الموسوعة
الفقهية الكويتية مُلاَمَسَةٌ
انْظُرْ: بَيْعُ الْمُلاَمَسَةِ.
مَلاَهِي
انْظُرْ: لَهْوٌ.
(39/25)
مُلْتَزَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُلْتَزَمُ بِفَتْحِ الزَّايِ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ فِعْل
الْتَزَمَ، يُقَال: الْتَزَمْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: اعْتَنَقْتُهُ فَهُوَ
مُلْتَزَمٌ، وَمِنْهُ يُقَال لِمَا بَيْنَ بَابِ الْكَعْبَةِ وَالْحَجَرِ
الأَْسْوَدِ: الْمُلْتَزَمُ، لأَِنَّ النَّاسَ يَعْتَنِقُونَهُ، أَيْ:
يَضُمُّونَهُ إِلَى صُدُورِهِمْ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُلْتَزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي بِهِ
الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ إِلَى بَابِ الْكَعْبَةِ مِنْ حَائِطِ الْكَعْبَةِ
الْمُشَرَّفَةِ، وَعَرْضُهُ عُلُوُّ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ (2) ، وَقَال
الرُّحَيْبَانِيُّ: مِسَاحَتُهُ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ بِذِرَاعِ
الْيَدِ (3) .
وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْتَزَمَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ مَلَكًا يُؤَمِّنُ عَلَى الدُّعَاءِ
(4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) ابن عابدين 2 / 170، والحطاب 3 / 112، والقليوبي 2 / 108، وكشاف القناع
2 / 513، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 438.
(4) القليوبي 2 / 108. وحديث أن هناك ملكًا يؤمن على الدعاء لم نهتد لمن
أخرجه من مصادر السُّنَّة.
(39/26)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَلْتَزِمَ الطَّائِفُ الْمُلْتَزَمَ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ اقْتِدَاءً
بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ: فَلَمَّا جِئْنَا
دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلاَ تَتَعَوَّذُ؟ قَال: نَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنَ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَأَقَامَ بَيْنَ
الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ
وَكَفَّيْهِ هَكَذَا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا، ثُمَّ قَال: هَكَذَا رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْتِزَامِ
الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَيْضًا (2) .
وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ
الطَّوَافِ مُطْلَقًا (3) .
__________
(1) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه قال: " طفت مع عبد الله فلما جئنا دبر
الكعبة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 452) ، وأعله المنذري في مختصر السنن
(2 / 386) بضعف الراوي عن عمرو بن شعيب.
(2) ابن عابدين 2 / 170، 187، وفتح القدير 2 / 360، 398 ط دار إحياء التراث
الإسلامي، والحطاب 3 / 112، وحاشية الجمل 2 / 441، 478، وكشاف القناع 3 /
513، والمغني 3 / 462.
(3) القليوبي 2 / 108.
(39/26)
كَيْفِيَّةُ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ
وَالدُّعَاءِ فِيهِ
3 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ
أَنْ يُلْصِقَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ بِجِدَارِ الْبَيْتِ، وَيَضَعَ خَدَّهُ
الأَْيْمَنَ عَلَيْهِ، وَيَبْسُطَ ذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ، بِحَيْثُ
تَكُونُ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى الْبَابِ وَالْيُسْرَى إِلَى الرُّكْنِ،
وَيَتَعَلَّقُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ عَبْدٌ ذَلِيلٌ
بِطَرْفِ ثَوْبٍ لِمَوْلَى جَلِيلٍ كَالْمُتَشَفِّعِ بِهَا، وَدَعَا حَال
تَثَبُّتِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالأَْسْتَارِ مُجْتَهِدًا مُتَضَرِّعًا،
مُتَخَشِّعًا، مُكَبِّرًا، مُهَلِّلاً، مُصَلِّيًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَبْكِي أَوْ يَتَبَاكَى، وَلَوْ لَمْ يَنَل
الأَْسْتَارَ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى
الْجِدَارِ قَائِمَتَيْنِ، وَالْتَصَقَ بِالْجِدَارِ، وَدَعَا بِمَا شَاءَ
وَبِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) ، وَمِنْهُ:
اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ وَأَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ
أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِي مِنْ خَلْقِكَ،
وَسَيَّرْتَنِي فِي بِلاَدِكَ حَتَّى بَلَّغَتْنِي بِنِعْمَتِكَ إِلَى
بَيْتِكَ، وَأَعَنْتَنِي عَلَى أَدَاءِ نُسُكِي، فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ
عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، وَإِلاَّ فَمِنَ الآْنَ قَبْل أَنْ تَنْأَى
عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، فَهَذَا أَوَانُ الْفِرَاقِ إِنْ أَذِنْتَ لِي
غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلاَ بِبَيْتِكَ، وَلاَ رَاغِبٍ عَنْكَ وَلاَ
عَنْ بَيْتِكَ، اللَّهُمَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 170 - 187، وفتح القدير 2 / 360 - 398، والحطاب 3
/ 112، وحاشية الجمل 2 / 441، 478، وكشاف القناع 3 / 513، والمغني 3 / 462.
(39/27)
فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي،
وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ
مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَكَ أَبَدًا مَا أَبْقَيْتَنِي، وَاجْمَعْ
لِي بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُل شَيْءٍ
قَدِيرٌ. وَإِنْ أَحَبَّ دَعَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقْتُ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الْتِزَامِ الْمُلْتَزَمِ، فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
وَالْمَشْهُورِ مِنَ الرِّوَايَاتِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، قَبْل الْخُرُوجِ
إِلَى الصَّفَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ أَنْ يَلْتَزِمَ قَبْل الصَّلاَةِ.
وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ
الأَْسْهَل وَالأَْفْضَل وَعَلَيْهِ الْعَمَل (2) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 5 13، 514، والمغني 3 / 462.
(2) ابن عابدين 2 / 170، والحطاب 3 / 112، والقليوبي 2 / 108، والمغني 3 /
462.
(39/27)
مِلْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِلْحُ فِي اللُّغَةِ: مَا يَطِيبُ بِهِ الطَّعَامُ، يُؤَنَّثُ
وَيُذَكَّرُ، وَالتَّأْنِيثُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَالْجَمْعُ مِلاَحٌ -
بِالْكَسْرِ (1) -.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِلْحِ:
أ - التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالْمِلْحِ
2 - قَال الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بِمَاءٍ يَنْعَقِدُ بِهِ مِلْحٌ، لاَ بِمَاءٍ حَاصِلٍ بِذَوَبَانِ مِلْحٍ،
لِبَقَاءِ الأَْوَّل عَلَى طَبِيعَتِهِ الأَْصْلِيَّةِ وَانْقِلاَبِ
الثَّانِي إِلَى طَبِيعَتِهِ الْمِلْحِيَّةِ (3) .
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ: وَلاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بِمَاءِ الْمِلْحِ، وَهُوَ مَا يَجْمُدُ فِي الصَّيْفِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 4 / 396 ط مؤسسة الرسالة، والآداب
الشرعية لابن مفلح 3 / 59 - 60.
(3) الدر المختار 1 / 121.
(39/28)
وَيَذُوبُ فِي الشِّتَاءِ عَكْسُ الْمَاءِ،
وَأَقَرَّهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ وَالْمَقْدِسِيُّ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ بِمَاءِ الْمِلْحِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ انْعَقَدَ مِلْحًا
ثُمَّ ذَابَ أَوْ لاَ، وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - كَمَا نَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ
ابْنِ أَبِي زَيْدٍ - أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالْمِلْحِ لاَ يَضُرُّ
وَلَوْ طُرِحَ قَصْدًا. وَقَال الْقَابِسِيُّ: إِنَّهُ كَالطَّعَامِ
فَيَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ يُونُسَ.
وَقَال الْبَاجِيُّ: الْمِلْحُ الْمَعْدِنِيُّ لاَ يَسْلُبُ
الطَّهُورِيَّةَ، وَالْمَصْنُوعُ كَالطَّعَامِ يَسْلُبُهُ. وَنَقَل
الْحَطَّابُ عَنْ سَنَدٍ أَنَّ الْمِلْحَ الْمَعْدِنِيَّ يَضُرُّ لأَِنَّهُ
طَعَامٌ فَيَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ، وَالْمَصْنُوعُ لاَ يَضُرُّ، لأَِنَّ
أَصْلَهُ التُّرَابُ فَلاَ يَسْلُبُ، الطَّهُورِيَّةَ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالْمِلْحِ
أَوْجُهٌ:
أَصَحُّهَا: يَسْلُبُ الْمِلْحُ الْجَبَلِيُّ الطَّهُورِيَّةَ مِنْهُ دُونَ
الْمَائِيِّ.
وَالثَّانِي: يَسْلُبَانِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 121، والفتاوى الهندية 1 / 21.
(2) الشرح الصغير 1 / 32، 33، والحطاب 1 / 57، 58، والدسوقي 1 / 37.
(39/28)
وَالثَّالِثُ: لاَ يَسْلُبَانِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّطَهُّرُ بِمَاءٍ مُتَغَيِّرٍ
بِالْمِلْحِ الْمَائِيِّ، وَلاَ يَسْلُبُ خَلْطُ هَذَا الْمِلْحِ
بِالْمَاءِ طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ، لأَِنَّ أَصْلَهُ الْمَاءُ، بِخِلاَفِ
الْمِلْحِ الْمَعْدِنِيِّ فَيَسْلُبُهُ الطَّهُورِيَّةَ (2) ، وَقَالُوا:
الْمَاءُ الَّذِي خُلِطَ فِيهِ مِلْحٌ مَعْدِنِيٌّ فَغَيَّرَهُ طَاهِرٌ (3)
.
ب - التَّيَمُّمُ بِالْمِلْحِ
3 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
التَّيَمُّمُ بِالْمِلْحِ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُمْ
إِلاَّ بِالتُّرَابِ (4) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمِلْحَ الْمَائِيَّ لاَ يَجُوزُ
التَّيَمُّمُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ جَبَلِيًّا فَفِي التَّيَمُّمِ
بِهِ رِوَايَتَانِ صُحِّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَلَكِنِ الْفَتْوَى عَلَى
الْجَوَازِ (5) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِلْحَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ
مَا دَامَ فِي مَوْضِعِهِ (مَعْدِنِهِ) أَمَّا إِنْ نُقِل مِنْ مَحِلِّهِ
وَصَارَ مَالاً فِي أَيْدِي النَّاسِ فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ (6)
.
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 11، والمجموع 1 / 102.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 13، والمغني 1 / 13.
(3) كشاف القناع 1 / 31.
(4) المجموع 2 / 212، وكشاف القناع 1 / 172.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 27.
(6) الشرح الصغير 1 / 196.
(39/29)
ج - كَوْنُ الْمِلْحِ مَالاً رِبَوِيًّا 4
- الْمِلْحُ مِنَ الأَْعْيَانِ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا
فِيهَا (1) ، فَقَدْ رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ،
وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ
بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءِ، عَيْنًا
بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى (2) . وَلِلتَّفْصِيل
(ر: رِبًا ف 17) .
__________
(1) المجموع 9 / 392، والمغني 4 / 4، والاختيار 2 / 30، والقوانين الفقهية
ص 253، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 348.
(2) حديث عبادة: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب
بالذهب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1210) .
(39/29)
مِلْطَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِلْطَاءُ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالْمَدِّ فِي لُغَةِ
الْحِجَازِ، وَبِالأَْلِفِ فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ، هِيَ: السِّمْحَاقُ
بِكَسْرِ السِّينِ، وَالسِّمْحَاقُ: قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ فَوْقَ عَظْمِ
الرَّأْسِ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمِلْطَاءَ
هِيَ السِّمْحَاقُ، أَوْ هِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَخْرِقُ اللَّحْمَ
حَتَّى تَدْنُوَ مِنَ الْعَظْمِ.
وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: هِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي
أَزَالَتِ اللَّحْمَ وَقَرُبَتْ لِلْعَظْمِ وَلَمْ تَصِل إِلَيْهِ، بَل
بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سِتْرٌ رَقِيقٌ.
وَالسِّمْحَاقُ مَا كَشَطَتِ الْجِلْدَ عَنِ اللَّحْمِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 251، والشرح الصغير 4 / 350، والزيلعي 3 / 132،
والقليوبي 4 / 112، والمطلع على أبواب المقنع ص 367 ط المكتب الإسلامي.
(39/30)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّمْحَاقُ:
2 - السِّمْحَاقُ بِكَسْرِ السِّينِ فِي اللُّغَةِ: قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ
فَوْقَ عَظْمِ الرَّأْسِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْمَالِكِيَّةُ: السِّمْحَاقُ هِيَ كَشْطَةُ
الْجِلْدِ، أَيْ إِزَالَتُهُ عَنْ مَحِلِّهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِلْطَاءِ وَالسِّمْحَاقِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ
السِّمْحَاقَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجِلْدِ،
وَالْمِلْطَاءَ مِنَ الْجِرَاحَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّحْمِ (3) .
وَأَمَّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَالْمِلْطَاءُ وَالسِّمْحَاقُ
مُتَرَادَفَانِ (4) كَمَا سَبَقَ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ فِي
الْمِلْطَاءِ، أَيِ السِّمْحَاقِ دِيَةٌ وَلاَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ
__________
(1) لسان العرب.
(2) الدسوقي 4 / 251.
(3) المرجع السابق.
(4) الاختيار 5 / 42، والقليوبي 4 / 112، والمطلع على أبواب المقنع ص 367.
(39/30)
عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا
حُكُومَةُ عَدْلٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَقَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَجِبُ فِي عَمْدِهَا الْقِصَاصُ لإِِمْكَانِ
ضَبْطِهَا (1) .
__________
(1) الاختيار 5 / 42، والزيلعي 3 / 132، وحاشية الدسوقي 4 / 251، والقليوبي
4 / 112، والمطلع على أبواب المقنع ص 367.
(39/31)
مِلْكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِلْكُ لُغَةً - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا -: هُوَ
احْتِوَاءُ الشَّيْءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الاِسْتِبْدَادِ بِهِ
وَالتَّصَرُّفُ بِانْفِرَادِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ الْمُحْدَثُونَ بِلَفْظِ
الْمِلْكِيَّةِ عَنِ الْمِلْكِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَبْلَهُمْ
يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْمِلْكِ.
وَقَدْ عَرَّفَ الْقَرَافِيُّ الْمِلْكَ - بِاعْتِبَارِهِ حُكْمًا
شَرْعِيًّا - فَقَال: الْمِلْكُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُقَدَّرٌ فِي الْعَيْنِ
أَوِ الْمَنْفَعَةِ، يَقْتَضِي تَمَكُّنَ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مِنَ
انْتِفَاعِهِ بِالْمَمْلُوكِ وَالْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ
(2) .
وَقَال ابْنُ الشَّاطِ: الْمِلْكُ هُوَ تَمَكُّنُ الإِْنْسَانِ شَرْعًا
بِنَفْسِهِ أَوْ بِنِيَابَةِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ أَوْ
بِالْمَنْفَعَةِ وَمِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ، أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنَ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) الفروق 3 / 209.
(39/31)
الاِنْتِفَاعِ خَاصَّةً (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَقُّ:
2 - يُطْلَقُ الْحَقُّ لُغَةً عَلَى نَقْضِ الْبَاطِل وَعَلَى الْحَظِّ،
وَالنَّصِيبِ، وَالثَّابِتِ وَالْمَوْجُودِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي لاَ
يَنْبَغِي إِنْكَارُهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاجِبِ الثَّابِتِ الَّذِي يَشْمَل
حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ الْعِبَادِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْمِلْكِ: أَنَّ الْحَقَّ أَعَمُّ مِنَ
الْمِلْكِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِلْكِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
حُرْمَةُ الْمِلْكِ فِي الإِْسْلاَمِ
3 - صَانَ الإِْسْلاَمُ الْمِلْكَ، فَحَرَّمَ الاِعْتِدَاءَ
__________
(1) إدرار الشروق على أنواء الفروق بهامش الفروق 3 / 209.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير.
(3) الموافقات للشاطبي 2 / 218 - 219 ط دار المعرفة بيروت، وتيسير التحرير،
2 / 175 ط الحلبي، وكشف الأسرار 4 / 136 ط دار الكتاب العربي، وشرح التلويح
2 / 140 ط الحلبي، وقواعد ابن رجب ص 188 - 195 ط الكليات الأزهرية.
(39/32)
عَلَيْهِ، وَالأَْدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ
كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (1) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل}
(2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ (3) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل
النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ
(4) .
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْقَاعِدَةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَنَّ
الْمُلاَّكَ مُخْتَصُّونَ بِأَمْلاَكِهِمْ، لاَ يُزَاحِمُ أَحَدٌ مَالِكًا
فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، ثُمَّ الضَّرُورَةُ تُحْوِجُ
مُلاَّكَ الأَْمْوَال إِلَى التَّبَادُل فِيهَا. . . فَالأَْمْرُ الَّذِي
لاَ شَكَّ فِيهِ تَحْرِيمُ التَّسَالُبِ وَالتَّغَالُبِ وَمَدِّ الأَْيْدِي
إِلَى أَمْوَال
__________
(1) سورة البقرة / 188.
(2) سورة النساء / 29.
(3) حديث: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ". أخرجه البخاري
(الفتح 10 / 7 - 8) ومسلم (3 / 1305 - 1306) من حديث أبي بكرة.
(4) حديث: " أمرت أن أقاتل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 75) من
حديث ابن عمر.
(39/32)
النَّاسِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ (1) ،
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالرَّجُل أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ
وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (2) .
وَقَدْ جَعَل الإِْسْلاَمُ مِلْكَ الأَْمْوَال اسْتِخْلاَفًا وَمِنْحَةً
رَبَّانِيَّةً، لأَِنَّ الْمَالِكَ الْحَقِيقِيَّ لِلأَْمْوَال هُوَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ أَعْطَى لِلإِْنْسَانِ حَقَّ التَّمَلُّكِ
وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الأَْمْوَال، قَال تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا
جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (3) وَقَال تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ
مَال اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (4) .
وَالآْيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَقِيل فِي تَفْسِيرِهَا:
إِنَّ الأَْمْوَال الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ إِنَّمَا هِيَ أَمْوَال اللَّهِ
بِخَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا خَوَّلَكُمُ الاِسْتِمْتَاعَ
بِهَا، وَجَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَلَيْسَتْ هِيَ
بِأَمْوَالِكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهَا إِلاَّ
بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلاَءِ (5) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فِي الأَْمْوَال
حُقُوقًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِلأَْقَارِبِ وَنَحْوِهِمْ.
__________
(1) الغياثي لإمام الحرمين ص 494 - 495، تحقيق د. عبد العظيم الديب. ط قطر.
(2) مجموع الفتاوى 29 / 189 ط الرياض.
(3) سورة الحديد / 7.
(4) سورة النور / 33.
(5) تفسير الكشاف للزمخشري 4 / 61 ط مصطفى الحلبي.
(39/33)
أَقْسَامُ الْمِلْكِ:
لِلْمِلْكِ أَقْسَامٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
- فَهُوَ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ: إمَّا مِلْكٌ تَامٌّ أَوْ نَاقِصٌ.
- وَبِاعْتِبَارِ الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ: إِمَّا مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ
خَاصٌّ.
- وَبِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ: إِمَّا مِلْكٌ اخْتِيَارِيٌّ أَوْ جَبْرِيٌّ.
- وَبِاعْتِبَارِ احْتِمَال سُقُوطِهِ: إِمَّا مِلْكٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ
غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ.
أ - أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ
4 - يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ إِلَى مِلْكٍ تَامٍّ
وَمِلْكٍ نَاقِصٍ.
وَالْمِلْكُ التَّامُّ: هُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ،
وَالْمِلْكُ النَّاقِصُ: هُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَقَطْ، أَوِ
الْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، أَوِ الاِنْتِفَاعِ فَقَطْ.
يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْمِلْكُ التَّامُّ يُمْلَكُ فِيهِ
التَّصَرُّفُ فِي الرَّقَبَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَيُورَثُ عَنْهُ،
وَيُمْلَكُ التَّصَرُّفُ فِي مَنَافِعِهِ بِالإِْعَارَةِ وَالإِْجَارَةِ
وَالاِنْتِفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْمِلْكِ الضَّعِيفِ بَدَل
النَّاقِصِ، يَقُول الزَّرْكَشِيُّ: الْمِلْكُ
__________
(1) مجموع الفتاوى 29 / 178.
(39/33)
قِسْمَانِ: تَامٌّ وَضَعِيفٌ، فَالتَّامُّ
يَسْتَتْبِعُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ، وَالضَّعِيفُ بِخِلاَفِهِ، ثُمَّ
اسْتُعْمِل مُصْطَلَحُ النَّاقِصِ أَيْضًا (1) .
ثُمَّ إِنَّ الأَْصْل فِي الْمِلْكِ هُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، وَأَنَّ
الْمِلْكَ النَّاقِصَ خِلاَفُ الأَْصْل، كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
مَشْرُوعِيَّةِ الْمِلْكِ هُوَ الاِنْتِفَاعُ بِالأَْشْيَاءِ.
وَلِذَلِكَ جَاءَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ نَاقِصًا، كَأَنْ
يُوصِيَ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ لِشَخْصِ، أَوْ أَنْ يُوصِيَ بِالرَّقَبَةِ
لِشَخْصِ وَبِمَنْفَعَتِهَا لآِخَرَ (2) .
أَمَّا مِلْكُ الْمَنَافِعِ: فَهُوَ مشَاعٌ، وَيَتَحَقَّقُ فِي
الإِْجَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَالإِْعَارَةِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ،
وَالْوَقْفِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَالأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ
الْمُقَرَّةِ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ بِالْخَرَاجِ.
وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
مَا عَدَا ابْنَ شُبْرُمَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى (3) .
أَمَّا مِلْكُ الاِنْتِفَاعِ: فَقَدْ ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
(الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) وَإِنِ
__________
(1) المنثور 3 / 238.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 351، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 379،
والقواعد لابن رجب ص 195 - 196.
(3) المصادر السابقة.
(39/34)
اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل أَحْكَامِهِ.
فَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ الْمِلْكَ إِلَى أَرْبَعَةِ
أَنْوَاعٍ: مِلْكِ عَيْنٍ وَمَنْفَعَةٍ، وَمِلْكِ عَيْنٍ بِلاَ مَنْفَعَةٍ،
وَمِلْكِ مَنْفَعَةٍ بِلاَ عَيْنٍ، وَمِلْكِ انْتِفَاعٍ مِنْ غَيْرِ مِلْكِ
الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ قَال:
أَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل: فَهُوَ عَامَّةُ الأَْمْلاَكِ الْوَارِدَةِ
عَلَى الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِالأَْسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا،
مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَإِرْثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِلْكُ الْعَيْنِ بِدُونِ مَنْفَعَةٍ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِدُونِ عَيْنٍ وَهُوَ ثَابِتٌ
بِالاِتِّفَاقِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل: مِلْكٌ مُؤَبَّدٌ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ:
مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ، وَمِنْهَا الْوَقْفُ، فَإِنَّ
مَنَافِعَهُ وَثَمَرَاتِهِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. . .
وَمِنْهَا الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِلْكٌ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ، فَمِنْهُ الإِْجَارَةُ،
وَمِنْهُ مَنَافِعُ الْبَيْعِ الْمُسْتَثْنَاةُ فِي الْعَقْدِ مُدَّةً
مَعْلُومَةً.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِلْكُ الاِنْتِفَاعِ الْمُجَرَّدِ، وَلَهُ صُوَرٌ
مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا مِلْكُ الْمُسْتَعِيرِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ
الاِنْتِفَاعَ لاَ الْمَنْفَعَةَ، إِلاَّ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ
عَنْ أَحْمَدَ.
وَمِنْهَا: الْمُنْتَفِعُ بِمِلْكِ جَارِهِ مِنْ وَضْعِ
(39/34)
خَشَبٍ، وَمَمَرٍّ فِي دَارٍ وَنَحْوِهِ،
وَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ صُلْحٍ فَهُوَ إِجَارَةٌ.
وَمِنْهَا: إِقْطَاعُ الإِْرْفَاقِ كَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ وَنَحْوِهَا،
وَمِنْهَا: الطَّعَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْل حِيَازَتِهِ يَمْلِكُ
الْقَائِمُونَ الاِنْتِفَاعَ بِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَقِيَاسُهُ
الأَْكْل مِنَ الأُْضْحِيَةِ وَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَنَحْوِهِ،
وَمِنْهَا أَكْل الضَّيْفِ لِطَعَامِ الْمُضِيفِ فَإِنَّهُ إِبَاحَةٌ
مَحْضَةٌ (1) .
وَقَدْ فَصَّل الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ
مِلْكِ الاِنْتِفَاعِ، وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَقَال: فَتَمْلِيكُ
الاِنْتِفَاعِ نُرِيدُ بِهِ أَنْ يُبَاشِرَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ،
وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ هُوَ أَعَمُّ وَأَشْمَل، فَيُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ
وَيُمَكِّنُ غَيْرَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِعِوَضٍ كَالإِْجَارَةِ،
وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَةِ.
وَمِثَال الأَْوَّل - أَيِ الاِنْتِفَاعِ - سُكْنَى الْمَدَارِسِ
وَالرِّبَاطِ وَالْمَجَالِسِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ
وَالأَْسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ كَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَنَحْوِ
ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ. . . أَمَّا مَالِكُ
الْمَنْفَعَةِ فَكَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا، أَوِ اسْتَعَارَهَا، فَلَهُ
أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يُسْكِنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ،
وَيَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي
أَمْلاَكِهِمْ.
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 208 - 210.
(39/35)
ثُمَّ ذَكَرَ أَرْبَعَ مَسَائِل تَدْخُل
فِي مِلْكِ الاِنْتِفَاعِ وَهِيَ:
الأُْولَى: النِّكَاحُ حَيْثُ هُوَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الاِنْتِفَاعِ،
وَلَيْسَ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ.
الثَّانِيَةُ: الْوَكَالَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَهِيَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ
الاِنْتِفَاعِ لاَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ، وَأَمَّا
الْوَكَالَةُ بِعِوَضٍ فَهِيَ مِنْ بَابِ الإِْجَارَةِ.
الثَّالِثَةُ: الْقِرَاضُ (الْمُضَارَبَةُ) وَالْمُسَاقَاةُ
وَالْمُغَارَسَةُ، فَرَبُّ الْمَال فِيهَا يَمْلِكُ مِنَ الْعَامِل
الاِنْتِفَاعَ لاَ الْمَنْفَعَةَ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يُعَاوِضَ عَلَى مَا مَلَكَهُ مِنَ الْعَامِل مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ
يُؤَاجِرُهُ مِمَّنْ أَرَادَ، بَل يَقْتَصِرُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ
بِنَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ عَقْدُ الْقِرَاضِ.
الرَّابِعَةُ: إِذَا وَقَفَ شَخْصٌ وَقْفًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَوْ عَلَى
السُّكْنَى، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي
أَنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الاِنْتِفَاعَ
بِالسُّكْنَى دُونَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ،
وَلاَ يُسْكِنَهُ (1) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ كَالْمُسْتَأْجِرِ،
وَمِلْكِ الاِنْتِفَاعِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَقَالُوا: مَنْ مَلَكَ
الْمَنْفَعَةَ فَلَهُ الإِْجَارَةُ
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 187 - 188، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 1 / 193 -
195 ط دار المعرفة بيروت.
(39/35)
وَالإِْعَارَةُ، وَمَنْ مَلَكَ
الاِنْتِفَاعَ فَلَيْسَ لَهُ الإِْجَارَةُ قَطْعًا، وَلاَ الإِْعَارَةَ فِي
الأَْصَحِّ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ حَوْل بَعْضِ الْمَسَائِل الَّتِي تَدْخُل
عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي مِلْكِ الاِنْتِفَاعِ وَلاَ تَدْخُل فِيهِ عِنْدَ
الآْخَرِينَ، بَل تَدْخُل فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، مِثْل الْعَارِيَةِ. .
. حَيْثُ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا الْكَرْخِيَّ وَالْمَالِكِيَّةَ
وَالْحَنَابِلَةَ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ الْعَارِيَةَ تَمْلِيكٌ
لِلْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا لِلْمُسْتَعِيرِ
إِعَارَةَ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ بِالْقُيُودِ الَّتِي وَضَعَهَا
الْفُقَهَاءُ (2) .
الْفُرُوقُ الْجَوْهَرِيَّةُ بَيْنَ الْمِلْكِ التَّامِّ وَالْمِلْكِ
النَّاقِصِ
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ، وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّ الإِْعَارَةَ تَمْلِيكٌ
لِلاِنْتِفَاعِ (3) .
