ابْتِدَاءً:
33 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ الْعَدِيدُ مِنَ الأَْحْكَامِ مِنْهَا:
أ - أَنَّهُ يَجِبُ قِيَامُ الْعَامِل بِكُل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الشَّجَرُ مِنَ السَّقْيِ وَالتَّلْقِيحِ وَالْحِفْظِ، لأَِنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَمَل، وَسَبَقَ ذِكْرُ الضَّابِطِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجِبُ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ كُل مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الشَّجَرِ مِنَ السَّمَادِ وَاللِّقَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ب - لاَ يَمْلِكُ الْعَامِل أَنْ يَدْفَعَ الشَّجَرَ مُعَامَلَةً إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ إِذَا قَال لَهُ الْمَالِكُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ الشَّرِكَةِ فِي مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَالثَّمَرُ عِنْدَئِذٍ لِلْمَالِكِ. وَلِلْعَامِل الثَّانِي أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الْعَامِل الأَْوَّل، وَلاَ أَجْرَ لِلأَْوَّل لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ تَفْوِيضٍ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 345، وانظر كشاف القناع 3 / 538.
(2) كشاف القناع 3 / 538 - 539.
(3) بدائع الصنائع 6 / 187، وحاشية ابن عابدين 5 / 185 - 186.

(37/128)


وَهَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ (1) قِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ.
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ: بِأَنَّهُ عَامِلٌ فِي الْمَال بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَامِل غَيْرَهُ فِيهِ كَالْمُضَارِبِ، وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَل فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ كَالْوَكِيل.
وَقَال: وَلِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُزَارِعَ فِي الْوَقْفِ وَيُسَاقِيَ عَلَى شَجَرِهِ لأَِنَّهُ إِمَّا مَالِكٌ لِرَقَبَةِ ذَلِكَ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا عِنْدَ مَنْ أَجَازَ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ (2) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِقَيْدٍ، قَال الدُّسُوقِيُّ (3) : وَجَازَ مُسَاقَاةُ الْعَامِل عَامِلاً آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْحَائِطِ، وَمَحَل الْجَوَازِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ رَبُّ الْحَائِطِ عَمَل الْعَامِل بِعَيْنِهِ وَإِلاَّ مُنِعَ مِنْ مُسَاقَاتِهِ لآِخَرَ، مَا لَمْ يَكُنْ أَمِينًا - أَيْضًا - وَلَوْ أَقَل أَمَانَةً لاَ غَيْرَ أَمِينٍ، - وَفَرَّقُوا فِي هَذَا الصَّدَدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ - قَال الدُّسُوقِيُّ: بِخِلاَفِ عَامِل الْقِرَاضِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَامِل عَامِلاً آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَال مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ أَمِينًا، لأَِنَّ مَال الْقِرَاضِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ الْحَائِطِ.
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (لاَ غَيْرَ أَمِينٍ) أَيْ إِنْ كَانَ غَيْرَ
__________
(1) المغني 5 / 413.
(2) المغني 5 / 413.
(3) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 545.

(37/129)


أَمِينٍ لاَ تَجُوزُ مُسَاقَاتُهُ وَإِنْ كَانَ الأَْوَّل مِثْلَهُ فِي عَدَمِ الأَْمَانَةِ؛ لأَِنَّ رَبَّ الْحَائِطِ رُبَّمَا رَغِبَ فِي الأَْوَّل لأَِمْرٍ لَيْسَ فِي الثَّانِي، وَيَضْمَنُ الْعَامِل الأَْوَّل مُوجِبَ فِعْل الثَّانِي، إِذَا كَانَ هَذَا غَيْرَ أَمِينٍ أَوْ مَجْهُول الْحَال، وَإِنْ كَانَ الاِتِّفَاقُ بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا جُعِل لِلأَْوَّل فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ فَالزَّائِدُ عَلَى الْعَامِل الأَْوَّل، وَإِنْ كَانَ أَقَل فَالزَّائِدُ لِلْعَامِل الأَْوَّل.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَالُوا بِالْجِوَازِ بِقَيْدِ التَّوَافُقِ فِي الْمُدَّةِ وَالنَّصِيبِ، قَال فِي الْحَاوِي (1) : فَإِنْ أَرَادَ الْعَامِل أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا مُدَّةَ مُسَاقَاتِهِ جَازَ بِمِثْل نَصِيبِهِ فَمَا دُونَ، كَالإِْجَارَةِ، وَلاَ يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ حَيْثُ كَانَ لِلْعَامِل أَنْ يُسَاقِيَ عَلَيْهَا وَبَيْنَ الْمُضَارَبَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِل أَنْ يُضَارِبَ بِهَا، أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَال لأَِنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِلاَزِمٍ فَلَمْ يَمْلِكْ مَا بَاتَ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفِهِ، وَتَصَرُّفَ الْعَامِل فِي الْمُسَاقَاةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ فَيَمْلِكُ الاِسْتِنَابَةَ فِي تَصَرُّفِهِ.
ج - إِذَا قَصَّرَ الْعَامِل فِي سَقْيِ الشَّجَرِ حَتَّى يَبِسَ ضَمِنَ، لأَِنَّ الْعَمَل وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَالشَّجَرَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، فَيَضْمَنُ بِالتَّقْصِيرِ وَلَوْ أَخَّرَ السَّقْيَ تَأْخِيرًا مُعْتَادًا لاَ يَضْمَنُ لِعَدَمِ
__________
(1) الحاوي للماوردي 9 / 168 ط. دار الفكر.

(37/129)


التَّقْصِيرِ، وَإِلاَّ ضَمِنَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، كَذَلِكَ قَال الْمَالِكِيَّةُ بِالضَّمَانِ إِنْ قَصَّرَ عَمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ أَوْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ.
قَال فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ (2) : إِنْ قَصَّرَ عَامِلٌ عَمَّا شُرِطَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَل أَوْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، كَالْحَرْثِ أَوِ السَّقْيِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَحَرَثَ أَوْ سَقَى مَرَّتَيْنِ حُطَّ مِنْ نَصِيبِهِ بِنِسْبَتِهِ، فَيُنْظَرُ قِيمَةُ مَا عَمِل مَعَ قِيمَةِ مَا تَرَكَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا تَرَكَ الثُّلُثَ مَثَلاً حُطَّ مِنْ جُزْئِهِ الْمُشْتَرَطِ لَهُ ثُلُثُهُ.
وَقَوْلُهُ: قَصَّرَ، يُشْعِرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَصِّرْ، بِأَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ السَّقْيَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَسَقَى مَرَّتَيْنِ، وَأَغْنَاهُ الْمَطَرُ عَنِ الثَّالِثَةِ، لَمْ يُحَطَّ مِنْ حِصَّتِهِ شَيْءٌ وَكَانَ لَهُ جُزْؤُهُ بِالتَّمَامِ وَهُوَ كَذَلِكَ، قَال ابْنُ رُشْدٍ بِلاَ خِلاَفٍ، بِخِلاَفِ الإِْجَارَةِ بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ عَلَى سِقَايَةِ حَائِطٍ زَمَنَ السَّقْيِ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ وَجَاءَ مَاءُ السَّمَاءِ فَأَقَامَ بِهِ حَيْنًا فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِنَ الأُْجْرَةِ بِقَدْرِ إِقَامَةِ الْمَاءِ فِيهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الإِْجَارَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، وَالْمُسَاقَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ لأَِنَّهَا رُخْصَةٌ وَالرُّخْصَةُ تَسْهِيلٌ.
د - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ جَائِزَةٌ بِوَجْهٍ عَامٍّ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ مِنْهُ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 179، ومجمع الضمانات ص 314 - 315.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 550.

(37/130)


وَذَلِكَ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِنْ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُ الثَّمَرِ كَانَتْ جَائِزَةً مِنْهُمَا - الْعَامِل وَرَبِّ الأَْرْضِ - لأَِنَّ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ جَائِزٌ فِي هَذِهِ الْحَال فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كَانَ.
الثَّانِيَةُ: وَإِنْ تَنَاهَى عِظَمُ الثَّمَرِ وَتَمَّ نُضْجُهُ جَازَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ قِبَل الْعَامِل لِرَبِّ الأَْرْضِ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِي هَذِهِ الْحَال بِمَثَابَةِ حَطٍّ، وَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنْ قِبَل الْمَالِكِ لأَِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي مُقَابِل الْعَمَل، وَالْمَحَل لاَ يَحْتَمِلُهُ، إِذْ قَدْ نَضِجَ الثَّمَرُ، وَلِهَذَا لاَ يَحْتَمِل إِنْشَاءُ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَال.
وَالأَْصْل فِي هَذَا - كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ - أَنَّ كُل مَوْضِعٍ احْتَمَل إِنْشَاءَ الْعَقْدِ احْتَمَل الزِّيَادَةَ وَإِلاَّ فَلاَ، وَالْحَطُّ جَائِزٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ (1) .

أَحْكَامُ الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ فِي الاِنْتِهَاءِ:
34 - الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ انْتِهَائِهَا دُونَ فَسْخٍ أَوِ انْحِلاَلٍ تَبْرُزُ فِي الأَْحْكَامِ الآْتِيَةِ:
أَوَّلاً: اقْتِسَامُ الْخَارِجِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّ الشَّرْطَ صَحِيحٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهَذَا حُكْمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 187، ودرر الحكام 3 / 510 - 511.

(37/130)


وَإِنْ لَمْ تُثْمِرِ الأَْشْجَارُ شَيْئًا فَلاَ أَجْرَ لِلْعَامِل وَلاَ لِلْمَالِكِ لأَِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ بَعْضُ الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ فِي هَذَا (1) .
ثَانِيًا: الْعَمَل فِي الثِّمَارِ بَعْدَ إِدْرَاكِهَا قَبْل قِسْمَتِهَا مِنَ الْجُذَاذِ وَالْقَطْفِ وَالْحَصَادِ وَالتَّجْفِيفِ وَاللِّقَاطِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا عَلَيْهِمَا مَعًا عَلَى قَدْرِ - حِصَصِهِمَا، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الْمُسَاقَاةِ لاِنْتِهَائِهَا بِالإِْدْرَاكِ، حَتَّى لاَ يَجُوزَ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْعَامِل، لأَِنَّهُ لاَ عُرْفَ فِي ذَلِكَ (2) .
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْجُذَاذَ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ حِصَّتِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَشْرِطَهُ عَلَى الْعَامِل (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (4) ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا عَلَى الْعَامِل، وَأَنَّهَا لاَزِمَةٌ بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ (5) .
__________
(1) درر الحكام 3 / 513، والقوانين الفقهية 184 - 185.
(2) بدائع الصنائع 6 / 187، والهداية 4 / 44، وشرح المحلي مع القليوبي 3 / 69.
(3) المغني 5 / 403، وكشاف القناع 3 / 540، والإنصاف 5 / 486.
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 544، وبداية المجتهد 2 / 317.
(5) مغني المحتاج 2 / 329، وروضة الطالبين 5 / 159، وكشاف القناع 3 / 540، والإفصاح لابن هبيرة 2 / 47.

(37/131)


أَمَّا الأَْعْمَال الَّتِي تَلِي الْقِسْمَةَ فَتَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً لِتَمْيِيزِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الآْخَرِ (1) .
ثَالِثًا: إِنِ اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْعَامِل فِي الْمِقْدَارِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ لِلْعَامِل.
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل لِلْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ لأَِنَّ الْعَامِل يَدَّعِي الزِّيَادَةَ، وَالْمَالِكَ يُنْكِرُ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْعَامِل، وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ رَجَحَتْ بَيِّنَةُ الْعَامِل، لأَِنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَلاَ يَتَحَالَفَانِ هُنَا أَيْ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ وَاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْعَامِل لِخُلُوِّهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَإِنَّمَا يَتَحَالَفَانِ قَبْل بَدْءِ الْعَمَل وَحَال قِيَامِهِ، وَيَتَرَادَّانِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِل فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْمَال، ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا تَنَاوَلَتْهُ الْمُسَاقَاةُ فِي الشَّجَرِ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا الْعَامِل فَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (3) "، فَإِنْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَفِي أَيِّهِمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 182 - 187، والهداية 4 / 44.
(2) المبسوط 23 / 88 - 89.
(3) حديث: " البينة على المدعي واليمين. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10 / 252) وإسناده صحيح.

(37/131)


تُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِل وَالْخَارِجِ، فَإِنْ كَانَ الشَّجَرُ لاِثْنَيْنِ فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا الْعَامِل وَكَذَّبَهُ الآْخَرُ أُخِذَ نَصِيبُهُ مِنْ مَال الْمُصَدِّقِ فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الْمُنْكَرِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَدْلاً، لأَِنَّهُ لاَ يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا وَلاَ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً كَانَتْ شَهَادَتُهُ كَعَدَمِهَا، وَلَوْ كَانَ الْعَامِل اثْنَيْنِ وَرَبُّ الْمَال وَاحِدًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَيْضًا (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الاِخْتِلاَفُ قَبْل الْعَمَل فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ
وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَمَل وَيَنْعِ الثَّمَرِ: فَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا مَا يُشْبِهُ مُسَاقَاةَ الْمِثْل فَالْقَوْل لَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُسَاقَاةَ الْمِثْل وَجَبَ تَحْلِيفُهُمَا فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلاَ وَجَبَتْ مُسَاقَاةُ الْمِثْل، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَل الآْخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ عَلَى النَّاكِل.
فَإِنْ كَانَتْ مُسَاقَاةُ الْمِثْل مُخْتَلِفَةً كَأَنْ كَانَتْ عَادَةُ أَهْل الْمِنْطَقَةِ الْمُسَاقَاةَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ قُضِيَ بِالأَْكْثَرِ.
وَإِنْ أَشْبَهَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي دَعْوَاهُ مُسَاقَاةَ الْمِثْل فَالْقَوْل لِلْعَامِل بِيَمِينِهِ، لأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، وَالأَْصْل
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 410، 411.

(37/132)


عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْيَمِينَ تَجِبُ عَلَى أَقْوَى الْمُتَدَاعَيَيْنِ شُبْهَةً (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِل، وَلاَ بَيِّنَةَ تَحَالَفَا كَمَا فِي الْقِرَاضِ، وَإِذَا تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا قَبْل الْعَمَل فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُضِيَ بِهَا.
وَإِنْ كَانَ لِكُل مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَالأَْظْهَرُ أَنَّهُمَا تَتَسَاقَطَانِ فَيَتَحَالَفَانِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ أَنَّهُمَا تُسْتَعْمَلاَنِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ قَال: وَلَوْ سَاقَاهُ شَرِيكَانِ فِي الْحَدِيقَةِ، فَقَال الْعَامِل: شَرَطْتُمَا لِي نِصْفَ الثَّمَرِ وَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَقَال الآْخَرُ: بَل شَرَطْنَا الثُّلُثَ، فَنَصِيبُ الْمُصَدِّقِ مَقْسُومٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِل.
وَأَمَّا نَصِيبُ الْمُكَذِّبِ فَيَتَحَالَفَانِ فِيهِ وَلَوْ شَهِدَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَامِل أَوِ الْمُكَذِّبِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ (2) .

مَا يُفْسِدُ الْمُسَاقَاةَ
تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ بِمَا يَلِي:

35 - أَوَّلاً: اشْتِرَاطُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الثَّمَرَةِ بِالْكَيْل أَوْ بِالْوَزْنِ أَوْ: بِغَيْرِهِمَا لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، أَوْ تَخْصِيصُ جَانِبٍ مِنَ الْكَرْمِ أَوِ
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 549، وبداية المجتهد 2 / 321.
(2) الوجيز 1 / 229، وروضة الطالبين 5 / 146 - 147 - 165.

(37/132)


الْبُسْتَانِ لأَِحَدِهِمَا، أَوِ اشْتِرَاطُ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ الثَّمَرِ يُفْسِدُهَا لأَِنَّهُ مِنْ مَوْرِدِ النَّهْيِ الثَّابِتِ فِي السُّنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلأَِنَّهُ قَدْ لاَ يُثْمِرُ الشَّجَرُ إِلاَّ الْقَدْرَ الْمُسَمَّى، وَلأَِنَّ الْمُسَاقَاةَ شَرِكَةٌ فِي الثَّمَرَةِ فَقَطْ، وَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِمِثْل هَذَا الشَّرْطِ (1) .
غَيْرَ أَنَّ ابْنَ سِرَاجٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ: كَأَنْ لاَ يَجِدَ رَبُّ الْحَائِطِ عَامِلاً إِلاَّ مَعَ دَفْعِهِ لَهُ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْجُزْءِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ فَيَجُوزُ (2) .

36 - ثَانِيًا: اشْتِرَاطُ مُشَارَكَةِ الْمَالِكِ لِلْعَامِل فِي عَمَلِهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ إِذْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْعَامِل وَالشَّجَرِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهِيَ تَفُوتُ بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ مُقْتَضَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَل فِيهَا عَلَى الْعَامِل كَمَا هُوَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ (3) فِي الْمُزَارَعَةِ، وَالْمُسَاقَاةُ مِثْلُهَا وَكَذَا النَّوَوِيُّ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 186، والقوانين الفقهية 184، والشرح الكبير 2 / 540، 541، 548، وشرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي ص 67، والمغني لابن قدامة 5 / 412، 413، والحاوي 9 / 177 ط. دار الفكر. وحديث رافع سبق تخريجه ف (5) .
(2) حاشية الدسوقي 3 / 548.
(3) بدائع الصنائع 6 / 168.
(4) روضة الطالبين 5 / 155.

(37/133)


وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِ إِخْرَاجِ مَا كَانَ مِنَ الرَّقِيقِ أَوِ الدَّوَابِّ فِي الْبُسْتَانِ الْكَبِيرِ إِذْ لِلْعَامِل انْتِفَاعُهُ بِالْمَوْجُودِ مِنْهَا فِيهِ، وَإِنَّ الْمُفْسِدَ أَيْضًا: اشْتِرَاطُ تَجْدِيدِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، عَلَى الْمَالِكِ أَوِ الْعَامِل (1) .
بَل اسْتَثْنَى فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ - كَمَا سَبَقَ - جَوَازُ اشْتِرَاطِ الْعَامِل مُعَاوَنَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَالِكُ مَنْفَعَتَهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالرُّؤْيَةِ أَوِ الْوَصْفِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُفْسِدَ اشْتِرَاطُ أَكْثَرِ الْعَمَل عَلَى الْمَالِكِ (2) .

37 - ثَالِثًا: أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِل عَمَلاً يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بَعْدَ أَنْ يُونِعَ الثَّمَرُ، وَتَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ، كَنَصْبِ الْعَرَائِشِ، وَغَرْسِ الأَْشْجَارِ، وَبِنَاءِ الْجُدْرَانِ، وَتَشْيِيدِ الْبُيُوتِ لِحِفْظِ الثِّمَارِ، وَتَسْوِيرِ الْحَدَائِقِ، وَاسْتِحْدَاثِ حَفْرِيَّاتٍ مَائِيَّةٍ، فَهَذَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: لأَِنَّهُ شَرْطٌ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ (3) ، كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: لأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِعِوَضٍ مَجْهُولٍ، وَأَنَّهُ اشْتِرَاطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمَل فِي الشَّجَرِ فِي شَيْءٍ (4) ، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ.
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 540.
(2) المغني 5 / 566 - 567.
(3) المبسوط 23 / 80 - 81.
(4) مغني المحتاج 2 / 327.

(37/133)


وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَاسْتَثْنَوُا اشْتِرَاطَ الْيَسِيرِ الْقَلِيل عَلَى الْعَامِل مِمَّا لاَ يَبْقَى غَالِبًا بَعْدَ الْمُسَاقَاةِ كَإِصْلاَحِ الْحِيَاضِ وَتَحْصِينِ الْجُدُرِ (1) .

38 - رَابِعًا: اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنَ الأَْعْمَال عَلَى الْعَامِل بَعْدَ أَنْ تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَيَحِينَ الأَْكْل، كَالْقِطَافِ وَالْحِفْظِ وَالتَّجْفِيفِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِهِمَا وَلَمْ يَجْرِ بِهِ التَّعَامُل، فَكَانَ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ جَرَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْعُرْفُ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَازَ اشْتِرَاطُهُ، وَهُوَ الَّذِي رِوَاهُ بِشْرٌ وَابْنُ سَمَاحَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (2) .
غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ - كَمَا سَبَقَ - عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى الْعَامِل، فَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِهَا عَلَى الْعَامِل، لأَِنَّهَا مِنَ الْعَمَل الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُفْسِدَ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْعَامِل.
فَقَدْ قَرَّرَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا فِي الْمُحَلَّى عَلَى الْمِنْهَاجِ (3) : أَنَّ مَا عَلَى الْمَالِكِ إِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْعَامِل بَطَل الْعَقْدُ، وَكَذَا مَا عَلَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 544 - 545، ومواهب الجليل 5 / 376.
(2) المبسوط 23 / 36، وبدائع الصنائع 6 / 186.
(3) المحلي على المنهاج 3 / 69.

(37/134)


الْعَامِل إِذَا شُرِطَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَالِكِ بَطَل الْعَقْدُ.
وَكَذَا قَرَّرَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا يَلْزَمُ الآْخَرَ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَمَعَ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ الْجُذَاذَ وَنَحْوَهُ عَلَى الْعَامِل لَكِنَّهُمْ قَالُوا: أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَهُ الْعَامِل عَلَى الْمَالِكِ جَازَ، بَل قَرَّرُوا هَذَا الْمَبْدَأَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِشَيْءٍ وَاشْتَرَطَ خِلاَفَهُ عَمِل بِالشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ كَالنَّاسِخِ لِلْعَادَةِ (2) .

39 - خَامِسًا: اشْتِرَاطُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لأَِحَدِهِمَا لاِنْقِطَاعِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِهِ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْخَارِجِ لِغَيْرِهِمَا (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْعَامِل أَوِ الْمَالِكِ وَإِنْ نَفَاهُ بَعْضُهُمْ.
(ر: ف 20) .

40 - سَادِسًا: اشْتِرَاطُ الْحَمْل وَالْحِفْظِ بَعْدَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 402.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 544، وبداية المجتهد 2 / 317.
(3) بدائع الصنائع 6 / 180، ومغني المحتاج 2 / 326.

(37/134)


قِسْمَةِ الْمَحْصُول عَلَى الْعَامِل، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل الْمُسَاقَاةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَسَادَ بِهَا إِذَا كَانَتْ فِيهِ كُلْفَةٌ أَوْ مَشَقَّةٌ (1) ، قَال الدَّرْدِيرُ: أَوِ اشْتَرَطَ الْعَامِل عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ حَمْل نَصِيبِ الْعَامِل لِمَنْزِل الْعَامِل إِذَا كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَإِلاَّ جَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ لَهُ أُجْرَةَ الْحَمْل فِي الْمَمْنُوعَةِ مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْل (2) ، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ رَبِّ الْحَائِطِ عَلَى الْعَامِل ذَلِكَ (3) .

41 - سَابِعًا: تَحْدِيدُ مُدَّةٍ لاَ يُثْمِرُ الشَّجَرُ خِلاَلَهَا، وَهَذَا يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، وَمَنْ يَشْتَرِطُ التَّوْقِيتَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يُجِيزُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الْجُذَاذِ فِي الْعَادَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ فِيهَا الإِْطْلاَقُ وَلاَ التَّأْبِيدُ وَلاَ التَّوْقِيتُ بِإِدْرَاكِ الثَّمَرِ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ كَمَا سَبَقَ عِنْدَ شَرْطِ الْمُدَّةِ وَأَحْكَامِهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُدَّةٍ لاَ تَكْمُل فِيهَا الثَّمَرَةُ فَالْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةٌ (4) .

42 - ثَامِنًا: شَرِكَةُ الْعَامِل فِيمَا يَعْمَل فِيهِ، كَمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 186.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 549.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 540.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 182، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 542، ومغني المحتاج 2 / 327، 328، والمغني 5 / 406.

(37/135)


لَوْ كَانَ بُسْتَانًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ مُسَاقَاةً مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ بَيْنَهُمَا مُثَالَثَةً، ثُلُثَاهُ لِلْعَامِل وَثُلُثُهُ لِلْمَالِكِ، فَإِنَّهُ تَفْسُدُ الْمُسَاقَاةُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل، وَهَذَا لأَِنَّ الْمُسَاقَاةَ إِجَارَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الإِْنْسَانِ لِلْعَمَل فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ، وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الإِْجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَتَسْلِيمُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، لأَِنَّ كُل جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبُسْتَانِ الَّذِي يَعْمَل فِيهِ هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، فَيَكُونُ عَامِلاً فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ (1) .
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ: فَأَجَازُوا مُسَاقَاةَ الشَّرِيكِ بِشَرْطَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَشْرِطَ لَهُ زِيَادَةً عَلَى حِصَّتِهِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَشْرِطْ لَهُ زِيَادَةً عَلَيْهَا لَمْ تَصِحَّ، لِخُلُوِّهَا عَنِ الْعِوَضِ وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ بِالْعَمَل لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَالآْخَرُ: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْعَامِل بِالْعَمَل وَيَسْتَقِل بِهِ حَتَّى لَوْ شَارَكَهُ الْمَالِكُ بِالْعَمَل لَمْ تَصِحَّ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ سَاقَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَرِيكَهُ وَجَعَل لَهُ مِنَ الثَّمَرِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِثْل أَنْ يَكُونَ الأَْصْل بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَجَعَل لَهُ ثُلُثَيِ
__________
(1) الهداية 3 / 178.
(2) الوجيز 1 / 227، ومغني المحتاج 2 / 327.

