الموسوعة
الفقهية الكويتية مُهْلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُهْلَةُ فِي اللُّغَةِ: السَّكِينَةُ وَالرِّفْقُ يُقَال: مَهَل
فِي فِعْلِهِ مَهْلاً: تَنَاوَلَهُ بِرِفْقٍ وَلَمْ يَعْجَل وَأَمْهَلَهُ:
لَمْ يُعَجِّلْهُ وَأَنْظَرَهُ وَرَفَقَ بِهِ وَمَهَّلَهُ تَمْهِيلاً:
أَجَّلَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْجَل:
2 - الأَْجَل لُغَةً: مَصْدَرُ أَجِل الشَّيْءُ أَجَلاً مِنْ بَابِ تَعِبَ
وَأَجَل الشَّيْءِ: مُدَّتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: قَال الْبَرَكَتِيُّ: هُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ
الْمَحْدُودُ فِي الْمُسْتَقْبَل (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُهْلَةِ وَالأَْجَل هِيَ الْعُمُومُ
وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فَكُل مُهْلَةٍ أَجَلٌ وَلَيْسَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(39/210)
كُل أَجَلٍ مُهْلَةً فَقَدْ يُحَدِّدُ
الشَّرْعُ أَوْقَاتًا لِلْحُكْمِ كَمُدَّةِ الْحَمْل وَالْعِدَّةِ
وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ دُونَ تَأْخِيرٍ فِي تَنْفِيذِهِ دَائِمًا كَمَا
هُوَ الْحَال فِي الْمُهْلَةِ.
ب - الْمُدَّةُ:
3 - الْمُدَّةُ لُغَةً: الْبُرْهَةُ مِنَ الزَّمَانِ يَقَعُ عَلَى
الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ وَالْجَمْعُ مُدَدٌ مِثْل غُرْفَةٍ وَغُرَفٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُهْلَةِ وَالْمُدَّةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
الْمُطْلَقُ فَكُل مُهْلَةٍ مُدَّةٌ وَلَيْسَتْ كُل مُدَّةٍ مُهْلَةً
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُهْلَةِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمُهْلَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - إِمْهَال الْكَفِيل
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْهِل الْكَفِيل
مُدَّةً لإِِحْضَارِ الْمَكْفُول الْغَائِبِ فِي بَلَدٍ آخَرَ إِذَا طَلَبَ
الْغَرِيمُ مِنْهُ إِحْضَارَهُ وَأَنَّ مُدَّةَ الإِْمْهَال مُقَدَّرَةٌ
بِمُدَّةِ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 256 ط بولاق، والمبسوط 19 / 164 ط دار المعرفة،
والتاج والإكليل 5 / 115 ط دار الفكر، وحاشية الدسوقي 3 / 345 ط دار الفكر،
وشرح المنهج على الجمل 3 / 385 ط دار إحياء التراث، ونهاية المحتاج 4 / 450
- 451 ط الحلبي، وكشاف القناع 3 / 379، 380 ط عالم الكتب.
(39/210)
وَشَرَطَ جُمْهُورُهُمْ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ غَيْبَةُ
الْمَكْفُول فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ (1) وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَمْنَ الطَّرِيقِ (2) وَسَوَاءٌ كَانَتِ
الْمَسَافَةُ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ
وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول غَائِبًا قَرِيبَ
الْغَيْبَةِ مِثْل الْيَوْمِ وَشِبْهِهِ فَإِنْ بَعُدَتْ فَلاَ إِمْهَال
وَغَرِمَ الْكَفِيل (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلاً أُمْهِل
مُدَّةَ إِقَامَةِ السَّفَرِ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيِ
الدُّخُول وَالْخُرُوجِ ثُمَّ إِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ
وَلَمْ يُحْضِرْهُ حُبِسَ (4) .
ب - إِمْهَال الْمُولِي بَعْدَ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ
5 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَ لاَ يُعَدُّ مُولِيًا إِذَا
حَلَفَ لَيَعْزِلَنَّ عَنْ زَوْجَتِهِ أَوْ لاَ يَبِيتَنَّ أَوْ تَرَكَ
الْوَطْءَ ضَرَرًا وَإِنْ غَائِبًا أَوْ سَرْمَدَ الْعِبَادَةَ بِلاَ
ضَرْبِ أَجَلٍ لِلإِْيلاَءِ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الْفُرُوعِ الأَْرْبَعَةِ
خِلاَفًا لِمَنْ قَال إِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 256، ونهاية المحتاج 4 / 450 - 451، وكشاف القناع
3 / 379 - 380.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 256، ونهاية المحتاج 4 / 450 - 451.
(3) التاج والإكليل 5 / 115، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 345.
(4) شرح المنهج على الجمل 3 / 385، والإقناع للشربيني 2 / 91 ط دار الكتب
العلمية.
(39/211)
الْمَسَائِل الأَْرْبَعِ فَيُضْرَبُ لَهُ
أَجَل الإِْيلاَءِ فَإِنِ انْقَضَى وَلَمْ يَفِ طَلَّقَ عَلَيْهِ لَكِنِ
الْغَائِبُ لاَ بُدَّ مِنْ طُول غَيْبَتِهِ سَنَةً فَأَكْثَرَ وَلاَ بُدَّ
مِنَ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَحْضُرَ أَوْ تُرَحَّل
امْرَأَتُهُ إِلَيْهِ أَوْ يُطَلِّقَ فَإِنِ امْتَنَعَ تَلَوَّمَ لَهُ
بِالاِجْتِهَادِ وَطَلَّقَ عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَطَأَ
زَوْجَتَهُ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
فَهُوَ مُولٍ وَيُؤَجَّل لَهُ بِمَعْنَى يُمْهَل الْمُولِي وُجُوبًا إِنْ
سَأَلَتْ زَوْجَتُهُ ذَاكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَإِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ
الإِْيلاَءِ فَلاَ يُمْهَل لِيَفِئَ أَوْ يُطَلِّقَ لأَِنَّهُ زِيَادَةٌ
عَلَى مَا أَمْهَلَهُ اللَّهُ، وَالْحَقُّ إِذَا حَل لاَ يُؤَجَّل ثَانِيًا
إِلاَّ إِذَا اسْتُمْهِل لِشُغْلٍ أُمْهِل بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ
لِذَلِكَ الشُّغْل فَإِنْ كَانَ صَائِمًا أُمْهِل حَتَّى يُفْطِرَ أَوْ
جَائِعًا فَحَتَّى يَشْبَعَ أَوْ ثَقِيلاً مِنَ الشِّبَعِ فَحَتَّى يَخِفَّ
أَوْ عَلَيْهِ النُّعَاسُ فَحَتَّى يَزُولَ، وَالاِسْتِعْدَادُ فِي مِثْل
هَذِهِ الأَْحْوَال بِقَدْرِ يَوْمٍ فَمَا دُونَهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُولِيَ الْمُمْتَنِعَ مِنَ
الْجِمَاعِ بَعْدَ الْمُدَّةِ يُؤْمَرُ بِالطَّلاَقِ وَإِلاَّ حُبِسَ
وَضُيِّقَ عَلَيْهِ حَتَّى يُطَلِّقَ فَإِنْ قَال: أَمْهِلُونِي حَتَّى
أُصَلِّيَ فَرْضِي أَوْ أَتَغَذَّى أَوْ يَنْهَضِمَ الطَّعَامُ
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 431، والتاج والإكليل 4 / 108.
(2) الإقناع 2 / 312 - 315، ومغني المحتاج 3 / 348 - 351.
(39/211)
عَنِّي أَوْ أَنَامَ فَإِنِّي نَاعِسٌ
وَنَحْوَهُ أُمْهِل بِقَدْرِ ذَلِكَ وَيُمْهَل الْمُحْرِمُ حَتَّى يَحِل
(1) وَإِنْ كَانَ الْمُولِي مُظَاهِرًا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَطْءِ وَيُقَال
لَهُ: إِمَّا تُكَفِّرَ وَتَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَ فَإِنْ طَلَبَ
الإِْمْهَال لِيَطْلُبَ رَقَبَةً يَعْتِقَهَا أَوْ طَعَامًا يَشْتَرِيَهُ
أُمْهِل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى
التَّكْفِيرِ فِي الْحَال وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الْمُدَافَعَةُ لَمْ يُمْهَل
وَإِنْ كَانَ فَرْضُهُ الصِّيَامَ لَمْ يُمْهَل حَتَّى يَصُومَ بَل
يُؤْمَرْ أَنْ يُطَلِّقَ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ
الصِّيَامِ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ عُرْفًا أُمْهِل فِيهَا (2) .
ج - إِمْهَال الشَّفِيعِ لإِِحْضَارِ الثَّمَنِ
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ
حَاضِرًا وَقْتَ التَّمَلُّكِ وَطَلَبَ الشَّفِيعُ أَجَلاً لِنَقْدِ
الثَّمَنِ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي ثَلاَثًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ
أَوْ ثَلاَثًا (4) وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ
يَوْمَيْنِ
__________
(1) المحرر للمجد ابن تيمية 2 / 87 - 88 ط دار الكتاب العربي.
(2) كشاف القناع 5 / 365.
(3) بدائع الصنائع 5 / 25 ط دار الكتاب العربي، وحاشية الدسوقي 3 / 489،
وجواهر الإكليل 2 / 162، وأسنى المطالب 2 / 369، والمحرر 1 / 366.
(4) بدائع الصنائع 5 / 24.
(39/212)
أَوْ ثَلاَثَةً (1)
د - إِمْهَال الْمُرْتَدِّ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُمْهَل ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ لاِسْتِتَابَتِهِ عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ وُجُوبِ
الاِسْتِتَابَةِ أَوِ اسْتِحْبَابِهَا غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا
عَلَى أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَبَى الإِْسْلاَمَ نَظَرَ الإِْمَامُ
فِي ذَلِكَ فَإِنْ طَمِعَ فِي تَوْبَتِهِ أَوْ سَأَل هُوَ التَّأْجِيل
أَجَّلَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي تَوْبَتِهِ وَلَمْ
يَسْأَل هُوَ التَّأْجِيل قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَهَذَا فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ.
وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُمْهَل وَتَجِبُ
الاِسْتِتَابَةُ فِي الْحَال (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رِدَّةٌ ف 35) .
هـ - إِمْهَال تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ خَشْيَةَ تَعَدِّيهَا
8 - إِذَا كَانَ تَنْفِيذُ الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ يُخْشَى مِنْهُ
تَعَدِّيهَا إِلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا كَمَا إِذَا
__________
(1) المحرر 1 / 366، وكشاف القناع 4 / 159.
(2) المبسوط 10 / 99، وبدائع الصنائع 7 / 35، والاختيار 4 / 145 - 146 ط
دار المعرفة، وجواهر الإكليل 2 / 278، ومغني المحتاج 4 / 139، 140 ط دار
إحياء التراث، وكشاف القناع 6 / 174، ومغني المحتاج 4 / 140.
(39/212)
كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْتَحِقَّةُ
لِلْقَتْل رَجْمًا أَوْ قِصَاصًا أَوْ غَيْرَهُمَا حَامِلاً أَوْ كَانَ
الْجَانِي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا مُوجِبًا لِقِصَاصٍ فِيمَا
دُونَ النَّفْسِ مَرِيضًا مَرَضًا يُخْشَى مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ
أُمْهِلَتِ الْحَامِل حَتَّى تَضَعَ وَالْمَرِيضُ حَتَّى يَبْرَأَ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حُدُودٌ ف 41 وَمَا بَعْدَهَا)
و إِمْهَال الْمُكَاتَبِ
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا عَجَزَ عِنْدَ
حُلُول النَّجْمِ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يُرْجَى أُمْهِلَ، فَقَدْ نَصَّ
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يُنْظِرُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ
ثَلاَثَةً وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا لأَِنَّ فِي ذَلِكَ نَظَرًا
لِلْجَانِبَيْنِ وَالثَّلاَثَةُ مُدَّةٌ تُضْرَبُ لإِِبْلاَءِ
الأَْعْذَارِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْهِل مَنْ يُرْجَى
يُسْرُهُ
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ اسْتَمْهَل الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ عِنْدَ
حُلُول النَّجْمِ لِعَجْزٍ اسْتُحِبَّ لَهُ إِمْهَالُهُ إِعَانَةً لَهُ
عَلَى تَحْصِيل الْعِتْقِ فَإِنْ أَمْهَل السَّيِّدُ مُكَاتَبَهُ ثُمَّ
أَرَادَ الْفَسْخَ فَلَهُ ذَلِكَ لأَِنَّ الدَّيْنَ الْحَال لاَ يَتَأَجَّل
وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُكَاتَبِ عُرُوضٌ وَكَانَتِ الْكِتَابَةُ غَيْرَهَا
وَاسْتَمْهَل لِبَيْعِهَا أَمْهَلَهُ وُجُوبًا لِيَبِيعَهَا لأَِنَّهَا
مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ وَلَوْ لَمْ يُمْهَلْهَا
(39/213)
لَفَاتَ مَقْصُودُ الْكِتَابَةِ فَإِنْ
لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُهَا فَوْرًا كَأَنْ عَرَضَ كَسَادٌ فَلَهُ أَنْ لاَ
يَزِيدَ فِي الْمُهْلَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لِتَضَرُّرِهِ بِذَلِكَ
وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمُقْتَضَى كَلاَمِ الإِْمَامِ عَدَمُ وُجُوبِ
الإِْمْهَال فَقَدْ نُقِل عَنْهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا جَوَازُ
الْفَسْخِ وَصَحَّحَاهُ وَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا وَاسْتَمْهَل
لإِِحْضَارِهِ أَمْهَلَهُ السَّيِّدُ وُجُوبًا إِلَى إِحْضَارِهِ إِنْ
كَانَ غَائِبًا فِيمَا دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
الْحَاضِرِ كَانَ غَائِبًا بِأَنْ كَانَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ فَأَكْثَرَ
فَلاَ يَجِبُ الإِْمْهَال لِطُول الْمُدَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ نَجْمِ
الْكِتَابَةِ فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّ لَهُ مَالاً غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ
فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ
فَسْخُ الْكِتَابَةِ وَأُمْهِل بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ
الْوَفَاءِ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ وَيَلْزَمُ السَّيِّدَ إِنْظَارُهُ ثَلاَثًا
لِبَيْعِ عَرَضٍ أَوْ لِمَال غَائِبٍ مَسَافَةَ قَصْرٍ يَرْجُو قُدُومَهُ
وَلِدَيْنِ حَالٍّ عَلَى مَلِيءٍ أَوْ قَبْضِ مُودَعٍ (1) .
ش - إِمْهَال الْبُغَاةِ
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْل الْبَغْيِ إِذَا سَأَلُوا
الإِْمَامَ الإِْنْظَارَ وَرَجَا رُجُوعَهُمْ عَمَّا هُمْ
__________
(1) الاختيار 4 / 145 - 146، وجواهر الإكليل 2 / 310، ومغني المحتاج مع
المنهاج 4 / 528، وكشاف القناع 4 / 559.
(39/213)
عَلَيْهِ إِلَى طَرِيقِ أَهْل الْعَدْل
فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَهُمْ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بُغَاةٌ ف 10) .
ح - الإِْمْهَال فِي الدَّعْوَى
الإِْمْهَال فِي الدَّعْوَى إِِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي أَوْ
لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
إِِمْهَال الْمُدَّعِي
11 - إِِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي مُهْلَةً لِيُقَدِّمَ الْبَيِّنَةَ
الشَّاهِدَةَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ
أَنَّهُ لَوْ قَال الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ لَمْ يُسْتَحْلَفْ
وَقِيل لِخَصْمِهِ أَعْطِهِ كَفِيلاً بِنَفْسِكَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
كَيْلاَ يَضِيعَ حَقُّهُ بِتَغْيِيبِهِ نَفْسَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ
لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ
لأَِنَّ الْحُضُورَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِِذَا طَلَبَهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَلْزَمَ الْكَفِيل لأَِنَّ الْحَقَّ لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ بَعْدُ.
وَالتَّقْدِيرُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ
مُقَدَّرٌ بِمَا بَيْنَ مَجْلِسَيِ الْقَضَاءِ حَتَّى إِِذَا كَانَ
يَجْلِسُ فِي كُل يَوْمٍ يُكْفَل إِِلَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ
يَجْلِسُ فِي كُل عَشَرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يُكْفَل إِِلَى عَشَرَةٍ
__________
(1) الإجماع لابن المنذر ص 126 ط قطر.
(39/214)
فَإِنْ أَبَى لاَزَمَهُ حَيْثُ صَارَ (1)
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ إِِمْهَالَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
وَقِيل: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُمْهَل أَبَدًا لأَِنَّ
الْيَمِينَ حَقُّهُ فَلَهُ تَأْخِيرُهُ إِِلَى أَنْ يَشَاءَ
كَالْبَيِّنَةِ. وَهَل الإِْمْهَال عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟
وَجْهَانِ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا تَقْدِيرَ مُدَّةِ
الإِْمْهَال إِِلَى الْقَاضِي (3)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ سَأَل الْقَاضِيَ
مُلاَزَمَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أُجِيبَ فِي
الْمَجْلِسِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهَا فِي الْمَجْلِسِ صَرَفَهُ وَلاَ
يَجُوزُ حَبْسُهُ وَلاَ يُلْزَمُ بِإِقَامَةِ كَفِيلٍ وَلَوْ سَأَلَهُ
الْمُدَّعِي ذَلِكَ (4) .
إِِمْهَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
12 - إِِذَا طَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُهْلَةً لِيَأْتِيَ بِحُجَّةٍ
أَوْ يَنْظُرَ فِي حِسَابِهِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ إِِمْهَالَهُ
(5) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 300.
(2) أسنى المطالب 4 / 406، وشرح المحلي مع القليوبي وعميرة 4 / 343 ط عيسى
الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 478، 479.
(3) الخرشي 7 / 159 ط دار صادر، والشرح الصغير للدردير 4 / 312 ط دار
المعارف.
(4) كشاف القناع 6 / 336.
(5) الخرشي 7 / 159، ونهاية المحتاج 8 / 345، وكشاف القناع 6 / 340 - 341.
(39/214)
إِِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَرْجَعُوا
تَحْدِيدَ مُدَّةِ الإِْمْهَال إِِلَى الْقَاضِي (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ
الإِْمْهَال ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (2) .
13 - وَإِذَا اسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَطَلَبَ الإِْمْهَال
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ
عَرْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ الْيَمِينَ مَرَّتَيْنِ يُمْهِلُهُ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ ثُمَّ إِِذَا جَاءَ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَقَال: لاَ
أَحْلِفُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ حَتَّى يَنْكُل
ثَلاَثَةً وَيَسْتَقْبِل عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَلاَ
يُعْتَبَرُ نُكُولُهُ قَبْل الاِسْتِمْهَال.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
إِذَا اسْتُحْلِفَ فَطَلَبَ الإِْمْهَال لِيَنْظُرَ حِسَابَهُ فَإِنَّ
الْقَاضِيَ يُمْهِلُهُ ثَلاَثَةَ (3) أَيَّامٍ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُمْهَل إِلاَّ
بِرِضَا الْمُدَّعِي لأَِنَّهُ مَقْهُورٌ عَلَى الإِْقْرَارِ وَالْيَمِينِ
بِخِلاَفِ الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فِي طَلَبِ حَقِّهِ
وَتَأْخِيرِهِ (4) .
14 - إِذَا طَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُهْلَةً لِيُقَدِّمَ الْبَيِّنَةَ
__________
(1) الخرشي 7 / 159.
(2) نهاية المحتاج 8 / 345، وكشاف القناع 6 / 340 - 341.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 15، وحاشية الدسوقي 4 / 150، ومغني المحتاج 4 /
479، ومطالب أولي النهى 6 / 523.
(4) مغني المحتاج 4 / 479، وانظر: أسنى المطالب 4 / 406.
(39/215)
الْمُجَرِّحَةَ فِي الْبَيِّنَةِ
الشَّاهِدَةِ عَلَيْهِ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَلَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ
الإِْمْهَال (2) أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ
وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُ يُمْهِلُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيِ
الإِْمْهَال وَالْعَوْدَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُمْهِلُهُ يَوْمًا فَقَطْ (3)
15 - وَإِذَا قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّعْوَى:
قَضَيْتُهُ أَوْ أَبْرَأَنِي وَذَكَرَ لَهُ بَيِّنَةً بِالْقَضَاءِ أَوِ
الإِْبْرَاءِ وَسَأَل الإِْنْظَارَ أُنْظِرَ ثَلاَثًا عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ أَدَاءَ
مَال الْكِتَابَةِ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ وَأَرَادَ الْعَبْدُ إِقَامَةَ
الْبَيِّنَةِ أُمْهِل ثَلاَثًا.
وَلَكِنْ هَل الإِْمْهَال وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟
وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا الْوُجُوبُ (4)
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 215 - 216، وحاشية الدسوقي 4 / 150، والحاوي للماوردي
21 / 259، وكشاف القناع 6 / 35.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 150.
(3) الحاوي 21 / 259، والمحلي مع القليوبي 4 / 337، وكشاف القناع 6 / 350.
(4) كشاف القناع 6 / 341، وانظر: مطالب أولي النهى 6 / 523، ومغني المحتاج
4 / 479، وأسنى المطالب 4 / 491.
(39/215)
مِهْنَةٌ
انْظُرْ: احْتِرَافٌ.
مَوَاتٌ
انْظُرْ: إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ.
(39/216)
مُوَاثَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُوَاثَبَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ وَاثَبَ يُقَال: وَاثَبَهُ
مُوَاثَبَةً وَوِثَابًا: وَثَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ
وَالثُّلاَثِيُّ: وَثَبَ وَيَأْتِي بِمَعَانٍ يُقَال: وَثَبَ يَثِبُ
وَثْبًا: طَفَرَ وَقَفَزَ وَيُقَال: وَثَبَ إِلَى الْمَكَانِ الْعَالِي:
بَلَغَهُ وَالْعَامَّةُ تَسْتَعْمِلُهُ بِمَعْنَى: الْمُبَادَرَةِ
وَالْمُسَارَعَةِ (1)
وَاصْطِلاَحًا: الْمُوَاثَبَةُ فِي الشُّفْعَةِ طَلَبُ الشُّفْعَةِ عَلَى
وَجْهِ السُّرْعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط.
(2) الهداية وشروحها 8 / 307، دار إحياء التراث العربي.
(39/216)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّفْرُ:
2 - الطَّفْرُ لُغَةً: مِنْ بَابِ ضَرَبَ يُقَال: طَفَرَ طَفْرًا
وَطُفُورًا أَيْضًا وَالطَّفْرَةُ أَخَصُّ مِنَ الطَّفْرِ وَهُوَ
الْوُثُوبُ فِي ارْتِفَاعٍ كَمَا يَطْفُرُ الإِْنْسَانُ الْحَائِطَ إِلَى
مَا وَرَاءَهُ. قَالَهُ الأَْزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَزَادَ
الْمُطَّرِّزِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَال: وَيَدُل عَلَى أَنَّهُ وَثْبٌ
خَاصٌّ قَوْل الْفُقَهَاءِ: زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ طَفْرَةٍ
وَقِيل: الْوَثْبَةُ مِنْ فَوْقٍ وَالطَّفْرَةُ إِلَى فَوْقٍ (1) .
ب - الْمُبَادَرَةُ:
3 - الْمُبَادَرَةُ لُغَةً الْمُسَارَعَةُ مِنْ بَابَيْ: قَعَدَ وَقَاتَل
يُقَال: بَادَرَ إِلَى الشَّيْءِ بُدُورًا وَبَادَرَ إِلَيْهِ مُبَادَرَةً
وَبِدَارًا: أَسْرَعَ. وَتَبَادَرَ الْقَوْمُ: أَسْرَعُوا (2) .
وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الْمُبَادَرَةَ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ لَفْظَ
الْمُوَاثَبَةِ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُبَادَرَةِ وَالْمُوَاثَبَةِ هِيَ
__________
(1) المصباح المنير، وانظر القاموس المحيط، والكليات لأبي البقاء الكفوي 5
/ 56، ط وزارة الثقافة السورية.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.
(39/217)
أَنَّ كُل مُوَاثَبَةٍ مُبَادَرَةٌ
وَلَيْسَ كُل مُبَادَرَةٍ مُوَاثَبَةً.
مَشْرُوعِيَّةُ الْمُوَاثَبَةِ
4 - الْمُوَاثَبَةُ مَشْرُوعَةٌ لِمَا وَرَدَ فِي الأَْثَرِ:
الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا (1)
وَالْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي الشُّفْعَةِ أَنَّ طَلَبَهَا
لَيْسَ لإِِثْبَاتِ الْحَقِّ فِي الشُّفْعَةِ بَل لِيُعْلَمَ أَنَّهُ
غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنِ الشُّفْعَةِ (2) .
وَقْتُ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فِي
الشُّفْعَةِ هَل هِيَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ حَتَّى يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ
الْعِلْمِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ أَنَّ وَقْتَهَا مُتَّسِعٌ إِلَى مُدَّةٍ
مُحَدَّدَةٍ أَوْ غَيْرِ مُحَدَّدَةٍ؟ أَقْوَالٌ.
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 29 - 32)
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 307، والمبسوط 14 / 117، ط دار المعرفة وأثر: "
الشفعة لمن واثبها ". أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8 / 83، ط المجلس العلمي)
من قول شريح.
(2) رد المحتار 5 / 143.
(39/217)
الإِْشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى طَلَبِ
الْمُوَاثَبَةِ هُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ لَهَا أَوْ هُوَ لإِِثْبَاتِ الْحَقِّ
عِنْدَ الْخُصُومَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الإِْنْكَارِ؟
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 33) .
مُوَادَعَةٌ
انْظُرْ: هُدْنَةٌ.
مَوَارِيثُ
انْظُرْ: إِرْثٌ.
(39/218)
مُوَاضَعَةٌ
انْظُرْ: وَضِيعَةٌ.
مُوَاطَأَةٌ
انْظُرْ: تَوَاطُؤٌ.
(39/218)
مَوَاطِنُ الإِْجَابَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوَاطِنُ جَمْعُ الْمَوْطِنِ، وَالْمَوْطِنُ: اسْمُ الْمَكَانِ
مِنْ وَطَنَ يُقَال: وَطَنَ فُلاَنٌ بِالْمَكَانِ وَأَوْطَنَ: إِذَا قَامَ
بِهِ وَأَوْطَنَهُ أَيْضًا: اتَّخَذَهُ وَطَنًا.
وَالْوَطَنُ: الْمَنْزِل تُقِيمُ بِهِ وَهُوَ مَوْطِنُ الإِْنْسَانِ
وَمَحَلُّهُ وَيُقَال: أَوْطَنَ فُلاَنٌ أَرْضَ كَذَا أَيِ اتَّخَذَهَا
مَحَلًّا وَمَسْكَنًا يُقِيمُ فِيهَا.
وَالْمَوْطِنُ أَيْضًا: الْمَوْقِفُ وَالْمَشْهَدُ مِنْ مَشَاهِدِ
الْحَرْبِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي
مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} (1) وَإِذَا اتَّخَذَ الرَّجُل
مَكَانًا مَعْلُومًا مِنَ الْمَسْجِدِ مَخْصُوصًا بِهِ يُصَلِّي فِيهِ
قِيل: أَوْطَنَ فِيهِ وَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نُقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ
وَأَنْ يُوطِنَ الرَّجُل الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوطِنُ
الْبَعِيرُ (2) أَيْ كَالْبَعِيرِ لاَ يَأْوِي مِنَ الْعَطَنِ إِلاَّ
__________
(1) سورة التوبة / 25.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نقرة الغراب. . . ". أخرجه
أبو داود (1 / 539) ، والحاكم (1 / 229) من حديث عبد الرحمن بن شبل، واللفظ
لأبي داود، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(39/219)
إِلَى مَبْرَكٍ قَدْ أَوْطَنَهُ
وَاتَّخَذَهُ مُنَاخًا (1) .
وَالإِْجَابَةُ الْمَقْصُودَةُ هُنَا: إِجَابَةُ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى دُعَاءَ الدَّاعِينَ.
وَمَوَاطِنُ الإِْجَابَةِ عَلَى هَذَا: هِيَ الْمَظَانُّ الَّتِي يَغْلِبُ
عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَنْ دَعَا فِيهَا اسْتُجِيبَ لَهُ
حُكْمُ تَحَرِّي الدُّعَاءِ فِي مَوَاطِنِ الإِْجَابَةِ
2 - تَحَرِّي الدُّعَاءِ فِي مَوَاطِنِ الإِْجَابَةِ مُسْتَحَبٌّ
وَيُفْهَمُ الاِسْتِحْبَابُ مِنْ مُخْتَلَفِ الصِّيَغِ الْوَارِدَةِ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ فِي مِثْل قَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {وَبِالأَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (2)
وَكَالتَّخْصِيصِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ
الْقُدْسِيِّ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي
فَأُعْطِيهِ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ (3) وَرُبَّمَا
صَرَّحَتْ بَعْضُ الأَْحَادِيثِ بِالأَْمْرِ الْمُفِيدِ لِلاِسْتِحْبَابِ
كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ
يَقُول: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْل
الآْخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي
تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ (4) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) سورة الذاريات / 18.
(3) حديث: " من يدعوني فأستجيب له. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 29) ،
ومسلم (1 / 521) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر. . . ". أخرجه
الترمذي (5 / 570) ، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(39/219)
قَال الْغَزَالِيُّ: مِنْ آدَابِ
الدُّعَاءِ أَنْ يَتَرَصَّدَ لِدُعَائِهِ الأَْوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ
كَيَوْمِ عَرَفَةَ مِنَ السَّنَةِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ كُل أُسْبُوعٍ
وَوَقْتِ السَّحَرِ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْل (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا - يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ -
يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الدَّعَوَاتِ
الْمُسْتَحَبَّةِ وَفِي الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: يَتَحَرَّى الدَّاعِي أَوْقَاتَ الإِْجَابَةِ
كَالثُّلُثِ الأَْخِيرِ مِنَ اللَّيْل وَعِنْدَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ.
(3) .
3 - وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ أَوِ الْمَكَانِ
الْمُعَيَّنِ مَوْطِنًا لِلإِْجَابَةِ أَنَّ حُصُول الْمَطْلُوبِ
بِالدُّعَاءِ مُتَعَيَّنٌ بِكُل حَالٍ بَل الْمُرَادُ أَنَّهُ أَرْجَى مِنْ
غَيْرِهِ.
__________
(1) الإحياء 1 / 549 ط دار الشعب.
(2) الأذكار للنووي ص 162، 163.
(3) كشاف القناع 1 / 368
(39/220)
قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ: "
يَنْزِل رَبُّنَا. . . " (1) : لاَ يُعْتَرَضُ عَلَى ذَلِكَ بِتَخَلُّفِهِ
عَنْ بَعْضِ الدَّاعِينَ لأَِنَّ سَبَبَ التَّخَلُّفِ وُقُوعُ الْخَلَل فِي
شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الدُّعَاءِ كَالاِحْتِرَازِ فِي الْمَطْعَمِ
وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ أَوْ لاِسْتِعْجَال الدَّاعِي أَوْ بِأَنْ
يَكُونَ الدُّعَاءُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ تَحْصُل
الإِْجَابَةُ بِهِ وَيَتَأَخَّرُ وُجُودُ الْمَطْلُوبِ لِمَصْلَحَةِ
الْعَبْدِ أَوْ لأَِمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى (2) وَيَدُل عَلَى
ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ مُسْلِمٍ
يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ
أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّل لَهُ
دَعْوَتُهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ
يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَال:
اللَّهُ أَكْثَرُ (3) .
وَاللَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الدَّاعِيَ بِأَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ وَعْدًا
مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ حَالٍ قَال
تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (4)
__________
(1) حديث: " ينزل ربنا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 29) ، ومسلم (1 /
521) من حديث أبي هريرة.
(2) فتح الباري 3 / 32.
(3) حديث أبي سعيد: " ما من مسلم يدعو بدعوة. . . ". أخرجه أحمد (3 / 18) ،
والحاكم (1 / 493) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(4) سورة غافر / 60.
(39/220)
وَقَال {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) .
فَإِجَابَتُهُ لِلدُّعَاءِ فِي كُل وَقْتٍ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِيهِ
الْعَبْدُ بِالدُّعَاءِ وَلِذَا كَانَ تَخْصِيصُ مَوْطِنٍ مُعَيَّنٍ
بِالإِْجَابَةِ دَالًّا عَلَى تَأَكُّدِهَا فِيهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ
الْحَصْرَ وَنَفْيَ الإِْجَابَةِ عَمَّا عَدَاهُ.
أَنْوَاعُ مَوَاطِنِ الإِْجَابَةِ:
4 - مَوَاطِنُ الإِْجَابَةِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - أَوْقَاتٌ شَرِيفَةٌ اخْتَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا
مَوَاسِمَ لِهَذِهِ الأُْمَّةِ تُحَصِّل بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ تَعَالَى
بِذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا قَال تَعَالَى فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ:
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} (2) .
ب - أَمَاكِنُ شَرِيفَةٌ خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَهِيَ
مَوَاطِنُ مَحْدُودَةٌ يَكُونُ فِيهَا الدَّاعِي مُتَلَبِّسًا بِعِبَادَةٍ
أُخْرَى.
ج - أَحْوَالٌ مُعَيَّنَةٌ يُرْجَى فِيهَا قَبُول الدُّعَاءِ
مِنْهَا الدُّعَاءُ عِنْدَ زَحْفِ الصُّفُوفِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى
وَعِنْدَ نُزُول الْغَيْثِ وَعِنْدَ
__________
(1) سورة البقرة / 186.
(2) سورة الحج / 28.
(39/221)
إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ (1)
.
وَالدُّعَاءُ بِعَرَفَةَ مِثَالٌ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ شَرَفُ الزَّمَانِ
وَشَرَفُ الْمَكَانِ وَشَرَفُ الْحَال.