وَتُوجَدُ فُرُوقٌ جَوْهَرِيَّةٌ بَيْنَ الْمِلْكِ التَّامِّ وَالْمِلْكِ
النَّاقِصِ، تَلْخِيصُهَا فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: إِنَّ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ التَّامِّ الْحَقَّ فِي
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 452 - 453 ط المكتبة التجارية بمصر،
والأشباه والنظائر للسيوطي ص 326.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 352، والبحر الرائق 7 / 280، والفروق
للقرافي 1 / 187، وشرح حدود ابن عرفة ص 345، وكشاف القناع 2 / 336،
والإنصاف 6 / 114، وحاشية الجمل 3 / 452 - 453.
(3) المصادر السابقة نفسها، وتحفة المحتاج 5 / 413.
(39/36)
إِنْشَاءِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ
الْمَشْرُوعَةِ مِنْ عُقُودٍ نَاقِلَةٍ لِلْمِلْكِ التَّامِّ، أَوِ
النَّاقِصِ، فَهُوَ حُرُّ التَّصَرُّفِ فِي حُدُودِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ
الشَّرْعِ، أَمَّا صَاحِبُ الْمِلْكِ النَّاقِصِ فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ
فِي كُل التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ فِي حُدُودِ
الاِنْتِفَاعِ بِالْمَنْفَعَةِ فَقَطْ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ
وَالْمَنْفَعَةَ مَعًا.
ثَانِيًا: تَأْبِيدُ الْمِلْكِ التَّامِّ: وَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّ
الْمِلْكَ التَّامَّ دَائِمٌ وَمُسْتَمِرٌّ لاَ يَنْتَهِي إِلاَّ بِسَبَبٍ
مَشْرُوعٍ قَاطِعٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ تَأْقِيتُهُ، وَلِذَلِكَ لاَ
يَجُوزُ تَأْقِيتُ الْعُقُودِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِ التَّامِّ
كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَال: بِعْتُ لَكَ هَذِهِ
الدَّارَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لِمُدَّةِ سَنَةٍ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهَا
الإِْجَارَةَ فَيُحْمَل عَلَيْهَا مِنْ بَابِ: إِنَّ الْعِبْرَةَ فِي
الْعُقُودِ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ بِالأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي
(1)
وَأَمَّا الْمِلْكُ النَّاقِصُ فَالْعُقُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى
الْمَنَافِعِ فِيهَا لاَ بُدَّ مِنْ تَأْقِيتِهَا مِثْل الإِْجَارَةِ
وَالإِْعَارَةِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ تَقْبَل التَّقْيِيدَ بِالزَّمَانِ
وَالْمَكَانِ وَنَوْعِ الاِنْتِفَاعِ (2) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 9، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 27.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 3، 19، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 2، والغاية
القصوى للبيضاوي 2 / 619 ط دار الإصلاح، والمغني لابن قدامة 5 / 434.
(39/36)
ب - أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ
الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ 6 - يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ بِاعْتِبَارِ
الْمُسْتَفِيدِ مِنْهُ إِلَى مِلْكٍ خَاصٍّ، وَإِلَى مِلْكٍ عَامٍّ،
فَالْمِلْكُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، سَوَاءٌ
أَكَانَ فَرْدًا أَمْ جَمَاعَةً.
وَأَمَّا الْمِلْكُ الْعَامُّ فَهُوَ الْمِلْكُ الَّذِي لاَ يَخْتَصُّ بِهِ
مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ لاَ عَلَى
التَّعْيِينِ، كَمِلْكِ الْمَاءِ وَالْكَلأَِ وَالنَّارِ، لِقَوْل
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ
فِي ثَلاَثٍ فِي الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ (1) .
ج - أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ 7 - يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ
بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ إِلَى مِلْكٍ اخْتِيَارِيٍّ أَوْ قَهْرِيٍّ.
يَقُول الزَّرْكَشِيُّ: الْمِلْكُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَحْصُل قَهْرًا
كَمَا فِي الْمِيرَاثِ وَمَنَافِعِ الْوَقْفِ.
وَالثَّانِي: يَحْصُل بِالاِخْتِيَارِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالأَْقْوَال، وَيَكُونُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبُيُوعِ،
وَفِي غَيْرِهَا كَالْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا، وَالْوُقُوفِ إِذَا
اشْتَرَطْنَا الْقَبُول.
__________
(1) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 751) من
حديث رجل من المهاجرين
(39/37)
وَالثَّانِي: يَحْصُل بِالأَْفْعَال
كَتَنَاوُل الْمُبَاحَاتِ كَالاِصْطِيَادِ وَالإِْحْيَاءِ.
ثُمَّ فَرَّقَ الزَّرْكَشِيُّ بَيْنَهُمَا فَقَال: وَمِمَّا يَتَخَالَفَانِ
فِيهِ - أَعْنِي الاِخْتِيَارِيَّ وَالْقَهْرِيَّ - أَنَّ الاِخْتِيَارِيَّ
يُمْلَكُ بِالْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَلاَ
يَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَأَمَّا الْقَهْرِيُّ
كَالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلاَ يُمْلَكُ حَتَّى يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي
الثَّمَنَ، أَوْ يَرْضَى بِتَأْخِيرِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِذَلِكَ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ يَحْصُل بِالاِسْتِيلاَءِ
عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا فِي أَمْوَال الْكُفَّارِ، بِخِلاَفِ
الاِخْتِيَارِيِّ.
وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ هَل يُشْرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ
شُرُوطِهِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَنَحْوِهَا؟ خِلاَفٌ - كَمَا فِي الشُّفْعَةِ،
يُؤْخَذُ الشِّقْصُ الَّذِي لَمْ يَرَهُ - عَلَى قَوْلَيْنِ،
وَالاِخْتِيَارِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَطْعًا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي
الاِخْتِيَارِيِّ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا الصَّيْدُ فِي حَقِّ
الْمُحْرِمِ، وَلاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالاِخْتِيَارِ (1) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ،
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 231 - 233.
(39/37)
هَل الأَْسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى
أَمِ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى؟ فَقِيل: الْفِعْلِيَّةُ أَقْوَى، وَقِيل:
الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى.
وَقَدْ بَيَّنَ الْقَرَافِيُّ الْفَرْقَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ فَقَال:
الأَْسْبَابُ الْفِعْلِيَّةُ تَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ
عَلَيْهِ دُونَ الْقَوْلِيَّةِ. فَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يَمْلِكُ
الصَّيْدَ بِالاِصْطِيَادِ، وَالأَْرْضَ بِالإِْحْيَاءِ، فِي حِينٍ لاَ
يَمْلِكُ إِنْشَاءَ عُقُودِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الأَْسْبَابَ الْفِعْلِيَّةَ تَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَيْهِ، أَمَّا
الأَْسْبَابُ الْقَوْلِيَّةُ فَإِنَّهَا مَوْضِعُ الْمُمَاكَسَةِ
وَالْمُغَابَنَةِ، فَقَدْ تَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ، كَمَا أَنَّ
فِيهَا طَرَفًا آخَرَ يُنَازِعُهُ وَيُجَاذِبُهُ إِلَى الْغَبْنِ، وَهُوَ
ضَعِيفُ الْعَقْل، فَلاَ يَسْتَطِيعُ تَحْقِيقَ مَصْلَحَتِهِ (1) .
د - أَقْسَامُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ
8 - يَنْقَسِمُ الْمِلْكُ - بِاعْتِبَارِ احْتِمَال سُقُوطِهِ وَعَدَمِهِ -
إِلَى نَوْعَيْنِ هُمَا:
الْمِلْكُ الْمُسْتَقِرُّ الَّذِي لاَ يَحْتَمِل السُّقُوطَ بِتَلَفِ
الْمَحِل، أَوْ تَلَفِ مُقَابِلِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ،
وَالصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُول.
وَالْمِلْكُ غَيْرُ الْمُسْتَقِرِّ الَّذِي يَحْتَمِل ذَلِكَ
__________
(1) الفروق 1 / 204.
(39/38)
كَالأُْجْرَةِ قَبْل اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ، وَالثَّمَنِ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ (1) .
أَسْبَابُ الْمِلْكِ:
9 - لِلْمِلْكِ أَسْبَابُهُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَحْقِيقِهِ
ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ هِيَ:
الْمُعَاوَضَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالأَْمْهَارُ، وَالْخُلْعُ،
وَالْمِيرَاثُ، وَالْهِبَاتُ، وَالصَّدَقَاتُ، وَالْوَصَايَا، وَالْوَقْفُ،
وَالْغَنِيمَةُ، وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَى الْمُبَاحِ، وَالإِْحْيَاءُ،
وَتَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بِشَرْطِهِ، وَدِيَةُ الْقَتِيل يَمْلِكُهَا
أَوَّلاً ثُمَّ تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْهَا الْغُرَّةُ
يَمْلِكُهَا الْجَنِينُ فَتُورَثُ عَنْهُ، وَالْغَاصِبُ إِذَا فَعَل
بِالْمَغْصُوبِ شَيْئًا أَزَال بِهِ اسْمَهُ وَعِظَمَ مَنَافِعِهِ
مَلَكَهُ، وَإِذَا خُلِطَ الْمِثْلِيُّ بِمِثْلِيٍّ بِحَيْثُ لاَ
يَتَمَيَّزُ مِلْكُهُ.
وَذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ أَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ ثَلاَثَةٌ:
نَاقِلٌ كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ، وَخِلاَفَةٌ كَإِرْثٍ، وَأَصَالَةٌ وَهُوَ
الاِسْتِيلاَءُ حَقِيقَةً بِوَضْعِ الْيَدِ، أَوْ حُكْمًا بِالتَّهْيِئَةِ
كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِصَيْدِ (2) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ نَقْلاً عَنِ الْكِفَايَةِ أَنَّ أَسْبَابَ
الْمِلْكِ ثَمَانِيَةٌ: الْمِيرَاثُ، وَالْمُعَاوَضَاتُ،
__________
(1) المنثور 3 / 240.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 346، وحاشية ابن عابدين 5 / 298.
(39/38)
وَالْهِبَاتُ، وَالْوَصَايَا، وَالْوَقْفُ،
وَالْغَنِيمَةُ، وَالإِْحْيَاءُ، وَالصَّدَقَاتُ.
قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: وَبَقِيَتْ أَسْبَابٌ أُخَرُ، مِنْهَا: تَمَلُّكُ
اللُّقَطَةِ بِشَرْطِهِ، وَمِنْهَا: دِيَةُ الْقَتِيل يَمْلِكُهَا أَوَّلاً
ثُمَّ تُنْقَل لِوَرَثَتِهِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَلِذَلِكَ يُوَفَّى مِنْهَا
دَيْنُهُ، وَمِنْهَا: الْجَنِينُ، الأَْصَحُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْغُرَّةَ،
وَمِنْهَا: خَلْطُ الْغَاصِبِ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ، أَوْ بِمَال آخَرَ
لاَ يَتَمَيَّزُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، وَمِنْهَا:
الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّيْفَ يَمْلِكُ مَا يَأْكُلُهُ، وَهَل يُمْلَكُ
بِالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ فِي الْفَمِ، أَوْ بِالأَْخْذِ، أَوْ
بِالاِزْدِرَادِ يَتَبَيَّنُ حُصُول الْمِلْكِ قَبِيلَهُ؟ أَوْجُهٌ (1) .
الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمِلْكِ:
تَرِدُ عَلَى الْمِلْكِ قُيُودٌ تَتَعَلَّقُ إِمَّا بِالأَْسْبَابِ أَوْ
بِالاِسْتِعْمَال أَوْ بِالاِنْتِقَال، وَكَذَلِكَ الْقُيُودُ الَّتِي
أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ وَلِلْمُتَعَاقِدِ.
أَوَّلاً - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى أَسْبَابِ الْمِلْكِ
10 - تَظْهَرُ هَذِهِ الْقُيُودُ مِنْ خِلاَل كَوْنِ أَسْبَابِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 317، وأشباه ابن نجيم ص 346 - 350.
(39/39)
كَسْبِ الْمِلْكِ فِي الشَّرِيعَةِ
مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَلَيْسَتْ مُطْلَقَةً،
وَلِذَلِكَ فَالْوَسَائِل الْمُحَرَّمَةُ مِنْ سَرِقَةٍ، وَغَصْبٍ، أَوِ
اسْتِغْلاَلٍ، أَوْ قِمَارٍ، أَوْ رِبًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ
أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، حَيْثُ قَطَعَتِ الشَّرِيعَةُ الطَّرِيقَ بَيْنَ
الأَْسْبَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمِلْكِ، وَمَنَعَتْهَا مَنْعًا بَاتًّا،
وَطَالَبَتِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُهُمْ حَلاَلاً
طَيِّبًا، وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ،
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
حَيْثُ مَنَعَ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الرِّضَا
وَالإِْرَادَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِأَكْل الطَّيِّبَاتِ فَقَال تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (2) .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَل إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ
أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَال: {يَا
أَيُّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (3) ،
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) سورة البقرة / 172.
(3) سورة المؤمنون / 51.
(39/39)
وَقَال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (1) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل
يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ:
يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ
وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ
لِذَلِكَ (2) .
ثَانِيًا - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمِلْكِ 11 -
وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ قُيُودًا عَلَى الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ
الاِسْتِعْمَال فَأَوْجَبَتْ عَلَى الْمَالِكِ:
أ - أَنْ لاَ يَكُونَ مُبَذِّرًا مُسْرِفًا، وَلاَ مُقَتِّرًا بَخِيلاً،
قَال تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ
السَّبِيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا
إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (3)
وَقَال سُبْحَانَهُ {وَلاَ تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ
وَلاَ تَبْسُطْهَا كُل الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (4) .
وَالآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَجَال كَثِيرَةٌ
__________
(1) سورة البقرة / 172.
(2) حديث: " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. . . ". أخرجه مسلم
(2 / 703) .
(3) سورة الإسراء / 26 - 27.
(4) سورة الإسراء / 29.
(39/40)
تَدُل عَلَى حُرْمَةِ الإِْسْرَافِ
وَالتَّبْذِيرِ وَتَضْيِيعِ الْمَال بِدُونِ فَائِدَةٍ حَتَّى فِي مَجَال
الأَْكْل، يَقُول مُحَمَّدٌ بْنِ حَسَنٍ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْحَاصِل
أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْحَلاَل
الإِْفْسَادُ، وَالسَّرَفُ، وَالتَّقْتِيرُ. . . ثُمَّ السَّرَفُ فِي
الطَّعَامِ أَنْوَاعٌ: وَمِنْهُ الاِسْتِكْثَارُ فِي الْمُبَاحَاتِ
وَالأَْلْوَانِ (1) .
ب - أَلاَّ يَسْتَعْمِل الْمَالِكُ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَمِنْ ذَلِكَ
حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَال وَاسْتِعْمَال الذَّهَبِ لَهُمْ
وَاسْتِعْمَال أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ
ج - وُجُوبُ الاْسْتِنْمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ تَعْطِيل
الأَْمْوَال حَتَّى تُؤَدِّيَ دَوْرَهَا فِي التَّدَاوُل وَالتَّعْمِيرِ،
تَدُل عَلَى ذَلِكَ الآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي
تُطَالِبُ بِالْعَمَل وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ
بِصِيَغِ الأَْوَامِرِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَل
لَكُمُ الأَْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ} (2) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ} (3) وَمِنَ
الأَْحَادِيثِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ
__________
(1) الكسب للشيباني، تحقيق د. سهيل زكار، ط دمشق ص 79 - 82.
(2) سورة الملك / 15.
(3) سورة الجمعة / 10.
(39/40)
وَلاَ يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ
الصَّدَقَةُ (1) . كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَا لاَ تَتِمُّ
مَصَالِحُ الأُْمَّةِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ،
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحِرَفَ وَالصَّنَائِعَ وَالتِّجَارَةَ
الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لأَِنَّ قِيَامَ
الدُّنْيَا بِهَا، وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ
الدُّنْيَا، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا، وَكَانُوا
سَاعِينَ فِي إِهْلاَكِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ
عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ
فِيهَا (2) .
وَقَال مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْمَذْهَبُ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لاَ بُدَّ
مِنْهُ فَرِيضَةٌ (3) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِنْمَاءٌ ف 10 - 17) .
د - عَدَمُ الإِْضْرَارِ بِالْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ: اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ فِي اسْتِعْمَالِهِ
مِلْكَهُ أَنْ يَقْصِدَ الإِْضْرَارَ بِالْغَيْرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (4) وَهَذَا
__________
(1) حديث: " من ولي يتيمًا له مال. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 24) من حديث
عبد الله بن عمرو، ثم قال: في إسناده مقال، لأن المثنى بن الصباح يضعف في
الحديث.
(2) مغني المحتاج 4 / 213، وإحياء علوم الدين 1 / 17، وتيسير التحرير 2 /
213.
(3) الكسب ص 44، 63.
(4) حديث: " لا ضرر ولا ضرار. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 745) من
حديث يحيى المازني مرسلاً، وذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2 / 208 -
211) طرقه وخرجها، ونقل عن ابن الصلاح أنه حسنه لطرقه.
(39/41)
يَدُل عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الإِْضْرَارِ
بِأَحَدٍ لاَ فِي مَالِهِ، وَلاَ فِي نَفْسِهِ وَلاَ فِي عِرْضِهِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ مُقَابَلَةُ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَالإِْتْلاَفِ
بِالإِْتْلاَفِ، فَكُل تَصَرُّفٍ - وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ -
يُمْنَعُ إِذَا أَدَّى إِلَى الإِْضْرَارِ بِالآْخَرِينَ، وَلِذَلِكَ
مَنَعَ الْفُقَهَاءُ الْمَالِكَ مِنْ إِشْعَال النَّارِ فِي يَوْمٍ
عَاصِفٍ، وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، مَا دَامَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
إِحْرَاقُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَال الْجِيرَانِ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ
مُتَعَدِّيًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ (1) .
12 - وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْعِ الْجَارِ مِنَ
التَّصَرُّفَاتِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا
الإِْضْرَارُ بِالْجَارِ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو
الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَحْمَدُ فِي
رِوَايَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مَا دَامَ فِيهِ قَصْدُ الإِْضْرَارِ، أَوْ كَانَ
الضَّرَرُ فَاحِشًا، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ
__________
(1) المبسوط للسرخسي (15 / 12) ، وفتح القدير 5 / 506، وحاشية ابن عابدين 5
/ 443، ونهاية المحتاج 5 / 327، والقوانين الفقهية ص 370، والمغني لابن
قدامة 4 / 388.
(39/41)
فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ فَيُمْنَعُ، وَغَيْرُ
الْفَاحِشِ الَّذِي لاَ يُمْنَعُ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ فِي
رِوَايَةٍ، وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَكَمَا مَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْضْرَارَ بِالأَْفْرَادِ مَنَعَتِ
الإِْضْرَارَ بِالْمُجْتَمَعِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الاِحْتِكَارَ
وَالرِّبَا، وَالْمُتَاجَرَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْفَسَادِ.
ثَالِثًا - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عِنْدَ انْتِقَال الْمِلْكِ
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لاِنْتِقَال الْمِلْكِ شُرُوطًا
وَضَوَابِطَ، وَجَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ وَسَائِل الاِنْتِقَال - كَقَاعِدَةٍ
عَامَّةٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ - فِي الرِّضَا وَالإِْرَادَةِ، بَل
اشْتَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا غَيْرَ مَشُوبٍ بِعُيُوبِ الرِّضَا
وَعُيُوبِ الإِْرَادَة، مِنَ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالاِسْتِغْلاَل
وَالإِْكْرَاهِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) ، وَلِقَوْل الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (3) ،
وَقَوْلِهِ: لاَ يَحِل
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة النساء / 29.
(3) حديث: " إنما البيع عن تراض. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 737) من حديث
أبي سعيد الخدري، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 10) .
(39/42)
مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ مَا
أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: مُصْطَلَحَ (رِضًا ف 13 وَمَا بَعْدَهَا) .
كَذَلِكَ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ إِرَادَةَ الْمَالِكِ الْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ بِالثُّلُثِ إِذَا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ عَطَاءً وَهِبَةً،
أَوْ مُحَابَاةً، أَوْ وَصِيَّةً (2) .
ر: مُصْطَلَحَ (مَرَضُ الْمَوْتِ) .
وَقَدْ قَيَّدَتِ الشَّرِيعَةُ إِرَادَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي
الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ، أَوْ مِنْ شَأْنُهَا الضَّرَرُ عَلَى
تَفْصِيلٍ يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ، سَفَهٌ ف 26 وَمَا
بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا ما أعطاه من طيب نفس ". أخرجه
البيهقي (6 / 97) من حديث ابن عباس.
(2) فتح القدير مع العناية 3 / 155، وجامع الفصولين 2 / 183، وشرح التلويح
على التوضيح 2 / 350، وتيسير التحرير 2 / 277، والبحر الرائق 4 / 50،
وحاشية ابن عابدين 3 / 383، وبدائع الصنائع 4 / 2070، والشرح الكبير مع
حاشية الدسوقي 3 / 306، وبلغة السالك لأقرب المسالك 2 / 642، والقوانين
الفقهية لابن جزي ص 276، وشرح الخرشي 5 / 304، والأم للشافعي 4 / 35،
والمختصر 3 / 217، وروضة الطالبين 7 / 387، 8 / 72، والمغني لابن قدامة 6 /
84.
(39/42)
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْمَوْتِ فَإِنَّ
جَمِيعَ أَمْوَال الْمَيِّتِ تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ حَسَبَ قَوَاعِدِ
الْفَرَائِضِ، كَمَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ تُنَفَّذُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ،
وَتَنْتَقِل إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِرْثٌ ف 14، وَصِيَّةٌ) .
رَابِعًا - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ:
أَعْطَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ وَلِيَّ الأَْمْرِ حَقَّ وَضْعِ
قُيُودٍ عَلَى الْمِلْكِ وَمِنْ ذَلِكَ:
الأَْوَّل - تَقْيِيدُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ
14 - تُقِرُّ الشَّرِيعَةُ الْمِلْكَ لِلأَْفْرَادِ وَتَحْمِيهِ
وَتَصُونَهُ، وَمِعْيَارُ تَقْيِيدِهِ فِيهَا يَقُومُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ
الْعَامَّةِ الَّتِي لاَ تَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ
مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا تَعُمُّ الْمُجْتَمَعَ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ:
لأَِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ
الْخَاصَّةِ (1) .
فَحَقُّ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِصَاحِبِهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ، إِلاَّ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَصُونٌ
وَمُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَمُرَاعَاةُ مَصَالِحِ الآْخَرِينَ قَيْدٌ
عَلَى اسْتِعْمَال الْحُقُوقِ وَمِنْهَا الْمِلْكُ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ:
لأَِنَّ طَلَبَ
__________
(1) الموافقات 1 / 30.
(39/43)
الإِْنْسَانِ لِحَظِّهِ حَيْثُ أُذِنَ لَهُ
لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ
(1) .
وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ.
الثَّانِي - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ عَلَى
حَقِّ التَّمَلُّكِ:
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مَا يَلِي:
أ - إِحْيَاءُ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ
بِالإِْحْيَاءِ دُونَ إِذْنِ الإِْمَامِ، أَوْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِذْنُ
الإِْمَامِ لِتَمَلُّكِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ فِي الإِْحْيَاءِ إِذْنُ الإِْمَامِ.
وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 14) .
ب - تَمَلُّكُ الْمَعَادِنِ
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
جَامِدَةً أَمْ سَائِلَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ ظَاهِرَةً أَمْ فِي بَاطِنِ
الأَْرْضِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ مِلْكًا خَاصًّا
أَمْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِلدَّوْلَةِ (جَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ) تَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ
الْعَامَّةَ بِتَأْجِيرِهَا لِمُدَّةِ
__________
(1) الموافقات 3 / 247.
(39/43)
مَعْلُومَةٍ، أَوْ إِقْطَاعِهَا لاَ عَلَى
وَجْهِ التَّمْلِيكِ (1) .
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ،
حَيْثُ لاَ تُمْلَكُ عِنْدَهُمْ بِالإِْحْيَاءِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ
إِضْرَارًا بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي
الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، فَلاَ تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ عَلَى
الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى أَشْهَرِ
الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 29)
ج - الْحِمَى:
17 - الْحِمَى حَيْثُ هُوَ قَيْدٌ عَلَى الإِْحْيَاءِ، فَقَدْ ذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ
لِغَيْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْمُوا لأَِنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ
أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْل الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ
الْجِزْيَةِ وَإِبِل الصَّدَقَةِ وَضَوَال النَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لاَ
يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ.
__________
(1) المقدمات الممهدات لابن رشد 1 / 225، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير
1 / 486، وبلغة السالك 1 / 229.
(39/44)
ثُمَّ إِنَّ الْحِمَى نَفْسَهُ مُقَيَّدٌ
بِالْمَصْلَحَةِ فَلاَ يَجُوزُ التَّوَسُّعُ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 21، وَحِمًى ف 6) .
الثَّالِثُ - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ عَلَى
حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ:
لِوَلِيِّ الأَْمْرِ الْحَقُّ فِي تَقْيِيدِ تَصَرُّفَاتِ الْمَالِكِ بِمَا
تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ دُونَ ضَرَرٍ وَلاَ ضِرَارٍ،
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - التَّسْعِيرُ:
18 - التَّسْعِيرُ هُوَ تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ
سِعْرًا وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْصْل فِي التَّسْعِيرِ هُوَ
الْحُرْمَةُ، أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ
بِشُرُوطِ مُعَيَّنَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - الاِحْتِكَارُ:
19 - الاِحْتِكَارُ هُوَ شِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، وَحَبْسُهُ إِلَى
الْغَلاَءِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ
الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ
الإِْضْرَارِ بِالنَّاسِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَاتَّفَقُوا
(39/44)
عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ
الْمُحْتَكِرَ بِإِخْرَاجِ مَا احْتَكَرَ إِلَى السُّوقِ وَبَيْعِهِ
لِلنَّاسِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ ف 12) .
مَدَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ فِي نَزْعِ الْمِلْكِ
20 - لِلدَّوْلَةِ الْحَقُّ فِي نَزْعِ الْمِلْكِ اسْتِثْنَاءً
لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ
لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ وَاضْطُرَّ النَّاسُ إِلَيْهِ
يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - اسْتِمْلاَكُ الأَْرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا خَاصًّا
لأَِجْل الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ
بِالنَّاسِ فَيَجُوزُ تَوْسِعَتُهُ عَلَى حِسَابِ الأَْرَاضِي
الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا خَاصًّا وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ إِذَا احْتَاجَ
النَّاسُ إِلَى شَقِّ طُرُقٍ عَامَّةٍ أَوْ تَوْسِعَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَلَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْوِيضٍ عَادِلٍ يَقُومُ بِتَقْدِيرِهِ ذَوُو
الْخِبْرَةِ.
وَقَدْ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ:
لَدَى الْحَاجَةِ يُؤْخَذُ مِلْكُ كَائِنٍ مَنْ كَانَ بِالْقِيمَةِ
بِأَمْرِ السُّلْطَانِ وَيُلْحَقُ بِالطَّرِيقِ، لَكِنْ لاَ يُؤْخَذُ
__________
(1) الزواجر 1 / 189.
(39/45)
مِنْ يَدِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ لَهُ
الثَّمَنَ (1) ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ لَمَّا ضَاقَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَخَذُوا أَرَضِينَ
بِكُرْهٍ مِنْ أَصْحَابِهَا بِالْقِيمَةِ وَزَادُوا فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَبِفِعْل عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي
تَوْسِيعِهِ مَسْجِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(2) .
ثَانِيًا - نَزْعُ الْمِلْكِيَّةِ لأَِجْل مَصْلَحَةِ الأَْفْرَادِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةٌ
فَرْدِيَّةٌ مَعَ مَصْلَحَةٍ فَرْدِيَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ
تُقَدِّمُ أَقْوَاهُمَا وَأَوْلاَهُمَا بِالاِعْتِبَارِ وَأَكْثَرِهِمَا
دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَتِ
الشَّرِيعَةُ نَزْعَ الْمِلْكِ الْخَاصِّ، أَوِ التَّمَلُّكَ الْقَهْرِيَّ
لأَِجْل مَصْلَحَةٍ فَرْدِيَّةٍ فِي عِدَّةِ صُوَرٍ، مِنْهَا:
أ - الشُّفْعَةُ:
23 - الشُّفْعَةُ لُغَةً: الضَّمُّ، وَشَرْعًا: تَمْلِيكُ الْبُقْعَةِ
جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ
__________
(1) المادة 1216، وانظر: البهجة شرح التحفة 2 / 76، وشرح مجلة الأحكام
العدلية للآتاسي 4 / 158.
(2) ابن عابدين 4 / 379، ومواهب الجليل 4 / 253، ومختصر المزني 2 / 309،
والطرق الحكمية ص 259 مطبعة السنة المحمدية، والأحكام السلطانية للماوردي ص
245.
(39/45)
إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلاَّ
فَبِقِيمَتِهِ (1) .
وَالشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ لِلشَّرِيكِ بِالاِتِّفَاقِ، وَلِلْجَارِ عَلَى
خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ ذَهَبَ جُمْهُورُهُمُ
(الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ
ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ، فِي حِينِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِهَا
لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا)
.
ب - بَيْعُ أَمْوَال الْمَدِينِ لِصَالِحِ الدَّائِنِ جَبْرًا عَلَيْهِ 24
- أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مَا عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ - بَيْعَ
أَمْوَال الْمَدِينِ لأَِدَاءِ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ مَا دَامَ لَهُ مَالٌ،
حَيْثُ يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ إِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ، ثُمَّ يَبِيعُ
الْقَاضِي مَالَهُ وَيُوَزِّعُهُ عَلَيْهِمْ حَسَبَ حِصَصِ دُيُونِهِمْ
إِذَا امْتَنَعَ الْمَدِينُ عَنْ بَيْعِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَل
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 137 - 138.
(2) شرح العناية على الهداية مع تكملة فتح القدير 7 / 406، 408، والبحر
الرائق 8 / 143، وحاشية ابن عابدين 5 / 137، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 3 / 473، وحاشية العدوي 2 / 229، والأم 3 / 231، وفتح العزيز 11 /
364 - 382، ونهاية المحتاج 5 / 197، والغاية القصوى 2 / 597، والمغني لابن
قدامة 5 / 308.
(39/46)
جَمِيعَ الدُّيُونِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
دُيُونَ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ دِيَةٍ أَوْ تَعْوِيضٍ (1)
.
ج - بَيْعُ الْمَرْهُونِ لأَِدَاءِ الدَّيْنِ 25 - لِلْحَاكِمِ أَنْ
يُجْبِرَ الرَّاهِنَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، أَوْ بَيْعِ الْمَرْهُونِ،
فَإِنْ أَبَى يَقُومُ الْحَاكِمُ بِبَيْعِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ ف 24) .
د - الأَْشْيَاءُ الَّتِي لاَ تَنْقَسِمُ أَوْ فِي قِسْمَتِهَا ضَرَرٌ:
26 - يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَ عَلَى الْبَيْعِ مَنْ أَبَاهُ
إِذَا طَلَبَ الْبَيْعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي
لاَ تَنْقَسِمُ أَوْ فِي قِسْمَتِهَا ضَرَرٌ فَإِذَا امْتَنَعَ بَاعَ
عَنْهُ الْحَاكِمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِالطَّالِبِ، لأَِنَّهُ
إِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ مُفْرَدًا نَقَصَ ثَمَنُهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَةٌ ف 12 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 147، وبدائع الصنائع 9 / 4472، والشرح الكبير مع
حاشية الدسوقي 3 / 264، وبداية المجتهد 2 / 284، والروضة 4 / 127، وتحفة
المحتاج 5 / 119، والمغني لابن قدامة 4 / 453، والروض المربع 5 / 162.
(2) القواعد لابن رجب ص 32 - 33، وتبصرة الحكام 2 / 216.
(39/46)
مِلْكِيَّةٌ
انْظُرْ: مِلْكٌ.
(39/47)
مُمَاثَلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُمَاثَلَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ مَاثَل، يُقَال: مَاثَل
الشَّيْءَ: شَابَهَهُ، وَيُقَال مَاثَل فُلاَنًا: شَبَّهَهُ بِهِ.
وَلاَ تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ إِلاَّ بَيْنَ الْمُتَّفِقَيْنِ، تَقُول:
نَحْوُهُ كَنَحْوِهِ، وَفِقْهُهُ كَفِقْهِهِ، وَلَوْنُهُ كَلَوْنِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُسَاوَاةُ:
2 - الْمُسَاوَاةُ مِنْ سَاوَى الشَّيْءُ الشَّيْءَ مُسَاوَاةً: مَاثَلَهُ
وَعَادَلَهُ قَدْرًا أَوْ قِيمَةً (2) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ: أَنَّ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، وقليوبي وعميرة 3 / 167.
(2) المصادر السابقة.
(39/47)
الْمُسَاوَاةَ تَكُونُ بَيْنَ
الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالْمُتَّفِقَيْنِ فِيهِ، لأَِنَّ
التَّسَاوِي: هُوَ التَّكَافُؤُ فِي الْمِقْدَارِ: لاَ يَزِيدُ وَلاَ
يَنْقُصُ.
أَمَّا الْمُمَاثَلَةُ: فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ بَيْنَ مُتَّفِقَيْنِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُمَاثَلَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُمَاثَلَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - الْمُمَاثَلَةُ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ
3 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ - مَعَ
التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَالْحُلُول - الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ
الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ يَقِينًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ،
وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ
بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْل، سَوَاءً
بِسَوَاءِ، يَدًا بِيَدِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِبًا ف 27 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " الذهب بالذهب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211) من حديث عبادة بن
الصامت.
(39/48)
ب - الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْجَانِي
وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْقِصَاصِ 4 - يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ
الْقَوَدِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ عَلَى الْجَانِي:
الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي خِصَالٍ، فَإِنْ فُضِّل الْجَانِي
بِخَصْلَةِ مِنْهَا عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يُقْتَصَّ لَهُ مِنْهُ
(1) عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ ف 13 وَمَا بَعْدَهَا، جِنَايَةٌ
عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج - الْمُمَاثَلَةُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ
5 - الأَْصْل فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ
صَاحِبُ الْحَقِّ عَيْنَ حَقِّهِ إِذَا وُجِدَ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدِ
الْعَيْنُ فَمِثْلُهُ إِذَا كَانَ مِثْلِيًّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مِثْلٌ فَقِيمَتُهُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيفَاءٌ ف 17) ،
وَمُصْطَلَحِ (ظَفَرٌ بِالْحَقِّ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
د - الْمُمَاثَلَةُ فِي بَابِ الإِْرْثِ
6 - الْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي حِسَابِ الْفَرَائِضِ كَوْنُ
__________
(1) فتح الجواد شرح الإرشاد 2 / 246.
(39/48)
أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مُسَاوِيًا
لِلآْخَرِ، كَالثَّلاَثَةِ مَعَ الثَّلاَثَةِ، وَالْخَمْسَةِ مَعَ
الْخَمْسَةِ.
وَالْفُرُوضِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ سِتَّةٌ:
الثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ، وَالنِّصْفُ، وَالرُّبُعُ،
وَالثُّمُنُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ عَصَبَاتٍ قُسِّمَ الْمَال عَلَيْهِمْ
بِالسَّوِيَّةِ إِنْ تَمَحَّضُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا، وَإِنِ اجْتَمَعَ
الصِّنْفَانِ قُدِّرَ كُل ذَكَرٍ أُنْثَيَيْنِ، وَأَصْل الْمَسْأَلَةِ فِي
هَذِهِ الْحَالاَتِ: عَدَدُ رُءُوسِ الْمَقْسُومِ عَلَيْهِمْ.
وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَصَبَاتِ ذُو فَرْضٍ وَاحِدٍ فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ
مَخْرَجُ ذَلِكَ الْكَسْرِ، كَبِنْتٍ وَعَمٍّ، وَفَرْضُ الْبِنْتِ
النِّصْفُ، وَأَقَل مَخْرَجٍ لِلنِّصْفِ اثْنَانِ: فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ
إِذًا اثْنَانِ.
فَإِنْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ ذَوَا فَرْضَيْنِ: فَإِنْ كَانَا
مُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْفَرْضِ وَالْمَخْرَجِ: كَأَخٍ لأُِمٍّ، وَأُمٍّ،
وَأَخٍ لأَِبٍ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَخْرَجِ ذَلِكَ الْكَسْرِ،
وَهُوَ سِتَّةٌ، لأَِنَّ فَرْضَ كُلٍّ مِنَ الأَْخِ لِلأُْمِّ وَالأُْمِّ:
السُّدُسُ، وَأَقَل عَدَدٍ يُخْرَجُ مِنْهُ السُّدُسُ: سِتَّةٌ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ عَصَبَةٌ فَالْمَسْأَلَةُ أَيْضًا
مِنْ ذَلِكَ الْكَسْرِ: فَفِي زَوْجٍ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ
(39/49)
أَوْ لأَِبٍ فَالْمَسْأَلَةُ مِنِ
اثْنَيْنِ، لِتَمَاثُل الْفَرْضَيْنِ وَالْمَخْرَجِ، وَهَكَذَا فِي كُل
مَسْأَلَةٍ تَمَاثَل الْعَدَدَانِ كَثَلاَثَةٍ وَثَلاَثَةٍ مَخْرَجَيِ
الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، كَوَلَدَيْ أُمٍّ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ
أَوْ لأَِبٍ، فَفَرْضُ وَلَدَيِ الأُْمِّ الثُّلُثُ، وَفَرْضُ
الأُْخْتَيْنِ لِغَيْرِ الأُْمِّ ثُلُثَانِ، فَيُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا (1)
.
مُمَاطَلَةٌ
انْظُرْ: مَطْلٌ.
__________
(1) الاختيار 5 / 122، ومغني المحتاج 3 / 30، 31.
(39/49)
مُمَاكَسَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُمَاكَسَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ مَاكَسَ، وَهِيَ فِي الْبَيْعِ:
انْتِقَاصُ الثَّمَنِ وَاسْتِحْطَاطُهُ وَالْمُنَابَذَةُ بَيْنَ
الْمُتَبَايِعَيْنِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: بِمَعْنَى الْمُشَاحَّةِ
وَيَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِهَا مِنْ مُعَامَلَةٍ لأُِخْرَى.
فَهِيَ فِي الْبَيْعِ: اسْتِنْقَاصُ الثَّمَنِ عَمَّا طَلَبَهُ الْبَائِعُ،
وَالزِّيَادَةُ عَمَّا طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي.
وَفِي الْجِزْيَةِ: مَعْنَاهَا الْمُشَاحَّةُ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ
عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمُنَازَعَةُ فِي الاِتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ عِنْدَ
الأَْخْذِ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُمَاكَسَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
الْمُمَاكَسَةُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ
2 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ فِي وَضْعِ
الْجِزْيَةِ مُمَاكَسَةُ غَيْرِ فَقِيرٍ عِنْدَ قُوَّتِنَا.
__________
(1) لسان العرب، والجمل 3 / 340، 341 و 5 / 217.
(39/50)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(جِزْيَةٌ ف 47) .
اخْتِبَارُ رُشْدِ الصَّبِيِّ بِالْمُمَاكَسَةِ
3 - يُخْتَبَرُ رُشْدُ الصَّبِيِّ بِالْمُمَاكَسَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (رُشْدٌ ف 8) .
مَمَرٌّ
انْظُرْ: ارْتِفَاقٌ.
(39/50)
مَمْسُوحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَمْسُوحُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ مَسَحَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ
فِي اللُّغَةِ: الْخَصِيُّ إِذَا سُلَّتْ مَذَاكِيرُهُ، وَالْمُغَيَّرُ
عَنْ خِلْقَتِهِ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
وَيُعَبِّرُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَنِ الْمَمْسُوحِ فِي
الْغَالِبِ بِلَفْظِ الْمَجْبُوبِ.
فَقَدْ قَال الْبَابَرْتِيُّ: الْمَجْبُوبُ هُوَ الَّذِي اسْتُؤْصِل
ذَكَرُهُ وَخُصْيَتَاهُ (3) .
وَقَال الشَّلَبِيُّ: الْمَجْبُوبُ هُوَ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ
وَالْخُصْيَتَيْنِ (4) .
__________
(1) تاج العروس، ومتن اللغة.
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 50، ومغني المحتاج 3 / 130، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 625.
(3) العناية شرح الهداية بهامش فتح القدير 2 / 447 ط بولاق.
(4) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 3 / 22. وانظر: المغرب للمطرزي ص 74
نشر دار الكتاب العربي.
(39/51)
وَقَال الْمَنُوفِي الْمَالِكِيُّ:
الْجَبُّ هُوَ قَطْعُ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَيَيْنِ (1) .
وَيُطْلِقُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَفْظَ الْمَجْبُوبِ فِي
غَالِبِ اسْتِعْمَالاَتِهِمْ عَلَى مَقْطُوعِ الذَّكَرِ فَقَطْ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَجْبُوبُ:
2 - الْمَجْبُوبُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ جَبَّ بِمَعْنَى قَطَعَ
وَهُوَ: الَّذِي اسْتُؤْصِلَتْ مَذَاكِيرُهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَاهُ إِلَى
رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْمَجْبُوبُ وَهُوَ مَنْ قُطِعَ ذَكَرُهُ أَصْلاً، كَمَا
صَرَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: هُوَ مَنْ قُطِعَ ذَكَرُهُ وَخُصْيَتَاهُ كَمَا صَرَّحَ بَهْ
بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَمْسُوحِ وَالْمَجْبُوبِ أَنَّ
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 2 / 85 نشر دار المعرفة. وانظر: الزرقاني 3 /
235.
(2) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 256، ومغني المحتاج 3 / 202، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 625.
(3) الاختيار 3 / 116، وحاشية الدسوقي 2 / 278، ومغني المحتاج 3 / 202،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 625، والمغني 6 / 667.
(39/51)
الْمَمْسُوحَ أَعَمُّ مِنَ الْمَجْبُوبِ
عِنْدَ الْبَعْضِ.
ب - الْخَصِيُّ:
3 - الْخَصِيُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ،
يُطْلَقُ عَلَى مَنْ قُطِعَ ذَكَرُهُ، أَوْ سُلَّتْ خُصْيَتَاهُ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ
فِي الْمُرَادِ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَقِيل: الْخَصِيُّ مَنْ قُطِعَتْ
أُنْثَيَاهُ مَعَ جِلْدَتِهِمَا.
وَقِيل: الْخَصِيُّ مَنْ قُلِبَتْ أُنْثَيَاهُ (2) .
وَقِيل: الْخَصِيُّ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ قَائِمُ الأُْنْثَيَيْنِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخَصِيِّ وَالْمَمْسُوحِ: أَنَّ الْمَمْسُوحَ قَدْ
يُطْلَقُ عَلَى ذَاهِبِ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَيَيْنِ جَمِيعًا (4) .
ج - الْعِنِّينُ:
4 - الْعِنِّينُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِتْيَانِ
النِّسَاءِ، أَوْ لاَ يَشْتَهِي النِّسَاءَ (5) .
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 256.
(3) شرح الزرقاني 3 / 172.
(4) شرح المحلي على المنهاج 3 / 210، ومغني المحتاج 3 / 130.
(5) المصباح المنير للفيومي.
(39/52)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:
الْعِنِّينُ هُوَ الْعَاجِزُ عَنِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُل لِعَدَمِ
انْتِشَارِ الآْلَةِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَمْسُوحِ وَالْعِنِّينِ هُوَ بَقَاءُ الذَّكَرِ
وَالأُْنْثَيَيْنِ فِي الْعِنِّينِ، وَذَهَابُهُمَا فِي الْمَمْسُوحِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَمْسُوحِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَمْسُوحِ عِدَّةُ أَحْكَامٍ، مِنْهَا:
مَرْتَبَةُ الْمَمْسُوحِ فِي إِدْخَال الأُْنْثَى الْقَبْرُ
5 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ فِي وَضْعِ
الأُْنْثَى فِي قَبْرِهَا الزَّوْجُ، فَالْمَحْرَمُ الأَْقْرَبُ
فَالأَْقْرَبُ، فَعَبْدُهَا لأَِنَّهُ كَالْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ
وَنَحْوِهِ، فَمَمْسُوحٌ، فَمَجْبُوبٌ، فَخَصِيٌّ لِضَعْفِ شَهْوَتِهِمْ،
وَرُتِّبُوا كَذَلِكَ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الشَّهْوَةِ، إِذِ الْمَمْسُوحُ
أَضْعَفُ مِنَ الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ
شَيْءٌ مِنَ الأُْنْثَيَيْنِ، وَالْمَجْبُوبُ أَضْعَفُ مِنَ الْخَصِيِّ
لِجَبِّ ذَكَرِهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: دَفْنٌ ف 6) .
نَظَرُ الْمَمْسُوحِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَظَرِ الْمَمْسُوحِ
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 21.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 198.
(39/52)
إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ إِلَى ثَلاَثَةِ
آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ
فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُ الْمَمْسُوحِ
إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ وَلَوِ امْرَأَةَ سَيِّدِهِ كَغَيْرِ الْمَمْسُوحِ.
قَال ابْنُ عَقِيلٍ: لاَ تُبَاحُ خَلْوَةُ النِّسَاءِ بِالْخُصْيَانِ وَلاَ
بِالْمَجْبُوبِينَ لأَِنَّ الْعُضْوَ وَإِنْ تَعَطَّل أَوْ عُدِمَ
فَشَهْوَةُ الرِّجَال لاَ تَزُول مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَلاَ يُؤْمَنُ
التَّمَتُّعُ بِالْقُبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لاَ يُبَاحُ
خَلْوَةُ الْفَحْل بِالرَّتْقَاءِ مِنَ النِّسَاءِ.
وَقَال الْقَرَافِيُّ: لاَ يَجُوزُ لِلْخَصِيِّ الدُّخُول عَلَى
الْمَرْأَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَبْدَهَا، وَاسْتُخِفَّ إِذَا كَانَ
عَبْدَ زَوْجِهَا لِلْمَشَقَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا فِي اسْتِتَارِهَا
مِنْهُ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمَمْسُوحَ كَالْفَحْل
فِي النَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمَجْبُوبَ
مُطْلَقًا - سَوَاءٌ جَفَّ مَاؤُهُ أَوْ لاَ - كَالْفَحْل فِي النَّظَرِ
إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (2) ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 625، والقليوبي وعميرة مع شرح المحلي 3 / 210،
والذخيرة 13 / 316. وانظر: القوانين الفقهية ص 437 ط دار الكتاب العربي.
(2) سورة النور / 30.
(39/53)
وَالْمَجْبُوبُ مِنَ الذُّكُورِ
الْمُؤْمِنِينَ فَيَدْخُل تَحْتَ الْخِطَابِ / / = = =، وَقَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " الْخِصَاءُ مُثْلَةٌ فَلاَ يُبِيحُ
مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ " (1) ، وَالْمَجْبُوبُ يَشْتَهِي وَيَسْحَقُ
وَيُنْزِل وَلَوْ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُل (الْفَحْل)
إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ إِلاَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، فَإِنْ كَانَ لاَ
يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا إِلاَّ لِحَاجَةٍ.
وَرَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَقِّ الْمَجْبُوبِ الَّذِي
جَفَّ مَاؤُهُ الاِخْتِلاَطُ بِالنِّسَاءِ.
قَال أَبُو السُّعُودِ: الأَْصَحُّ الْمَنْعُ مُطْلَقًا كَمَا فِي
الْخَانِيَّةِ (2) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ
نَظَرَ الْمَمْسُوحِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ كَالنَّظَرِ إِلَى
الْمَحْرَمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحِل نَظَرُهُ بِلاَ شَهْوَةٍ نَظَرَ
الْمَحْرَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَمْسُوحُ حُرًّا أَمْ لاَ،
__________
(1) أثر عائشة رضي الله عنها: " الخصاء مثلة فلا يبيح. . . ". ذكره صاحب
تكملة فتح القدير (8 / 107 ط الأميرية ببولاق) ، وقال العيني: هذا لم يثبت
عن عائشة رضي الله عنها، وقال الزيلعي في نصب الراية (4 / 250 ط المجلس
العلمي ببيروت) : غريب.
(2) حاشية أبي السعود على شرح الكنز لمنلا مسكين 3 / 397، والهداية مع
تكملة فتح القدير 8 / 98، 107 - 108 ط الأميرية ببولاق.
(39/53)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} (1) ، أَيْ: غَيْرِ أَصْحَابِ
الْحَاجَةِ إِلَى النِّكَاحِ، وَيَشْمَل الْمَمْسُوحَ (2) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَيَنْبَغِي - كَمَا قَال
الزَّرْكَشِيُّ - تَقْيِيدُ جَوَازِ النَّظَرِ فِي الْمَمْسُوحِ بِأَنْ
يَكُونَ مُسْلِمًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ، فَإِنْ كَانَ كَافِرًا مُنِعَ
عَلَى الأَْصَحِّ لأَِنَّ أَقَل أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمَرْأَةِ
الْكَافِرَةِ (3) .
أَثَرُ خَلْوَةِ الْمَمْسُوحِ بِزَوْجَتِهِ فِي تَقْرِيرِ الْمَهْرِ
7 - يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ
خَلْوَةَ الْمَمْسُوحِ بِزَوْجَتِهِ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَخَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ
خَلْوَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (4) .
وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَحَدِ الْمَعَانِي الثَّلاَثَةِ الَّتِي
يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مُسَمًّى أَوْ مَهْرَ
الْمِثْل، حَتَّى لاَ يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ
بِالإِْبْرَاءِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ (5) .
__________
(&# x661 ;) سورة النساء /
31.
(2) شرح المحلي مع حاشية القليوبي 3 / 210، ومغني المحتاج 3 / 130.
(3) مغني المحتاج 3 / 130.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 305.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 303 - 304.
(39/54)
وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ:
وَتُقَرِّرُ الْخَلْوَةُ الْمَهْرَ وَلَوْ لَمْ يَطَأْ، وَلَوْ كَانَ
بِالزَّوْجَيْنِ أَوْ كَانَ بِأَحَدِهِمَا مَانِعٌ حِسِّيٌّ كَجَبِّ
وَرَتْقٍ وَنُضَاوَةٍ أَيْ هُزَالٍ. . . فَإِنَّ الْخَلْوَةَ تُقَرِّرُ
الْمَهْرَ كَامِلاً إِذَا كَانَتْ بِشُرُوطِهَا، لأَِنَّ الْخَلْوَةَ
نَفْسَهَا مُقَرِّرَةٌ لِلْمَهْرِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّ
خَلْوَةَ الْمَمْسُوحِ بِزَوْجَتِهِ لاَ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ وَلاَ
تُؤَثِّرُ فِيهِ.
قَال الْحَطَّابُ: الْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ وَالتَّجَرُّدُ
وَالْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ لاَ يُوجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الصَّدَاقَ (2) .
وَقَال الصَّاوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى كَلاَمِ الدَّرْدِيرِ عَنْ رَدِّ
الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا لِعَيْبِهِ: فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لاَ
يُتَصَوَّرُ وَطْؤُهُ كَالْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ وَالْخَصِيُّ مَقْطُوعِ
الذَّكَرِ فَإِنَّهُ لاَ مَهْرَ عَلَى الزَّوْجِ (3) .
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَمْسُوحِ وَزَوْجَتِهِ
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ بَيْنَ
التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ إِذَا وَجَدَتْ زَوْجَهَا مَمْسُوحًا
__________
(1) كشاف القناع 5 / 152.
(2) مواهب الجليل 3 / 506.
(3) حاشية الصاوي مع الشرح الصغير 2 / 477، ومغني المحتاج 3 / 224 - 225.
(39/54)
لأَِنَّ فِيهِ نَقْصًا يَمْنَعُ الْوَطْءَ
أَوْ يُضْعِفُهُ (1) .
وَلِتَفْصِيل أَحْكَامِ التَّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ وَشُرُوطِ التَّفْرِيقِ
بِهِ. (ر: جَبٌّ ف 5 - 8، وَطَلاَقٌ ف 93 وَمَا بَعْدَهَا) .
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَمْسُوحِ
9 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَمْسُوحَ إِذَا كَانَ يُنْزِل
كَالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ
(2) .
وَإِذَا مَاتَ الْمَمْسُوحُ عَنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ، أَوْ حَدَثَ
الْحَمْل بَعْدَ مَوْتِهِ، فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ هِيَ كَزَوْجَةِ
الْفَحْل فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ، وَفِي الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ هِيَ كَزَوْجَةِ الصَّبِيِّ (3) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى زَوْجَةِ
الْمَمْسُوحِ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ عِدَّةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 525. وانظر: تبيين الحقائق 3 / 22، والشرح الصغير
2 / 469 - 470. والزرقاني 3 / 238، وشرح المحلي على المنهاج 3 / 261. ومغني
المحتاج 3 / 202، وكشاف القناع 5 / 110.
(2) المبسوط للسرخسي 6 / 53.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 530.
(4) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 2 / 258، ومنح الجليل 2 / 372.
(39/55)
الطَّلاَقِ عَلَى زَوْجَةِ الْمَمْسُوحِ
الَّذِي لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلاً (1) .
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَمْسُوحُ عَنْ حَامِلٍ فَتَعْتَدُّ زَوْجَتُهُ
بِالأَْشْهُرِ لاَ بِالْوَضْعِ، إِذْ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ عَلَى
الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ لاَ يُنْزِل وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ
يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ.
وَقَال الإِْصْطَخْرِيُّ وَالْقَاضِيَانِ وَالصَّيْدَلاَنِيُّ
والصَّيْمَرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدِ ابْنُ حَرْبَوَيْهِ يَلْحَقُهُ
الْوَلَدُ، لأَِنَّ مَعْدِنَ الْمَاءِ الصُّلْبُ، وَهُوَ يَنْفُذُ مِنْ
ثُقْبَةٍ إِلَى الظَّاهِرِ وَهُمَا بَاقِيَانِ، وَيُحْكَى ذَلِكَ قَوْلاً
لِلشَّافِعِيِّ قَال الْمَحَلِّيُّ: فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَضَعِ
عَلَى هَذَا الْقَوْل (2) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل
زَوْجَتَهُ وَقَدْ خَلاَ بِهَا فَعِدَّتُهَا ثَلاَثُ حِيَضٍ غَيْرَ
الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيُّ
أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا مَعَ الْمَانِعِ مِنَ
الْوَطْءِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ حَقِيقِيًّا
كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْفَتْقِ وَالرَّتْقِ، أَوْ شَرْعِيًّا
كَالصَّوْمِ وَالإِْحْرَامِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ،
لأَِنَّ الْحُكْمَ هَاهُنَا عَلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ
الإِْصَابَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 366.
(2) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 4 / 50، وتحفة المحتاج 8 / 252 - 253.
(3) المغني 7 / 451 - 452.
(39/55)
ثُمَّ قَالُوا: لاَ تَنْقَضِي عِدَّةُ
الزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِوَضْعِ حَمْلٍ لَمْ يَلْحَقِ الزَّوْجَ
لِصِغَرِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ خَصِيًّا مَجْبُوبًا أَوْ غَيْرَ مَجْبُوبٍ،
لأَِنَّ الْحَمْل لَيْسَ مِنْهُ يَقِينًا فَلَمْ تَعْتَدَّ بِوَضْعِهِ،
وَتَعْتَدُّ بَعْدَهُ عِدَّةَ وَفَاةٍ إِنْ كَانَتْ مُتَوَفًّى عَنْهَا،
أَوْ عِدَّةَ حَيَاةٍ إِنْ كَانَ فَارَقَهَا فِي الْحَيَاةِ حَيْثُ
وَجَبَتْ عِدَّةُ الْفِرَاقِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: عِدَّةٌ 39) .
لُحُوقُ الْوَلَدِ بِالْمَمْسُوحِ
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ بِالْمَمْسُوحِ:
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَمْسُوحَ لاَ يَلْحَقُهُ
الْوَلَدُ، لأَِنَّهُ لاَ يُنْزِل وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ
يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ (2) .
وَقَدْ فَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَجْبُوبَ يَنْتَفِي
عَنْهُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ لِعَانٍ لاِسْتِحَالَةِ حَمْلِهَا مِنْهُ
حِينَئِذٍ عَادَةً، وَمِثْلُهُ مَقْطُوعُ الأُْنْثَيَيْنِ أَوِ الْبَيْضَةِ
الْيُسْرَى فَقَطْ عَلَى الصَّحِيحِ.
فَإِذَا وُجِدَتِ الْبَيْضَةُ الْيُسْرَى وَأَنْزَل فَلاَ بُدَّ
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 560.
(2) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 4 / 50، وروضة الطالبين 8 / 366،
ومطالب أولي النهى 5 / 560، والمغني 7 / 480.
(39/56)
مِنَ اللِّعَانِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ
مَقْطُوعَ الذَّكَرِ.
وَإِنْ فُقِدَتِ الْبَيْضَةُ الْيُسْرَى وَلَوْ قَائِمَ الذَّكَرِ فَلاَ
لِعَانَ وَلَوْ أَنْزَل، وَيَنْتَفِي الْوَلَدُ لِغَيْرِهِ.
وَطَرِيقَةُ الْقَرَافِيِّ أَنَّ الْمَجْبُوبَ وَالْخَصِيَّ إِنْ لَمْ
يُنْزِلاَ فَلاَ لِعَانَ لِعَدَمِ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِمَا، وَإِنْ
أَنْزَلاَ لاَعَنَا (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرُ
كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِهِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَ
الْمَجْبُوبِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ
بِوَلَدٍ إِلَى سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلاَ يَبْطُل
تَفْرِيقُ الْقَاضِي.