(37/135)


الثَّمَرَةِ صَحَّ، وَكَانَ السُّدُسُ حِصَّتَهُ مِنَ الْمُسَاقَاةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَال: سَاقَيْتُكَ عَلَى نَصِيبِي بِالثُّلُثِ وَإِنْ جَعَل الثَّمَرَةَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ جَعَل لِلْعَامِل الثُّلُثَ فَهِيَ مُسَاقَاةٌ فَاسِدَةٌ؛ لأَِنَّ الْعَامِل يَسْتَحِقُّ نِصْفَهَا بِمِلْكِهِ فَلَمْ يَجْعَل لَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ شَيْئًا، وَإِذَا شَرَطَ لَهُ الثُّلُثَ فَقَدْ شَرَطَ أَنَّ غَيْرَ الْعَامِل يَأْخُذُ مِنْ نَصِيبِ الْعَامِل ثُلُثَهُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ بِلاَ عِوَضٍ فَلاَ يَصِحُّ، فَإِذَا عَمِل فِي الشَّجَرِ بِنَاءً عَلَى هَذَا كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْعَامِل بِعَمَلِهِ شَيْئًا، لأَِنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ لِرِضَاهُ بِالْعَمَل بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال لَهُ: أَنَا أَعْمَل فِيهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، لأَِنَّهُ عَمِل فِي مَال غَيْرِهِ مُتَبَرِّعًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضًا كَمَا لَوْ لَمْ يَعْقِدِ الْمُسَاقَاةَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْل، لأَِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَقْتَضِي عِوَضًا فَلَمْ تَسْقُطْ بِرِضَاهُ بِإِسْقَاطِهِ كَالنِّكَاحِ إِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمُسَمَّى يَجِبُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْل (1) .

أَحْكَامُ الْمُسَاقَاةِ الْفَاسِدَةِ
43 - إِذَا وَقَعَتِ الْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً، وَاطَّلَعَ عَلَى الْفَسَادِ وَقَبِل الشُّرُوعَ فِي الْعَمَل وَجَبَ فَسْخُهَا هَدَرًا بِلاَ شَيْءٍ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَوِ الْعَامِل،
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 5 / 580.

(37/136)


لأَِنَّ الْوُجُوبَ أَثَرٌ لِلْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُوجَدْ (1) .
أَمَّا إِذَا اطَّلَعَ عَلَى الْفَسَادِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاتِجِ وَنَصِيبِ الْعَامِل وَالْمَالِكِ، أَوْ مَا يَكُونُ لِلْعَامِل وَلِلْمَالِكِ وَفْقَ الْبَيَانِ التَّالِي:
1 - أَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ الْقَوْل بِوُجُوبِ الأُْجْرَةِ لِلْعَامِل وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِكِ لِلثَّمَرِ فِي الْمُسَاقَاةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ (2) .
ب - أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الْعَامِل عَلَى الْعَمَل لأَِنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْعَمَل بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَصِحَّ.
ج - أَنَّ أَجْرَ الْمِثْل لاَ يَجِبُ فِي الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدِ الْعَمَل.
5 - أَنَّ أَجْرَ الْمِثْل فِيهَا يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى لاَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَجِبُ تَامًّا.
وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ حِصَّةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْل تَامًّا بِلاَ خِلاَفٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 182 - 188، وبداية المجتهد 2 / 321، والقوانين الفقهية 184، وكشاف القناع 3 / 544، ومواهب الجليل 5 / 385، وحاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 85.
(2) حاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 85، وبداية المجتهد 2 / 321، وكشاف القناع 3 / 544، وبدائع الصنائع 6 / 183، 188.

(37/136)


، قَال الْكَاسَانِيُّ (1) : وَوَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ: أَنَّ الأَْصْل فِي الإِْجَارَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْل لأَِنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَذَلِكَ فِي وُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْل، لأَِنَّهُ الْمِثْل الْمُمْكِنُ فِي الْبَابِ إِذْ هُوَ قَدْرُ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ ضَرْبَ جَهَالَةٍ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَدَل تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، فَوَجَبَ الْمُسَمَّى عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ أَيْضًا، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْبَدَل الأَْصْلِيِّ لِلْمَنَافِعِ وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْل وَلِهَذَا إِذَا لَمْ يُسَمَّ الْبَدَل أَصْلاً فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْل بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الأَْصْل مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْل بَدَلاً عَنِ الْمَنَافِعِ قِيمَةً لَهَا لأَِنَّهُ هُوَ الْمِثْل بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لَكِنْ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى، لأَِنَّهُ كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَدَل فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، لأَِنَّ اعْتِبَارَ تَصَرُّفِ الْعَاقِل وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْل بِالْمُسَمَّى، لأَِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى وَالآْجِرَ مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمُسَمَّى فِي تَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْل بِهِ عَمَلاً بِالدَّلِيلَيْنِ وَرِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 183، 188.

(37/137)


فَكَانَ أَوْلَى، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَدَل سُمِّيَ فِي الْعَقْدِ لأَِنَّ الْبَدَل إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى أَصْلاً لاَ حَاجَةَ إِلَى اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ أَجْرِ الْمِثْل فَهُوَ الْفَرْقُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفَصَّلُوا فِي الاِطِّلاَعِ عَلَى الْفَسَادِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ (2) فِي بَيَانِ الْمَذْهَبِ، بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَالْمَذْكُورَةُ عِنْدَ بَيَانِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ قَال: وَقِيل: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةِ الْمِثْل بِإِطْلاَقٍ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَال فِي بَعْضِهَا: تُرَدُّ إِلَى مُسَاقَاةٍ مِثْلِهَا، وَفِي بَعْضِهَا: إِلَى إِجَارَةِ الْمِثْل.

انْفِسَاخُ الْمُسَاقَاةِ
تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةِ بِالْمَوْتِ، وَمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالاِسْتِحْقَاقِ، وَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ، وَالْفَسْخِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ - الْمَوْتُ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَسْخِ الْمُسَاقَاةِ بِالْمَوْتِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَبْطُل الْمُسَاقَاةُ بِالْمَوْتِ لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الإِْجَارَةِ، فَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ قَبْل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 183.
(2) بداية المجتهد 2 / 321 - 322، والقوانين الفقهية 184، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 547 - 549، ومواهب الجليل 5 / 385 - 387.

(37/137)


الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَلاَ يُلْزَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ لِلآْخَرِ.
وَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَقُسِمَ الثَّمَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ.
وَلَوْ طَرَأَ الْمَوْتُ وَالثَّمَرُ فِجٌّ فَقَالُوا بِبَقَاءِ الْعَقْدِ حُكْمًا وَإِنْ بَطَل قِيَاسًا، وَفَرَّقُوا بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:

الْحَال الأَْوَّل: أَنْ يَمُوتَ رَبُّ الأَْرْضِ وَلَمَّا يَنْضَجِ الثَّمَرُ، بِأَنْ كَانَ بُسْرًا أَوْ فِجًّا، فَيَجُوزُ لِلْعَامِل أَنْ يَقُومَ بِهِ حَتَّى يَنْضَجَ وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ وَرَثَتُهُ لأَِنَّ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ إِضْرَارًا بِهِ وَإِبْطَالاً لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ فِي الأَْشْجَارِ إِلَى وَقْتِ الإِْدْرَاكِ، فَإِذَا انْتَقَضَ الْعَقْدُ، تَكَلَّفَ الْجُذَاذَ قَبْل الإِْدْرَاكِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَ نَقْضُ الإِْجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلأَِنْ يَجُوزَ بَقَاؤُهَا لِدَفْعِهِ أَوْلَى، وَلاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَرَثَةِ (1) ، فَلَوْ أَرَادَ الْعَامِل تَحَمُّل الضَّرَرَ وَرَضِيَ بِقَطْعِ الثَّمَرِ فِجًّا أَوْ بُسْرًا، تَخَيَّرَ وَرَثَةُ الْمَالِكِ بَيْنَ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ.
الثَّانِي: أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ يَوْمَئِذٍ فِجًّا،
__________
(1) الاختيار 3 / 80، والمبسوط 23 / 58، ودرر الحكام 3 / 514.

(37/138)


وَيَبْقَى الثَّمَرُ لَهُمْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَامِل بِجَمِيعِ مَا أَنْفَقُوا، لأَِنَّ الْعَمَل عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ (1) وَهَذَا لأَِنَّ الْعَامِل لَمَّا امْتَنَعَ عَنِ الْعَمَل لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ إِبْقَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْبُطْلاَنِ وَهُوَ الْمَوْتُ اسْتِحْسَانًا لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ هُوَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ، فَيُخَيَّرُ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ (2) .

الْحَال الثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ الْعَامِل وَالثَّمَرُ كَذَلِكَ بُسْرٌ، فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ، إِنْ شَاءَ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَل حَتَّى نُضُوجِ الثَّمَرِ وَلاَ يَحِقُّ لِصَاحِبِ الأَْشْجَارِ مَنْعُهُ؛ لأَِنَّهُ نَظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْوَارِثُ عَنِ الاِسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَمَل فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى الْعَمَل، وَلَكِنْ يَكُونُ صَاحِبُ الشَّجَرِ مُخَيَّرًا بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلاَثَةِ التَّالِيَةِ:
الْوَجْهُ الأَْوَّل: إِنْ شَاءَ اقْتَسَمَ الثَّمَرَ الْغَيْرَ النَّاضِجِ مَعَ الْوَارِثِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوطِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَإِنْ شَاءَ أَدَّى لِلْوَارِثِ حِصَّتَهُ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرِ الْغَيْرِ النَّاضِجِ.
__________
(1) الاختيار 3 / 80.
(2) تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 5 / 284 - 285، والمبسوط 23 / 56 - 58، وابن عابدين 5 / 184.

(37/138)


الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَإِنْ شَاءَ يَصْرِفْ قَدْرًا مَعْرُوفًا بِإِذْنِ الْقَاضِي وَيَسْتَمِرُّ عَلَى الْعَمَل، وَيَأْخُذُ الْمَبْلَغَ الْمَصْرُوفَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَارِثِ، وَلَكِنْ لاَ يَتَجَاوَزُ هَذَا الْمَبْلَغُ الْمَصْرُوفُ فِي أَيِّ حَالٍ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ (1) .

الْحَال الثَّالِثُ: إِذَا تُوُفِّيَ كِلاَهُمَا فَيَكُونُ وَرَثَةُ الْعَامِل مُخَيَّرِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا لأَِنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْعَامِل، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا الْخِيَارُ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الأَْرْضِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَال الدَّرْدِيرُ: وَإِذَا لَمْ تَنْفَسِخْ - أَيِ الْمُسَاقَاةُ - بِالْفَلَسِ الطَّارِئِ فَكَذَا بِالْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ كَالْفَلَسِ، وَالْمُسَاقَاةَ كَالْكِرَاءِ لاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُتَكَارِيَيْنِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَوْتِ الْمَالِكِ وَمَوْتِ الْعَامِل:
فَإِنْ مَاتَ مَالِكُ الشَّجَرِ فِي أَثَنَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ تَنْفَسِخِ الْمُسَاقَاةُ بَل يَسْتَمِرُّ الْعَامِل وَيَأْخُذُ نَصِيبَهُ (3) .
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَارِثُ، أَيْ إِذَا سَاقَى الْمُوَرِّثُ مَنْ يَرِثُهُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ (4) ، وَكَذَا لَوْ سَاقَى الْبَطْنُ الأَْوَّل الْبَطْنَ
__________
(1) درر الحكام 3 / 514، 515.
(2) الشرح الكبير 3 / 283، 546.
(3) روضة الطالبين 5 / 162.
(4) مغني المحتاج 2 / 331.

(37/139)


الثَّانِيَ ثُمَّ مَاتَ الأَْوَّل فِي أَثَنَاءِ الْمُدَّةِ وَكَانَ الْوَقْفُ وَقْفَ تَرْتِيبٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْفَسِخَ كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ، لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ عَامِلاً لِنَفْسِهِ (1) .
وَإِنْ مَاتَ الْعَامِل يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ أَوْ عَلَى ذِمَّتِهِ: فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِهِ كَمَا تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِمَوْتِ الأَْجِيرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَيَّدَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا إِذَا مَاتَ قَبْل تَمَامِ الْعَمَل وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ نَحْوُ التَّجْفِيفِ فَلاَ تَنْفَسِخُ (2) .
وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَوَجْهَانِ:
الأَْوَّل: تَنْفَسِخُ، لأَِنَّهُ لاَ يَرْضَى بِيَدِ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ: لاَ تَنْفَسِخُ كَالإِْجَارَةِ بَل يُنْظَرُ:
أ - إِنْ خَلَّفَ تَرِكَةً تَمَّمَ وَارِثُهُ الْعَمَل، بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَل وَإِلاَّ، فَإِنْ أَتَمَّ الْعَمَل بِنَفْسِهِ أَوِ اسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِهِ مَنْ يُتَمِّمُ، فَعَلَى الْمَالِكِ تَمْكِينُهُ إِنْ كَانَ مُهْتَدِيًا إِلَى أَعْمَال الْمُسَاقَاةِ وَيُسَلِّمُ لَهُ الْمَشْرُوطَ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً لَمْ يَقْتَرِضْ عَلَى الْمَيِّتِ وَلِلْوَارِثِ أَنْ يُتِمَّ الْعَمَل بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 331.
(2) القليوبي والمحلي 3 / 66.

(37/139)


وَيُسَلِّمَ لَهُ الْمَشْرُوطَ.
قَال الْغَزَالِيُّ (1) : فَإِنْ أَبَى لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أُجْرَةَ الْعَمَل الْمَاضِي وَفُسِخَ الْعَقْدُ لِلْمُسْتَقْبَل.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَالْمُسَاقَاةُ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا لَوْ فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِلُزُومِهَا - وَهُوَ غَيْرُ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - فَلاَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَيَجْرِي الْحُكْمُ عَلَى نَحْوِ التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فِي مَوْتِ الْعَامِل وَلَمْ يَتْرُكْ تَرِكَةً، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ أَوْ تَعَذَّرَ الاِسْتِئْجَارُ مِنْهَا بِيعَ مِنْ نَصِيبِ الْعَامِل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَكْمِيل الْعَمَل وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ أَيْ نَصِيبَ الْعَامِل هُوَ أَوْ وَارِثُهُ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِالْعَمَل جَازَ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ (2) .

ب - مُضِيُّ الْمُدَّةِ:
45 - الْغَالِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَقَدْ نَضِجَ الثَّمَرُ فَيَنْتَهِي الْعَقْدُ وَيُقْسَمُ الثَّمَرُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ يَحْدُثُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ وَالثَّمَرُ فِجٌّ، وَالْقِيَاسُ يَقْضِي بِبُطْلاَنِ
__________
(1) الوجيز للغزالي 1 / 229.
(2) كشاف القناع 2 / 538، وانظر: الشرح الكبير مع المغني لابن قدامة 5 / 568 - 569.

(37/140)


الْعَقْدِ كَمَا يَقْضِي بِبُطْلاَنِهِ لِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، لَكِنَّ الاِسْتِحْسَانَ يَقْضِي بِبَقَائِهِ حُكْمًا هُنَا كَمَا قَضَى بِبَقَائِهِ هُنَاكَ بِسَبَبِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَفْقَ الأَْحْكَامِ التَّالِيَةِ:
أ - يَتَخَيَّرُ الْعَامِل بَيْنَ الْمُضِيِّ فِي الْعَمَل عَلَى الشَّرْطِ حَتَّى يُدْرِكَ وَبَيْنَ تَرْكِهِ.
ب - إِذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ فِي الْعَمَل لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَجْرُ حِصَّتِهِ حَتَّى يُدْرِكَ الثَّمَرُ، لأَِنَّ الشَّجَرَ لاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ، وَهُوَ بِخِلاَفِ الْمُزَارَعَةِ حَيْثُ يَجِبُ الأَْجْرُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الأَْرْضِ (1) .
ج - الْعَمَل كُلُّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِل وَحْدَهُ هُنَا، لِعَدَمِ وُجُوبِ الأَْجْرِ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الشَّجَرِ بِخِلاَفِ الْمُزَارَعَةِ، فَإِنَّ الْعَمَل فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنِسْبَةِ - حِصَصِهِمَا، لأَِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْعَامِل مِنْ أَجْرِ الأَْرْضِ بِنِسْبَةِ نَصِيبِهِ مِنَ الْخَارِجِ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ عَمَل مِثْل نِسْبَةِ نَصِيبِهِ مِنَ الْخَارِجِ، لأَِنَّ بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ أَصْبَحَ الزَّرْعُ مَالاً مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا (2) .
وَإِنِ اخْتَارَ الْعَامِل التَّرْكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى
__________
(1) الهداية 4 / 61، والاختيار 3 / 81.
(2) درر الحكام 3 / 515، والمبسوط 23 / 57، وبدائع الصنائع 6 / 184 - 185.

(37/140)


الْعَمَل، لَكِنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ مِنْ قَطْفِ الثَّمَرِ فِجًّا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ وَيَتَخَيَّرُ هَذَا عِنْدَئِذٍ بَيْنَ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ سَابِقًا عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى أَحْكَامِ انْفِسَاخِ الْمُسَاقَاةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي هَذَا الأَْمْرِ:
فَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَحْصُل الطَّلْعُ، فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل فِيمَا عَمِل وَيَضِيعُ تَعَبُهُ فِي الْمُدَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَمَرَةٌ، لأَِنَّهُ دَخَل عَلَى ذَلِكَ.
وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَعَلَى الشَّجَرِ الطَّلْعُ فَعِنْدَ الْبَغَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ يَكُونُ التَّعَهُّدُ إِلَى الإِْدْرَاكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ عَلَيْهِمَا، وَلاَ يَلْزَمُ الْعَامِل لِتَبْقِيَتِهَا أُجْرَةً.
وَلأَِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَامِل يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِظُهُورِهِ وَانْعِقَادِهِ بَعْدَ الظُّهُورِ (1) .
وَإِنْ أَدْرَكَتِ الثِّمَارُ قَبْل انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَجَبَ عَلَى الْعَامِل أَنْ يَعْمَل بَقِيَّتَهَا بِغَيْرِ أُجْرَةٍ (2) .

ج - الاِسْتِحْقَاقُ:
46 - إِذَا اسْتُحِقَّ الشَّجَرُ الْمُسَاقَى عَلَيْهِ وَفَسَخَ الْمُسْتَحِقُّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُنْظَرُ: فَإِذَا كَانَ الاِسْتِحْقَاقُ حَصَل بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرِ فَلِلْعَامِل أَجْرُ مِثْلِهِ مِنْ صَاحِبِ الشَّجَرِ،
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 68، ومغني المحتاج 2 / 328، وروضة الطالبين 5 / 156.
(2) مغني المحتاج 2 / 328، وحاشية عميرة على شرح المنهاج 3 / 68.

(37/141)


وَإِذَا كَانَ قَبْل ظُهُورِ الثَّمَرِ فَلاَ يَأْخُذُ الْعَامِل شَيْئًا.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الأُْخْرَى (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَحَقَّ الْحَائِطَ بَعْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ فِيهِ خُيِّرَ الْمُسْتَحِقُّ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْعَمَل وَفَسْخِ عَقْدِهِ، لِكَشْفِ الْغَيْبِ أَنَّ الْعَاقِدَ لَهُ غَيْرُ مَالِكٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَدْفَعُ لَهُ أُجْرَةَ عَمَلِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ خَرَجَ الثَّمَرُ بَعْدَ الْعَمَل مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِ الْمُسَاقِي كَأَنْ أَوْصَى بِثَمَنِ الشَّجَرِ الْمُسَاقَى عَلَيْهِ أَوْ خَرَجَ الشَّجَرُ مُسْتَحَقًّا فَلِلْعَامِل عَلَى الْمُسَاقِي أُجْرَةُ الْمِثْل لِعَمَلِهِ، لأَِنَّهُ فَوَّتَ مَنَافِعَهُ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ فَيَرْجِعُ بِبَدَلِهَا، هَذَا إِذَا عَمِل جَاهِلاً بِالْحَال، فَإِنْ عَلِمَ الْحَال فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْخُرُوجُ قَبْل الْعَمَل (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ظَهَرَ الشَّجَرُ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ الْعَمَل أَخَذَ الشَّجَرَ رَبُّهُ وَأَخَذَ ثَمَرَتَهُ لأَِنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ وَلاَ حَقَّ لِلْعَامِل فِي ثَمَرَتِهِ وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ عَلَى رَبِّ الشَّجَرِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعَمَل وَلِلْعَامِل عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لأَِنَّهُ غَرَّهُ وَاسْتَعْمَلَهُ.
__________
(1) درر الحكام 3 / 515، وانظر حاشية ابن عابدين 5 / 181.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 546.
(3) المنهاج مع شرحه مغني المحتاج 2 / 331.

(37/141)


وَقَالُوا أَيْضًا: وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الثَّمَرَةُ بَعْدَ أَنِ اقْتَسَمَهَا الْغَاصِبُ وَالْعَامِل وَأَكَلاَهَا فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَلَهُ تَضْمِينُهُ الْكُل وَلَهُ تَضْمِينُهُ قَدْرَ نَصِيبِهِ لأَِنَّ الْغَاصِبَ سَبَبُ يَدِ الْعَامِل فَلَزِمَهُ ضَمَانُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ تَضْمِينُ الْعَامِل قَدْرَ نَصِيبِهِ لِتَلَفِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ الْكُل رَجَعَ عَلَى الْعَامِل بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، وَيَرْجِعُ الْعَامِل عَلَى الْغَاصِبِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ لأَِنَّهُ غَرَّهُ (1) .

د - تَصَرُّفُ الْمَالِكِ:
47 - الْمُرَادُ بِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ: بَيْعُ الْمَالِكِ الْحَدِيقَةَ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ أَوْ هِبَتُهَا؛ أَوْ رَهْنُهَا، أَوْ وَقْفُهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: بَيْعُ الْحَدِيقَةِ الَّتِي سَاقَى عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ يُشْبِهُ بَيْعَ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيُّ: أَنَّ الْمَالِكَ إِنْ بَاعَهَا قَبْل خُرُوجِ الثَّمَرَةِ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ لِلْعَامِل حَقًّا فِي ثِمَارِهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الثَّمَرَةِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الأَْشْجَارِ وَنَصِيبُ الْمَالِكِ مِنَ الثِّمَارِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ لأَِنَّهَا مَبِيعَةٌ مَعَ الأُْصُول، وَيَكُونُ الْعَامِل مَعَ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ مَعَ الْبَائِعِ.
وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ وَحْدَهَا، لَمْ يَصِحَّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 415، وكشاف القناع 3 / 539.

(37/142)


لِلْحَاجَةِ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ وَتَعَذُّرِهِ فِي الشَّائِعِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيُّ حَسَنٌ (1) .
قَال الطَّبَرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ قَال: سُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل يَبْتَاعُ الأَْرْضَ وَقَدْ سَاقَاهَا صَاحِبُهَا رَجُلاً قَبْل ذَلِكَ سِنِينَ، فَقَال الْمُسَاقِي: أَنَا أَحَقُّ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَنِي (فَقَال) لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ سِقَائِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَيَا (2) .

هـ - الْفَسْخُ بِالإِْقَالَةِ وَالْعُذْرِ
48 - لَمَّا كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَقْدًا لاَزِمًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِفَسْخِهَا، وَإِنَّمَا تُفْسَخُ بِمَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

الأَْمْرُ الأَْوَّل: الاِتِّفَاقُ الصَّرِيحُ عَلَى الْفَسْخِ وَالإِْقَالَةِ، وَلاَ يُخَالِفُ فِي هَذَا أَحَدٌ.
وَالَّذِينَ يَرَوْنَ مِنَ الْفُقَهَاءِ - كَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ - أَنَّ الْمُسَاقَاةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، يَسْتَجِيزُونَ لِكِلاَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْفَسْخَ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ وَعَلَى الْعَامِل إِتْمَامُ الْعَمَل، وَإِنْ وَقَعَ الْفَسْخُ قَبْل ظُهُورِ الثَّمَرَةِ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي فَسَخَ هُوَ الْعَامِل فَلاَ شَيْءَ لَهُ، لأَِنَّهُ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ،
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 167، 252 - 255.
(2) اختلاف الفقهاء للطبري ص 143.

(37/142)


وَإِنْ كَانَ الْمَالِكَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْل لِلْعَامِل لأَِنَّهُ مَنَعَهُ إِتْمَامَ عَمَلِهِ (1) .

الأَْمْرُ الثَّانِي: الْفَسْخُ بِالْعُذْرِ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: جَوَازُ الْفَسْخِ لِحُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ حَيْنَ الْعُذْرِ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَصْل جَوَازِ الْفَسْخِ بِالْعُذْرِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: عَدَمُ جَوَازِ الْفَسْخِ بِالأَْعْذَارِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ لاَزِمٌ وَهُوَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلاَ يَنْفَسِخُ إِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا (2) .
(ر: إِجَارَةٌ ف 64 - 65) .

نَوْعَا الْفَسْخِ بِالْعُذْرِ
الْعُذْرُ لِجِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ نَوْعَانِ: عُذْرُ الْمَالِكِ، وَأَعْذَارُ الْعَامِل.

الأَْوَّل: عُذْرُ الْمَالِكِ:
49 - فَمِنْ عُذْرِ الْمَالِكِ أَنْ يَفْدَحَهُ دَيْنٌ لاَ يَجِدُ لَهُ قَضَاءً إِلاَّ بِبَيْعِ الشَّجَرِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَمْكَنَ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْعَامِل، كَأَنْ يَفْسَخَ قَبْل أَنْ يَعْمَل الْعَامِل أَوْ بَعْدَ أَنْ عَمِل
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 331، والشرح الكبير مع المغني 5 / 565 - 566، وكشاف القناع 3 / 537.
(2) القليوبي 3 / 80.

(37/143)


وَقَدْ أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ الأَْرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَفْسَخُ الْعَقْدَ وَلاَ تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ بِمُجَرَّدِ طُرُوءِ الْعُذْرِ.
وَتَجْوِيزُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْحَال لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِكِ إِذَا كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إِلاَّ بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى فَسْخِ الإِْجَارَةِ بِهِ.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْفَسْخُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ عَمِل الْعَامِل وَقَبْل أَنْ يُدْرِكَ الثَّمَرُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلاَ أَنْ يَبِيعَ الشَّجَرَ، بَل يَبْقَى حُكْمُ الْعَقْدِ حَتَّى يَبْلُغَ الثَّمَرُ، فَعِنْدَئِذٍ يَبِيعُ نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرِ، وَيَبِيعُ الشَّجَرَ فِي دَيْنِهِ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ، لأَِنَّ الشَّرِكَةَ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَرِ، وَلإِِدْرَاكِهِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَفِي الاِنْتِظَارِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي نَقْضِ الْمُعَامَلَةِ إِضْرَارٌ بِالْعَامِل مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ إِبْطَال حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِ الثَّمَرِ، فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ قُلْنَا: يُمْنَعُ الْمَالِكُ مِنْ بَيْعِ الشَّجَرِ، وَيَبْقَى الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يُدْرِكَ مَا خَرَجَ مِنَ الثَّمَرِ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لاَ تَنْفَسِخُ بِإِفْلاَسِ الْمَالِكِ إِذَا طَرَأَ الْفَلَسُ عَلَى الْعَقْدِ قَبْل الْعَمَل أَوْ بَعْدَهُ، بَل يُبَاعُ الشَّجَرُ عَلَى
__________
(1) المبسوط 23 / 101 - 102، وبدائع الصنائع 6 / 183، والاختيار 3 / 81.

