الموسوعة
الفقهية الكويتية مُكَاتَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُكَاتَبَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ كَاتَبَ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ،
وَالأَْصْل فِي بَابِ الْمُفَاعَلَةِ أَنْ يَكُونَ مِنِ اثْنَيْنِ
فَصَاعِدًا.
يُقَال: كَاتَبَ يُكَاتِبُ كِتَابًا وَمُكَاتَبَةً، وَهِيَ مُعَاقَدَةٌ
بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، يُكَاتِبُ الرَّجُل عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ
عَلَى مَالٍ مُنَجَّمٍ، وَيَكْتُبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعْتَقٌ
إِذَا أَدَّى النُّجُومَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْمُكَاتَبَةُ تَعْلِيقُ عِتْقٍ بِصِفَةٍ عَلَى
مُعَاوَضَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِتْقُ:
2 - الْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الرِّقِّ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ
__________
(1) المصباح المنير، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 / 244.
(2) فتح الباري 5 / 184.
(38/360)
وَتَخْلِيصُهَا مِنَ الرِّقِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ
الْعِتْقِ.
أَصْل الْمُكَاتَبَةِ وَمَشْرُوعِيَّتُهَا
أَصْلُهَا:
3 - كَانَتِ الْمُكَاتَبَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَقَرَّهَا
الإِْسْلاَمُ.
وَأَوَّل مَنْ كُوتِبَ فِي الإِْسْلاَمِ أَبُو الْمُؤَمَّل، وَقَدْ حَثَّ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِعَانَتِهِ فِي
نُجُومِ الْكِتَابَةِ، فَقَال: أَعِينُوا أَبَا الْمُؤَمَّل، فَأُعِينَ،
فَقَضَى كِتَابَتَهُ، وَفَضَلَتْ عِنْدَهُ فَضْلَةٌ، فَقَال لَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْفِقْهَا فِي سَبِيل اللَّهِ (2) ، وَقِيل
غَيْرُ ذَلِكَ (3) .
وَالأَْصْل فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ
مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا} . (4)
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط: - ط الدار العربية للكتاب، تونس، والدر المختار
3 / 2 - 3 ط. الأميرية، بولاق مصر 1324 هـ.
(2) حديث: " حث الرسول على إعانة أبي المؤمل. . ". أورده ابن حجر في
الإصابة (7 / 392 - 393) نقلاً عن شارح البخاري ابن التين، ولم يعزه إلى أي
مصدر حديثي، ولم نهتد لمن أخرجه.
(3) فتح الباري لابن حجر 5 / 184، والزرقاني على الموطأ 4 / 109.
(4) سورة النور / 33.
(38/360)
وَمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
إِذَا كَانَ لإِِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، فَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي
فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ.
(1) وَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى
اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ
الَّذِي يُرِيدُ الأَْدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ. (2)
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُكَاتَبَةِ (3) فَلاَ
خِلاَفَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، إِذَا كَانَتْ
عَلَى شُرُوطِهَا (4) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الْمُكَاتَبَةُ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) .
قَال مَالِكٌ: الأَْمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ
أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ، فَلاَ يُكْرَهُ أَحَدٌ عَلَى
مُكَاتَبَةِ عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ (6) .
وَاسْتُحِبَّتْ لأَِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَقْصِدُ بِهَا الاِسْتِقْلاَل
وَالاِكْتِسَابَ وَالتَّزَوُّجَ، فَيَكُونُ أَعَفَّ لَهُ (7) .
__________
(1) حديث: " إذا كان لإحداكن مكاتب. . ". أخرجه أبو داود (30 / 244 - 245)
والبيهقي (10 / 327) ونقل البيهقي عن الشافعي أنه ضعف هذا الحديث.
(2) حديث: " ثلاثة حق على الله عونهم. . . . ". أخرجه الترمذي (3 / 184)
وقال: حديث حسن.
(3) الشرح الكبير لابن قدامة 6 / 397 - 398 ط. . كلية الشريعة الرياض.
(4) المقدمات الممهدات 2 / 162.
(5) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 310 ط. المكتبة الجديدة مصر، ومغني المحتاج
4 / 516.
(6) الزرقاني على الموطأ 4 / 102 - 103.
(7) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 / 244.
(38/361)
وَذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَمَسْرُوقٌ
وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ إِذَا طَلَبَهَا
الْعَبْدُ، مُحْتَجِّينَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (1) ، فَالأَْمْرُ عِنْدَهُمْ
لِلْوُجُوبِ (2) .
وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِوُجُوبِ
الْكِتَابَةِ إِذَا دَعَا إِلَيْهَا الْعَبْدُ الْمُكْتَسِبُ الصَّدُوقُ
(3) .
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الأَْصْل أَنْ لاَ يُحْمَل أَحَدٌ عَلَى
عِتْقِ مَمْلُوكِهِ، لِذَا تُحْمَل الآْيَةُ عَلَى النَّدْبِ، لِئَلاَّ
تُعَارِضَ هَذَا الأَْصْل (4) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُكَاتَبَةِ
5 - إِنَّ حِكْمَةَ تَشْرِيعِ الْمُكَاتَبَةِ مَصْلَحَةُ السَّيِّدِ
وَالْعَبْدِ (5) ، فَالسَّيِّدُ فَعَل مَعْرُوفًا مِنْ أَعْمَال الْبِرِّ
الْمَنْدُوبَةِ، وَالْعَبْدُ تَئُول كِتَابَتُهُ غَالِبًا إِلَى رَفْعِ
الرِّقِّ عَنْهُ وَتَمَتُّعِهِ بِحُرِّيَّتِهِ (6) .
__________
(1) سورة النور / 33.
(2) بداية المجتهد 2 / 310، والجامع لأحكام القرآن 12 / 245.
(3) المغني لابن قدامة 9 / 411 ط كلية الشريعة، الرياض، وانظر: فتح الباري
5 / 185. والمقدمات الممهدات 2 / 172 - 173، ومغني المحتاج 4 / 516.
(4) بداية المجتهد 2 / 310.
(5) بدائع الصنائع 4 / 159 ط. دار الكتاب العربي.
(6) لباب اللباب لابن راشد القفصي ص 270 ط. تونس.
(38/361)
أَرْكَانُ الْمُكَاتَبَةِ
6 - أَرْكَانُ الْمُكَاتَبَةِ هِيَ: الْمَوْلَى، الْعَبْدُ، الصِّيغَةُ،
الْعِوَضُ (1) .
وَلِكُل رُكْنٍ شُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَتَفْصِيلُهَا
فِيمَا يَلِي:
أ - الْمَوْلَى:
7 - هُوَ كُل مُكَلَّفٍ أَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ تَصِحُّ مِنْهُ
الْمُكَاتَبَةُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً
لِلتَّبَرُّعِ (2) .
ب - الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَبْدِ
الْمُكَاتَبِ الْعَقْل.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ مُكَاتَبَةُ الصَّغِيرِ
الْمُمَيِّزِ (3) ، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
فِي الْجُمْلَةِ، فَقَال: تَجُوزُ مُكَاتَبَةُ صَغِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ سِنِينَ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ (5) ، وَقَال
أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُمْنَعُ مُكَاتَبَةُ ابْنِ عَشْرِ سِنِينَ
(6) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 6 / 345، والجواهر لابن شاس، النظر الأول في كتاب
الكتابة.
(2) التاج والإكليل للمواق 6 / 344.
(3) بدائع الصنائع 4 / 137، والمغني لابن قدامة 9 / 413.
(4) حاشية الدسوقي 4 / 391.
(5) مغني المحتاج 4 / 519.
(6) حاشية الدسوقي 4 / 391.
(38/362)
ج - الصِّيغَةُ:
9 - الصِّيغَةُ هِيَ اللَّفْظُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا يَدُل
عَلَى الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ مُنَجَّمٍ، مِثْل: كَاتَبْتُكَ عَلَى كَذَا
فِي نَجْمٍ أَوْ نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا (1) وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى
قَوْلِهِ: إِنْ أَدَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، لأَِنَّ لَفْظَ الْكِتَابَةِ
يَقْتَضِي الْحُرِّيَّةَ.
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُعْتَقُ حَتَّى يَقُول ذَلِكَ أَوْ يَنْوِيَ
بِالْكِتَابَةِ الْحُرِّيَّةَ (2) .
د - الْعِوَضُ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِوَضَ فِي
الْمُكَاتَبَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً، وَإِنْ
كَانَ مُؤَجَّلاً فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى نَجْمٍ وَاحِدٍ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ
الْعِوَضُ فِي الْكِتَابَةِ دَيْنًا مُؤَجَّلاً وَمُنَجَّمًا بِنَجْمَيْنِ
مَعْلُومَيْنِ فَأَكْثَرَ (4) .
__________
(1) لباب اللباب لابن راشد القفصي ص 271 ط. تونس.
(2) الشرح الكبير لابن قدامة 6 / 401، والقوانين الفقهية لابن جزي 413،
ومغني المحتاج 4 / 516 - 517.
(3) بدائع الصنائع 4 / 137 - 140، والشرح الكبير للدردير 4 / 391.
(4) مغني المحتاج 4 / 518، والمغني 9 / 417 وما بعدها.
(38/362)
وَيُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ الْمُكَاتَبَةِ
مَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِوَضِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عِوَضٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
صِفَةُ الْمُكَاتَبَةِ
11 - الْمُكَاتَبَةُ عَقْدٌ لاَزِمٌ فَلاَ خِيَارَ لأَِحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي فَسْخِهِ إِذَا أَبَى الآْخَرُ، وَهَذَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ هِيَ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنْ
جَانِبِ الْمَوْلَى إِذَا كَانَتِ الْمُكَاتَبَةُ صَحِيحَةً، غَيْرُ
لاَزِمٍ فِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ فَاسِدَةً فَلاَ تَلْزَمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
عِتْقُ الْمُكَاتَبِ بِالأَْدَاءِ
12 - إِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ نُجُومَ الْكِتَابَةِ عُتِقَ، وَيُعَانُ
الْمُكَاتَبُ عَلَى الأَْدَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَمَا
يُعِينُهُ بِهِ سَيِّدُهُ (3) .
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 552، وكشاف القناع 4 / 557.
(2) بدائع الصنائع 4 / 147، ومغني المحتاج 4 / 528 وما بعدها.
(3) بدائع الصنائع 4 / 140، والشرح الصغير 4 / 556، ومغني المحتاج 4 / 521
- 522، وكشاف القناع 4 / 557 وما بعدها.
(38/363)
تَصَرُّفَاتُ الْمُكَاتَبِ
13 - بَعْدَ الْتِزَامِ الْعَبْدِ بِالْمُكَاتَبَةِ يُصْبِحُ كَالْحُرِّ
فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُقَاسِمَ
شُرَكَاءَهُ، وَيُقِرَّ بِالدَّيْنِ لِمَنْ لاَ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ،
وَبِالْحَدِّ وَالْقَطْعِ الرَّاجِعَيْنِ لِرَقَبَتِهِ، وَيُضَارِبَ
وَيُعِيرَ وَيُودِعَ وَيُؤَجِّرَ وَيُقَاصَّ، وَيَتَصَرَّفَ فِي
مَكَاسِبِهِ، وَيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ تَبْذِيرٍ، وَدُونَ
إِخْرَاجِ الْمَال بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ كُل تَصَرُّفٍ فِيهِ صَلاَحُ الْمَال
وَاكْتِسَابُ الْمَنَافِعِ (1) .
وَلاَءُ الْمُكَاتَبِ
14 - إِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ لِمَوْلاَهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَال
وَعَتَقَ، فَإِنَّ وَلاَءَهُ يَكُونُ لِمَوْلاَهُ (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَلاَءٌ) .
مُكَارِي
انْظُرْ: إِجَارَةٌ
__________
(1) التفريع 2 / 17، والكافي لابن عبد البر 2 / 990، والتاج والإكليل 5 /
347، والشرح الكبير للدردير 4 / 396، وحاشية الدسوقي 4 / 397، والبدائع 3 /
143، والشرح الكبير لابن قدامة 6 / 411.
(2) التفريع 2 / 17، والمغني 9 / 423.
(3) حديث: " الولاء لمن أعتق. . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 185) ومسلم (2
/ 1141) من حديث عائشة.
(38/363)
مُكَافَأَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُكَافَأَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ كَافَأَ، يُقَال: كَافَأَهُ
مُكَافَأَةً وَكِفَاءً: جَازَاهُ، وَكَافَأَ فُلاَنًا: مَاثَلَهُ، وَكُل
شَيْءٍ سَاوَى شَيْئًا حَتَّى صَارَ مِثْلَهُ فَهُوَ مُكَافِئٌ لَهُ (1) ،
وَالْمُكَافَأَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ هَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ (2) ،
أَيْ تَتَسَاوَى فِي الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِوَضُ:
2 - الْعِوَضُ: الْبَدَل، وَعَوَّضْتُهُ: إِذَا أَعْطَيْتَهُ بَدَل مَا
ذَهَبَ مِنْهُ، وَمِنْ إِطْلاَقَاتِ الْعِوَضِ: ثَوَابُ الآْخِرَةِ،
وَالثَّوَابُ يَقَعُ عَلَى جِهَةِ الْمُكَافَأَةِ.
__________
(1) اللسان، والمصباح المنير، والفروق اللغوية، والتعريفات للجرجاني، وفتح
الباري شرح صحيح البخاري 5 / 210، ومختار الصحاح.
(2) حديث: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". . أخرجه أبو داود (3 / 183) من حديث
عبد الله بن عمرو، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (12 / 261) .
(3) بداية المجتهد 2 / 433، ومغني المحتاج 4 / 16.
(38/364)
وَالْعِوَضُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا
يُبْذَل فِي مُقَابَلَةِ غَيْرِهِ (1) ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ
الْمُكَافَأَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُكَافَأَةِ:
الْمُكَافَأَةُ عَلَى الْهَدِيَّةِ
3 - ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَل الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ
عَلَيْهَا (2) ، وَمَعْنَى يُثِيبُ عَلَيْهَا أَيْ يُكَافِئُ عَلَيْهَا.
وَقَدْ عَنْوَنَ الْبُخَارِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ: (الْمُكَافَأَةُ فِي
الْهِبَةِ) .
وَاسْتَدَل بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ
الثَّوَابِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ، إِذَا أَطْلَقَ
الْوَاهِبُ وَكَانَ مِمَّنْ يَطْلُبُ مِثْلُهُ الثَّوَابَ كَالْفَقِيرِ
لِلْغَنِيِّ، بِخِلاَفِ مَا يَهَبُهُ الأَْعْلَى لِلأَْدْنَى، وَوَجْهُ
الدَّلاَلَةِ مِنْهُ مُوَاظَبَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3)
.
وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي أَهْدَى قَصَدَ أَنْ يُعْطِيَ
أَكْثَرَ مِمَّا أُهْدِيَ، فَلاَ أَقَل أَنْ يُعَوَّضَ بِنَظِيرِ
هَدِيَّتِهِ.
__________
(1) اللسان، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والفروق اللغوية ص 196،
والمطلع على أبواب المقنع ص 216.
(2) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب
عليها ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 210) .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 5 / 210، والمنتقى للباجي 6 / 111 - 112،
وبداية المجتهد 2 / 361 ط. مكتبة الكليات الأزهرية.
(38/364)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ جَازَتْ
وَكَانَتْ بَيْعًا، أَوْ مَجْهُولٍ فَهِيَ بَاطِلَةٌ (1) عَلَى تَفْصِيلٍ
فِي بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (هِبَةٌ وَهَدِيَّةٌ)
.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى الْمُكَافَأَةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ قَوْل الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا
فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ
حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ. (2)
الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل
4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْل الْمُكَافَأَةَ بَيْنَ
الْقَاتِل وَالْقَتِيل فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلاَ يُقْتَل
الأَْعْلَى بِالأَْدْنَى، وَلَكِنْ يُقْتَل الأَْدْنَى بِالأَْعْلَى،
وَبِالْمُسَاوِي (3) .
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْقَتِيل (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 404، والمحلي على المنهاج 3 / 114، وابن عابدين 4 /
519، وكشاف القناع 4 / 300، وفتح الباري 5 / 210.