وَعِنْدَ التُّمُرْتَاشِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ
الْمَمْسُوحَ يُنْزِل يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَإِنْ عَلِمَ
بِخِلاَفِهِ فَلاَ (2) .
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْمَحَلِّيِّ: قَال الإِْصْطَخْرِيُّ وَالْقَاضِيَانِ
وَالصَّيْدَلاَنِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمْ
مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْمَمْسُوحَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ
لأَِنَّ مَعْدِنَ الْمَاءِ الصُّلْبُ وَهُوَ يَنْفُذُ مِنْ ثُقْبَةٍ إِلَى
الظَّاهِرِ وَهُمَا بَاقِيَانِ، وَيُحْكَى ذَلِكَ قَوْلاً لِلشَّافِعِيِّ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 460.
(2) فتح القدير 2 / 264 ط بولاق، والفتاوى الهندية 1 / 525.
(39/56)
فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَسَبٌ) .
قَذْفُ الْمَمْسُوحِ بِالزِّنَا
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ قَاذِفِ الْمَمْسُوحِ بِالزِّنَا.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ،
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: قَذْفٌ ف 47) .
مُمَوَّهٌ
انْظُرْ: آنِيَّةٌ.
مُمَيِّزٌ
انْظُرْ: تَمْيِيزٌ.
__________
(1) شرح المحلي وحاشيتا القليوبي وعميرة عليه 4 / 50.
(39/57)
مِنًى
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنًى بِالْكَسْرِ وَالتَّنْوِينِ: بُلَيْدَةٌ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ
مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا يُمْنَى بِهَا مِنَ
الدِّمَاءِ، أَيْ: يُرَاقُ، وَحَدُّهَا: مَا بَيْنَ وَادِي مُحَسِّرٍ
وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَهِيَ شِعْبٌ طُولُهُ نَحْوُ مِيلَيْنِ،
وَعَرْضُهُ يَسِيرٌ، وَالْجِبَال مُحِيطَةٌ بِهِ: مَا أَقْبَل مِنْهَا
عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ مِنًى، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهَا فَلَيْسَ مِنْ مِنًى
(1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ وَادِيَ
مُحَسِّرٍ وَجَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَيْسَا مِنْ مِنًى، وَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ مِنًى، وَبَاقِيَ
الْعَقَبَةِ لَيْسَ مِنْهَا، وَقِيل: إِنَّ الْعَقَبَةَ كُلَّهَا مِنْ
مِنًى (2) .
__________
(1) معجم البلدان لياقوت الحموي، والإيضاح في مناسك الحج مع حاشية ابن حجر
الهيتمي ص 322 - 323، والمجموع للنووي 8 / 129، ولسان العرب.
(2) فتح القدير 2 / 173، والدسوقي 2 / 48، والمجموع للنووي 8 / 129،
والإيضاح في مناسك الحج مع حاشية ابن حجر الهيتمي ص 322 - 323، وكشاف
القناع 2 / 499، والمغني 3 / 427.
(39/57)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمِنًى:
مِنًى مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، يُؤَدِّي الْحُجَّاجُ فِيهَا عَدَدًا مِنْ
مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَهِيَ:
رَمْيُ الْجِمَارِ:
2 - تُرْمَى جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ دَفْعِ
الْحُجَّاجِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى، ثُمَّ تُرْمَى الْجِمَارُ
الثَّلاَثُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَهُ، وَتُرْمَى كُل جَمْرَةٍ
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَالرَّمْيُ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَجٌّ ف 59 - 66) .
ذَبْحُ الْهَدْيِ يَوْمَ النَّحْرِ
3 - يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ فِي مَكَّةَ وَالْحَرَمِ، لَكِنْ فِي مِنًى
أَفْضَل، إِلاَّ مَا يُذْبَحُ فِي فِدْيَةِ الأَْذَى فَيَجِبُ ذَبْحُهُ فِي
مَكَّةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَرَمٌ ف 26) وَ (حَجٌّ ف 82) وَ
(هَدْيٌ) .
الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ لِشَعَرِ الرَّأْسِ
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ لِشَعَرِ الرَّأْسِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ
الْحَجِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ
مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ.
(39/58)
وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُهُ الْحُجَّاجُ فِي
مِنًى، لِلإِْسْرَاعِ فِي التَّحَلُّل، وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
فِعْلُهُ فِي الْحَرَمِ أَيَّامَ النَّحْرِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ
يَخْتَصُّ بِمِنْطَقَةِ الْحَرَمِ وَأَيَّامِ النَّحْرِ.
ر: (حَجٌّ ف 67 - 68) .
الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ
5 - يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ
التَّرْوِيَةِ (الثَّامِنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
فَيُصَلِّيَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَهِيَ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ
وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ، وَكُل ذَلِكَ سُنَّةٌ اتِّفَاقًا.
ر: (حَجٌّ ف 97) .
الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَعُرْوَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ
إِلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَيَلْزَمُ الْفِدَاءُ لِمَنْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهُوَ دَمٌ
لِتَرْكِ جُل لَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلِتَرْكِهِ
كُلِّهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِتَرْكِ لَيْلَةٍ
مُدٌّ، وَلِتَرْكِ لَيْلَتَيْنِ مُدَّانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ.
(39/58)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْمَبِيتَ بِمِنًى سُنَّةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ.
وَقَدِ اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْل سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ
(1) وَلَوْلاَ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَمَا احْتَاجَ إِلَى إِذْنٍ.
وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَفَاضَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حَيْنَ صَلَّى
الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ (2) ، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُل
بِظَاهِرِهِ عَلَى الْوُجُوبِ هُنَا.
وَجَعَل الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ دَلاَلَةً عَلَى السُّنِّيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَجٌّ ف 69، 44 - 46،) .
شُرُوطُ الْمَبِيتِ بِمِنًى
7 - لِلْمَبِيتِ فِي مِنًى شُرُوطٌ هِيَ:
أ - سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ، لأَِنَّهُ أَصْل كُل أَعْمَال
الْحَجِّ.
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه البخاري (الفتح 3 / 490) ، ومسلم (2 / 953) .
(2) حديث عائشة: " أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه. . . ".
أخرجه أبو داود (2 / 497) والحاكم (1 / 477) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(39/59)
ب - سَبْقُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لأَِنَّ
الْمَبِيتَ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ حَجَّ بِلاَ وُقُوفٍ.
ج - الزَّمَانُ، وَهُوَ لَيَالِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثَةِ
لِمَنْ تَأَخَّرَ، وَالأُْولَى وَالثَّانِيَةُ لِمَنْ تَعَجَّل فَرَمَى
الْجِمَارَ الثَّلاَثَ وَغَادَرَ مِنًى قَبْل غُرُوبِ ثَانِي أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ، أَوْ قَبْل فَجْرِ ثَالِثِهَا، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (رَمْيٌ ف 6) .
د - المَكَانُ: وَهُوَ مِنًى فِي الْحُدُودِ الْمُقَرَّرَةِ لَهَا.
رُكْنُ الْمَبِيتِ بِمِنًى
8 - رُكْنُ الْمَبِيتِ هُوَ مُكْثُ أَكْثَرِ اللَّيْل، فَإِذَا مَكَثَ
بِمِنًى مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى نِصْفِ اللَّيْلَةِ فَقَدْ أَدَّى وَاجِبَ
الْمَبِيتِ.
(ر: حَجٌّ ف 128) .
الإِْعْفَاءُ مِنَ الْمَبِيتِ بِمِنًى
9 - يَسْقُطُ الْمَبِيتُ بِمِنًى عَنْ ذَوِي الأَْعْذَارِ كَأَهْل
السِّقَايَةِ وَرِعَاءِ الإِْبِل وَالْمَرْضَى وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ.
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٌّ ف 128) .
مُسْتَحَبَّاتُ الْمَبِيتِ بِمِنًى
10 - يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَيَّامَ مِنًى الإِْكْثَارُ مِنَ
(39/59)
الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ،
لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ
وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ (1) . أَيْ هِيَ أَيَّامُ إِفْطَارٍ لاَ يَجُوزُ
الصِّيَامُ فِيهَا، وَأَيَّامُ إِكْثَارٍ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى
بِأَنْوَاعِ الذِّكْرِ (2) .
مُنَابَذَةٌ
انْظُرْ: بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ.
__________
(1) حديث: " أيام التشريق أيام أكل. . . ". أخرجه مسلم (2 / 800) من حديث
نبيشة الهذلي.
(2) الهداية وشرحها 2 / 186، والمسلك المتقسط ص 52، 157، وشرح المنهاج
بحاشية القليوبي 2 / 124، ومغني المحتاج 1 / 505 - 506 و 513، وشرح مختصر
خليل للزرقاني 2 / 283 - 284، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 480، والشرح
الكبير بحاشيته 2 / 48 - 49، والمغني 3 / 449، والفروع 3 / 518 - 519، 527.
(39/60)
مُنَاسَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلاَءَمَةُ.
قَال ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ: الْمُنَاسَبَةُ وَصْفٌ ظَاهِرٌ
مُنْضَبِطٌ، يَحْصُل عَقْلاً مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا
يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِلْعُقَلاَءِ مِنْهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، أَوْ
دُنْيَوِيَّةٌ، أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الْمُنَاسَبَةُ مِنَ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا:
بِالإِْخَالَةِ، وَبِالْمَصْلَحَةِ، وَالاِسْتِدْلاَل، وَبِرِعَايَةِ
الْمَقَاصِدِ، وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ، لأَِنَّهُ
إِبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ (2) .
دَلِيل إِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ:
3 - احْتَجَّ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى إِفَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ
لِلْعِلِّيَّةِ بِتَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ بِهَا، فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ
غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، إِذَا غَلَبَ عَلَى
__________
(1) المعجم الوسيط، وكشاف اصطلاحات الفنون والآداب 6 / 1367.
(2) البحر المحيط 5 / 206.
(39/60)
ظَنِّهِمْ أَنَّهُ يُضَاهِيهِ لِمَعْنًى
أَوْ يُشْبِهُهُ، ثُمَّ قَال: فَالأَْوْلَى الاِعْتِمَادُ لإِِفَادَةِ
الْمُنَاسَبَةِ لِلْعِلِّيَّةِ عَلَى الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى
الأَْمْرِ بِالْقِيَاسِ (1) .
تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ:
4 - يَنْقَسِمُ الْمُنَاسِبُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالإِْقْنَاعُ:
إِلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ، لأَِنَّ الْمُنَاسِبَ إِنْ كَانَ
بِحَيْثُ لاَ يَزُول بِالتَّأَمُّل فِيهِ فَهُوَ الْحَقِيقِيُّ وَإِلاَّ
فَهُوَ الإِْقْنَاعِيُّ.
وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ: وَاقِعٌ فِي مَحَل
الضَّرُورَةِ، أَوْ مَحَل الْحَاجَةِ، أَوْ مَحَل التَّحْسِينِ (2) .
تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ الاِعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ
وَعَدَمُهُ
تَنْقَسِمُ الْمُنَاسَبَةُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهَا
بِالْمُلاَءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَعَدَمِهَا، إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يُلْغِيَهُ الشَّارِعُ:
5 - إِذَا أَوْرَدَ الشَّارِعُ الْفُرُوعَ عَلَى عَكْسِ الْمُنَاسَبَةِ،
فَلاَ إِشْكَال فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّعْلِيل بِهِ، وَذَلِكَ
كَإِيجَابِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ
رَمَضَانَ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ،
__________
(1) البحر المحيط 5 / 207.
(2) التحصيل في المحصول 2 / 192، وشرح الأسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي 3
/ 69، والبحر المحيط 5 / 208.
(39/61)
فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي
رَدْعِهِ مِنَ الْعِتْقِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ بِإِيجَابِهِ
الإِْعْتَاقَ ابْتِدَاءً أَلْغَاهُ، فَلاَ يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَعْتَبِرَهُ الشَّارِعُ:
6 - وَذَلِكَ بِأَنْ يُورِدَ الشَّارِعُ الْفُرُوعَ عَلَى وَفْقِ
الْمُنَاسَبَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِاعْتِبَارِهِ: أَنْ يَنُصَّ
الشَّارِعُ عَلَى الْعِلَّةِ أَوْ يُومِئَ إِلَيْهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَكُنِ
الْعِلَّةُ مُسْتَفَادَةً مِنَ الْمُنَاسَبَةِ (1) .
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُعْلَمَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ وَلاَ إِلْغَاؤُهُ:
7 - وَهُوَ الَّذِي لاَ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أُصُول
الشَّرِيعَةِ بِالاِعْتِبَارِ وَلاَ بِالإِْلْغَاءِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى "
بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ " وَقَدِ اعْتَبَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ
أَدِلَّةِ الْفِقْهِ (2) .
تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلاَءَمَةُ
تَنْقَسِمُ الْمُنَاسَبَةُ إِلَى مُؤَثِّرٍ وَمُلاَئِمٍ وَغَرِيبٍ:
8 - الأَْوَّل: الْمُؤَثِّرُ: وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي
__________
(1) البحر المحيط 5 / 214 وما بعده، وشرح الأسنوي على منهاج الأصول 3 / 77
وما بعدها.
(2) البحر المحيط 5 / 215، والأسنوي على منهاج الأصول 3 / 85.
(39/61)
الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ،
وَسُمِّيَ مُؤَثِّرًا، لِظُهُورِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ.
فَالنَّصُّ كَمَسِّ الْمُتَوَضِّئِ ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ اعْتُبِرَ عَيْنُهُ
فِي عَيْنِ الْحَدَثِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ
فَلاَ يُصَل حَتَّى يَتَوَضَّأَ،
وَالإِْجْمَاعُ: كَقِيَاسِ الأَْمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي سُقُوطِ
الصَّلاَةِ بِالْحَيْضِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ التَّكْرَارِ، إِذْ
ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِالإِْجْمَاعِ، وَلَكِنْ
فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ، فَعُدِّيَ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ.
وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِي اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ
(1) .
9 - الثَّانِي: الْمُلاَئِمُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ عَيْنَهُ
فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، بِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ النَّصِّ، لاَ
بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ، وَسُمِّيَ مُلاَئِمًا لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا
لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ دُونَ مَا
قَبْلَهَا، وَمَثَّلَهُ صَاحِبُ رَوْضَةِ النَّاظِرِ مِنْ أُصُولِيِّ
الْحَنَابِلَةِ: بِظُهُورِ الْمَشَقَّةِ فِي إِسْقَاطِ الصَّلاَةِ عَنِ
الْحَائِضِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ
__________
(1) روضة الناظر 3 / 849 - 850، والبحر المحيط 5 / 216 وما بعدها.
(39/62)
الْحَرَجِ فِي إِسْقَاطِ قَضَاءِ
الصَّلاَةِ عَنِ الْحَائِضِ كَتَأْثِيرِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ فِي إِسْقَاطِ
الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ بِالْقَصْرِ.
10 - الثَّالِثُ: الْغَرِيبُ: وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِ
الْحُكْمِ فَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ وَفْقَ الْوَصْفِ فَقَطْ، وَلاَ
يُعْتَبَرُ عَيْنُ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَلاَ عَيْنِهِ، وَلاَ
جِنْسُهُ فِي جنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، كَالإِْسْكَارِ فِي
تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ اعْتُبِرَ عَيْنُ الإِْسْكَارِ فِي عَيْنِ
الْحُكْمِ، وَيَتَرَتَّبُ التَّحْرِيمُ عَلَى الإِْسْكَارِ فَقَطْ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ: تَوْرِيثُ الْمَبْتُوتَةِ فِي
مَرَضِ الْمَوْتِ إِلْحَاقًا بِالْقَاتِل الْمَمْنُوعِ مِنَ الْمِيرَاثِ
تَعْلِيلاً بِالْمُعَارَضَةِ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ
ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ يُعْهَدِ
اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ هَذَا فَكَانَ غَرِيبًا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) البحر المحيط 5 / 217، وشرح البدخشي على هامش شرح نهاية السول على
منهاج الأصول 3 / 81.
(2) روضة الناظر وجنة المناظر في الأصول 3 / 851.
(39/62)
مُنَاسَخَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُنَاسَخَةُ فِي اللُّغَةِ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ النَّسْخِ وَهُوَ
النَّقْل وَالتَّبْدِيل وَالإِْزَالَةُ، يُقَال: نَسَخَتِ الشَّمْسُ
الظِّل: إِذَا أَذْهَبَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ، وَنَسَخْتُ الْكِتَابَ
نَسْخًا: نَقَلْتَ صُورَتَهُ الْمُجَرَّدَةَ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ، وَذَلِكَ
لاَ يَقْتَضِي إِزَالَةَ الصُّورَةِ الأُْولَى، بَل يَقْتَضِي إِثْبَاتَ
مِثْلِهَا فِي مَادَّةٍ أُخْرَى، وَالاِسْتِنْسَاخُ: التَّقَدُّمُ بِنَسْخِ
الشَّيْءِ وَالتَّرَشُّحُ لِلنَّسْخِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّسْخِ عَنِ
الاِسْتِنْسَاخِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) وَنَسْخُ الْكِتَابِ: إِزَالَةُ الْحُكْمِ
بِحُكْمٍ يَتَعَقَّبُهُ (2) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (3) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ
__________
(1) سورة الجاثية / 29.
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والمغرب في ترتيب المعرب
للمطرزي.
(3) سورة البقرة / 106.
(39/63)
الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ
الْمُنَاسَخَةِ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ: نَقْل نَصِيبِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ
بِمَوْتِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ إِلَى مَنْ يَرِثُ مِنْهُ (1) .
أَحْوَال الْمُنَاسَخَةِ وَأَحْكَامُهَا
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمُنَاسَخَةِ
أَحْوَالاً ثَلاَثَةً لِكُلٍّ مِنْهَا حُكْمُهُ (2) ، قَال الْحِجَّاوِيُّ
وَالْبُهُوتِيُّ: الْمُنَاسَخَةُ ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
2 - الْحَال الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الثَّانِي يَرِثُونَهُ عَلَى
حَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنَ الأَْوَّل، مِثْل أَنْ يَكُونُوا عَصَبَةً
لَهُمَا، فَاقْسِمِ الْمَال بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَلاَ تَنْظُرْ
إِلَى الْمَيِّتِ الأَْوَّل كَمَيِّتٍ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ
وَثَلاَثَ بَنَاتٍ، ثُمَّ مَاتَتْ بِنْتٌ ثُمَّ ابْنٌ، ثُمَّ بِنْتٌ
أُخْرَى ثُمَّ ابْنٌ آخَرُ، وَبَقِيَ ابْنَانِ وَبِنْتٌ. فَاقْسِمِ الْمَال
عَلَى خَمْسَةٍ.
3 - الْحَال الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْمَيِّتِ الأَْوَّل مِنَ
الْمَوْتَى لاَ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَإِخْوَةٍ خَلَّفَ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمْ، فَاجْعَل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 511، والتعريفات للجرجاني، والقوانين الفقهية ص
394، ومغني المحتاج 3 / 36، وتحفة المحتاج 6 / 435، والمطلع على أبواب
المقنع ص 304.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 511، والقوانين الفقهية ص 394، وتحفة
المحتاج 6 / 435، ومغني المحتاج 3 / 36، وكشاف القناع 4 / 443.
(39/63)
مَسَائِلَهُمْ كَعَدَدٍ انْكَسَرَتْ
عَلَيْهِ سِهَامُهُمْ، وَصَحِّحْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي بَابِ التَّصْحِيحِ.
مِثَالُهُ: رَجُلٌ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ. فَمَاتَ أَحَدُهُمْ عَنِ
ابْنَيْنِ، وَالثَّانِي عَنْ ثَلاَثَةٍ، وَالثَّالِثُ عَنْ أَرْبَعَةٍ،
وَالرَّابِعُ عَنْ سِتَّةٍ، فَالْمَسَالَةُ الأُْولَى مِنْ أَرْبَعَةٍ،
وَمَسْأَلَةُ الاِبْنِ الأَْوَّل مِنَ اثْنَيْنِ، وَالثَّانِي مِنْ
ثَلاَثَةٍ، وَالثَّالِثِ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالرَّابِعِ مِنْ سِتَّةٍ
عَدَدُ الْبَنِينَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ.
فَالْحَاصِل مِنْ مَسَائِل الْوَرَثَةِ اثْنَانِ وَثَلاَثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ
وَسِتَّةٌ، فَالاِثْنَانِ تَدْخُل فِي الأَْرْبَعَةِ وَالثَّلاَثَةُ
تَدْخُل فِي السِّتَّةِ، فَأَسْقِطِ الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ يَبْقَى
أَرْبَعَةٌ وَسِتَّةٌ، وَهُمَا مُتَوَافِقَانِ، فَاضْرِبْ وَفْقَ
الأَْرْبَعَةِ فِي السِّتَّةِ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَضْرِبْهَا
فِي الْمُسَالَةِ الأُْولَى وَهِيَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ، لِوَرَثَةِ كُل ابْنٍ اثْنَا عَشَرَ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ
وَاحِدٍ فِي الاِثْنَيْ عَشَرَ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الاِبْنِ
الأَْوَّل سِتَّةٌ، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الاِبْنِ الثَّانِي
أَرْبَعَةٌ، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الاِبْنِ الثَّالِثِ ثَلاَثَةٌ،
وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ ابْنَيِ الاِبْنِ الرَّابِعِ سَهْمَانِ، لأَِنَّ كُل
صِنْفٍ مِنْهُمْ يَخْتَصُّ بِتَرِكَةِ مُوَرِّثِهِ.
4 - الْحَال الثَّالِثُ: مَا عَدَا ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ وَرَثَةُ
الثَّانِي لاَ يَرِثُونَهُ كَالأَْوَّل، وَيَكُونُ مَا بَعْدَ
(39/64)
الْمَيِّتِ الأَْوَّل مِنَ الْمَوْتَى
يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: أَنْ تَقْسِمَ سِهَامَ الْمَيِّتِ الثَّانِي عَلَى
مَسْأَلَتِهِ. فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ
الأُْولَى.
كَرَجُلٍ خَلَّفَ زَوْجَةً وَبِنْتًا وَأَخًا لِغَيْرِ أُمٍّ، ثُمَّ
مَاتَتِ الْبِنْتُ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَعَمًّا، فَإِنَّ
الأَْوَّل مِنْ ثَمَانِيَةٍ: لِلزَّوْجَةِ وَاحِدٌ وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ
وَلِلأَْخِ الْبَاقِي ثَلاَثَةٌ. وَمَسْأَلَةُ الْبِنْتِ مِنْ أَرْبَعَةٍ:
لِزَوْجِهَا وَاحِدٌ وَلِبِنْتِهَا اثْنَانِ وَلِعَمِّهَا وَاحِدٌ. وَلَهَا
مِنَ الأُْولَى أَرْبَعَةٌ، وَمَسْأَلَتُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ فَهِيَ
مُنْقَسِمَةٌ عَلَيْهَا، فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ،
لِلزَّوْجَةِ وَاحِدٌ، وَلِلأَْخِ الَّذِي هُوَ عَمٌّ فِي الثَّانِيَةِ
أَرْبَعَةٌ، وَلِزَوْجِ الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ، وَلِبِنْتِهَا اثْنَانِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لاَ تَنْقَسِمَ سِهَامُ الثَّانِي عَلَى
مَسْأَلَتِهِ بَل تُوَافِقُهَا، فَرُدَّ مَسْأَلَتَهُ إِلَى وَفْقِهَا،
وَاضْرِبْ وَفْقَ مَسْأَلَتِهِ فِي كُل الأُْولَى، فَمَا بَلَغَ فَهُوَ
الْجَامِعَةُ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ، ثُمَّ كُل مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ
الْمُسَالَةِ الأُْولَى مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ، وَمَنْ لَهُ
شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ سِهَامِ الْمَيِّتِ
الثَّانِي.
مِثْل: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا لِلْبِنْتِ فِي مَسْأَلَتِنَا
الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ مَسْأَلَتَهَا تَكُونُ مِنَ اثْنَيْ
(39/64)
عَشَرَ، لأَِنَّ فِيهَا نِصْفًا
لِلْبِنْتِ، وَرُبُعًا لِلزَّوْجِ، وَسُدُسًا لِلأُْمِّ تُوَافِقُ
سِهَامَهَا مِنَ الأُْولَى وَهِيَ أَرْبَعَةٌ بِالرُّبُعِ، فَتَرْجِعُ
الاِثْنَا عَشَرَ إِلَى رُبُعِهَا ثَلاَثَةٍ، فَاضْرِبْهَا فِي الأُْولَى -
وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ - تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ: لِلْمَرْأَةِ الَّتِي
هِيَ زَوْجَةٌ فِي الأُْولَى أُمٌّ فِي الثَّانِيَةِ سَهْمٌ مِنَ الأُْولَى
مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ ثَلاَثَةٌ بِثَلاَثَةٍ، وَمِنَ
الثَّانِيَةِ سَهْمَانِ فِي وَفْقِ سِهَامِ الْمَيِّتَةِ بِاثْنَيْنِ.
فَيَكُونُ لَهَا خَمْسَةٌ، وَلِلأَْخِ مِنَ الأُْولَى ثَلاَثَةٌ فِي وَفْقِ
الثَّانِيَةِ ثَلاَثَةٍ بِتِسْعَةٍ، وَلَهُ بِكَوْنِهِ عَمًّا فِي
الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ فِي وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ. فَيَجْتَمِعُ لَهُ عَشَرَةٌ،
وَلِزَوْجِ الْبِنْتِ مِنَ الثَّانِيَةِ ثَلاَثَةٌ فِي وَاحِدٍ
بِثَلاَثَةٍ، وَلِبِنْتِهَا مِنْهَا سِتَّةٌ فِي وَاحِدٍ بِسِتَّةٍ.
وَمَجْمُوعُ السِّهَامِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ تَنْقَسِمَ سِهَامُ الْمَيِّتِ الثَّانِي
عَلَى مَسْأَلَتِهِ وَلاَ تُوَافِقُهَا. فَاضْرِبِ الْمَسْأَلَةَ
الثَّانِيَةَ فِي كُل الْمَسْأَلَةِ الأُْولَى فَمَا حَصَل فَهُوَ
الْجَامِعَةُ، ثُمَّ كُل مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الأُْولَى مَضْرُوبٌ فِي
الثَّانِيَةِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي سِهَامِ
الْمَيِّتِ الثَّانِي.
وَذَلِكَ كَأَنْ تُخَلِّفَ الْبِنْتُ - الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا عَنْهَا
وَعَنْ زَوْجَةٍ وَأَخٍ - بِنْتَيْنِ وَزَوْجًا وَأُمًّا، فَإِنَّ
الأُْولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَسِهَامُ الْبِنْتِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ،
وَمَسْأَلَتُهَا تَعُول إِلَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ: لِلْبِنْتَيْنِ
(39/65)
ثَمَانِيَةٌ، وَلِلزَّوْجِ ثَلاَثَةٌ،
وَلِلأُْمِّ اثْنَانِ، وَالأَْرْبَعَةُ لاَ تَنْقَسِمُ عَلَيْهَا وَلاَ
تُوَافِقُهَا، فَاضْرِبْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الأُْولَى تَكُنِ
الْجَامِعَةُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ: لِلْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ أُمٌّ فِي
الثَّانِيَةِ زَوْجَةٌ فِي الأُْولَى سَهْمٌ مِنَ الأُْولَى فِي
الثَّانِيَةِ بِثَلاَثَةَ عَشَرَ، وَلَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ سَهْمَانِ فِي
سِهَامِ الْمَيِّتَةِ مِنَ الأُْولَى أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ مُجْتَمَعٌ
لَهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَلأَِخِي الْمَيِّتِ الأَْوَّل ثَلاَثَةٌ مِنَ
الأُْولَى فِي الثَّانِيَةِ بِتِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ
مِنَ الثَّانِيَةِ لاِسْتِغْرَاقِ الْفُرُوضِ الْمَال، وَلِلزَّوْجِ مِنَ
الثَّانِيَةِ ثَلاَثَةٌ فِي سِهَامِ الْمَيِّتَةِ الأَْرْبَعَةِ بِاثْنَيْ
عَشَرَ، وَلِبَنِيهَا مِنَ الثَّانِيَةِ ثَمَانِيَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ
بِاثْنَيْنِ وَثَلاَثِينَ. وَمَجْمُوعُ السِّهَامِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ.