(37/143)


أَنَّهُ مُسَاقًى وَلَوْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ سِنِينَ، كَمَا تُبَاعُ الدَّارُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ (1) .

الثَّانِي: أَعْذَارُ الْعَامِل:
50 - مِنْ أَهَمِّ أَعْذَارِ الْعَامِل:
أ - عَجْزُ الْعَامِل عَنِ الْعَمَل.
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا عَجَزَ الْعَامِل عَنِ الْعَمَل بِسَبَبِ الْمَرَضِ أَوِ الشَّيْخُوخَةِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْعَامِل عَنِ الْعَمَل بِسَبَبِ الْمَرَضِ الَّذِي يُضْعِفُهُ عَنِ الْعَمَل، أَوِ الشَّيْخُوخَةِ، جَازَ فَسْخُ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ إِلْزَامَهُ بِالْعَمَل بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْعَقْدِ، كَمَا لاَ يُؤْمَرُ بِاسْتِئْجَارِ مَنْ يَعْمَل عَمَلَهُ لأَِنَّ فِيهِ أَيْضًا إِلْحَاقَ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فِي الْعَقْدِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عَجَزَ الْعَامِل وَقَدْ حَل بَيْعُ الثَّمَرِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ أَنْ يُسَاقِيَ غَيْرَهُ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَل أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَل وَإِنْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ اسْتُؤْجِرَ مِنْ حَظِّهِ مِنَ الثَّمَرِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ضَعُفَ الْعَامِل وَهُوَ أَمِينٌ، ضُمَّ إِلَيْهِ عَامِلٌ قَوِيٌّ أَمِينٌ وَلاَ تُنْزَعُ يَدُهُ، لأَِنَّ
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 546، ومواهب الجليل 5 / 383.
(2) المبسوط 23 / 102.
(3) بداية المجتهد 2 / 271.

(37/144)


الْعَمَل مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلاَ ضَرَرَ فِي بَقَاءِ يَدِهِ.
أَمَّا إِنْ عَجَزَ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ يُقَامُ مَقَامَهُ مَنْ يَعْمَل عَلَيْهِ وَلاَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ عَلَيْهِ تَوْفِيَةَ الْعَمَل وَهَذَا مِنْ تَوْفِيَتِهِ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ لِطُرُوءِ الْمَرَضِ عَلَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَكَذَا الْهَرَبُ أَوِ الْحَبْسُ أَوِ الاِمْتِنَاعُ عَنِ الْعَمَل، سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل أَوْ قَبْل الشُّرُوعِ فِيهِ.
قَالُوا: إِنْ تَبَرَّعَ غَيْرُهُ بِعَمَلِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ الْمَالِكَ، بَقِيَ حَقُّ الْعَامِل، لأَِنَّ مَا يُنْفِقُهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ.
لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ أَجْنَبِيًّا فَلِلْمَالِكِ فَسْخُ الْعَقْدِ، إِذْ قَدْ لاَ يَرْضَى بِدُخُولِهِ مِلْكَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ غَيْرُهُ رُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لِلْعَامِل مَالٌ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَى ذِمَّتِهِ: اسْتَأْجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَنْ يُتِمُّ الْعَمَل، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِ الْعَامِل لاَ يَسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ فِي هَذِهِ الْحَال بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الإِْبْقَاءِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِل مَالٌ فَإِنْ ظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ اسْتَأْجَرَ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِئْجَارُ عَامِلٍ يَعْمَل بِمُؤَجَّلٍ إِلَى ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فَعَل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اقْتَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 574 - 575.

(37/144)


غَيْرِهِ وَيُوَفَّى نَصِيبَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، أَوْ أَذِنَ الْمَالِكُ فِي الإِْنْفَاقِ، لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَنْفَقَ.
أَمَّا إِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْمَالِكُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَاكِمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاكِمٌ، أَوْ رَفَضَ الْحَاكِمُ إِجَابَتَهُ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ مَرَضُ الْعَامِل أَوْ هَرَبُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ الإِْشْهَادُ عَلَى مَا يُنْفِقُهُ أَوْ يَعْمَلُهُ إِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ أَوْ بِأُجْرَةِ مَا عَمِل، وَوَجَبَ أَيْضًا التَّصْرِيحُ بِالرُّجُوعِ فِي إِشْهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِشْهَادُهُ كَذَلِكَ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الإِْشْهَادُ أَيْضًا لاَ رُجُوعَ لَهُ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ، وَلَكِنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْفَسْخِ إِنْ شَاءَ (1) .
ب - سَفَرُ الْعَامِل، لأَِنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِمُطَالَبَةِ غَرِيمٍ لَهُ أَوِ الْحَجِّ.
ج - تَرْكُ حِرْفَتِهِ، لأَِنَّ مِنَ الْحِرَفِ مَا لاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى الاِنْتِقَال إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَل.
وَمَعَ ذَلِكَ ذُكِرَتْ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - رِوَايَتَانِ فِي الْفَسْخِ بِسَبَبِ هَذِهِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ - الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَتَرْكِ الْحِرْفَةِ - وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْعِنَايَةِ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 66، وانظر أيضًا حاشية الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 85، والوجيز 1 / 228 - 229، وفتح الوهاب وحاشية البجيرمي عليه 3 / 380، ومغني المحتاج 2 / 330.

(37/145)


عَلَيْهَا أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَرْكِ الْعَمَل، غَيْرَ أَنَّهُمْ صَحَّحُوا التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا عُذْرٌ يُبِيحُ الْفَسْخَ إِذَا شَرَطَ عَلَى الْعَامِل أَنْ يَعْمَل بِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعُذْرٍ مُبِيحٍ لِلْفَسْخِ إِذَا أَطْلَقَ، لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَنِيبَ غَيْرَهُ فِي الْعَمَل مَنَابَهُ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ الْفَسْخِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ: فَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْفَسْخُ بِالْقَضَاءِ.
فَيَنْفَرِدُ ذُو الْعُذْرِ بِالْفَسْخِ، وَفِي رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ أَوِ التَّرَاضِي (1) .
د - إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَامِل لِصٌّ، يُخَافُ مِنْهُ عَلَى الشَّجَرِ أَوِ الثَّمَرِ فَلِلْمَالِكِ فَسْخُ الْعَقْدِ (2) . وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتْ خِيَانَةُ الْعَامِل بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ مِنَ الْعَامِل عَلَى الْمَالِكِ ضُمَّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْعَمَل، وَعَلَى الْعَامِل أُجْرَةُ الْمُشْرِفِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُهُ بِالْمُشْرِفِ اسْتُؤْجِرَ مِنْ مَال الْعَامِل عَامِلٌ يُتِمُّ الْعَمَل، وَعَلَى الْعَامِل أُجْرَةُ الْمُشْرَفِ أَيْضًا (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 49، وحاشية ابن عابدين 5 / 185، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 286.
(2) بدائع الصنائع 6 / 188، والمبسوط 23 / 101.
(3) الشرح الكبير مع المغني 5 / 573 - 574، وكشاف القناع 3 / 541.

(37/145)


وَلَوْ ثَبَتَتْ خِيَانَةُ عَامِلٍ فِي الْمُسَاقَاةِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ ضُمَّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ إِلَى أَنْ يُتِمَّ الْعَمَل وَلاَ تُزَال يَدُهُ، لأَِنَّ الْعَمَل حَقٌّ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَتَعَيَّنَ سُلُوكُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَأُجْرَةُ الْمُشْرِفِ عَلَيْهِ، نَعَمْ لَوْ لَمْ تَثْبُتِ الْخِيَانَةُ وَلَكِنِ ارْتَابَ الْمَالِكُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ وَأُجْرَتُهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَفَّظْ بِالْمُشْرِفِ أُزِيلَتْ يَدُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَال الْعَامِل مَنْ يُتِمُّ الْعَمَل لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْعَمَل الْوَاجِبِ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، نَعَمْ إِنْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَيْنِهِ فَظَاهِرٌ كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ: أَنَّهُ لاَ يَسْتَأْجِرُ عَنْهُ بَل يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَلاَ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُتَحَفَّظَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ التَّحَفُّظُ سَاقَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ عَامِلاً آخَرَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُتَّفَقُ عَلَى الْعَامِل الثَّانِي أَقَل مِنَ الأَْوَّل أَوْ أَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ لَهُ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ (2) .

أَحْكَامُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال:
51 - إِذَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ قَبْل أَنْ يُثْمِرَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 331.
(2) بداية المجتهد 2 / 321، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 549.

(37/146)


الشَّجَرُ انْتَقَضَ الْعَقْدُ وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل وَإِنْ كَانَ قَدْ سَقَى الشَّجَرَ وَقَامَ عَلَيْهِ وَحَفِظَهُ، لأَِنَّ الْمُسَاقَاةَ شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ بِهِ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَقِيل هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ اسْتِرْضَاءُ الْعَامِل فِي الدِّيَانَةِ.
وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ أَزْهَرَ الشَّجَرُ أَوْ أَثْمَرَ وَلَمَّا يَنْضَجْ بَعْدُ فَالْحُكْمُ مَا يَأْتِي:
أ - يَبْقَى الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا فِي الْعَقْدِ حَتَّى يَكْتَمِل نُضْجُهُ.
ب - الْعَمَل فِي الشَّجَرِ فِيمَا بَقِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّهُ عَمَلٌ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَمَل فِيهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا.
ج - عَلَى الْعَامِل أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ مِثْل نِصْفِ الشَّجَرِ إِلَى الْمَالِكِ، لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ، وَفِي قَطْفِ الثَّمَرِ فِي حَالِهِ الرَّاهِنَةِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَفِي تَرْكِهِ بِلاَ أَجْرٍ إِضْرَارٌ بِصَاحِبِ الأَْرْضِ فَكَانَ فِي التَّرْكِ بِأَجْرِ الْمِثْل نَظَرٌ لِلطَّرَفَيْنِ.
د - وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الشَّجَرِ فِي هَذِهِ الْحَال، رِعَايَةً لِحَقِّ الْعَامِل إِلاَّ أَنْ يُجِيزَهُ وَيُسْقِطَ حَقَّهُ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّجَرِ وَهُوَ مُسَاقًى وَلَوْ كَانَتِ الْمُسَاقَاةُ إِلَى سِنِينَ كَمَا تُبَاعُ الدَّارُ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ (2) .
__________
(1) المبسوط 23 / 57 - 58، وبدائع الصنائع 6 / 184، ودرر الحكام وحاشية الشرنبلالي عليه 2 / 327.
(2) الشرح الكبير للدردير 3 / 546.

(37/146)


هـ - إِنِ اسْتُحِقَّتِ الأَْرْضُ أَوِ الشَّجَرُ كَانَ الثَّمَرُ لِلْمُسْتَحِقِّ لِتَبَعِيَّتِهِ لِلشَّجَرِ وَيَرْجِعُ الْعَامِل عَلَى الَّذِي دَفَعَ إِلَيْهِ الشَّجَرَ مُسَاقَاةً بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِل، لِفَسَادِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الثَّمَرِ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ مُسْتَوْفًى بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْل.
وَإِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ بَعْدَ نُضْجِ الثَّمَرِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ (1) .

حُكْمُ الْجَائِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْمُسَاقَاةِ
52 - إِذَا أُجِيحَ الْحَائِطُ كُلُّهُ انْفَسَخَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَهَذَا مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْبَغَوِيَّ قَال: إِنَّهُ إِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِالْجَائِحَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: نَقَل الْمُتَوَلِّي: أَنَّهُ إِذَا لَمْ تُثْمِرِ الأَْشْجَارُ أَصْلاً أَوْ تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِجَائِحَةٍ أَوْ غَصْبٍ، فَعَلَى الْعَامِل إِتْمَامُ الْعَمَل وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ، كَمَا أَنَّ عَامِل الْقِرَاضِ يُكَلَّفُ التَّنْضِيضَ وَإِنْ ظَهَرَ خُسْرَانٌ وَلَمْ يَنَل إِلاَّ التَّعَبَ، وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ: أَنَّهُ إِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ كُلُّهَا بِالْجَائِحَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل وَتَكَامُل الثِّمَارِ (2) .
__________
(1) المبسوط 13 / 57 - 58، وبدائع الصنائع 6 / 184، ودرر الحكام وحاشية الشرنبلالي عليه 2 / 327.
(2) روضة الطالبين 5 / 163.

(37/147)


وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا هَلَكَ بَعْضُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَإِذَا أُجِيحَ بَعْضُ الْحَائِطِ سَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ مَا أُجِيحَ مِنْهُ، إِذَا كَانَ لاَ يُرْجَى مِنْهُ ثَمَرَةٌ، وَمَا جُذَّ مِنَ النَّخْل لَمْ يَلْزَمْهُ سَقْيُهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَ مَا لَمْ يَجُذَّ حَتَّى يَجُذَّ وَإِنْ جَذَّ غَيْرُهُ قَبْلَهُ.
وَإِنْ أُجِيحَ ثُلُثُهُ فَصَاعِدًا فَعَنْ مَالِكٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَامِل بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْمُسَاقَاةِ وَالإِْقَامَةِ عَلَيْهَا، وَالأُْخْرَى: أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لاَزِمَةٌ لَهُمَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْجَائِحَةُ أَتَتْ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ النَّخْل وَالشَّجَرِ بِعَيْنِهَا، فَتَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ فِيهَا وَحْدَهَا دُونَ مَا سِوَاهَا.
وَإِنْ أَتْلَفَتِ الْجَائِحَةُ أَقَل مِنْ ثُلُثِ الْحَائِطِ، فَالْمُسَاقَاةُ صَحِيحَةٌ لاَزِمَةٌ.
وَلَوِ انْهَارَتِ الْبِئْرُ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ الْعَامِل أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ فِي صَلاَحِ الْبِئْرِ، وَيَكُونُ عَلَى مُسَاقَاتِهِ، وَيَرْتَهِنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنَ الثَّمَرَةِ بِمَا أَنْفَقَ، فَذَلِكَ لَهُ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهَا فَلِلْعَامِل الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُجِيزَ وَيُتِمَّ الْعَمَل وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ (2) .
__________
(1) الكافي 2 / 109.
(2) روضة الطالبين 5 / 163.

(37/147)


مُسَاكَنَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسَاكَنَةُ - فِي اللُّغَةِ - عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ (1) . مِنْ سَاكَنَهُ: أَيْ سَكَنَ مَعَهُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَيُقَال: تَسَاكَنُوا فِي الدَّارِ، أَيْ: سَكَنُوا فِيهَا مَعًا (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ نَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ: الْمُسَاكَنَةُ: أَنْ يَكُونَا فِي بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ حُجْرَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَمَدْخَلُهُمَا وَاحِدٌ، قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَرَادَ بِالْحُجْرَةِ الصَّحْنَ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الإِْقَامَةُ:
2 - الإِْقَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ أَقَامَ، وَاسْمُ الْمَوْضِعِ الْمُقَامُ بِالضَّمِّ، وَأَقَامَ بِالْمَوْضِعِ إِقَامَةً اتَّخَذَهُ وَطَنًا فَهُوَ مُقِيمٌ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ الإِْقَامَةُ عَلَى مَا يَأْتِي:
1 - الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ.
2 - الإِْعْلاَمُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ بِأَلْفَاظٍ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 30 / 232.
(2) المعجم الوسيط مادة " سكن ".
(3) روضة الطالبين 11 / 31.
(4) المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة " قوم ".

(37/148)


عَيَّنَهَا الشَّارِعُ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الإِْقَامَةِ وَالْمُسَاكَنَةِ كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الإِْقَامَةَ مَتَى قُيِّدَتْ بِالْمُدَّةِ لَزِمَ فِي مَفْهُومِهَا الاِمْتِدَادُ، وَتَقَيَّدَتْ بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا، بِخِلاَفِ الْمُسَاكَنَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِي تَحَقُّقِهَا الاِمْتِدَادُ مُطْلَقًا، لِصِدْقِهَا عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، فَلاَ تَكُونُ الْمُدَّةُ قَيْدًا لَهَا (2) .

ب - الْمُجَالَسَةُ
3 - الْمُجَالَسَةُ مِنْ جَالَسَهُ: جَلَسَ مَعَهُ، فَهُوَ مُجَالِسٌ وَجَلِيسٌ، وَتَجَالَسُوا: جَلَسَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ (3) .
وَبَيْنَ الْمُسَاكَنَةِ وَالْمُجَالَسَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ - وَجْهُ اشْتِرَاكٍ وَافْتِرَاقٍ:
أَمَّا الأَْوَّل: فَهُوَ أَنَّ الْوَقْتَ ظَرْفٌ لَهُمَا لاَ مِعْيَارٌ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالْوَقْتِ، لِصِحَّتِهَا فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ وَإِنْ قَلَّتْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ تَكُونُ بِالاِسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ وَذَلِكَ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ (4) ، بِخِلاَفِ الْمُجَالَسَةِ حَيْثُ تَتَحَقَّقُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ.

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُسَاكَنَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي والقليوبي 3 / 300.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 78، 209.
(3) المعجم الوسيط.
(4) ابن عابدين 3 / 78.

(37/148)


أ - مُسَاكَنَةُ الْمُعْتَدَّةِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِوَازِ مُسَاكَنَةِ الْمُطَلِّقِ الْمُعْتَدَّةَ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل الْمُطَلِّقُ مُسَاكَنَةَ الْمُعْتَدَّةِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَسْكُنَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا إِذَا وَجَبَ الاِعْتِدَادُ فِي مَنْزِل الزَّوْجِ إِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ عَدْلاً (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُطَلِّقِ أَنْ يَسْكُنَ مَعَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ دُونَ الْبَائِنِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلِحِ (سُكْنَى ف 16) .

ب - الْحَلِفُ عَلَى الْمُسَاكَنَةِ
5 - لَوْ قَال الْحَالِفُ: وَاللَّهِ لاَ أَسَاكِنُ فُلاَنًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِبَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَفْظًا مِثْل: لاَ أَسَاكِنُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ هَذِهِ الدَّارِ.
أَوْ لاَ يَكُونُ مُقَيَّدًا.
فَفِي الْحَالَةِ الأُْولَى: وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا لَفْظًا: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَا فِيهِ عِنْدَ
__________
(1) الخرشي 4 / 85، 86 ط. دار صادر، وروضة الطالبين 8 / 418، 419، والقليوبي 4 / 57.
(2) ابن عابدين 2 / 621، 622، وتبيين الحقائق 3 / 37 ط. دار المعرفة.
(3) المغني 8 / 530، وكشاف القناع 5 / 434.

(37/149)


الْحَلِفِ فَانْتَقَل الْحَالِفُ أَوِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، أَوِ انْتَقَلاَ مَعًا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَا سَاكِنَيْنِ فِيهِ انْتِقَالاً يَزُول مَعَهُ اسْمُ الْمُسَاكَنَةِ عُرْفًا، لَمْ يَحْنَثْ، لاِنْقِطَاعِ الْمُسَاكَنَةِ.
وَإِنْ مَكَثَا فِيهِ بِلاَ عُذْرٍ حَنِثَ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَحْنَثُ الْحَالِفُ إِذَا شَرَعَ هُوَ أَوِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ إِثْرَ الْيَمِينِ، فِي بِنَاءِ جِدَارٍ، أَوْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ لِكُل مَحِلٍّ مِرْفَقٌ وَمَدْخَلٌ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجَّحَهُ الْبَغَوِيُّ وَهُوَ خِلاَفُ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، لاِشْتِغَالِهِ بِرَفْعِ الْمُسَاكَنَةِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَكَرِهَ الْجِدَارَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ لِكِفَايَةِ الْجِدَارِ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ فِيهَا قَيْدًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ لأَِجْل مَا يَحْصُل بَيْنَ الْعِيَال، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِكَرَاهَةِ جِوَارِهِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الاِنْتِقَال.
وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لاَ يُعْتَدُّ بِالْجِدَارِ إِذَا كَانَ جَرِيدًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِحُصُول الْمُسَاكَنَةِ إِلَى تَمَامِ الْبِنَاءِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلأَِنَّهُمَا بِتَشَاغُلِهِمَا بِبِنَاءِ الْجِدَارِ قَدْ تَسَاكَنَا قَبْل انْفِرَادِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ عَنِ الأُْخْرَى، بِخِلاَفِ مَا إِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا فِي الْحَال فَبَنَى الْجِدَارَ ثُمَّ عَادَ، لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 78، 79 ط. بولاق، وتنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 42 ط. دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 237، 238، وحاشية الدسوقي 2 / 149، وروضة الطالبين 11 / 31، 32، 33، وأسنى المطالب 4 / 253، والمغني 8 / 769، 770، وكشاف القناع 6 / 268.

(37/149)


وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ يُقَيِّدَهَا لَفْظًا، وَيَذْكُرُ دَارًا عَلَى التَّنْكِيرِ، وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا، لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَتُصِرُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: إِنْ نَوَى مَوْضِعًا مُعَيَّنًا مِنْ دَارٍ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْيَمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَوْضِعًا، وَأَطْلَقَ الْمُسَاكَنَةَ، حَنِثَ بِالْمُسَاكَنَةِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 78، وتنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 42، وجواهر الإكليل 1 / 237، 238.
(2) روضة الطالبين 11 / 32، 33.

(37/150)


مُسَامَحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسَامَحَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُسَاهَلَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْمُوَافَقَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَالصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ، وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّمْحِ وَهُوَ الْجُودُ يُقَال: سَمَحَ الرَّجُل سَمَاحَةً وَسُمُوحَةً: إِذَا جَادَ، وَتَسَامَحَ الْقَوْمُ تَسَامُحًا وَمُسَامَحَةً: تَسَاهَلُوا فِي الأَْمْرِ، إِذَا تَنَاوَلُوهُ بِلاَ مُشَاحَّةٍ أَوْ مُضَاجَرَةٍ.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُشَاجَرَةُ:
2 - الْمُشَاجَرَةُ هِيَ الْمُنَازَعَةُ: يُقَال: تَشَاجَرَ الْقَوْمُ مُشَاجَرَةً: تَنَازَعُوا فِي الأَْمْرِ، وَاشْتَجَرَ الْقَوْمُ: اخْتَلَفُوا (2) .
وَالْعَلاَقَةُ التَّضَادُّ.

ب - الْمُشَاحَّةُ:
3 - الْمُشَاحَّةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ شَحَّ الرَّجُل: وَهُوَ
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير، وفتح الباري 4 / 307، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) المصباح المنير.

(37/150)


أَشَدُّ الْبُخْل مَعَ الْحِرْصِ، وَيُقَال: تَشَاحُّوا فِي الأَْمْرِ وَعَلَيْهِ: شَحَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ حَذَرَ فَوْتِهِ، وَيُقَال: هُمَا يَتَشَاحَّانِ عَلَى أَمْرٍ: إِذَا تَنَازَعَاهُ لاَ يُرِيدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفُوتَهُ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ التَّضَادُّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - قَال الْعُلَمَاءُ: الْمُسَامَحَةُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى (2) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاسْتِعْمَال مَعَالِي الأَْخْلاَقِ وَتَرْكِ الْمُشَاحَّةِ وَالْحَضُّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَطَالِبِ وَأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: تُنَال رُتْبَةَ الإِْحْسَانِ فِي الْمُعَامَلَةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
الْمُسَامَحَةُ فِي اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ وَحَطُّ الْبَعْضِ، أَوْ بِالإِْمْهَال وَالتَّأْخِيرِ، أَوْ بِالْمُسَاهَلَةِ فِي طَلَبِ جَوْدَةِ النَّقْدِ، وَكُل ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمَحْثُوثٌ عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري / 306) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) فتح الباري 4 / 306، 307 ط. السلفية، وإحياء علوم الدين 2 / 79، 81.

(37/151)


مُسَاوَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسَاوَاةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُعَادَلَةُ، يُقَال: سَاوَاهُ مُسَاوَاةً، مَاثَلَهُ وَعَادَلَهُ قَدْرًا، أَوْ قِيمَةً وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: هَذَا يُسَاوِي دِرْهَمًا أَيْ تُعَادِل قِيمَتُهُ دِرْهَمًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَاوَاةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَاوَاةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَوْلاً: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ النِّسَاءِ أَسَاسٌ لِتَحْدِيدِ مَهْرِ الْمِثْل:
2 - يَتَقَرَّرُ مَهْرُ الْمِثْل فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّكَاحِ كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فِيهِ صَدَاقٌ وَكَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمِثْل: مُسَاوَاةُ الْمَرْأَةِ امْرَأَةً أُخْرَى فِي عِدَّةِ أُمُورٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
__________
(1) المصباح المنير.
(2) فتح القدير 3 / 246، والدسوقي 2 / 316، ومغني المحتاج 3 / 232، وكشاف القناع 5 / 159.