(2) حديث: " من صنع إليكم معروفًا. . " أخرجه أبو داود (2 / 310) والحاكم
(1 / 412) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 241، ومغني المحتاج 4 / 14، والمغني لابن قدامة 7 /
663.
(4) بدائع الصنائع 7 / 236، والدر المختار 5 / 43، 3 / 344.
(38/365)
إِلاَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ
اخْتَلَفُوا فِي الأَْوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ ف 13) .
الْمُكَافَأَةُ فِي النِّكَاحِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُكَافَأَةِ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَهِيَ مُسَاوَاةُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ فِي
الأُْمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي النِّكَاحِ.
وَتُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ فِي جَانِبِ الرِّجَال لِلنِّسَاءِ وَلاَ
تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَال.
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَال: إِنَّ
الْمُكَافَأَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُكَافَأَةِ
بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ (2) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَكَافُؤٌ ف 3) .
الْمُكَافَأَةُ بِالطَّلاَقِ
6 - قَال النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي مَسَائِل تَجْرِي
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 317، وتبيين الحقائق 2 / 182، ورد المحتار على الدر
المختار 2 / 310، وجواهر الإكليل 1 / 288، والقليوبي وعميرة 3 / 233، ومغني
المحتاج 3 / 165، ونهاية المحتاج 6 / 253.
(2) بدائع الصنائع 2 / 317.
(38/365)
فِي مُخَاصَمَةِ الزَّوْجَيْنِ
وَمُشَاتَمَتِهِمَا، وَأَغْلَبُ مَا تَقَعُ إِذَا وَاجَهَتْ زَوْجَهَا
بِمَكْرُوهٍ، فَيَقُول عَلَى سَبِيل الْمُكَافَأَةِ: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ
فَأَنْتِ طَالِقٌ، يُرِيدُ أَنْ يَغِيظَهَا بِالطَّلاَقِ كَمَا غَاظَتْهُ
بِالْمُشَاتَمَةِ أَوْ بِالشَّتْمِ، فَكَأَنَّهُ يَقُول: تَزْعُمِينَ
أَنِّي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا قَالَتْ لَهُ: يَا سَفِيهٌ فَقَال:
إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، نُظِرَ إِنْ أَرَادَ
الْمُكَافَأَةَ كَمَا ذَكَرْنَا طَلُقَتْ، وَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ لَمْ
تَطْلُقْ، وَإِنْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ وَلَمْ يَقْصِدِ الْمُكَافَأَةَ وَلاَ
حَقِيقَةَ اللَّفْظِ فَهُوَ لِلتَّعْلِيقِ، فَإِنْ عَمَّ الْعُرْفُ
بِالْمُكَافَأَةِ فَيُرَاعِي الْوَضْعَ أَوِ الْعُرْفَ.
وَأَنَّهُ لَوْ قَال لَهَا فِي الْخُصُومَةِ: إِيشِ تَكُونِينَ أَنْتِ،
فَقَالَتْ وَإِيشِ تَكُونُ أَنْتَ، فَقَال: إِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْكِ
بِسَبِيل فَأَنْتِ طَالِقٌ. قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ قَصَدَ
التَّعْلِيقَ لَمْ تَطْلُقْ لأَِنَّهَا زَوْجَتُهُ فَهُوَ مِنْهَا
بِسَبِيل، وَإِنْ قَصَدَ الْمُغَايَظَةَ وَالْمُكَافَأَةَ طَلُقَتْ،
وَالْمَقْصُودُ إِيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَقَطْعُ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا
حُمِل عَلَى الْمُكَافَأَةِ فَيَقَعُ الطَّلاَقُ فِي الْحَال (1) .
مُكَافَأَةُ الْعَامِل
7 - قَال الدُّسُوقِيُّ: يُرَخَّصُ لِعَامِل الْقِرَاضِ أَنْ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 185، 186.
(38/366)
يَأْتِيَ بِطَعَامٍ كَغَيْرِهِ، أَيْ كَمَا
يَأْتِي غَيْرُهُ بِطَعَامٍ يَشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِهِ، إِنْ لَمْ
يَقْصِدِ التَّفَضُّل عَلَى غَيْرِهِ بِأَنْ لاَ يَزِيدَ عَلَى غَيْرِهِ
زِيَادَةً لَهَا بَالٌ، وَإِلاَّ بِأَنْ قَصَدَ التَّفَضُّل
فَلْيَتَحَلَّلْهُ، أَيْ يَتَحَلَّل رَبَّ الْمَال، بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ
الْمُسَامَحَةَ، فَإِنْ أَبَى مِنْ مُسَامَحَتِهِ فَلْيُكَافِئْهُ، أَيْ
يُعَوِّضْهُ بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهُ أَيْ فِيمَا زَادَهُ مِنَ الطَّعَامِ
عَلَى غَيْرِهِ (1) .
الْمُكَافَأَةُ فِي الْمُبَارَزَةِ
8 - أَوْضَحَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْجِهَادِ حُكْمَ الْمُبَارَزَةِ
وَأَنَّ الْمُكَافَأَةَ فِي الْمُبَارَزَةِ هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ
بِالْجَوَازِ أَوِ الاِسْتِحْبَابِ أَوِ الْكَرَاهَةِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَكَافُؤٌ ف 5) .
الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْخَيْل فِي السَّبْقِ
9 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ
يَكُونَ فَرَسُ الْمُحَلَّل مُكَافِئًا لِفَرَسَيِ الْمُتَسَابِقَيْنِ أَوْ
بَعِيرُهُ مُكَافِئًا لِبَعِيرِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا:
مِثْل أَنْ يَكُونَ فَرَسَاهُمَا جَوَادَيْنِ وَفَرَسُهُ بَطِيئًا فَهُوَ
قِمَارٌ (2) ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَدْخَل فَرَسًا
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 539.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 258، وشرح الزرقاني 3 / 152، ومغني
المحتاج 4 / 314، والمغني لابن قدامة 8 / 651 - 652، ونيل الأوطار 8 / 241
- 248.
(38/366)
بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَهُوَ لاَ يُؤْمَنُ
أَنْ يَسْبِقَ - فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ
فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ (1) ، وَلأَِنَّهُ
مَأْمُونٌ سَبْقُهُ فَوُجُودُهُ كَعَدِمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا
لَهُمَا جَازَ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَكَافُؤٌ ف 6) .
__________
(1) حديث: " من أدخل فرسًا بين فرسين. . ". أخرجه أبو داود (3 / 66 - 67)
من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف كما في التلخيص لابن حجر (4 / 203) .
(38/367)
مَكَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَكَانُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْضِعُ، وَمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ
كَالأَْرْضِ لِلسَّرِيرِ، وَالْجَمْعُ أَمْكِنَةٌ، وَأَمَاكِنُ جَمْعُ
الْجَمْعِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَكَانِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مِنْهَا:
الأَْمَاكِنُ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلاَةِ فِيهَا
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَجْزَرَةِ
وَالْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَنَحْوِهَا، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ
إِنَّ الصَّلاَةَ تَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِي الْحَمَّامِ
وَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَمَعَاطِنِ الإِْبِل وَقَارِعَةِ
الطَّرِيقِ وَالْمَقْبَرَةِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمُغْتَسَل
وَالْكَنَائِسِ وَالْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، وَبِهِ قَال عَلِيٌّ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ
__________
(1) لسان العرب، والمفردات للراغب، ودستور العلماء 3 / 319، وكشاف اصطلاحات
الفنون 5 / 1278، 6 / 1352.
(38/367)
وَابْنُ الْمُنْذِرِ لِقَوْل الرَّسُول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا. (1)
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ
الصَّلاَةُ فَصَل فَهُوَ مَسْجِدٌ (2) ، وَلأَِنَّهُ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ
فَصَحَّتِ الصَّلاَةُ فِيهِ كَالصَّحْرَاءِ، وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ:
ذَكَرَ نَافِعٌ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَسَطَ
قُبُورِ الْبَقِيعِ،
وَمَحَل كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِي هَذِهِ الأَْمَاكِنِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ إِنْ بَسَطَ طَاهِرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ وَإِلاَّ
فَصَلاَتُهُ بَاطِلَةٌ لأَِنَّهُ صَلَّى عَلَى نَجَاسَةٍ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِي مَرْبِضِ الْغَنَمِ
وَالْبَقَرِ وَكَذَا فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَالْمَزْبَلَةِ
وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَجْزَرَةِ إِنْ أُمِنَتِ النَّجَاسَةُ وَإِنْ
لَمْ تُؤْمَنِ النَّجَاسَةُ وَصَلَّى أَعَادَ الصَّلاَةَ فِي الْوَقْتِ،
وَإِنْ تَحَقَّقَتِ النَّجَاسَةُ أَعَادَ الصَّلاَةَ أَبَدًا.
وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ بِمَعَاطِنِ الإِْبِل وَبِالْكَنَائِسِ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِنَّ الصَّلاَةَ فِي هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ لاَ تَصِحُّ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الأَْحْوَال
__________
(1) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1
/ 436) ومسلم (1 / 371) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 6 / 458) ومسلم (1 / 370) من حديث أبي ذر، واللفظ لمسلم.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 254، والفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 /
162، ومغني المحتاج 1 / 201، والحاوي الكبير 2 / 337 - 338، والمغني 2 / 67
- 68.
(4) الشرح الصغير 1 / 267 - 268.
(38/368)
لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الإِْبِل؟ قَال: لاَ. (1)
وَلِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَْرْضُ
كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ. (2)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَالِمًا
بِالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ فِيهَا،
لأَِنَّهُ عَاصٍ بِصَلاَتِهِ فِيهَا وَالْمَعْصِيَةُ لاَ تَكُونُ قُرْبَةً
وَلاَ طَاعَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ تَصِحُّ لأَِنَّهُ صَلَّى فِيمَا لاَ تَصِحُّ فِيهِ مَعَ
الْعِلْمِ فَلاَ تَصِحُّ مَعَ الْجَهْل كَالصَّلاَةِ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ.
وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهِ لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: الْمَنْعُ مِنَ الصَّلاَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ
تَعَبُّدٌ لَيْسَ مُعَلَّلاً بِوَهْمِ النَّجَاسَةِ وَلاَ غَيْرِهِ
لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهَا وَلَمْ يُعْقَل مَعْنَاهُ (3) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَمَّامٌ ف 14، صَلاَةٌ ف 105) .
__________
(1) حديث جابر بن سمرة " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنصلي في
مبارك الإبل؟ . . " أخرجه مسلم (1 / 275) .
(2) حديث: " الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ". أخرجه أبو داود (1 /
330) والحاكم (1 / 250) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الحاكم ووافقه
الذهبي.
(3) المغني 2 / 67، 68، وكشاف القناع 1 / 293 - 295.
(38/368)
مَكَانُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ الْقَبْضَ وَهُوَ
وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُنْدَبُ الإِْرْسَال وَيُكْرَهُ الْقَبْضُ فِي
صَلاَةِ الْفَرْضِ وَجَوَّزُوهُ فِي النَّفْل وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَالٌ ف 4) .
وَمَكَانُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ هُوَ تَحْتَ
الصَّدْرِ وَفَوْقَ السُّرَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ قَال: صَلَّيْتُ
مَعَ رَسُول اللَّهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى
عَلَى صَدْرِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ تَحْتَ سُرَّتِهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَال: مِنَ
السُّنَّةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ فِي الصَّلاَةِ تَحْتَ
السُّرَّةِ (2) .
__________
(1) حديث وائل بن حجر: " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده
اليمنى على يده اليسرى على صدره ". أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1 / 243) .
(2) حديث: " من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة " أخرجه أبو
داود (1 / 480) ثم نقل عن أحمد بن حنبل أنه ضعف راويًا في إسناده.
(38/369)
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ قَال
الْحَنَفِيَّةُ تَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى ثَدْيَيْهَا (1) .
مَكَانُ دَفْنِ الْمَيِّتِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَقْبَرَةَ أَفْضَل مَكَانٍ
لِلدَّفْنِ وَذَلِكَ لِلاِتِّبَاعِ وَلِنَيْل دُعَاءِ الطَّارِقِينَ،
وَيُكْرَهُ دَفْنُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ لِلصَّلاَةِ فِيهِ.
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
مَكَانُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ
5 - مُطْلَقُ عَقْدِ الْبَيْعِ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ فِي
الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ حِينَئِذٍ (2) ، فَمَثَلاً لَوْ
بَاعَ رَجُلٌ وَهُوَ فِي إِسْلاَمْبُول حِنْطَتَهُ الَّتِي فِي دِمَشْقَ
يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْحِنْطَةِ الْمَرْقُومَةِ فِي دِمَشْقَ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهَا فِي إِسْلاَمْبُول، أَيْ لاَ
يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ بَيَانُ الْمَكَانِ الَّذِي يُسَلَّمُ
فِيهِ الْمَبِيعُ فَعَقْدُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لاَ يُبَيَّنُ
فِيهِ مَكَانُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 73، والشرح الكبير 1 / 250، والمجموع 3 / 310،
313، والمغني 1 / 472 ط الرياض.
(2) فتح القدير 3 / 320، وجواهر الإكليل 1 / 306، ومنح الجليل 2 / 100،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 189.
(38/369)
يُسَلَّمُ فِيهِ الْمَبِيعُ إِلَى
الْمُشْتَرِي فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَبِيعُ حِينَ
الْعَقْدِ لاَ فِي مَكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ حَتَّى إِذَا نَقَل الْبَائِعُ
الْمَبِيعَ بِلاَ إِذْنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَحَل الَّذِي كَانَ فِيهِ
حِينَ الْعَقْدِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِلَى
حَيْثُ كَانَ.
أَمَّا ثَمَنُ الْمَبِيعِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْحَمْل
وَالْمَئُونَةِ فَيَجِبُ بَيَانُ مَكَانِ تَسْلِيمِهِ فِي بَيَانِ
الْعَقْدِ.
وَيُعْتَبَرُ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ مَكَانُ الْبَيْعِ فَإِذَا لَمْ
يُبَيِّنِ الْبَائِعُ مَكَانَ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي
يَعْلَمُ وَكَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ
ثُمَّ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى مَكَانِهِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ إِلاَّ
أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَكُونُ مُخَيَّرًا خِيَارَ كَشْفِ الْحَال فَلَهُ
فَسْخُ الْبَيْعِ وَتَرْكُ الْمَبِيعِ وَلَهُ قَبْضُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ
حِينَ الْعَقْدِ بِكُل الثَّمَنِ الْمُسَمَّى.
وَإِذَا بِيعَ مَالٌ عَلَى أَنْ يُسَلَّمَ فِي مَكَانِ كَذَا لَزِمَ
تَسْلِيمُهُ فِي الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، مِثْل ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ
شَخْصٌ حِنْطَةً مِنْ مَزْرَعَةٍ لَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى
الْمُشْتَرِي فِي دَارِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إِلَى
الْمُشْتَرِي فِي دَارِهِ وَكَذَلِكَ إِذَا شَرَطَ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ
الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى مَئُونَةٍ فِي نَقْلِهِ إِلَى مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ
فَيَجِبُ تَسْلِيمُهُ هُنَاكَ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِشَرْطِ
تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فِي مَحَلٍّ
(38/370)
مُعَيَّنٍ (1) .
إِعَارَةُ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنِ اسْتَعَارَ حِصَانًا مِنْ
آخَرَ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ لِيَرْكَبَهُ فَرَكِبَ إِلَى مَكَانٍ
مُعَيَّنٍ وَتَجَاوَزَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ بَعِيدٍ ثُمَّ رَجَعَ فَقَال
إِنَّ الْحِصَانَ قَدْ هَلَكَ فِي مَكَانٍ آخَرَ يَضْمَنُ لأَِنَّ
عَارِيَّةَ الْحِصَانِ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَتَجَاوَزَ
الْمَكَانَ الْمُعَيَّنَ فَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْحِصَانِ لِصَاحِبِهِ (2) .