قَال الْغَزَالِيُّ: وَبِالْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ شَرَفُ الأَْوْقَاتِ إِلَى
شَرَفِ الأَْحْوَال إِذْ وَقْتُ السَّحَرِ وَقْتُ صَفَاءِ الْقَلْبِ
وَإِخْلاَصِهِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْمُشَوِّشَاتِ وَيَوْمُ عَرَفَةَ
وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْهِمَمِ وَتَعَاوُنِ الْقُلُوبِ
عَلَى اسْتِدْرَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل.
قَال: فَهَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ شَرَفِ الأَْوْقَاتِ سِوَى مَا فِيهَا مِنْ
أَسْرَارٍ لاَ يَطَّلِعُ الْبَشَرُ عَلَيْهَا (2) .
وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - الْمَوَاطِنُ الزَّمَانِيَّةُ:
أ - ثُلُثُ اللَّيْل الآْخِرِ:
5 - ثُلُثُ اللَّيْل الآْخِرِ مِنْ مَوَاطِنِ الإِْجَابَةِ وَدَلِيل ذَلِكَ
مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَنْزِل رَبُّنَا تَبَارَكَ
وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ
اللَّيْل الآْخِرِ يَقُول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ مَنْ
يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ. وَفِي
رِوَايَةٍ: حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ (3)
__________
(1) الإحياء 1 / 559، ط دار الشعب.
(2) الإحياء 1 / 550.
(3) حديث: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح
3 / 29) ، ومسلم (1 / 521) ، والرواية الأخرى أخرجها مسلم (1 / 522) .
(39/221)
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ
أَنَّهُ قَال: وَلِذَلِكَ كَانُوا يُفَضِّلُونَ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْل
عَلَى أَوَّلِهِ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ يَبْدَأُ مِنْ
مُنْتَصَفِ اللَّيْل إِلَى أَنْ يَبْقَى مِنَ اللَّيْل سُدُسُهُ ثُمَّ
يَبْدَأُ وَقْتُ السَّحَرِ وَهُوَ مَوْطِنٌ آخَرُ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ
عَبْسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ
اللَّيْل أَسْمَعُ؟ قَال: جَوْفُ اللَّيْل الآْخِرِ (2) .
عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: سَمِعْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
إِنَّ فِي اللَّيْلَةِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَل
اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ
إِيَّاهُ
__________
(1) فتح الباري 3 / 31، ط المكتبة السلفية.
(2) حديث عمرو بن عبسة: " قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ . . . ".
أخرجه أبو داود (2 / 56 - 57) ، والترمذي (5 / 570) ، واللفظ لأبي داود،
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.
(39/222)
وَذَلِكَ كُل لَيْلَةٍ (1) وَهُوَ يَعْنِي
أَنَّ اللَّيْل كُلَّهُ مَظِنَّةُ إِجَابَةٍ (2) .
ب - وَقْتُ السَّحَرِ
6 - السَّحَرُ هُوَ آخِرُ اللَّيْل قَبْل أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ.
وَقِيل: هُوَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْل الآْخِرِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ (3) .
وَيَرَى الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ السُّدُسُ الأَْخِيرُ مِنَ اللَّيْل.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ وَقْتٌ تُرْجَى فِيهِ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ
وَنُقِل عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْل مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (4)
قَال: مَدُّوا الصَّلاَةَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل إِلَى السَّحَرِ ثُمَّ
اسْتَغْفَرُوا فِي السَّحَرِ (5) .
__________
(1) حديث جابر: " إنًّ في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم. . . ". أخرجه
مسلم (1 / 521) .
(2) تحفة الذاكرين ص 66، بيروت، دار القلم 1984 م، والفتوحات الربًّانية 3
/ 196، بيروت، دار الفكر 1398 هـ، وكشاف القناع 1 / 66.
(3) لسان العرب.
(4) سورة الذاريات / 18 - 19.
(5) الإحياء 1 / 623، وتفسير القرطبي عند هذه الآية من سورة الذاريات.
(39/222)
ج - بَعْدَ الزَّوَال:
7 - قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الأَْذْكَارِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ عَقِبَ الزَّوَال (1) لِمَا رُوِّينَا عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا
بَعْدَ أَنْ تَزُول الشَّمْسُ قَبْل الظُّهْرِ وَقَال: إِنَّهَا سَاعَةٌ
تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا
عَمَلٌ صَالِحٌ (2) .
د - يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتُهَا وَسَاعَةُ الْجُمُعَةِ:
8 - وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ (3) وَوَرَدَ حَدِيثٌ فِي قَبُول الدُّعَاءِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى سَاعَةِ الْجُمُعَةِ (4) .
أَمَّا سَاعَةُ الْجُمُعَةِ فَقَال الشَّوْكَانِيُّ:
__________
(1) الفتوحات الربانية على الأذكار 3 / 132.
(2) حديث عبد الله بن السائب: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي
أربعًا بعد أن تزول الشمس. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 343) وقال: حديث حسن
غريب.
(3) حديث: " أن يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس ". أخرجه مسلم (2 /
585) من حديث أبي هريرة.
(4) ونصه: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله عز وجل شيئًا
إلا أتاه الله عز وجل. أخرجه أبو داود (1 / 636) من حديث جابر بن عبد الله.
(39/223)
تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ بِأَنَّ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ سَاعَةً لاَ يَسْأَل الْعَبْدُ فِيهَا رَبَّهُ شَيْئًا إِلاَّ
أَعْطَاهُ إِيَّاهُ (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذَكَرَ سَاعَةَ الإِْجَابَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَال: فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ
مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَل اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلاَّ
أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا (2)
وَعَنْ أَبِي لُبَابَةَ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَْيَّامِ
وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ. . . فِيهِ خَمْسُ خِلاَلٍ فَذَكَرَ
مِنْهُنَّ: وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يَسْأَل اللَّهَ فِيهَا الْعَبْدُ شَيْئًا
إِلاَّ أَعْطَاهُ مَا لَمْ يَسْأَل - حَرَامًا (3) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُحَدِّثُونَ فِي تَعْيِينِ السَّاعَةِ
الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلاً عَدَّدَهَا
الشَّوْكَانِيُّ (4) وَنُقِل عَنِ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قَال:
أَصَحُّ الأَْحَادِيثِ فِي تَعْيِينِهَا
__________
(1) تحفة الذاكرين ص 66.
(2) حديث أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجمعة. . . ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 415)
(3) حديث: " إن يوم الجمعة سيِّد الأيام. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 344)
وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 204) .
(4) نيل الأوطار (3 / 257 - 261) .
(39/223)
حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُول فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ: هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِْمَامُ
إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاَةُ (1) وَاخْتَارَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا
(2) .
وَأَمَّا لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ فِي لَيْلَةِ
الْجُمُعَةِ سَاعَةً الدُّعَاءُ فِيهَا مُسْتَجَابٌ (3) .
نَقَلَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي تُحْفَةِ الذَّاكِرِينَ.
هـ - أَيَّامُ رَمَضَانَ وَلَيَالِيهُ وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ
9 - فَضْل رَمَضَانَ مَعْرُوفٌ وَاسْتَدَل بَعْضُهُمْ (4) لإِِجَابَةِ
الدُّعَاءِ فِيهِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ
تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ. . . (5) وَأَمَّا
لَيْلَةُ الْقَدْرِ فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا
__________
(1) حديث: " هي ما بين أن يجلس. . . ". أخرجه مسلم (2 / 584) .
(2) الفتوحات الربانية 3 / 131، 4 / 228.
(3) حديث: " إن في ليلة الجمعة ساعة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 564) وقال:
حديث صحيح.
(4) تحفة الذاكرين ص 67، والأذكار النووية مع الفتوحات الربانية 4 / 338.
(5) حديث: " ثلاثة لا ترد دعوتهم. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 578) وقال:
حديث حسن.
(39/224)
أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ
أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُول
فِيهَا؟ قَال: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ
الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي (1) .
وَإِنَّمَا كَانَتْ مَوْطِنًا لإِِجَابَةِ الدُّعَاءِ لأَِنَّهَا لَيْلَةٌ
مُبَارَكَةٌ تَتَنَزَّل فِيهَا الْمَلاَئِكَةُ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى
لِهَذِهِ الأُْمَّةِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وَقَال تَعَالَى فِي
شَأْنِهَا: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (2) قَال
الشَّوْكَانِيُّ: وَشَرَفُهَا مُسْتَلْزِمٌ لِقَبُول دُعَاءِ الدَّاعِينَ
فِيهَا وَلِهَذَا أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْتِمَاسِهَا وَحَرَّضَ الصَّحَابَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا مُجَابٌ (3) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ
اجْتِهَادُهُ فِي يَوْمِهَا كَاجْتِهَادِهِ فِي لَيْلَتِهَا (4) .
__________
(1) حديث عائشة أنها قالت: " يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة
القدر. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 534) وقال: حديث صحيح.
(2) سورة القدر / 3.
(3) نيل الأوطار 4 / 287 - 290 بتصرف، القاهرة مصطفى الحلبي 1371 هـ، وتحفة
الذاكرين للشوكاني ص 65، وفتح الباري بشرح البخاري 4 / 260، 267، وكشاف
القناع 2 / 344.
(4) الأذكار مع الفتوحات الربانية 4 / 347.
(39/224)
ثَانِيًا - الْمَوَاطِنُ الْمَكَانِيَّةُ:
أ - الْمُلْتَزَمُ:
10 - الْمُلْتَزَمُ هُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ
الأَْسْوَدُ وَبَابُ الْكَعْبَةِ، جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ
وَكَانَ يَقُول: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ يُدْعَى الْمُلْتَزَمُ
لاَ يَلْزَمُ مَا بَيْنَهُمَا أَحَدٌ يَسْأَل اللَّهَ شَيْئًا إِلاَّ
أَعْطَاهُ إِيَّاهُ (1) .
وَنَقَل ابْنُ جَمَاعَةَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ
الْمُلْتَزَمَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُعْتَنَقُ وَيُلِحُّ الدَّاعِي فِيهِ
بِالدُّعَاءِ، قَال: وَقَدْ سَمِعْتُ مَالِكًا يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ (2)
ب - عَرَفَةُ:
11 - نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
اغْتِنَامِ الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ بِقَوْلِهِ: خَيْرُ
الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا
وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ
شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ
قَدِيرٌ (3) قَال
__________
(1) أثر ابن عباس " أنه كان يلزم ما بين الركن والباب ". أخرجه البيهقي في
السنن (5 / 164 - ط دائرة المعارف العثمانية
(2) هداية السالك إلى المناسك، لابن جماعة، بتحقيق نور الدين عتر 1 / 71.
(3) حديث: " خير الدعاء دعاء يوم عرفة.
. . ". أخرجه الترمذي (5 / 572) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(39/225)
الشَّوْكَانِيُّ: ثَبَتَ مَا يَدُل عَلَى
فَضِيلَةِ هَذَا الْيَوْمِ وَشَرَفِهِ حَتَّى كَانَ صَوْمُهُ يُكَفِّرُ
سَنَتَيْنِ (1) وَوَرَدَ فِي فَضْلِهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَذَلِكَ
يَسْتَلْزِمُ إِجَابَةَ الدَّاعِينَ فِيهِ (2)
ج - مَشَاعِرُ الْحَجِّ
12 - الْحَجُّ مِنْ أَعْظَمِ الأَْعْمَال الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى، نَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَال:
الدُّعَاءُ هُنَالِكَ يُسْتَجَابُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: فِي
الطَّوَافِ وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ وَتَحْتَ الْمِيزَابِ وَفِي الْبَيْتِ
وَعِنْدَ زَمْزَمَ وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي الْمَسْعَى
وَخَلْفَ الإِْمَامِ وَفِي عَرَفَاتٍ وَفِي الْمُزْدَلِفَةِ وَفِي مِنًى
وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ الثَّلاَثِ (3) .
ثَالِثًا - الأَْحْوَال الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الإِْجَابَةِ:
أ - الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَبَعْدَهَا
13 - الأَْذَانُ مِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ يُذْكَرُ فِيهِ اللَّهُ
تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَيُشْهَدُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ وَيُنْشَرُ ذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ
بِالصَّوْتِ الرَّفِيعِ إِلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَيُدْعَى عِبَادُ
اللَّهِ
__________
(1) الحديث الذي يدل على صوم يوم عرفة يكفر سنتين. أخرجه مسلم في صحيحه (2
/ 819) من حديث أبي قتادة، ونصه: " صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر
السنة التي قبله والسنة التي بعده ".
(2) تحفة الذاكرين ص 65.
(3) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 4 / 385.
(39/225)
لإِِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَدْ وَرَدَ
مِنْ حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: ثِنْتَانِ لاَ تُرَدَّانِ أَوْ
قَلَّمَا تُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ الْبَأْسِ
حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) .
وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بَيْنَ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَجُلاً
قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا قَال: قُل
كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَل تُعْطَهْ (3) .
وَوَرَدَ أَيْضًا اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الإِْقَامَةِ (4) وَهُوَ
حَدِيثُ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
__________
(1) حديث سهل بن سعد: " ثنتان لا تردان أو قلما تردان. . . ". أخرجه أبو
داود (3 / 45) ، وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (1 / 379) : هذا حديث حسن
صحيح.
(2) حديث: " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة ". أخرجه الترمذي (1 / 416)
وقال: حديث حسن.
(3) حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: " يا رسول الله، إنًّ المؤذنين
يفضلوننا. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 631) ، وحسنه ابن حجر في نتائج
الأفكار (1 / 378) .
(4) الفتوحات الربانية 2 / 136 - 138، وكشاف القناع 1 / 248، وتحفة
الذاكرين ص 68.
(39/226)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ: عِنْدَ
حُضُورِ الصَّلاَةِ وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيل اللَّهِ (1) .
ب - الدُّعَاءُ حَال السُّجُودِ
14 - وَإِنَّمَا كَانَ السُّجُودُ مَظِنَّةَ الإِْجَابَةِ لأَِنَّ فِيهِ
يَتَمَثَّل كَمَال الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّل وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ
تَعَالَى، يَضَعُ الْعَبْدُ أَكْرَمَ مَا فِيهِ وَهُوَ جَبْهَتُهُ
وَوَجْهُهُ عَلَى الأَْرْضِ وَهِيَ مَوْطِئُ الأَْقْدَامِ تَعْظِيمًا
لِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَعَ كَمَال التَّذَلُّل وَالتَّعْظِيمِ
يَزْدَادُ الْقُرْبُ وَالْمَكَانَةُ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ فَيَكُونُ ذَاكَ
مَظِنَّةَ عَوْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ بِالرَّحْمَةِ
وَالْمَغْفِرَةِ وَالْقَبُول (2) وَلِهَذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ
سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَل
وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ
يُسْتَجَابَ لَكُمْ (3) وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
__________
(1) حديث سهل بن سعد: " ساعتان تفتح فيها أبواب السماء. . . ". أخرجه ابن
حبان في صحيحه (الإحسان 5 / 5) ، وصححه ابن حجر في نتائج الأفكار (1 / 379)
.
(2) الفتوحات الربانية 2 / 272، 273، وكشاف القناع 1 / 354.
(3) حديث: " إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا. . . " أخرجه مسلم
(1 / 348) من حديث ابن عباس.
(39/226)
00 أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ
رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ (1) .
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ سُجُودِ الْفَرْضِ وَسُجُودِ النَّفْل
إِلاَّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّهُ لاَ
يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى (سُبْحَانَ رَبِّي الأَْعْلَى) فِي
الْفَرْضِ وَفِي التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ
الدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: بِدِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ إِنْ كَانَ
مُنْفَرِدًا أَوْ إِمَامًا لِمَحْصُورِينَ أَوْ لَمْ يَحْصُل بِالدُّعَاءِ
طُولٌ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
ج - الدُّعَاءُ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ 15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ مَوْطِنٌ
مِنْ مَوَاطِنِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ (3) لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ
مُسْلِمِ بْنِ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. . . ". أخرجه
مسلم (1 / 350) .
(2) المغني 1 / 522، وجواهر الإكليل 1 / 51، وحاشية القليوبي على شرح
المحلي 1 / 173.
(3) إحياء علوم الدين 1 / 550، والفروع وتصحيح الفروع 1 / 455، وكشاف
القناع 1 / 366 - 368، والفتوحات الربانية 3 / 28، 29، وتحفة الذاكرين ص
69، وزاد المعاد في هدي خير العباد 1 / 257، 258 نشر مؤسسة الرسالة، وفتح
الباري 11 / 133.
(39/227)
الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَسَرَّ
إِلَيْهِ فَقَال: إِذَا انْصَرَفْتَ مِنْ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَقُل:
اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّكَ إِذَا
قُلْتَ ذَلِكَ ثُمَّ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْهَا
وَإِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَقُل كَذَلِكَ فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي
يَوْمِكَ كُتِبَ لَكَ جِوَارٌ مِنْهَا (1) .
وَوَرَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ
الْمَكْتُوبَةِ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا أَسْمَعُ مِنْ غَيْرِهَا وَهُوَ
مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَال: قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَال: جَوْفُ
اللَّيْل الآْخِرِ وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ (2) .