(37/151)


وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَاهُ مَعْقِل بْنُ سِنَانٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا مَاتَ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا فَجَعَل لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ وَلاَ شَطَطَ (1) وَالْمُسَاوَاةُ الَّتِي هِيَ الأَْسَاسُ فِي تَحْدِيدِ مَهْرِ الْمِثْل تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقَرَابَةُ.
وَالثَّانِي: الصِّفَّاتُ (2) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ - الْقَرَابَةُ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (قَال ابْنُ قُدَامَةَ هِيَ الأُْولَى) إِلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي مُسَاوَاةِ الْمَهْرِ هِيَ قَرَابَةُ الأَْبِ أَيْ عَشِيرَتُهَا الَّتِي مِنْ قِبَل أَبِيهَا كَأَخَوَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا وَبَنَاتِ أَعْمَامِهَا لِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: لَهَا مَهْرُ مِثْل نِسَائِهَا لاَ وَكْسَ فِيهِ وَلاَ شَطَطَ، فَقَدْ أَضَافَ النِّسَاءَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُضَافُ إِلَى أَقَارِبِ الأَْبِ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ مِنْ
__________
(1) حديث معقل بن سنان " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 441) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) فتح القدير 3 / 246، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 354، ومواهب الجليل للحطاب مع التاج والإكليل للمواق بهامشه 3 / 517، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 316 - 317، ومغني المحتاج 3 / 231، 232، والأشباه للسيوطي ص 393، 394، كشاف القناع 5 / 159، والمغني 6 / 721، 722.

(37/152)


جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِي قِيمَةِ جِنْسِهِ (1) .
وَلاَ تُعْتَبَرُ قَرَابَةُ الأُْمِّ فَلاَ يُعْتَبَرُ بِأُمِّهَا وَخَالَتِهَا إِذَا لَمْ تَكُونَا مِنْ قَبِيلَتِهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأُْمُّ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا بِأَنْ كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ فَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ بِمَهْرِهَا لأَِنَّهَا مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا (2) .
وَيُرَاعَى فِي نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ قُرْبُ الدَّرَجَةِ وَكَوْنُهُنَّ عَلَى صِفَاتِهَا، وَأَقْرَبُهُنَّ أُخْتٌ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ لأَِبٍ ثُمَّ بَنَاتُ أَخٍ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ لأَِبٍ ثُمَّ عَمَّاتٌ كَذَلِكَ ثُمَّ بَنَاتُ الأَْعْمَامِ.
هَذَا تَرْتِيبُ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: يُعْتَبَرُ بِالأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ ثُمَّ أَخَوَاتِهَا لأَِبِيهَا ثُمَّ عَمَّاتِهَا ثُمَّ بَنَاتِ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ ثُمَّ بَنَاتِ الأَْعْمَامِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الأَْقْرَبُ الأَْخَوَاتُ الشَّقَائِقُ ثُمَّ الأَْخَوَاتُ لأَِبٍ ثُمَّ الْعَمَّاتُ الشَّقَائِقُ ثُمَّ الْعَمَّاتُ لأَِبٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَقْرَبُ نِسَاءِ عَصَبَتِهَا إِلَيْهَا أَخَوَاتُهَا ثُمَّ عَمَّاتُهَا ثُمَّ بَنَاتُ عَمِّهَا الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ (3) .
وَلَوْ كَانَ نِسَاءُ الْعَصَبَةِ بِبَلَدَيْنِ وَهِيَ فِي
__________
(1) فتح القدير مع الهداية والعناية 3 / 246 والشرح الكبير 2 / 316 - 317، والمغني 6 / 722، ومغني المحتاج 3 / 232.
(2) فتح القدير 3 / 246 والشرح الكبير 2 / 317.
(3) مغني المحتاج 3 / 232، والدر المختار 2 / 354، والحطاب 3 / 517، والمغني 6 / 722.

(37/152)


أَحَدِهِمَا اعْتُبِرَ نِسَاءُ بَلَدِهَا، فَإِنْ كُنَّ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهَا كَأَنْ زُوِّجَتْ فِي بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي زُوِّجَ فِيهِ أَقَارِبُهَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُعْتَبَرُ بِمُهُورِهِنَّ لأَِنَّ مُهُورَ الْبُلْدَانِ مُخْتَلِفَةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الاِعْتِبَارُ بِهِنَّ أَوْلَى مِنَ الأَْجْنَبِيَّاتِ فِي الْبَلَدِ (1) .
فَإِنْ فُقِدَ نِسَاءُ الْعَصَبَةِ أَوْ لَمْ يُنْكَحْنَ أَصْلاً أَوْ نُكِحْنَ وَلَكِنْ جُهِل مَهْرُهُنَّ فَيُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ أَقَارِبِهَا مِنَ الأَْرْحَامِ تُقَدَّمُ مِنْهُنَّ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى، فَتُقَدَّمُ الأُْمُّ ثُمَّ الْجَدَّاتُ ثُمَّ الْخَالاَتُ ثُمَّ بَنَاتُ الأَْخَوَاتِ ثُمَّ بَنَاتُ الأَْخْوَال، فَإِنْ فُقِدَ نِسَاءُ الأَْرْحَامِ أَوْ لَمْ يُنْكَحْنَ أَصْلاً، أَوْ جُهِل مَهْرُهُنَّ اعْتُبِرَ بِمِثْلِهَا مِنَ الأَْجْنَبِيَّاتِ لَكِنْ تُقَدَّمُ أَجْنَبِيَّاتُ بَلَدِهَا، ثُمَّ أَقْرَبُ بَلَدٍ إِلَيْهَا (2) .
4 - وَإِذَا سَاوَتِ الْمَرْأَةُ امْرَأَتَيْنِ مِنْ أَقَارِبِهَا مَعَ اخْتِلاَفِ مَهْرِهِمَا فَهَل يُعْتَبَرُ بِالْمَهْرِ الأَْقَل أَوِ الأَْكْثَرِ؟ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ كُل مَهْرٍ اعْتَبَرَهُ الْقَاضِي وَحَكَمَ بِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اجْتَمَعَ أُمُّ أَبٍ وَأُمُّ أُمٍّ فَوُجُوهٌ: أَوْجَهُهَا اسْتِوَاؤُهُمَا فَتَلْحَقُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ زَادَ مَهْرُهَا عَلَى الأُْخْرَى أَوْ نَقَصَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 355، ومغني المحتاج 3 / 232.
(2) مغني المحتاج 3 / 232، والمغني 6 / 723، وحاشية ابن عابدين 2 / 355، والدسوقي 2 / 316.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 354.

(37/153)


وَلاَ الْتِفَاتَ إِلَى ضَرَرِ الزَّوْجِ عِنْدَ الزِّيَادَةِ وَضَرَرِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ النَّقْصِ (1) .
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ رِوَايَةُ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ أَنَّ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا مِثْل أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ بِنْتِ عَمِّهَا، وَاخْتَارَ أَبُو بِكْرٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، لَكِنَّ صَاحِبَ كَشَّافِ الْقِنَاعِ ذَكَرَ قَوْلاً وَاحِدًا لِلْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْل مُعْتَبَرٌ بِمَنْ يُسَاوِيهَا مِنْ جَمِيعِ أَقَارِبِهَا مِنْ جِهَةِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا كَأُخْتِهَا وَعَمَّتِهَا وَبِنْتِ أَخِيهَا وَبِنْتِ عَمِّهَا وَأُمِّهَا وَخَالَتِهَا وَغَيْرِهِنَّ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى.
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ (2) .
وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْمُعْتَبَرُ مُسَاوَاتُهَا بِأُمِّهَا وَقَوْمِ أُمِّهَا كَالْخَالاَتِ وَنَحْوِهَا، لأَِنَّ الْمَهْرَ قِيمَةُ بُضْعِ النِّسَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْقَرَابَاتِ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ (3) .
وَقَال عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُعْتَبَرُ عَشِيرَتُهَا وَجِيرَانُهَا سَوَاءٌ كُنَّ عَصَبَةً أَمْ لاَ. وَفِي مُوَاهِبِ الْجَلِيل: يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنْ ذَلِكَ الْعُرْفُ، فَإِنْ جَرَى الْعُرْفُ بِالنَّظَرِ إِلَى صَدَاقِ الأُْمِّ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا فَيَجِبُ
__________
(1) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 6 / 346.
(2) المغني 6 / 722، كشاف القناع 5 / 159، والإنصاف 8 / 303.
(3) شرح العناية بهامش فتح القدير 3 / 246.

(37/153)


اعْتِبَارُهُ، وَأَشَارَ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى ذَلِكَ (1) .

ب - الْمُسَاوَاةُ فِي الصِّفَّاتِ:
اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِي الصِّفَّاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الاِعْتِبَارِ بِمَهْرِ الْمِثْل لاَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ، بَل لاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي السِّنِّ وَالْجَمَال وَالْمَال وَالْعَقْل وَالدِّينِ وَالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ وَالأَْدَبِ وَكَمَال الْخُلُقِ وَالْعِلْمِ وَالْعِفَّةِ وَالْحَسَبِ، وَعَدَمِ وَلَدٍ إِنْ كَانَ مَنِ اعْتَبَرَ لَهَا الْمَهْرَ كَذَلِكَ، أَيْ لاَ وَلَدَ لَهَا فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ اعْتُبِرَ مَهْرُ مِثْلِهَا بِمَهْرِ مَنْ لَهَا وَلَدٌ (2) .
وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي هَذِهِ الصِّفَّاتِ لأَِنَّ مَهْرَ الْمِثْل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ هَذِهِ الأَْوْصَافِ فَإِنَّ الْغَنِيَّةَ تُنْكَحُ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُنْكَحُ بِهِ الْفَقِيرَةُ، وَكَذَا الشَّابَّةُ مَعَ الْعَجُوزِ وَالْحَسْنَاءِ مَعَ الشَّوْهَاءِ (3) ، فَإِنَّ الرَّغْبَةِ فِي الْمُتَّصِفَةِ بِالدِّينِ أَوِ الْجَمَال أَوِ الْمَال أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَّاتِ تُخَالِفُ الرَّغْبَةَ فِي غَيْرِهَا فَمَتَى وُجِدَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ عَظُمَ مَهْرُهَا وَمَتَى فُقِدَتْ أَوْ بَعْضُهَا قَل مَهْرُهَا (4) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: وَقِيل: لاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) الحطاب 3 / 517.
(2) فتح القدير على الهداية 3 / 246، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 354، 355، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 316، 317، ومغني المحتاج 3 / 232، ونهاية المحتاج 6 / 346، وكشاف القناع 5 / 159، والمغني 6 / 722.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 354.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 316، 317.

(37/154)


الْجَمَال فِي بَيْتِ الْحَسَبِ وَالشَّرَفِ بَل فِي أَوْسَاطِ النَّاسِ وَهَذَا جَيِّدٌ، لَكِنْ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ مُطْلَقًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلاَمَ فِيمَنْ كَانَتْ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا، فَإِذَا سَاوَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى فِي الْحَسَبِ وَالشَّرَفِ وَزَادَتْ عَلَيْهَا فِي الْجَمَال كَانَتِ الرَّغْبَةُ فِيهَا أَكْثَرَ (1) .
6 - وَالْمُسَاوَاةُ فِي الصِّفَّاتِ الْمَذْكُورَةِ مُعْتَبَرَةٌ لِتَحْدِيدِ مَهْرِ الْمِثْل، فَإِنِ اخْتَصَتْ بِزِيَادَةِ صِفَّةٍ أَوْ نَقْصِ صِفَّةٍ فَإِنَّهُ يُزَادُ فِي مَهْرِهَا فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ وَيُنْقَصُ مِنْ مَهْرِهَا فِي صُورَةِ النَّقْصِ بِمَا يَلِيقُ بِحَال الْمَرْأَةِ الْمَطْلُوبِ مَهْرُهَا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ فَالرَّأْيُ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِهِ فَيُقَدِّرُ بِاجْتِهَادِهِ صُعُودًا وَهُبُوطًا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَحْصُل اتِّفَاقٌ عَلَى الْمَهْرِ وَحَصَل تَنَازُعٌ (2) .
هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَبِمِثْلِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .

وَقْتُ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الأَْوْصَافِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الأَْوْصَافِ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْعِقْدِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَهْرَ مِثْل امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِلاَ تَسْمِيَةٍ مَثَلاً نَنْظُرُ إِلَى صِفَّاتِهَا وَقْتَ تَزَوُّجِهَا مِنْ سِنٍّ وَجَمَالٍ إِلَى آخِرِ الصِّفَّاتِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 355.
(2) مغني المحتاج 3 / 132.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 317، كشاف القناع 5 / 159.

(37/154)


وَإِلَى امْرَأَةٍ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا كَانَتْ حَيْنَ تَزَوَّجَتْ فِي السِّنِّ وَالْجَمَال إِلَى آخِرِ هَذِهِ الصِّفَّاتِ مِثْل الأُْولَى وَلاَ عِبْرَةَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ زِيَادَةِ جَمَالٍ وَنَحْوِهِ أَوْ نَقْصٍ.
وَقَال: وَهَذِهِ الأَْوْصَافُ تَعْتَبِرُ وَقْتَ الْعِقْدِ فِي كُل نِكَاحٍ صَحِيحٍ لاَ تَسْمِيَةَ فِيهِ أَصْلاً أَوْ سُمِّيَ فِيهِ مَا هُوَ مَجْهُولٌ أَوْ مَا لاَ يَحِل شَرْعًا، وَكُل نِكَاحٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْوَطْءِ سُمِّيَ فِيهِ مَهْرٌ أَوْ لاَ، خِلاَفًا لِوَطْءِ الشُّبْهَةِ (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الأَْوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ جَمَالٍ وَغَيْرِهِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَفِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ بِخِلاَفِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَلَوْ تَفْوِيضًا فَتُعْتَبَرُ الأَْوْصَافُ يَوْمَ الْعِقْدِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَوْمُ الْوَطْءِ، لأَِنَّهُ وَقْتُ الإِْتْلاَفِ وَلاَ اعْتِبَارَ بِالْعِقْدِ إِذْ لاَ حُرْمَةَ لَهُ لِفَسَادِهِ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي أَعْلَى الأَْحْوَال الَّتِي لِلْمَوْطُوءَةِ حَال وَطْئِهَا كَأَنْ يَطَأَهَا سَمِينَةً وَهَزِيلَةً فَيَجِبُ مَهْرُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعُلْيَا.
وَفِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ يُعْتَبَرُ مَهْرُ الْمِثْل بِحَال الْعَقْدِ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ بِالْوَطْءِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يُعْتَبَرُ بِحَال الْوَطْءِ لأَِنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 351، 354.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 317.
(3) مغني المحتاج 3 / 230.

(37/155)


وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مِثْل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ (1) .

اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِي الصِّفَّاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجِ
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُعْتَبَرُ حَال الزَّوْحِ أَيْضًا (أَيْ فِي الصِّفَّاتِ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ زَوْجُ هَذِهِ كَأَزْوَاجِ أَمْثَالِهَا مِنْ نِسَائِهَا فِي الْمَال وَالْحَسَبِ وَعَدَمِهِمَا (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الصِّفَّاتِ فَإِنَّ الشَّابَّ وَالْمُتَّقِيَ مِثْلاً يُزَوَّجُ بِأَرْخَصَ مِنَ الشَّيْخِ وَالْفَاسِقِ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الْفَارِقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الصِّفَّاتِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ بِمَهْرِهَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَال الزَّوْجِ أَيْضًا مِنْ يَسَارٍ وَعِلْمٍ وَعِفَّةٍ وَنَحْوِهَا.
قَال: فَلَوْ وُجِدَ فِي نِسَاءِ الْعَصَبَةِ بِصِفَتِهَا وَزَوْجِهَا مِثْل زَوْجِهَا فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَّاتِ اعْتُبِرَ بِهَا وَإِلاَّ فَلاَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ حَال الزَّوْجِ فَقَدْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِ فَقِيرٍ لِقَرَابَةٍ أَوْ صَلاَحٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ حِلْمٍ، وَقَدْ يَرْغَبُ فِي تَزْوِيجِ أَجْنَبِيٍّ لِمَالٍ أَوْ جَاهٍ وَيَخْتَلِفُ الْمَهْرُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الأَْحْوَال
__________
(1) كشاف القناع 5 / 156، 161، والمغني 6 / 719.
(2) فتح القدير 3 / 246.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 355.
(4) مغني المحتاج 3 / 232.

(37/155)


وُجُودًا وَعَدَمًا (1) .

ثَانِيًا: الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِمْ عَنِ الْكَفَّارَاتِ:
9 - يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُسَاوَاةَ فِيمَا يُعْطَى مِنَ الْكَفَّارَةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: مَنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ كَفَّرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، سِتِّينَ مُدًّا لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدٌّ كَأَنْ يَضَعَهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَيُمَلِّكَهَا لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ يُطْلِقَ، فَإِذَا قَبِلُوا ذَلِكَ أَجْزَأَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَوْ فَاوَتَ بَيْنَهُمْ بِتَمْلِيكِ وَاحِدٍ مُدَّيْنِ وَآخَرَ مُدًّا أَوْ نِصْفَ مُدٍّ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَال: خُذُوهُ وَنَوَى فَأَخَذُوهُ بِالسَّوِيَّةِ أَجْزَأَهُ فَإِنْ تَفَاوَتُوا لَمْ يُجْزِئْ، وَإِنْ صَرَفَ سِتِّينَ مُدًّا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ بِالسَّوِيَّةِ احْتُسِبَ لَهُ بِثَلاَثِينَ مُدًّا فَيَصْرِفُ ثَلاَثِينَ أُخْرَى إِلَى سِتِّينَ مِنْهُمْ وَيَسْتَرِدُّ مِنَ الْبَاقِينَ إِنْ كَانَ ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهَا كَفَّارَةٌ، وَإِنْ صَرَفَ سِتِّينَ مُدًّا إِلَى ثَلاَثِينَ بِحَيْثُ لاَ يَنْقُصُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ مُدٍّ لَزِمَهُ صَرْفُ ثَلاَثِينَ مُدًّا إِلَى ثَلاَثِينَ غَيْرِهِمْ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَقَل ابْنُ رَجَبٍ عَنِ الْمُغْنِي أَنَّ مَنْ وَضَعَ طَعَامًا فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ يَدَيْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فَقَال: هُوَ بَيْنَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَقَبِلُوهُ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 317.
(2) مغني المحتاج 3 / 366، ونهاية المحتاج 7 / 96، وأسنى المطالب 3 / 370.

(37/156)


أَحَدُهَا - وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَوْلاً - أَنَّهُ يُجْزِيهِ لأَِنَّهُ مَلَّكَهُمُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَالاِنْتِفَاعَ بِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ كَمَا لَوْ دَفَعَ دَيْنَ غُرَمَائِهِ بَيْنَهُمْ.
وَالثَّانِي: وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ حَامِدٍ: يُجْزِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقُل بِالسَّوِيَّةِ، لأَِنَّ قَوْلَهُ: خُذُوهُ عَنْ كَفَّارَتِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ لأَِنَّ ذَلِكَ حُكْمُهَا.
وَالثَّالِثُ: وَحَكَاهُ عَنِ الْقَاضِي بِأَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَل إِلَى كُل وَاحِدٍ قَدْرَ حَقِّهِ أَجْزَأَ وَإِلاَّ لَمْ يُجِزْهُ، وَأَصْل ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ إِذَا أَفْرَدَ سِتِّينَ مُدًّا وَقَال لَسِتِّينَ مِسْكِينًا: خُذُوهَا فَأَخَذُوهَا أَوْ قَال: كُلُوهَا وَلَمْ يَقُل بِالسَّوِيَّةِ أَوْ قَال: قَدْ مَلَكْتُمُوهَا بِالسَّوِيَّةِ فَأَخَذُوهَا فَقَال ابْنُ حَامِدٍ: يُجْزِيهِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: خُذُوهَا عَنْ كَفَّارَتِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ لأَِنَّ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَلِمَ التَّفَاضُل فَمَنْ حَصَل مَعَهُ التَّفْضِيل فَقَدْ أَخَذَ زِيَادَةً، وَمَنْ أَخَذَ أَقَل كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكْمِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ وَصَل إِلَيْهِمْ لَمْ يُجِزْهُ وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ مَا وَصَل إِلَى كُل وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ كَفَّرَ بِالإِْطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطِيَ بِالتَّسَاوِي الْعَدَدَ الْمَطْلُوبَ فِي الْكَفَّارَةِ كَسِتِّينَ فِي الظِّهَارِ وَعَشَرَةٍ فِي
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 264.

(37/156)


الْيَمِينِ، فَلَوْ أَعْطَى كَفَّارَةَ الْيَمِينِ خَمْسَةً لِكُل وَاحِدٍ مُدَّيْنِ أَوْ أَعْطَى ثَلاَثِينَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَلاَ يُجْزِئُ ذَلِكَ، كَمَا لاَ يُجْزِئُ إِعْطَاءُ نَاقِصٍ كَأَنْ يُعْطِيَ عَشْرَيْنِ مِسْكِينًا لِكُل وَاحِدٍ نِصْفُ مُدٍّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ يُعْطِيَ مِائَةً وَعِشْرِينَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكْمِل فِي التَّكْرَارِ بِإِعْطَاءِ مَنْ يُكْمِل الْعَشَرَةَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمَنْ يُكْمِل السِّتِّينَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفِي النَّاقِصِ عَنِ الْمُدِّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكْمِل الْمُدَّ لِعَشَرَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلِسِتِّينَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَهُ نَزْعُ مَا فِي يَدِ الزَّائِدِ عَنِ الْعَشَرَةِ فِي الْيَمِينِ وَعَنِ السِّتِّينَ فِي الظِّهَارِ (1) .

ثَالِثًا: الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ:
1 - الأَْوْلِيَاءُ الْمُسْتَوُونَ فِي التَّزْوِيجِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَزْوِيجِ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ وَالْوِلاَيَةِ فِي النِّكَاحِ شَخْصًا وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، فِي حَال الإِْذْنِ بِالتَّزْوِيجِ أَوْ عَدَمِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّزْوِيجُ عَلَى التَّرْتِيبِ أَمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَسَوَاءٌ أَحْدَثَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فِي الْوِلاَيَةِ أَمْ لاَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلِحِ (وِلاَيَةٌ) .

ب - الْمُسَاوَاةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ
11 - إِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ وَكَانُوا مُتَسَاوِينَ فِي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 228، 229، 379، والدسوقي 2 / 133، 455.

(37/157)


سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ كَأَنْ كَانُوا جَمِيعًا شُرَكَاءَ فِي دَارٍ مَثَلاً فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ.
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يُوَزَّعُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ بِقَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ الْمِلْكِ لاَ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الشُّرَكَاءَ إِذَا اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ اسْتَوَوْا فِي الاِسْتِحْقَاقِ فَيُقَسَّمُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لاَ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 40 - 42)

ج - مُسَاوَاةُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْحَضَانَةِ
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى مُسْتَحِقُّونَ لِلْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْضُونِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الأَْصْلَحُ ثُمَّ الأَْوْرَعُ ثُمَّ الأَْكْبَرُ سِنًّا كَمَا يُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ وَبِتَعْبِيرِ الْمَالِكِيَّةِ يُقَدَّمُ الأَْكْثَرُ صِيَانَةً وَشَفَقَةً ثُمَّ الأَْكْبَرُ سِنًّا.
فَإِذَا اسْتَوَى الْمُسْتَحِقُّونَ مِنْ كُل وَجْهٍ بِأَنْ كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْقَرَابَةِ وَاسْتَوَوْا فِي الصِّفَّاتِ وَفِي السِّنِّ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ فَيُقَدَّمُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ الْمُتَسَاوِينَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَضَانَةٌ ف10 - 13) .

(37/157)


د - مُسَاوَاةُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِي الاِسْتِحْقَاقِ
13 - الأَْصْل أَنَّهُ يُعْمَل بِشَرْطِ الْوَاقِفِ فِي تَوْزِيعِ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ لأَِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ، فَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي تَوْزِيعِ الْغَلَّةِ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى سَوَاءٌ فَإِنَّهُ يُعْمَل بِشَرْطِهِ (1) .
وَلَوْ شَرَطَ تَفْضِيل بَعْضِهِمْ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .

هـ - تَقْدِيمُ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ الْمُتَسَاوِينَ لِلصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُقَدَّمُ لِلصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ إِنْ تُسَاوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ وَفِيمَا يُقَدَّمُ بِهِ أَحَدُ الأَْوْلِيَاءِ الْمُتَسَاوِينَ فِي الْقَرَابَةِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 42) .

رَابِعًا: الْمُسَاوَاةُ فِي مُبَادَلَةِ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةَ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ لأَِنَّ الْفَضْل يُعْتَبَرُ رِبًا.
__________
(1) الدسوقي 4 / 87، والروضة 5 / 338، 339، وكشاف القناع 4 / 260.

(37/158)


وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 26 وَمَا بَعْدَهَا) .

خَامِسًا: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ
1 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ أَمَامَ الْقَاضِي سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالإِْقْبَال.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ فِقْرَة 41) .

سَادِسًا: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ
17 - سَوَّى الإِْسْلاَمُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُل فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ كَالْحُدُودِ (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 73.

(37/158)


مُسَاوَمَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُسَاوَمَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُجَاذَبَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى السِّلْعَةِ وَفَصْل ثَمَنِهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
1 - الْمُزَايَدَةُ:
2 - الْمُزَايَدَةُ: أَنْ يُنَادِيَ عَلَى السِّلْعَةِ وَيَزِيدَ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ مَنْ يَزِيدُ فِيهَا فَيَأْخُذْهَا.
وَالْمُزَايَدَةُ نَوْعٌ مِنَ الْمُسَاوَمَةِ.

ب - النَّجْشُ:
3 - النَّجْشُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ تَنْفِيرُ الصَّيْدِ وَاسْتِثَارَتُهُ مِنْ مَكَانِهِ لِيُصَادَ، يُقَال: نَجَشْتُ الصَّيْدَ أَنْجُشُهُ - بِضَمِّ الْجِيمِ - نَجْشًا.
وَفِي الشِّرْعِ: الزِّيَادَةُ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ مِمَّنْ لاَ يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيَقَعَ غَيْرُهُ فِيهَا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ
__________
(1) لسان العرب، والصحاح، والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي.

(37/159)


النَّاجِشَ يُثِيرُ الرَّغْبَةَ فِي السِّلْعَةِ، قَال فِي النِّهَايَةِ: هُوَ أَنْ يَمْدَحَ السِّلْعَةَ لِيُنْفِقَهَا وَيُرَوِّجَهَا أَوْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِهَا وَهُوَ لاَ يُرِيدُ شِرَاءَهَا لِيَقَعَ غَيْرُهُ فِيهَا، وَيَجْرِي فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَاوَمَةِ أَنَّ النَّاجِشَ لاَ يَرْغَبُ فِي الشَّيْءِ وَالْمُسَاوِمَ يَرْغَبُ فِيهِ (1) .