وَمَنِ اسْتَعَارَ مِنْ آخَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ
مُعَيَّنٍ وَمَعْلُومٍ فَرَكِبَهَا وَقَبْل وُصُولِهِ إِلَى الْمَكَانِ
صَادَفَهُ مُتَغَلِّبٌ وَأَخَذَهَا مِنْهُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَنْعُهُ بِوَجْهٍ وَخَافَ مِنْ ضَرَرِهِ لاَ يَضْمَنُ،
لأَِنَّ الْعَارِيَّةَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَمَانَةٌ
وَالْمُسْتَعِيرُ أَمِينٌ وَالأَْمِينُ إِنَّمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ
الْحِفْظِ إِذَا تَرَكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ (3) .
فَضْل الأَْمْكِنَةِ
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَضْل بَعْضِ الأَْمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ.
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي المادة 285، 286، 287، وشرح المجلة لعلي حيدر في
المواد المذكورة، والشرح الصغير 4 / 70، ومغني المحتاج 2 / 73، والمغني 4 /
126.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 87، والشرح الصغير 3 / 575، وروضة الطالبين
4 / 434، والمجموع 20 / 272، ومغني المحتاج 2 / 68.
(3) المراجع السابقة.
(38/370)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَالْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ هُمَا أَفْضَل
بِقَاعِ الأَْرْضِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ
أَفْضَل مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّ
الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ أَفْضَل مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (فَضَائِل ف 7 - 9)
مُكْرَهٌ
انْظُرْ: إِكْرَاهٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 256 - 257، ومواهب الجليل 3 / 344 - 345، وجواهر
الإكليل 1 / 250، وقواعد الأحكام 1 / 39، والقليوبي وعميرة 2 / 101.
(38/371)
مَكْرُوهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَكْرُوهُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْمَحْبُوبِ، وَمَا نَفَرَ مِنْهُ
الطَّبْعُ وَالشَّرْعُ وَيُطْلَقُ - أَيْضًا - عَلَى الشِّدَّةِ
وَالْمَشَقَّةِ.
قَال الْفَيْرُوزَ آبَادِي: الْكَرْهُ وَيُضَمُّ الإِْبَاءُ
وَالْمَشَقَّةُ، أَوْ بِالضَّمِّ مَا أَكْرَهْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِ،
وَبِالْفَتْحِ مَا أَكْرَهَكَ غَيْرُكَ عَلَيْهِ، كَرِهَهُ كَسَمِعَهُ
كَرْهًا وَيُضَمُّ وَكَرَاهَةً وَكَرَاهِيَةً بِالتَّخْفِيفِ (1) .
وَقَال الْفَيُّومِيُّ: كَرُهَ الأَْمْرُ وَالْمَنْظَرُ كَرَاهَةً فَهُوَ
كَرِيهٌ، مِثْل: قَبُحَ قَبَاحَةً فَهُوَ قَبِيحٌ وَزْنًا وَمَعْنَى،
وَالْكَرِيهَةُ الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ (2) .
وَقَال الطُّوفِيُّ فِي ذَلِكَ: فَيَجُوزُ اشْتِقَاقُ الْمَكْرُوهِ مِنْ
ذَلِكَ - أَيِ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ - لأَِنَّ الطَّبْعَ
وَالشَّرْعَ لاَ يَنْفِرَانِ إِلاَّ عَنْ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ، بِحَسَبِ
حَالِهِمَا (3) .
وَعَرَّفَ الأُْصُولِيُّونَ الْمَكْرُوهَ بِتَعْرِيفَاتٍ مِنْهَا:
__________
(1) القاموس المحيط مادة (كره) .
(2) المصباح المنير مادة (كره) .
(3) شرح مختصر الروضة 1 / 382، 383، وانظر حقائق الأصول للأردبيلي 1 / 143.
(38/371)
مَا يُمْدَحُ تَارِكُهُ وَلاَ يُذَمُّ
فَاعِلُهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَاجِبُ
2 - الْوَاجِبُ فِي اللُّغَةِ: الثَّابِتُ أَوِ اللاَّزِمُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: مَا يُذَمُّ شَرْعًا تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا (3)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْوَاجِبِ هِيَ التَّضَادُّ (4) .
ب - الْمَنْدُوبُ
: 3 - الْمَنْدُوبُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ النَّدْبِ وَهُوَ: الدَّعْوَةُ
وَالْحَثُّ وَالتَّوْجِيهُ (5) .
وَاصْطِلاَحًا: مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَلاَ يُذَمُّ تَارِكُهُ (6) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمَنْدُوبِ التَّضَادُّ (7) .
__________
(1) منهاج الوصول للبيضاوي مع الإبهاج 1 / 60 ط الكليات الأزهرية وانظر:
شرح البدخشي 1 / 4 ونهاية السول للإسنوي 1 / 65، ومختصر الروضة لابن قدامة
مع شرحها للطوفي 1 / 382، والمختصر لابن اللحام 64 وشرح الكوكب المنير
للفتوحي 1 / 413.
(2) القاموس المحيط والمصباح المنير مادة (وجب) .
(3) شرح اللمع 1 / 185 والبرهان 1 / 310 والمحصول للرازي 1 / 18 ط،
والتحصيل 1 / 172، والإبهاج 1 / 51، وشرح الكوكب المنير 1 / 346.
(4) المستصفى 1 / 79.
(5) القاموس المحيط، المصباح المنير مادة (ندب) .
(6) البرهان 1 / 310، وشرح اللمع 1 / 106، والمختصر 63، والتحصيل 1 / 174.
(7) البحر المحيط 1 / 298.
(38/372)
ج - الْحَرَامُ:
4 - الْحَرَامُ فِي اللُّغَةِ: الْمَمْنُوعُ (1) ، وَيُطْلَقُ عَلَى
نَقِيضِ الْوَاجِبِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: مَا يُذَمُّ شَرْعًا فَاعِلُهُ (3) ، وَالصِّلَةُ بَيْنَ
الْمَكْرُوهِ وَالْحَرَامِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا تَرْكُهُ
مَعَ عَدَمِ الذَّمِّ عَلَى فِعْلِهِ، وَالْحَرَامُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا
تَرْكُهُ مَعَ الذَّمِّ عَلَى فِعْلِهِ.
إِطْلاَقَاتُ الْمَكْرُوهِ
5 - تَعَدَّدَتْ إِطْلاَقَاتُ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ،
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ:
الْحَرَامُ، وَتَرْكُ الأَْوْلَى، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ تَنْزِيهًا، وَمَا
وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ قَوْل الْغَزَالِيِّ
وَالآْمِدِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ وَابْنِ قَاضِي الْجَبَل
قَال الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فِي
عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي الأَْرْبَعَةِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير مادة (حرم) .
(2) لسان العرب مادة (حرم) .
(3) البرهان 1 / 313، والمحصول 1 / 19، والتحصيل 1 / 174، والبحر المحيط
للزركشي 1 / 225 ط أوقاف الكويت ومختصر الروضة مع شرحها للطوفي 1 / 359.
(4) البحر المحيط 1 / 296، 297، وشرح الكوكب المنير 1 / 420، والمستصفى 1 /
66، والمحصول 1 / 22، وانظر: التحصيل 1 / 175.
(38/372)
أَقْسَامُ الْمَكْرُوهِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِ الْمَكْرُوهِ:
فَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَكْرُوهَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ.
وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحِل أَقْرَبُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُعَاقَبُ
فَاعِلُهُ أَصْلاً، لَكِنْ يُثَابُ تَارِكُهُ أَدْنَى ثَوَابٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ.
وَهُوَ إِلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ
مَحْذُورٌ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ: كَحِرْمَانِ
الشَّفَاعَةِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ
يَنَل شَفَاعَتِي (1) .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ حَرَامٌ ثَبَتَتْ
حُرْمَتُهُ بِدَلِيل ظَنِّيٍّ، لأَِنَّهُ يَرَى أَنَّ مَا لَزِمَ تَرْكُهُ
إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيل قَطْعِيٍّ يُسَمَّى حَرَامًا، وَإِلاَّ
يُسَمَّى مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، كَمَا أَنَّ مَا لَزِمَ
الإِْتْيَانُ بِهِ إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهِ بِدَلِيل قَطْعِيٍّ يُسَمَّى
فَرْضًا، وَإِلاَّ يُسَمَّى وَاجِبًا (2) .
__________
(1) حديث " من ترك سنتي لم ينل شفاعتي " أورده التفتازاني في التلويح على
التوضيح (2 / 126) ولم نهتد إلى من أخرجه فيما لدينا من مراجع السنن
والآثار.
(2) التوضيح لصدر الشريعة والتلويح للتفتازاني 2 / 125، 126 ط دار الكتب
العلمية.
(38/373)
حُكْمُ الْمَكْرُوهِ
7 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي حُكْمِ الْمَكْرُوهِ كَمَا اخْتَلَفُوا
فِي كَوْنِهِ مُكَلَّفًا بِتَرْكِهِ أَمْ لاَ وَمَنْهِيًّا عَنْهُ أَمْ
لاَ، وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي الأَْمْرِ الْمُطْلَقِ هَل يَتَنَاوَل
الْمَكْرُوهَ أَمْ لاَ، وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَكْسٌ
انْظُرْ: مُكُوسٌ
(38/373)
مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَكَّةُ: عَلَمٌ عَلَى الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي فِيهِ بَيْتُ
اللَّهِ الْحَرَامُ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا مَكَّةُ بِالْمِيمِ فَقِيل:
لأَِنَّهَا تَمُكُّ الْجَبَّارِينَ أَيْ تُذْهِبُ نَخْوَتَهُمْ، وَقِيل:
لأَِنَّهَا تَمُكُّ الْفَاجِرَ عَنْهَا أَيْ تُخْرِجُهُ، وَقِيل:
كَأَنَّهَا تُجْهِدُ أَهْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَمَكَّكْتُ الْعَظْمَ إِذَا
أَخْرَجْتَ مُخَّهُ، وَقِيل: لأَِنَّهَا تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَيْهَا مِنْ
قَوْلِهِ: امْتَكَّ الْفَصِيل مَا فِي ضَرْعِ أُمِّهِ إِذَا لَمْ يُبْقِ
فِيهِ شَيْئًا، وَقِيل لِقِلَّةِ مَائِهَا.
وَلَهَا أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: بَكَّةُ، وَأُمُّ الْقُرَى،
وَالْبَلَدُ الأَْمِينُ، وَأَسْمَاءٌ أُخْرَى (1) .
وَمَكَّةُ كُلُّهَا حَرَمٌ وَكَذَلِكَ مَا حَوْلَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ
الْفُقَهَاءُ حُدُودَ حَرَمِ مَكَّةَ وَسَبَبَ تَحْرِيمِهِ، وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ ف 1 - 3) .
__________
(1) شفاء الغرام 1 / 48 - 53، وإعلام الساجد ص 78 - 83.
(38/374)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَكَّةَ:
تَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
وُجُوبُ تَعْظِيمِ مَكَّةَ
2 - يَجِبُ تَعْظِيمُ مَكَّةَ (1) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ
يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ
بِهَا دَمًا وَلاَ يُعَضِّدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ
لِقِتَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا
لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ،
وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ،
وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ ف 2) .
الْغُسْل لِدُخُول مَكَّةَ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْغُسْل لِدُخُول
مَكَّةَ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ لاَ
يَقْدُمُ مَكَّةَ إِلاَّ بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِل
ثُمَّ
__________
(1) فتح الباري 4 / 41.
(2) حديث: " إن مكة حرمها الله. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 41)
ومسلم (2 / 987 - 988) من حديث أبي شريح العدوي.
(38/374)
يَدْخُل مَكَّةَ نَهَارًا وَيُذْكَرُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ
(1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ الْغُسْل لِدُخُول مَكَّةَ
وَلَوْ حَلاَلاً لِلاِتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الْمُحَرَّمِ
وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحَلاَل (2) .
الإِْحْرَامُ لِدُخُول مَكَّةَ
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ
لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ
أَوْ مِنْ قَبْلِهَا.
أَمَّا إِذَا أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِحْرَامِهِ وَالتَّفْصِيل فِي
(حَرَمٌ ف 4 - 6) .
الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ، فَذَهَبَ
جُمْهُورُهُمْ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْمُجَاوَرَةِ، بِمَكَّةَ وَذَهَبَ
غَيْرُهُمْ إِلَى كَرَاهَةِ الْمُجَاوَرَةِ بِهَا، وَالتَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ ف 22) .
__________
(1) حديث: " إن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى. . " أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 435) ومسلم (2 / 919) واللفظ لمسلم.
(2) مغني المحتاج 1 / 479، والمهذب 1 / 211، والأشباه والنظائر ص 369،
وكشاف القناع 2 / 476، والشرح الصغير 2 / 41.
(38/375)
دُخُول الْكُفَّارِ مَكَّةَ
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ
السُّكْنَى وَالإِْقَامَةُ فِي مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .
وَاخْتَلَفُوا فِي اجْتِيَازِ الْكَافِرِ مَكَّةَ بِصِفَةِ مُؤَقَّتَةٍ
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَنْعِهِ مُطْلَقًا وَأَجَازَهُ آخَرُونَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ ف 3) .
بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَكِرَاؤُهَا
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ
وَكِرَائِهَا: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَكَّةُ حَرَامٌ،
حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلاَ تَحِل بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلاَ إِجَارَةُ
بُيُوتِهَا (1) .
وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتِهَا
لأَِنَّهَا عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَرَمٌ ف 17، وَرِبَاعٌ ف 5) .
__________
(1) حديث: " مكة حرام حرمها الله. . ". أخرجه ابن أبي شيبة من حديث مجاهد
مرسلاً، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 266) ، وورد بلفظ مكة مناخ، لا
تباع رباعها ولا يؤاجر بيوتها. أخرجه الدارقطني (3 / 58) من حديث عبد الله
بن عمرو، وأعله بضعف أحد رواته وقال: لم
(38/375)
تَضَاعُفُ السَّيِّئَاتِ بِمَكَّةَ
8 - ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ
تُضَاعَفُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ، وَمِمَّنْ قَال ذَلِكَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُجَاهِدٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَغَيْرُهُمْ، لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ.
وَسُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ مُقَامِهِ بِغَيْرِ
مَكَّةَ فَقَال: " مَا لِي وَلِبَلَدٍ تُضَاعَفُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ كَمَا
تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ (1) ".
فَحُمِل ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مُضَاعَفَةِ السَّيِّئَاتِ بِالْحَرَمِ، ثُمَّ
قِيل: تَضْعِيفُهَا كَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ بِالْحَرَمِ.
وَقِيل: بَل كَخَارِجِهِ.
وَمَنْ أَخَذَ بِالْعُمُومَاتِ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمُضَاعَفَةِ قَال
تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَمَّ
بِسَيِّئَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً
كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ
سَيِّئَةً وَاحِدَةً (2) .
وَقَال بَعْضُ السَّلَفِ لاِبْنِهِ: " يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ
وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنْ عَصَيْتَ وَلاَ بُدَّ، فَلْتَكُنْ فِي مَوَاضِعِ
الْفُجُورِ، لاَ فِي مَوَاضِعِ الأُْجُورِ، لِئَلاَّ يُضَاعَفَ عَلَيْكَ
الْوِزْرُ، أَوْ تُعَجَّل الْعُقُوبَةُ " وَحَرَّرَ بَعْضُ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 128.
(2) حديث: " من هم بسيئة فلم يعملها. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 /
323) ومسلم (1 / 118) من حديث ابن عباس.
(38/376)
الْمُتَأَخِّرِينَ النِّزَاعَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ فَقَال: الْقَائِل بِالْمُضَاعَفَةِ: أَرَادَ مُضَاعَفَةَ
مِقْدَارِهَا أَيْ غِلَظَهَا لاَ كَمِّيَّتَهَا فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ
السَّيِّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ، لَكِنَّ السَّيِّئَاتِ تَتَفَاوَتُ،
فَالسَّيِّئَةُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبِلاَدِهِ عَلَى بِسَاطٍ أَكْبَرَ
وَأَعْظَمَ مِنْهَا فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلاَدِ، وَلِهَذَا
لَيْسَ مَنْ عَصَى الْمَلِكَ عَلَى بِسَاطِ مُلْكِهِ كَمَنْ عَصَاهُ فِي
مَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنْهُ.
وَيُعَاقَبُ عَلَى الْهَمِّ فِيهَا بِالسَّيِّئَاتِ، وَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْهَا.
قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ} وَلِهَذَا عُدِّيَ فِعْل الإِْرَادَةِ بِالْبَاءِ.