وَقَدْ نَقَل الْغَزَالِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَال: إِنَّ الصَّلَوَاتِ
جُعِلَتْ فِي خَيْرِ الأَْوْقَاتِ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ خَلْفَ
الصَّلَوَاتِ
__________
(1) حديث مسلم بن الحارث: " إذا انصرفت. . . ". أخرجه أبو داود (5 / 318 -
319) ، وأشار ابن حجر في التهذيب (10 / 126) إلى تضعيفه.
(2) حديث أبي أمامة: " قيل: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ . . . ". أخرجه
الترمذي (5 / 527) ، وأعله ابن حجر في نتائج الأفكار (2 / 232) بعدة علل،
منها الانقطاع بين أبي أمامة والراوي عنه.
(39/227)
وَرُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ صَلَّى صَلاَةَ فَرِيضَةٍ فَلَهُ
دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَمَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ (1) .
د - حَال الصَّوْمِ وَحَال الإِْفْطَارِ مِنَ الصَّوْمِ:
16 - أَمَرَ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَذَكَرَ إِكْمَال الْعِدَّةِ
ثُمَّ قَال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى
الْمَذْكُورِ قَال ابْنُ كَثِيرٍ: فِي ذِكْرِهِ تَعَالَى هَذِهِ الآْيَةَ
الْبَاعِثَةَ عَلَى الدُّعَاءِ مُتَخَلِّلَةً بَيْنَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ
إِرْشَادٌ إِلَى الاِجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ إِكْمَال الْعِدَّةِ
بَل وَعِنْدَ كُل فِطْرٍ (3) لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لِلصَّائِمِ عِنْدَ إِفْطَارِهِ دَعْوَةٌ
مُسْتَجَابَةٌ
__________
(1) حديث العرباض بن سارية: " من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة. . . ".
أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (18 / 259) ، وأورده الهيثمي في مجمع
الزوائد (8 / 172) وقال: فيه عبد الحميد بن سليمان، وهو ضعيف.
(2) سورة البقرة / 186.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 219، والأذكار وشرحه الفتوحات الربانية 4 / 338.
(39/228)
فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا أَفْطَرَ دَعَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ثُمَّ
دَعَا (1) وَلِمَا رُوِيَ أَيْضًا: إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ
دَعْوَةً مَا تُرَدُّ (2) .
هـ - الدُّعَاءُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَ خَتْمِهِ
17 - دَل عَلَى اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وَبَعْدَ خَتْمِهِ (3) مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَل
اللَّهَ بِهِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ
يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ (4) ، وَحَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ:
مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ (5) .
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو: " للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة ". أخرجه
الطيالسي في مسنده (ص 229) .
(2) حديث: " إن للصائم عند فطره دعوة لا تُرَدّ ". أخرجه ابن ماجه (1 /
557) ، وأشار ابن القيم في زاد المعاد (2 / 52) إلى تضعيفه.
(3) تحفة الذاكرين ص 42، 43، طبعة دار الكتاب العربي.
(4) حديث عمران بن حصين: " من قرأ القرآن فليسأل الله به. . . ". أخرجه
الترمذي (5 / 179) وقال: حديث حسن.
(5) حديث العرباض بن سارية: " من ختم القرآن فله دعوة مستجابة ". تقدًّم
تخريجه في الفقرة رقم (15) .
(39/228)
و - دَعْوَةُ الْمُسَافِرِ
18 - السَّفَرُ مِنْ مَوَاطِنِ الإِْجَابَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ:
دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ
عَلَى وَلَدِهِ (1) . قَال ابْنُ عِلاَّنَ: الْمُرَادُ الْمُسَافِرُ إِنْ
لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَالْوَلَدُ إِنْ
كَانَ ظَالِمًا لأَِبِيهِ عَاقًّا لَهُ (2)
ز - الدُّعَاءُ عِنْدَ الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّهِ
19 - الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّهِ مَوْضِعُ إِجَابَةٍ؛ لأَِنَّ
الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيل اللَّهِ بَاذِلٌ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي مَرْضَاةِ
رَبِّهِ وَبَاذِلٌ جُهْدَهُ كُلَّهُ لِرَفْعِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
(3)
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَاعَتَانِ تُفْتَحُ
فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ: عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاَةِ وَعِنْدَ
الصَّفِّ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَال: وَعِنْدَ الْبَأْسِ
__________
(1) حديث: " ثلاث دعوات مستجابات. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 502) من حديث
أبي هريرة، وقال: حديث حسن
(2) تحفة الذاكرين ص 68، والفتوحات الربانية 5 / 137.
(3) تحفة الذاكرين ص 76، والفتوحات الربانية 2 / 149، 150.
(39/229)
حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَال: اطْلُبُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ الْتِقَاءِ
الْجُيُوشِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَنُزُول الْغَيْثِ (2) .
ج - حَال اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ:
20 - اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ مِنْ مَوَاطِنِ
الإِْجَابَةِ لِحَدِيثِ: لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَل إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ
وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ
(3) .
وَلِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول لِمَلاَئِكَتِهِ: قَدْ
غَفَرْتُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ
إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَال: فَيَقُول: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ
الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ (4)
__________
(1) حديث: " ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء. . . ". أخرجه ابن حبان
(الإحسان 5 / 5) ، وصححه ابن حجر في نتائج الأفكار (1 / 379) ، وأخرج
الرواية الثانية أبو داود (3 / 45) .
(2) حديث: " اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش. . . ". أخرجه
الشافعي في الأم (1 / 253) من حديث مكحول مرسلاً.
(3) حديث: " لا يقعد قوم يذكرون الله إلاَّ حفتهم الملائكة. . . ". أخرجه
مسلم (4 / 2074) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.
(4) حديث: " إن الله يقول لملائكته: قد غفرت لهم. . . ". أخرجه مسلم (4 /
2070) من حديث أبي هريرة.
(39/229)
وَلِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي خُرُوجِ
النِّسَاءِ يَوْمَ الْعِيدِ وَفِيهِ: يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ
الْمُسْلِمِينَ (1) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَجَامِعَ
الْمُسْلِمِينَ - أَيْ لِلذِّكْرِ - مِنْ مَوَاطِنِ الدُّعَاءِ. (2)
ط - دُعَاءُ الْمُؤْمِنِ لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ
21 - وَرَدَ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ لأَِخِيهِ بِظَهْرِ
الْغَيْبِ (3) حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا:
دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ
مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَِخِيهِ
بِخَيْرٍ قَال الْمَلَكُ الْمُوَكَّل بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ (4) .
ي - دَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَعَلَيْهِ
22 - وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ثَلاَثُ
__________
(1) حديث أم عطية: " يشهدن الخير. . . ". أخرجه البخاري (3 / 470 فتح
الباري) ، ومسلم (2 / 606) ، واللفظ المذكور لمسلم.
(2) تحفة الذاكرين ص 71
(3) تحفة الذاكرين ص 47.
(4) حديث أبي الدرداء: " دعوة المرء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب. . .
". أخرجه مسلم (4 / 2094) .
(39/230)
دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ: دَعْوَةُ
الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى
وَلَدِهِ (1) .
قَال ابْنُ عِلاَّنَ فِي دَعْوَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ: أَيْ إِنْ
كَانَ الْوَلَدُ ظَالِمًا لأَِبِيهِ عَاقًّا لَهُ (2) .
ك - دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُضْطَرِّ وَالْمَكْرُوبِ
23 - دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ
عَلَى نَفْسِهِ (3) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَل مُعَاذًا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ مَا أَوْصَاهُ بِهِ
وَفِيهِ: وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ (4) وَفِي حَدِيثِ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم. . . ". تقدم
تخريجه فقرة (18) .
(2) الفتوحات الربانية 5 / 137.
(3) حديث أبي هريرة: " دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا. . . ". أخرجه
أحمد (2 / 367) ، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 151) .
(4) حديث ابن عباس: " واتق دعوة المظلوم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري
8 / 64) ، ومسلم (1 / 50) واللفظ لمسلم.
(39/230)
أَبِي هُرَيْرَةَ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ
يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ وَيَقُول الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأََنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ
حِينٍ (1) .
وَأَمَّا الْمُضْطَرُّ فَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (2) .
وَأَمَّا الْمَكْرُوبُ الَّذِي لاَ يَجِدُ لَهُ فَرَجًا إِلاَّ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ فَيَدُل لِكَوْنِهِ مُجَابَ الدَّعْوَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (3)
وَفِي قَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ
الاِسْتِجَابَةَ عَامَّةٌ لِكُل مَنْ كَانَ فِي مِثْل حَال يُونُسَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الإِْخْلاَصِ وَإِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى
بِالرَّجَاءِ وَالتَّوَجُّهِ الصَّادِقِ (4) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام. . . ". أخرجه
الترمذي (5 / 578) وقال: حديث حسن.
(2) سورة النحل / 66.
(3) سورة الأنبياء / 87 - 88.
(4) تحفة الذاكرين ص 75.
(39/231)
ل - الدُّعَاءُ عِنْدَ نُزُول الْغَيْثِ
24 - قَال النَّوَوِيُّ: رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ "
بِإِسْنَادِهِ حَدِيثًا مُرْسَلاً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: اطْلُبُوا إِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْتِقَاءِ
الْجُيُوشِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَنُزُول الْغَيْثِ (1) .
قَال الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ حَفِظْتُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ طَلَبَ
الإِْجَابَةِ عِنْدَ نُزُول الْغَيْثِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ (2) .
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ صِحَّةَ ذَلِكَ (3) مَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ
سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَتَحْتَ الْمَطَرِ (4) .
م - دَعْوَةُ الْمَرِيضِ
25 - الْمَرَضُ مِنْ مَوَاطِنِ الإِْجَابَةِ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ
فَلْيَدْعُ لَكَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلاَئِكَةِ (5) .
__________
(1) حديث: " اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش. . . ". أخرجه الشافعي
في الأم (1 / 253) من حديث مكحول مرسلاً.
(2) الأذكار للنووي ص 154، والفتوحات الربانية 4 / 288.
(3) تحفة الذاكرين ص 71.
(4) حديث سهل بن سعد: " وتحت المطر. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى
(3 / 260) .
(5) حديث عمر بن الخطاب: " إذا دخلت على مريض فمره فليدعُ لك. . . ". أخرجه
ابن ماجه (1 / 463) ، وأعله النووي في الأذكار (ص 243) بالانقطاع بين عمر
بن الخطاب والراوي عنه.
(39/231)
قَال ابْنُ عِلاَّنَ: وَذَلِكَ لأَِنَّهُ
مُضْطَرٌّ وَدُعَاؤُهُ أَسْرَعُ إِجَابَةً مِنْ غَيْرِهِ وَنُقِل عَنْ
الْمِرْقَاةِ أَنَّهُ شِبْهُ الْمَلاَئِكَةِ فِي التَّنَقِّي مِنَ
الذُّنُوبِ أَوْ فِي دَوَامِ الذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ وَاللَّجَأِ (1) .
ن - حَال أَوْلِيَاءِ اللَّهِ
26 - وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ
بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ
مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ
بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ
الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي
يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي
لأَُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَ بِي لأَُعِيذَنَّهُ. . . (2) . قَال
ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوَافَقَةُ لِلْعَبْدِ
مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى فِي مَحَابِّهِ حَصَلَتْ مُوَافَقَةُ الرَّبِّ
لِعَبْدِهِ فِي حَوَائِجِهِ وَمَطَالِبِهِ أَيْ: كَمَا وَافَقَنِي فِي
مُرَادِي بِامْتِثَال
__________
(1) الفتوحات الربانية 4 / 92.
(2) حديث: " يقول الله: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 11 / 340 - 341) من حديث أبي هريرة.
(39/232)
أَوَامِرِي وَالتَّقَرُّبِ إِلَيَّ
بِمَحَابِّي فَأَنَا أُوَافِقُهُ فِي رَغْبَتِهِ وَرَهْبَتِهِ فِيمَا
يَسْأَلُنِي أَنْ أَفْعَل بِهِ وَيَسْتَعِيذُنِي أَنْ يَنَالَهُ مَكْرُوهٌ
(1) .
س - حَال الْمُجْتَهَدِ فِي الدُّعَاءِ إِذَا وَافَقَ اسْمَ اللَّهِ
الأَْعْظَمَ
27 - يَشْهَدُ لِذَلِكَ (2) حَدِيثُ بُرَيْدَةَ الأَْسْلَمِيِّ أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَدْعُو
وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ
أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَْحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فَقَال: لَقَدْ
سَأَل اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَْعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِل بِهِ أَعْطَى
وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. وَفِي لَفْظٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَقَدْ سَأَل اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَْعْظَمِ (3)
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ
__________
(1) الجواب الكافي لابن القيم ص 263، دار الفرقان 1413 هـ، وانظر فتح
الباري 11 / 345.
(2) الجواب الكافي ص 26.
(3) حديث بريدة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو وهو
يقول. . . ". أخرجه الترمذي (6 / 516) وقال: حسن غريب.
(39/232)
كَانَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا فَقَال: اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ يَا ذَا الْجَلاَل 3
وَالإِْكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِصْحَابِهِ: تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟ قَالُوا:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ
دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ
وَإِذَا سُئِل بِهِ أَعْطَى (1) .
__________
(1) حديث أنس بن مالك: " أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل
يصلي. . . ". أخرجه النسائي (3 / 52) ، والحاكم (1 / 504) ، وصححه الحاكم،
ووافقه الذهبي.
(39/233)
مَوَاقِيتُ
التَّعْرِيفِ:
1 - الْمَوَاقِيتُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مِيقَاتٍ وَلَفْظُ مِيقَاتٍ
مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ (1) .
فَالْمِيقَاتُ وَالْمَوْقُوتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الشَّيْءُ
الْمَحْدُودُ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا.
فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ لِلزَّمَانِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ
كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) أَيْ مَفْرُوضًا
أَوْ لَهَا وَقْتٌ كَوَقْتِ الْحَجِّ.
وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ لِلْمَكَانِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لأَِهْل
الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ (3) .
__________
(1) الصحاح، والمغرب للمطرزي، ولسان العرب لابن منظور، ومعجم مقاييس اللغة
لابن فارس 6 / 136.
(2) سورة النساء / 103.
(3) حديث: " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 384) ، ومسلم (2 / 838) من حديث ابن عباس.
(39/233)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَاقِيتِ مِنْ أَحْكَامٍ:
مَوَاقِيتُ الصَّلاَةِ
2 - مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ دُخُول
الْوَقْتِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ وَدَلِيل ذَلِكَ مِنَ
الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) .
وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَّنِي جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي
الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ ثُمَّ صَلَّى
الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ
حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ
حِينَ غَابَ الشَّفَقُ. ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ
وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ
الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ
بِالأَْمْسِ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ.
ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ
الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل ثُمَّ صَلَّى
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 471، وفتح القدير 1 / 151.
(2) سورة النساء / 103.
(39/234)
الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيل فَقَال: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ
الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ
الْوَقْتَيْنِ (1) .
وَتَفْصِيل مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ فِي مُصْطَلَحِ (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف
3 وَمَا بَعْدَهَا)
وَقْتُ الْجُمُعَةِ
3 - وَقْتُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ بَعْدَ الزَّوَال وَلاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْل ذَلِكَ
(2) وَوَقْتُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: جَوَازًا قَبْل الزَّوَال
(3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ ف 10)
وَقْتُ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ
4 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ:
__________
(1) حديث: " أمًّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين. . . ". أخرجه
الترمذي (1 / 279 - 280) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(2) البناية 2 / 717 وما بعدها، وشرح النقاية 1 / 290 - 291، والكافي 1 /
149، والمجموع 4 / 380.
(3) المغني 2 / 218، وكشاف القناع 2 / 21.
(39/234)
إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ
الْعِيدَيْنِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَابْيِضَاضِهَا (1) .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِهَا أَوَّل طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ ف 6) .
الأَْوْقَاتُ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلاَةِ فِيهَا
5 - هُنَاكَ أَوْقَاتٌ نَهَى الشَّارِعُ عَنِ الصَّلاَةِ فِيهَا اتُّفِقَ
عَلَى بَعْضِهَا وَاخْتُلِفَ فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 23 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَقْتُ زَكَاةِ الْفِطْرِ
6 - وَقْتُ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِطُلُوعِ
الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ وَبِهِ قَال مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 276، فتح القدير 2 / 73، ومواهب الجليل 2 / 179،
وحاشية الدسوقي 1 / 396، وكشاف القناع 2 / 56، والمجموع 5 / 4 - 5.
(2) المجموع 5 / 4 - 5، ومغني المحتاج 1 / 310.
(3) بدائع الصنائع 2 / 74، والبناية 3 / 256، وشرح الرسالة وحاشية العدوي
عليه 1 / 390.
(39/235)
أَنَّ الْوُجُوبَ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ
يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8) .
وَقْتُ الأُْضْحِيَةِ
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الأُْضْحِيَةِ هُوَ يَوْمُ
الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلاَ تَجُوزُ قَبْلَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ مَشْرُوعِيَّةِ بِدَايَتِهَا عَلَى مَذَاهِبَ
تَفْصِيلُهَا فِي (أُضْحِيَةٌ ف 39) .