حُكْمُ الْمُسَاوَمَةِ
4 - الْمُسَاوَمَةُ جَائِزَةٌ إِذَا تَحَقَّقَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (2) .

آثَارُ الْمُسَاوَمَةِ:
لِلْمُسَاوَمَةِ آثَارٌ مِنْهَا:

أ - سُقُوطُ الشُّفْعَةِ بِالْمُسَاوَمَةِ
5 - جَاءَ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ: أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بِالْمُسَاوَمَةِ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً (3) .

ب - سُقُوطُ الدَّعْوَى بِالْمُسَاوَمَةِ:
6 - جَاءَ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ مَنِ اسْتَامَ مِنْ آخَرَ عَيْنًا بِيَدِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ لَهُ، لاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَمَةِ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) فتح الباري 4 / 242 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 210، والفواكه الدواني 2 / 157.
(3) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 169.
(4) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 32.

(37/159)


حُكْمُ الْمَقْبُوضِ حَال الْمُسَاوَمَةِ
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْبُوضَ حَال الْمُسَاوَمَةِ مَضْمُونٌ بِالْجُمْلَةِ سَوَاءٌ بِالثَّمَنِ أَوِ الْقِيمَةِ عَلَى الْخِلاَفِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ. كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ النَّظَرِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 40 - 41)
__________
(1) ابن عابدين 7 / 119 - 122، والفتاوى الهندية 3 / 11 - 12، والقليوبي وعميرة 2 / 214، ونهاية المحتاج 4 / 89، ومغني المحتاج 2 / 70، وكشاف القناع 3 / 370، ومجمع الضمانات 213 - 214.

(37/160)


مَسْبُوقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَسْبُوقُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ، فِعْلُهُ سَبَقَ، يُقَال: سَبَقَهُ إِذَا تَقَدَّمَهُ
وَالْمَسْبُوقُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ سَبَقَهُ الإِْمَامُ بِبَعْضِ رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ أَوْ بِجَمِيعِهَا، أَوْ هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الإِْمَامَ بَعْدَ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ (1) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُدْرِكُ:
2 - الْمُدْرِكُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ فِعْلُهُ أَدْرَكَ، يُقَال: أَدْرَكَهُ إِذَا لَحِقَهُ وَتَدَارَكُوا: تَلاَحَقُوا، أَيْ لَحِقَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ (2) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الَّذِي يُدْرِكُ الإِْمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الاِفْتِتَاحِ، أَيْ يُدْرِكُ جَمِيعَ رَكَعَاتِ الإِْمَامِ (4) .
__________
(1) القاموس المحيط، وقواعد الفقه، وحاشية ابن عابدين 1 / 400.
(2) القاموس المحيط.
(3) سورة الأعراف / 38.
(4) التعريفات للجرجاني، ورد المحتار مع الدر 1 / 400، وقواعد الفقه.

(37/160)


فَالْمُدْرِكُ مَنْ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ رَكَعَاتِ صَلاَتِهِ بِخِلاَفِ الْمَسْبُوقِ.

ب - اللاَّحِقُ:
3 - اللاَّحِقُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ لَحِقَ، يُقَال: لَحِقَهُ: أَدْرَكَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ اللاَّحِقُ: مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكَعَاتُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا بَعْدَ الاِقْتِدَاءِ بِالإِْمَامِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللاَّحِقِ وَالْمَسْبُوقِ: أَنَّ الْمَسْبُوقَ تَفُوتُهُ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَوَّل الصَّلاَةِ، وَاللاَّحِقُ تَفُوتُهُ رَكْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ آخِرِ الصَّلاَةِ أَوْ وَسَطِهَا.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَسْبُوقِ
تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْبُوقِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

مُتَابَعَةُ الْمَسْبُوقِ إِمَامَهُ فِي الصَّلاَةِ
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إِذَا تَخَلَّفَ فِي صَلاَتِهِ بِرَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ مِنْ صَلاَتِهِ (3) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ قَضَى الْمَسْبُوقُ مَا سُبِقَ بِهِ ثُمَّ تَابَعَ إِمَامَهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ مُصَحَّحَانِ،
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح.
(2) قواعد الفقه للبركتي، وابن عابدين 1 / 399.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 91، ومواهب الجليل 2 / 130، وجواهر الإكليل 1 / 84، وروضة الطالبين 1 / 378، والمجموع 3 / 483، وكشاف القناع 1 / 461.

(37/161)


وَاسْتَظْهَرَ فِي الْبَحْرِ الْقَوْل بِالْفَسَادِ، لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الاِنْفِرَادَ فِي مَوْضِعِ الاِقْتِدَاءِ مُفْسِدٌ، وَنَقَل عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ عَدَمَ الْفَسَادِ أَقْوَى لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ، وَعَنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى: يَجُوزُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقَالُوا: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: الْمَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا لاَ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا أَوْ لاَ يَسْمَعُ لِصَمَمِهِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَيَتَعَوَّذُ لِلْقِرَاءَةِ، وَفِي صَلاَةِ الْمُخَافَتَةِ يَأْتِي بِهِ، وَيَسْكُتُ الْمُؤْتَمُّ عَنِ الثَّنَاءِ إِذَا جَهَرَ الإِْمَامُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ يَتَحَرَّى إِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ أَدْرَكَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ يَأْتِي بِهِ قَائِمًا، وَإِلاَّ يُتَابِعُ الإِْمَامَ وَلاَ يَأْتِي بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُدْرِكِ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ لاَ يَأْتِي بِهِمَا، وَإِنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الْقَعْدَةِ لاَ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَل يُكَبِّرُ لِلاِفْتِتَاحِ ثُمَّ لِلاِنْحِطَاطِ ثُمَّ يَقْعُدُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَسْبُوقَ بِبَعْضِ الرَّكَعَاتِ يُتَابِعُ الإِْمَامَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَإِذَا أَتَمَّ التَّشَهُّدَ لاَ يَشْتَغِل بِمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 401، والفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 103.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 91.

(37/161)


بَعْدَهُ مِنَ الدَّعَوَاتِ، قَال ابْنُ الشُّجَاعِ: إِنَّهُ يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ إِلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَتَرَسَّل فِي التَّشَهُّدِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الإِْمَامَ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ لاَ يَأْتِي بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ، حَتَّى قَال أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ: لَوْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ رَافِعًا مِنَ الرُّكُوعِ حَيْنَ كَبَّرَ لِلإِْحْرَامِ لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ، بَل يَقُول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. إِلَى آخِرِهِ مُوَافَقَةً لِلإِْمَامِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الْقِيَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ دُعَاءُ الاِسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذُ وَالْفَاتِحَةُ أَتَى بِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ، وَقَالَهُ الأَْصْحَابُ، وَقَال أَبُو مُحَمَّدٍ فِي التَّبْصِرَةِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَجِّل فِي قِرَاءَتِهِ وَيَقْرَأَ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يُنْصِتُ لِقِرَاءَةِ إِمَامِهِ.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ، أَوْ شَكَّ لَمْ يَأْتِ بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ مَعَ التَّعَوُّذِ وَالْفَاتِحَةِ وَلاَ يُمْكِنُهُ كُلُّهُ، أَتَى بِالْمُمْكِنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ (2) .
وَقَالُوا: وَلَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الإِْمَامَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، فَكَبَّرَ وَقَعَدَ، فَسَلَّمَ مَعَ أَوَّل قُعُودِهِ قَامَ، وَلاَ يَأْتِي بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ لِفَوَاتِ مَحِلِّهِ، وَذَكَرَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 91، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 103 - 104.
(2) المجموع 3 / 318 - 319.

(37/162)


الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ قَبْل قُعُودِ الْمَسْبُوقِ لاَ يَقْعُدُ وَيَأْتِي بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِذَا حَضَرَ الْمَسْبُوقُ فَوَجَدَ الإِْمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَخَافَ رُكُوعَهُ قَبْل فَرَاغِهِ مِنَ الْفَاتِحَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَقْرَأَ دُعَاءَ الاِسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ، بَل يُبَادِرُ إِلَى الْفَاتِحَةِ؛ لأَِنَّهَا فَرْضٌ فَلاَ يَشْتَغِل عَنْهُ بِالنَّفْل، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِذَا قَال الدُّعَاءَ وَالتَّعَوُّذَ أَدْرَكَ تَمَامَ الْفَاتِحَةِ اسْتُحِبَّ الإِْتْيَانُ بِهِمَا.
وَلَوْ رَكَعَ الإِْمَامُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: يُتِمُّ الْفَاتِحَةَ، وَالثَّانِي: يَرْكَعُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ قِرَاءَتُهَا؛ لأَِنَّ مُتَابَعَةَ الإِْمَامِ آكَدُ، وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ، قَال الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَالثَّالِثُ: هُوَ الأَْصَحُّ وَهُوَ قَوْل أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَصَحَّحَهُ الْقَفَّال: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقُل شَيْئًا مِنْ دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ رَكَعَ وَسَقَطَ عَنْهُ بَقِيَّةُ الْفَاتِحَةِ، وَإِنْ قَال شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْرَأَ مِنَ الْفَاتِحَةِ بِقَدْرِهِ لِتَقْصِيرِهِ بِالتَّشَاغُل (2) .
وَقَال: وَلَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ فَمَكَثَ الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلاَمِهِ جَالِسًا وَطَال جُلُوسُهُ، إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ تَشَهُّدِهِ الأَْوَّل جَازَ وَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ جُلُوسٌ مَحْسُوبٌ مِنْ صَلاَتِهِ، وَلأَِنَّ التَّشَهُّدَ الأَْوَّل يَجُوزُ تَطْوِيلُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ
__________
(1) المجموع 3 / 318 - 319.
(2) روضة الطالبين 1 / 372، والمجموع 4 / 212، 213.

(37/162)


يَكُنْ مَوْضِعَ تَشَهُّدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ، لأَِنَّ جُلُوسَهُ كَانَ لِلْمُتَابَعَةِ وَقَدْ زَالَتْ، فَإِنْ جَلَسَ مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَمْ تَبْطُل وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ (1) .
وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ أَوْ شَاكًّا فِي تَرْكِ رُكْنٍ كَالْفَاتِحَةِ، فَقَامَ الإِْمَامُ إِلَى الْخَامِسَةِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ مُتَابَعَتُهُ فِيهَا (2) .

وَقْتُ قِيَامِ الْمَسْبُوقِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَقُومُ الْمَسْبُوقُ إِلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ أَوِ التَّسْلِيمَةِ، بَل يَنْتَظِرُ فَرَاغَ الإِْمَامِ، وَيَمْكُثُ حَتَّى يَقُومَ الإِْمَامُ إِلَى تَطَوُّعِهِ إِنْ كَانَ صَلاَةٌ بَعْدَهَا تَطَوُّعٌ، أَوْ يَسْتَدْبِرُ الْمِحْرَابَ إِنْ كَانَ لاَ تَطَوُّعَ بَعْدَهَا، أَوْ يَنْتَقِل عَنْ مَوْضِعِهِ، أَوْ يَمْضِي مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ سَهْوٌ لَسَجَدَ (3) .
وَلاَ يَقُومُ الْمَسْبُوقُ قَبْل سَلاَمِ الإِْمَامِ بَعْدَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ: إِذَا خَافَ الْمَسْبُوقُ الْمَاسِحُ زَوَال مُدَّتِهِ، أَوْ خَافَ صَاحِبُ الْعُذْرِ خُرُوجَ الْوَقْتِ، أَوْ خَافَ الْمَسْبُوقُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ، أَوْ دُخُول الظُّهْرِ فِي الْعِيدَيْنِ، أَوْ فِي الْفَجْرِ طُلُوعَ الشَّمْسِ، أَوْ خَافَ أَنْ يَسْبِقَهُ الْحَدَثُ، فَلَهُ أَنْ لاَ يَنْتَظِرَ فَرَاغَ الإِْمَامِ وَلاَ سُجُودَ السَّهْوِ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ
__________
(1) المجموع 3 / 484.
(2) روضة الطالبين 1 / 313.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 91، وفتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 103.

(37/163)


الْمَسْبُوقُ أَنْ يَمُرَّ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَوِ انْتَظَرَ الإِْمَامُ قَامَ إِلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْل فَرَاغِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَقُومُ الْمَسْبُوقُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ، فَإِنْ قَامَ لَهُ قَبْل سَلاَمِ الإِْمَامِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ لاَ يَقُومَ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الإِْمَامِ مِنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ، فَإِنْ قَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فِي الأُْولَى جَازَ؛ لأَِنَّهُ خَرَجَ بِالأُْولَى، فَإِنْ قَامَ قَبْل شُرُوعِ الإِْمَامِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَلَوْ قَامَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي السَّلاَمِ قَبْل أَنْ يَفْرُغَ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَامَ قَبْل شُرُوعِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ الْمَسْبُوقُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ قَامَ قَبْل سَلاَمِ إِمَامِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ لِيَقُومَ بَعْدَ سَلاَمِهَا انْقَلَبَتْ صَلاَتُهُ نَفْلاً (4) .

تَدَارُكُ الْمَسْبُوقِ الرَّكْعَةَ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إِذَا أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ (5) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) الدسوقي 1 / 345.
(3) روضة الطالبين 1 / 378، والمجموع 3 / 483.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 248، والإنصاف 2 / 222.
(5) حديث: " من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ". ورد بلفظ " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 57) ، ومسلم (1 / 424) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.

(37/163)


وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَهَذَا إِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ إِمَامَهُ فِي جُزْءٍ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَوْ دُونَ الطُّمَأْنِينَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا إِذَا أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ، أَوِ انْتَهَى إِلَى قَدْرِ الإِْجْزَاءِ مِنَ الرُّكُوعِ قَبْل أَنْ يَزُول الإِْمَامُ عَنْ قَدْرِ الإِْجْزَاءِ، فَهَذَا يُعْتَدُّ لَهُ بِالرَّكْعَةِ وَيَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا، فَإِذَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ الإِْمَامَ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَدِّ الْمُجْزِئِ مِنَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ الإِْمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ وَإِنْ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَامَ الإِْمَامُ إِلَى خَامِسَةٍ جَاهِلاً، فَاقْتَدَى بِهِ مَسْبُوقٌ عَالِمًا بِأَنَّهَا خَامِسَةٌ، فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ: أَنَّهُ لاَ تَنْعَقِدُ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ دَخَل فِي رَكْعَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَغْوٌ (2) .

7 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الإِْمَامِ فَهُوَ آخِرُ صَلاَتِهِ، وَمَا يَقْضِيهِ أَوَّلُهَا (3) . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّل صَلاَتِهِ حُكْمًا لاَ حَقِيقَةً، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُهَا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَآخِرُهَا فِي حَقِّ التَّشَهُّدِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 484، وبداية المجتهد 1 / 189، والشرح الصغير 1 / 458، والمجموع 4 / 216، والقوانين الفقهية ص 72 والمغني 1 / 506، والإنصاف 2 / 223 - 224.
(2) المجموع 4 / 218.
(3) البحر الرائق 1 / 313، والشرح الصغير 1 / 458، والإنصاف 4 / 225.
(4) البحر الرائق 1 / 313.

(37/164)


وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الْمَسْبُوقُ يَقْضِي أَوَّل صَلاَتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَآخِرَهَا فِي التَّشَهُّدِ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ قَضَى رَكْعَتَيْنِ، وَيَفْصِل بِقَعْدَةٍ فَيَكُونُ بِثَلاَثِ قَعَدَاتٍ، وَقَرَأَ فِي كُلٍّ فَاتِحَةً وَسُورَةً، وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إِحْدَاهُمَا تَفْسُدُ صَلاَتُهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَضَى الْقَوْل وَالْمُرَادُ بِهِ خُصُوصُ الْقِرَاءَةِ وَصِفَتُهَا مِنْ سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ، بِأَنْ يَجْعَل مَا فَاتَهُ قَبْل دُخُولِهِ مَعَ الإِْمَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَوَّل صَلاَتِهِ وَمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ آخِرَهَا، وَبَنَى الْفِعْل، وَالْمُرَادُ بِالْفِعْل مَا عَدَا الْقِرَاءَةِ بِصِفَتِهَا فَيَشْمَل التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ وَالْقُنُوتَ، بِأَنْ يَجْعَل مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ أَوَّل صَلاَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْفْعَال، وَمَا فَاتَهُ آخِرَهَا، فَيَكُونُ فِيهِ كَالْمُصَلِّي وَحْدَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمُدْرِكُ ثَانِيَةِ الصُّبْحِ مَعَ الإِْمَامِ يَقْنُتُ فِي رَكْعَةِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّهَا آخِرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِعْل الَّذِي مِنْهُ الْقُنُوتُ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ؛ لأَِنَّهَا آخِرَتُهُ وَهُوَ فِيهَا كَالْمُصَلِّي وَحْدَهُ.
فَمَنْ أَدْرَكَ أَخِيرَةَ الْمَغْرِبِ قَامَ بِلاَ تَكْبِيرٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ فِي ثَانِيَتِهِ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا؛ لأَِنَّهُ قَاضِي الْقَوْل، أَيْ يَجْعَل مَا فَاتَهُ أَوَّل صَلاَتِهِ، وَأَوَّلُهَا بِالْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ جَهْرًا، وَيَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ؛ لأَِنَّهُ بَانِي الْفِعْل أَيْ جَعَل مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ أَوَّل صَلاَتِهِ وَهَذِهِ الَّتِي أَتَى بِهَا هِيَ الثَّانِيَةُ، وَالثَّانِيَةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 91 - 92.

(37/164)


يَجْلِسُ بَعْدَهَا، ثُمَّ بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا؛ لأَِنَّهَا الثَّانِيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَوْل - أَيِ الْقِرَاءَةِ - وَيَجْمَعُ بَيْنَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَرَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ لأَِنَّهُ بَانٍ كَالْمُصَلِّي وَحْدَهُ فِي الأَْفْعَال.
وَمَنْ أَدْرَكَ أَخِيرَةَ الْعِشَاءِ أَتَى بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا لأَِنَّهَا أَوَّل صَلاَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَوْل، فَيَقْضِي كَمَا فَاتَ وَيَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ لأَِنَّهَا ثَانِيَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْفْعَال، ثُمَّ بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا لأَِنَّهَا ثَانِيَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْقْوَال، وَلاَ يَجْلِسُ بَعْدَهَا لأَِنَّهَا ثَانِيَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْقْوَال، وَلاَ يَجْلِسُ بَعْدَهَا لأَِنَّهَا ثَالِثَتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْفْعَال، ثُمَّ بِرَكْعَةٍ بِالْفَاتِحَةِ فَقَطْ سِرًّا لأَِنَّهَا آخِرُ صَلاَتِهِ، وَمَنْ أَدْرَكَ الأَْخِيرَتَيْنِ مِنْهَا أَتَى بِرَكْعَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا لِمَا تَقَدَّمَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الإِْمَامِ فَهُوَ أَوَّل صَلاَتِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ آخِرُهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (2) ، وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الصُّبْحِ وَقَنَتَ مَعَ الإِْمَامِ، فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْقُنُوتَ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ مَعَ الإِْمَامِ تَشَهَّدَ فِي ثَانِيَتِهِ نَدْبًا، لأَِنَّهَا مَحِل تَشَهُّدِهِ الأَْوَّل، وَتَشَهُّدُهُ مَعَ الإِْمَامِ لِلْمُتَابَعَةِ، وَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 459 - 461.
(2) حديث: " فما أدركتم فصلوا. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 117) من حديث أبي هريرة.

(37/165)


أَنَّ مَا يُدْرِكُهُ أَوَّل صَلاَتِهِ (1) .

سُجُودُ الْمَسْبُوقِ لِلسَّهْوِ
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَسْجُدُ مَعَ إِمَامِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ السَّهْوُ قَبْل الاِقْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ وَلَوْ سَهَا فِيهِ سَجَدَ ثَانِيًا (2) .
وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إِلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ، وَعَلَى الإِْمَامِ سَجْدَتَا سَهْوٍ قَبْل أَنْ يَدْخُل مَعَهُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسْبُوقَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَسْجُدَ مَعَ الإِْمَامِ مَا لَمْ يُقَيِّدَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى سَجَدَ يَمْضِي، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ، بِخِلاَفِ الْمُنْفَرِدِ لاَ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ لِسَهْوِ غَيْرِهِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بَطَلَتِ الصَّلاَةُ بِسُجُودِ الْمَسْبُوقِ عَمْدًا مَعَ الإِْمَامِ سُجُودًا بَعْدِيًّا مُطْلَقًا أَوْ قَبْلِيًّا إِنْ لَمْ يَلْحَقْ مَعَهُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَإِلاَّ بِأَنْ لَحِقَ رَكْعَةً سَجَدَ الْقَبْلِيَّ مَعَهُ قَبْل قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ إِنْ سَجَدَهُ الإِْمَامُ قَبْل السَّلاَمِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سَهَا الْمَأْمُومُ خَلْفَ الإِْمَامِ لَمْ يَسْجُدْ، وَيَتَحَمَّل الإِْمَامُ سَهْوَهُ وَلَوْ سَهَا بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ، لَمْ يَتَحَمَّل لاِنْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ، وَكَذَا الْمُنْفَرِدُ إِذَا سَهَا فِي صَلاَتِهِ، ثُمَّ دَخَل فِي جَمَاعَةٍ، وَجَوَّزْنَا ذَلِكَ، فَلاَ يَتَحَمَّل الإِْمَامُ سَهْوَهُ ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا ظَنَّ الْمَأْمُومُ أَنَّ الإِْمَامَ سَلَّمَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ، فَسَلَّمَ مَعَهُ، فَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ،
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 206.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 499.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 92.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 290، 291.

(37/165)


لأَِنَّهُ سَهَا فِي حَال الْقُدْرَةِ
وَلَوْ تَيَقَّنَ فِي التَّشَهُّدِ، أَنَّهُ تَرَكَ الرُّكُوعَ أَوِ الْفَاتِحَةَ مِنْ رَكْعَةٍ نَاسِيًا، فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ، لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَلاَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؛ لأَِنَّهُ سَهَا فِي حَال الاِقْتِدَاءِ.
وَلَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ، فَسَلَّمَ الْمَسْبُوقُ سَهْوًا، ثُمَّ تَذَكَّرَ، بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ وَسَجَدَ؛ لأَِنَّ سَهْوَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ.
وَلَوْ ظَنَّ الْمَسْبُوقُ أَنَّ الإِْمَامَ سَلَّمَ، بِأَنْ سَمِعَ صَوْتًا ظَنَّهُ سَلاَمَهُ، فَقَامَ لِيَتَدَارَكَ مَا عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا عَلَيْهِ رَكْعَةً مَثَلاً، فَأَتَى بِهَا وَجَلَسَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الإِْمَامَ لَمْ يُسَلِّمْ بَعْدُ، تَبَيَّنَ أَنَّ ظَنَّهُ كَانَ خَطَأً، فَهَذِهِ الرَّكْعَةُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا؛ لأَِنَّهَا مَفْعُولَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَإِنَّ وَقْتَ التَّدَارُكِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْقُدْوَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ، قَامَ إِلَى التَّدَارُكِ، وَلاَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، لِبَقَاءِ حُكْمِ الْقُدْوَةِ.
وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَسَلَّمَ الإِْمَامُ وَهُوَ قَائِمٌ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلاَتِهِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقُعُودِ، ثُمَّ يَقُومُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.
فَإِنْ جَوَّزْنَا الْمُضِيَّ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْقِرَاءَةِ، فَلَوْ سَلَّمَ الإِْمَامُ فِي قِيَامِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى أَتَمَّ الرَّكْعَةَ - إِنْ جَوَّزْنَا الْمُضِيَّ - فَرَكْعَتُهُ مَحْسُوبَةٌ، وَلاَ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الْقُعُودُ، لَمْ يُحْسَبْ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِلزِّيَادَةِ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ.
وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَعَلِمَ فِي الْقِيَامِ

(37/166)


أَنَّ الإِْمَامَ لَمْ يُسَلِّمْ بَعْدُ، فَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ رَجَعَ فَهُوَ الْوَجْهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَادَى وَيَنْوِيَ الاِنْفِرَادَ قَبْل سَلاَمِ الإِْمَامِ، فَفِيهِ الْخِلاَفُ فِي قَطْعِ الْقُدْوَةِ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّ نُهُوضَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، فَيَرْجِعُ، ثُمَّ يَقْطَعُ الْقُدْوَةَ إِنْ شَاءَ، وَالثَّانِي: لاَ يَجِبُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّ النُّهُوضَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْقِيَامُ فَمَا بَعْدَهُ، هَذَا كَلاَمُ الإِْمَامِ، فَلَوْ لَمْ يُرِدْ قَطْعَ الْقُدْوَةِ فَمُقْتَضَى كَلاَمِ الإِْمَامِ: وُجُوبُ الرُّجُوعِ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: هُوَ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ رَجَعَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ قَائِمًا سَلاَمَ الإِْمَامِ، وَجَوَازُ الاِنْتِظَارِ قَائِمًا مُشْكِلٌ؛ لِلْمُخَالَفَةِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنْ كَانَ قَرَأَ قَبْل تَبَيُّنِ الْحَال، لَمْ يُعْتَدَّ بِقِرَاءَتِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الأَْحْوَال، بَل عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا.
قَال النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ: وُجُوبُ الرُّجُوعِ فِي الْحَالَتَيْنِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا وَسَهَا الإِْمَامُ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْمَسْبُوقُ فِيهِ، بِأَنْ كَانَ الإِْمَامُ سَهَا فِي الأُْولَى وَأَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ مَثَلاً، فَيَسْجُدُ مَعَهُ مُتَابَعَةً لَهُ، لأَِنَّ صَلاَتَهُ نَقَصَتْ حَيْثُ دَخَل مَعَ الإِْمَامِ فِي صَلاَةٍ نَاقِصَةٍ وَكَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِيمَا لاَ يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ فِي السُّجُودِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْهُ فِي بَقِيَّةِ الرَّكْعَةِ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 311 - 312.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 219.