وَلاَ يُقَال: أَرَدْتُ بِكَذَا، لَمَّا ضَمَّنَهُ مَعْنَى يَهِمُّ،
فَإِنَّهُ يُقَال: هَمَمْتُ بِكَذَا.
وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ قَاعِدَةِ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ وَعَدَمِ
فِعْلِهَا.
كُل ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بِأَصْحَابِ الْفِيل.
أَهْلَكَهُمْ قَبْل الْوُصُول إِلَى بَيْتِهِ.
وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: " لَوْ أَنَّ رَجُلاً هَمَّ أَنْ يَقْتُل
فِي الْحَرَمِ أَذَاقَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ الأَْلِيمِ ثُمَّ قَرَأَ
الآْيَةَ.
وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: " مَا مِنْ بَلَدٍ يُؤَاخَذُ الْعَبْدُ فِيهِ
بِالْهَمِّ قَبْل الْفِعْل إِلاَّ مَكَّةَ وَتَلاَ هَذِهِ الآْيَةَ (1) .
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 128، 129.
(38/376)
مُكَلَّفٌ
انْظُرْ: تَكْلِيفٌ
(38/377)
مُكُوسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُكُوسُ: جَمْعُ مَكْسٍ.
وَأَصْل الْمَكْسِ - فِي اللُّغَةِ: النَّقْصُ وَالظُّلْمُ، وَدَرَاهِمُ
كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ بَائِعِي السِّلَعِ فِي الأَْسْوَاقِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ دِرْهَمٌ كَانَ يَأْخُذُهُ الْمُصَدِّقُ بَعْدَ
فَرَاغِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ (1) .
وَيُطْلَقُ الْمَكْسُ - كَذَلِكَ - عَلَى الضَّرِيبَةِ يَأْخُذُهَا
الْمَكَّاسُ مِمَّنْ يَدْخُل الْبَلَدَ مِنَ التُّجَّارِ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمَكْسُ مَا يَأْخُذُهُ الْعَشَّارُ.
وَالْمَاكِسُ: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَال النَّاسِ شَيْئًا
مُرَتَّبًا فِي الْغَالِبِ، وَيُقَال لَهُ الْعَشَّارُ لأَِنَّهُ يَأْخُذُ
الْعُشُورَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلاَدِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُشُورُ:
2 - الْعُشُورُ: جَمْعُ عُشْرٍ، وَهُوَ لُغَةً الْجُزْءُ مِنْ عَشَرَةِ
أَجْزَاءٍ.
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(2) المعجم الوسيط.
(3) مواهب الجليل 2 / 494، والترغيب والترهيب 1 / 566 - 567، وحاشية ابن
عابدين 2 / 145.
(38/377)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ عَلَى
مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: عُشْرُ التِّجَارَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ.
وَالآْخَرُ: عُشْرُ الصَّدَقَاتِ أَوْ زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ
(1) .
ب - الْجِبَايَةُ:
3 - الْجِبَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمْعُ يُقَال جَبَا الْمَال
وَالْخَرَاجَ: جَمَعَهُ.
وَالْجِبَايَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: جَمْعُ الْخَرَاجِ وَالْمَال (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُكُوسِ وَالْجِبَايَةِ هِيَ أَنَّ الْجِبَايَةَ
أَعَمُّ لأَِنَّ الْجِبَايَةَ تَشْمَل جَمْعَ الْمَال مِنْ زَكَاةٍ أَوْ
صَدَقَاتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
ج - الضَّرَائِبُ:
4 - الضَّرَائِبُ جَمْعُ ضَرِيبَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي
الأَْرْصَادِ وَالْجِزْيَةِ وَنَحْوِهَا.
وَهِيَ أَيْضًا: مَا يَأْخُذُهُ الْمَاكِسُ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّرِيبَةَ أَعَمُّ.
د - الْخَرَاجُ:
5 - الْخَرَاجُ هُوَ: مَا يَحْصُل مِنْ غَلَّةِ الأَْرْضِ.
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهُوَ كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ
__________
(1) الهداية مع شروحها 2 / 171.
(2) المصباح المنير، قواعد الفقه للبركتي.
(3) لسان العرب: مادة (ضرب) و (مكس) .
(38/378)
مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الأَْرَضِينَ
مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْمُكُوسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَال لِلإِْنْفَاقِ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،
وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْخَرَاجَ يُوضَعُ عَلَى رِقَابِ الأَْرْضِ،
أَمَّا الْمَكْسُ فَيُوضَعُ عَلَى السِّلَعِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - مِنَ الْمُكُوسِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمِنْهَا مَا
هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ.
فَالْمُكُوسُ الْمَذْمُومَةُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا هِيَ غَيْرُ نِصْفِ
الْعُشْرِ الَّذِي فَرَضَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى تِجَارَةِ
أَهْل الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ هِيَ غَيْرُ الْعُشْرِ الَّذِي ضَرَبَهُ
عَلَى أَمْوَال أَهْل الْحَرْبِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ
فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا (2) .
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْمُكُوسِ الْمَذْمُومَةِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا -
وَهِيَ غَيْرُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ - نُصُوصٌ تُحَرِّمُهَا وَتُغَلِّظُ
أَمْرَهَا مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُول: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ (3) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 186.
(2) نيل الأوطار 8 / 221 ط دار الجبلى.
(3) حديث: " لا يدخل الجنة صاحب مكس " رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عقبة
بن عامر - رضي الله عنه -.
(38/378)
قَال الْبَغَوِيُّ: يُرِيدُ بِصَاحِبِ
الْمَكْسِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنَ التُّجَّارِ إِذَا مَرُّوا عَلَيْهِ
مَكْسًا بِاسْمِ الْعُشْرِ أَيِ الزَّكَاةِ، وَقَال الْحَافِظُ
الْمُنْذِرِيُّ: أَمَّا الآْنَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَكْسًا بِاسْمِ
الْعُشْرِ، وَمَكْسًا آخَرَ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ، بَل شَيْءٌ يَأْخُذُونَهُ
حَرَامًا وَسُحْتًا، وَيَأْكُلُونَهُ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، حُجَّتُهُمْ
فِيهِ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُكُوسِ:
احْتِسَابُ الْمَكْسِ مِنَ الزَّكَاةِ
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ احْتِسَابِ
الْمَدْفُوعِ مَكْسًا مِنَ الزَّكَاةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِ احْتِسَابِهِ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: زَكَاةٌ ف 132) .
أَخْذُ الْفُقَرَاءِ لِلْمُكُوسِ
8 - الْمُكُوسُ بِمَعْنَى الْمَال الْمَأْخُوذِ مِنْ صَاحِبِهِ ظُلْمًا،
نَصَّ الرَّحِيبَانِيُّ عَلَى حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: يُتَّجَهُ أَنَّ
الْمَال الْحَرَامَ الَّذِي جُهِل أَرْبَابُهُ وَصَارَ مَرْجِعُهُ لِبَيْتِ
الْمَال كَالْمُكُوسِ وَالْغُصُوبِ وَالْخِيَانَاتِ وَالسَّرِقَاتِ
الْمَجْهُول أَرْبَابُهَا يَجُوزُ
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي 1 / 168.
(38/379)
لِلْفُقَرَاءِ أَخْذُهَا صَدَقَةً،
وَيَجُوزُ أَخْذُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ هِبَةً وَشِرَاءً وَوَفَاءً
عَنْ أُجْرَةٍ سِيَّمَا إِنْ أَعْطَاهَا الْغَاصِبُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُ
حَالَهَا كَأَنْ قَبَضَهُ لَهَا بِحَقِّ لأَِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ
مَا لَمْ يَعْلَمْ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ،
وَعَقَّبَ الشَّطِّيُّ عَلَى الرَّحِيبَانِيِّ بِتَعْقِيبٍ جَاءَ فِيهِ:
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إِنَّ الْمُكُوسَ إِذَا أَقْطَعَهَا
الإِْمَامُ الْجُنْدَ فَهِيَ حَلاَلٌ لَهُمْ إِذَا جُهِل مُسْتَحِقُّهَا،
وَكَذَا إِذَا رَتَّبَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْل الْعِلْمِ (1) .
أَثَرُ أَخْذِ الْمُكُوسِ فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ
4 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ مَا يُؤْخَذُ فِي طَرِيقِ
الْحَجِّ مِنَ الْمَكْسِ وَالْخَفَارَةِ عُذْرًا قَوْلاَنِ،
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ عُذْرًا (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْتَبَرُ الأَْمْنُ عَلَى الْمَال فِي الْحَجِّ
فَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ مَكَّاسٌ يَأْخُذُ مِنَ الْمَال شَيْئًا
قَلِيلاً وَلاَ يَنْكُثُ بَعْدَ أَخْذِهِ لِذَلِكَ الْقَلِيل فَفِيهِ
قَوْلاَنِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ سُقُوطِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي سُقُوطُهُ.
قَال فِي التَّوْضِيحِ إِنْ كَانَ مَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ غَيْرَ
مُعَيَّنٍ أَوْ مُعَيَّنًا مُجْحِفًا سَقَطَ الْوُجُوبُ وَفِي
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 67.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 145 ط بولاق.
(38/379)
غَيْرِ الْمُجْحِفِ قَوْلاَنِ
أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ وَهُوَ قَوْل الأَْبْهَرِيِّ وَاخْتَارَهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ (1) .
وَلَمْ يُعَبِّرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْمَكْسِ أَوِ
الْمَكَّاسِ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا بِالرَّصَدِيِّ أَوِ الْعَدُوِّ الَّذِي
يَطْلُبُ خَفَارَةً (2) .
الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُكُوسِ
10 - تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُكُوسِ لأَِجْل رَدِّ الْحُقُوقِ
إِلَى أَرْبَابِهَا (3) كَمَا يَجُوزُ كِتَابَتُهَا حَتَّى لاَ يَتَكَرَّرَ
أَخْذُهَا: يَقُول أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ
زُرَيْقِ بْنِ حِبَّانَ وَكَانَ عَلَى مَكْسِ مِصْرَ فَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ:
أَنِ انْظُرْ مَنْ مَرَّ عَلَيْكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخُذْ مِمَّا
ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْعَيْنَ، وَمِمَّا ظَهَرَ مِنَ التِّجَارَاتِ
مِنْ كُل أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا وَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ
حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنْ نَقَصَتْ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ
فَدَعْهَا وَلاَ تَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا مَرَّ عَلَيْكَ أَهْل
الذِّمَّةِ فَخُذْ مِمَّا يُدِيرُونَ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ مِنْ كُل
عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا فَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ حَتَّى
تَبْلُغَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ثُمَّ دَعْهَا فَلاَ تَأْخُذْ مِنْهَا
شَيْئًا،
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 494 - 495.
(2) مغني المحتاج 1 / 465، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 168.
(3) القليوبي 4 / 330.
(38/380)
وَاكْتُبْ لَهُمْ كِتَابًا بِمَا تَأْخُذُ
مِنْهُمْ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَوْل (1) .
مُعَامَلَةُ مَنْ غَالِبُ أَمْوَالِهِ حَرَامٌ
11 - سُئِل ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ حُكْمِ مُعَامَلَةِ مَنْ غَالِبُ
أَمْوَالِهِمْ حَرَامٌ مِثْل الْمَكَّاسِينَ وَأَكَلَةِ الرِّبَا
وَأَشْبَاهِهِمْ فَهَل يَحِل أَخْذُ طَعَامِهِمْ بِالْمُعَامَلَةِ أَمْ
لاَ؟ فَأَجَابَ: إِذَا كَانَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ وَحَرَامٌ فَفِي
مُعَامَلَتِهِمْ شُبْهَةٌ، لاَ يُحْكَمُ بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ إِذَا
عُرِفَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مَا يَحْرُمُ إِعْطَاؤُهُ، وَلاَ يُحْكَمُ
بِالتَّحْلِيل إِلاَّ إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الْحَلاَل،
فَإِنْ كَانَ الْحَلاَل هُوَ الأَْغْلَبَ قِيل بِحِل الْمُعَامَلَةِ،
وَقِيل: بَل هِيَ مُحَرَّمَةٌ (2) .
__________
(1) الخراج ص 136 - 137 ط. المطبعة السلفية محب الدين الخطيب، وانظر
الأموال لأبي عبيد ف 1662، 1685.
(2) الفتاوى الكبرى 29 / 272 - 273.
(38/380)
مَلاَئِكَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَلاَئِكَةُ جَمْعُ الْمَلَكِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ وَاحِدُ
الْمَلاَئِكَةِ، قِيل: مُخَفَّفٌ مِنْ مَالَكٍ، قَال الْكِسَائِيُّ:
أَصْلُهُ مَأْلَكٌ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ مِنَ الأُْلُوكِ وَهِيَ
الرِّسَالَةُ، ثُمَّ قُلِبَتْ وَقُدِّمَتِ اللاَّمُ وَقِيل: أَصْلُهُ
الْمَلْكُ بِفَتْحِ ثُمَّ سُكُونٍ: وَهُوَ الأَْخْذُ بِقُوَّةٍ، وَأَصْل
وَزْنِهِ مَفْعَلٌ فَتُرِكَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الاِسْتِعْمَال
وَظَهَرَتْ فِي الْجَمْعِ، وَزِيدَتِ الْهَاءُ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ
وَإِمَّا لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَلَكُ جِسْمٌ لَطِيفٌ نُورَانِيٌّ يَتَشَكَّل
بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَسْكَنُهَا السَّمَاوَاتُ (2) .
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والقاموس المحيط، وفتح الباري 6 / 306 وما
بعدها.
(2) التعريفات للجرجاني، وفتح الباري 6 / 306 ط دار المعرفة - بيروت، وفيض
الباري 4 / 6 ط دار المعرفة - بيروت، وشرح الفقه الأكبر ص 20 ط دار الكتب
العربية - بيروت.
(39/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْنْسُ:
2 - الإِْنْسُ فِي اللُّغَةِ: جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَالْوَاحِدُ إِنْسِيٌّ
وَأَنَسِيٌّ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُمْ بَنُو آدَمَ، وَالإِْنْسِيُّ يَقْتَضِي
مُخَالَفَةَ الْوَحْشِيِّ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: إِنْسِيٌّ وَوَحْشِيٌّ
(1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَلاَئِكَةِ وَالإِْنْسِ: أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ
خُلِقُوا مِنْ نُورٍ، وَلاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ، وَيَعْبُدُونَ
اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {بَل عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}
(2) ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الإِْنْسُ.
ب - الْجِنُّ:
3 - الْجِنُّ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الإِْنْسِ، وَالْجَانُّ: الْوَاحِدَةُ
مِنَ الْجِنِّ، وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ
جِنًّا لاِسْتِتَارِهِمْ عَنِ الْعُيُونِ، يُقَال: جَنَّ اللَّيْل: إِذَا
سَتَرَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب، والكليات 1 / 316، والمصباح المنير، والفروق في اللغة ص
227.
(2) سورة الأنبياء / 26.
(39/5)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَلاَئِكَةِ
وَالْجِنِّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ قُوَّةُ التَّشَكُّل بِأَشْكَالٍ
مُخْتَلِفَةٍ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِلْمَلاَئِكَةِ:
وَرَدَتْ فِي الْمَلاَئِكَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً - الإِْيمَانُ بِالْمَلاَئِكَةِ
4 - مِنْ أَرْكَانِ الْعَقِيدَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الإِْيمَانُ
بِالْمَلاَئِكَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنْزِل
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ} (&# x662 ;) ،
وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَقَدْ ضَل ضَلاَلاً بَعِيدًا}
(3) .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَمَا
سَأَل جِبْرِيلٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الإِْيمَانِ، قَال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ
خَيْرِهِ وَشَرِّهِ (4) . فَوُجُودُ الْمَلاَئِكَةِ ثَابِتٌ بِالدَّلِيل
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والكليات 2 / 166، وتفسير البيضاوي 4 / 225
ط المكتبة التجارية الكبرى.
(2) سورة البقرة / 285.
(3) سورة النساء / 136.
(4) حديث عمر رضي الله عنه: " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ. .
. ". أخرجه مسلم (1 / 37 ط الحلبي) ضمن حديث طويل.