وَقْتُ الإِْهْلاَل بِالْحَجِّ
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْهْلاَل بِالْحَجِّ يَكُونُ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ لأَِنَّهَا الْمِيقَاتُ الزَّمَنِيُّ لِلْحَجِّ
وَأَشْهُرُ الْحَجِّ تَبْدَأُ بِهِلاَل شَوَّالٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٌّ ف م34)
وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
9 - الْوُقُوفُ بِأَرْضِ عَرَفَةَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ هُوَ مِيقَاتٌ
زَمَانِيٌّ وَمَكَانِيٌّ.
وَوَقْتُ الْوُقُوفِ يَبْدَأُ مِنْ زَوَال التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَيَسْتَمِرُّ إِلَى قَبْل فَجْرِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
__________
(1) الكافي 1 / 321، وشرح الرسالة 1 / 390، والمجموع 6 / 116، والمغني 3 /
89، وكشاف القناع 1 / 294.
(39/235)
وَتَفْصِيلُهُ فِي (حَجٌّ ف 55) .
وَقْتُ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ
15 - مُزْدَلِفَةُ: مِيقَاتٌ زَمَانِيٌّ وَمَكَانِيٌّ أَيْضًا وَوَقْتُ
الْمَبِيتِ بِهَا يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ غُرُوبِ يَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ إِلَى قُبَيْل طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَجٌّ ف 99)
وَقْتُ الرَّمْيِ:
11 - وَقْتُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَبْدَأُ وَقْتُ السُّنِّيَّةِ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال وَمَا بَعْدَ الزَّوَال إِلَى
الْغُرُوبِ فَعَلَى الْجَوَازِ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْل
الْعِلْمِ.
وَوَقْتُ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ يَبْدَأُ مِنْ زَوَال الْيَوْمِ الْحَادِي
عَشَرَ وَيَمْتَدُّ إِلَى الْغُرُوبِ.
وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الرَّمْيِ لأَِيَّامِ التَّشْرِيقِ
الثَّلاَثَةِ
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَجٌّ ف 60 - 61) .
وَقْتُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ
12 - طَوَافُ الإِْفَاضَةِ هُوَ ثَانِي الرُّكْنَيْنِ الْمُتَّفَقِ
عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَوَّل وَقْتِ مَشْرُوعِيَّتِهِ كَمَا اخْتَلَفُوا
فِي نِهَايَةِ وَقْتِهِ.
(39/236)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٌّ ف 52
-)
الْمَوَاقِيتُ الْمَكَانِيَّةُ فِي الْحَجِّ
13 - الْمَوَاقِيتُ الْمَكَانِيَّةُ ثَلاَثَةٌ: مَوَاقِيتُ الآْفَاقِيِّينَ
وَمِيقَاتُ الْمِيقَاتِيِّينَ وَمِيقَاتُ الْمَكِّيِّينَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِحْرَامٌ ف 39 - 41) .
(39/236)
مُوَالاَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُوَالاَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُتَابَعَةُ يُقَال: وَالَى بَيْنَ
الأَْمْرَيْنِ مُوَالاَةً وَوِلاَءً - بِالْكَسْرِ - تَابَعَ بَيْنَهُمَا
وَيُقَال: أَفْعَل هَذِهِ الأَْشْيَاءَ عَلَى الْوَلاَءِ أَيْ
مُتَتَابِعَةً وَتَوَالَى عَلَيْهِمْ شَهْرَانِ: تَتَابَعَا وَتُطْلَقُ
الْمُوَالاَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْمُنَاصَرَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
قَال الآْبِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ
الْمُوَالاَةُ: عَدَمُ التَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ بَيْنَ فَرَائِضِ
الْوُضُوءِ وَيُسَمَّى فَوْرًا (2) .
وَقَال الْبَرَكَتِيُّ: الْمُوَالاَةُ فِي الْوُضُوءِ: هِيَ غَسْل
الأَْعْضَاءِ عَلَى سَبِيل التَّعَاقُبِ بِحَيْثُ لاَ يَجِفُّ الْعُضْوُ
الأَْوَّل (3) .
__________
(1) مختار الصحاح، وتاج العروس، والقاموس المحيط، والمصباح المنير.
(2) جواهر الإكليل 1 / 15، وانظر: المجموع (1 / 443 - 444 ط المنيرية) .
(3) قواعد الفقه للبركتي ص 513.
(39/237)
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: الْمُوَالاَةُ:
هِيَ أَنْ لاَ يَشْتَغِل الْمُتَوَضِّئُ بَيْنَ أَفْعَال الْوُضُوءِ
بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّرْتِيبُ
2 - التَّرْتِيبُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل كُل شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ جَعْل الأَْشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ بِحَيْثُ
يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ وَيَكُونُ لِبَعْضِ أَجْزَائِهِ
نِسْبَةً إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَعَلَى ذَلِكَ
فَالْمُوَالاَةُ وَالتَّرْتِيبُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى إِلاَّ
أَنَّ الْمُوَالاَةَ تَخْتَلِفُ عَنِ التَّرْتِيبِ لأَِنَّ التَّرْتِيبَ
يَكُونُ لِبَعْضِ الأَْجْزَاءِ نِسْبَةً إِلَى الْبَعْضِ بِالتَّقَدُّمِ
وَالتَّأَخُّرِ بِخِلاَفِ الْمُوَالاَةِ.
وَأَنَّ الْمُوَالاَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَمُ الْقَطْعِ وَالتَّفْرِيقِ
(2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُوَالاَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَالاَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - الْمُوَالاَةُ فِي الْوُضُوءِ
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوَالاَةِ فِي الْوُضُوءِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 22.
(2) متن اللغة، وتاج العروس، ودستور العلماء 1 / 285.
(39/237)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
فِي الْقَوْل الصَّحِيحِ الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ:
إِنَّهَا سُنَّةٌ وَبِهِ قَال مِنَ الصَّحَابَةِ عبد الله بن عمر رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَالثَّوْرِيُّ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ لاَ يَمْنَعُ مِنِ
امْتِثَال الأَْمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (1)
الآْيَةَ فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَمْنَعَ مِنَ الإِْجْزَاءِ وَرَوَى نَافِعٌ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي
السُّوقِ فَغَسَل وَجْهَهُ وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ دُعِيَ لِجِنَازَةٍ
لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَل الْمَسْجِدَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ
ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا (2) .
وَلأَِنَّهُ تَفْرِيقٌ فِي تَطْهِيرٍ فَجَازَ كَالتَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ
وَلأَِنَّ كُل عِبَادَةٍ جَازَ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ جَازَ
فِيهَا التَّفْرِيقُ الْكَثِيرُ كَالْحَجِّ (3) .
وَقَال الْمَسْعُودِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ جَوَّزَ
فِي الْقَدِيمِ تَفْرِيقَ الصَّلاَةِ بِالْعُذْرِ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ
فَيَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي فَالطَّهَارَةُ أَوْلَى (4) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْمُوَالاَةَ فِي الْوُضُوءِ
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) أثر ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه توضأ. . . ". أخرجه مالك في الموطأ
(1 / 36 - 37 ط عيسى الحلبي) ، والشافعي في الأم (1 / 31 طبعة المكتبات
الأزهرية) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 22، والحاوي للماوردي 1 / 164 - 165، والمغني لابن
قدامة (1 / 192 - ط هجر) .
(4) المجموع 1 / 452.
(39/238)
أَفْضَل وَمُتَابَعَةُ الأَْعْضَاءِ
أَكْمَل انْقِيَادًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الأَْمْرُ مِنَ التَّعْجِيل
وَاتِّبَاعًا لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ
فَرَّقَ فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبَانِ: قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ:
فَالْقَرِيبُ: مَعْفُوٌّ عَنْهُ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْوُضُوءِ
وَحْدَهُ مَا لَمْ تَجِفَّ الأَْعْضَاءُ مَعَ اعْتِدَال الْهَوَاءِ فِي
غَيْرِ بَرْدٍ وَلاَ حَرٍّ مُشْتَدٍّ وَلَيْسَ الْجَفَافُ مُعْتَبَرًا
وَإِنَّمَا زَمَانُهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ وَلأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ
الاِحْتِرَازُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْبَعِيدُ: فَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْجَفَافِ فِي
اعْتِدَال الْهَوَاءِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْجَدِيدُ
-: أَنَّهُ جَائِزٌ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي - وَهُوَ
الْقَدِيمُ -: لاَ يَجُوزُ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ (1) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: الْمُوَالاَةُ سُنَّةٌ عَلَى الأَْصَحِّ فِي
الْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ. . . وَبَيْنَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ
وَالسَّعْيِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ.
وَقِيل: الْمُوَالاَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُل مَا سَبَقَ وَقَال: إِنَّهَا
وَاجِبَةٌ عَلَى الأَْصَحِّ فِي الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الأُْولَى وَبَيْنَ
طَهَارَةِ دَائِمِ الْحَدَثِ وَصَلاَتِهِ وَبَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ وَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَتَجِبُ
الْمُوَالاَةُ قَطْعًا
__________
(1) الحاوي للماوردي 1 / 164، والمجموع 1 / 451.
(39/238)
بَيْنَ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ
وَالتَّشَهُّدِ وَرَدِّ السَّلاَمِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْقَدِيمِ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَبِهِ قَال مِنَ
الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ
الْفُقَهَاءِ الأَْوْزَاعِيُّ لأَِنَّ مُطْلَقَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى
بِالْوُضُوءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ} (2) يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَالتَّعْجِيل وَذَلِكَ يَمْنَعُ
مِنَ التَّأْجِيل وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَوَضَّأَ عَلَى الْوَلاَءِ ثُمَّ قَال: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لاَ يَقْبَل
اللَّهُ مِنْهُ صَلاَةً إِلاَّ بِهِ (3) يَعْنِي بِمِثْلِهِ فِي الْوَلاَءِ
وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً
تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ
وُضُوءَكَ فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى (4) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ كَثِيرٍ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ
الْيَسِيرَ لاَ يَضُرُّ مُطْلَقًا سَهْوًا كَانَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 407 - 408، والأشباه لابن الوكيل 2 / 129.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلاَّ به ". أخرجه ابن ماجه
(1 / 145 - ط عيسى الحلبي) ، وليس فيه ذكر الولاء، وذكره ابن حجر في الفتح
(1 / 233 - ط السلفية) وقال: ضعيف.
(4) حديث: " أنًّ رجلاً توضأ فترك موضع ظفر. . . ". أخرجه مسلم (1 / 215 -
ط عيسى الحلبي) .
(39/239)
أَوْ عَجْزًا أَوْ عَمْدًا إِذَا لَمْ
يَضُرَّ التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ فَيُكْرَهُ إِنْ كَانَ عَمْدًا عَلَى
الْمُعْتَمَدِ وَالْيَسِيرُ مُقَدَّرٌ بِعَدَمِ الْجَفَافِ.
وَأَمَّا النَّاسِي وَالْعَاجِزُ فَلاَ تَجِبُ الْمُوَالاَةُ فِي
حَقِّهِمَا وَحِينَئِذٍ إِذَا فَرَّقَ نَاسِيًا أَوْ عَاجِزًا فَإِنَّهُ
يَبْنِي مُطْلَقًا سَوَاءٌ طَال أَمْ لاَ لَكِنِ النَّاسِي يَبْنِي
بِنِيَّةٍ جَدِيدَةٍ وَأَمَّا الْعَاجِزُ فَلاَ يَحْتَاجُ لِتَجْدِيدِ
نِيَّتِهِ (1) .
ب - الْمُوَالاَةُ فِي الْغُسْل
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوَالاَةِ فِي الْغُسْل فَقَال
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى
الْجَدِيدِ الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْغُسْل
بَيْنَ غُسْل جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ تَجِبُ الْمُوَالاَةُ فِي الْغُسْل لأَِنَّ
الْبَدَنَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ
وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ فَاتَتِ الْمُوَالاَةُ قَبْل إِتْمَامِ الْغُسْل
بِأَنْ جَفَّ مَا غَسَلَهُ مِنْ بَدَنِهِ بِزَمَانٍ مُعْتَدِلٍ وَأَرَادَ
أَنْ يُتِمَّ غُسْلَهُ جَدَّدَ النِّيَّةَ لإِِتْمَامِهِ وُجُوبًا
لاِنْقِطَاعِ النِّيَّةِ بِفَوَاتِ الْمُوَالاَةِ فَيَقَعُ غُسْل مَا
بَقِيَ بِدُونِ نِيَّةٍ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 90 - 91، وانظر: الخرشي 1 / 27، الحاوي 1 / 165،
كشاف القناع 1 / 84، 104.
(2) البحر الرائق 1 / 28 - 29 دار المعرفة، وحاشية الطحطاوي 1 / 74،
والحاوي 1 / 164 - 165، وروضة الطالبين 1 / 64، والمجموع 1 / 452، وكشاف
القناع 1 / 153، والفتاوى الهندية 1 / 14، والمغني 1 / 220.
(39/239)
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ
يَضُرُّ تَفْرِيقُ الْغُسْل قَطْعًا بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ فَرَّقَهُ لِعُذْرٍ بِأَنْ فَرَغَ
مَاءُ الْوُضُوءِ أَوِ انْقَلَبَ الإِْنَاءُ فَذَهَبَ لِطَلَبِ الْمَاءِ
وَمَا أَشْبَهَهُ فَلاَ بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ عَلَى الصَّحِيحِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُوَالاَةَ فَرْضٌ فِي الْغُسْل قَال
الدُّسُوقِيُّ: أَمَّا الْمُوَالاَةُ فَالظَّاهِرُ مِنَ الْمَذْهَبِ
أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَنِيَّةٍ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ إِنْ قَدَرَ
وَذَكَرَ فَإِنْ فَرَّقَ عَامِدًا بَطَل إِنْ طَال وَإِلاَّ بَنَى عَلَى
مَا فَعَل بِنِيَّةٍ أَمَّا النَّاسِي وَالْعَاجِزُ فَلاَ تَجِبُ
الْمُوَالاَةُ فِي حَقِّهِمَا وَحِينَئِذٍ إِذَا فَرَّقَ نَاسِيًا أَوْ
عَاجِزًا فَإِنَّهُ يَبْنِي مُطْلَقًا سَوَاءٌ طَال أَمْ لاَ لَكِنِ
النَّاسِي يَبْنِي بِنِيَّةٍ جَدِيدَةٍ وَأَمَّا الْعَاجِزُ فَلاَ
يَحْتَاجُ لِتَجْدِيدِ نِيَّةٍ (3) .
ج - الْمُوَالاَةُ فِي التَّيَمُّمِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوَالاَةِ فِي التَّيَمُّمِ فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) المجموع 1 / 453، وحاشية ابن عابدين (1 / 83 - ط بولاق) .
(2) البحر الرائق 1 / 28، والحاوي 1 / 164.
(3) جواهر الإكليل 1 / 22، وحاشية الدسوقي 1 / 133، والشرح الصغير 1 / 166
ط دار المعارف بمصر.
(39/240)
فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِنَّهَا
سُنَّةٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا
وَاجِبَةٌ.
كَمَا تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُوَالاَةُ فِي تَيَمُّمِ دَائِمِ
الْحَدَثِ وَوُضُوئِهِ تَخْفِيفًا لِلْمَانِعِ لأَِنَّ الْحَدَثَ
يَتَكَرَّرُ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ بِالْمُوَالاَةِ (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُوَالاَةَ فِي التَّيَمُّمِ
فَرْضٌ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَمَّا فِي الْكُبْرَى فَلاَ
يُعْتَبَرُ فِيهِ تَرْتِيبٌ وَلاَ مُوَالاَةٌ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٌ ف 30) .
د - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ أَلْفَاظِ
الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ
إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ بَيْنَ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ
سُنَّةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا
وَاجِبَةٌ.
__________
(1) حاشية الطحطاوي 1 / 24، وحاشية ابن عابدين 1 / 154، وشرح روض الطالب 1
/ 87 ط المكتبة الإسلامية، والإنصاف 1 / 287.
(2) الشرح الصغير 1 / 198 ط دار المعارف بمصر، وروض الطالب 1 / 87.
(3) نيل المآرب 1 / 91، وكشاف القناع 1 / 175.
(39/240)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَصْل الَّذِي
يَقْطَعُ الْمُوَالاَةَ.