(37/166)


وَقَالُوا: لَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ بَعْدَ سَلاَمِ إِمَامِهِ ظَانًّا عَدَمَ سَهْوِ إِمَامِهِ، فَسَجَدَ إِمَامُهُ رَجَعَ الْمَسْبُوقُ فَسَجَدَ مَعَهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ تَمَامِ صَلاَةِ الإِْمَامِ، أَشْبَهَ السُّجُودَ قَبْل السَّلاَمِ، فَيَرْجِعُ وُجُوبًا قَبْل أَنْ يَسْتَتِمَّ، فَإِنِ اسْتَتَمَّ فَالأَْوْلَى أَنْ لاَ يَرْجِعَ كَمَنْ قَامَ عَنِ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَلاَ يَرْجِعُ إِنْ شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ؛ لأَِنَّهُ تَلَبَّسَ بِرُكْنٍ مَقْصُودٍ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى وَاجِبٍ (1) .
وَإِنْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ إِمَامَهُ فِي آخِرِ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ سَجَدَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الإِْمَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ الإِْمَامُ أَتَى الْمَسْبُوقُ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ لِيُوَالِيَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَضَى صَلاَتَهُ، وَإِنْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ إِمَامَهُ بَعْدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَقَبْل السَّلاَمِ لَمْ يَسْجُدِ الْمَسْبُوقُ لِسَهْوِ إِمَامِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ بَعْضًا مِنْهُ فَيَقْضِي الْغَائِبَ، وَبَعْدَ السَّلاَمِ لاَ يَدْخُل مَعَهُ؛ لأَِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الصَّلاَةِ (2) .

كَيْفِيَّةُ جُلُوسِ الْمَسْبُوقِ:

9 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَلَسَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الإِْمَامِ فِي آخِرِ صَلاَةِ الإِْمَامِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي الأُْمِّ، وَبَهْ قَال أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْغَزَالِيُّ: يَجْلِسُ الْمَسْبُوقُ مُفْتَرِشًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِآخِرِ صَلاَتِهِ.
وَالثَّانِي: الْمَسْبُوقُ يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا مُتَابَعَةً
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 211، ومطالب أولي النهى 1 / 529.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 211، ومطالب أولي النهى 1 / 529.

(37/167)


لِلإِْمَامِ، حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي مَحَل التَّشَهُّدِ الأَْوَّل لِلْمَسْبُوقِ افْتَرَشَ، وَإِلاَّ تَوَرَّكَ؛ لأَِنَّ جُلُوسَهُ حِينَئِذٍ لِمُجَرَّدِ الْمُتَابَعَةِ فَيُتَابِعُ فِي الْهَيْئَةِ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
وَإِذَا جَلَسَ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوٍ فِي آخِرِهِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا لأَِنَّهُ آخِرُ صَلاَتِهِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ يَفْتَرِشُ وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الْعِدَّةِ وَنَقَلَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الأَْئِمَّةِ؛ لأَِنَّهُ مُسْتَوْفِزٌ لِيُتِمَّ صَلاَتَهُ، فَعَلَى هَذَا إِذَا سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ تَوَرَّكَ ثُمَّ يُسَلِّمُ (1) .

اسْتِخْلاَفُ الْمَسْبُوقِ
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى جِوَازِ اسْتِخْلاَفِ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَإِلَى جِوَازِ اسْتِخْلاَفِ الْمَسْبُوقِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الْمُبَيَّنِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخْلاَفٌ ف 28 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) المجموع 3 / 451 - 452.

(37/167)


مُسْتَأْمِنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُسْتَأْمِنُ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ: الطَّالِبُ لِلأَْمَانِ، وَيَصِحُّ بِالْفَتْحِ اسْمَ مَفْعُولٍ وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ صَارَ مُؤَامَنًا (1) ، يُقَال: اسْتَأْمَنَهُ: طَلَبَ مِنْهُ الأَْمَانَ، وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ: دَخَل فِي أَمَانِهِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُسْتَأْمِنُ: مَنْ يَدْخُل إِقْلِيمَ غَيْرِهِ بِأَمَانٍ مُسْلِمًا كَانَ أَمْ حَرْبِيًّا (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الذِّمِّيُّ:
2 - الذِّمِّيُّ فِي اللُّغَةِ: الْمُعَاهَدُ الَّذِي أُعْطِيَ عَهْدًا يَأْمَنُ بِهِ عَلَى مَالِهِ وَعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَالذِّمِّيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى الْعَهْدِ (4) .
وَالذِّمِّيُّ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ الْمُعَاهَدُ مِنَ الْكُفَّارِ لأَِنَّهُ أُومِنَ عَلَى مَالِهِ وَدَمِهِ وَدِينِهِ بِالْجِزْيَةِ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 247.
(2) المصباح المنير.
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 247، وقواعد الفقه للبركتي.
(4) المعجم الوسيط، والمصباح المنير.
(5) قواعد الفقه للبركتي.

(37/168)


وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِ وَالذِّمِّيِّ: أَنَّ الأَْمَانَ لِلْمُسْتَأْمِنِ مُؤَقَّتٌ وَلِلذِّمِّيِّ مُؤَبَّدٌ (1) .

ب - الْحَرْبِيُّ:
3 - الْحَرْبِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَرْبِ، وَهِيَ الْمُقَاتَلَةُ وَالْمُنَازَلَةُ، وَدَارُ الْحَرْبِ: بِلاَدُ الأَْعْدَاءِ، وَأَهْلُهَا: حَرْبِيٌّ وَحَرْبِيُّونَ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَأْمِنِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَأْمِنِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أَمَانُ الْمُسْتَأْمِنِ
1 - مَشْرُوعِيَّةُ الأَْمَانِ وَالْحِكْمَةُ فِيهَا:
4 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ أَمَانِ الْمُسْتَأْمِنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (3) ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ (4) .
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهَا النَّوَوِيُّ: قَدْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ الأَْمَانَ لاِسْتِمَالَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 106، 110.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) سورة التوبة / 6.
(4) ابن عابدين 3 / 226، وفتح القدير 4 / 298، والمغني 8 / 399، وكشاف القناع 3 / 104، ومغني المحتاج 4 / 236 وحديث: " ذمة المسلمين واحدة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 275) ومسلم (2 / 998) من حديث علي بن أبي طالب.

(37/168)


الْكَافِرِ إِلَى الإِْسْلاَمِ، أَوْ إِرَاحَةِ الْجَيْشِ، أَوْ تَرْتِيبِ أَمْرِهِمْ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى دُخُول الْكُفَّارِ، أَوْ لِمَكِيدَةٍ وَغَيْرِهَا (1) .

ب - حُكْمُ طَلَبِ الأَْمَانِ أَوْ إِعْطَائِهِ لِلْمُسْتَأْمِنِ
5 - إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لِلْمُسْتَأْمِنِ أَوْ طَلَبِهِ لِلأَْمَانِ مُبَاحٌ وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا.
وَبِالأَْمَانِ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْمِنِ الأَْمْنُ عَنِ الْقَتْل وَالسَّبْيِ وَغُنْمِ الْمَال، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْل رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ (2) .

ج - مَنْ يَحِقُّ لَهُ إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لِلْمُسْتَأْمَنِ
الأَْمَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَوْ مِنَ الأَْمِيرِ، أَوْ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.

أَوْلاً - أَمَانُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ، لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْكُفَّارَ الأَْمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْهُ تَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لاَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 278.
(2) بدائع الصنائع 7 / 106، 107.
(3) الشرح الصغير 2 / 285، 286، وروضة الطالبين 10 / 278، وكشاف القناع 3 / 105، وفتح القدير 4 / 298، 299، 300.

(37/169)


ثَانِيًا - أَمَانُ الأَْمِيرِ:
7 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الأَْمِيرِ لأَِهْل بَلْدَةٍ جُعِل بِإِزَائِهِمْ، أَيْ: وَلِيَ قِتَالَهُمْ؛ لأَِنَّ لَهُ الْوِلاَيَةَ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَهُوَ كَآحَادِ الرَّعِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ عَلَى قِتَال أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ (1) .

ثَالِثًا - أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ بِشُرُوطِهِ، لِوَاحِدٍ وَعَشَرَةٍ، وَقَافِلَةٍ وَحِصْنٍ صَغِيرَيْنِ عُرْفًا كَمِائَةٍ فَأَقَل: لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لأَِهْل الْحِصْنِ، وَلاَ يَصِحُّ أَمَانُ أَحَدِ الرَّعِيَّةِ لأَِهْل بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ، وَلاَ رُسْتَاقٍ، وَلاَ جَمْعٍ كَبِيرٍ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيل الْجِهَادِ، وَالاِفْتِيَاتِ عَلَى الإِْمَامِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَمَّنَ غَيْرُ الإِْمَامِ إِقْلِيمًا أَيْ عَدَدًا غَيْرَ مَحْصُورٍ، أَوْ أَمَّنَ عَدَدًا مَحْصُورًا بَعْدَ فَتْحِ الْبَلَدِ، نَظَرَ الإِْمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا أَبْقَاهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَضَابِطُهُ: أَنَّ لاَ يَنْسَدَّ بَابُ الْجِهَادِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَإِذَا تَأَتَّى الْجِهَادُ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَنْ أُمِّنَ، نَفَذَ الأَْمَانُ؛ لأَِنَّ الْجِهَادَ شِعَارُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 105، والمغني 8 / 398.

(37/169)


الدِّينِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَكَاسِبِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لِلشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ أَمَانُ وَاحِدٍ لأَِهْل قَرْيَةٍ وَإِنْ قَل عَدَدُ مَنْ فِيهَا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الأَْمَانُ مِنَ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً، أَوْ أَهْل مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَعِبَارَةُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَوْ أَهْل حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ (2) .

د - مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِعْطَاءِ الأَْمَانِ
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الأَْمَانُ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِشُرُوطِهِ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا الْوَفَاءُ بِهِ، فَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَلاَ أَسْرُهُمْ، وَلاَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِمْ، وَلاَ التَّعَرُّضُ لَهُمْ، لِعِصْمَتِهِمْ، وَلاَ أَذِيَّتُهُمْ بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ (3) .
وَأَمَّا سِرَايَةُ حُكْمِ الأَْمَانِ إِلَى غَيْرِ الْمُؤَمَّنِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ: فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أُمِّنَ مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ سَرَى الأَْمَانُ إِلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلٍ، وَمَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ، إِلاَّ أَنْ يَقُول مُؤَمِّنُهُ: أَمَّنْتُكَ وَحْدَكَ وَنَحْوَهُ، مِمَّا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالأَْمَانِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ (4) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 285، 286، وروضة الطالبين 10 / 278، وكشاف القناع 3 / 105.
(2) فتح القدير 4 / 298، وبدائع الصنائع 7 / 107، وابن عابدين 3 / 226.
(3) بدائع الصنائع 7 / 107، وابن عابدين 3 / 326، والشرح الصغير 2 / 288، وروضة الطالبين 10 / 281، وكشاف القناع 3 / 104.
(4) كشاف القناع 3 / 107، ومغني المحتاج 4 / 238.

(37/170)


هَذَا بِالنِّسْبَةِ لأَِهْلِهِ وَمَالِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلاَ يَسْرِي إِلَيْهِ الأَْمَانُ جَزْمًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْرِي الأَْمَانُ إِلَى مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، لِقُصُورِ اللَّفْظِ عَنِ الْعُمُومِ (2) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِمَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ غَيْرُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مُدَّةَ أَمَانِهِ، أَمَّا الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَدْخُل وَلَوْ بِلاَ شَرْطٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي حِرْفَتِهِ مِنَ الآْلاَتِ، وَمَرْكُوبِهِ إِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْهُ، هَذَا إِذَا أَمَّنَهُ غَيْرُ الإِْمَامِ، فَإِنْ أَمَّنَهُ الإِْمَامُ دَخَل مَا مَعَهُ بِلاَ شَرْطٍ، وَلاَ يَدْخُل مَا خَلَّفَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ بِشَرْطٍ مِنَ الإِْمَامِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الأَْمَانُ لِلْحَرْبِيِّ بِدَارِهِمْ: فَمَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِدَارِهِمْ دَخَلاَ وَلَوْ بِلاَ شَرْطٍ إِنْ أَمَّنَهُ الإِْمَامُ، وَإِنْ أَمَّنَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَدْخُل أَهْلُهُ وَلاَ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِشَرْطٍ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَال غَيْرِهِ (3) .

هـ - مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الأَْمَانُ
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْمَانَ يَنْعَقِدُ بِكُل لَفْظٍ يُفِيدُ الْغَرَضَ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّال عَلَى الأَْمَانِ نَحْوُ قَوْل الْمُقَاتِل مَثَلاً: آمَنْتُكُمْ، أَوْ أَنْتُمْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 238.
(2) مغني المحتاج 4 / 238، وروضة الطالبين 10 / 281.
(3) مغني المحتاج 4 / 238.

(37/170)


آمِنُونَ، أَوْ أَعْطَيْتُكُمُ الأَْمَانَ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
وَزَادَ الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ لاَ يَعْرِفُونَهُ، بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُسْلِمِينَ كَوْنَ ذَلِكَ اللَّفْظِ أَمَانًا بِشَرْطِ سَمَاعِ الْكُفَّارِ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ أَمَانَ لَوْ كَانَ بِالْبُعْدِ مِنْهُمْ. كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الأَْمَانُ بِأَيِّ لُغَةٍ كَانَ، بِالصَّرِيحِ مِنَ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ: أَجَرْتُكَ، أَوْ آمَنْتُكَ، أَوْ أَنْتَ آمِنٌ وَبِالْكِنَايَةِ: كَقَوْلِهِ: أَنْتَ عَلَى مَا تُحِبُّ، أَوْ كُنْ كَيْفَ شِئْتَ وَنَحْوَهُ.
وَزَادَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالرَّمْلِيِّ وَالشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيبِ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِي الْكِنَايَةِ.
وَيَجُوزُ الأَْمَانُ بِالْكِتَابَةِ لأَِثَرٍ فِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ لأَِنَّهَا كِنَايَةٌ.
كَمَا يَجُوزُ بِالرِّسَالَةِ: لأَِنَّهَا أَقْوَى مِنَ الْكِتَابَةِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ: سَوَاءٌ كَانَ الرَّسُول مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا؛ لأَِنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي حَقْنِ الدَّمِ، وَكَذَلِكَ بِإِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ: لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى مُشْرِكٍ، فَنَزَل بِأَمَانِهِ فَقَتَلَهُ، لَقَتَلْتُهُ بِهِ، وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الإِْشَارَةِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِمْ عَدُمُ فَهْمِ كَلاَمِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا الْعَكْسُ.
فَلَوْ أَشَارَ مُسْلِمٌ لِكَافِرٍ فَظَنَّ أَنَّهُ أَمَّنَهُ، فَأَنْكَرَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَمَّنَهُ بِهَا، فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ أَعْلَمُ

(37/171)


بِمُرَادِهِ، وَلَكِنْ لاَ يُغْتَال بَل يَلْحَقُ بِمَأْمَنِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشِيرُ قَبْل أَنْ يُبَيِّنَ الْحَال فَلاَ أَمَانَ، وَلاَ اغْتِيَال فَيَبْلُغُ الْمَأْمَنَ (1) .
وَيَصِحُّ إِيجَابُ الأَْمَانِ مُنَجَّزًا كَقَوْلِهِ: أَنْتَ آمِنٌ، وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ فَعَل كَذَا فَهُوَ آمِنٌ (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: مَنْ دَخَل دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ (3) .
وَأَمَّا الْقَبُول فَلاَ يُشْتَرَطُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَال: إِنَّ الإِْمَامَ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَعْتَبِرِ الْقَبُول وَقَال: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ لأَِنَّ بِنَاءَ الْبَابِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، فَيَكْفِي السُّكُوتُ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ مَعَ السُّكُوتِ مَا يُشْعِرُ بِالْقَبُول، وَهُوَ الْكَفُّ عَنِ الْقِتَال كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَتَكْفِي إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ لِلْقَبُول وَلَوْ مِنْ نَاطِقٍ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: إِنَّ مَحَل الْخِلاَفِ فِي اعْتِبَارِ الْقَبُول: إِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ اسْتِيجَابٌ، فَإِنْ سَبَقَ مِنْهُ لَمْ يُحْتَجْ لِلْقَبُول جَزْمًا (4) .

و شَرْطُ إِعْطَاءِ الأَْمَانِ لِلْمُسْتَأْمِنِ
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الأَْمَانِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 106، وابن عابدين 3 / 277، والقوانين الفقهية 159، وجواهر الإكليل 1 / 258، وروضة الطالبين 10 / 279، الوجيز 2 / 194، ومغني المحتاج 4 / 237، والقليوبي 4 / 226، وروض الطالب 4 / 203، والمغني 8 / 398 - 400، وكشاف القناع 3 / 105.
(2) كشاف القناع 3 / 104، والمراجع السابقة.
(3) حديث: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ". أخرجه مسلم (3 / 1406) من حديث أبي هريرة.
(4) مغني المحتاج 4 / 237.

(37/171)


انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، وَلَوْ لَمْ تَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الأَْمَانِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (أَمَانٌ ف 6) .

ز - شُرُوطُ الْمُؤَمِّنِ
لِلْمُؤَمِّنِ شُرُوطٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

الشَّرْطُ الأَْوَّل: الإِْسْلاَمُ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الأَْمَانُ مِنْ مُسْلِمٍ فَلاَ يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ، وَزَادَ الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ كَانَ يُقَاتِل مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ، وَلأَِنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا فَلاَ يَدْرِي أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّفَرُّقِ عَنْ حَال الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لاَ، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ (3) ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَمَانُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 186، ومغني المحتاج 4 / 238، 239، وكشاف القناع 3 / 104، والفروع 6 / 148، 249.
(2) بدائع الصنائع 7 / 106، 107.
(3) بدائع الصنائع 7 / 107، والشرح الصغير 2 / 287، والقوانين الفقهية / 159، وروضة الطالبين 10 / 279، والوجيز 2 / 194، وكشاف القناع 3 / 104.

(37/172)


أَدْنَاهُمْ (1) ، وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل الذِّمَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلاَ تَحْصُل لِغَيْرِهِمْ، وَلأَِنَّ كُفْرَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ، وَلأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَأَهْلِهِ، فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ، وَلأَِنَّهُ كَافِرٌ فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا أَمَرَهُ بِهِ مُسْلِمٌ - سَوَاءٌ كَانَ الآْمِرُ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ أَوْ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ - بِأَنْ قَال الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ: آمِنْهُمْ، فَقَال الذِّمِّيُّ: قَدْ آمَنْتُكُمْ، لأَِنَّ أَمَانَ الذِّمِّيِّ إِنَّمَا لاَ يَصِحُّ لِتُهْمَةِ مَيْلِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَزُول التُّهْمَةُ إِذَا أَمَرَهُ بِهِ مُسْلِمٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَال الذِّمِّيُّ: إِنَّ فُلاَنًا الْمُسْلِمَ قَدْ آمَنَكُمْ، لأَِنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلأَْمَانِ بِهَذَا الأَْمْرِ، فَيَكُونُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ آخَرَ (2) .

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ لأَِنَّ الْعَقْل شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَلأَِنَّ كَلاَمَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ (3) .
__________
(1) حديث: " ذمة المسلمين واحدة ". تقدم تخريجه في التعليق على فقرة (4) .
(2) ابن عابدين 3 / 228، والشرح الصغير 2 / 287، والمغني 8 / 398، وكشاف القناع 3 / 104، ومغني المحتاج 4 / 236، 237.
(3) ابن عابدين 3 / 228، والشرح الصغير 2 / 287، والمغني 8 / 398، وكشاف القناع 3 / 104، ومغني المحتاج 4 / 236، 237، وروضة الطالبين 10 / 279، والوجيز 2 / 194.

(37/172)


الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَمَانُ الطِّفْل وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ إِذَا كَانَ لاَ يَعْقِل الإِْسْلاَمَ قِيَاسًا عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا يَعْقِل الإِْسْلاَمَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَنِ الْقِتَال، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَمَانُهُ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الأَْمَانِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكُفْرِ قُوَّةٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالتَّأَمُّل وَالنَّظَرِ، وَلاَ يُوجَدُ ذَلِكَ مِنَ الصَّبِيِّ، وَلاِشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْعُقُودَ، وَالأَْمَانُ عَقْدٌ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَطَلاَقِهِ وَعِتَاقِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ، لأَِنَّ أَهْلِيَّةَ الأَْمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الإِْيمَانِ، وَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَعْقِل الإِْسْلاَمَ مِنْ أَهْل الإِْيمَانِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْل الأَْمَانِ كَالْبَالِغِ (1) .
وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي الْقِتَال فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 106، وفتح القدير 4 / 302، والشرح الصغير 2 / 287، والمغني 8 / 397، وروضة الطالبين 10 / 279.
(2) ابن عابدين 3 / 226، 227، بدائع الصنائع 7 / 106، وفتح القدير 4 / 302.

(37/173)


وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ خِلاَفٌ، قِيل: يَجُوزُ وَيَمْضِي وَقِيل: لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَيُخَيَّرُ فِيهِ الإِْمَامُ إِنْ وَقَعَ: إِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ أَمَانُ الصَّبِيِّ وَفِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَجْهٌ كَتَدْبِيرِهِ (2) .
وَمَنْ زَال عَقْلُهُ بِنَوْمٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ إِغْمَاءٍ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الْمَصْلَحَةَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلأَِنَّ كَلاَمَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ (3) .

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الاِخْتِيَارُ
15 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الأَْمَانُ مِنْ مُكْرَهٍ لأَِنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالإِْقْرَارِ (4) .

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: عَدَمُ الْخَوْفِ مِنَ الْكَفَرَةِ:
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ الأَْسِيرِ إِذَا عَقَدَهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلأَِنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ فَأَشْبَهَ غَيْرَ الأَْسِيرِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَكَذَلِكَ يَصِحُّ أَمَانُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 287.
(2) روضة الطالبين 10 / 279.
(3) المغني 8 / 398.
(4) الشرح الصغير 2 / 287، والقوانين الفقهية 159، وروضة الطالبين 10 / 279، وكشاف القناع 3 / 104، والمغني 8 / 398.

(37/173)


الأَْجِيرِ، وَالتَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عَدَمَ جِوَازِ أَمَانِ الأَْسِيرِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: مَحَل الْخِلاَفِ فِي الأَْسِيرِ الْمُقَيَّدِ وَالْمَحْبُوسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا؛ لأَِنَّهُ مَقْهُورٌ بِأَيْدِيهِمْ لاَ يَعْرِفُ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ، وَلأَِنَّ وَضْعَ الأَْمَانِ أَنْ يَأْمَنَ الْمُؤَمَّنُ، وَلَيْسَ الأَْسِيرُ آمِنًا، وَأَمَّا أَسِيرُ الدَّارِ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ بِدَارِ الْكُفْرِ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا فَيَصِحُّ أَمَانُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَمَانُ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا عِنْدَ الْكُفَّارِ كَالأَْسِيرِ وَالتَّاجِرِ فِيهِمْ، وَمَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ مَقْهُورُونَ عِنْدَهُمْ، فَلاَ يَكُونُونَ مِنْ أَهْل الْبَيَانِ، وَلاَ يَخَافُهُمُ الْكُفَّارُ، وَالأَْمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَل الْخَوْفِ، وَلأَِنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، فَيُعْرَى الأَْمَانُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَلأَِنَّهُ لَوِ انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ لاَنْسَدَّ بَابُ الْفَتْحِ؛ لأَِنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الأَْمْرُ عَلَيْهِمْ، لاَ يُخَلُّونَ عَنْ أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ فَيَتَخَلَّصُونَ بِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: نُقِل فِي الْبَحْرِ عَنِ الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَمَانُ الأَْسِيرِ فِي حَقِّ بَاقِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، أَمَّا
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 281، والقليوبي 4 / 226، ومغني المحتاج 4 / 237، والقوانين الفقهية 153، والمغني 8 / 397.

(37/174)


فِي حَقِّهِ هُوَ فَصَحِيحٌ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّاجِرَ الْمُسْتَأْمِنَ كَذَلِكَ (1) .

ح - أَمَانُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَمَانِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَرِيضِ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

أَوْلاً - الْعَبْدُ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ (2) ، وَفَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِالْعَبْدِ، وَلِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: " الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ " يَجُوزُ أَمَانُهُ "، وَلأَِنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ.
وَزَادَ النَّوَوِيُّ: يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ كَافِرًا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً وَإِذَا أُمِّنَ فَيُخَيَّرُ الإِْمَامُ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَرَدِّهِ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 107، وفتح القدير 4 / 300، وشرح السير الكبير 1 / 266 ط. مطبعة مصر، وابن عابدين 3 / 228، والاختيار 4 / 123.
(2) حديث: " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ". سبق تخريجه في التعليق على فقرة (4) .
(3) بدائع الصنائع 7 / 106، 107، وفتح القدير 4 / 299، 300، 301، وابن عابدين 3 / 266، 227، والشرح الصغير 2 / 287، وبداية المجتهد 1 / 393، والمغني 8 / 397، وكشاف القناع 3 / 104، وروضة الطالبين 10 / 279.

(37/174)


وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ: لاَ يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلاَهُ فِي الْقِتَال، لأَِنَّهُ مَحْجُورٌ عَنِ الْقِتَال فَلاَ يَصِحُّ أَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَخَافُونَهُ فَلَمْ يُلاَقِ الأَْمَانُ مَحَلَّهُ، بِخِلاَفِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَال؛ لأَِنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ مُتَحَقِّقٌ، وَلأَِنَّهُ مَجْلُوبٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، فَلاَ يُؤْمَنُ أَنَّ يَنْظُرَ لَهُمْ تَقْدِيمَ مَصْلَحَتِهِمْ (1) .

ثَانِيًا - الْمَرْأَةُ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الذُّكُورَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الأَْمَانِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، إِنَّمَا يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ (2) وَلِمَا رُوِيَ: أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَزَوْجَةَ أَبِي الْعَاصِ أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ وَأَجَازَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانَهَا (3) ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَعْجِزُ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى حَال الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ (4) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 300، 301، والمغني 8 / 396.
(2) حديث: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 469) ومسلم (1 / 498) من حديث أم هانئ.
(3) حديث: " أن زينب زوجة أبي العاص أمنت زوجها أبا العاص. . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (5 / 224) والبيهقي في السنن (9 / 959) من حديث عبد الله البهي، وقال البيهقي: " وهو مرسل ".
(4) بدائع الصنائع 7 / 106، 107، وابن عابدين 3 / 226، والقوانين الفقهية 159، والشرح الصغير 2 / 287، وروضة الطالبين 10 / 279، وكشاف القناع 3 / 104، والمغني 8 / 397.