(39/6)
الْقَطْعِيِّ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ
يَلْحَقَهُ شَكٌّ، وَمِنْ هُنَا كَانَ إِنْكَارُ وُجُودِهِمْ كُفْرًا
بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، بَل يَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ
الْكَرِيمُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآْيَةُ السَّابِقَةُ (1) .
ثَانِيًا - صِفَاتُهُمُ الْخِلْقِيَّةُ
5 - أَخْبَرَنَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ خُلِقُوا قَبْل
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَال رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَل
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَال إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
(2) .
كَمَا أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
اللَّهَ خَلَقَ الْمَلاَئِكَةَ مِنْ نُورٍ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: خُلِقَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ (3) .
فَتَدُل النُّصُوصُ فِي مَجْمُوعِهَا عَلَى أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ
مَخْلُوقَاتٌ نُورَانِيَّةٌ لَيْسَ لَهَا جِسْمٌ مَادِّيٌّ يُدْرَكُ
بِالْحَوَّاسِ الإِْنْسَانِيَّةِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية 2 / 401 ط مؤسسة الرسالة، وفتح الباري 6 / 306 ط
دار المعرفة - بيروت، وإغاثة اللهفان 2 / 120 وما بعدها ط مصطفى الحلبي.
(2) سورة البقرة / 30.
(3) حديث عائشة رضي الله عنها: " خُلقت الملائكة. . . ". أخرجه مسلم (4 /
2294) ط الحلبي.
(39/6)
كَالْبَشَرِ فَلاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ
يَشْرَبُونَ وَلاَ يَنَامُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، مُطَهَّرُونَ مِنَ
الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَمُنَزَّهُونَ عَنِ الآْثَامِ
وَالْخَطَايَا، وَلاَ يَتَّصِفُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ
الْمَادِّيَّةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا ابْنُ آدَمَ (1) غَيْرَ أَنَّ
لَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِصُوَرِ الْبَشَرِ بِإِذْنِ
اللَّهِ تَعَالَى (2) .
ثَالِثًا - عِبَادَةُ الْمَلاَئِكَةِ لِلَّهِ وَمَا وُكِّل إِلَيْهِمْ مِنْ
أَعْمَالٍ
6 - عَلاَقَةُ الْمَلاَئِكَةِ بِاللَّهِ هِيَ عَلاَقَةُ الْعُبُودِيَّةِ
الْخَالِصَةِ وَالطَّاعَةِ وَالاِمْتِثَال وَالْخُضُوعِ الْمُطْلَقِ
لأَِوَامِرِهِ عَزَّ وَجَل، قَال تَعَالَى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3) ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ
اللَّهُ بِأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ
يُسَبِّحُونَ اللَّيْل وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} (4) .
وَهُمْ مُنْقَطِعُونَ دَائِمًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ (5)
، كَمَا وَرَدَ فِي الآْيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال
__________
(1) شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص 20 ط دار الكتب العلمية، وفتح
الباري 6 / 353.
(2) فتح الباري 6 / 348 - 351 ط دار الريان للتراث - القاهرة.
(3) سورة التحريم / 6.
(4) سورة الأنبياء / 19، 20.
(5) إغاثة اللهفان 2 / 122.
(39/7)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلاَ شِبْرٍ
وَلاَ كَفٍّ إِلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ مَلَكٌ رَاكِعٌ أَوْ
مَلَكٌ سَاجِدٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا:
سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ إِلاَّ أَنَّا لَمْ
نُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا (1) .
7 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: دَل الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَصْنَافِ
الْمَلاَئِكَةِ، وَأَنَّهَا مُوَكَّلَةٌ بِأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ،
وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَكَّل بِالْجِبَال مَلاَئِكَةً، وَوَكَّل
بِالسَّحَابِ مَلاَئِكَةً، وَوَكَّل بِالرَّحِمِ مَلاَئِكَةً تُدَبِّرُ
أَمْرَ النُّطْفَةِ حَتَّى يَتِمَّ خَلْقُهَا، ثُمَّ وَكَّل بِالْعَبْدِ
مَلاَئِكَةً لِحِفْظِهِ، وَمَلاَئِكَةً لِحِفْظِ مَا يَعْمَلُهُ
وَإِحْصَائِهِ وَكِتَابَتِهِ، وَوَكَّل بِالْمَوْتِ مَلاَئِكَةً، وَوَكَّل
بِالسُّؤَال فِي الْقَبْرِ مَلاَئِكَةً، وَوَكَّل بِالأَْفْلاَكِ
مَلاَئِكَةً يُحَرِّكُونَهَا، وَوَكَّل بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
مَلاَئِكَةً، وَوَكَّل بِالنَّارِ وَإِيقَادِهَا وَتَعْذِيبِ أَهْلِهَا
__________
(1) حديث: " ما في السماوات السبع. . . ". أخرجه الطبراني في الكبير (2 /
184) ، وفي الأوسط (4 / 345) من حديث جابر، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد
(10 / 358) : رجاله رجال الثقات، وفيه عروة بن مروان قال فيه الدارقطني:
ليس بقوي الحديث. وله شاهد من حديث عائشة: " ما في السماء موضع. . . ".
أخرجه الدولابي بسنده (2 / 122) ط دار الكتب العلمية، وذكره السيوطي في
الدر المنثور 2 / 292 ط المكتبة الإسلامية.
(39/7)
وَعِمَارَتِهَا مَلاَئِكَةً، وَوَكَّل
بِالْجَنَّةِ. وَعِمَارَتِهَا وَغِرَاسِهَا وَعَمَل الأَْنْهَارِ فِيهَا
مَلاَئِكَةً، فَالْمَلاَئِكَةُ أَعْظَمُ جُنُودِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَمِنْهُمْ: {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ
ذِكْرًا} (1) وَمِنْهُمْ: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ
نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (2) ، وَمِنْهُمْ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} (3) .
وَمِنْهُمْ: مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ،
وَمَلاَئِكَةٌ قَدْ وُكِّلُوا بِحَمْل الْعَرْشِ، وَمَلاَئِكَةٌ قَدْ
وُكِّلُوا بِعِمَارَةِ السَّمَاوَاتِ بِالصَّلاَةِ وَالتَّسْبِيحِ
وَالتَّقْدِيسِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَلاَئِكَةِ
الَّتِي لاَ يُحْصِيهَا إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَفْظُ الْمَلَكِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مُنَفِّذٌ لأَِمْرِ
غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الأَْمْرِ شَيْءٌ، بَل الأَْمْرُ كُلُّهُ
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَهُمْ يُنَفِّذُونَ أَمْرَهُ {لاَ
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ
ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (4) ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ
__________
(1) سورة المرسلات / 1 - 5.
(2) سورة النازعات / 1 - 5.
(3) سورة الصافات / 1 - 3.
(4) سورة الأنبياء / 27، 28.
(39/8)
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1) ، {لاَ
يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) .
وَلاَ تَتَنَزَّل الْمَلاَئِكَةُ إِلاَّ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلاَ تَفْعَل
شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.
وَرُؤَسَاؤُهُمُ الأَْمْلاَكُ الثَّلاَثُ: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل،
وَإِسْرَافِيل، وَكَانَ النَّبِيُّ يَقُول: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيل
وَمِيكَائِيل وَإِسْرَافِيل، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ، عَالِمَ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (3) .
فَتَوَسَّل إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ الْعَامَّةِ
وَالْخَاصَّةِ لِهَؤُلاَءِ الأَْمْلاَكِ الثَّلاَثَةِ الْمُوَكَّلِينَ
بِالْحَيَاةِ.
فَجِبْرِيل مُوَكَّلٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ
وَالأَْرْوَاحِ، وَمِيكَائِيل وُكِّل بِالْقَطْرِ الَّذِي بَهْ حَيَاةُ
الأَْرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِسْرَافِيل مُوَكَّلٌ
بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْخَلْقِ بَعْدَ
مَمَاتِهِمْ (4) .
__________
(1) سورة النحل / 50.
(2) سورة التحريم / 6.
(3) حديث: " اللهم رب جبريل. . . ". أخرجه مسلم (1 / 534 ط الحلبي) من حديث
عائشة رضي الله عنها.
(4) إغاثه اللهفان 2 / 121 - 122.
(39/8)
رَابِعًا - تَفْضِيل الْمَلاَئِكَةِ 8 -
قَال ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ نَقْلاً عَنِ
الزَّنْدُوسَتِيِّ: أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ
أَفْضَل الْخَلِيقَةِ، وَأَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَفْضَلُهُمْ، وَأَنَّ أَفْضَل الْخَلاَئِقِ بَعْدَ
الأَْنْبِيَاءِ الْمَلاَئِكَةُ الأَْرْبَعَةُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ
وَالرُّوحَانِيُّونَ وَرِضْوَانُ وَمَالِكٌ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ
وَالتَّابِعِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ
الْمَلاَئِكَةِ.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: سَائِرُ
النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الْمَلاَئِكَةِ، وَقَال
مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ: سَائِرُ الْمَلاَئِكَةِ أَفْضَل (1) .
خَامِسًا - سَبُّ الْمَلاَئِكَةِ
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ
تَعَالَى أَوْ مَلاَئِكَتَهُ - الْوَارِدَ ذِكْرُهُمْ فِي الْكِتَابِ
الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ - أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِمْ أَوْ
كَذَّبَهُمْ فِيمَا أَتَوْا بِهِ أَوْ أَنْكَرَ وُجُودَهُمْ وَجَحَدَ
نُزُولَهُمْ قُتِل كُفْرًا.
وَاخْتَلَفُوا هَل يُسْتَتَابُ أَمْ لاَ؟
فَقَال الْجُمْهُورُ: يُسْتَتَابُ وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا عَلَى
خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُسْتَتَابُ عَلَى الْمَشْهُورِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 354 ط بولاق.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 235 ط مصطفى الحلبي، والشفاء 2 / 473، ونسيم
الرياض شرح الشفاء 4 / 547، والمغني مع الشرح 9 / 21، وقليوبي وعميرة 4 /
175، وشرح منتهى الإرادات 3 / 386، والقوانين الفقهية ص 357 الناشر الكتاب
العربي.
(39/9)
قَال الدُّسُوقِيُّ: قُتِل وَلَمْ
يُسْتَتَبْ - أَيْ بِلاَ طَلَبٍ أَوْ بِلاَ قَبُول تَوْبَةٍ مِنْهُ -
حَدًّا إِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل كُفْرًا، إِلاَّ أَنْ يُسْلِمَ
الْكَافِرُ فَلاَ يُقْتَل لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ (1) .
قَال الْمَوَّاقُ: وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ تَحَقَّقَ كَوْنُهُ مِنَ
الْمَلاَئِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ كَجِبْرِيل وَمَلَكِ الْمَوْتِ
وَالزَّبَانِيَةِ وَرِضْوَانٍ وَمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ
تَثْبُتِ الأَْخْبَارُ بِتَعْيِينِهِ وَلاَ وَقَعَ الإِْجْمَاعُ عَلَى
كَوْنِهِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَوِ الأَْنْبِيَاءِ، كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ،
وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ وَأَمْثَالِهِمْ فَلَيْسَ
الْحُكْمُ فِيهِمْ مَا ذَكَرْنَا إِذْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ
الْحُرْمَةُ، لَكِنْ يُؤَدَّبُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ.
وَأَمَّا إِنْكَارُ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَوِ النَّبِيِّينَ
فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ فَلاَ حَرَجَ، وَإِنْ
كَانَ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ زُجِرَ عَنِ الْخَوْضِ فِي مِثْل هَذَا،
وَقَدْ كَرِهَ السَّلَفُ الْكَلاَمَ فِي مِثْل هَذَا مِمَّا لَيْسَ
تَحْتَهُ عَمَلٌ (2) .
(ر: رِدَّةٌ ف 16 - 17، 35) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 309.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 285، وحاشية الدسوقي 4 / 309،
والقوانين الفقهية ص 357، والشرح الصغير على أقرب المسالك 4 / 435، والخرشي
8 / 747، ومنح الجليل 4 / 476، وشرح منتهى الإرادات 3 / 386، وكشاف القناع
6 / 168، وغاية المنتهى 3 / 359، والشفا 2 / 473.
(39/9)
مَلاَءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَلاَءَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ الْفِعْل مَلُؤَ - بِضَمِّ
اللاَّمِ - قَال الْفَيُّومِيُّ: مَلُؤَ - بِالضَّمِّ - مَلاَءَةً، وَهُوَ
أَمْلأَُ الْقَوْمِ أَيْ: أَقْدَرُهُمْ وَأَغْنَاهُمْ، وَرَجُلٌ مَلِيءٌ -
مَهْمُوزٌ - عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: غَنِيٌّ مُقْتَدِرٌ (1) .
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: رَجُلٌ مَلِيءٌ: كَثِيرُ الْمَال بَيِّنُ
الْمَلاَءِ، وَالْجَمْعُ مِلاَءٌ، وَقَدْ مَلُؤَ الرَّجُل يَمْلُؤُ
مَلاَءَةً فَهُوَ مَلِيءٌ: صَارَ مَلِيئًا، أَيْ ثِقَةً، فَهُوَ غَنِيٌّ
مَلِيءٌ: بَيِّنُ الْمِلاَءِ وَالْمَلاَءَةِ.
وَقَدْ أُولِعَ فِيهِ النَّاسُ بِتَرْكِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ
(2) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) لسان العرب، ومختار الصحاح.
(39/10)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:
الْمَلاَءَةُ: هِيَ الْغِنَى وَالْيَسَارُ (1) .
وَقَدْ فَسَّرَ أَحْمَدُ الْمَلاَءَةَ فَقَال: تُعْتَبَرُ الْمَلاَءَةُ فِي
الْمَال وَالْقَوْل وَالْبَدَنِ، فَالْمَلِيءُ هُوَ مَنْ كَانَ قَادِرًا
بِمَالِهِ وَقَوْلِهِ وَبَدَنِهِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَجَزَمَ بِهِ فِي
الْمُحَرَّرِ وَالنَّظْمِ وَالْفُرُوعِ وَالْفَائِقِ وَالْمُنْتَهَى
وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَال الْبُهُوتِيُّ: زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى
وَالْحَاوِيَيْنِ: وَفِعْلُهُ، وَزَادَ فِي الْكُبْرَى عَلَيْهِمَا:
وَتَمَكُّنُهُ مِنَ الأَْدَاءِ.
فَالْمَلاَءَةُ فِي الْمَال: الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَفَاءِ، وَالْمَلاَءَةُ
فِي الْقَوْل: أَنْ لاَ يَكُونَ مُمَاطِلاً.
وَالْمَلاَءَةُ فِي الْبَدَنِ: إِمْكَانُ حُضُورِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ،
قَال الْبُهُوتِيُّ: هَذَا مَعْنَى كَلاَمِ الزَّرْكَشِيِّ.
ثُمَّ قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّ: " فِعْلَهُ " يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ
الْمَطْل إِذِ الْبَاذِل غَيْرُ مُمَاطِلٍ.
وَ: " تَمَكُّنُهُ مِنَ الأَْدَاءِ " يَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى
الْوَفَاءِ، إِذْ مَنْ مَالُهُ غَائِبٌ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَنَحْوُهُ
غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْوَفَاءِ، وَلِذَلِكَ أَسْقَطَهُمَا الأَْكْثَرُ
وَلَمْ يُفَسِّرْهُمَا (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 9، 10، والهداية مع شروحها 8 / 319 نشر دار إحياء
التراث، وحاشية الجمل 3 / 261، وجواهر الإكليل 2 / 111، 112، والمغني 4 /
582، والإقناع 2 / 187.
(2) كشاف القناع 3 / 386.
(39/10)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْعْسَارُ:
2 - الإِْعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ، وَهُوَ ضِدُّ
الْيَسَارِ، وَالْعُسْرُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، وَالإِْعْسَارُ
وَالْعُسْرَةُ: قِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ (1) .
وَالإِْعْسَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ
أَوْ عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلاَ كَسْبٍ، أَوْ هُوَ
زِيَادَةُ خَرْجِهِ عَنْ دَخْلِهِ (2) .
وَالإِْعْسَارُ ضِدُّ الْمَلاَءَةِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلاَءَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَلاَءَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي زَكَاةِ الدَّيْنِ 3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي زَكَاةِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَلَى مَلِيءٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف 20، 21) .