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ يُكْرَهُ الْفَصْل بَيْنَ أَلْفَاظِ الأَْذَانِ
وَالإِْقَامَةِ وَلَوْ بِرَدِّ سَلاَمٍ أَوْ تَشْمِيتِ عَاطِسٍ أَوْ
نَحْوِهِمَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ الْمُوَالاَةِ وَلأَِنَّهُ
ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ كَالْخُطْبَةِ فَلاَ يَسَعُ تَرْكَ حُرْمَتِهِ فَإِنْ
تَكَلَّمَ اسْتَأْنَفَهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ يَسِيرًا فَإِنَّهُ
لاَ يَسْتَأْنِفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ
الْمُؤَذِّنُ لِلْكَلاَمِ مِثْل أَنْ يَخَافَ عَلَى صَبِيٍّ أَوْ دَابَّةٍ
أَوْ أَعْمَى أَنْ يَقَعَ فِي بِئْرٍ فَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَيَبْنِي.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ كَلاَمٌ
وَسُكُوتٌ طَوِيلاَنِ بَيْنَ كَلِمَاتِ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ
كَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْذْكَارِ وَهَذَا إِذَا لَمْ يَفْحُشِ الطُّول
فَإِنْ فَحَشَ بِحَيْثُ لاَ يُسَمَّى مَعَ الأَْوَّل أَذَانًا فِي
الأَْذَانِ وَلاَ إِقَامَةً فِي الإِْقَامَةِ اسْتَأْنَفَ جَزْمًا.
وَقِيل: يَضُرُّ كَثِيرُ الْكَلاَمِ دُونَ كَثِيرِ السُّكُوتِ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 260، وبدائع الصنائع 1 / 149، والعناية 1 / 170،
وتبيين الحقائق 1 / 91، والفتاوى الهندية 1 / 56، والحطاب 1 / 4237، ومغني
المحتاج 1 / 137، والأشباه للسيوطي 1 / 407، وتحفة المحتاج 1 / 470،
والمجموع 3 / 114، وكشاف القناع 1 / 240 - 241.
(39/241)
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فَقَالُوا:
وَلاَ يَصِحُّ الأَْذَانُ وَكَذَا الإِْقَامَةُ إِلاَّ مُتَوَالِيًا
عُرْفًا لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَهُوَ الإِْعْلاَمُ
بِدُخُول الْوَقْتِ بِغَيْرِ مُوَالاَةٍ وَشُرِعَ فِي الأَْصْل كَذَلِكَ
بِدَلِيل أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَبَا
مَحْذُورَةَ الأَْذَانَ مُرَتَّبًا مُتَوَالِيًا (1) . فَلَوْ فَرَّقَ
بَيْنَهُ بِسُكُوتٍ طَوِيلٍ وَلَوْ بِسَبَبِ نَوْمٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ
جُنُونٍ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ
لِفَوَاتِ الْمُوَالاَةِ وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُ بِكَلاَمٍ مُحَرَّمٍ
كَسَبٍّ وَقَذْفٍ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ
لأَِنَّهُ قَدْ يَظُنُّهُ سَامِعُهُ مُتَلاَعِبًا أَشْبَهَ الْمُسْتَهْزِئَ
وَلَوِ ارْتَدَّ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ
أَهْلِيَّةِ الأَْذَانِ.
وَيُكْرَهُ فِي الأَْذَانِ سُكُوتٌ يَسِيرٌ بِلاَ حَاجَةٍ وَكُرِهَ فِيهِ
كَلاَمٌ مُبَاحٌ يَسِيرٌ بِلاَ حَاجَةٍ فَإِنْ كَانَ لَهَا لَمْ يُكْرَهْ
لأَِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَهُ صُحْبَةٌ
- كَانَ يَأْمُرُ غُلاَمَهُ بِالْحَاجَةِ فِي أَذَانِهِ.
وَلَهُ رَدُّ سَلاَمٍ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَلاَ يَبْطُلاَنِ
بِهِ وَلاَ يَجِبُ الرَّدُّ لأَِنَّ ابْتِدَاءَ السَّلاَمِ إِذْنٌ غَيْرُ
مَسْنُونٍ (2) .
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم علًّم أبا محذورة. . . ". أخرجه مسلم
(1 / 287 - ط عيسى الحلبي) .
(2) كشاف القناع 1 / 240 - 241.
(39/241)
هـ - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ
الْفَاتِحَةِ
7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الدُّعَاءُ فِي الصَّلاَةِ
الْمَفْرُوضَةِ قَبْل قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا وَأَثْنَائِهَا
بِأَنْ يُخَلِّلَهَا بِهِ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى الدُّعَاءِ وَلاَ يُكْرَهُ
فِي النَّفْل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ
الْفَاتِحَةِ بِأَنْ يَصِل الْكَلِمَاتِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَلاَ يَفْصِل
إِلاَّ بِقَدْرِ التَّنَفُّسِ لِلاِتِّبَاعِ مَعَ خَبَرِ: صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) فَلَوْ أَخَل بِهَا سَهْوًا لَمْ يَضُرَّ
كَتَرْكِ الْمُوَالاَةِ فِي الصَّلاَةِ بِأَنْ طَوَّل رُكْنًا قَصِيرًا
نَاسِيًا بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ سَهْوًا فَإِنَّهُ
يَضُرُّ لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ صِفَةٌ وَالْقِرَاءَةَ أَصْلٌ فَإِنْ
تَخَلَّل ذِكْرٌ أَجْنَبِيٌّ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلاَةِ قَطَعَ
الْمُوَالاَةَ وَإِنْ قَل كَالتَّحْمِيدِ عِنْدَ الْعُطَاسِ وَإِجَابَةِ
الْمُؤَذِّنِ وَالتَّسْبِيحِ لِلدَّاخِل لأَِنَّ الاِشْتِغَال بِهِ يُوهِمُ
الإِْعْرَاضَ عَنِ الْقِرَاءَةِ فَلْيَسْتَأْنِفُهَا هَذَا إِنْ تَعَمَّدَ
فَإِنْ كَانَ سَهْوًا فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ بَل
يَبْنِي.
وَقِيل: إِنْ طَال الذِّكْرُ قَطَعَ الْمُوَالاَةَ وَإِلاَّ فَلاَ.
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 53.
(2) حديث: " صلُّوا كما رأيتموني أصلّي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 /
111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(39/242)
فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالصَّلاَةِ
كَتَأْمِينِهِ لِقِرَاءَةِ إِمَامِهِ وَفَتْحِهِ عَلَيْهِ إِذَا تَوَقَّفَ
فِيهَا فَلاَ يَقْطَعُ الْمُوَالاَةَ فِي الأَْصَحِّ لِنَدْبِ ذَلِكَ
لِلْمَأْمُومِ فِي الأَْصَحِّ وَالثَّانِي يَقْطَعُهَا لأَِنَّهُ لَيْسَ
مَنْدُوبًا كَالْحَمْدِ عِنْدَ الْعُطَاسِ وَغَيْرِهِ، وَمَحَل الْخِلاَفِ
فِي الْعَامِدِ فَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَمْ يَقْطَعْ مَا ذَكَرَ جَزْمًا.
وَيَقْطَعُ الْمُوَالاَةَ السُّكُوتُ الْعَمْدُ الطَّوِيل لإِِشْعَارِهِ
بِالإِْعْرَاضِ مُخْتَارًا كَانَ أَوْ لِعَائِقٍ لإِِخْلاَلِهِ
بِالْمُوَالاَةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَمَّا النَّاسِي فَلاَ يَقْطَعُ عَلَى
الصَّحِيحِ وَكَذَا يَقْطَعُ يَسِيرٌ قَصَدَ بِهِ قَطْعَ الْقِرَاءَةِ فِي
الأَْصَحِّ لِتَأْثِيرِ الْفِعْل مَعَ النِّيَّةِ كَنَقْل الْوَدِيعَةِ
بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ
بِأَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا وَالثَّانِي لاَ يَقْطَعُ لأَِنَّ قَصْدَ
الْقَطْعِ وَحْدَهُ لاَ يُؤَثِّرُ وَالسُّكُوتُ الْيَسِيرُ وَحْدَهُ لاَ
يُؤَثِّرُ أَيْضًا فَكَذَا إِذَا اجْتَمَعَا فَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ
الْقَطْعَ وَلَمْ يُطِل السُّكُوتَ لَمْ يَضُرَّ كَنَقْل الْوَدِيعَةِ
بِلاَ نِيَّةِ تَعَدٍّ وَكَذَا إِنْ نَوَى قَطْعَ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ
يَسْكُتْ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَطَعَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِذِكْرٍ مِنْ
دُعَاءٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ سُكُوتٍ يَسِيرٍ أَوْ فَرَغَ الإِْمَامُ مِنَ
الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ قَال " آمِينَ " وَلاَ
تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ لِقَوْل أَحْمَدَ: إِذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ
رَحْمَةٍ سَأَل وَإِذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ عَذَابٍ اسْتَعَاذَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 158 - 159.
(39/242)
وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ
قِرَاءَتَهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مَأْمُورًا بِهِ
كَالْمَأْمُومِ يَشْرَعُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ثُمَّ يَسْمَعُ
قِرَاءَةَ الإِْمَامِ فَيُنْصِتُ لَهُ فَإِذَا سَكَتَ الإِْمَامُ أَتَمَّ
قِرَاءَتَهَا وَأَجْزَأَهُ، أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ إِنْ
كَانَ السُّكُوتُ نِسْيَانًا أَوْ نَوْمًا أَوْ لاِنْتِقَالِهِ إِلَى
غَيْرِهَا غَلَطًا لَمْ يُبْطِل فَمَتَى ذَكَرَ أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا
فَإِنْ تَمَادَى فِيمَا هُوَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَبْطَلَهَا وَلَزِمَهُ
اسْتِئْنَافُهَا كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ بِذَلِكَ فَإِنْ نَوَى قَطْعَ
قِرَاءَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَهَا لَمْ تَنْقَطِعْ لأَِنَّ
فِعْلَهُ مُخَالِفٌ لِنِيَّتِهِ وَالاِعْتِبَارُ بِالْفِعْل لاَ
بِالنِّيَّةِ وَكَذَا إِنْ سَكَتَ مَعَ النِّيَّةِ سُكُوتًا يَسِيرًا لِمَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِالنِّيَّةِ فَوُجُودُهَا
كَعَدَمِهَا وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ مَتَى سَكَتَ مَعَ
النِّيَّةِ أَبْطَلَهَا وَمَتَى عَدَل إِلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ
عَمْدًا أَوْ دُعَاءً غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَإِنْ قَدَّمَ آيَةً مِنْهَا فِي
غَيْرِ مَوْضِعِهَا عَمْدًا أَبْطَلَهَا وَإِنْ كَانَ غَلَطًا رَجَعَ إِلَى
مَوْضِعِ الْغَلَطِ فَأَتَمَّهَا (1) .
و الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ
8 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ
التَّشَهُّدِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمُتَوَلِّي قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ:
وَهُوَ قِيَاسُ الْفَاتِحَةِ (2) .
__________
(1) المغني 1 / 484.
(2) المنثور في القواعد 3 / 242، وروض الطالب 1 / 151.
(39/243)
ز - الْمُوَالاَةُ فِي تَكْبِيرَاتِ
صَلاَةِ الْعِيدِ
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوَالاَةِ فِي تَكْبِيرَاتِ صَلاَةِ
الْعِيدِ أَوِ الْفَصْل بَيْنَهَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّحْمِيدِ
وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُوَالِي
بَيْنَهَا كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَالُوا: لأَِنَّهُ
لَوْ كَانَ بَيْنَهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لَنُقِل كَمَا نُقِل التَّكْبِيرُ
وَبِهِ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو
مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَابْنُ سِيرِينَ
وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ (1) .
قَال السَّرْخَسِيُّ: وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْمُوَالاَةِ بَيْنَ
الْقِرَاءَتَيْنِ لأَِنَّ التَّكْبِيرَاتِ يُؤْتَى بِهَا عَقِبَ ذِكْرٍ
هُوَ فَرْضٌ فَفِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى يُؤْتَى بِهَا عَقِبَ تَكْبِيرَةِ
الاِفْتِتَاحِ وَفِي الثَّانِيَةِ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ وَلأَِنَّهُ
يَجْمَعُ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ مَا أَمْكَنَ فَفِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى
يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَكْبِيرَةِ الاِفْتِتَاحِ وَفِي الثَّانِيَةِ
يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَلَمْ يُبَيِّنْ
مِقْدَارَ الْفَصْل بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ فِي الْكِتَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ الْفَصْل
__________
(1) فتح القدير 1 / 426 ط بولاق، والشرقاوي 1 / 284، والمجموع 5 / 17 نشر
المكتبة السلفية، والمغني 2 / 279، ونيل الأوطار 3 / 300، وجواهر الإكليل 1
/ 102.
(39/243)
بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ أَنَّهُ قَال:
يَسْكُتُ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ ثَلاَثِ تَسْبِيحَاتٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَفْصِل بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ
بِذِكْرٍ مَسْنُونٍ فَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَقِفَ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ الزَّوَائِدِ قَدْرَ قِرَاءَةِ
آيَةٍ لاَ طَوِيلَةٍ وَلاَ قَصِيرَةٍ يُهَلِّل اللَّهَ تَعَالَى
وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُمَجِّدُهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ فِيمَا يَقُولُهُ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ فَقَال
جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَقَال
بَعْضُهُمْ: يَقُول: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُل
شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَفْصِل بَيْنَهَا بِقَوْل: اللَّهُ أَكْبَرُ
كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا.
وَقَال بَعْضُهُمْ: يَقُول " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ
تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَجَل ثَنَاؤُكَ وَلاَ إِلَهَ
غَيْرُكَ " وَلاَ يَأْتِي بِهَذَا الذِّكْرِ بَعْدَ السَّابِعَةِ
وَالْخَامِسَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 38 - 39، والاختيار 1 / 86.
(2) المجموع للنووي 5 / 17 - 18، والشرقاوي 1 / 284 - 285.
(39/244)
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ وَإِنْ أَحَبَّ
قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُْمِّيِّ وَعَلَيْهِ
السَّلاَمُ. وَإِنْ أَحَبَّ قَال: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ مَا شَاءَ مِنَ
الذِّكْرِ (1) .
ج - الْمُوَالاَةُ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ
10 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) :
تُشْتَرَطُ الْمُوَالاَةُ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ
بِأَنْ لاَ يَفْصِل بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ طَوِيلٌ لأَِنَّ الْجَمْعَ
يَجْعَلُهُمَا كَصَلاَةٍ وَاحِدَةٍ فَوَجَبَ الْوَلاَءُ كَرَكَعَاتِ
الصَّلاَةِ أَيْ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ
يُفَرِّقَ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ فِي صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ فَصَل
بَيْنَهُمَا بِفَصْلٍ طَوِيلٍ وَلَوْ بِعُذْرٍ كَسَهْوٍ أَوْ إِغْمَاءٍ
بَطَل الْجَمْعُ وَوَجَبَ تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى
وَقْتِهَا لِفَوَاتِ الْجَمْعِ وَإِنْ فَصَل بَيْنَهُمَا بِفَصْلٍ يَسِيرٍ
لَمْ يَضُرَّ كَالْفَصْل بَيْنَهُمَا بِالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ
وَالطَّهَارَةِ (2) لِمَا وَرَدَ عَنْ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
__________
(1) المغني 2 / 283 - 284 ط مكتبة القاهرة.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 173، والاختيار 1 / 149، 150، وجواهر الإكليل 1 /
91، والمجموع 4 / 475، ومغني المحتاج 1 / 273، والمغني 2 / 279.
(39/244)
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ ثُمَّ أُقِيمَتِ
الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُل إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ
فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَل
بَيْنَهُمَا (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنَ
الْمُوَالاَةِ سُنَّةُ الظُّهْرِ وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ إِلَى اسْتِثْنَاءِ
تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ
الصَّلاَتَيْنِ - جَمْعَ تَقْدِيمٍ - وَإِنْ طَال بَيْنَهُمَا الْفَصْل مَا
لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الأُْولَى مِنْهُمَا (3) .
ط - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ بَيْنَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ
فَإِنْ تَرَكَ الْمُوَالاَةَ وَطَال الْفَصْل ابْتَدَأَ الطَّوَافَ وَإِنْ
لَمْ يُطِل بَنَى، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِ الْمُوَالاَةِ عَمْدًا
وَسَهْوًا مِثْل مَنْ يَتْرُكُ شَوْطًا مِنَ الطَّوَافِ يَحْسِبُ أَنَّهُ
قَدْ أَتَمَّهُ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالَى بَيْنَ طَوَافِهِ وَقَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (4)
وَلأَِنَّهُ صَلاَةٌ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) حديث: " جاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3
/ 523 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 934) ، واللفظ للبخاري.
(2) فتح القدير 2 / 164، وحاشية ابن عابدين 2 / 173.
(3) المجموع 4 / 476.
(4) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5 / 125 -
ط مجلس دائرة المعارف) .
(39/245)
الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ (1)
فَاشْتُرِطَتْ لَهَا الْمُوَالاَةُ كَالصَّلاَةِ وَيَرْجِعُ فِي طُول
الْفَصْل وَقِصَرِهِ إِلَى الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ:
إِنَّ الْمُوَالاَةَ سُنَّةٌ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالَى طَوَافَهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الأَْشْوَاطِ
تَفْرِيقًا كَثِيرًا مَكْرُوهٌ (3) .
ي - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَشْوَاطِ السَّعْيِ
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ بَيْنَ أَشْوَاطِ
السَّعْيِ مُسْتَحَبَّةٌ فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهَا تَفْرِيقًا كَثِيرًا
كُرِهَ وَاسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ (5) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ: إِنَّ
__________
(1) حديث: " الطواف بالبيت صلاة ". أخرجه النسائي (5 / 222 - ط المكتبة
التجارية الكبرى) ، والبيهقي في السنن الكبرى (5 / 87 - ط مجلس دائرة
المعارف) من حديث ابن عباس.