(37/175)


وَفِي قَوْل الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَمَانُ الْمَرْأَةِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَمَّنَتْ نَظَرَ الإِْمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ (1) .
وَنَصَّ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ فِي جِوَازِ عَقَدِ الْمَرْأَةِ اسْتِقْلاَلاً وَجْهَانِ.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: أَرْجَحُهُمَا الْجَوَازُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ (2) .

ثَالِثًا الْمَرِيضُ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الأَْمَانِ السَّلاَمَةُ عَنِ الْعَمَى وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الأَْعْمَى وَالزَّمِنُ وَالْمَرِيضُ مَا دَامَ سَلِيمَ الْعَقْل، لأَِنَّ الأَْصْل فِي صِحَّةِ الأَْمَانِ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيٍ وَنَظَرٍ فِي الأَْحْوَال الْخَفِيَّةِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ لاَ تَقْدَحُ فِيهِ (3) .

ط - الأَْمَانُ عَلَى الشَّرْطِ
20 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ. حِصْنًا فَنَادَاهُمْ رَجُلٌ وَقَال: أَمِّنُونِي أُفْتَحْ لَكُمُ الْحِصْنَ، جَازَ أَنَّ يُعْطُوهُ أَمَانًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ لَبِيَدٍ لَمَّا حَاصَرَ النُّجِيْرَ، قَال الأَْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: أَعْطُونِي الأَْمَانَ لِعَشَرَةٍ أَفْتَحْ لَكُمْ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 393، والشرح الصغير 2 / 287.
(2) روضة الطالبين 10 / 279، ومغني المحتاج 4 / 237.
(3) ابن عابدين 3 / 266، بدائع الصنائع 7 / 106، 107، وروضة الطالبين 10 / 279، والوجيز 2 / 194.

(37/175)


الْحِصْنَ فَفَعَلُوا، فَإِنْ أَشْكَل الَّذِي أُعْطِيَ الأَْمَانُ - وَادَّعَاهُ كُل وَاحِدٍ مِنْ أَهْل الْحِصْنِ - فَإِنْ عَرَفَ صَاحِبُ الأَْمَانِ عَمِل عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبُ الأَْمَانِ الْمُؤَمِّنَ، لَمْ يَجُزْ قَتْل وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحْتَمَل صِدْقُهُ وَقَدِ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمُحَرَّمِ فِيمَا لاَ ضَرُورَةَ إِلَيْهِ فَحُرِّمَ الْكُل، كَمَا لَوِ اشْتَبَهَتْ مَيِّتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ وَنَحْوِهَا (1) .
وَإِذَا لَمْ يُوَفِّ الشَّرْطَ فَلَهُمْ ضَرْبُ عُنُقِهِ كَمَا إِذَا قَال الرَّجُل: كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَدُلُّكَ عَلَى كَذَا، فَبُعِثَ مَعَهُ قَوْمٌ لِيَدُلَّهُمْ فَامْتَنَعَ مِنَ الدَّلاَلَةِ أَوْ خَانَهُمْ، فَالإِْمَامُ إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ فَيْئًا؛ لأَِنَّ إِعْطَاءَ الأَْمَانِ لَهُ كَانَ بِشَرْطٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلأَِنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ، وَعُلِّقَ حُرْمَةُ دَمِهِ بِالدَّلاَلَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، فَإِنِ انْعَدَمَ الشَّرْطُ، بَقِيَ حِل دَمِهِ عَلَى مَا كَانَ (2) .

ي - مُدَّةُ الأَْمَانِ
21 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الإِْقَامَةِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِلْمُسْتَأْمِنِ لاَ تَبْلُغُ سَنَةً، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ التَّوْقِيتُ مَا دُونَ السَّنَةِ كَشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ، لَكِنْ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ الْمُسْتَأْمِنَ ضَرَرٌ وَعُسْرٌ بِتَقْصِيرِ الْمُدَّةِ جِدًّا، خُصُوصًا إِذَا كَانَ لَهُ مُعَامَلاَتٌ يَحْتَاجُ فِي
__________
(1) شرح السير الكبير 1 / 278، والخرشي 3 / 121، 122، وروضة الطالبين 10 / 293، والمغني 8 / 402.
(2) شرح السير الكبير 1 / 278، والخرشي 3 / 121، 122، وروضة الطالبين 10 / 293، والمغني 8 / 402.

(37/176)


اقْتِضَائِهَا إِلَى مُدَّةٍ أَطْوَل (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ تَزِيدَ مُدَّةُ الأَْمَانِ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ أَنْ لاَ تَزِيدَ مُدَّةُ الأَْمَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا بَطَل فِي الزَّائِدِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 12) .

ك - مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الأَْمَانُ
يُنْتَقَضُ الأَْمَانُ بِأُمُورٍ هِيَ:

أَوَّلاً - نَقْضُ الإِْمَامِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ لَوْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي نَبْذِ الأَْمَانِ وَكَانَ بَقَاؤُهُ شَرًّا لَهُ أَنَّ يَنْقُضَهُ، لأَِنَّ جِوَازَ الأَْمَانِ - مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَال الْمَفْرُوضِ - لِلْمُصْلِحَةِ، فَإِذَا صَارَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي النَّقْضِ نَقَضَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ وَإِعَادَتِهِمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل الأَْمَانِ، ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ لِئَلاَّ يَكُونَ مِنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 107، وابن عابدين 3 / 248، 249، وفتح القدير 4 / 351، 352، والاختيار 4 / 136، والأحكام السلطانية للماوردي 146 ط. دار الكتب العلمية، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ط. دار الكتب العلمية - بيروت 161، وروضة الطالبين 10 / 281
(2) كشاف القناع 3 / 104.
(3) مغني المحتاج 4 / 238.

(37/176)


الْمُسْلِمِينَ غَدْرٌ فِي الْعَهْدِ (1) .

ثَانِيًا - رَدُّ الْمُسْتَأْمِنِ لِلأَْمَانِ:
23 - إِذَا جَاءَ أَهْل الْحِصْنِ بِالأَْمَانِ إِلَى الإِْمَامِ فَنَقَضَهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْمُسْتَأْمِنَ إِذَا نَبَذَ الْعَهْدَ، وَجَبَ تَبْلِيغُهُ الْمَأْمَنَ، وَلاَ يُتَعَرَّضُ لِمَا مَعَهُ بِلاَ خِلاَفٍ (2) .

ثَالِثًا - مُضِيُّ مُدَّةِ الأَْمَانِ:
24 - يَنْقَضِي الأَْمَانُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ إِذَا كَانَ الأَْمَانُ مُؤَقَّتًا إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّقْضِ (3) .

رَابِعًا - عَوْدَةُ الْمُسْتَأْمِنِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ:
25 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ أَمَانَ الْمُسْتَأْمِنِ يُنْتَقَضُ فِي نَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْكُفَّارِ، وَلَوْ إِلَى غَيْرِ دَارِهِ مُسْتَوْطِنًا أَوْ مُحَارِبًا، وَأَمَّا إِنْ عَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لِتِجَارَةٍ، أَوْ مُتَنَزِّهًا أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 281 - 290، ومغني المحتاج 4 / 238.
(2) المراجع السابقة.
(3) بدائع الصنائع 7 / 107، وابن عابدين 3 / 226، وشرح السير الكبير 1 / 264، وفتح القدير 4 / 300، والقوانين الفقهية 160، وروضة الطالبين 10 / 281، 290، ومغني المحتاج 4 / 238، وكشاف القناع 3 / 106، 111.
(4) ابن عابدين 3 / 250، 251، والزيلعي 3 / 269، وروضة الطالبين 10 / 289، وكشاف القناع 3 / 108، والمغني 8 / 400.

(37/177)


خَامِسًا - ارْتِكَابُ الْخِيَانَةِ:
26 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَنْ جَاءَنَا بِأَمَانٍ، فَخَانَنَا، كَانَ نَاقِضًا لأَِمَانِهِ لِمُنَافَاةِ الْخِيَانَةِ لَهُ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ (1) .

ل - مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى رُجُوعِ الْمُسْتَأْمِنِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ
27 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ - وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّ مَنْ دَخَل دَارَ الْحَرْبِ مُسْتَوْطِنًا، بَقِيَ الأَْمَانُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ بَطَل فِي نَفْسِهِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لأَِنَّهُ بِدُخُولِهِ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ ثَبَتَ الأَْمَانُ لِمَالِهِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ، فَإِذَا بَطَل فِي نَفْسِهِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ بَقِيَ فِي مَالِهِ، لاِخْتِصَاصِ الْمُبْطِل بِنَفْسِهِ، فَيَخْتَصُّ الْبُطْلاَنُ بِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ: لِلْمُسْتَأْمِنِ أَنْ يَدْخُل دَارَ الإِْسْلاَمِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ أَمَانٍ لِتَحْصِيل ذَلِكَ الْمَال، وَالدُّخُول لِلْمَال يُؤَمِّنُهُ كَالدُّخُول لِرِسَالَةٍ، وَسَمَاعِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّل فِي تَحْصِيل غَرَضِهِ، وَكَذَا لاَ يُكَرِّرُ الْعَوْدَ لأَِخْذِ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَال فِي كُل مَرَّةٍ، فَإِنْ خَالَفَ تَعَرَّضَ لِلْقَتْل وَالأَْسْرِ، وَقَال غَيْرُ ابْنِ الْحَدَّادِ: لَيْسَ لَهُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 108.

(37/177)


الدُّخُول، لأَِنَّ ثُبُوتَ الأَْمَانِ فِي الْمَال لاَ يُوجِبُ ثُبُوتَهُ فِي النَّفْسِ.
28 - وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الأَْمَانِ فِي مَالِهِ أَنَّهُ إِنْ طَلَبَهُ صَاحِبُهُ بُعِثَ إِلَيْهِ.
وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا صَحَّ تَصَرُّفُهُ.
وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ انْتَقَل إِلَى وَارِثِهِ مَعَ بَقَاءِ الأَْمَانِ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ مِنَ الرَّهْنِ وَالشُّفْعَةِ، وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ كَمَا يَأْتِي.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: يَبْطُل الأَْمَانُ فِي الْحَال فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّهُ قَدْ صَارَ لِوَارِثِهِ، وَلَمْ يَعْقِدْ فِيهِ أَمَانًا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُل فِيهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلأَِنَّ الأَْمَانَ يَثْبُتُ فِي الْمَال تَبَعًا.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، صَارَ فَيْئًا كَمَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَقَاءِ الأَْمَانِ فِي مَالِهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلأَْمَانِ فِي مَالِهِ حَصَل الأَْمَانُ فِيهِ تَبَعًا، فَيَبْطُل فِيهِ تَبَعًا، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الأَْمَانِ لَمْ يَبْطُل.
29 - وَأَمَّا الأَْوْلاَدُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُسْبَى أَوْلاَدُهُ، فَإِذَا بَلَغُوا وَقَبِلُوا الْجِزْيَةَ تُرِكُوا، وَإِلاَّ بَلَغُوا الْمَأْمَنَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 252، وروضة الطالبين 10 / 289 - 290، والمغني 8 / 400 - 401، وكشاف القناع 3 / 108.

(37/178)


30 - أَمَّا إِنْ أُسِرَ، بِأَنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فَأَسَرَهُ، أَوْ غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْل دَارِ الْحَرْبِ، فَأَخَذُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ، وَكَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُمَا، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ دَيْنُهُ؛ لأَِنَّ إِثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الدَّيْنِ بِالْمُطَالَبَةِ، وَقَدْ سَقَطَتْ، وَيَدُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَسْبَقُ إِلَيْهِ مِنْ يَدِ الْعَامَّةِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ فَيَسْقُطُ، وَلاَ طَرِيقَ لِجَعْلِهِ فَيْئًا؛ لأَِنَّهُ الَّذِي يُؤْخَذُ قَهْرًا، وَلاَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ أَسْلَمَ إِلَى مُسْلِمٍ دَرَاهِمَ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا غُصِبَ مِنْهُ، وَأُجْرَةِ عَيْنٍ أَجَّرَهَا، وَكُل ذَلِكَ لِسِبْقِ الْيَدِ.
31 - وَأَمَّا وَدِيعَتُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمَا عِنْدَ شَرِيكِهِ وَمُضَارِبِهِ وَمَا فِي بَيْتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَيَصِيرُ فَيْئًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْوَدِيعَةَ فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا، لأَِنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِهِ فَيَصِيرُ فَيْئًا تَبَعًا لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَا عِنْدَ شَرِيكِهِ وَمُضَارِبِهِ وَمَا فِي بَيْتِهِ.
32 - وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّهْنِ: فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُبَاعُ وَيُسْتَوْفَى دَيْنُهُ، وَالزِّيَادَةُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمَيْنِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَرْجِيحُ قَوْل مُحَمَّدٍ، لأَِنَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ فِي حُكْمِ الْوَدِيعَةِ.

(37/178)


33 - وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل بِلاَ غَلَبَةٍ عَلَيْهِ، فَمَالُهُ مِنَ الْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ لِوَرَثَتِهِ لأَِنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَصِرْ مَغْنُومَةً فَكَذَا مَالُهُ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَهَرَبَ فَمَالُهُ لَهُ، وَكَذَا دَيْنُهُ حَال حَيَاتِهِ قَبْل الأَْسْرِ (1) .

م - مَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْمِنِ حَمْلُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ
34 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُمَكَّنُ الْمُسْتَأْمِنُ إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ أَنْ يَحْمِل مَعَهُ سِلاَحًا اشْتَرَاهُ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لَهُ لِيَكْتَسِبَ بِهِ مَا يَكُونُ قُوَّةً لأَِهْل الْحَرْبِ عَلَى قِتَال الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالَّذِي دَخَل بِهِ. فَإِنْ بَاعَ سَيْفَهُ وَاشْتَرَى بِهِ قَوْسًا أَوْ نُشَّابًا أَوْ رُمْحًا مَثَلاً لاَ يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى سَيْفًا أَحَسَنَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِثْل الأَْوَّل أَوْ دُونَهُ مُكِّنَ مِنْهُ (2) .

الدُّخُول إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
يَخْتَلِفُ حُكْمُ مَنْ دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ أَمَانٍ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - ادِّعَاءُ كَوْنِهِ رَسُولاً:
35 - مَنْ دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ وَقَال: أَنَا رَسُول
__________
(1) ابن عابدين 3 / 252.
(2) المبسوط 10 / 91، 92، وفتح القدير 4 / 352، 353.

(37/179)


الْمَلِكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، لَمْ يَصَدَّقْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلاَّ إِذَا أَخْرَجَ كِتَابًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَ مَلِكِهِمْ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَيَرْجِعَ؛ لأَِنَّ الرَّسُول آمِنٌ كَمَا جَرَى بِهِ الرَّسْمُ جَاهِلِيَّةً وَإِسْلاَمًا، وَلأَِنَّ الْقِتَال أَوِ الصُّلْحَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالرُّسُل، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَمَانِ الرَّسُول لِيُتَوَصَّل إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ كِتَابًا أَوْ أَخْرَجَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ، فَهُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْءٌ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُفْتَعَل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُصَدَّقُ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لاَ، وَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ لاِحْتِمَال مَا يَدَّعِيهِ (2) .
وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ تَفْصِيلاً فِي الرَّسُول فَقَال: وَمَا اشْتُهِرَ أَنَّ الرَّسُول آمِنٌ هُوَ فِي رِسَالَةٍ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هُدْنَةٍ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ رَسُولاً فِي وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، فَلاَ أَمَانَ لَهُ، وَيَتَخَيَّرُ الإِْمَامُ فِيهِ بَيْنَ الْخِصَال الأَْرْبَعِ كَأَسِيرٍ، أَيِ الْقَتْل، أَوِ الاِسْتِرْقَاقِ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُفَادَاةِ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْوَّل (3) .

ب - ادِّعَاءُ كَوْنِهِ تَاجِرًا:
36 - لَوْ دَخَل الْحَرْبِيُّ دَارَنَا وَقَال: إِنَّهُ تَاجِرٌ وَقَال: ظَنَنْتُ أَنَّكُمْ لاَ تَعْرِضُونَ لِتَاجِرٍ، وَالْحَال أَنَّهُ تَاجِرٌ، فَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَل مِنْهُ،
__________
(1) المبسوط 10 / 92، وابن عابدين 3 / 227، وفتح القدير 4 / 352، وكشاف القناع 3 / 108، والمغني 8 / 522، 400.
(2) مغني المحتاج 4 / 243، وروضة الطالبين 10 / 280.
(3) روضة الطالبين 10 / 251، 299.

(37/179)


وَيَرُدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَخَذَ بِأَرْضِهِمْ، أَوْ بَيْنَ أَرْضِ الْعَدُوِّ وَأَرْضِنَا، وَادَّعَى التِّجَارَةَ، أَوْ قَال: جِئْتُ أَطْلُبُ الأَْمَانَ، حَيْثُ يُرَدُّ لِمَأْمَنِهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: قَصْدُ التِّجَارَةِ لاَ يُفِيدُ الأَْمَانَ، وَلَكِنْ لَوْ رَأَى الإِْمَامُ مَصْلَحَةً فِي دُخُول التُّجَّارِ، فَقَال: مَنْ دَخَل تَاجِرًا فَهُوَ آمِنٌ، جَازَ، وَمِثْل هَذَا الأَْمَانُ لاَ يَصِحُّ مِنَ الآْحَادِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: ظَنَنْتُ أَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ يُفِيدُ الأَْمَانَ فَلاَ أَثَرَ لِظَنِّهِ، وَلَوْ سَمِعَ مُسْلِمًا يَقُول: مَنْ دَخَل تَاجِرًا فَهُوَ آمِنٌ، فَدَخَل وَقَال: ظَنَنْتُ صِحَّتَهُ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَلاَ يُغْتَال (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَخَل وَادَّعَى أَنَّهُ تَاجِرٌ وَكَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ، قُبِل مِنْهُ، إِنْ صَدَّقْتَهُ عَادَةً، كَدُخُول تِجَارَتِهِمْ إِلَيْنَا وَنَحْوِهِ، لأَِنَّ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنٌ، فَيَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَتْل، وَلأَِنَّهُ يُتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَلِجَرَيَانِ الْعَادَةِ مَجْرَى الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، وَانْتَفَتِ الْعَادَةُ، لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، لأَِنَّ التِّجَارَةَ لاَ تَحْصُل بِغَيْرِ مَالٍ، وَيَجِبُ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْعِصْمَةِ (3) .

ج - ادِّعَاءُ كَوْنِهِ مُؤَمَّنًا:
37 - مَنْ دَخَل دَارَنَا وَقَال: أَمَّنَنِي مُسْلِمٌ، فَقَدْ
__________
(1) حاشية الخرشي 3 / 124.
(2) روضة الطالبين 10 / 280.
(3) المغني 8 / 523، وكشاف القناع 3 / 108.

(37/180)


نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ، لأَِنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حَيْنَ تَمَكَّنُوا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ ظَاهِرٍ لَهُ، فَلاَ يُصَدَّقُ فِي إِبْطَال حَقِّهِمْ، وَلَكِنْ إِنْ قَال مُسْلِمٌ: أَنَا أَمَّنْتُهُ قُبِل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ، فَقُبِل قَوْلُهُ فِيهِ كَالْحَاكِمِ إِذَا قَال: حَكَمْتُ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِلاَ بَيِّنَةٍ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ، فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ صَادِقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يَدْخُل بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُطَالَبُ بِبَيِّنَةٍ لإِِمْكَانِهَا غَالِبًا (1) .

نِكَاحُ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْتَأْمِنَةِ
38 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّةَ الْمُسْتَأْمِنَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَقَدْ تَوَطَّنَتْ وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَهْل الذِّمَّةِ ف 13) .

مَا يَتَرَتَّبُ لَلْمُسْتَأْمِنَةِ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ حُقُوقٍ
39 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ الْمُسْتَأْمِنَةَ الْكِتَابِيَّةَ كَمُسْلِمَةٍ فِي نَفَقَةٍ وَقَسْمٍ وَطَلاَقٍ وَغَيْرِ
__________
(1) المبسوط 10 / 93، وفتح القدير 4 / 352، وحاشية ابن عابدين 3 / 227، ومغني المحتاج 4 / 243، وروضة الطالبين 10 / 299، والمغني 8 / 523.

(37/180)


ذَلِكَ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الزَّوْجِيَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (نِكَاحٌ، وَمَهْرٌ، وَقَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَكُفْرٌ، وَنَفَقَةٌ، وَظِهَارٌ، وَلِعَانٌ، وَعِدَّةٌ، وَحَضَانَةٌ، وَإِحْصَانٌ) .

التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِ وَزَوْجَتِهِ لاِخْتِلاَفِ الدَّارِ
40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا خَرَجَ إِلَيْنَا مُسْتَأْمِنًا، أَوِ الْمُسْلِمَ إِذَا دَخَل دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ لأَِنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارِ عِبَارَةٌ عَنْ تَبَايُنِ الْوِلاَيَاتِ وَذَلِكَ لاَ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمِنَ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ عَلَى سَبِيل الْعَارِيَةِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ لاَ لِلتَّوَطُّنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (اخْتِلاَفِ الدَّارِ ف 5) .

التَّوَارُثُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِينَ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ
41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ التَّوَارُثُ بَيْنَ مُسْتَأْمِنَيْنِ فِي دَارِنَا إِنْ كَانَا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا يَثْبُتُ بَيْنَ مُسْتَأْمِنٍ فِي دَارِنَا وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِهِمْ، لاِتِّحَادِ الدَّارِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا، هَذَا فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 400، والمبسوط 5 / 218، ومغني المحتاج 3 / 188، وروضة الطالبين 7 / 136، والمغني 7 / 36، 6 / 637.

(37/181)


الْجُمْلَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِلاَفُ الدَّارِ ف 3) .

الْمُعَامَلاَتُ الْمَالِيَّةُ لِلْمُسْتَأْمِنِ
42 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَأْمِنَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ كَالذِّمِّيِّ إِلاَّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِ بِالْعُقُوبَاتِ غَيْرَ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَفِي أَخْذِ الْعَاشِرِ مِنْهُ الْعُشْرَ، لأَِنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ أَوْ أُلْزِمَ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ، لإِِمْكَانِ إِجْرَاءِ الأَْحْكَامِ عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الذِّمِّيَّ فِي مُعَامَلاَتِهِ مَعَ الآْخَرِينَ (2) ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ يَحِل أَخْذُ مَالِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِخِلاَفِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ لَهُ أَخْذُ مَالِهِمْ بِرِضَاهُمْ وَلَوْ بِرِبَا أَوْ قِمَارٍ؛ لأَِنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ لَنَا إِلاَّ أَنَّ الْغَدْرَ حَرَامٌ، وَمَا أُخِذَ بِرِضَاهُمْ لَيْسَ غَدْرًا مِنَ الْمُسْتَأْمِنِ بِخِلاَفِ الْمُسْتَأْمِنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا؛ لأَِنَّ دَارَنَا مَحَل إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَلاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ فِي دَارِنَا أَنْ يَعْقِدَ مَعَ الْمُسْتَأْمِنِ إِلاَّ مَا يَحِل مِنَ الْعُقُودِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ لاَ يَلْزَمُهُ شَرْعًا وَإِنْ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 490 ط. بولاق، ونهاية المحتاج 6 / 26، 27، والمغني 7 / 165 وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 249، 2 / 506، وتكملة فتح القدير 8 / 488، وبدائع الصنائع 6 / 81، 7 / 335.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 249.

(37/181)


قِصَاصُ الْمُسْتَأْمِنِ بِقَتْل الْمُسْلِمِ وَعَكْسُهُ
43 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُقْتَل الْمُسْتَأْمِنُ بِقَتْل الْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ بِقَتْل الذِّمِّيِّ، وَلَوْ مَعَ اخْتِلاَفِ أَدْيَانِهِمْ، لأَِنَّ الْكُفْرَ يَجْمَعُهُمْ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَاصِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَل الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمِنِ، لأَِنَّ الأَْعْلَى لاَ يُقْتَل بِالأَْدْنَى وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرِ (2) .
وَيُقْتَل الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمِنُ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ، كَمَا يُقْتَل الْمُسْتَأْمِنُ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ وَالذِّمِّيِّ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِقَتْل مُسْتَأْمِنٍ، لأَِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُول فِي حَقِّ الْقَاتِل مَحْقُونَ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْمُسْتَأْمِنُ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةٌ، لأَِنَّهُ مَصُونُ الدَّمِ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 249 ط. بولاق، والخرشي 8 / 6، 14، والأم 6 / 37، 38 ط. دار المعرفة، كشاف القناع 5 / 524.
(2) حديث: " لا يقتل مسلم بكافر ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 260) من حديث علي بن أبي طالب.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 239، ومغني المحتاج 4 / 16، وكشاف القناع 5 / 524.

(37/182)


حَال أَمَانِهِ فَقَطْ، وَلأَِنَّهُ مِنْ دَارِ أَهْل الْحَرْبِ حُكْمًا؛ لِقَصْدِهِ الاِنْتِقَال إِلَيْهَا، فَلاَ يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دِيَةٌ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَل الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمِنِ (2) ، وَاسْتَدَل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَأْمِنَ يُقْتَل بِقَتْل مُسْتَأْمِنٍ آخَرَ قِيَاسًا، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ حَقْنُ الدَّمِ، وَلاَ يُقْتَل اسْتِحْسَانًا، لِقِيَامِ الْمُبِيحِ وَهُوَ عَزْمُهُ عَلَى الْمُحَارَبَةِ بِالْعَوْدِ (3) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ يُقْتَل (4) .
هَذَا فِي النَّفْسِ، وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي الدِّينِ، وَتَفْصِيلُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 7) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 236، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، 3 / 249، وفتح القدير 4 / 357.
(2) بدائع الصنائع 7 / 231.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 343، 344.
(4) بدائع الصنائع 7 / 236.