5 - فَإِنْ مَاتَ ثَالِثٌ قَبْل الْقِسْمَةِ جُمِعَتْ سِهَامُهُ مِمَّا
صَحَّتْ مِنْهُ الأُْولَيَانِ، وَعَمِلْتَ فِيهَا عَمَلَكَ فِي مَسْأَلَةِ
الثَّانِي مَعَ الأُْولَى، بِأَنْ تَنْظُرَ بَيْنَ سِهَامِهِ
وَمَسْأَلَتِهِ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ عَلَيْهَا لَمْ تَحْتَجْ لِضَرْبٍ،
وَإِلاَّ فَإِمَّا أَنْ تُوَافِقَ أَوْ تُبَايِنَ. فَإِنْ وَافَقَتْ
رَدَدْتَ الثَّالِثَةَ لِوَفْقِهَا وَضَرَبْتَهُ فِي الْجَامِعِ، وَإِنْ
بَايَنَتْ ضَرَبْتَ الثَّالِثَةَ فِي الْجَامِعَةِ، ثُمَّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ
مِنَ الْجَامِعَةِ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي وَفْقِ الثَّالِثَةِ عِنْدَ
التَّوَافُقِ، أَوْ كُلِّهَا عِنْدَ التَّبَايُنِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ
الثَّالِثَةِ يَأْخُذُهُ مَضْرُوبًا فِي وَفْقِ سِهَامِ مُوَرِّثِهِ مِنَ
(39/65)
الْجَامِعَةِ عِنْدَ الْمُوَافَقَةِ أَوْ
فِي كُلِّهَا عِنْدَ الْمُبَايَنَةِ.
مِثَالُهُ: مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَثَلاَثِ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ
أَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَتَعُول إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ.
مَاتَتِ الأُْخْتُ مِنَ الأَْبَوَيْنِ عَنْ زَوْجِهَا وَأُمِّهَا
وَأُخْتِهَا لأَِبِيهَا وَأُخْتِهَا لأُِمِّهَا أَصْل مَسْأَلَتِهَا مِنْ
سِتَّةٍ، وَتَعُول إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَسِهَامُهَا مِنَ الأُْولَى سِتَّةٌ
مُتَّفِقَانِ بِالنِّصْفِ، فَاضْرِبْ نِصْفَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةً فِي
الأُْولَى تَبْلُغْ سِتِّينَ، وَاقْسِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ: لِلزَّوْجَةِ
مِنَ الأُْولَى ثَلاَثَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلِلأُْمِّ
مِنَ الأُْولَى اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ وَمِنَ الثَّانِيَةِ
وَاحِدٌ فِي ثَلاَثَةٍ. فَيَجْتَمِعُ لَهَا أَحَدَ عَشَرَ، وَلأُِخْتِ
الأَْوَّل لأَِبِيهِ اثْنَانِ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ، وَلَهَا مِنَ
الثَّانِيَةِ ثَلاَثَةٌ فِي ثَلاَثَةٍ بِتِسْعَةٍ. يَجْتَمِعُ لَهَا
سَبْعَةَ عَشَرَ، وِلِلأُْخْتِ لِلأُْمِّ مِنَ الأُْولَى اثْنَانِ فِي
أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ فِي ثَلاَثَةٍ
يَجْتَمِعُ لَهَا أَحَدَ عَشَرَ. وَلِزَوْجِ الثَّانِيَةِ مِنَ
الثَّانِيَةِ ثَلاَثَةٌ فِي ثَلاَثَةٍ بِتِسْعَةٍ.
ثُمَّ مَاتَتِ الأُْمُّ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا وَبِنْتًا وَهِيَ
الأُْخْتُ لأُِمٍّ. فَمَسْأَلَتُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَلَهَا مِنَ
الْجَامِعَةِ أَحَدَ عَشَرَ لاَ تَنْقَسِمُ وَلاَ تُوَافِقُ، فَتَضْرِبْ
مَسْأَلَتَهَا أَرْبَعْةً فِي الْجَامِعَةِ وَهِيَ سِتُّونَ
(39/66)
تَبْلُغْ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ.
وَمِنْهَا تَصِحُّ الثَّلاَثُ، لِلزَّوْجَةِ مِنَ الْجَامِعَةِ اثْنَا
عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ. وَلِلأُْخْتِ لأَِبٍ
سَبْعَةَ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ بِثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ، وَلِلأُْخْتِ
لأُِمٍّ مِنَ الْجَامِعَةِ أَحَدَ عَشَرَ فِي أَرْبَعَةٍ بِأَرْبَعَةٍ
وَأَرْبَعِينَ، وَمِنَ الثَّالِثَةِ اثْنَانِ فِي أَحَدَ عَشَرَ وَهِيَ
سِهَامُ الثَّالِثَةِ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ. فَيَجْتَمِعُ لَهَا سِتَّةٌ
وَسِتُّونَ، وَلِزَوْجِ الثَّانِيَةِ تِسْعَةٌ مِنَ الْجَامِعَةِ فِي
أَرْبَعَةٍ بِسِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ، وَلِزَوْجِ الثَّالِثَةِ مِنْهَا
وَاحِدٌ فِي أَحَدَ عَشَرَ بِأَحَدَ عَشَرَ. وَكَذَا أُخْتِهَا.
6 - وَكَذَلِكَ تَصْنَعُ فِي الْمَيِّتِ الرَّابِعِ بِأَنْ تَعْمَل لَهُ
مَسْأَلَةً وَتُقَابِل بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِهَامِهِ مِنَ الْجَامِعَةِ
لِلثَّلاَثِ قَبْلَهَا، فَإِمَّا أَنْ تَنْقَسِمَ أَوْ تُوَافِقَ أَوْ
تُبَايِنَ، وَتُتِمَّ الْعَمَل عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
7 - وَكَذَا تَصْنَعُ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ مِنْ خَامِسٍ أَوْ أَكْثَرَ
بِأَنْ تَعْمَل لِلْخَامِسِ مَسْأَلَةً وَتُقَابِل بَيْنَهَا وَبَيْنَ
سِهَامِهِ مِنَ الْجَامِعَةِ لِلأَْرْبَعِ قَبْلَهَا، ثُمَّ تَعْمَل
لِلسَّادِسِ مَسْأَلَةً وَتُقَابِل بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِهَامِهِ مِنَ
الَّتِي قَبْلَهَا، وَهَكَذَا فَتَكُونُ الْجَامِعَةُ كَالأُْولَى.
وَمَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ كَالثَّانِيَةِ وَتُتِمُّ الْعَمَل عَلَى مَا
تَقَدَّمَ.
وَالاِخْتِبَارُ بِجَمْعِ الأَْنْصِبَاءِ فَإِنْ سَاوَى حَاصِلُهَا
الْجَامِعَةَ فَالْعَمَل صَحِيحٌ وَإِلاَّ فَأَعِدْهُ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 443 وما بعدها، مطالب أولي النهى 4 / 599.
(39/66)
الْمَسْأَلَةُ الْمَأْمُونِيَّةُ
8 - إِذَا قِيل: مَيِّتٌ مَاتَ عَنْ أَبَوَيْنِ وَبِنْتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ
تُقْسَمِ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ عَمَّنْ فِي
الْمَسْأَلَةِ فَقَطْ أَوْ مَعَ زَوْجٍ، احْتِيجَ إِلَى السُّؤَال عَنِ
الْمَيِّتِ الأَْوَّل أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ
الأَْوَّل رَجُلاً فَالأَْبُ فِي الأُْولَى جَدٌّ وَارِثٌ فِي الثَّانِيَةِ
لأَِنَّهُ أَبُو أَبٍ.
وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ حَيْثُ مَاتَتْ
عَمَّنْ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَطْ. لأَِنَّ الأُْولَى مِنْ سِتَّةٍ لِكُلٍّ
مِنَ الأَْبَوَيْنِ سَهْمٌ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْبِنْتَيْنِ سَهْمَانِ.
وَالثَّانِيَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ ثَلاَثَةٌ،
وَلِلْجَدِّ عَشَرَةٌ، وَلِلأُْخْتِ خَمْسَةٌ، وَسِهَامُ الْمَيِّتِ
اثْنَانِ لاَ تَنْقَسِمُ عَلَى الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ لَكِنْ تُوَافِقُهَا
بِالنِّصْفِ، فَرُدَّهَا لِتِسْعَةٍ وَاضْرِبْهَا فِي سِتَّةٍ تَبْلُغْ
أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ:
لِلأُْمِّ مِنَ الأُْولَى وَاحِدٌ فِي تِسْعَةٍ بِتِسْعَةٍ وَمِنَ
الثَّانِيَةِ ثَلاَثَةٌ فِي وَاحِدٍ، يَجْتَمِعُ لَهَا اثْنَا عَشَرَ.
وَلِلأَْبِ مِنَ الأُْولَى وَاحِدٌ فِي تِسْعَةٍ بِتِسْعَةٍ وَمِنَ
الثَّانِيَةِ عَشَرَةٌ فِي وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ، يَجْتَمِعُ لَهُ تِسْعَةَ
عَشَرَ.
وَلِلْبِنْتِ مِنَ الأُْولَى سَهْمَانِ فِي تِسْعَةٍ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَمِنَ الثَّانِيَةِ خَمْسَةٌ فِي وَاحِدٍ، وَمَجْمُوعُهَا
(39/67)
ثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ. وَمَجْمُوعُ
سِهَامِ الْكُل أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَالأَْبُ فِي الأُْولَى أَبُو أُمٍّ،
فِي الثَّانِيَةِ لاَ يَرِثُ، وَالأُْخْتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ شَقِيقَةً
أَوْ لأُِمٍّ.
وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، إِنْ كَانَتْ لأُِخْتٍ
شَقِيقَةٍ، لأَِنَّ الأُْولَى مِنْ سِتَّةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَالثَّانِيَةُ
مِنْ أَرْبَعَةٍ بِالرَّدِّ، لِلْجَدَّةِ وَاحِدٌ، وَلِلشَّقِيقَةِ
ثَلاَثَةٌ، وَسِهَامُ الْمَيِّتَةِ اثْنَانِ لاَ تَنْقَسِمُ عَلَى
الأَْرْبَعَةِ لَكِنْ تُوَافِقُهَا بِالنِّصْفِ فَتُرَدُّ الأَْرْبَعَةُ
لاِثْنَيْنِ، وَتَضْرِبُهَا فِي سِتَّةٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ
تَقْسِمُهَا، لِلأَْبِ مِنَ الأُْولَى وَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ
وَلاَ شَيْءَ لَهُ مِنَ الثَّانِيَةِ. وَلِلْبِنْتِ مِنَ الأُْولَى
اثْنَانِ فِي اثْنَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ وَمِنَ الثَّانِيَةِ ثَلاَثَةٌ فِي
وَاحِدٍ بِثَلاَثَةٍ، وَلِلأُْمِّ مِنَ الأُْولَى وَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ
بِاثْنَيْنِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَاحِدٌ فِي وَاحِدٍ فَلَهَا ثَلاَثَةٌ،
وَمَجْمُوعُ السِّهَامِ اثْنَا عَشَرَ.
وَإِنْ كَانَتِ الأُْخْتُ لأُِمٍّ فَمَسْأَلَةُ الرَّدِّ مِنَ اثْنَيْنِ
وَسِهَامُ الْمَيِّتَةِ مِنَ الأُْولَى اثْنَانِ. فَتَصِحُّ
الْمَسْأَلَتَانِ مِنَ السِّتَّةِ: لِلأَْبِ وَاحِدٌ، وَلِلْبِنْتِ
ثَلاَثَةٌ، وَلِلْجَدَّةِ اثْنَانِ.
وَهِيَ - أَيِ الْمَسْأَلَةُ الْمَسْئُول عَنْهَا بِأَبَوَيْنِ
وَابْنَتَيْنِ لَمْ تُقْسَمِ التَّرِكَةُ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَى
(39/67)
الْبِنْتَيْنِ - (الْمَأْمُونِيَّةُ)
لأَِنَّ الْمَأْمُونَ سَأَل عَنْهَا يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ - بِالثَّاءِ
الْمُثَلَّثَةِ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ. فَقَال لَهُ
يَحْيَى: الْمَيِّتُ الأَْوَّل ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ
فَطِنَ لَهَا. فَقَال لَهُ: إِذَا عَرَفْتَ التَّفْصِيل فَقَدْ عَرَفْتَ
الْجَوَابَ، وَوَلاَّهُ (1) .
مَنَاسِكُ
انْظُرْ: حَجٌّ، عُمْرَةٌ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(39/68)
مُنَاشَدَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُنَاشَدَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ نَشَدَ،
وَالْمُنَاشَدَةُ: الْمُنَادَاةُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ.
يُقَال: نَشَدْتُ الضَّالَّةَ: رَفَعْتُ نَشِيدِي: أَيْ صَوْتِي
بِطَلَبِهَا، فَأَنَا نَاشِدٌ، وَأَنْشَدْتُهَا: أَيْ رَفَعْتُ صَوْتِي
بِتَعْرِيفِهَا: فَأَنَا مُنْشِدٌ (1) ، كَمَا يُقَال: نَشَدَ بِالشِّعْرِ
يَنْشُدُهُ: إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِهِ، وَنَاشَدَ الْمُعْتَدِي
بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنِ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهِ
بِقَوْلِهِ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَنَحْوَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُنَاشَدَةِ:
إِنْشَادُ اللُّقَطَةِ
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِنْشَادَ اللُّقَطَةِ
__________
(1) لسان العرب، والحاوي الكبير 9 / 427 - 428.
(2) حاشية القليوبي 3 / 143، ومواهب الجليل 6 / 314، والخرشي 8 / 105.
(39/68)
وَاجِبٌ عَلَى الْمُلْتَقِطِ، سَوَاءٌ
أَرَادَ تَمَلُّكَهَا أَوْ أَرَادَ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ ف 7) ، وَمُصْطَلَحِ
(تَعْرِيفٌ ف 7) .
إِنْشَادُ لُقَطَةِ غَيْرِ الْحَيَوَانِ
3 - لِلُقَطَةِ غَيْرِ الْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ لإِِنْشَادِهَا
حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلاَ يُتَعَرَّضُ
لَهَا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ
مِنْ مَسْجِدٍ، أَوْ طَرِيقٍ، أَوْ مَوَاتٍ، فَلاَ يَخْلُو مِنْ
أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ أَوْ بِغَيْرِ مَكَّةَ، فَإِنْ
كَانَتْ بِغَيْرِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلاَدِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
ظَاهِرٍ وَمَدْفُونٍ (1) .
فَإِنْ كَانَ الْمَال ظَاهِرًا: وَكَانَ مِمَّا لاَ يَبْقَى كَالطَّعَامِ
الرَّطْبِ الَّذِي يُفْسِدُهُ الإِْمْسَاكُ كَالْهَرِيسَةِ، وَالْفَوَاكِهِ
وَالْبُقُول الَّتِي لاَ تَبْقَى عَلَى الأَْيَّامِ، فَقَدْ حَكَى
الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ أَنَّهُ قَال فِي
مَوْضِعٍ: يَأْكُلُهُ الْوَاجِدُ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَحْبَبْتُ
أَنْ يَبِيعَهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ
يُخَرِّجُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) الحاوي الكبير 9 / 426.
(39/69)
أَحَدُهُمَا: كَالشَّاةِ الَّتِي لَمَّا
تَعَذَّرَ اسْتِبْقَاؤُهَا أُبِيحَ لِوَاجِدِهَا أَكْلُهَا بِلاَ
إِنْشَادٍ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ، بِخِلاَفِ الشَّاةِ
الَّتِي لاَ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا فَأُبِيحَ لَهُ أَكْلُهَا، وَالطَّعَامُ
وَإِنْ كَانَ رَطْبًا يَجِبُ إِنْشَادُهُ فَلَمْ يُسْتَبَحْ أَكْلُهُ.
فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَأَكَلَهُ صَارَ ضَامِنًا بِقِيمَتِهِ،
وَعَلَيْهِ إِنْشَادُ الطَّعَامِ حَوْلاً، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَجُوزُ
أَكْلُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي
بَيْعِهِ، وَلاَ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى
الإِْتْيَانِ لِلْحَاكِمِ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ
أَعْوَزَهُ إِذْنُ الْحَاكِمِ جَازَ بَيْعُهُ، فَلَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ
الْحَاكِمِ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، وَعَلَيْهِ إِنْشَادُ
الطَّعَامِ حَوْلاً، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ الرَّطْبُ مِمَّا يُمْكِنُ
إِبْقَاؤُهُ بِعِلاَجٍ، كَرَطْبٍ يَتَجَفَّفُ، وَالْعِنَبِ الَّذِي
يَتَزَبَّبُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ الطَّعَامِ فِي وُجُوبِ إِنْشَادِهِ
وَاسْتِبْقَائِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لاَ يَبْقَى
عَرَّفَهُ حَتَّى إِذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَيَنْبَغِي
أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا (2) .
__________
(1) الحاوي الكبير 9 / 456 - 457، والمحلي شرح المنهاج 3 / 119، وتحفة
المحتاج 6 / 328.
(2) البناية في شرح الهداية 6 / 23، ورد المحتار 3 / 320.
(39/69)
أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا يَبْقَى
كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْقُمَاشِ،
فَهَذِهِ هِيَ اللُّقَطَةُ الَّتِي قَال فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ
عَرِّفْهَا سَنَةً (1) ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِشُرُوطِ تَعْرِيفِهَا،
ثُمَّ بَعْدَ الْحَوْل إِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا تَمَلَّكَهَا إِنْ
أَرَادَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَال مَدْفُونًا، فَضَرَبَانِ: جَاهِلِيٌّ وَإِسْلاَمِيٌّ.
فَإِنْ كَانَ إِسْلاَمِيًّا فَلُقَطَةٌ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
اللُّقَطَةِ فَيُنْشَدُ.
وَإِنْ كَانَ جَاهِلِيًّا فَهُوَ رِكَازٌ، وَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ.
مُدَّةُ الإِْنْشَادِ
4 - مُدَّةُ الإِْنْشَادِ حَوْلٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ،
وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَهُمْ: يُنْشِدُهَا إِلَى أَنْ يَظُنَّ أَنَّ
صَاحِبَهَا لاَ يَطْلُبُهَا، وَلَيْسَ لِلإِْنْشَادِ مُدَّةٌ مُحَدَّدَةٌ
(2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لُقْطَةٌ ف 8) .
__________
(1) حديث: " اعرف عفاصها ووكاءها. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 78) ،
ومسلم (3 / 1347) من حديث زيد بن خالد الجهني، واللفظ لمسلم.
(2) الحاوي الكبير 9 / 438، وكشاف القناع 4 / 216، والمحلي شرح المنهاج 3 /
121، وحاشية ابن عابدين 3 / 320.
(39/70)
هَذَا فِي غَيْرِ لُقَطَةِ الْحَرَمِ،
أَمَّا لُقَطَةُ الْحَرَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لُقَطَةَ الْحَرَمِ كَلُقَطَةِ سَائِرِ
الْبِلاَدِ فِي الأَْحْكَامِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّهُ لَيْسَ لِوَاجِدِ لُقَطَةِ
مَكَّةَ تَمَلُّكُهَا، وَيُنْشِدُهَا أَبَدًا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (لُقَطَةٌ ف 14) .
أَمَاكِنُ الإِْنْشَادِ
5 - أَمَاكِنُ الإِْنْشَادِ هِيَ: مَجَامِعُ النَّاسِ وَمَحَافِلُهُمْ مِنَ
الْبُلْدَانِ الَّتِي وَجَدَ اللُّقَطَةَ فِيهَا، وَمَحَال الرِّحَال،
وَمُنَاخُ الأَْسْفَارِ، وَفِي الأَْسْوَاقِ.
فَأَمَّا الضَّوَاحِي الْخَالِيَةُ مِنَ النَّاسِ فَلاَ يَكُونُ
الإِْنْشَادُ فِيهَا تَعْرِيفًا.
وَيُنْشِدُهَا فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ خُرُوجِ الْجَمَاعَاتِ،
أَوْ أَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَى مَكَانِ الاِلْتِقَاطِ، وَإِنْ جَازَتْ
قَافِلَةٌ تَبِعَهُمْ وَأَنْشَدَهَا فِيهِمْ (2) .
إِنْشَادُ اللُّقَطَةِ فِي الْمَسَاجِدِ
6 - يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
__________
(1) الحاوي الكبير 9 / 427، والمحلي شرح المنهاج 3 / 121.
(2) الحاوي الكبير 9 / 440، والمحلي شرح المنهاج 3 / 120، وابن عابدين 3 /
320.
(39/70)
إِنْشَادُ اللُّقَطَةِ فِي الْمَسَاجِدِ،
لِخَبَرِ: مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ
فَلْيَقُل: لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَسْأَل مَنْ فِي الْمَسْجِدِ فِي
غَيْرِ صُورَةِ إِنْشَادٍ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ عَنْ حَظْرِ إِنْشَادِ اللُّقَطَةِ فِي
الْمَسَاجِدِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالُوا: لاَ يُكْرَهُ إِنْشَادُ
اللُّقَطَةِ فِيهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَل شَأْنُهُ
جَعَل هَذَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ: أَيْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ،
فَرُبَّمَا يَرْجِعُ مَالِكُهَا وَإِنْ طَال الزَّمَنُ (2) .
إِنْشَادُ ضَوَال الْحَيَوَانِ
7 - ضَوَال الْحَيَوَانِ إِنْ وُجِدَتْ فِي صَحْرَاءَ: فَإِنْ كَانَتْ
مِمَّا يَصِل إِلَى الْمَاءِ وَالرِّعْيِ بِنَفْسِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْ
نَفْسِهِ صِغَارَ السِّبَاعِ بِقُوَّتِهِ كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ
وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرِ فَلاَ يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهَا
لِلنِّشْدَانِ وَلاَ لِلتَّمَلُّكِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ضَوَال الإِْبِل: مَا لَكَ وَلَهَا؟ ! مَعَهَا سِقَاؤُهَا
وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُل الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا
رَبُّهَا (3) .
__________
(1) حديث: " من سمع رجلاً ينشد ضالة. . . ". أخرجه مسلم 1 / 397 من حديث
أبي هريرة.
(2) المحلي وحاشية قليوبي 3 / 120 - 121 و 123.
(3) حديث: " ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها. . . ". أخرجه البخاري (الفتح
5 / 46) ومسلم (3 / 1347 - 1348) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(39/71)
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِمَّا لاَ يَدْفَعُ
عَنْ نَفْسِهِ صِغَارَ السِّبَاعِ، وَيَعْجِزُ عَنِ الْوُصُول إِلَى
الْمَاءِ وَالرِّعْيِ كَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ، فَلِلْوَاجِدِ أَخْذُهُ
وَأَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ نِشْدَانٍ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ إِذَا ظَهَرَ
مَالِكُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا بِالصَّحْرَاءِ إِذَا لَمْ
يَتَيَسَّرْ حَمْلُهَا أَوْ سَوْقُهَا لَلْعُمْرَانِ. وَفِي قَوْلٍ
عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَوْ مَعَ
تَيَسُّرِ سَوْقِهَا لَلْعُمْرَانِ، وَإِنْ أَتَى بِهَا حَيَّةً
لَلْعُمْرَانِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَالَّةٌ ف 3 - 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
الإِْنْشَادُ بِالشِّعْرِ
8 - الإِْنْشَادُ بِالشِّعْرِ جَائِزٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ
وَخَلاَ عَنْ هَجْوٍ وَإِغْرَاقٍ فِي الْمَدْحِ وَالْكَذِبِ الْمَحْضِ
وَالْغَزَل الْحَرَامِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شِعْرٌ ف 7) .
مُنَاشَدَةُ الظَّالِمِ
9 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَرَّضَ الْمُحَارِبُ
لِلْمُسَافِرِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَاشِدَهُ قَبْل الْقِتَال إِذَا
أَمْكَنَ.
__________
(1) الحاوي الكبير 9 / 429 - 430، والفواكه الدواني 2 / 242، والدسوقي 4 /
122.
(39/71)
وَالْمُنَاشَدَةُ هُنَا أَنْ يَدْعُوَهُ
إِلَى التَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ.
وَصِيغَةُ الْمُنَاشَدَةِ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ إِلاَّ مَا خَلَّيْتَ
سَبِيلِي، أَوِ: اتَّقِ اللَّهَ وَكُفَّ عَنِ الاِعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ،
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالْوَعْظِ.
وَقَال سَحْنُونُ: لاَ يُنَاشِدُ الْمُعْتَرِضَ لَهُ وَلاَ يَدْعُوهُ
لِلتَّقْوَى، لأَِنَّ الدَّعْوَةَ لِلتَّقْوَى وَالتَّذْكِيرِ لاَ
يَزِيدُهُ إِلاَّ إِشْلاَءً وَجُرْأَةً (1) .
مُنَاصَرَةٌ
انْظُرْ: عَاقِلَةٌ.
مُنَاضَلَةٌ
انْظُرْ: سِبَاقٌ.
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 294، والخرشي 8 / 105، ومواهب الجليل 6 / 314.
(39/72)
مُنَاظَرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُنَاظَرَةُ لُغَةً: يُقَال: نَاظَرَ فُلاَنًا: صَارَ نَظِيرًا
لَهُ، وَنَاظَرَ فُلاَنًا: بَاحَثَهُ وَبَارَاهُ فِي الْمُجَادَلَةِ،
وَنَاظَرَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: جَعَلَهُ نَظِيرًا لَهُ.
فَالْمُنَاظَرَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّظِيرِ أَوْ مِنَ النَّظَرِ
بِالْبَصِيرَةِ (1) .
وَالْمُنَاظَرَةُ اصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا الآْمِدِيُّ بِأَنَّهَا
تَرَدُّدُ الْكَلاَمُ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ يَقْصِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا
تَصْحِيحَ قَوْلِهِ وَإِبْطَال قَوْل صَاحِبِهِ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ (2) ،
وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: النَّظَرُ بِالْبَصِيرَةِ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِظْهَارًا
لِلصَّوَابِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُجَادَلَةُ:
2 - الْمُجَادَلَةُ لُغَةً:
الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ،
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب.
(2) شرح الولدية في آداب البحث والمناظرة
ص 7.
(3) التعريفات ط دار الكتاب العربي، وانظر: الكليات للكفوي 4 / 263 ط دمشق.
(39/72)
يُقَال: جَدَل الرَّجُل جَدَلاً فَهُوَ
جَدِلٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ: إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَل
جِدَالاً وَمُجَادَلَةً: إِذَا خَاصَمَ بِمَا يَشْغَل عَنْ ظُهُورِ
الْحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ (1) .
وَالْمُجَادَلَةُ اصْطِلاَحًا: قَال الآْمِدِيُّ: هِيَ الْمُدَافَعَةُ
لإِِسْكَاتِ الْخَصْمِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُجَادِلَيْنِ يُرِيدُ
حِفْظَ مَقَالِهِ وَهَدْمَ مَقَال صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ
بَاطِلاً.
أَمَّا الْمُنَاظِرَانِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ إِظْهَارَ الْحَقِّ (3)
.
ب - الْمُنَاقَشَةُ:
3 - الْمُنَاقَشَةُ لُغَةً: يُقَال: نَقَشَ الشَّيْءَ نَقْشًا: بَحَثَ
عَنْهُ وَاسْتَخْرَجَهُ، وَيُقَال: نَقَشَ الشَّوْكَةَ بِالْمِنْقَاشِ،
وَنَقَشَ الْحَقَّ مِنْ فُلاَنٍ، وَنَاقَشَهُ مُنَاقَشَةً وَنِقَاشًا
اسْتَقْصَى فِي حِسَابِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(4) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) شرح الآمدي على الولدية في آداب البحث والمناظرة ص 7، وانظر: الكليات 4
/ 63، والمفردات للراغب الأصفهاني ط الحلبي، وتاج العروس.
(3) شرح الآمدي على الولدية في آداب المناظرة ص 7.
(4) المعجم الوسيط، وتاج العروس والمصباح المنير، وانظر: الكليات 4 / 206.
(39/73)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاقَشَةِ
وَالْمُنَاظَرَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَهْدُفُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ
الْحَقِّ.
ج - الْمُكَابَرَةُ:
4 - الْمُكَابَرَةُ لُغَةً: الْمُغَالَبَةُ. يُقَال: كَابَرْتُهُ
مُكَابَرَةً، غَالَبْتَهُ وَعَانَدْتَهُ (1) .
وَالْمُكَابَرَةُ اصْطِلاَحًا: الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسَائِل
الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِفَسَادِ كَلاَمِهِ وَصِحَّةِ
كَلاَمِ خَصْمِهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُكَابَرَةِ التَّضَادُّ مِنْ
حَيْثُ الْغَايَةُ وَالثَّمَرَةُ.
د - الْمُعَانَدَةُ:
5 - الْمُعَانَدَةُ لُغَةً: مِنْ بَابِ ضَرَبَ، يُقَال: عَانَدَ فُلاَنٌ
عِنَادًا: إِذَا رَكِبَ الْخِلاَفَ وَالْعِصْيَانَ، وَعَانَدَهُ
مُعَانَدَةً: عَارَضَهُ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْمُعَانِدُ الْمُعَارِضُ
بِالْخِلاَفِ لاَ بِالْوِفَاقِ (3) .
وَالْمُعَانَدَةُ اصْطِلاَحًا: الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسَائِل
الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِكَلاَمِهِ هُوَ وَكَلاَمُ صَاحِبِهِ
(4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُعَانَدَةِ التَّبَايُنُ.
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الكليات 4 / 263.
(3) المصباح المنير.
(4) الكليات 4 / 263.