ب - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي أَخْذِ الْمَشْفُوعِ
4 - مِنْ أَحْكَامِ الشُّفْعَةِ: أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ
الْمَشْفُوعَ بِمِثْل الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المهذب 2 / 162، ومغني المحتاج 3 / 426.
(39/11)
الْعَقْدُ وَقْتَ لُزُومِهِ قَدْرًا
وَجِنْسًا وَصِفَةً (1) ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ (2) .
فَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمِثْل ثَمَنِهِ مُؤَجَّلاً إِلَى
أَجَلِهِ، لأَِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ بِقَدْرِ الثَّمَنِ
وَصِفَتِهِ، وَالتَّأْجِيل مِنْ صِفَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
لَكِنَّ الشَّفِيعَ لاَ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ إِلاَّ بِشُرُوطٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أَخْذَ الشِّقْصِ
بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِالثَّمَنِ يَوْمَ
الأَْخْذِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ لِيُسْرِهِ يَوْمَ حُلُول الأَْجَل فِي
الْمُسْتَقْبَل، وَلاَ يَكْفِي تَحَقُّقُ يُسْرِهِ يَوْمَ حُلُول الأَْجَل
بِنُزُول جَامَكِيَّةٍ أَوْ مَعْلُومِ وَظِيفَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَل إِذَا
كَانَ يَوْمَ الأَْخْذِ مُعْسِرًا مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمُشْتَرِي، وَلاَ
يُرَاعَى خَوْفُ طُرُوِّ عُسْرِهِ قَبْل حُلُول الأَْجَل إِلْغَاءً
لِلطَّارِئِ، لِوُجُودِ مُصَحِّحِ الْعَقْدِ يَوْمَ الأَْخْذِ وَهُوَ
الْيُسْرُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 147، والشرح الكبير للدردير 3 / 476، وحاشية
الجمل 3 / 505، وكشاف القناع 4 / 159.
(2) حديث جابر رضي الله عنه: " فهو أحق بها بالثمن ". أخرجه أحمد (3 / 310)
ط المكتب الإسلامي وله أصل في الصحيحين.
(39/11)
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّفِيعُ مُوسِرًا
يَوْمَ الأَْخْذِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ أَوْ
بِرَهْنٍ ثِقَةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ
الشَّفِيعُ مُوسِرًا وَقْتَ الأَْخْذِ وَلَمْ يَأْتِ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ
أَوْ رَهْنٍ ثِقَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْجِيل الثَّمَنِ
لِلْمُشْتَرِي وَلَوْ بِبَيْعِ الشِّقْصِ لأَِجْنَبِيٍّ، فَإِنْ لَمْ
يُعَجِّل الثَّمَنَ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ.
لَكِنْ إِذَا تَسَاوَى الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَدَمِ فَلاَ
يَلْزَمُ الشَّفِيعَ حِينَئِذٍ الإِْتْيَانُ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ، وَيَحِقُّ
لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَل،
وَهَذَا عَلَى الْمُخْتَارِ.
وَمُقَابِل الْمُخْتَارِ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ الشَّفِيعُ مُعْدَمًا فَلاَ
يَأْخُذُهُ إِلاَّ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ وَلَوْ كَانَ مُسَاوِيًا
لِلْمُشْتَرِي فِي الْعَدَمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَشَدَّ
عَدَمًا مِنَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِحَمِيلٍ
مَلِيءٍ، فَإِنْ أَبَى أَسْقَطَ الْحَاكِمُ شُفْعَتَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ
مُؤَجَّلاً أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالأَْجَل إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ
مَلِيئًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلِيئًا - بِأَنْ كَانَ مُعْسِرًا - أَقَامَ
كَفِيلاً مَلِيئًا بِالثَّمَنِ وَأَخَذَ الشِّقْصَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 478، وجواهر الإكليل 2 / 158،
159.
(39/12)
بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلاً، لأَِنَّ
الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ بِقَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ،
وَالتَّأْجِيل مِنْ صِفَتِهِ، وَاعْتُبِرَتِ الْمَلاَءَةُ أَوِ الْكَفِيل
دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي (1) .
هَذَا إِذَا كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلاً، فَإِنْ كَانَ
حَالًّا وَعَجَزَ الشَّفِيعُ عَنْهُ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ سَقَطَتْ
شُفْعَتُهُ، وَلَوْ أَتَى الشَّفِيعُ بِرَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ لَمْ يَلْزَمِ
الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهُمَا وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مُحْرَزًا وَالضَّمِينُ
مَلِيئًا، لِمَا عَلَى الْمُشْتَرِي مِنَ الضَّرَرِ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ،
وَالشُّفْعَةُ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلاَ تَثْبُتُ مَعَهُ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ: إِنْ كَانَ
ثَمَنُ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلاً فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ
أَخَذَ بِثَمَنٍ حَالٍّ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَْجَل
ثُمَّ يَأْخُذَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْحَال بِثَمَنٍ
مُؤَجَّلٍ، وَلَيْسَ الرِّضَا بِالأَْجَل فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا
بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلاَءَةِ.
وَقَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل تَنْزِيلاً لَهُ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 160، 161، والمغني 5 / 350.
(2) كشاف القناع 4 / 160، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 232.
(39/12)
مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي، وَلأَِنَّ
كَوْنَهُ مُؤَجَّلاً وَصْفٌ فِي الثَّمَنِ كَالزِّيَافَةِ، وَالأَْخْذُ
بِالشُّفْعَةِ بِالثَّمَنِ، فَيَأْخُذُهُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي
الزُّيُوفِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَأْخُذُهُ بِسِلْعَةٍ لَوْ
بِيعَتْ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَل لَبِيعَتْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ (1) .
ج - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي الضَّمَانِ 5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
(أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) : أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَلاَءَةُ
الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ يَصِحُّ ضَمَانُ كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
حَقٌّ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَسَوَاءٌ
كَانَ مَلِيئًا أَوْ مُفْلِسًا (2) ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ: مَا
رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا
جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ
بِجِنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَل عَلَيْهَا. فَقَال: هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟
قَالُوا: لاَ، قَال: فَهَل تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى
عَلَيْهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُول
اللَّهِ صَل عَلَيْهَا. قَال: هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيل: نَعَمْ، قَال:
فَهَل تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ. فَصَلَّى عَلَيْهَا.
ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا:
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 319، ومغني المحتاج 2 / 301.
(2) بدائع الصنائع 6 / 6، ومنح الجليل 3 / 246، وحاشية الدسوقي 3 / 331،
ومغني المحتاج 2 / 198، 200، وشرح منتهى الإرادات 2 / 248، والمغني 4 /
593.
(39/13)
صَل عَلَيْهَا. قَال: هَل تَرَكَ شَيْئًا؟
قَالُوا: لاَ. قَال: فَهَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلاَثَةُ
دَنَانِيرَ. قَال: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَال أَبُو قَتَادَةَ: صَل
عَلَيْهِ يَا رَسُول اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ (1)
فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَدِينِ الَّذِي لَمْ
يُخَلِّفْ وَفَاءً (2) .
وَعَلَّل أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عَنِ
الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ بِأَنَّ الْمَوْتَ لاَ يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ
لأَِنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ، فَلاَ يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ
عَلَى الْوَفَاءِ، وَلِهَذَا بَقِيَ إِذَا مَاتَ مَلِيئًا حَتَّى تَصِحَّ
الْكَفَالَةُ بِهِ، وَكَذَا بَقِيَتِ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ
مُفْلِسًا (3) .
وَبَنَى الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ - وَهُوَ الْمَدِينُ - لأَِنَّ قَضَاءَ
دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ فَالْتِزَامُهُ أَوْلَى، كَمَا
يَصِحُّ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً (4) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ - إِلَى أَنَّهُ
يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يَكُونَ مَلِيئًا، حَتَّى يَكُونَ
قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُول بِهِ إِمَّا
__________
(1) حديث: " كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة
فقالوا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 467 ط السلفية) .
(2) المراجع السابقة، وتبيين الحقائق 4 / 159 - 160.
(3) بدائع الصنائع 6 / 6، وتبيين الحقائق 4 / 159 - 160.
(4) مغني المحتاج 2 / 200.
(39/13)
بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، وَلِذَلِكَ
لاَ يَصِحُّ عِنْدَهُ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ
الْمُفْلِسِ، لأَِنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْل وَالْمَيِّتُ
عَاجِزٌ عَنِ الْفِعْل، فَكَانَتْ هَذِهِ كَفَالَةً بِدَيْنٍ سَاقِطٍ كَمَا
إِذَا كَفَل عَلَى إِنْسَانٍ بِدَيْنٍ وَلاَ دَيْنَ عَلَيْهِ، وَإِذَا
مَاتَ مَلِيئًا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ (1) .
د - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ 6 - مَنْ كَانَ عَلَيْهِ
دَيْنٌ حَالٌّ وَكَانَ مَلِيئًا مُقِرًّا بِدَيْنِهِ أَوْ عَلَيْهِ
بَيِّنَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الدَّيْنِ حِينَ طَلَبِهِ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ
(2) ، وَبِالطَّلَبِ يَتَحَقَّقُ الْمَطْل، إِذْ لاَ يُقَال: مَطَلَهُ
إِلاَّ إِذَا طَالَبَهُ فَدَافَعَهُ (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ
لِلْقَادِرِ عَلَى الأَْدَاءِ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّلَبِ.
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمْل: يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 6.
(2) حديث: " مطل الغني ظلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 466 ط
السلفية) ، ومسلم (3 / 1197 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
(3) بدائع الصنائع 7 / 173، والاختيار 2 / 89، 90، والهداية 3 / 104،
وتكملة فتح القدير 7 / 278 نشر دار الفكر، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي
3 / 279، ومنح الجليل 3 / 143، ومغني المحتاج 2 / 157، وكشاف القناع 3 /
418، والمغني 4 / 499 - 501.
(39/14)
أَدَاءُ الدَّيْنِ فَوْرًا إِنْ خَافَ
فَوْتَ أَدَائِهِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ إِمَّا بِمَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ
أَوْ بِذَهَابِ مَالِهِ، أَوْ خَافَ مَوْتَ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ طَالَبَهُ
رَبُّ الدَّيْنِ، أَوْ عَلِمَ حَاجَتَهُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ،
ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَارِزِيُّ (1) .
7 - وَإِذَا أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالأَْدَاءِ فَطَلَبَ إِمْهَالَهُ
لِبَيْعِ عُرُوضِهِ لِيُوفِيَ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أُمْهِل
بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، لَكِنْ لاَ يُؤَجَّل إِلاَّ إِذَا أَعْطَى
حَمِيلاً بِالْمَال، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ الْقَادِرِ عَلَى
الْوَفَاءِ سِلْعَةٌ، فَطَلَبَ مِنْ رَبِّ الْحَقِّ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى
يَبِيعَهَا وَيُوفِيَهُ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهَا أُمْهِل بِقَدْرِ ذَلِكَ،
أَيْ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهَا وَالْوَفَاءِ مِنْ
ثَمَنِهَا.
وَكَذَا إِنْ طُولِبَ بِمَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ وَمَالُهُ بِدَارِهِ أَوْ
مُودَعٌ أَوْ بِبَلَدٍ آخَرَ فَيُمْهَل بِقَدْرِ مَا يُحْضِرُهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ أَمْكَنَ الْمَدِينَ أَنْ يَحْتَال لِوَفَاءِ دَيْنِهِ
بِاقْتِرَاضِ وَنَحْوِهِ فَيُمْهَل بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يُحْبَسُ
لِعَدَمِ امْتِنَاعِهِ مِنَ الأَْدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (3) .
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 388.
(2) شرح الدردير وحاشية الدسوقي 3 / 279، وجواهر الإكليل 2 / 92.
(3) سورة البقرة / 286.
(39/14)
وَإِنْ خَافَ رَبُّ الْحَقِّ هَرَبَهُ
احْتَاطَ بِمُلاَزَمَتِهِ أَوْ بِكَفِيلٍ، وَلاَ يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنَ
الْوَفَاءِ بِحَبْسِهِ، لأَِنَّ الْحَبْسَ عُقُوبَةٌ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا
(1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَوْ مَاطَل الْمَدِينُ حَتَّى شَكَاهُ
رَبُّ الْحَقِّ فَمَا غَرِمَهُ فِي شَكْوَاهُ فَعَلَى الْمَدِينِ
الْمُمَاطِل إِذَا كَانَ رَبُّ الْحَقِّ قَدْ غَرِمَهُ عَلَى الْوَجْهِ
الْمُعْتَادِ، لأَِنَّهُ تَسَبَّبَ فِي غُرْمِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ (2) .
8 - وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ الْمَلِيءُ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ
بَعْدَ الطَّلَبِ وَبَعْدَ إِعْطَائِهِ الْمُهْلَةِ لِبَيْعِ عُرُوضِهِ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، أَوْ لَمْ يَأْتِ بِحَمِيلٍ
بِالْمَال كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْبِسُهُ،
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَطْل الْغَنِيِّ
ظُلْمٌ (3) ، فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ
بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (4) . وَالْحَبْسُ
عُقُوبَةٌ كَمَا قَال
__________
(1) كشاف القناع 3 / 418 - 420، وشرح منتهى الإرادات 2 / 275.
(2) كشاف القناع 3 / 419، وشرح منتهى الإرادات 2 / 275.
(3) حديث: " مطل الغني ظلم ". سبق تخريجه ف 6.
(4) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ". أخرجه أبو داود (4 / 45 - 46) ،
والنسائي (7 / 316 ط المكتبة التجارية) ، وابن ماجه (2 / 811 ط عيسى
الحلبي) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وحسن إسناده ابن حجر (فتح
الباري 5 / 62 ط السلفية) .
(39/15)
الْكَاسَانِيُّ وابْنُ قُدَامَةَ (1) .
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْحَبْسَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ
بِطَلَبِ رَبِّ الدَّيْنِ مِنَ الْقَاضِي، فَمَا لَمْ يَطْلُبْ رَبُّ
الدَّيْنِ حَبْسَ الْمَدِينِ الْمُمَاطِل لاَ يُحْبَسُ لأَِنَّ الدَّيْنَ
حَقُّهُ، وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ إِلَى حَقِّهِ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ
الإِْنْسَانِ هِيَ حَقُّهُ، وَحَقُّ الْمَرْءِ إِنَّمَا يُطْلَبُ
بِطَلَبِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ، فَإِذَا طَلَبَ رَبُّ
الدَّيْنِ حَبْسَ الْمَدِينِ - وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي سَبَبُ وُجُوبِ
الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ بِالْحُجَّةِ - حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ
عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالْقَاضِي
نُصِبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهُ (2) .
9 - وَيُشْتَرَطُ لِحَبْسِ الْمَلِيءِ الْمُمَاطِل أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ
سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فَلاَ يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ
وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا، لِقَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (3) ، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (4) ، وَلَيْسَ مِنَ
الْمُصَاحَبَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 173، ومنح الجليل 3 / 143، وكشاف القناع 3 / 419،
والمغني 4 / 501.
(2) بدائع الصنائع 7 / 173.
(3) سورة لقمان / 15.
(4) سورة الإسراء / 23.
(39/15)
بِالْمَعْرُوفِ وَالإِْحْسَانِ حَبْسُهُمَا
بِالدَّيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ مِنَ الإِْنْفَاقِ
عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ
يَحْبِسُهُ، لَكِنْ تَعْزِيرًا لاَ حَبْسًا بِالدَّيْنِ.
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ، لأَِنَّ الْمَانِعَ
مِنَ الْحَبْسِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ.
وَكَذَا سَائِرُ الأَْقَارِبِ، يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ بِدَيْنِ قَرِيبِهِ
كَائِنًا مَنْ كَانَ.
وَيَسْتَوِي فِي الْحَبْسِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ، لأَِنَّ الْمُوجِبَ
لِلْحَبْسِ لاَ يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ.
وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ قَضَاءُ
دَيْنِهِ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَضَاءِ
دَيْنِهِ صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا، فَيُحْبَسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ
فَيَنْدَفِعَ الظُّلْمُ.
لَكِنْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُحْبَسُ الْجَدُّ بِدَيْنِ وَلَدِ
وَلَدِهِ، لأَِنَّ حَقَّهُ دُونَ حَقِّ الأَْبِ (1) .