(2) الذخيرة 3 / 25، وحاشية الدسوقي 2 / 32، ومغني المحتاج 1 / 491،
والمغني 3 / 395.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 168 و 169، ومغني المحتاج 1 / 491.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 168، وفتح القدير 2 / 156 - 157.
(5) المجموع 8 / 79.
(39/245)
الْمُوَالاَةَ بَيْنَ أَشْوَاطِ السَّعْيِ
شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّعْيِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَعْيٌ ف 23) .
ك - الْمُوَالاَةُ فِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ
13 - الْمُوَالاَةُ فِي الْجَمَرَاتِ بَيْنَ الرَّمَيَاتِ السَّبْعِ
سُنَّةٌ بِحَيْثُ لاَ يَزِيدُ الْفَصْل بَيْنَهَا عَنِ الذِّكْرِ
الْوَارِدِ فِيمَا بَيْنَهَا (2) .
ل - الْمُوَالاَةُ فِي تَغْرِيبِ الزَّانِي
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ فِي تَغْرِيبِ
الزَّانِي شَرْطٌ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى بَلَدٍ غُرِّبَ مِنْهُ اسْتُؤْنِفَتِ
الْمُدَّةُ لِيَتَوَالَى الإِْيحَاشُ حَتَّى يُكْمِل لَهُ الْحَوْل
مُسَافِرًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَادَ قَبْل
مُضِيِّ الْحَوْل أُعِيدَ تَغْرِيبُهُ حَتَّى يُكْمِل الْحَوْل مُسَافِرًا
وَيَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى (3) .
م - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ
15 - يُشْتَرَطُ الْمُوَالاَةُ فِي اللِّعَانِ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ
__________
(1) حاشية العدوي 1 / 471، وكشاف القناع 2 / 485 - 487.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 184، والحاوي الكبير 5 / 264، ومغني المحتاج 1 /
507، والفروع 3 / 512.
(3) أسنى المطالب 4 / 130، والمغني لابن قدامة 8 / 168، وحاشية الدسوقي 4 /
322، ومغني المحتاج 4 / 148
(39/246)
الْخَمْسِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ
اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا
الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ
مِنَ الصَّادِقِينَ} (1) فَيُؤَثِّرُ الْفَصْل الطَّوِيل لأَِنَّهُمْ
جَعَلُوهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَالْوَاحِدُ لاَ تُفَرَّقُ أَجْزَاؤُهُ
كَمَا فِي الصَّلاَةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ رَكَعَاتٍ (2) .
ن - الْمُوَالاَةُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ لاَ تُشْتَرَطُ فِي
الإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَلاَ يَضُرُّ تَرَاخِي الْقَبُول عَنِ
الإِْيجَابِ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا
يَقْطَعُهُ (3) .
__________
(1) سورة النور / 6 - 9.
(2) بدائع الصنائع 3 / 237، وحاشية الدسوقي 2 / 463، ونهاية المحتاج 7 /
108 - 109، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 242، وكشاف القناع 5 / 392،
ومغني المحتاج 3 / 376.
(3) بدائع الصنائع 5 / 137، والهداية 3 / 21، وحاشية ابن عابدين 4 / 19 -
20، 2 / 266، وحاشية الدسوقي 3 / 5، والحطاب 4 / 240 - 241، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 141.
(39/246)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُوَالاَةُ
بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ وَيُشْتَرَطُ أَنْ
لاَ يَطُول الْفَصْل بَيْنَهُمَا فَإِنْ طَال ضَرَّ لأَِنَّ طُول الْفَصْل
يُخْرِجُ الثَّانِي عَنْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنِ الأَْوَّل فَكُل مَا
يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول مِنَ الْعُقُودِ فَعَلَى الْفَوْرِ أَيْ أَنْ
يَكُونَ عَقِبَ الإِْيجَابِ وَلاَ يَضُرُّ عِنْدَهُمُ الْفَصْل الْيَسِيرُ
(1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف 24) .
س - الْمُوَالاَةُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ
17 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ الْمُوَالاَةُ
بِحَيْثُ يَكُونُ الاِسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً بِالْكَلاَمِ السَّابِقِ
فَلَوْ فَصَل عَنْهُ بِسُكُوتٍ كَثِيرٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ بِكَلاَمٍ
أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَصِحَّ الاِسْتِثْنَاءُ فَلاَ يُخَصِّصْ مَا قَبْلَهُ
إِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً بِنَحْوِ إِلاَّ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِثْنَاءٌ ف 16) .
ع - الْمُوَالاَةُ فِي رَدِّ السَّلاَمِ
18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ
السَّلاَمِ عَلَى الْفَوْرِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا أَخَّرَ رَدَّ السَّلاَمِ لِغَيْرِ
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 12، ومغني المحتاج 2 / 5 - 6.
(2) بدائع الصنائع 3 / 15، وحاشية ابن عابدين 2 / 509، 310، 3 / 100.
(39/247)
عُذْرٍ كُرِهَ تَحْرِيمًا وَلاَ يُرْفَعُ
الإِْثْمُ بِالرَّدِّ بَل بِالتَّوْبَةِ.
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ: مِمَّا تَجِبُ فِيهِ
الْمُوَالاَةُ. . الْمُوَالاَةُ فِي رَدِّ السَّلاَمِ (1) .
ف - التَّخَلُّل الْقَاطِعُ لِلْمُوَالاَةِ
19 - قَال السُّيُوطِيُّ نَقْلاً عَنِ ابْنِ السُّبْكِيِّ: الضَّابِطُ فِي
التَّخَلُّل الْمُضِرِّ فِي الأَْبْوَابِ أَنْ يُعَدَّ الثَّانِيَ
مُنْقَطِعًا عَنِ الأَْوَّل.
هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْبْوَابِ فَرُبَّ بَابٍ يُطْلَبُ فِيهِ
مِنَ الاِتِّصَال مَا لاَ يُطْلَبُ فِي غَيْرِهِ وَبِاخْتِلاَفِ
الْمُتَخَلِّل نَفْسِهِ فَقَدْ يُغْتَفَرُ مِنَ السُّكُوتِ مَا لاَ
يُغْتَفَرُ مِنَ الْكَلاَمِ، وَمِنَ الْكَلاَمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَقْدِ
مَا لاَ يُغْتَفَرُ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ وَمِنَ الْمُتَخَلِّل بِعُذْرِ مَا
لاَ يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهِ فَصَارَتْ مَرَاتِبَ، أَقْطَعُهَا
لِلاِتِّصَال كَلاَمٌ كَثِيرٌ أَجْنَبِيٌّ وَأَبْعَدُهَا عَنْهُ سُكُوتٌ
يَسِيرٌ لِعُذْرٍ وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ لاَ تَخْفَى (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 266، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 241،
والأشباه والنظائر للسيوطي ص 408.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 410، والأشباه والنظائر لابن الوكيل 2 /
129.
(39/247)
مَوْتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوْتُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ الْحَيَاةِ.
يُقَال: مَاتَ يَمُوتُ فَهُوَ مَيِّتٌ وَمَيْتٌ (1) وَمِنْ أَسْمَائِهِ:
الْمَنُونُ وَالْمَنَا وَالْمَنِيَّةُ وَالشَّعُوبُ وَالسَّامُ
وَالْحِمَامُ وَالْحَيْنُ وَالرَّدَى وَالْهَلاَكُ وَالثُّكْل وَالْوَفَاةُ
وَالْخَبَال (2) .
وَفِي مَقَايِيسِ اللُّغَةِ (3) : الْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ أَصْلٌ
صَحِيحٌ يَدُل عَلَى ذَهَابِ الْقُوَّةِ مِنَ الشَّيْءِ وَمِنْهُ الْمَوْتُ
خِلاَفُ الْحَيَاةِ.
وَالْمَوْتُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ (4)
.
قَال الْغَزَالِيُّ: وَمَعْنَى مُفَارَقَتِهَا
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والكليات للكفوي 4 / 278، وأساس
البلاغة ص 439، وأنيس الفقهاء ص 123.
(2) فقه اللغة للثعالبي (ط الدار العربية للكتاب) ص 133، 134.
(3) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5 / 283.
(4) المجموع شرح المهذب 5 / 105، ومغني المحتاج 1 / 32، وتحرير ألفاظ
التنبيه للنووي ص 94، وقواعد الحكام ص 696 - ط دار الطباع بدمشق، ومختصر
منهاج القاصدين ص 449، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 121.
(39/248)
لِلْجَسَدِ انْقِطَاعُ تَصَرُّفِهَا عَنِ
الْجَسَدِ بِخُرُوجِ الْجَسَدِ عَنْ طَاعَتِهَا (1) .
عَلاَمَاتُ الْمَوْتِ
2 - نَظَرًا لِتَعَذُّرِ إِدْرَاكِ كُنْهِ الْمَوْتِ فَقَدْ عَلَّقَ
الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ
بِظُهُورِ أَمَارَتِهِ فِي الْبَدَنِ فَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا
اشْتَبَهَ أَمْرُ الْمَيِّتِ اعْتُبِرَ بِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ
مِنِ اسْتِرْخَاءِ رِجْلَيْهِ وَانْفِصَال كَفَّيْهِ وَمَيْل أَنْفِهِ
وَامْتِدَادِ جِلْدَةِ وَجْهِهِ وَانْخِسَافِ صُدْغَيْهِ (2) .
وَجَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: تُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إِلَى
غُسْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ إِذْ تَحَقَّقَ مَوْتُهُ بِأَنْ يَمُوتَ بِعِلَّةٍ
وَتَظْهَرُ أَمَارَاتُ الْمَوْتِ بِأَنْ تَسْتَرْخِيَ قَدَمَاهُ وَلاَ
تَنْتَصِبَا أَوْ يَمِيل أَنْفُهُ أَوْ يَنْخَسِفَ صُدْغَاهُ أَوْ
تَمْتَدَّ جِلْدَةُ وَجْهِهِ أَوْ يَنْخَلِعَ كَفَّاهُ مِنْ ذِرَاعَيْهِ
أَوْ تَتَقَلَّصَ خُصْيَتَاهُ إِلَى فَوْقٍ مَعَ تَدَلِّي الْجِلْدَةِ. . .
إِلَخْ (3) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 421، وما بعدها، وانظر الأربعين في أصول الدين
للغزالي ص 275، 277.
(2) المغني (3 / 367 ط هجر) .
(3) روضة الطالبين 2 / 98، وانظر الفتاوى الهندية 1 / 157، وشرح منتهى
الإرادات 1 / 323، ورد المحتار 1 / 570، وأسنى المطالب 1 / 299.
(39/248)
هَذَا وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّ شُخُوصَ بَصَرِ الْمُحْتَضِرِ
عَلاَمَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى قَبْضِ رُوحِهِ وَمُفَارَقَتِهَا لِجَسَدِهِ
فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ
فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ (2) .
هَل الْمَوْتُ لِلْبَدَنِ وَالرُّوحِ أَوْ لِلْبَدَنِ وَحْدَهُ؟
3 - نَصَّ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى
أَنَّ الأَْرْوَاحَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقِيَةٌ غَيْرُ فَانِيَةٍ إِمَّا
فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ وَإِمَّا فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ (3) قَال فِي
الإِْحْيَاءِ: الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ طُرُقُ الاِعْتِبَارِ وَتَنْطِقُ بِهِ
الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ أَنَّ الْمَوْتَ مَعْنَاهُ تَغَيُّرُ حَالٍ
فَقَطْ وَأَنَّ الرُّوحَ بَاقِيَةٌ
__________
(1) حديث " إن الروح إذا قبض. . . ". أخرجه مسلم (2 / 634 - ط عيسى الحلبي)
من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2) حديث: " إذا حضرتم موتاكم. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 468) من حديث
شداد بن أوس رضي الله عنه، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 261
- ط دار الجنان) .
(3) الروح لابن القيم ص 50، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 121،
وإحياء علوم الدين 4 / 422، ومجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 292، 296، ولوامع
الأنوار البهية للسفاريني 2 / 25، وأسنى المطالب 1 / 297، وفتح الباري 3 /
233، ومغني المحتاج 1 / 329.
(39/249)
بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْجَسَدِ إِمَّا
مُعَذَّبَةٌ وَإِمَّا مُنَعَّمَةٌ (1) . قَال الزُّبَيْدِيُّ: وَهَذَا
قَوْل أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفُقَهَاءِ الْحِجَازِ
وَالْعِرَاقِ وَمُتَكَلِّمِي الصِّفَاتِيَّةِ (2) .
وَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَدُ بْنُ قُدَامَةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي
تَدُل عَلَيْهِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ أَنَّ الرُّوحَ تَكُونُ بَعْدَ
الْمَوْتِ بَاقِيَةً إِمَّا مُعَذَّبَةً أَوْ مُنَعَّمَةً فَإِنَّ الرُّوحَ
قَدْ تَتَأَلَّمُ بِنَفْسِهَا بِأَنْوَاعِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ
وَتَتَنَعَّمُ بِأَنْوَاعِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ
لَهَا بِالأَْعْضَاءِ فَكُل مَا هُوَ وَصْفٌ لِلرُّوحِ بِنَفْسِهَا يَبْقَى
مَعَهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْجَسَدِ وَكُل مَا لَهَا بِوَاسِطَةِ
الأَْعْضَاءِ يَتَعَطَّل بِمَوْتِ الْجَسَدِ إِلَى أَنْ تُعَادَ الرُّوحُ
إِلَى الْجَسَدِ (3) .
وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لاَ تَنْعَدِمُ بِالْمَوْتِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَل أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (4) حَيْثُ قَال
عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ: جَعَل اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي
أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُل مِنْ
ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيل مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِل الْعَرْشِ (5)
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 421.
(2) إتحاف السادة المتقين 10 / 376.
(3) مختصر منهاج القاصدين ص 499، 500.
(4) سورة آل عمران / 169.
(5) حديث " جعل الله أرواحهم في أجواف طير. . . ". أخرجه أحمد (1 / 266 - ط
الميمنية) ، والحاكم في المستدرك (2 / 88 - ط دار الكتاب العربي) من حديث
ابن عباس، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(39/249)
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْل الْجَنَّةِ
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّارِ فَمِنْ أَهْل النَّارِ يُقَال: هَذَا
مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1)
فَدَل ذَلِكَ عَلَى نَعِيمِ الأَْرْوَاحِ وَعَذَابِهَا بَعْدَ
الْمُفَارَقَةِ إِلَى أَنْ يُرْجِعَهَا اللَّهُ فِي أَجْسَادِهَا وَلَوْ
مَاتَتِ الأَْرْوَاحُ لاَنْقَطَعَ عَنْهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ. (2)
وَقَدْ أَوْرَدَ الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ تَوْضِيحًا لِحَال الرُّوحِ
وَحَيَاتِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْبَدَنِ فَقَال: هَذِهِ الرُّوحُ لاَ تَفْنَى
الْبَتَّةَ وَلاَ تَمُوتُ بَل يَتَبَدَّل بِالْمَوْتِ حَالُهَا فَقَطْ
وَيَتَبَدَّل مَنْزِلُهَا فَتَنْتَقِل مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ،
وَالْقَبْرُ فِي حَقِّهَا إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ
حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ، إِذًا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَعَ الْبَدَنِ
عَلاَقَةٌ سِوَى اسْتِعْمَالِهَا الْبَدَنَ وَاقْتِنَاصِهَا أَوَائِل
الْمَعْرِفَةِ بِهِ بِوَاسِطَةِ شَبَكَةِ الْحَوَاسِّ فَالْبَدَنُ آلَتُهَا
وَمَرْكَبُهَا
__________
(1) حديث " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 243 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2199 - ط عيسى الحلبي) ، واللفظ
لمسلم.
(2) الروح لابن القيم ص 50.
(39/250)
وَشَبَكَتُهَا وَبُطْلاَنُ الآْلَةِ
وَالْمَرْكَبِ وَالشَّبَكَةِ لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ الصَّائِدِ (1) .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الرُّوحَ تَفْنَى وَتَمُوتُ بِمَوْتِ
الْجَسَدِ لأَِنَّهَا نَفْسٌ (2) وَقَدْ قَال تَعَالَى: {كُل نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (3) . قَال الزُّبَيْدِيُّ: وَقَدْ قَال بِهَذَا
الْقَوْل جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الأَْنْدَلُسِ قَدِيمًا مِنْهُمْ عَبْدُ
الأَْعْلَى بْنُ وَهْبِ بْنِ لُبَابَةَ وَمِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ
كَالسُّهَيْلِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ (4) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَال: مَوْتُ النُّفُوسِ
هُوَ مُفَارَقَتُهَا لأَِجْسَادِهَا وَخُرُوجُهَا مِنْهَا فَإِنْ أُرِيدَ
بِمَوْتِهَا هَذَا الْقَدْرُ فَهِيَ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنْ أُرِيدَ
بِأَنَّهَا تَعْدَمُ وَتَضْمَحِل وَتَصِيرُ عَدَمًا مَحْضًا فَهِيَ لاَ
تَمُوتُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ بَل هِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ خَلْقِهَا فِي
نَعِيمٍ أَوْ فِي عَذَابٍ (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّوحُ:
4 - ذَهَبَ أَهْل السُّنَّةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ
__________
(1) الأربعين في أصول الدين للغزالي ص 276.