(39/73)
هـ - الْمُحَاوَرَةُ:
6 - الْمُحَاوَرَةُ لُغَةً: يُقَال: حَاوَرَهُ مُحَاوَرَةً وَحِوَارًا:
جَاوَبَهُ، وَحَاوَرَهُ: جَادَلَهُ، قَال تَعَالَى: {قَال لَهُ صَاحِبُهُ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (1) وَيُقَال: تَحَاوَرُوا: تَرَاجَعُوا الْكَلاَمَ
بَيْنَهُمْ وَتَجَادَلُوا (2) ، قَال تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ
تَحَاوُرَكُمَا} (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يُرَاجِعُ صَاحِبَهُ فِي قَوْلِهِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْمُنَاظَرَةِ
7 - الْمُنَاظَرَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ الْمُنَاظَرَةُ الَّتِي تَمَّتْ بَيْنَ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَبَيْنَ النَّمْرُودِ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَذَلِكَ فِي
قَوْله تَعَالَى قَوْلِهِ تَعَالَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَال أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ
مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
وَاللَّهُ
__________
(1) سورة الكهف / 37.
(2) المعجم الوسيط والمصباح المنير، ولسان العرب، وتاج العروس.
(3) سورة المجادلة / 1.
(39/74)
لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1)
.
وَمُنَاظَرَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى قَوْلِهِ
تَعَالَى قَوْله تَعَالَى: {قَال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
قَال رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ قَال لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَال رَبُّكُمْ
وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَْوَّلِينَ قَال إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِل
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا
غَيْرِي لأََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَال أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَال فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا
هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (2)
وَأَشَارَ ابْنُ الْحَنْبَلِيِّ إِلَى وَجْهِ الدَّلاَلَةِ مِنْ ذَلِكَ
أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا قَال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} عَلِمَ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ
سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ لاَ
مَاهِيَّةَ لَهُ، لأَِنَّهُ الأَْوَّل فَلاَ شَيْءَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ
مِنْهُ، بَل هُوَ مُكَوِّنُ مَا تَتَكَوَّنُ الأَْشْيَاءُ مِنْهُ، فَلَمْ
يَشْتَغِل مُوسَى بِرَدِّ سُؤَالِهِ وَبَيَانِ فَسَادِهِ، وَكَانَ
الْمَقْصُودُ تَعْرِيفَ الرَّبِّ جَل وَعَلاَ بِصِفَتِهِ فَقَال: {رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فَحَصَرَ الْكَائِنَاتِ فِي
ثَلاَثِ كَلِمَاتٍ،
__________
(1) سورة البقرة / 258.
(2) سورة الشعراء / 23 - 33.
(39/74)
فَلَمَّا قَال: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ}
قَال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَْوَّلِينَ} رَدًّا عَلَى
فِرْعَوْنَ قَوْلَهُ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَْعْلَى} (1) فَلَمَّا قَال:
{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِل إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أَرْدَفَ مَا
ذَكَرَ بِشَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ فَقَال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَمَا بَيْنَهُمَا} لأَِنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ آيَتَانِ
عَظِيمَتَانِ لاَ يَقْدِرُ فِرْعَوْنُ عَلَى ادِّعَائِهِمَا، فَلَمَّا
انْدَحَضَتْ حُجَّتُهُ قَال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لأََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} .
وَدَلِيل ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ: مُنَاظَرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طَالِبِ الإِْذْنِ بِالزِّنَا، وَذَلِكَ فِيمَا
وَرَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَال: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، ائْذَنْ
لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَل الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا:
مَهْ مَهْ، فَقَال: ادْنُهْ. فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَال: فَجَلَسَ،
قَال: أَتُحِبُّهُ لأُِمِّكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ
فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُِمَّهَاتِهِمْ، قَال:
أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ،
جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
لِبَنَاتِهِمْ. قَال: أَفَتُحِبُّهُ لأُِخْتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ،
جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.
__________
(1) سورة النازعات / 24.
(39/75)
قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
لأَِخَوَاتِهِمْ. قَال: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ،
جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
لِعَمَّاتِهِمْ. قَال: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَال: لاَ وَاللَّهِ،
جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَال: وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
لِخَالاَتِهِمْ. قَال: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَال: اللَّهُمَّ
اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ. فَلَمْ يَكُنْ
بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْمُنَاظَرَةِ:
حُكْمُ تَعَلُّمِ فَنِّ الْمُنَاظَرَةِ
8 - قَال الآْمِدِيُّ: هَذَا الْفَنُّ لاَ شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِ
تَحْصِيلِهِ، وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي وُجُوبِهِ وُجُوبًا كِفَائِيًّا،
فَمَنْ قَال بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ مُجَادَلاَتِ الْفِرَقِ عَلَى
الْكِفَايَةِ، قَال بِوُجُوبِ التَّحْصِيل، لأَِنَّ هَذَا الْفَنَّ
يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَّةُ الْمُجَادَلَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقَال مُلاَّ زَادَهْ تَعْلِيقًا عَلَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَهَبَ
بَعْضٌ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ مُجَادَلاَتِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ
لِيُجَادِلَهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) حديث: " أن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله. . . ". أخرجه أحمد (5 / 256 - 257) عن أبي أمامة رضي الله عنه وقال
العراقي في المغني عن حمل الأسفار بهامش إحياء علوم الدين للغزالي (2 / 329
- 330 ط مصطفى الحلبي) : " إسناده جيد ورجاله رجال الصحيح ".
(39/75)
00 {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ} (1) وَلأَِنَّهَا دَفْعُ الضُّرِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ
يَخَافُ أَنْ يَقَعُوا فِي اعْتِقَادَاتِهِمُ الْمُضِرَّةِ، وَذَا فَرْضُ
كِفَايَةٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَظِنَّةَ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَفَرْضُ
عَيْنٍ عَلَى مِنْ كَانَ كَذَلِكَ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا حَرَامٌ لأَِنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ
لِلْمَعْلُومِ مَا لَمْ يَمْنَعْ عَنِ التَّبَعِيَّةِ (2) .
حُكْمُ الْمُنَاظَرَةِ فِي الْحَالاَتِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُنَاظَرَةِ بِاخْتِلاَفِ الْحَالاَتِ الَّتِي
تَجْرِي فِيهَا.
أَوَّلاً - الْوُجُوبُ:
9 - تَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ وَاجِبَةً فِي حَالاَتٍ مِنْهَا:
- نُصْرَةُ الْحَقِّ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ
الْقَاطِعَةِ وَحَل الْمُشْكِلاَتِ فِي الدِّينِ، لِتَنْدَفِعَ
الشُّبُهَاتُ وَتَصْفُوَ الاِعْتِقَادَاتُ عَنْ تَمْوِيهَاتِ
الْمُبْتَدَعِينَ وَمُعْضِلاَتِ الْمُلْحِدِينَ.
- وَمَعَ أَهْل الْكِتَابِ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ مِنْ إِسْلاَمِ مَنْ
يُرْجَى إِسْلاَمُهُ مِنْهُمْ.
__________
(1) سورة النحل / 125.
(2) شرح ملا عمر زاده على الولدية ص 6.
(39/76)
وَهِيَ فَرْضُ عَيْنٍ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ
سِوَى عَالِمٍ وَاحِدٍ وَكَانَ أَهْلاً لِلْمُنَاظَرَةِ فِي الْحَالاَتِ
الَّتِي تَجِبُ فِيهَا.
وَتَجِبُ كَذَلِكَ إِذَا عَيَّنَ الْحَاكِمُ عَالِمًا لِمُنَاظَرَةِ أَهْل
الْبَاطِل وَكَانَ أَهْلاً لِذَلِكَ.
وَتَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَالاَتٍ: مِنْهَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ
مِنْ أَهْل الْعِلْمِ غَيْرُ وَاحِدٍ قَادِرٌ عَلَى الْمُنَاظَرَاتِ
الْوَاجِبَةِ، وَحِينَئِذٍ فَقِيَامُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكْفِي لِسُقُوطِ
الْحَرَجِ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمَ الْجَمِيعُ بِتَرْكِهِ (1) .
ثَانِيًا - النَّدْبُ:
10 - وَالْمُنَاظَرَةُ تَكُونُ مَنْدُوبَةً فِي حَالاَتٍ مِنْهَا:
تَأْكِيدُ الْحَقِّ وَتَأْيِيدُهُ، وَمَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ
يُرْجَى إِسْلاَمُهُمْ (2) .
ثَالِثًا - الْحُرْمَةُ:
11 - تَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ مُحَرَّمَةً فِي حَالاَتٍ مِنْهَا:
طَمْسُ الْحَقِّ وَرَفْعُ الْبَاطِل، وَقَهْرُ مُسْلِمٍ،
__________
(1) انظر: زاد المعاد 4 / 639 ط الرسالة، وحاشية ابن عابدين 5 / 271 ط دار
إحياء التراث، ومغني المحتاج 4 / 210، وحاشية القليوبي 4 / 177، وتحفة
المحتاج 9 / 213 - 214.
(2) زاد المعاد 4 / 639.
(39/76)
وَإِظْهَارُ عِلْمٍ، وَنَيْل دُنْيَا أَوْ
مَالٍ أَوْ قَبُولٍ (1) .
الْمُنَاظَرَةُ وَمَنَاهِجُ اسْتِعْمَال الأَْدِلَّةِ وَمُنَاسَبَةُ
إِيرَادِهَا
12 - قَال صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: إِنَّ الْمُسْتَدِل إِذَا
بَيَّنَ دَعْوَاهُ بِدَلِيلٍ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَى الْخَصْمِ مَفْهُومُ
كَلاَمِهِ لإِِجْمَالٍ أَوْ غَرَابَةٍ فِيمَا اسْتَعْمَل اسْتَفْسَرَهُ،
وَعَلَى الْمُسْتَدَل بَيَانُ مُرَادِهِ عِنْدَ الاِسْتِفْسَارِ، وَإِلاَّ
يَبْقَى مَجْهُولاً فَلاَ تُمْكِنُ الْمُنَاظَرَةُ.
وَلَوْ كَانَ بِلاَ نَقْلٍ مِنْ لُغَةٍ أَوْ أَهْل عُرْفٍ أَوْ بِلاَ
ذِكْرِ قَرِينَةٍ فَإِذَا اتَّضَحَ مُرَادُهُ: فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ
مُقَدَّمَاتِهِ مُسَلَّمَةً وَلاَ خَلَل فِيهَا بِوَجْهٍ لاَ تَفْصِيلاً
وَلاَ إِجْمَالاً لَزِمَ الاِنْقِطَاعُ لِلْبَحْثِ وَظَهَرَ الصَّوَابُ.
وَإِلاَّ، فَإِنْ كَانَ الْخَلَل فِي الْبَعْضِ تَفْصِيلاً يُمْنَعُ هَذَا
الْمُخْتَل مُجَرَّدًا عَنِ السَّنَدِ أَوْ مَقْرُونًا مَعَ السَّنَدِ،
وَيُطَالَبُ بِالدَّلِيل عَلَيْهِ فَيُجَابُ بِإِثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ
الْمَمْنُوعَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَلَل فِيهَا إِجْمَالاً، وَذَلِكَ الْخَلَل: إِمَّا أَنْ
يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ فِي صُوَرِهِ فَيَكُونُ الدَّلِيل حِينَئِذٍ
أَعَمَّ مِنَ الْمُدَّعَى، أَوْ لُزُومُ مُحَالٍ آخَرَ فَيُنْقَضُ
حِينَئِذٍ وَيُدَّعَى فَسَادُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 271.
(39/77)
الدَّلِيل، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ
دَلِيلٍ.
وَإِمَّا بِوُجُودِ دَلِيلٍ مُقَابِلٍ لِدَلِيل الْمُسْتَدِل وَحَاكِمٍ
بِمُنَافِي مَا يَحْكُمُ هُوَ بِهِ فَيُعَارَضُ.
وَفِي هَذَيْنِ أَيِ النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ تَنْقَلِبُ الْمَنَاصِبُ،
فَيَصِيرُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا وَالْمُسْتَدِل مُعْتَرِضًا.
فَكُل بَحْثٍ - مُنَاظَرَةٍ - إِمَّا مَنْعٌ أَوْ نَقْضٌ أَوْ مُعَارَضَةٌ
(1) .
وَفِي ذَلِكَ يَقُول طَاشُ كُبْرَى زَادَهْ فِي مَنْظُومَتِهِ فِي آدَابِ
الْبَحْثِ:
ثَلاَثَةٌ لِسَائِلٍ مُنَاقَضَةْ
وَالنَّقْضُ ذُو الإِْجْمَال وَالْمُعَارَضَةْ
فَمَنْعُهُ الصُّغْرَى مِنَ الدَّلِيل
أَوْ مَنْعُهُ الْكُبْرَى عَلَى التَّفْصِيل (2)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
آدَابُ الْمُنَاظَرَةِ
13 - لِلْمُنَاظَرَةِ آدَابٌ عَشَرَةٌ:
الأَْوَّل: إِرَادَةُ إِظْهَارِ الْحَقِّ، قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا نَاظَرْتُ
أَحَدًا إِلاَّ وَدِدْتُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى يَدَيْهِ،
وَجَاءَ فِي
__________
(1) فواتح الرحموت 2 / 330 بتصرف ط الأميرية.
(2) مجموع أمهات المتون / 285 ط م. الحلبي، وانظر: شرح الآمدي على الولدية
في آداب البحث والمناظرة لمحمد المرعشي المعروف بساجقلي زاده.
(39/77)
رَدِّ الْمُحْتَارِ: الْمُنَاظَرَةُ فِي
الْعِلْمِ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ عِبَادَةٌ (1) .
الثَّانِي: أَنْ يَحْتَرِزَ الْمُنَاظِرُ عَنِ الإِْيجَازِ وَالاِخْتِصَارِ
وَالْكَلاَمِ الأَْجْنَبِيِّ لِئَلاَّ يَكُونَ مُخِلًّا بِالْفَهْمِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ التَّطْوِيل فِي الْمَقَال لِئَلاَّ
يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَلاَل.
الرَّابِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الأَْلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي
الْبَحْثِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ اسْتِعْمَال الأَْلْفَاظِ
الْمُحْتَمِلَةِ لِمَعْنَيَيْنِ.
السَّادِسُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الدُّخُول فِي كَلاَمِ الْخَصْمِ قَبْل
الْفَهْمِ بِتَمَامِهِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى إِعَادَتِهِ ثَانِيًا فَلاَ
بَأْسَ بِالاِسْتِفْسَارِ عَنْهُ إِذِ الدَّاخِل فِي الْكَلاَمِ قَبْل
الْفَهْمِ أَقْبَحُ مِنَ الاِسْتِفْسَارِ.
السَّابِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَمَّا لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْمَقْصُودِ
بِأَلاَّ يَلْزَمَ الْبُعْدَ عَنِ الْمَقْصُودِ.
الثَّامِنُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الضَّحِكِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ
وَالسَّفَاهَةِ، فَإِنَّ الْجُهَّال يَسْتُرُونَ بِهَا جَهْلَهُمْ.
التَّاسِعُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ الْمُنَاظَرَةِ مَعَ مَنْ كَانَ
__________
(1) شذرات الذهب 3 / 22 ط دار ابن كثير، ورد المحتار 5 / 271.
(39/78)
مَهِيبًا وَمُحْتَرَمًا كَالأُْسْتَاذِ
إِذْ مَهَابَةُ الْخَصْمِ وَاحْتِرَامُهُ رُبَّمَا تُزِيل دِقَّةَ نَظَرِ
الْمُنَاظِرِ وَحِدَّةَ ذَهَنِهِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ أَنْ يَحْسِبَ الْخَصْمَ حَقِيرًا
لِئَلاَّ يَصْدُرَ عَنْهُ كَلاَمٌ يَغْلِبُ بَهِ الْخَصْمَ عَلَيْهِ (1) .
أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَةِ
لِلْمُنَاظَرَةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
أ - أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَةِ بِاعْتِبَارِ وَسِيلَةِ أَدَائِهَا
الْمُنَاظَرَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الْمُنَاظَرَةُ الْخَطَابِيَّةُ:
14 - وَتَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ الْخَطَابِيَّةُ بِالْتِقَاءِ
الْمُتَنَاظِرَيْنِ فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَحْضُرُ
الأُْمَرَاءُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَاتِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الإِْمَامَيْنِ مَالِكٍ وَأَبِي
يُوسُفَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ
بِحُضُورِ هَارُونَ الرَّشِيدِ حَوْل صَدَاقِ الْمَرْأَةِ تَصْنَعُ بِهِ
مَا تَشَاءُ.
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَلَمَّا تَنَاظَرَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ فِي
صَدَاقِ الْمَرْأَةِ وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لَهَا
__________
(1) شرح العلامة محمد بن حسين البهتي على الولدية ص 123 ط الحلبي.
(39/78)
أَنْ تَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَتْ: إِنْ
شَاءَتْ رَمَتْ بِهِ وَجَاءَتْهُ فِي قَمِيصٍ، وَإِنْ شَاءَتْ جَعَلَتْهُ
فِي خَيْطِ الدَّوَّامَةِ، فَقَال مَالِكٌ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ
أَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَاءَتْهُ فِي قَمِيصٍ لَمْ يَحْكُمْ لَهَا بِذَلِكَ،
وَلَكِنْ يَأْمُرُهَا أَنْ تَتَجَهَّزَ وَتَتَهَيَّأَ لَهُ بِمَا
يَشْتَهِيهِ مِمَّا يَتَجَهَّزُ بَهِ النِّسَاءُ، فَقَال هَارُونَ:
أَصَبْتَ (1) .
الثَّانِي: الْمُنَاظَرَةُ الْكِتَابِيَّةُ
15 - وَتَكُونُ الْمُنَاظَرَةُ الْكِتَابِيَّةُ بِمُخَاطَبَةِ
الْمُتَنَاظِرَيْنِ كِتَابِيًّا حَوْل مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ أَوْ أَمْرٍ
يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ رِسَالَةُ الإِْمَامِ مَالِكٍ إِلَى الإِْمَامِ اللَّيْثِ
بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مُخَالَفَةِ أَهْل الْمَدِينَةِ،
وَرَدَّ اللَّيْثُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي نَصُّ الرِّسَالَتَيْنِ: مِنْ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ إِلَى
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. سَلاَمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ
اللَّهَ إِلَيْكَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. أَمَّا بَعْدُ عَصَمَنَا
اللَّهُ وَإِيَّاكَ بِطَاعَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ،
وَعَافَانَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُل مَكْرُوهٍ.
اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفْتِي النَّاسَ
بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَنَا
وَبِبَلَدِنَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَأَنْتَ فِي إِمَامَتِكَ
__________
(1) ترتيب المدارك 1 / 221.
(39/79)
وَفَضْلِكَ وَمَنْزِلَتِكَ مِنْ أَهْل
بَلَدِكَ وَحَاجَةُ مَنْ قِبَلَكَ إِلَيْكَ وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى مَا
جَاءَهُمْ مِنْكَ، حَقِيقٌ بِأَنْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِكَ وَتَتَّبِعَ مَا
تَرْجُو النَّجَاةَ بِاتِّبَاعِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول فِي
كِتَابِهِ: {وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأَْنْصَارِ} (1) الآْيَةَ وَقَال تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِيَ
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (2)
فَإِنَّمَا النَّاسُ تَبَعٌ لأَِهْل الْمَدِينَةِ، إِلَيْهَا كَانَتِ
الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَل الْقُرْآنُ وَأُحِل الْحَلاَل وَحُرِّمَ
الْحَرَامُ إِذْ رَسُول اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَحْضُرُونَ الْوَحْيَ
وَالتَّنْزِيل وَيَأْمُرُهُمْ فَيُطِيعُونَهُ وَيَسُنُّ لَهُمْ
فَيَتَّبِعُونَهُ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَاخْتَارَ لَهُ مَا عِنْدَهُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبَرَكَاتُهُ.
ثُمَّ قَامَ مِنْ بَعْدَهُ أَتْبَعُ النَّاسِ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ
وَلِيَ الأَْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا نَزَل بِهِمْ مِمَّا عَلِمُوا
أَنْفَذُوهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ عِلْمٌ سَأَلُوا عَنْهُ،
ثُمَّ أَخَذُوا بِأَقْوَى مَا وَجَدُوا فِي ذَلِكَ فِي اجْتِهَادِهِمْ
وَحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ، وَإِنْ خَالَفَهُمْ مُخَالِفٌ أَوْ قَال امْرُؤٌ
غَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى تُرِكَ قَوْلُهُ وَعُمِل بِغَيْرِهِ،
ثُمَّ كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَسْلُكُونَ تِلْكَ السَّبِيل
وَيَتَّبِعُونَ تِلْكَ السُّنَنَ.
فَإِذَا كَانَ الأَْمْرُ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا مَعْمُولاً بِهِ لَمْ
أَرَ لأَِحَدٍ خِلاَفَهُ لِلَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ تِلْكَ
__________
(1) سورة التوبة / 100.
(2) سورة الزمر / 18.
(39/79)
الْوِرَاثَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ
انْتِحَالُهَا وَلاَ ادِّعَاؤُهَا، وَلَوْ ذَهَبَ أَهْل الأَْمْصَارِ
يَقُولُونَ: هَذَا الْعَمَل بِبَلَدِنَا وَهَذَا الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ
مَنْ مَضَى مِنَّا، لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثِقَةٍ، وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي جَازَ لَهُمْ، فَانْظُرْ - رَحِمَكَ
اللَّهُ - فِيمَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ فِيهِ لِنَفْسِكَ، وَاعَلَمْ أَنِّي
أَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ دُعَائِي إِلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ
إِلاَّ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالنَّظَرَ لَكَ
وَالظَّنَّ بِكَ، فَأَنْزِل كِتَابِي مِنْكَ مَنْزِلَتَهُ، فَإِنَّكَ إِنْ
فَعَلْتَ تَعْلَمْ أَنِّي لَمْ آلُكَ نُصْحًا، وَفَّقَنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكَ لِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِي كُل أَمْرٍ وَعَلَى كُل
حَالٍ، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
وَكَانَ مِنْ جَوَابِ اللَّيْثِ عَنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ: وَأَنَّهُ
بَلَغَكَ عَنِّي أَنِّي أُفْتِي بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ
جَمَاعَةُ النَّاسِ عِنْدَكُمْ، وَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيَّ الْخَوْفُ عَلَى
نَفْسِي لاِعْتِمَادِ مَنْ قِبَلِي فِيمَا أُفْتِيهِمْ بِهِ، وَأَنَّ
النَّاسَ تَبَعٌ لأَِهْل الْمَدِينَةِ الَّتِي إِلَيْهَا كَانَتِ
الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَل الْقُرْآنُ، وَقَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي كَتَبْتَ
مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَوَقَعَ مِنِّي بِالْمَوْقِعِ الَّذِي
لاَ أَكْرَهُ، وَلاَ أَشَدُّ تَفْضِيلاً مِنِّي لِعِلْمِ أَهْل
الْمَدِينَةِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلاَ آخَذُ بِفَتْوَاهُمْ مِنِّي
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مُقَامِ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَنُزُول الْقُرْآنِ
عَلَيْهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ
(39/80)
وَمَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَنَّ
النَّاسَ صَارُوا تَبَعًا لَهُمْ فَكَمَا ذَكَرْتَ (1) .
ب - أَنْوَاعُ الْمُنَاظَرَاتِ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهَا
16 - تَتَنَوَّعُ الْمُنَاظَرَاتُ بِاعْتِبَارِ مَوْضُوعِهَا إِلَى
أَنْوَاعٍ أَهَمُّهَا الْمُنَاظَرَاتُ الْفِقْهِيَّةُ:
وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَاتُ مَوْضُوعُهَا مَسَائِل الْفِقْهِ وَقَدْ تَكُونُ
بَيْنَ أَتْبَاعِ مَذْهَبٍ وَمَذْهَبٍ وَقَدْ تَكُونُ بَيْنَ أَتْبَاعِ
الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ، وَمِنْهَا عَلَى سَبِيل الْمِثَال الْمُنَاظَرَةُ
بَيْنَ الإِْمَامَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي تَارِكِ الصَّلاَةِ،
وَفِيهَا قَال الشَّافِعِيُّ: يَا أَحْمَدُ أَتَقُول: إِنَّهُ يَكْفُرُ؟
قَال نَعَمْ، قَال: إِذَا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يُسْلِمُ؟ قَال: يَقُول:
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهَ مُحَمِّدٌ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال الشَّافِعِيُّ: فَالرَّجُل مُسْتَدِيمٌ لِهَذَا
الْقَوْل لَمْ يَتْرُكْهُ، قَال: يُسْلِمُ بِأَنْ يُصَلِّيَ، قَال: صَلاَةُ
الْكَافِرِ لاَ تَصِحُّ وَلاَ يُحْكَمُ بِالإِْسْلاَمِ بِهَا، فَانْقَطَعَ
أَحْمَدُ وَسَكَتَ (2) .
ثَمَرَةُ الْمُنَاظَرَةِ
17 - الأَْصْل فِي الْمُنَاظَرَةِ - كَمَا هُوَ وَارِدٌ فِي تَعْرِيفِهَا -
التَّوَصُّل إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ.
__________
(1) ترتيب المدارك للقاضي عياض 64 - 65.
(2) طبقات الشافعية الكبرى 2 / 61 ط دار إحياء الكتب العربية.
(39/80)
وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ إِمَّا أَنْ
تَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِ الْمُعَلِّل وَسُكُوتِهِ عَنْ دَفْعِ اعْتِرَاضِ
السَّائِل، وَهَذَا يُسْمَى إِفْحَامًا.
وَإِمَّا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَجْزِ السَّائِل عَنِ الاِعْتِرَاضِ عَلَى
جَوَابِ الْمُعَلِّل إِذْ لاَ يُمْكِنُ جَرَيَانُ الْبَحْثُ بَيْنَهُمَا
إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَهَذَا يُسَمَّى إِلْزَامًا (1) .
وَفِي ذَلِكَ يَقُول طَاشْ كُبْرَى زَادَهْ فِي مَنْظُومَتِهِ:
مَآلُهَا الْبَحْثُ عَنْ أَمْرَيْنِ
مُحَقِّقًا إِحْدَاهُمَا فِي الْبَيْنِ
إِمَّا بِأَنْ قَدْ يَعْجِزَ الْمُعَلِّل
وَعَنْ إِقَامَةِ الدَّلِيل يَعْدِل
لِمُدَّعَاهُ وَهُوَ عَنْهَا سَاكِتْ
وَذَا هُوَ الإِْفْحَامُ عَنْهُمْ ثَابِتْ
أَوْ يَعْجِزُ السَّائِل عَنْ تَعَرُّضِ
إِلَى دَلِيل الْخَصْمِ وَالْمُعْتَرِضِ
فَيَنْتَهِي الدَّلِيل مِنْ مُقَدِّمِةْ
ضَرُورَةُ الْقَبُول أَوْ مُسَلَّمِةْ
وَذَلِكَ الْعَجْزُ هُوَ الإِْلْزَامُ
فَتَنْتَهِي الْقُدْرَةُ وَالْكَلاَمُ (2)
__________
(1) شرح السيد عبد الوهاب الآمدي على الولدية / 119
(2) منظومة طاش كبرى زاده ضمن مجموع مهمات المتون 286 - 287.
(39/81)
مُنَافَسَةٌ
انْظُرْ: سِبَاقٌ.
مَنَافِعُ
انْظُرْ: مَنْفَعَةٌ.
(39/81)
مُنَاوَلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُنَاوَلَةُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ عَلَى: كُل مَا يُعْطَى
بِالْيَدِ.
يُقَال: نَاوَلَتُ فُلاَنًا الشَّيْءَ مُنَاوَلَةً: إِذَا عَاطَيْتَهُ،
وَتَنَاوَلْتُ مِنْ يَدِهِ شَيْئًا: إِذَا تَعَاطَيْتَهُ، وَالتَّنَاوُل:
أَخْذُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ عُلَمَاءِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ:
الْمُنَاوَلَةُ: أَنْ يَدْفَعَ الشَّيْخُ إِلَى الطَّالِبِ أَصْل سَمَاعِهِ
أَوْ فَرْعًا مُقَابَلاً بِهِ، وَيَقُول: هَذَا سَمَاعِي، أَوْ رِوَايَتِي
عَنْ فُلاَنٍ فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَأَنْ يَقُول:
أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي، ثُمَّ يُمَلِّكُهُ إِيَّاهُ، أَوْ
يَقُول: خُذْهُ وَانْسَخْهُ وَقَابِل بِهِ ثُمَّ رُدَّهُ إِلَيَّ (2) ،
وَهِيَ صِيغَةٌ اسْتَعْمَلَهَا الْمُحَدِّثُونَ.
__________
(1) لسان العرب، والبحر المحيط 4 / 396.
(2) مقدمة ابن الصلاح ص 146، والتعريفات للجرجاني.