10 - وَإِذَا حَبَسَ الْحَاكِمُ الْمَدِينَ وَأَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ
عَنِ الْوَفَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ
الْحَاكِمُ بِهِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى
يَسَارِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 173، وجواهر الإكليل 2 / 93، ومغني المحتاج 2 / 156.
(39/16)
أَبَّدَ الْحَاكِمُ حَبْسَهُ لِظُلْمِهِ
(1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُضْرَبُ مَعْلُومُ الْمِلاَءِ مَرَّةً بَعْدَ
مَرَّةٍ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي الْعَدَدِ بِمَجْلِسِ أَوْ مَجَالِسَ،
وَلَوْ أَدَّى إِلَى إِتْلاَفِهِ لِظُلْمِهِ بِاللَّدَدِ دُونَ أَنْ
يَقْصِدَ الْحَاكِمُ إِتْلاَفَهُ، أَمَّا لَوْ ضَرَبَهُ قَاصِدًا
إِتْلاَفَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، قَالُوا: وَلاَ يَبِيعُ مَالَهُ
(2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ امْتَنَعَ الْمُوسِرُ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ
أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الأَْدَاءِ وَكَانَ لَهُ
مَالٌ ظَاهِرٌ - وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ - وَفَّى مِنْهُ، وَإِنْ
كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ بَاعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مَالَهُ -
وَإِنْ كَانَ الْمَال فِي غَيْرِ مَحِل وِلاَيَتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْقَاضِي وَالْقَمُولِيُّ - أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ
بِالتَّعْزِيرِ بِحَبْسِ أَوْ غَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " إِنَّ الأُْسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ
جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَال: سَبَقَ
الْحَاجَّ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ دَانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ
بِهِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ
نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَهُمْ " (3) .
وَلَوِ الْتَمَسَ الْغَرِيمُ مِنَ الْحَاكِمِ الْحَجْرَ عَلَى
__________
(1) الاختيار 2 / 90.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 279، وجواهر الإكليل 2 / 92.
(3) أثر عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: " إن الأسيفع. . . ". أخرجه مالك
في الموطأ (2 / 770 - ط الحلبي) .
(39/16)
مَال الْمُمْتَنِعِ مِنَ الأَْدَاءِ
أُجِيبَ لِئَلاَّ يَتْلَفَ مَالُهُ.
وَإِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ مَالٌ فَأَخْفَاهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَطَلَبَ
غَرِيمُهُ حَبْسَهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ وَعَزَّرَهُ
حَتَّى يُظْهِرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْحَبْسِ وَرَأَى الْحَاكِمُ
ضَرْبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَعَل ذَلِكَ، وَلَوْ زَادَ مَجْمُوعُ الضَّرْبِ
عَلَى الْحَدِّ.
وَلاَ يُعَزِّرُهُ ثَانِيًا حَتَّى يَبْرَأَ مِنَ التَّعْزِيرِ الأَْوَّل
(1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَصَرَّ الْمَدِينُ الْمَلِيءُ عَلَى
الْحَبْسِ وَلَمْ يُؤَدِّ الدَّيْنَ بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ وَقَضَى
دَيْنَهُ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ
عَلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ
عَلَيْهِ (2) .
وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: إِذَا أَصَرَّ الْمَدِينُ عَلَى الْحَبْسِ
وَصَبَرَ عَلَيْهِ ضَرَبَهُ الْحَاكِمُ، قَال فِي الْفُصُول وَغَيْرِهِ:
يَحْبِسُهُ فَإِنْ أَبَى الْوَفَاءَ عَزَّرَهُ، وَيُكَرِّرُ حَبْسَهُ
وَتَعْزِيرَهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: نَصَّ
عَلَيْهِ الأَْئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 157، والمهذب 1 / 327.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ. . . ". أخرجه
الحاكم في المستدرك (2 / 58، 4 / 101) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه. ووافقه الذهبي ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 37) عن عبد الحق
الإشبيلي أنه رجح إرساله.
(39/17)
وَغَيْرِهِمْ وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ
نِزَاعًا، لَكِنْ لاَ يُزَادُ فِي كُل يَوْمٍ عَلَى أَكْثَرِ التَّعْزِيرِ
إِنْ قِيل بِتَقْدِيرِهِ (1) .
هـ - اخْتِلاَفُ الْمَدِينِ وَالْغَرِيمِ فِي الْمَلاَءَةِ
11 - لَوْ أَقَامَ الْغَرِيمُ بَيِّنَةً بِمَلاَءَةِ الْمَدِينِ، أَوِ
ادَّعَى مَلاَءَتَهُ بِلاَ بَيِّنَةٍ، وَأَقَامَ الْمَدِينُ بَيِّنَةً
بِإِعْسَارِهِ، أَوِ ادَّعَى الإِْعْسَارَ بِلاَ بَيِّنَةٍ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تُقْبَل بَيِّنَتُهُ، وَفِيمَنْ يُقْبَل
قَوْلُهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ بَيِّنَةٌ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اخْتَلَفَ الْغَرِيمُ وَالْمَدِينُ فِي
الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ، فَقَال الطَّالِبُ: هُوَ مُوسِرٌ، وَقَال
الْمَطْلُوبُ: أَنَا مُعْسِرٌ، فَإِنْ قَامَتْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ
قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ،
فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ، لأَِنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً
وَهِيَ الْيَسَارُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَدْ ذَكَرَ
مُحَمَّدٌ فِي الْكَفَالَةِ وَالنِّكَاحِ وَالزِّيَادَاتِ أَنَّهُ
يُنْظَرُ: إِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِمُعَاقَدَةٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ
وَالْكَفَالَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالصُّلْحِ عَنِ الْمَال
وَالْخُلْعِ، أَوْ ثَبَتَ تَبَعًا فِيمَا هُوَ مُعَاقَدَةٌ كَالنَّفَقَةِ
فِي بَابِ النِّكَاحِ فَالْقَوْل قَوْل الطَّالِبِ، وَكَذَا فِي الْغَصْبِ
وَالزَّكَاةِ، وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَإِحْرَاقِ
الثَّوْبِ أَوِ الْقَتْل الَّذِي لاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَيُوجِبُ الْمَال
فِي مَال الْجَانِي وَفِي
__________
(1) كشاف القناع 3 / 420، والإنصاف 5 / 276.
(39/17)
الْخَطَأِ فَالْقَوْل قَوْل الْمَطْلُوبِ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ
عِوَضًا عَنْ مَالٍ سَالِمٍ لِلْمُشْتَرِي، نَحْوُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ
الَّذِي سَلَّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَالْقَرْضَ وَالْغَصْبَ وَالسَّلَمَ
الَّذِي أَخَذَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَال فَالْقَوْل قَوْل
الطَّالِبِ، وَكُل دَيْنٍ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ أَصْلاً كَإِحْرَاقِ
الثَّوْبِ، أَوْ لَهُ عِوَضٌ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَل الْخُلْعِ
وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْل قَوْل
الْمَطْلُوبِ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ:
قَال بَعْضُهُمْ: الْقَوْل قَوْل الْمَطْلُوبِ عَلَى كُل حَالٍ وَلاَ
يُحْبَسُ، لأَِنَّ الْفَقْرَ أَصْلٌ فِي بَنِي آدَمَ وَالْغِنَى عَارِضٌ،
فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَطْلُوبِ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ
مَعَ يَمِينِهِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: الْقَوْل قَوْل الطَّالِبِ عَلَى كُل حَالٍ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ
وَاللِّسَانُ (1) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُحَكَّمُ زِيُّهُ: إِذَا كَانَ زِيُّهُ زِيَّ
__________
(1) حديث: " لصاحب الحق اليد واللسان ". أخرجه ابن عدي في الكامل في
الضعفاء (6 / 2281) من حديث أبي عيينة الخولاني رضي الله عنه وضعف أحد
رواته واستنكر له هذا الحديث، ويدل عليه ما أخرجه البخاري من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: " إن لصاحب الحق مقالاً " (فتح الباري 5 / 56
ط السلفية) ومسلم (3 / 1225 ط عيسى الحلبي) .
(39/18)
الأَْغْنِيَاءِ فَالْقَوْل قَوْل
الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْل قَوْل
الْمَطْلُوبِ.
وَعَنْ أَبِي جَعْفَرَ الْهِنْدَوَانِيِّ أَنَّهُ يُحَكَّمُ زِيُّهُ
فَيُؤْخَذُ بِحُكْمِهِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، إِلاَّ إِنْ كَانَ
الْمَطْلُوبُ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَوِ الْعَلَوِيَّةِ أَوِ الأَْشْرَافِ،
لأَِنَّ مِنْ عَادَاتِهِمُ التَّكَلُّفَ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّجَمُّل
بِدُونِ الْغِنَى، فَيَكُونُ الْقَوْل قَوْل الْمَدْيُونِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ
(1) .
وَوَجْهُ مَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقَوْل فِي الشَّرْعِ قَوْل مَنْ
يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، فَإِذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بَدَلاً عَنْ مَالٍ
سُلِّمَ لَهُ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ، لأَِنَّهُ ثَبَتَتْ
قُدْرَةُ الْمَطْلُوبِ بِسَلاَمَةِ الْمَال، وَكَذَا فِي الزَّكَاةِ
فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ إِلاَّ عَلَى الْغَنِيِّ فَكَانَ الظَّاهِرُ
شَاهِدًا لِلطَّالِبِ.
وَوَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الظَّاهِرَ
شَاهِدٌ لِلطَّالِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلاَلَةِ،
وَهُوَ إِقْدَامُهُ عَلَى الْمُعَاقَدَةِ، فَإِنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى
التَّزَوُّجِ دَلِيل الْقُدْرَةِ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ
يَتَزَوَّجُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ، وَلاَ يَتَزَوَّجُ أَيْضًا حَتَّى
يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَهْرِ، وَكَذَا الإِْقْدَامُ عَلَى
الْخُلْعِ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُخَالِعُ عَادَةً حَتَّى يَكُونَ
عِنْدَهَا شَيْءٌ، وَكَذَا الصُّلْحُ لاَ يُقْدِمُ الإِْنْسَانُ عَلَيْهِ
إِلاَّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَكَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 173 - 174.
(39/18)
الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ فِي
هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِمَلاَءَةِ الْمَدِينِ،
وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِعَدَمِ مَلاَءَتِهِ رُجِّحَتْ بَيِّنَةُ الْمَلاَءِ
عَلَى بَيِّنَةِ الْعَدَمِ إِنْ بَيَّنَتْ بَيِّنَةُ الْمَلاَءِ سَبَبَهُ،
بِأَنْ قَالَتْ: لَهُ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِهِ وَقَدْ أَخْفَاهُ، لأَِنَّهَا
بَيِّنَةٌ نَاقِلَةٌ وَمُثْبِتَةٌ وَشَاهِدَةٌ بِالْعِلْمِ. وَقَال ابْنُ
عَرَفَةَ: لَوْ قَالَتْ بَيِّنَةٌ: لَهُ مَالٌ بَاطِنٌ أَخْفَاهُ،
قُدِّمَتِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ تُبَيِّنْ بَيِّنَةُ الْمَلاَءِ سَبَبَ
الْمَلاَءِ رُجِّحَتْ بَيِّنَةُ الْعَدَمِ، سَوَاءٌ بَيَّنَتْ سَبَبَ
الْعَدَمِ أَمْ لاَ.
وَقَال عَلِيٌّ الأُْجْهُورِيُّ: وَالَّذِي جَرَى الْعَمَل بِهِ تَقْدِيمُ
بَيِّنَةِ الْمَلاَءِ وَإِنْ لَمْ تُبَيِّنْ سَبَبَهُ.
وَإِنْ شَهِدَ شُهُودٌ بِعُسْرِ الْمَدِينِ، وَقَالُوا فِي شَهَادَتِهِمْ:
إِنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ لِلْمَدِينِ مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا،
فَإِنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ،
فَيَقُول: بِاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَمْ أَعْرِفْ لِي
مَالاً ظَاهِرًا وَلاَ بَاطِنًا، وَيَزِيدُ: وَإِنْ وَجَدْتُ مَالاً
لأََقْضِيَنَّ مَا عَلَيَّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَا إِعْسَارٍ
وَمَلاَءَةٍ كُلَّمَا شَهِدَتْ إِحْدَاهُمَا جَاءَتِ الأُْخْرَى فَشَهِدَتْ
بِأَنَّهُ فِي الْحَال عَلَى خِلاَفِ مَا شَهِدَتْ بِهِ الأُْولَى، فَهَل
يُقْبَل ذَلِكَ أَبَدًا وَيُعْمَل بِالْمُتَأَخِّرِ؟
__________
(1) المرجع السابق.
(2) جواهر الإكليل 2 / 92 - 93، ومنح الجليل 3 / 144.
(39/19)
أَفْتَى ابْنُ الصَّلاَحُ بِأَنَّهُ
يُعْمَل بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ، إِذَا لَمْ
يَنْشَأْ مِنْ تَكْرَارِهَا رِيبَةٌ، وَلاَ تَكَادُ بَيِّنَةُ الإِْعْسَارِ
تَخْلُو عَنْ رِيبَةٍ إِذَا تَكَرَّرَتْ (1) .
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: إِنِ ادَّعَى الْمَدِينُ الإِْعْسَارَ نُظِرَ،
فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ قَبْل ذَلِكَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ
يَمِينِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْمَال، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ
لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ: إِنَّهُ مُعْسِرٌ، إِلاَّ بِبَيِّنَةِ، لأَِنَّ
الأَْصْل بَقَاءُ الْمَال، فَإِنْ قَال: غَرِيمِي يَعْلَمُ أَنِّي
مُعْسِرٌ، أَوْ أَنَّ مَالِي هَلَكَ فَحَلَّفُوهُ حَلِفَ الْغَرِيمُ،
لأَِنَّ مَا يَدَّعِيهِ مُحْتَمَلٌ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ ادَّعَى الْمَدِينُ الإِْعْسَارَ وَكَذَّبَهُ
غَرِيمُهُ، فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ
يُعْرَفْ: فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ، كَكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ
مُعَاوَضَةٍ كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْل مَالٍ سِوَى
هَذَا فَالْقَوْل قَوْل غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ
الْغَرِيمُ أَنَّهُ ذُو مَالٍ حُبِسَ الْمَدِينُ حَتَّى تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ
بِإِعْسَارِهِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ قَوْل الْغَرِيمِ، فَكَانَ الْقَوْل
قَوْلَهُ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.
فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِ مَالِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ،
سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 156.
(2) المهذب 1 / 327.
(39/19)
أَوْ لَمْ تَكُنْ، لأَِنَّ التَّلَفَ
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَهْل الْخِبْرَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَإِنْ طَلَبَ
الْغَرِيمُ إِحْلاَفَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ لأَِنَّ ذَلِكَ
تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ.
وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِالإِْعْسَارِ مَعَ الشَّهَادَةِ
بِالتَّلَفِ اكْتَفَى بِشَهَادَتِهَا وَثَبَتَتْ عُسْرَتُهُ.
وَإِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْبَيِّنَةُ بِعُسْرَتِهِ وَإِنَّمَا شَهِدَتْ
بِالتَّلَفِ لاَ غَيْرَ، وَطَلَبَ الْغَرِيمُ يَمِينَ الْمَدِينِ عَلَى
عُسْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، اسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ
لأَِنَّهُ غَيْرُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ.
وَإِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْبَيِّنَةُ بِالتَّلَفِ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ
بِالإِْعْسَارِ فَقَطْ لَمْ تُقْبَل الشَّهَادَةُ إِلاَّ مِنْ ذِي خِبْرَةٍ
بَاطِنَةٍ وَمَعْرِفَةٍ مُتَقَادِمَةٍ، لأَِنَّ هَذَا مِنَ الأُْمُورِ
الْبَاطِنَةِ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إِلاَّ أَهْل
الْخِبْرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ (1) ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ
الْمُخَارِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ
تَحِل إِلاَّ لأَِحَدِ ثَلاَثَةٍ. . . وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى
يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ
فُلاَنًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ، قِوَامًا
مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَال: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 499 - 500.
(2) حديث: " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة. . . ". أخرجه مسلم
(2 / 722 ط عيسى الحلبي) .