(37/182)


دِيَةُ الْمُسْتَأْمِنِ
44 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِقَتْل الْمُسْتَأْمِنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْكِتَابِيِّ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ دِيَةُ جِرَاحِ أَهْل الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْمِنَ وَالْمُسْلِمَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ الْمُسْتَأْمِنِ الْكِتَابِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ نَفْسًا وَغَيْرَهَا، وَدِيَةُ الْمُسْتَأْمِنِ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَعَابِدِ الْقَمَرِ وَالزِّنْدِيقِ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ هَذَا فِي الذُّكُورِ.
أَمَّا الْمُسْتَأْمِنَاتُ الإِْنَاثُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَتَهُنَّ نِصْفُ دِيَةِ الذُّكُورِ مِنْهُمْ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 32) .
وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَكَانَ مُسْتَأْمِنًا، فَقَال الْبَهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ دِيَتَهُ دِيَةُ أَهْل دِينِهِ، لأََنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ دِينُهُ فَكَمَجُوسِيٍّ؛ لأَِنَّهُ الْيَقِينُ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ (1) .

زِنَا الْمُسْتَأْمِنِ وَزِنَا الْمُسْلِمِ بِالْمُسْتَأْمِنَةِ
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى
__________
(1) كشاف القناع 6 / 21.

(37/183)


الْمُسْتَأْمِنِ إِذَا زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ الْمُسْتَأْمِنُ إِذَا زَنَى.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَتِ الْمُسْلِمَةُ طَائِعَةً فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً شَدِيدَةً وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْمُسْلِمَةَ فَإِنَّهُ يُقْتَل لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُحَدُّ لأَِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقْتَل لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلاَ يَجِبُ مَعَ الْقَتْل حَدٌّ سِوَاهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَأَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمِنَةِ فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُسْلِمُ دُونَ الْمُسْتَأْمِنَةِ لأَِنَّ تَعَذُّرَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْتَأْمِنَةِ لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ فَلاَ يَمْنَعُ إِقَامَتُهُ عَلَى الرَّجُل، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ تُحَدُّ الْمُسْتَأْمِنَةُ أَيْضًا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زِنَا ف 28) .

قَذْفُ الْمُسْتَأْمِنِ لِلْمُسْلِمِ
46 - لَوْ دَخَل حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا
__________
(1) المبسوط 9 / 55، 56، 57، والخرشي 8 / 75، وحاشية الدسوقي 4 / 313، والفواكه الدواني 2 / 284، والبناني على الزرقاني 8 / 75، وروضة الطالبين 10 / 142، ومغني المحتاج 4 / 147، والمغني 8 / 268، وكشاف القناع 6 / 91.

(37/183)


لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الأَْوَّل، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لأَِبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ.
وَالتَّفْصِيل فِي (قَذْفٌ ف 15) .

سَرِقَةُ الْمُسْتَأْمِنِ مَال الْمُسْلِمِ وَعَكْسُهُ
47 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لإِِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ تَوَافُرُ شُرُوطٍ مِنْهَا: كَوْنُ السَّارِقِ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ سَرَقَ الْمُسْتَأْمِنُ مِنْ مُسْتَأْمِنٍ آخَرَ مَالاً لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، وَأَمَّا إِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 12) .
فَإِنْ سَرَقَ الْمُسْلِمُ مَال الْمُسْتَأْمِنِ فَلاَ يُحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةَ - عَدَا زُفَرَ - وَالشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ فِي مَالِهِ شُبْهَةَ الإِْبَاحَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأَِنَّ مَال الْمُسْتَأْمِنِ مَعْصُومٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَةٌ ف 25) .

النَّظَرُ فِي قَضَايَا الْمُسْتَأْمِنِينَ
48 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَوْ تَرَافَعَ إِلَيْنَا مُسْلِمٌ وَمُسْتَأْمِنٌ بِرِضَاهُمَا، أَوْ رِضَا أَحَدِهِمَا فِي نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا بِشَرْعِنَا، طَالِبًا كَانَ الْمُسْلِمُ أَوْ مَطْلُوبًا، وَاسْتَدَل

(37/184)


لِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِقَوْلِهِمْ: لأَِنَّهُ يَجِبُ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ لاَ يُمْكِنُ رَفْعُهُ إِلَى حَاكِمِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَلاَ يُمْكِنُ تَرْكُهُمَا مُتَنَازِعَيْنِ، فَرَدَدْنَا مَنْ مَعَ الْمُسْلِمِ إِلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ الإِْجَابَةِ إِلَيْهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ طَرَفَا الدَّعْوَى غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَحَاكَمَ إِلَيْنَا مُسْتَأْمِنَانِ، أَوِ اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ خُيِّرَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَتَرْكِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} .
وَقَال مَالِكٌ: وَتَرْكُ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنْ تَتَّفِقَ مِلَّتَاهُمَا كَنَصْرَانِيَّيْنِ مَثَلاً، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اتِّفَاقُهُمَا، فَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا، لَمْ يُحْكَمْ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا حُكْمَنَا، وَرُوِيَ التَّخْيِيرُ عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ.
وَإِذَا حَكَمَ فَلاَ يَحْكُمُ إِلاَّ بِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} .
وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا لَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَّبِعَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِهِمْ وَلاَ يَدْعُوهُمْ إِلَى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 195، وكشاف القناع 3 / 140، وتفسير القرطبي 6 / 184، 185، والمدونة الكبرى 4 / 400، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 528، والمبسوط 10 / 93.

(37/184)


حُكْمِنَا (1) ، لِظَاهِرِ الآْيَةِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ} .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَرَافُعُ الْخَصْمَيْنِ، وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ.
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ وَالأُْخْتَيْنِ: يُشْتَرَطُ مَجِيئُهُمْ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ، لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ وَهُوَ مَجِيئُهُمْ، فَلاَ يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يُشْتَرَطُ تَرَافُعُ الْخَصْمَيْنِ، بَل يَكْفِي لِوُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا أَنْ يَرْفَعَ أَحَدُهُمَا الدَّعْوَى إِلَى الْقَاضِي الْمُسْلِمِ، لأَِنَّهُ لَمَّا رَفَعَ أَحَدُهُمَا الدَّعْوَى، فَقَدْ رَضِيَ بِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ، فَيَلْزَمُ إِجْرَاءُ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ فِي حَقِّهِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى الآْخَرِ كَمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُشْتَرَطُ التَّرَافُعُ فِي الأَْنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ أَصْلاً، وَيُفَرِّقُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ تَرَافَعَا أَوْ لَمْ يَتَرَافَعَا، أَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} ، وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ الأَْمْرَ مُطْلَقٌ عَنْ شَرْطِ الْمُرَافَعَةِ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) بدائع الصنائع 2 / 311، 312، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 528، ومغني المحتاج 3 / 195.

(37/185)


شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْتَأْمِنِ وَعَكْسُهُ
49 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جِوَازِ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ الْمُسْتَأْمِنُ وَغَيْرُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إِلاَّ أُمَّتِي تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ (1) ، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْمُؤْمِنَيْنِ شَهَادَةً عَلَى النَّاسِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، وَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى.
كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جِوَازِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ (2) .
وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحُ (شَهَادَةٌ ف 20) .

شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَال الْجُمْهُورُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ (3) .
__________
(1) حديث: " لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا أمتي. . . ". أخرجه البيهقي (10 / 163) وذكر في إسناده راويًا ضعيفًا.
(2) بدائع الصنائع 6 / 280، 281، والمبسوط 16 / 133، وحاشية الدسوقي 4 / 171.
(3) الخرشي 7 / 176، ومغني المحتاج 4 / 427، والمغني 9 / 184، 185، كشاف القناع 6 / 417.

(37/185)


وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى الْجَوَازِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:

أ - شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
51 - الأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَأْمِنِ مَعَ الذِّمِّيِّ فِي الشَّهَادَةِ كَحُكْمِ الذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ فَتُقْبَل شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمِنِ، لأَِنَّ الذِّمِّيَّ أَعْلَى حَالاً مِنَ الْمُسْتَأْمِنِ، لأَِنَّهُ قَبِل خَلَفَ الإِْسْلاَمِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الإِْسْلاَمِ مِنْهُ، وَلأَِنَّ الذِّمِّيَّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ كَالْمُسْلِمِ فِي قَبُول شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُسْتَأْمِنِ (1) .

ب - شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمِنِ عَلَى الذِّمِّيِّ
52 - بِنَاءً عَلَى الأَْصْل الْمَذْكُورِ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمِنِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَلأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْل دَارِنَا بِخِلاَفِ الْمُسْتَأْمِنِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ حَقِيقَةً، وَإِنَّهُ فِيهَا صُورَةً، فَكَانَ الذِّمِّيُّ أَعَلَى حَالاً مِنَ الْمُسْتَأْمِنِ (2) .

ج - شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمِنِ عَلَى مُسْتَأْمِنٍ آخَرَ
53 - تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 517، وفتح القدير 6 / 43، 44 ط. بولاق.
(2) بدائع الصنائع 6 / 281، والفتاوى الهندية 3 / 517، وفتح القدير 6 / 43، 44.

(37/186)


بَعْضٍ إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْل دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلاَ تُقْبَل (1) .

إِسْلاَمُ الْمُسْتَأْمِنِ فِي دَارِنَا
54 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ، وَلَهُ امْرَأَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَوْلاَدٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، وَمَالٌ أَوْدَعَ بَعْضَهُ ذِمِّيًّا، وَبَعْضَهُ مُسْلِمًا وَبَعْضَهُ حَرْبِيًّا، فَأَسْلَمَ فِي دَارِنَا، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ فَيْءٌ.
أَمَا الْمَرْأَةُ وَالأَْوْلاَدُ الْكِبَارُ فَلِكَوْنِهِمْ حَرْبِيِّينَ كِبَارًا، وَلَيْسُوا بِأَتْبَاعٍ لِلَّذِي خَرَجَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ لَوْ كَانَتْ حَامِلاً لأَِنَّهُ جُزْؤُهَا.
وَأَمَّا الأَْوْلاَدُ الصِّغَارُ، فَلأَِنَّ الصَّغِيرَ إِنَّمَا يَصِيرُ مُسْلِمًا تَبَعًا لإِِسْلاَمِ أَبِيهِ إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَتَحْتَ وِلاَيَتِهِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَأَمَّا أَمْوَالُهُ فَلأَِنَّهَا لاَ تَصِيرُ مُحْرَزَةً لإِِحْرَازِ نَفْسِهِ بِالإِْسْلاَمِ لاِخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ، فَيَبْقَى الْكُل فَيْئًا وَغَنِيمَةً (2) .
وَأَمَّا لَوْ دَخَل مَعَ امْرَأَتِهِ وَمَعَهُمَا أَوْلاَدٌ صِغَارٌ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا، فَالصِّغَارُ تَبَعٌ لَهُ، بِخِلاَفِ الْكِبَارِ وَلَوْ إِنَاثًا، لاِنْتِهَاءِ التَّبَعِيَّةِ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 281، والفتاوى الهندية 3 / 517.
(2) فتح القدير 4 / 354، 355.

(37/186)


وَلَوْ أَسَلَّمَ وَلَهُ أَوْلاَدٌ صِغَارٌ فِي دَارِهِمْ لَمْ يَتْبَعُوهُ إِلاَّ إِذَا خَرَجُوا إِلَى دَارِنَا قَبْل مَوْتِ أَبِيهِمْ (1) .

مَوْتُ الْمُسْتَأْمِنِ فِي دَارِنَا
55 - لَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْمِنُ فِي دَارِنَا وَلَهُ وَرَثَةٌ فِي بِلاَدِهِ، وَمَالٌ فِي دَارِنَا، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرِكَتِهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الإِْمَامِ إِرْسَال مَال الْمُسْتَأْمِنِ الْمُتَوَفَّى إِلَى وَرَثَتِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، بَل يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ إِذَا جَاءُوا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُمْ وَرَثَتُهُ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الأَْمَانِ بَاقٍ فِي مَالِهِ، فَيُرَدُّ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، قَالُوا: وَتُقْبَل بَيِّنَةُ أَهْل الذِّمَّةِ هُنَا اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّ أَنْسَابَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ، فَصَارَ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال، وَلاَ يُقْبَل كِتَابُ مَلِكِهِمْ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كِتَابُهُ، لأَِنَّ شَهَادَتَهُ وَحْدَهُ لاَ تُقْبَل، فَكِتَابَتُهُ بِالأَْوْلَى (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا قَال الدَّرْدِيرُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ الْمُؤْمِنُ عِنْدَنَا فَمَالُهُ لِوَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثُهُ عِنْدَنَا - دَخَل عَلَى التَّجْهِيزِ أَمْ لاَ - وَإِلاَّ يَكُنْ مَعَهُ وَارِثُهُ أَرْسَل الْمَال لِوَارِثِهِ بِأَرْضِهِمْ إِنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 249.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 250، وفتح القدير 4 / 353، والمبسوط 10 / 91.

(37/187)


دَخَل عِنْدَنَا عَلَى التَّجْهِيزِ لِقَضَاءِ مَصَالِحِهِ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لاَ عَلَى الإِْقَامَةِ عِنْدَنَا، وَلَمْ تَطُل إِقَامَتُهُ عِنْدَنَا، وَإِلاَّ بِأَنْ دَخَل عَلَى الإِْقَامَةِ أَوْ عَلَى التَّجْهِيزِ، وَلَكِنْ طَالَتْ إِقَامَتُهُ عِنْدَنَا فَفَيْءٌ مَحَلُّهُ بَيْتُ مَال الْمُسْلِمِينَ.
قَال الصَّاوِيُّ: أَشَارَ الْمُصَنِّفُ، (الدَّرْدِيرُ) إِلَى الْحَالَةِ الأُْولَى بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مَاتَ عِنْدَنَا فَمَالُهُ لِوَارِثِهِ. . إِلَخْ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ الأَْحْوَال الأَْرْبَعَةَ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهَا فَنَقُول: أَمَا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا مَاتَ فِي بَلَدِهِ وَكَانَ لَهُ عِنْدَنَا نَحْوُ وَدِيعَةٍ، فَإِنَّهَا تُرْسَل لِوَارِثِهِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَسْرُهُ وَقَتْلُهُ، فَمَالُهُ لِمَنْ أَسَرَهُ وَقَتَلَهُ حَيْثُ حَارَبَ فَأَسَرَهُ ثُمَّ قُتِل، وَأَمَّا الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَا إِذَا قُتِل فِي مَعْرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَسْرٍ، فِي مَالِهِ قَوْلاَنِ، قِيل: يُرْسَل لِوَارِثِهِ، وَقِيل: فَيْءٌ، وَمَحَلُّهُمَا إِذَا دَخَل عَلَى التَّجْهِيزِ (1) ، أَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ ذَلِكَ وَلَمْ تَطُل إِقَامَتُهُ، فَإِنْ طَالَتْ إِقَامَتُهُ وَقُتِل فِي مَعْرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مَالُهُ وَلَوْ وَدِيعَةً فَيْئًا قَوْلاً وَاحِدًا (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْمِنُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِرَدِّ الْمَال إِلَى وَارِثِهِ، لأَِنَّهُ مَاتَ، وَالأَْمَانُ بَاقٍ فِي نَفْسِهِ فَكَذَا فِي مَالِهِ،
__________
(1) أي ليتجهز ويرجع، فإن كان تاجرًا باع ما جاب واشترى ما يخرج به فيكون على نية الإقامة المؤقتة.
(2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 290.

(37/187)


وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَكُونُ فَيْئًا.
قَالُوا: وَفِي حُكْمِهِ لَوْ خَرَجَ الْمُسْتَأْمِنُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ، بَل لِرِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ وَمَاتَ هُنَاكَ، فَهُوَ كَمَوْتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُبْعَثُ مَال الْمُسْتَأْمِنِ إِلَى مَلِكِهِمْ، يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ فِيمَنْ دَخَل إِلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَقُتِل أَنَّهُ يُبْعَثُ بِدِيَتِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْوَرَثَةِ (2) .

أَخْذُ الْعُشْرِ مِنَ الْمُسْتَأْمِنِ
56 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَأْمِنَ إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ بِتِجَارَةٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُ تِجَارَتِهِ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَل عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي شُرُوطِ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنَ الْمُسْتَأْمِنِ مِنَ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل وَالذُّكُورَةِ.
كَمَا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي تِجَارَتِهِ وَالْمُدَّةِ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرَ، وَوَقْتِ اسْتِيفَائِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عُشْرٌ ف 11، 15 16، 17، 26، 29، 30) .

مَا يُرْضَخُ لِلْمُسْتَأْمِنِ مِنْ مَال الْغَنِيمَةِ
57 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 290.
(2) المغني 6 / 297.

(37/188)


الْمُسْتَأْمِنُ الْقِتَال بِإِذْنِ الإِْمَامِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْل الذِّمَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّضْخِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُرْضَخُ لِلْمُسْتَأْمِنِ كَمَا لاَ يُسْهَمُ لِلذِّمِّيِّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غَنِيمَةٌ ف 3) .

مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْتَأْمِنُ مِنَ الْكَنْزِ وَالْمَعْدِنِ
58 - إِذَا وَجَدَ الْمُسْتَأْمِنُ فِي دَارِنَا كَنْزًا أَوْ مَعْدِنًا فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّهُ، لأَِنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ، وَلاَ حَقَّ لأَِهْل الْحَرْبِ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ رَضْخًا وَلاَ سَهْمًا.
وَإِنْ عَمِل فِي الْمَعْدِنِ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، أَخَذَ مِنْهُ الْخُمُسَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ، لأَِنَّ الإِْمَامَ شَرَطَ لَهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا شَرَطَ، كَمَا لَوِ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي قِتَال أَهْل الْحَرْبِ فَرَضَخَ لَهُمْ، فَهَذَا مِثْلُهُ (1) .

تَحَوُّل الْمُسْتَأْمِنِ إِلَى ذِمِّيٍّ
59 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَأْمِنَ يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِأَنْ يَمْكُثَ الْمُدَّةَ الْمَضْرُوبَةَ لَهُ، أَوْ بِأَنْ يَشْتَرِيَ أَرْضَ خَرَاجٍ وَوُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، أَوْ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةُ الْمُسْتَأْمِنَةُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، لأَِنَّهَا الْتَزَمَتِ الْبَقَاءَ تَبَعًا لِلزَّوْجِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 12 - 15) .
__________
(1) المبسوط 2 / 215، 216.

(37/188)


اسْتِئْمَانُ الْمُسْلِمِ
60 - إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ الْكُفَّارِ بِأَمَانٍ صَارَ مُسْتَأْمَنًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِئْمَانِهِ أَحْكَامٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - حُرْمَةُ خِيَانَةِ الْكُفَّارِ وَالْغَدْرِ بِهِمْ
61 - نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي دَخَل دَارَ الْكُفَّارِ بِأَمَانٍ خِيَانَتُهُمْ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) ، وَلأَِنَّهُ بِالاِسْتِئْمَانِ ضَمِنَ لَهُمْ أَنْ لاَ يَتَعَرَّضَ بِهِمْ، وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ الأَْمَانَ بِشَرْطِ عَدَمِ خِيَانَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، وَلاَ يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ حَالَةَ مَا إِذَا غَدَرَ بِالْمُسْلِمِ مَلِكُهُمْ، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ أَوْ حَبَسَهُ، أَوْ فَعَل غَيْرُ الْمَلِكِ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ، لأَِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ (3) .
فَإِنْ خَانَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ الْكُفَّارَ، أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ، أَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه الترمذي (3 / 626) من حديث عمرو بن عوف وقال: حديث حسن صحيح.
(2) فتح القدير 4 / 347، 348، وحاشية ابن عابدين 3 / 247، والاختيار 4 / 135، وروضة الطالبين 10 / 291، وكشاف القناع 3 / 108، والمغني 8 / 458.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 247.

(37/189)


وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ أَوْ إِيمَانٍ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ فَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ، كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَال مُسْلِمٍ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ إِذَا دَخَل بِأَمَانٍ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَخْرَجَ إِلَيْنَا شَيْئًا مَلَكَهُ مِلْكًا حَرَامًا، لأَِنَّهُ مَلَكَهُ بِالْغَدْرِ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وُجُوبًا، وَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ (2) .

ب - مُعَامَلاَتُ الْمُسْتَأْمَنِ الْمُسْلِمِ الْمَالِيَّةِ
62 - نَصَّ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَدَانَ حَرْبِيٌّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ دَيْنًا بِبَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، أَوْ أَدَانَ هُوَ حَرْبِيًّا، أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مَالاً، ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ إِلَيْنَا وَاسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ فَخَرَجَ إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا، لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءِ.
أَمَا الإِْدَانَةُ: فَلأَِنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ الْوِلاَيَةَ، وَلاَ وِلاَيَةَ وَقْتَ الإِْدَانَةِ أَصْلاً عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ لاَ قُدْرَةَ لِلْقَاضِي فِيهِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلاَ وَقْتَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ، لأَِنَّهُ مَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ فِيمَا مَضَى مِنْ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 291، وكشاف القناع 3 / 108، والمغني 8 / 458.
(2) ابن عابدين 3 / 247.

(37/189)


أَفْعَالِهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَل.
وَأَمَّا أَنَّهُ لاَ يَقْضِي بِالْغَصْبِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَلأَِنَّ الْمَال الْمَغْصُوبَ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي غَصَبَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مُسْلِمًا مُسْتَأْمَنًا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ، لِمُصَادَفَتِهِ مَالاً مُبَاحًا غَيْرَ مَعْصُومٍ، فَصَارَ كَالإِْدَانَةِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ يَقْضِي بِالدِّينِ عَلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْغَصْبِ لأَِنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ حَيْثُ كَانَ (1) .
قَال الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الزَّيْلَعِيِّ، وَالْكَمَال ابْنِ الْهُمَامِ: وَيُفْتَى بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالدَّيْنِ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً، لأَِنَّهُ غَدْرٌ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجِبُ رَدُّ مَا أَخَذَ إِلَى أَرْبَابِهِ (3) .

ج - قِتَال الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ
63 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَغَارَ قَوْمٌ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى أَهْل الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ، لاَ يَحِل لَهُ قِتَال هَؤُلاَءِ الْكُفَّارِ إِلاَّ إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، لأَِنَّ الْقِتَال لَمَّا كَانَ تَعْرِيضًا لِنَفْسِهِ عَلَى الْهَلاَكِ لاَ يَحِل إِلاَّ لِذَلِكَ، أَوْ لإِِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ إِذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 247، 248، وفتح القدير 4 / 349، والاختيار 4 / 135.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 248.
(3) روضة الطالبين 10 / 291، وكشاف القناع 3 / 108، والمغني 8 / 458.

(37/190)


لَيْسَ قِتَالُهُ لِهَؤُلاَءِ إِلاَّ إِعْلاَءً لِلْكُفْرِ.
وَلَوْ أَغَارَ أَهْل الْحَرْبِ الَّذِينَ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ مُسْتَأْمَنُونَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسَرُوا ذَرَارِيَّهُمْ، فَمَرُّوا بِهِمْ عَلَى أُولَئِكَ الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْقُضُوا عُهُودَهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ إِذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ رِقَابَهُمْ فَتَقْرِيرُهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ تَقْرِيرٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَلَمْ يَضْمَنِ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْتَأْمَنُونَ ذَلِك لَهُمْ، بِخِلاَفِ الأَْمْوَال، لأَِنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالإِْحْرَازِ وَقَدْ ضَمِنُوا لَهُمْ أَنْ لاَ يَتَعَرَّضُوا لأَِمْوَالِهِمْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ ذَرَارِيَّ الْخَوَارِجِ، لأَِنَّهُمْ مُسْلِمُونَ (1) .

د - قَتَل الْمُسْتَأْمَنُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا آخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ
64 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَقَتَل أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَعَلَى الْقَاتِل الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، أَمَا الْقِصَاصُ فَيَسْقُطُ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلاَّ بِمَنْعٍ، وَلاَ مَنَعَةَ دُونَ الإِْمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَأَمَّا وُجُوبُهَا فِي مَالِهِ فَلأَِنَّ الْعَوَاقِل لاَ تَعْقِل الْعَمْدَ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 348، وبدائع الصنائع 7 / 133.

(37/190)


وَفِي الْقَتْل الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَالْكَفَّارَةُ، أَمَا الدِّيَةُ فَلأَِنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالإِْحْرَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ لاَ تَبْطُل بِعَارِضِ الدُّخُول إِلَى دَارِ الْحَرْبِ بِالأَْمَانِ، وَأَمَّا فِي مَالِهِ فَلِتَعَذُّرِ الصِّيَانَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} بِلاَ تَقْيِيدٍ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ أَوِ الْحَرْبِ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَتَل بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ قَذَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ زَنَوْا بِغَيْرِ حَرْبِيَّةٍ، فَعَلَيْهِمْ فِي هَذَا كُلِّهِ الْحُكْمُ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ لَوْ فَعَلُوهُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُمْ فَرْضًا كَمَا لاَ تُسْقِطُ عَنْهُمْ صَوْمًا وَلاَ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً، وَالْحُدُودُ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هَذِهِ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ حَدُّ الزِّنَا لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ إِذَا ادَّعَى الشُّبْهَةَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 248، وفتح القدير 4 / 350.
(2) الأم 4 / 287، 288.

(37/191)


مُسْتَحَاضَةٌ

انْظُرْ: اسْتِحَاضَةٌ

مُسْتَحَبٌّ

انْظُرِ: اسْتِحْبَابٌ

مُسْتَحَقٌّ

انْظُرِ: اسْتِحْقَاقٌ

(37/191)


مُسْتَحْلَفٌ

انْظُرِ: إِثْبَاتٌ

مُسْتَحِيلٌ

انْظُرِ: اسْتِحَالَةٌ

مُسْتَعَارٌ

انْظُرْ: إِعَارَةٌ

(37/192)


مُسْتَعِيرٌ

انْظُرْ: إِعَارَةٌ

مُسْتَفْتِي

انْظُرْ: فَتَوَى

مُسْتَمِعٌ

انْظُرِ: اسْتِمَاعٌ

(37/192)


مُسْتَهِلٌّ

انْظُرِ: اسْتِهْلاَلٌ

مُسْتَوْدِعٌ

انْظُرْ: وَدِيعَةٌ

مَسْتُورٌ

انْظُرْ: سَتَرَ

(37/193)


مُسْتَوْلَدَةٌ

انْظُرِ: اسْتِيلاَدٌ

(37/193)