(39/82)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّمَاعُ:
2 - السَّمَاعُ مَصْدَرُ سَمِعَ سَمَاعًا وَسَمْعًا وَسَمَاعَةً.
وَالسَّمْعُ فِي اللُّغَةِ: قُوَّةٌ مُودَعَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ
فِي مَقْعَدِ الصِّمَاخِ تُدْرَكُ بِهَا الأَْصْوَاتُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ أَهْل الْحَدِيثِ: أَنْ يَقُول الرَّاوِي فِي رِوَايَةِ
الْحَدِيثِ: أَخْبَرَنَا فُلاَنٌ، أَوْ حَدَّثَنَا فُلاَنٌ، أَوْ سَمِعْتُ
مِنْهُ (2) ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، كَذَكَرَ لَنَا فُلاَنٌ.
وَالسَّمَاعُ مِمَّا تَشْتَمِل عَلَيْهِ الْمُنَاوَلَةُ.
ب - الإِْجَازَةُ:
3 - الإِْجَازَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ أَجَازَ الأَْمْرَ: نَفَّذَهُ،
سَوَّغَهُ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْمُحَدِّثِينَ: أَنْ يَقُول الشَّيْخُ لِلطَّالِبِ:
أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ أَوْ
هَذَا الْكِتَابَ (3) ، وَالإِْجَازَةُ مِمَّا تَشْتَمِل عَلَيْهَا
الْمُنَاوَلَةُ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني.
(2) مقدمة ابن الصلاح ص 134.
(3) مقدمة ابن الصلاح ص 134.
(39/82)
أَوَّلاً: الْمُنَاوَلَةُ عِنْدَ
الأُْصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ
مَشْرُوعِيَّةُ الْمُنَاوَلَةِ
4 - قَال الْبُخَارِيُّ: احْتَجَّ بَعْضُ أَهْل الْحِجَازِ فِي
الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا لأَِمِيرِ السَّرِيَّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ لاَ
يَقْرَأَهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ
فِي ذَلِكَ (2) .
أَنْوَاعُ الْمُنَاوَلَةِ
الْمُنَاوَلَةُ نَوْعَانِ:
5 - أَحَدُهُمَا: الْمُنَاوَلَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالإِْجَازَةِ، وَهِيَ
أَعْلَى أَنْوَاعِ الإِْجَازَاتِ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَلَهَا صُوَرٌ،
مِنْهَا:
أَنْ يَدْفَعَ الشَّيْخُ إِلَى الطَّالِبِ أَصْل سَمَاعِهِ، أَوْ فَرْعًا
مُقَابَلاً بِهِ وَيَقُول: هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ رِوَايَتِي
عَنْهُ فَارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي. ثُمَّ
يُمَلِّكُهُ إِيَّاهُ، أَوْ يَقُول:
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا لأمير السرية. . .
". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2 / 174) من حديث جندب بن عبد الله،
وحسَّن إسناده ابن حجر في الفتح (1 / 155) .
(2) البحر المحيط 4 / 393.
(39/83)
خُذْهُ وَانْسَخْهُ وَقَابِل بِهِ ثُمَّ
رُدَّهُ إِلَيَّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (1) .
6 - الثَّانِي: الْمُنَاوَلَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الإِْجَازَةِ كَأَنْ
يُنَاوِل الشَّيْخَ الطَّالِبَ الْكِتَابَ وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ:
هَذَا مِنْ حَدِيثِي، أَوْ مِنْ سَمَاعَاتِي. وَلاَ يَقُول: ارْوِهِ
عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي. قَال ابْنُ الصَّلاَحِ
وَالنَّوَوِيُّ: لاَ يَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ
الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَال ابْنُ الصَّلاَحِ: هَذِهِ مُنَاوَلَةٌ مُخْتَلَّةٌ، وَلاَ يَجُوزُ
الرِّوَايَةُ بِهَا. وَعَابَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الأُْصُولِيِّينَ
عَلَى الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ أَجَازُوهَا وَسَوَّغُوا الرِّوَايَةَ
بِهَا، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّهُمْ
صَحَّحُوهَا وَأَجَازُوا رِوَايَةً بِهَا (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: الْمُنَاوَلَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ
حُصُول قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالْمُنَاوَلَةِ:
7 - يَكُونُ قَبْضُ الْمَنْقُولاَتِ الَّتِي تُتَنَاوَل بِالْيَدِ عَادَةً
- كَالْمُجَوْهَرَاتِ وَالْحُلِيِّ وَالنُّقُودِ
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 147، والبحر المحيط 4 / 394.
(2) مقدمة ابن الصلاح ص 149 - 150، والبحر المحيط 4 / 394، والمنخول
للغزالي ص 270.
(39/83)
وَالثِّيَابِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ -
بِمُنَاوَلَةِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لِلآْخَرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ،
وَتَنَاوُل الآْخَرِ مِنْهُ، أَوْ إِذْنِهِ لَهُ بِالتَّنَاوُل، أَوْ
وَضْعِهِ قَرِيبًا مِنْهُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ لَهُ تَنَاوُلُهُ وَهُوَ فِي
مَكَانِهِ بِالْيَدِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْصُل قَبْضُ سَائِرِ الْمَنْقُولاَتِ أَيْضًا
بِالْمُنَاوَلَةِ، كَمَا يَحْصُل بِنَقْلِهِ أَوْ تَحْوِيلِهِ مِنْ مَكَانِ
الْعَقْدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَبْضٌ ف 9) .
(39/84)
مِنْبَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِنْبَرُ فِي اللُّغَةِ: مِرْقَاةٌ يَرْتَقِيهَا الْخَطِيبُ أَوِ
الْوَاعِظُ لِيُخَاطِبَ الْجَمْعَ؛ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّبْرِ وَهُوَ
الاِرْتِفَاعِ؛ وَسُمِّيَ مِنْبَرًا لاِرْتِفَاعِهِ وَعُلُوِّهِ؛ وَيُقَال:
انْتَبَرَ الْخَطِيبُ أَيِ: ارْتَقَى الْمِنْبَرَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
مِنْبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
2 - قَال الْعُلَمَاءُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اتَّخَذَ مِنْبَرَهُ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيل:
ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَهْل بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَل إِلَى
امْرَأَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ: مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَل
لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ (3) ؛
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) المجموع 4 / 527، ومطالب أولي النهى 1 / 774، وكشاف القناع 2 / 35.
(3) حديث سهل بن سعد " أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة من
الأنصار. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 397) ومسلم (1 / 386) ،
واللفظ للبخاري.
(39/84)
يَقُول الْبُهُوتِيُّ: وَفِي الصَّحِيحِ
أَنَّهُ عُمِل مِنْ أَثْل الْغَابَةِ؛ فَكَانَ يَرْتَقِي عَلَيْهِ (1) .
قَال: وَكَانَ ثَلاَثَ دَرَجٍ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَجْلِسُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَلِي مَكَانَ
الاِسْتِرَاحَةِ (2) ؛ ثُمَّ وَقَفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ عَلَى الثَّانِيَةِ؛ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
عَلَى الأُْولَى تَأَدُّبًا؛ ثُمَّ وَقَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ مَوْقِفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛
ثُمَّ قَلَعَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ
مُعَاوِيَةَ وَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجٍ؛ فَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَرْتَقُونَ
سِتًّا؛ وَيَقِفُونَ مَكَانَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَيْ: عَلَى
السَّابِعَةِ وَلاَ يَتَجَاوَزُونَ ذَلِكَ تَأَدُّبًا (3) .
__________
(1) حديث " أن المنبر عمل من أثل الغابة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري
1 / 486) من حديث سهل بن سعد.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس على الدرجة الثالثة ".
أورده البهوتي في كشاف القناع (2 / 35) ولم نهتد إلى من أخرجه.
(3) الأم 1 / 199، ومطالب أولي النهى 1 / 774، وكشاف القناع 2 / 35.
(39/85)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالْمِنْبَرِ:
أ - اتِّخَاذُ الْمِنْبَرِ وَمَوْقِعُهُ
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الْمِنْبَرِ سُنَّةٌ
مُجْمَعٌ عَلَيْهَا؛ كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ عَلَى
الْمِنْبَرِ؛ وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْل الشُّرُوعِ
فِي الْخُطْبَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمِحْرَابِ
بِالنِّسْبَةِ لِلْمُصَلِّينَ (1) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَيُكْرَهُ الْمِنْبَرُ الْكَبِيرُ
جِدًّا الَّذِي يُضَيِّقُ عَلَى الْمُصَلِّينَ إِذَا لَمْ يَكُنِ
الْمَسْجِدُ مُتَّسِعًا (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (خُطْبَةٌ ف 10) .
ب - تَسْلِيمُ الْخَطِيبِ عَلَى النَّاسِ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لِلْخَطِيبِ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَقْبَل الْحَاضِرِينَ أَنْ
يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؛ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا
__________
(1) القوانين الفقهية ص 86، والمجموع 4 / 525، 527، ومطالب أولي النهى 1 /
774، والمغني 2 / 296، وكشاف القناع 2 / 35، 38، والفتاوى الهندية 1 / 147.
(2) المجموع 4 / 527.
(39/85)
صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ (1) ؛
وَرَوَاهُ الأَْثْرَمُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ؛ وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ؛ وَلأَِنَّهُ اسْتِقْبَالٌ بَعْدَ
اسْتِدْبَارٍ؛ فَأَشْبَهَ مَنْ فَارَقَ قَوْمًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرُ
نَدْبًا إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ السَّلاَمُ بَعْدَ
الصُّعُودِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ أَنْ يَسُدَّ الْخَطِيبَ عِنْدَ
خُرُوجِهِ لِيَرْقَى الْمِنْبَرَ؛ فَإِذَا انْتَهَى مِنْ صُعُودِهِ فَلاَ
يُنْدَبُ بَل يُكْرَهُ؛ وَلاَ يَجِبُ رَدُّهُ لأَِنَّ الْمَعْدُومَ شَرْعًا
كَالْمَعْدُومِ حِسًّا؛ خِلاَفًا لِلْقَرَافِيِّ الَّذِي أَوْجَبَ رَدَّهُ
(3) .
__________
(1) حديث جابر: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر. . . ".
أخرجه ابن ماجه (1 / 352) وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 63) .
(2) المجموع 4 / 526، ومغني المحتاج 1 / 289، ومطالب أولي النهى 1 / 774،
والمغني 2 / 296، وكشاف القناع 2 / 35.
(3) الطحطاوي على هامش مراقي الفلاح ص 283، والقوانين الفقهية ص 80، وجواهر
الإكليل 1 / 96.
(39/86)
ج - نُزُول الإِْمَامِ عَنِ الْمِنْبَرِ
لِلْحَاجَةِ 5 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ
يَنْزِل الإِْمَامُ عَنِ الْمِنْبَرِ لِلْحَاجَةِ قَبْل أَنْ يَتَكَلَّمَ
ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ: أَنَّهُ لَمَّا وُضِعَ الْمِنْبَرُ وَضَعُوهُ
مَوْضِعَهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ فَلَمَّا أَرَادَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ إِلَى الْمِنْبَرِ مَرَّ إِلَى
الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ إِلَيْهِ؛ فَلَمَّا جَاوَزَ الْجِذْعَ
خَارَ حَتَّى تَصَدَّعَ وَانْشَقَّ؛ فَنَزَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ صَوْتَ الْجِذْعِ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ
حَتَّى سَكَنَ؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ؛ وَفِي حَدِيثِ:
فَاعْتَنَقَهَا فَسَكَتَتْ (1) .
قَال الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ نَزَل عَنِ الْمِنْبَرِ بَعْدَ مَا تَكَلَّمَ
اسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ؛ لأَِنَّ الْخُطْبَةَ لاَ تُعَدُّ خُطْبَةً إِذَا
فَصَل بَيْنَهَا بِنُزُولٍ يَطُول؛ أَوْ بِشَيْءٍ يَكُونُ قَاطِعًا لَهَا
(2) .
د - صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
6 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ زَائِرَ قَبْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ
مِنْبَرِ
__________
(1) حديث: " لما وضع منبر النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن ماجه
(1 / 454) من حديث أُبي بن كعب. والحديث الآخر: " فاعتنقها فسكتت ". أخرجه
النسائي (3 / 102) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) الأم 1 / 199.
(39/86)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ يَقِفُ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمُودُ الْمِنْبَرِ
بِحِذَاءِ مَنْكِبِهِ الأَْيْمَنِ إِنْ أَمْكَنَهُ؛ وَهُوَ مَوْقِفُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبْل أَنْ يُغَيَّرَ الْمَسْجِدُ؛
وَهُوَ بَيْنَ قَبْرِهِ وَمِنْبَرِهِ (1) ؛ وَيَجْتَهِدُ أَنْ يُحْيِيَ
لَيْلَهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ
وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَبَيْنَهُمَا سِرًّا وَجَهْرًا (2)
لِحَدِيثِ: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ
الْجَنَّةِ (3) . وَيَقِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَيَدْعُو. فَفِي
الْحَدِيثِ: قَوَائِمُ مِنْبَرِي رَوَاتِبُ فِي الْجَنَّةِ (4) وَفِي
رِوَايَةٍ: مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ (5) ؛ وَكَانَ
السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى رُمَّانَةِ
الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ يَضَعُ يَدَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْخُطْبَةِ (6)
.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 265.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 266.
(3) حديث: " ما بين بيتي ومنبري روضة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4
/ 99) ومسلم (2 / 1011) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " قوائم منبري رواتب في الجنة ". أخرجه أحمد (6 / 289) من حديث
أم سلمة.
(5) حديث: " منبري على ترعة من ترع الجنة ". أخرجه أحمد (5 / 335) من حديث
سهل بن سعد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 9) : رواه أحمد والطبراني
في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح.
(6) فتح القدير 2 / 337 ط بولاق 3 / 94، 95، 96، ط دار إحياء التراث
العربي.
(39/87)
هـ - الدُّعَاءُ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَالتَّأْمِينُ عَلَيْهِ
7 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَعَا الْمُذَكِّرُ
عَلَى الْمِنْبَرِ دُعَاءً مَأْثُورًا؛ وَالْقَوْمُ يَدْعُونَ مَعَهُ
ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ لِتَعْلِيمِ الْقَوْمِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ؛ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيمِ الْقَوْمِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ (1) .
و إِخْرَاجُ الْمِنْبَرِ إِلَى الْجَبَّانَةِ وَبِنَاؤُهُ:
8 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ الْمِنْبَرُ إِلَى
الْجَبَانَةِ (الْمُصَلَّى الْعَامِّ فِي الصَّحْرَاءِ) ؛ لِمَا وَرَدَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ؛
وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ
النَّحْرِ عَلَى نَاقَتِهِ (2) وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛
وَقَدْ عَابَ النَّاسُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ إِخْرَاجَهُ
الْمِنْبَرَ فِي الْعِيدَيْنِ؛ وَنَسَبُوهُ إِلَى خِلاَفِ السُّنَّةِ (3) .
وَأَمَّا بِنَاءُ الْمِنْبَرِ فِي الْجَبَّانَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى
الْجَوَازِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلِهَذَا اتَّخَذُوا فِي الْمُصَلَّى مِنْبَرًا
عَلَى حِدَةٍ مِنَ اللَّبِنِ وَالطِّينِ؛ وَاتِّبَاعُ مَا اشْتَهَرَ بَهِ
الْعَمَل فِي النَّاسِ وَاجِبٌ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 318.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر على ناقته ". أخرجه
البخاري (1 / 157 - الفتح) ومسلم (3 / 1306) من حديث أبي بكرة.
(3) المبسوط 2 / 42، والبدائع 1 / 280، 283.
(39/87)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ
كَرَاهَةُ بِنَاءِ الْمِنْبَرِ فِي الْجَبَّانَةِ (الْمُصَلَّى الْعَامِّ
فِي الصَّحْرَاءِ (1)) .
ز - تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ
9 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
مَشْرُوعِيَّةَ تَغْلِيظِ الأَْيْمَانِ بِالْمَكَانِ؛ وَمِنْهُ: عِنْدَ
الْمِنْبَرِ؛ إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ وُجُوبَهُ؛ وَيَرَى
الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابَهُ؛ كَمَا يَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا
رَأَى الْحَاكِمُ تَغْلِيظَهَا بِالْمَكَانِ عِنْدَ مِنْبَرِ الْجَامِعِ
فِي كُل مَدِينَةٍ جَازَ وَلَمْ يُسْتَحَبَّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي
هَذَا عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (2)
.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَرَوْنَ التَّغْلِيظَ لاَ بِالْمَكَانِ وَلاَ
بِالزَّمَانِ (3) .
(ر: مُصْطَلَحَ تَغْلِيظٌ ف 6) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 154، 150، والمبسوط 2 / 77، وحاشية العدوي 1 /
344، وكفاية الطالب 1 / 302، 311.
(2) حديث: " من حلف على منبري هذا على يمين آثمة. . . ". أخرجه مالك (2 /
727) والحاكم (4 / 296) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للحاكم، وصححه
ووافقه الذهبي.
(3) مجموع الفتاوى 29 / 189 ط الرياض. وحاشية الدسوقي 4 / 228، 229، ومغني
المحتاج 4 / 472، وحاشية القليوبي 4 / 340، وكشاف القناع 6 / 450.
(39/88)
الْمِنْبَرِيَّةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِنْبَرِيَّةُ نِسْبَةٌ إِلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ؛ وَهِيَ
مَسْأَلَةٌ مِنَ الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ؛ وَهِيَ
الْمَسَائِل الَّتِي لُقِّبَتْ كُلٌّ مِنْهَا بِلَقَبٍ أَوْ أَكْثَرَ:
كَالأَْكْدَرِيَّةِ وَالدِّينَارِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا.
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَحُكْمُهَا:
2 - الْمِنْبَرِيَّةُ مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِل الْعَوْل؛ وَصُورَتُهَا:
أَنْ يَتْرُكَ الْمَيِّتُ زَوْجَةً وَبِنْتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ؛ وَقَدْ
سُئِل عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَهُوَ
عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَجَابَ عَنْهَا أَثَنَاءَ خُطْبَتِهِ قَائِلاً: صَارَ
ثُمُنُهَا تُسْعًا.
وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ.
وَالْمَسْأَلَةُ أَصْلُهَا مِنْ 24: لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ 3
وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ 16؛ وَلِكُلٍّ مِنَ الأَْبَوَيْنِ السُّدُسُ
4.
فَتَعُول الْمَسْأَلَةُ إِلَى 27 بَدَلاً مِنْ 24 فَيَكُونُ نَصِيبُ
الزَّوْجَةُ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ 27؛ وَهُوَ يُمَثِّل التُّسْعَ مِنَ
الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ الْعَوْل؛ وَهَذَا يُفَسِّرُ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعًا (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 28، والمغني لابن قدامة 6 / 193.
(39/88)
مَنْبُوذٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَنْبُوذُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ لَفَعَل نَبَذَ؛ يُقَال:
نَبَذْتُهُ نَبْذًا؛ مِنْ بَابِ ضَرَبَ: أَلْقَيْتَهُ فَهُوَ مَنْبُوذٌ؛
أَيْ مَطْرُوحٌ؛ وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّبِيذُ: نَبِيذًا؛ لأَِنَّهُ
يُنْبَذُ؛ أَيْ: يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ. وَمِنْهُ نَقْضُ الْعَهْدِ
يُقَال: نَبَذْتُ الْعَهْدَ إِلَيْهِمْ: نَقَضْتَهُ.
وَيُقَال: نَبَذْتُ الأَْمْرَ: أَهْمَلْتَهُ؛ وَالْمَنْبُوذُ: وَلَدُ
الزِّنَا؛ وَالصَّبِيُّ تُلْقِيهِ أُمُّهُ فِي الطَّرِيقِ (1) .
وَالْمَنْبُوذُ شَرْعًا: اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ
خَوْفًا مِنَ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الرِّيبَةِ؛ أَوْ
هُوَ طِفْلٌ مَنْبُوذٌ بِنَحْوِ شَارِعٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُدَّعٍ.
وَذِكْرُ الطِّفْل لِلْغَالِبِ؛ فَالْمَجْنُونُ يُلْتَقَطُ كَمَا
يُلْتَقَطُ الْمُمَيِّزُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛
لاِحْتِيَاجِهِمَا إِلَى التَّعَهُّدِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) المصباح المنير، ورد المحتار 3 / 313، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني
6 / 341، ومغني المحتاج 2 / 417، والمحلي 3 / 123.
(39/89)
حُكْمُ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ
2 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ قَوْله تَعَالَى:
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (1) ؛
وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (2) ؛
وَالْتِقَاطُ الْمَنْبُوذِ وَإِنْقَاذُهُ مِنَ الْمَهَالِكِ مِنْ أَهَمِّ
فِعْل الْخَيْرَاتِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ لَقِيطٌ ف 4) .
الإِْشْهَادُ عَلَى الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْشْهَادِ عَلَى الْتِقَاطِ
الْمَنْبُوذِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ لَقِيطٌ ف 5) .
مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ الاِلْتِقَاطِ
4 - تَثْبُتُ وِلاَيَةُ الاِلْتِقَاطِ لِحُرٍّ مُكَلَّفٍ وَلَوْ فَقِيرًا -
لأَِنَّ السَّعْيَ لِقُوتِهِ لاَ يَشْغَلُهُ عَنْ حِفْظِهِ - مُسْلِمٍ إِنْ
حُكِمَ بِإِسْلاَمِ الْمَنْبُوذِ؛ ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فَيَشْمَل
مَسْتُورَ الْعَدَالَةِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ مِنْهُ حَقِيقَةُ
الْعَدَالَةِ وَلاَ الْخِيَانَةِ؛ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ لَقِيطٌ ف 6؛ 7) .
__________
(1) سورة المائدة / 33.
(2) سورة الحج / 77.
(39/89)
ازْدِحَامُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى
الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ
5 - لَوِ ازْدَحَمَ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَهْلٌ لِلاِلْتِقَاطِ عَلَى
الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُول كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا
آخِذُهُ؛ جَعَلَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمَا؛ أَوْ عِنْدَ
مَنْ يَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِمَا؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُمَا قَبْل
أَخْذِهِ فَيَفْعَل الأَْحَظَّ لَهُ.
وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَالْتَقَطَهُ مُنِعَ الآْخَرُ مِنْ
مُزَاحَمَتِهِ؛ لِثُبُوتِ حَقِّهِ بِالسَّبْقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ
مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ (1) . وَإِنِ الْتَقَطَاهُ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ -
وَهُمَا أَهْل الْتِقَاطِهِ - فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
يُقَدَّمُ غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُوَاسِيهِ بِمَالِهِ.
وَلَوْ تَفَاوَتَا فِي الْغِنَى لَمْ يُقَدَّمْ أَغْنَاهُمَا.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَخِيلاً وَالآْخَرُ جَوَادًا؛ فَقِيَاسُ
تَقْدِيمِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ يَقْتَضِي أَنْ يُقَدَّمَ
الْجَوَادُ؛ لأَِنَّ حِفْظَ اللَّقِيطِ عِنْدَهُ أَكْثَرُ؛ وَيُقَدَّمُ
عَدْلٌ عَلَى مَسْتُورٍ؛ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْعَدَالَةِ
وَالْحُرِّيَّةِ وَالْغِنَى أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا (2) .
__________
(1) حديث: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم. . . ". أخرجه أبو داود (3 /
453) من حديث أسمر بن مضرس، واستغربه المنذري في مختصر السنن (4 / 264) .
(2) مغني المحتاج 2 / 419، والمحلي شرح المنهاج 3 / 124، وتحفة المحتاج 6 /
344، والمغني 5 / 760.
(39/90)
فَإِنِ ازْدَحَمَ عَلَى أَخْذِ
الْمَنْبُوذِ بِبَلَدٍ؛ أَوْ قَرْيَةٍ؛ ظَاعِنٌ إِلَى بَادِيَةٍ أَوْ
قَرْيَةٍ وَآخَرُ مُقِيمٌ فِي الْبَلَدِ: فَالْمُقِيمُ بِالْبَلَدِ أَوْلَى
بِأَخْذِهِ وَحَضَانَتِهِ؛ لأَِنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ وَأَحْوَطُ لِنَسَبِهِ؛
وَلاَ يُقَدَّمُ الْمُقِيمُ عَلَى ظَاعِنٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ؛ بَل
يَسْتَوِيَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ بِحَضَانَتِهِ
نَقْلُهُ إِلَى بَلَدِهِ.
وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ تَقْدِيمَ قَرَوِيٍّ مُقِيمٍ بِالْقَرْيَةِ
الَّتِي وُجِدَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا عَلَى بَلَدِيٍّ ظَاعِنٍ إِلَى بَلَدٍ
آخَرَ؛ وَيُقَدَّمُ حَضَرِيٌّ عَلَى بَدَوِيٍّ؛ إِذَا وَجَدَاهُ
بِمَهْلَكَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي (لَقِيطٌ ف 8) .
وَيَسْتَوِيَانِ إِذَا وَجَدَاهُ بِمَحَلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ؛ وَيُقَدَّمُ
الْبَصِيرُ عَلَى الأَْعْمَى؛ وَالسَّلِيمُ عَلَى الْمَجْذُومِ
وَالأَْبْرَصِ إِذَا قُلْنَا بِأَهْلِيَّتِهِمَا لِلاِلْتِقَاطِ.
وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي بَلَدٍ فَلاَ يَجُوزُ نَقْلُهُ إِلَى
بَادِيَةٍ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْتَقِطُ بَلَدِيًّا أَوْ بَدَوِيًّا أَوْ
قَرَوِيًّا؛ لِخُشُونَةِ عَيْشِ الْبَادِيَةِ؛ وَتَفْوِيتِ تَعَلُّمِ
الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالصَّنْعَةِ؛ وَضَيَاعِ النَّسَبِ. كَمَا
يَمْتَنِعُ نَقْلُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى قَرْيَةٍ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيطٌ ف 8) وَمَا بَعْدَهَا.
__________
(1) تحفة المحتاج 6 / 344 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 418، 419، والمغني
758 وما بعدها.
(39/90)
الْحُكْمُ بِإِسْلاَمِ الْمَنْبُوذِ أَوْ
كُفْرِهِ
6 - لاَ يَخْلُو الْمَنْبُوذُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ
أَوْ فِي دَارِ الْكُفْرِ.
فَأَمَّا دَارُ الإِْسْلاَمِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: دَارٌ اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ فَلَقِيطُ هَذِهِ مَحْكُومٌ
بِإِسْلاَمِهِ - وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعَهُمْ أَهْل ذِمَّةٍ أَوْ
مُعَاهَدُونَ - تَغْلِيبًا لِلإِْسْلاَمِ وَلِظَاهِرِ الدَّارِ؛ وَلأَِنَّ
الإِْسْلاَمَ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ.
الثَّانِي: دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فَهَذِهِ إِنْ كَانَ فِيهَا
مُسْلِمٌ وَاحِدٌ حُكِمَ بِإِسْلاَمِ لَقِيطِهَا؛ لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ
يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلإِْسْلاَمِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ؛ بَل كُل أَهْلِهَا أَهْل ذِمَّةٍ
حُكِمَ بِكُفْرِهِ؛ لأَِنَّ تَغْلِيبَ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ إِنَّمَا
يَكُونُ مَعَ الاِحْتِمَال؛ وَلاَ احْتِمَال هُنَا.
أَمَّا بَلَدُ الْكُفَّارِ: فَإِنْ كَانَ بَلَدًا لِلْمُسْلِمِينَ فَغَلَبَ
الْكُفَّارُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالأَْوَّل: إِنْ كَانَ فِيهِ مُسْلِمٌ
وَاحِدٌ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارٍ لَمْ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ أَصْلاً فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ فَمَنْبُوذُهُ كَافِرٌ (1) .
__________
(1) تحفة المحتاج 6 / 350، ومغني المحتاج 2 / 422 وما بعدها، والمغني 2 /
748 وما بعدها.
(39/91)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيطٌ ف
10) .
وَإِنْ وُجِدَ الْمَنْبُوذُ بِبَرِّيَّةٍ فَمُسْلِمٌ إِذَا كَانَتْ
بَرِّيَّةَ دَارِنَا؛ أَوْ كَانَتْ بَرِّيَّةً لاَ يَدَ لأَِحَدٍ
عَلَيْهَا.
أَمَّا بَرِّيَّةُ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لاَ يَطْرُقُهَا مُسْلِمٌ فَلاَ
يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ مَنْبُوذِهَا (1) .
وَمَنْ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ بِالدَّارِ كَانَ مُسْلِمًا بَاطِنًا أَيْضًا
إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ ذِمِّيٌّ؛ فَإِذَا بَلَغَ وَأَفْصَحَ بِالْكُفْرِ
كَانَ مُرْتَدًّا.
وَإِنْ كَانَ ثَمَّ ذِمِّيٌّ كَانَ مُسْلِمًا ظَاهِرًا؛ فَإِنْ بَلَغَ
وَأَفْصَحَ كُفْرًا فَهُوَ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ لِضَعْفِ الدَّارِ.