(39/20)
وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمَدِينِ مَالٌ
الْغَالِبُ بَقَاؤُهُ، كَكَوْنِ الْحَقِّ ثَبَتَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ
مُقَابَلَةِ مَالٍ أَخَذَهُ الْمَدِينُ كَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَقِيمَةِ
مُتْلَفٍ وَمَهْرٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ كَفَالَةٍ أَوْ عِوَضِ خُلْعٍ إِنْ
كَانَ امْرَأَةً، وَادَّعَى الإِْعْسَارَ وَلَمْ يُقِرَّ الْمَدِينُ
أَنَّهُ مَلِيءٌ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ: أَنَّهُ لاَ مَال لَهُ وَيُخَلَّى
سَبِيلُهُ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْمَال.
فَإِنْ أَنْكَرَ رَبُّ الدَّيْنِ إِعْسَارَ الْمَدِينِ، وَأَقَامَ
بَيِّنَةً بِقُدْرَةِ الْمَدِينِ عَلَى الْوَفَاءِ، فَإِنَّ الْمَدِينَ
يُحْبَسُ لِثُبُوتِ مَلاَءَتِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ رَبُّ الدَّيْنِ: أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ عُسْرَةَ الْمَدِينِ،
أَوْ حَلَفَ رَبُّ الدَّيْنِ: أَنَّ الْمَدِينَ مُوسِرٌ، أَوْ ذُو مَالٍ،
أَوْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْوَفَاءِ حُبِسَ الْمَدِينُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ
عُسْرَتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ رَبُّ الدَّيْنِ بَعْدَ سُؤَال الْمَدِينِ حَلَّفَهُ
أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ عُسْرَتَهُ، حَلَفَ الْمَدِينُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ
وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْمَال، إِلاَّ أَنْ
يُقِيمَ رَبُّ الدَّيْنِ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ
يَسَارِهِ فَيُحْبَسُ الْمَدِينُ (1) .
و أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي مَنْعِ الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ 12 - ذَهَبَ
الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ، فَإِنْ
كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَكَانَ الْمَدِينُ مَلِيئًا كَانَ مِنْ حَقِّ
الْغَرِيمِ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 421، والمغني 4 / 501.
(39/20)
إِلَيْهِ دَيْنَهُ، وَذَلِكَ - كَمَا
يَقُول الشَّافِعِيَّةُ - بِأَنْ يُشْغِلَهُ عَنِ السَّفَرِ بِرَفْعِهِ
إِلَى الْحَاكِمِ وَمُطَالَبَتِهِ حَتَّى يُوفِيَهُ دَيْنَهُ، لأَِنَّ
أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ بِخِلاَفِ السَّفَرِ، لَكِنْ قَال
الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ اسْتَنَابَ مَنْ يُوفِيهِ عَنْهُ مِنْ مَال
الْحَاضِرِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ (1) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْغَرِيمِ مَنْعُ
الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ مَا دَامَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً.
قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ يُمْنَعُ الْمَدِينُ مِنَ السَّفَرِ قَبْل حُلُول
الأَْجَل، سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أَوْ قَرُبَ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ
مُطَالَبَتَهُ قَبْل حَل الأَْجَل وَلاَ يُمْكِنُ مَنْعُهُ، وَلَكِنْ لَهُ
أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا حَل الأَْجَل مَنَعَهُ مِنَ الْمُضِيِّ
فِي سَفَرِهِ إِلَى أَنْ يُوفِيَهُ دَيْنَهُ (2) .
وَقَال الشَّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: أَمَّا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل فَلَيْسَ
لِلْغَرِيمِ مَنْعُ الْمَدِينِ مِنَ السَّفَرِ وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ
مَخُوفًا كَجِهَادٍ، أَوْ كَانَ الأَْجَل قَرِيبًا، إِذْ لاَ مُطَالَبَةَ
بِهِ فِي الْحَال، وَلاَ يُكَلِّفُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل
رَهْنًا وَلاَ كَفِيلاً وَلاَ إِشْهَادًا، لأَِنَّ صَاحِبَهُ هُوَ
الْمُقَصِّرُ حَيْثُ رَضِيَ بِالتَّأْجِيل مِنْ غَيْرِ رَهْنٍ وَكَفِيلٍ،
وَلَكِنْ لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 173، ومنح الجليل 3 / 117، ومغني المحتاج 2 / 157،
وكشاف القناع 3 / 418.
(2) بدائع الصنائع 7 / 173.
(39/21)
أَنْ يُصَاحِبَهُ فِي السَّفَرِ
لِيُطَالِبَهُ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُلاَزِمَهُ
مُلاَزَمَةَ الرَّقِيبِ لأَِنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِهِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ
الْمُؤَجَّل يَحِل أَثْنَاءَ سَفَرِ الْمَدِينِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ
لاَ يَحِل أَثْنَاءَ سَفَرِهِ، فَقَالُوا: لِلْغَرِيمِ مَنْعُ الْمَدِينِ
مِنَ السَّفَرِ إِنْ حَل الدَّيْنُ بِغَيْبَتِهِ وَكَانَ مُوسِرًا وَلَمْ
يُوَكِّل مَلِيئًا عَلَى الْقَضَاءِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ مُوسِرٌ، فَإِنْ
كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا أَوْ وَكَّل مَلِيئًا يَقْضِي الدَّيْنَ فِي
غَيْبَتِهِ مِنْ مَالِهِ أَوْ ضَمِنَهُ مَلِيءٌ فَلَيْسَ لِغَرِيمِهِ
مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ.
فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لاَ يَحِل بِغَيْبَتِهِ فَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ
مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ.
قَال اللَّخْمِيُّ: مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ
قَبْل حُلُولِهِ فَلاَ يُمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ إِذَا بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ
قَدْرُ سَيْرِهِ وَرُجُوعِهِ، وَكَانَ لاَ يُخْشَى لَدَدُهُ وَمَقَامُهُ،
فَإِنْ خُشِيَ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ عُرِفَ بِاللَّدَدِ فَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ
السَّفَرِ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِحَمِيل، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَهُ
عَقَارٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطَى حَمِيلاً بِالْقَضَاءِ
أَوْ وَكِيلاً بِالْبَيْعِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَرَادَ الْمَدِينُ سَفَرًا طَوِيلاً فَوْقَ
مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَيَحِل الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل قَبْل
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 157.
(2) منح الجليل 3 / 116 - 117، وجواهر الإكليل 2 / 87.
(39/21)
فَرَاغِهِ مِنَ السَّفَرِ أَوْ يَحِل
بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا أَوْ غَيْرَ مَخُوفٍ،
وَلَيْسَ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ يَفِي بِهِ وَلاَ كَفِيلٌ مَلِيءٌ
بِالدَّيْنِ، فَلِغَرِيمِهِ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ، لأَِنَّ عَلَيْهِ
ضَرَرًا فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْ مَحِلِّهِ، وَقُدُومُهُ عِنْدَ
الْمَحِل غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ وَلاَ ظَاهِرٌ فَمَلَكَ مَنْعَهُ، لَكِنْ
إِذَا وَثَّقَ الْمَدِينُ الدَّيْنَ بِرَهْنٍ يُحْرِزُ الدَّيْنَ أَوْ
كَفِيلٍ مَلِيءٍ فَلاَ يُمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ لاِنْتِفَاءِ الضَّرَرِ.
وَلَوْ أَرَادَ الْمَدِينُ وَضَامِنُهُ مَعًا السَّفَرَ فَلِلْغَرِيمِ
مَنْعُهُمَا إِلاَّ إِذَا تَوَثَّقَ الدَّيْنُ بِرَهْنٍ مُحْرَزٍ أَوْ
كَفِيلٍ مَلِيءٍ.
لَكِنْ إِذَا كَانَ سَفَرُ الْمَدِينِ لِجِهَادِ مُتَعَيَّنٍ فَلاَ
يُمْنَعُ مِنْهُ بَل يُمَكَّنُ مِنَ السَّفَرِ لِتَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ إِذَا أَحْرَمَ الْمَدِينُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَرْضًا
أَوْ نَفْلاً فَلاَ يُحَلِّلُهُ الْغَرِيمُ مِنْ إِحْرَامِهِ لِوُجُوبِ
إِتْمَامِهِمَا بِالشُّرُوعِ (1) .
ز - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ 13 - ذَهَبَ
الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا
بِحَسَبِ يَسَارِهِ وَيَسَارِهَا، فَتَجِبُ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ إِذَا
كَانَا مُوسِرَيْنِ، وَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ إِذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ،
وَنَفَقَةُ الْوَسَطِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا.
__________
(1) كشاف القناع 3 / 417، 418، وشرح منتهى الإرادات 2 / 274.
(39/22)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} (1) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (2)
.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٌ) .
ح - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الأَْقَارِبِ 14 - الأَْصْل
فِي النَّفَقَةِ عَلَى الأَْقَارِبِ - كَالْوَالِدَيْنِ وَالأَْبْنَاءِ -
الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا} (4) ، وَمِنَ الإِْحْسَانِ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ
حَاجَتِهِمَا. وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (5) .
__________
(1) سورة الطلاق / 7.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 645، وجواهر الإكليل 1 / 402، والمغني 7 / 564.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) سورة الإسراء / 23.
(5) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 /
507 ط السلفية) ومسلم (3 / 1338 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها
واللفظ للبخاري.
(39/22)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَال ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ
الْوَالِدَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ لاَ كَسْبَ لَهُمَا وَلاَ مَال
وَاجِبَةٌ فِي مَال الْوَلَدِ. وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ يَسَارُ
الْمُنْفِقِ، وَإِعْسَارُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَاحْتِيَاجُهُ إِلَى
النَّفَقَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي أَصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ النَّفَقَةُ، وَهَل
الأَْصْل الْمَلاَءَةُ فِيمَنْ طُولِبَ بِالنَّفَقَةِ فَإِذَا ادَّعَى
الْعَدَمَ فَعَلَيْهِ الإِْثْبَاتُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِل
تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 370، وجواهر الإكليل 1 / 407، ومغني المحتاج 3 /
447، والمغني 7 / 582 - 583.
(39/23)
مُلاَزَمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُلاَزَمَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفِعْل: لاَزَمَ،
يُقَال: لاَزَمْتُ الْغَرِيمَ مُلاَزَمَةً: تَعَلَّقْتُ بِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَبْسُ:
2 - الْحَبْسُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ وَالإِْمْسَاكُ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنَ
التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وَالْخُرُوجُ إِلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ
الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ (3) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمُلاَزَمَةِ وَالْحَبْسِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
إِجْرَاءٌ يُتَّخَذُ لِلتَّوَصُّل إِلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ.
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) المصباح المنير.
(3) بدائع الصنائع 7 / 174.
(39/23)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالْمُلاَزَمَةِ:
أ - حُكْمُ مُلاَزَمَةِ الْمَدِينِ 3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ أَصْل مُلاَزَمَةِ الْمَدِينِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ جَوَازِهَا.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةُ وَصَاحِبَاهُ: إِلَى أَنَّ لِلدَّائِنِ
مُلاَزَمَةَ الْمَدِينِ، وَإِنْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ عِنْدَ الْقَاضِي،
وَلَيْسَ لِلْقَاضِي مَنْعُ الدَّائِنِ عَنْ مُلاَزَمَةِ مَدِينِهِ،
وَقَالُوا: لأَِنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِالْمُلاَزَمَةِ مِنْ حَمْل الْمَدِينِ
عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ (1) ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ (2) .
وَقَالُوا: أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِالْيَدِ:
الْمُلاَزَمَةَ، وَبِاللِّسَانِ: التَّقَاضِي.
وَقَالُوا وَإِذَا كَانَ الْمَدِينُ امْرَأَةً لاَ يُلاَزِمُهَا مَنْعًا
مِنَ الْخَلْوَةِ بِالأَْجْنَبِيَّةِ، وَيَسْتَأْجِرُ امْرَأَةً
تُلاَزِمُهَا (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 200، وابن عابدين 4 / 315 - 320.
(2) حديث: " لصاحب الحق اليد واللسان ". أخرجه ابن عدي في الكامل (6 /
2281) من حديث أبي عيينة الخولاني، وضعف ابن عدي أحد رواته. وعند البخاري
(فتح الباري 5 / 56 ط السلفية) ومسلم (3 / 1225) " إن لصاحب الحق مقالاً ".
(3) تبيين الحقائق 5 / 200، وابن عابدين 4 / 315 - 321.
(39/24)
الْمَدِينِ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَيْسَ
لأَِحَدٍ مُطَالَبَتُهُ وَلاَ مُلاَزَمَتُهُ، بَل يُمْهَل حَتَّى يُوسِرَ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ} (1) .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَتْ
دُيُونُهُ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (2) .
وَلأَِنَّ مَنْ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مُلاَزَمَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، وَمَنْ وَجَبَ
إِنْظَارُهُ بِالنَّصِّ حَرُمَتْ مُلاَزَمَتُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ
يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ عِنْدَ الْقَاضِي فَيَجُوزُ مُلاَزَمَتُهُ (3) .
هَذَا وَلَمْ نَقِفْ فِيمَا تَيَسَّرَ لَنَا اطِّلاَعُهُ مِنْ كُتُبِ
الْمَالِكِيَّةِ ذِكْرًا لِلْمُلاَزَمَةِ.
ب - طَرِيقَةُ الْمُلاَزَمَةِ
4 - طَرِيقَةُ الْمُلاَزَمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ: أَنْ
يَتَتَبَّعَ الدَّائِنُ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ الْمَدِينَ، فَيَذْهَبُ
حَيْثُمَا ذَهَبَ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ
بِالدُّخُول دَخَل مَعَهُ، وَإِلاَّ انْتَظَرَهُ عَلَى الْبَابِ
لِيُلاَزِمَهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْجِزَهُ فِي
مَكَانٍ خَاصٍّ، لأَِنَّ ذَلِكَ حَبْسٌ وَهُوَ أَمْرٌ
__________
(1) سورة البقرة / 270.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب. . . ".
أخرجه مسلم (3 / 1191) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) مغني المحتاج 2 / 156، والمغني 4 / 598.
(39/24)
لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْقَاضِي، بَل
يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا يَشَاءُ هُوَ، لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ
مِنْ حَمْل الْمَدِينِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلِلْحَدِيثِ السَّابِقِ:
لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ (1) .
وَتَكُونُ الْمُلاَزَمَةُ فِي النَّهَارِ لاَ لَيْلاً، لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِوَقْتِ الْكَسْبِ فَلاَ يُتَوَهَّمُ وُقُوعُ مَالٍ فِي يَدِهِ،
فَالْمُلاَزَمَةُ لاَ تُفِيدُ (2) .
وَكَذَا كُل وَقْتٍ لاَ يُتَوَهَّمُ وُقُوعُ مَالٍ فِي يَدِهِ فِيهِ
كَوَقْتِ مَرَضِهِ.
ج - حَقُّ مُلاَزَمَةِ الْمَكْفُول لَهُ الْكَفِيل
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا غَابَ الْمَكْفُول عَنْهُ وَعَجَزَ
الْكَفِيل عَنْ إِحْضَارِهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَلِلْمَكْفُول لَهُ
مُلاَزَمَةُ الْكَفِيل، كَالدَّائِنِ مَعَ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ تَمَامًا
(3) .
د - حَقُّ الْمُحَال فِي مُلاَزَمَةِ الْمُحَال عَلَيْهِ
6 - يَجُوزُ لِلْمُحَال مُلاَزَمَةُ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ
لَهُ هَذَا الْحَقُّ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ، فَلِلْمُحَال عَلَيْهِ أَنْ
يُلاَزِمَ الْمُحِيل، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مُلاَزَمَةِ الْمُحَال.
__________
(1) حديث: " لصاحب الحق. . . " سبق تخريجه ف (3) .
(2) تبيين الحقائق 5 / 200، وحاشية ابن عابدين 4 / 315 - 320 - 321.
(3) تبيين الحقائق 4 / 148، وحاشية ابن عابدين 4 / 256.
(39/25)
وَالتَّفْصِيل فِي (حَوَالَةٌ ف وَمَا بَعْدَهَا) .
مُلاَعَنَةٌ
انْظُرْ: لِعَانٌ. |