وَإِنْ أَقَامَ ذِمِّيٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ بَيِّنَةً عَلَى نَسَبِ
الْمَنْبُوذِ لَحِقَهُ؛ لأَِنَّهُ كَالْمُسْلِمِ فِي النَّسَبِ؛ وَتَبِعَهُ
بِالْكُفْرِ؛ وَارْتَفَعَ مَا ظَنَنَّاهُ مِنْ إِسْلاَمِهِ؛ لأَِنَّ
الدَّارَ حُكْمٌ بِالْيَدِ؛ وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْ مُجَرَّدِ يَدٍ.
وَتَصَوُّرُ عُلُوقِهِ مِنْ مُسْلِمَةٍ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ نَادِرٌ لاَ
يُعَوَّل عَلَيْهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ؛ وَتَشْمَل الْبَيِّنَةُ مَحْضَ
النِّسْوَةِ (2) .
وَإِنْ أَلْحَقَهُ قَائِفٌ قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: الَّذِي
يَتَّجِهُ اعْتِبَارُ إِلْحَاقِهِ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ فَهُوَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 422، وتحفة المحتاج 6 / 346، 350 - 351، والمغني 5 /
758.
(2) تحفة المحتاج 6 / 351 - 352، ومغني المحتاج 2 / 422 - 423، والمغني 5 /
749.
(39/91)
كَالْبَيِّنَةِ بَل أَقْوَى. وَفِي
النِّسْوَةِ: أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ بِهِنَّ النَّسَبُ تَبِعَهُ بِالْكُفْرِ؛
وَإِلاَّ فَلاَ.
وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الدَّعْوَى بِأَنَّهُ ابْنُهُ وَلاَ حُجَّةَ لَهُ؛
فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ بِالْكُفْرِ
وَإِنْ لَحِقَهُ نَسَبُهُ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ بِإِسْلاَمِهِ لاَ يُغَيَّرُ
بِمُجَرَّدِ دَعْوَى كَافِرٍ مَعَ إِمْكَانِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ
النَّادِرَةِ؛ وَمَحَل هَذَا الْخِلاَفِ إِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ نَحْوُ
صَلاَةٍ؛ وَإِلاَّ - بِأَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ
مُسْلِمٌ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ - لَمْ يُغَيِّرِ ادِّعَاءُ الْكَافِرِ
نَسَبَهُ شَيْئًا عَنْ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ بِالدَّارِ؛ وَتَقْوَى
بِالصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا قَطْعًا؛ وَيُحَال بَيْنَهُمَا وُجُوبًا.
وَمُقْتَضَى حُكْمِهِمْ بِإِسْلاَمِ الْمَنْبُوذِ تَارَةً وَكُفْرِهِ
تَارَةً أُخْرَى: أَنَّ لِقَاضٍ رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُ مَنْبُوذٍ
الْحُكْمَ بِكُفْرِهِ فِيمَا نَصُّوا عَلَى كُفْرِهِ فِيهِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: وَلاَ مَعْنَى لِمَا قَال بَعْضُهُمْ
مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِقَاضٍ أَنْ يَحْكُمَ بِكُفْرِ أَحَدٍ؛ لأَِنَّ
الْحُكْمَ بِالْكُفْرِ رِضًا بِهِ؛ وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ (1) .
اسْتِلْحَاقُ الْمَنْبُوذِ
7 - إِنِ اسْتَلْحَقَ الْمَنْبُوذَ الْمَحْكُومَ بِإِسْلاَمِهِ مَنْ هُوَ
أَهْلٌ لِلاِلْتِقَاطِ؛ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا ذَكَرًا مُسْلِمًا لَحِقَهُ
بِشُرُوطِ الاِسْتِلْحَاقِ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(39/92)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اسْتِلْحَاقٌ ف 11
- 14) .
رِقُّ الْمَنْبُوذِ وَحُرِّيَّتُهُ
8 - الْمَنْبُوذُ حُرٌّ فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ.
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجَمَعَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ
اللَّقِيطَ حُرٌّ؛ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا؛ وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ عَبْدَ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيُّ
وَحَمَّادٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ الأَْصْل
فِي الآْدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ
وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا؛ وَإِنَّ الرِّقَّ لِلْعَارِضِ؛ فَإِنْ لَمْ
يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ فَلَهُ حُكْمُ الأَْصْل؛ هَذَا إِذَا لَمْ
يُقِمْ أَحَدٌ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ؛ وَتَتَعَرَّضُ لأَِسْبَابِ الْمِلْكِ
فَيُعْمَل بِهَا (1) .
وَإِنْ أَقَرَّ الْمَنْبُوذُ الْمُكَلَّفُ بِالرِّقِّ لِشَخْصٍ فَصَدَّقَهُ
قُبِل إِنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِحُرِّيَّةِ كَسَائِرِ
الأَْقَارِيرِ.
فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ لاَ يَثْبُتُ الرِّقُّ؛ وَكَذَا إِنْ
سَبَقَ إِقْرَارٌ بِحُرِّيَّةٍ فَلاَ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بَعْدَهُ؛
لأَِنَّهُ بِالإِْقْرَارِ الأَْوَّل الْتَزَمَ أَحْكَامَ الأَْحْرَارِ
فَلاَ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهَا (2) .
__________
(1) الاختيار 3 / 29، والمغني 5 / 747 - 748، ومغني المحتاج 2 / 425، وتحفة
المحتاج 6 / 356 - 357، والشرح الصغير 4 / 180.
(2) تحفة المحتاج 6 / 357، ومغني المحتاج 2 / 425، وتكملة فتح القدير 6 /
250، والزرقاني 8 / 80، وكشاف القناع 6 / 392.
(39/92)
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الإِْقْرَارِ
بِالرِّقِّ أَلاَّ يَسْبِقَهُ تَصَرُّفٌ يَقْتَضِي نُفُوذُهُ حُرِّيَّةً
كَبَيْعٍ وَنِكَاحٍ؛ بَل يُقْبَل إِقْرَارُهُ فِي أَصْل الرِّقِّ
وَأَحْكَامِهِ الْمَاضِيَةِ الْمُضِرَّةِ بِهِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ فِيهَا
لَهُ؛ لاَ فِي الأَْحْكَامِ الْمَاضِيَةِ الْمُضِرَّةِ بِغَيْرِهِ؛ فَلاَ
يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا؛ كَمَا لاَ يُقْبَل
الإِْقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ بِدَيْنٍ؛ فَلَوْ لَزِمَهُ دَيْنٌ فَأَقَرَّ
بِرِقٍّ وَفِي يَدِهِ مَالٌ قَضَى مِنْهُ؛ ثُمَّ إِنْ فَضَل شَيْءٌ
فَلِلْمُقَرِّ لَهُ (1) .
ادِّعَاءُ رِقِّ الْمَنْبُوذِ مَنْ لَيْسَ بِيَدِهِ
9 - إِنِ ادَّعَى رِقَّ الْمَنْبُوذِ مَنْ لَيْسَ فِي يَدِهِ بِلاَ
بَيِّنَةٍ لَمْ يُقْبَل بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الأَْصْل وَالظَّاهِرَ
الْحُرِّيَّةُ فَلاَ تُتْرَكُ بِلاَ حُجَّةٍ؛ بِخِلاَفِ النَّسَبِ لِمَا
فِيهِ مِنَ الاِحْتِيَاطِ وَالْمَصْلَحَةِ. وَكَذَا إِنِ ادَّعَاهُ
الْمُلْتَقِطُ كَمَا ذَكَرَ؛ وَيَجِبُ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ لِخُرُوجِهِ
بِدَعْوَى الرِّقِّ عَنِ الأَْمَانَةِ؛ وَقَدْ يَسْتَرِقُّهُ فِيمَا
بَعْدُ؛ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَيَّدَهُ الأَْذْرَعِيُّ.
وَخَالَفَ الزَّرْكَشِيُّ تَعْلِيل الْمَاوَرْدِيِّ وَقَال: لَمْ
يُتَحَقَّقْ كَذِبُهُ حَتَّى يَخْرُجَ عَنِ الأَْمَانَةِ. وَقَال ابْنُ
حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: إِنَّ اتِّهَامَهُ صَيَّرَهُ كَغَيْرِ الأَْمِينِ؛
لأَِنَّ يَدَهُ صَارَتْ مَظِنَّةَ الإِْضْرَارِ بِالْمَنْبُوذِ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تحفة المحتاج 6 / 358، ومغني المحتاج 2 / 426 - 427.
(39/93)
نَفَقَةُ الْمَنْبُوذِ
10 - نَفَقَةُ الْمَنْبُوذِ تَكُونُ مِنْ مَالِهِ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ
مَالٌ؛ أَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا فِي مَالٍ عَامٍّ؛ كَالأَْمْوَال
الْمَوْقُوفَةِ عَلَى اللُّقَطَاءِ أَوِ الْمُوصَى بِهَا لَهُمْ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُصْطَلَحِ لَقِيطٌ ف 15؛ 16) .
جِنَايَةُ الْمَنْبُوذِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِنَايَةِ الْمَنْبُوذِ وَالْجِنَايَةِ
عَلَيْهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيطٌ ف 17؛ 18) .
(39/93)
مُنْتَقِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُنْتَقِل فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْفِعْل " انْتَقَل
"؛ وَالاِنْتِقَال: التَّحَوُّل.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَيَخْتَصُّ الْبَحْثُ هُنَا بِتَحَوُّل الْكَافِرِ مِنْ دِينٍ إِلَى
دِينٍ؛ أَمَّا الاِنْتِقَال مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَيُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (تَحَوُّلٌ ف 7 - 9) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُرْتَدُّ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْمُرْتَدِّ فِي اللُّغَةِ الرَّاجِعُ عَنِ الشَّيْءِ؛
وَالرِّدَّةُ الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
وَالْمُرْتَدُّ شَرْعًا: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(39/94)
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْمُنْتَقِل
وَالْمُرْتَدِّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خَرَجَ عَنْ دِينِهِ؛ إِلاَّ أَنَّ
الْمُرْتَدَّ خَرَجَ مِنْ دِينِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِل؛ وَالْمُنْتَقِل
خَرَجَ مِنَ الْبَاطِل إِلَى الْبَاطِل.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُنْتَقِل:
الدِّينُ الَّذِي يُقَرُّ عَلَيْهِ الْمُنْتَقِل
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الدِّينِ الَّذِي يُقَرُّ عَلَيْهِ
الْمُنْتَقِل إِلَى عِدَّةِ آرَاءٍ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل
الْجِزْيَةُ مِنْ كِتَابِيٍّ وَمَجُوسِيٍّ؛ وَوَثَنِيٍّ عَجَمِيٍّ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَقَل وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ
دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ
عَلَى الْعَوْدِ لِلدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ
كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (1) .
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْمَالِكِيُّ رِوَايَةً: أَنَّ
الْمُنْتَقِل يُقْتَل لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَهْدِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ
إِلاَّ أَنْ يُسْلِمَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ - اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْبُهُوتِيُّ - إِلَى أَنَّهُ
إِذَا انْتَقَل كِتَابِيٌّ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ أَهْل
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 277، وحاشية ابن عابدين 3 / 285، ومواهب الجليل 3 /
380 - 381، وحاشية الدسوقي 4 / 308.
(2) عقد الجواهر الثمينة 2 / 54.
(39/94)
الْكِتَابِ كَالْيَهُودِيِّ يَتَنَصَّرُ
أَوِ النَّصْرَانِيِّ يَتَهَوَّدُ لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَل
مِنْهُ} (1) ؛ وَقَدْ أَحْدَثَ دِينًا بَاطِلاً بَعْدَ اعْتِرَافِهِ
بِبُطْلاَنِهِ فَلاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ.
قَال الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَحَل عَدَمِ قَبُول غَيْرِ
الإِْسْلاَمِ فِيمَا بَعْدَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ كَمَا بَحَثَهُ
الزَّرْكَشِيُّ؛ أَمَّا لَوْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ بِدَارِ الْحَرْبِ
ثُمَّ جَاءَنَا وَقَبِل الْجِزْيَةَ فَإِنَّهُ يُقَرُّ لِمَصْلَحَةِ
قَبُولِهَا.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ لِلْحَنَابِلَةِ - نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ ظَاهِرُ
كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ وَاخْتِيَارُ الْخَلاَّل - أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى
الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ دِينِ
أَهْل الْكِتَابِ؛ وَلِتَسَاوِيهِمَا فِي التَّقْرِيرِ بِالْجِزْيَةِ
وَكُلٌّ مِنْهُمَا خِلاَفُ الْحَقِّ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُقْبَل مِنْهُ الإِْسْلاَمُ أَوْ
دِينُهُ الأَْوَّل لأَِنَّهُ كَانَ مَقَرًّا عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا انْتَقَل
الْكِتَابِيُّ إِلَى غَيْرِ دِينِ أَهْل الْكِتَابِ كَمَا لَوْ تَوَثَّنَ
يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ قَطْعًا.
وَفِيمَا يُقْبَل مِنْهُ قَوْلاَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَظَهْرُهُمَا
الإِْسْلاَمُ. وَالثَّانِي: هُوَ أَوْ دِينُهُ الأَْوَّل.
__________
(1) سورة آل عمران / 85.
(39/95)
وَانْفَرَدَ الْمَحَلِّيُّ - فِي شَرْحِ
الْمِنْهَاجِ - بِإِضَافَةِ قَوْلٍ ثَالِثٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَهُوَ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مُسَاوِيهِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَهَوَّدَ وَثَنِيٌّ أَوْ
تَنَصَّرَ لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ وَيَتَعَيَّنُ الإِْسْلاَمُ فِي
حَقِّهِ لاِنْتِقَالِهِ عَمَّا لاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ إِلَى بَاطِلٍ
وَالْبَاطِل لاَ يُفِيدُ الإِْقْرَارَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا انْتَقَل مَجُوسِيٌّ إِلَى دِينٍ لاَ يُقَرُّ
أَهْلُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُقَرَّ كَأَهْل ذَلِكَ الدِّينِ.
وَإِنِ انْتَقَل إِلَى دِينِ أَهْل الْكِتَابِ؛ خُرِّجَ فِيهِ
الرِّوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يُقَرُّ.
وَالثَّانِيَةُ: يُقَرُّ عَلَيْهِ (1) .
نِكَاحُ الْمُنْتَقِل
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ إِذَا
تَنَصَّرَتْ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِذَا تَهَوَّدَتْ وَالْمَجُوسِيَّةِ
إِذَا تَهَوَّدَتْ أَوْ تَنَصَّرَتْ
وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُنْتَقِلَةِ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ
لِلْمُنْتَقِلَةِ:
__________
(1) المغني 6 / 593، وكشاف القناع 5 / 122، ومغني المحتاج 3 / 189، 190،
والمحلي القليوبي 3 / 153، ونهاية المحتاج 6 / 288.
(39/95)
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمُنْتَقِلَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ أَوِ
النَّصْرَانِيَّةِ دُونَ الْمَجُوسِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ
مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلأَِنَّ الْمُنْتَقِلَةَ تُقَرُّ عَلَى مَا
انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ (1) ؛ وَلِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2)
.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمُنْتَقِلَةِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ
إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْعَكْسُ وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةَ
مُسْلِمٍ فَإِنَّ تَهَوُّدَهَا أَوْ تَنَصُّرَهَا كَرِدَّةِ مُسْلِمَةٍ
تَحْتَهُ فَتُنَجَزُ الْفُرْقَةُ فِي الْحَال وَلاَ مَهْرَ لَهَا لأَِنَّ
الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَذَلِكَ إِذَا كَانَ قَبْل الدُّخُول؛ وَإِنْ
كَانَ بَعْدَ الدُّخُول وَقَفَ نِكَاحُهَا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ عَادَتْ إِلَى
دِينِهَا الأَْوَّل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ دَامَ النِّكَاحُ؛
وَإِلاَّ بَانَ حُصُول الْفُرْقَةِ مِنْ وَقْتِ الاِنْتِقَال؛ وَهُوَ
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
يَنْفَسِخُ فِي الْحَال (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 388 - 389، وحاشية العدوي على الرسالة 2 / 56،
ومواهب الجليل 3 / 166، ومغني المحتاج 3 / 190، وروضة الطالبين 7 / 140.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) روضة الطالبين 7 / 140، ومغني المحتاج 3 / 190، وكشاف القناع 5 / 122،
والمغني لابن قدامة 6 / 594.
(39/96)
ب - انْتِقَال أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
الذِّمِّيَّيْنِ إِلَى غَيْرِ دِينِ الإِْسْلاَمِ
5 - إِذَا انْتَقَل أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ إِلَى دِينِ
كُفْرٍ آخَرَ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: النَّصْرَانِيَّةُ إِذَا تَهَوَّدَتْ أَوْ عَكْسُهُ
لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ لأَِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ
وَكَذَا لَوْ تَمَجَّسَتْ زَوْجَةُ النَّصْرَانِيِّ فَهُمَا عَلَى
نِكَاحِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فِي الاِبْتِدَاءِ؛
وَالْمُرَادُ بِالْمَجُوسِيِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ
فَيَشْمَل الْوَثَنِيَّ وَالدَّهْرِيَّ (1) .
وَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ
يُصَرِّحُونَ بِفَسَادِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُنْتَقِلَةَ إِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةَ
كَافِرٍ لاَ يَرَى حِل الْمُنْتَقِلَةِ فَهِيَ كَالْمُرْتَدَّةِ
فَتُتَنَجَّزُ الْفُرْقَةُ قَبْل الْوَطْءِ وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ
تَعُدْ إِلَى دِينِهَا قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْكَافِرُ يَرَى نِكَاحَهَا فَتُقَرُّ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا انْتَقَل أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
الذِّمِّيَّيْنِ إِلَى دِينٍ لاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ كَالْيَهُودِيِّ
يَتَنَصَّرُ أَوِ النَّصْرَانِيِّ يَتَهَوَّدُ؛ أَوْ تَمَجَّسَ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 388 - 389.
(2) الذخيرة 4 / 325، وحاشية الدسوقي 2 / 267.
(3) تحفة المحتاج وحواشيها 7 / 327.
(39/96)
الْكِتَابِيَّيْنِ فَكَالرَّدَّةِ
فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ قَبْل الدُّخُول وَيَتَوَقَّفُ بَعْدَهُ عَلَى
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى دِينٍ بَاطِلٍ قَدْ
أَقَرَّ بِبُطْلاَنِهِ فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدِّ (1) .
ج - انْتِقَال أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ إِلَى الإِْسْلاَمِ
6 - لِلْفُقَهَاءِ فِي الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى انْتِقَال أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إِلَى الإِْسْلاَمِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلاَمٌ ف 5) .
ذَبِيحَةُ الْمُنْتَقِل
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ انْتَقِل مِنَ
الْكِتَابِيِّينَ إِلَى غَيْرِ دِينِ أَهْل الْكِتَابِ لاَ تُؤْكَل
ذَبِيحَتُهُ.
انْظُرْ: (ذَبَائِحُ ف 27) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ إِذَا انْتَقَل مِنْ
دِينِهِ إِلَى دِينِ أَهْل كِتَابٍ آخَرِينَ كَيَهُودِيٍّ تَنَصَّرَ أَوِ
الْعَكْسِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى حِل
ذَبِيحَتِهِ؛ وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا
انْتَقَل إِلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الذَّبْحِ حَتَّى لَوْ
تَمَجَّسَ يَهُودِيٌّ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ.
__________
(1) كشاف القناع 5 / 122.
(39/97)
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ
يُقَرُّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي التَّقْرِيرِ بِالْجِزْيَةِ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ.
لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَل إِلَيْهِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِحِل ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ أَصَالَةً أَوِ
انْتِقَالاً شُرُوطًا ثَلاَثَةً وَهِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ مَمْلُوكًا لِلْكِتَابِيِّ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ مِمَّا يَحِل لَهُ بِشَرْعِنَا لاَ إِنْ
ذَبَحَ الْيَهُودِيُّ ذَا الظُّفُرِ فَلاَ يَحِل أَكْلُهُ.
ج - أَنْ لاَ يَذْبَحَهُ عَلَى صَنَمٍ (1) .
وَقَال صَاحِبُ الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنِ
انْتَقَل كِتَابِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ بِكِتَابٍ
وَجِزْيَةٍ وَأُقِرَّ عَلَيْهِ حَلَّتْ ذَكَاتُهُ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِحِل الذَّبْحِ أَنْ
يَكُونَ الذَّابِحُ مِمَّنْ يَحِل نِكَاحُنَا لأَِهْل مِلَّتِهِ؛ فَلاَ
تَحِل عِنْدَهُمْ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إِذَا انْتَقَل مِنْ دِينٍ إِلَى
دِينِ أَهْل كِتَابٍ آخَرِينَ (3) ؛ وَسَبَقَ أَنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُنْتَقِلَةِ مِنَ
الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْعَكْسُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 190، وحاشية الدسوقي 2 / 100 - 101، وروضة
الطالبين 7 / 140.
(2) الإنصاف 10 / 388.
(3) تحفة المحتاج 9 / 314، وشرح المحلي 4 / 240، ومغني المحتاج 4 / 266.
(39/97)
عُقُوبَةُ الْمُنْتَقِل
8 - عَلَى ضَوْءِ مَا أَوْضَحْنَاهُ مِنَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي
الدِّينِ الَّذِي يُقَرُّ عَلَيْهِ الْمُنْتَقِل فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي
إِيقَاعِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ إِلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْظْهَرِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمُنْتَقِل
تُقْبَل مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيَظَل ذِمِّيًّا وَلاَ عُقُوبَةَ عَلَيْهِ
لأَِنَّ أَهْل الْكُفْرِ كُلُّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا انْتَقَل إِلَى دِينٍ
يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ؛ أَوِ انْتَقَل إِلَى دِينٍ لاَ يُقَرُّ
أَهْلُهُ عَلَيْهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ؛ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ؛ فَإِنِ انْتَقَل إِلَى دِينٍ يُقَرُّ أَهْلُهُ
عَلَيْهِ تُقْبَل مِنْهُ الْجِزْيَةُ.
أَمَّا إِذَا انْتَقَل إِلَى دِينٍ لاَ يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَمَا
لَوِ انْتَقَل مِنَ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى
الْمَجُوسِيَّةِ أَوِ الْوَثَنِيَّةِ أَوِ انْتَقَل مِنَ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 277، وحاشية ابن عابدين 3 / 285، ومواهب الجليل 3 /
380 - 381، والدسوقي 4 / 308، ومغني المحتاج 3 / 189 - 190، والمغني 6 /
593 - 594.
(39/98)
الْيَهُودِيَّةِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ
أَوْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَهُوَ كَمُسْلِمٍ
ارْتَدَّ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ فَقَطْ؛ أَوْ يَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ الإِْسْلاَمُ أَوِ الرُّجُوعُ إِلَى دِينِهِ الأَْوَّل عِنْدَ
بَعْضِهِمْ؛ أَوْ إِلَى دِينٍ مُسَاوٍ لِدِينِهِ الأَْوَّل عِنْدَ
الْبَعْضِ الآْخَرِ؛ فَإِنْ أَبَى فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَل فِي الْحَال كَالْمُرْتَدِّ
الْمُسْلِمِ؛ وَالثَّانِي وَهُوَ الأَْصَحُّ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِمَأْمَنِهِ
إِنْ كَانَ لَهُ مَأْمَنٌ كَمَنْ نَبَذَ الْعَهْدَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
هُوَ حَرْبِيٌّ إِنْ ظَفِرْنَا بِهِ قَتَلْنَاهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
أَمَانٌ قَتَلْنَاهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِ مَا انْتَقَل
إِلَيْهِ؛ وَفِي صِفَةِ إِجْبَارِهِ عِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُقْتَل إِنْ لَمْ يَرْجِعْ رَجُلاً كَانَ أَوِ
امْرَأَةً لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ ذِمِّيٌّ نَقَضَ الْعَهْدَ
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَضَهُ بِتَرْكِ الْتِزَامِ الذِّمَّةِ وَهَل
يُسْتَتَابُ؟ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَتَابُ؛ لأَِنَّهُ يُسْتَرْجَعُ عَنْ دِينٍ بَاطِلٍ
انْتَقَل إِلَيْهِ فَيُسْتَتَابُ كَالْمُرْتَدِّ.
__________
(1) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 267 ط
السلفية) من حديث ابن عباس.
(39/98)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يُسْتَتَابُ؛
لأَِنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ أُبِيحَ قَتْلُهُ فَأَشْبَهَ الْحَرْبِيَّ؛
فَعَلَى هَذَا إِنْ بَادَرَ وَأَسْلَمَ أَوْ رَجَعَ إِلَى مَا يُقَرُّ
عَلَيْهِ عَصَمَ دَمَهُ وَإِلاَّ قُتِل.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَنْ أَحْمَدَ قَال: إِذَا دَخَل
الْيَهُودِيُّ فِي النَّصْرَانِيَّةِ رَدَدْتُهُ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ
وَلَمْ أَدَعْهُ فِيمَا انْتَقَل إِلَيْهِ فَقِيل لَهُ: أَتَقْتُلُهُ؟
قَال: لاَ وَلَكِنْ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ؛ قَال: وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا
أَوْ يَهُودِيًّا فَدَخَل فِي الْمَجُوسِيَّةِ كَانَ أَغْلَظَ؛ لأَِنَّهُ
لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ؛ وَلاَ تُنْكَحُ لَهُ امْرَأَةٌ وَلاَ يُتْرَكُ
حَتَّى يُرَدَّ إِلَيْهَا فَقِيل لَهُ: تَقْتُلُهُ إِذَا لَمْ يَرْجِعْ؟
قَال: إِنَّهُ لأََهْل ذَلِكَ؛ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا نَصٌّ فِي
أَنَّ الْكِتَابِيَّ الْمُنْتَقِل إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ دِينِ أَهْل
الْكِتَابِ لاَ يُقْتَل بَل يُكْرَهُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ (1) .
إِرْثُ الْمُنْتَقِل
9 - إِنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَنْتَقِل
مِنْ دِينِهِ إِلَى دِينِ كُفْرٍ آخَرَ؛ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي إِرْثِ
الْمُنْتَقِل فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ
مِلَّةٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 388، 396، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 53 - 54،
ومغني المحتاج 3 / 189 - 190، وتحفة المحتاج مع حواشيه 7 / 326 - 327،
وروضة الطالبين 7 / 140 - 141، والمغني لابن قدامة 6 / 593 - 594.
(39/99)
وَاحِدَةٌ؛ وَحِينَئِذٍ فَيَرِثُ
بَعْضُهُمُ الْبَعْضَ مُطْلَقًا.
وَيَرَى الْبَعْضُ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاَثَ مِلَلٍ: الْيَهُودِيَّةُ؛
وَالنَّصْرَانِيَّةُ؛ وَدِينُ سَائِرِهِمْ؛ وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ؛ وَحِينَئِذٍ يَرَوْنَ أَنَّ أَهْل كُل مِلَّةٍ
يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ لاَ يَرَوْنَ جَوَازَ الاِنْتِقَال مِنْ
دِينِ كُفْرٍ إِلَى آخَرَ وَلاَ يُقْبَل مِنَ الْمُنْتَقِل إِلاَّ
الإِْسْلاَمُ؛ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ
فِي رِوَايَةٍ فَإِنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ أَنْ يَرِثَ الْمُنْتَقِل
أَحَدًا أَوْ يَرِثُهُ آخَرُ (1) .
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَقِل مِنْ دِينٍ إِلَى
دِينٍ آخَرَ كَيَهُودِيٍّ تَنَصَّرَ أَوْ نَصْرَانِيٍّ تَهَوَّدَ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ لاَ يَرِثُ أَحَدًا وَلاَ يَرِثُهُ أَحَدٌ بِمَعْنَى لاَ
يَرِثُهُ أَهْل الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل عَنْهُ وَلاَ يَرِثُهُمْ؛ وَلاَ
يَرِثُهُ أَهْل الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ وَلاَ يَرِثُهُمْ؛
لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُسْلِمِ إِذَا
ارْتَدَّ؛ وَمَال الْمُنْتَقِل يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَاتَ كَمَا هُوَ شَأْنُ مَال الْمُرْتَدِّ إِذَا
مَاتَ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 277، وشرح الزرقاني 8 / 228، والتهذيب في علم
الفرائض 238 - 239، ومغني المحتاج 3 / 25.
(2) مغني المحتاج 3 / 25، والقليوبي وعميرة 3 / 148، وتحفة المحتاج مع
حاشية الشرواني 6 / 416، وحاشية الشرواني والعبادي 7 / 326، 327.
(39/99)
مِنْحَةٌ
انْظُرْ: هِبَةٌ.
مَنْدُوبٌ
انْظُرْ: نَدْبٌ.
مَنْسَكٌ
انْظُرْ: حَجٌّ؛ عُمْرَةٌ. |