(2) الروح ص 50.
(3) سورة آل عمران / 185.
(4) إتحاف السادة المتقين 10 / 377.
(5) الروح ص 50.
(39/250)
وَالْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّ الرُّوحَ
(1) جِسْمٌ لَطِيفٌ مُتَخَلِّلٌ فِي الْبَدَنِ تَذْهَبُ الْحَيَاةُ
بِذَهَابِهِ، وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ جِسْمٌ لَطِيفٌ
مُشْتَبِكٌ بِالْبَدَنِ اشْتِبَاكَ الْمَاءِ بِالْعُودِ الأَْخْضَرِ،
وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ عَرَفَةَ الْمَالِكِيُّ وَنَقَلاَ
تَصْحِيحَهُ عَنْ أَصْحَابِهِمْ (2) .
وَقَال الْفَيُّومِيُّ: وَمَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ أَنَّ الرُّوحَ هُوَ
النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الْمُسْتَعِدَّةُ لِلْبَيَانِ وَفَهْمِ الْخِطَابِ
وَلاَ تَفْنَى بِفَنَاءِ الْجَسَدِ وَأَنَّهُ جَوْهَرٌ لاَ عَرَضٌ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ الرُّوحِ هِيَ التَّبَايُنُ.
ب - النَّفْسُ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْل السُّنَّةِ مِنْ فُقَهَاءَ وَمُحَدِّثِينَ
وَمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ الرُّوحُ.
يُقَال: خَرَجَتْ نَفْسُهُ، أَيْ رُوحُهُ، وَأَنَّهُ يُعَبَّرُ
__________
(1) قال الكفوي: الروح مؤنث إذا كان بمعنى
النفس، ومذكر إذا كان بمعنى المهجة. (الكليات 2 / 377) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية للغنيمي الميداني ص 115، ومغني المحتاج 1 / 329،
وحاشية القليوبي 1 / 320، وعارضة الأحوذي 11 / 289، والشرح الصغير للدردير
1 / 542، والكليات 2 / 373، 377، 4 / 348، 349، وكشاف اصطلاحات الفنون 1 /
540 - 548.
(3) المصباح المنير، وانظر الروح لابن القيم ص 286.
(39/251)
عَنِ النَّفْسِ بِالرُّوحِ وَبِالْعَكْسِ
(1) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الرُّوحُ الْمُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ الَّتِي
تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ هِيَ الرُّوحُ الْمَنْفُوخَةُ فِيهِ، وَهِيَ
النَّفْسُ الَّتِي تُفَارِقُهُ بِالْمَوْتِ. . . وَإِنَّمَا تُسَمَّى
نَفْسًا بِاعْتِبَارِ تَدْبِيرِهَا لِلْبَدَنِ، وَتَسَمَّى رُوحًا
بِاعْتِبَارِ لُطْفِهَا (2) .
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى
الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِل الأُْخْرَى إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى} (3) قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالأَْنْفُسُ هَاهُنَا هِيَ
الأَْرْوَاحُ قَطْعًا (4) .
وَتُقَسَّمُ النَّفْسُ إِلَى النَّفْسِ الأَْمَّارَةِ، وَاللَّوَّامَةِ،
وَالْمُطْمَئِنَّةِ (5) ، وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ النَّفْسَ
يُرَادُ بِهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ صِفَاتُهَا
__________
(1) الروح لابن القيم ص 286 وما بعدها، المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى (ط
دار المشرق) ص 95، وفتح الباري 3 / 233، ومجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 225،
ورسالة في العقل والروح 2 / 21، وبصائر ذوي التمييز 5 / 97، والكليات 4 /
348، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 1396، وما بعدها، والنظم المستعذب لابن
بطال 1 / 124.
(2) رسالة في العقل والروح 2 / 36، 37.
(3) سورة الزمر / 42.
(4) الروح لابن القيم ص 203.
(5) التعريفات للجرجاني ص 127، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 706،
وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 1402، ورسالة في العقل والروح 2 / 41.
(39/251)
الْمَذْمُومَةُ، فَيُقَال: فُلاَنٌ لَهُ
نَفْسٌ: أَيْ مَذْمُومَةُ الأَْحْوَال، وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّفْسَ
لَمَّا كَانَتْ حَال تَعَلُّقِهَا بِالْبَدَنِ يَكْثُرُ عَلَيْهَا
اتِّبَاعُ هَوَاهَا صَارَ لَفْظُ " النَّفْسِ " يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ
النَّفْسِ الْمُتَّبِعَةِ لِهَوَاهَا، أَوْ عَنِ اتِّبَاعِهَا الْهَوَى،
بِخِلاَفِ لَفْظِ " الرُّوحِ " فَإِنَّهُ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ
(1) .
وَقَال الْفَيُّومِيُّ: وَالنَّفْسُ أُنْثَى إِنْ أُرِيدَ بِهَا الرُّوحُ،
قَال تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (2) ، وَإِنْ أُرِيدَ
الشَّخْصُ فَمُذَكَّرٌ (3) .
وَحَكَى الْكَفَوِيُّ فِي الْكُلِّيَّاتِ أَنَّ الإِْنْسَانَ لَهُ
نَفْسَانِ: نَفْسٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَنَفْسٌ رُوحَانِيَّةٌ.
فَالنَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ لاَ تُفَارِقُهُ إِلاَّ بِالْمَوْتِ،
وَالنَّفْسُ الرُّوحَانِيَّةُ - الَّتِي هِيَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ - هِيَ
الَّتِي تُفَارِقُ الإِْنْسَانَ عِنْدَ النَّوْمِ، وَإِلَيْهَا
الإِْشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى
إِذَا أَرَادَ الْحَيَاةَ لِلنَّائِمِ رَدَّ عَلَيْهِ رُوحَهُ
فَاسْتَيْقَظَ، وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ أَمْسَكَ عَنْهُ
رُوحَهُ فَيَمُوتُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِل الأُْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَمَّا
النَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ فَلاَ تُفَارِقُ الإِْنْسَانَ بِالنَّوْمِ،
وَلِهَذَا يَتَحَرَّكُ النَّائِمُ، وَإِذَا
__________
(1) رسالة في العقل والروح 2 / 40.
(2) سورة النساء / 1.
(3) المصباح المنير.
(39/252)
مَاتَ فَارَقَهُ جَمِيعُ، ذَلِكَ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْمَوْتِ التَّبَايُنُ.
ج - الْحَيَاةُ:
6 - الْحَيَاةُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الْمَوْتِ، وَهِيَ فِي الإِْنْسَانِ
عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةٍ مِزَاجِيَّةٍ تَقْتَضِي الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ،
وَهِيَ الْمُوجِبَةُ لِتَحْرِيكِ مَنْ قَامَتْ بِهِ، وَمَفْهُومُهَا عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ: أَثَرُ مُقَارَنَةِ النَّفُوسِ لِلأَْبْدَانِ، وَإِنَّهَا
لَتَسْرِي فِي الإِْنْسَانِ تَبَعًا لِسَرَيَانِ الرُّوحِ فِي جَسَدِهِ.
وَحَكَى الْقَزْوِينِيُّ أَنَّ الرُّوحَ هِيَ الْحَيَاةُ، وَأَنَّ
الْحَيَاةَ عَرَضٌ يَقُومُ بِالْحَيِّ، فَمَتَى وُجِدَ فِيهِ يَكُونُ
حَيًّا، وَإِذَا عُدِمَ فِيهِ فَقَدْ حَصَل ضِدُّهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ (2)
.
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ أَنَّ " الْحَيَاةَ "
تُسْتَعْمَل عَلَى أَوْجُهٍ
الأَْوَّل: لِلْقُوَّةِ النَّامِيَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّبَاتِ
وَالْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ قِيل: نَبَاتٌ حَيٌّ، قَال تَعَالَى:
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُل شَيْءٍ حَيٍّ} (3) .
__________
(1) الكليات 4 / 349.
(2) التوقيف على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين لابن السيد
البطليوسي ص 122، ورسالة في العقل والروح لابن تيمية 2 / 47، والمعتمد لأبي
يعلى ص 97، 98، والفروق لأبي هلال العسكري 95، 96، 98، والكليات 2 / 264،
وكشاف اصطلاحات الفنون 1 / 398، ومفيد العلوم للقزويني ص 63.
(3) سورة الأنبياء / 30.
(39/252)
وَالثَّانِي: لِلْقُوَّةِ الْحَسَّاسَةِ،
وَبِهِ سُمِّيَ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا، قَال تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي
الأَْحْيَاءُ وَلاَ الأَْمْوَاتُ} (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلْقُوَّةِ الْعَالِمَةِ الْعَاقِلَةِ، كَقَوْلِهِ:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (2) .
وَالرَّابِعُ: عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِفَاعِ الْغَمِّ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّهِ
أَمْوَاتًا بَل أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (3) أَيْ هُمْ مُتَلَذِّذُونَ
لِمَا رُوِيَ فِي الأَْخْبَارِ الْكَثِيرَةِ عَنْ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ.
وَالْخَامِسُ: الْحَيَاةُ الأُْخْرَوِيَّةُ الأَْبَدِيَّةُ، وَقَدْ جَاءَ
ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (4)
يَعْنِي بِهَا الْحَيَاةَ الأُْخْرَوِيَّةَ الدَّائِمَةَ.
وَالسَّادِسُ: الْحَيَاةُ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْبَارِي تَعَالَى،
فَإِنَّهُ إِذَا قِيل فِيهِ سُبْحَانُهُ، هُوَ حَيٌّ، فَمَعْنَاهُ لاَ
يَصِحُّ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل.
ثُمَّ إِنَّ الْحَيَاةَ بِاعْتِبَارِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ ضَرْبَانِ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَالْحَيَاةُ الآْخِرَةُ. وَقَوْلُهُ
__________
(1) سورة فاطر / 22.
(2) سورة الأنعام / 122.
(3) سورة آل عمران / 169.
(4) سورة الفجر / 24.
(39/253)
عَزَّ وَجَل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ} (1) أَيْ يَرْتَدِعُ بِالْقِصَاصِ مَنْ يُرِيدُ الإِْقْدَامَ
عَلَى الْقَتْل، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ حَيَاةُ النَّاسِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَنَّهُمَا نَقِيضَانِ.
د - الأَْهْلِيَّةُ:
7 - الأَْهْلِيَّةُ شَرْعًا هِيَ كَوْنُ الإِْنْسَانِ بِحَيْثُ يَصِحُّ
أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ (3) ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا صِفَةٌ أَوْ
قَابِلِيَّةٌ يُقَدِّرُهَا الشَّارِعُ فِي الشَّخْصِ تَجْعَلُهُ مَحَلًّا
صَالِحًا لأَِنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْخِطَابُ التَّشْرِيعِيُّ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ الأَْهْلِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ
سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ انْعِدَامِ الأَْهْلِيَّةِ.
هـ - الذِّمَّةُ:
8 - الذِّمَّةُ كَمَا عَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ: وَصْفٌ يَصِيرُ
الشَّخْصُ بِهِ أَهْلاً لِلإِْيجَابِ لَهُ وَعَلَيْهِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ الذِّمَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ سَبَبٌ
مِنْ أَسْبَابِ انْعِدَامِ الذِّمَّةِ أَوْ ضَعْفِهَا أَوْ شَغْلِهَا.
__________
(1) سورة البقرة / 179.
(2) المفردات للراغب ص 268، وانظر نفس الكلام في بصائر ذوي التمييز 2 /
512، وما بعدها.
(3) فواتح الرحموت 1 / 156.
(4) كشف الأسرار للبخاري 4 / 1357، وتيسير التحرير 2 / 249.
(5) التعريفات للجرجاني ص 57.
(39/253)
أَقْسَامُ الْمَوْتِ
9 - الْمَوْتُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: حَقِيقِيٌّ،
وَحُكْمِيٌّ، وَتَقْدِيرِيٌّ.
فَأَمَّا الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ: فَهُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ
عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ وَالْيَقِينِ، وَيُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ،
وَيَثْبُتُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ.
وَأَمَّا الْمَوْتُ الْحُكْمِيُّ: فَهُوَ حُكْمٌ يَصْدُرُ مِنْ قِبَل
الْقَاضِي بِمَوْتِ شَخْصٍ مِنَ الأَْشْخَاصِ - وَإِنْ كَانَ لاَ يَزَال
حَيًّا - لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْمُرْتَدُّ إِذَا لَحِقَ
بِدَارِ الْحَرْبِ، وَصَدَرَ حُكْمُ الْقَاضِي بِلُحُوقِهِ بِهَا
مُرْتَدًّا، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَيِّتًا مِنْ حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ،
وَإِنْ كَانَ حَيًّا يُرْزَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَيُقْسَمُ مَالُهُ
بَيْنَ وَرَثَتِهِ (1) ، وَقَدْ عَلَّل ذَلِكَ السَّرْخَسِيُّ بِقَوْلِهِ:
لأَِنَّ الإِْمَامَ لَوْ ظَفِرَ بِهِ مَوَّتَهُ حَقِيقَةً، بِأَنَّ
يَقْتُلَهُ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِدُخُولِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ
مَوَّتَهُ حُكْمًا، فَقَسَمَ مَالَهُ (2) .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمَفْقُودُ (وَهُوَ الَّذِي
يُعْمَى خَبَرُهُ، وَيَنْقَطِعُ أَثَرُهُ، وَلاَ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ،
وَلاَ تُدْرَى حَيَاتُهُ وَلاَ مَوْتُهُ) إِذَا حَكَمَ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 10 / 103، 11 / 23، 15 / 108.
(2) المبسوط 11 / 38.
(39/254)
الْقَاضِي بِمَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا
تَرَجَّحَ لَدَيْهِ مِنَ الظُّرُوفِ وَقَرَائِنِ الأَْحْوَال، فَإِنَّهُ
يُعْتَبَرُ مَيِّتًا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: لأَِنَّ
هَذَا تَمْوِيتٌ، أَيْ حُكْمٌ بِالْمَوْتِ، لاَ مَوْتٌ حَقِيقَةً (1) ،
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ كَانَ حَيًّا فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ، دُونَ مَنْ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ (2) .
وَأَمَّا الْمَوْتُ التَّقْدِيرِيُّ: فَهُوَ لِلْجَنِينِ الَّذِي أُسْقِطَ
مَيِّتًا بِجِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ. كَمَا إِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ
امْرَأَةً، فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتِهِ الْغُرَّةُ (دِيَةُ الْجَنِينِ) وَهَذِهِ
الدِّيَةُ تَكُونُ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ
تَعَالَى، حَيْثُ يُقَدَّرُ حَيًّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَبْل الْجِنَايَةِ
ثُمَّ مَوْتُهُ مِنْهَا (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْتِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
انْتِهَاءُ الأَْهْلِيَّةِ وَخَرَابُ الذِّمَّةِ بِالْمَوْتِ
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَوْتَ هَادِمٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 479.
(2) الخرشي 4 / 151 وما بعدها، والمعونة للقاضي عبد الوهاب 2 / 820،
والمغني 11 / 247 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 2 / 479.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 310، والمغني 12 / 67، ومغني المحتاج 4 / 105،
وأسنى المطالب 4 / 89، 95، والخرشي 8 / 32 - 34، والمبسوط 15 / 108، وتحفة
المحتاج 7 / 39، وبدائع الصنائع 7 / 326.
(39/254)
لأَِسَاسِ التَّكْلِيفِ، لأَِنَّهُ عَجْزٌ
كُلُّهُ عَنْ إِتْيَانِ الْعِبَادَاتِ أَدَاءً وَقَضَاءً، وَلأَِنَّ
الْمَيِّتَ قَدْ ذَهَبَ مِنْ دَارِ الاِبْتِلاَءِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ
(1) ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: إِنَّ الْمَوْتَ يُنَافِي أَحْكَامَ الدُّنْيَا
مِمَّا فِيهِ تَكْلِيفٌ، لأَِنَّ التَّكْلِيفَ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ
وَالْمَوْتُ عَجْزٌ كُلُّهُ (2) .
وَحَيْثُ إِنَّ الذِّمَّةَ خَاصَّةٌ مِنَ الْخَصَائِصِ الإِْنْسَانِيَّةِ
فَإِنَّهَا تَبْدَأُ مَعَ الشَّخْصِ مُنْذُ الْحَمْل بِهِ، وَتَبْقَى
مَعَهُ طِيلَةَ حَيَاتِهِ، فَإِذَا مَاتَ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ وَانْتَهَتْ
أَهْلِيَّتُهُ.
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا هَل تَخْرَبُ الذِّمَّةُ
وَتَنْتَهِي فَوْرًا بِمُجَرَّدِ حُصُول الْمَوْتِ، أَمْ أَنَّ الْمَوْتَ
يُضْعِفُهَا، أَمْ أَنَّهَا تَبْقَى كَمَا هِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى
تُسْتَوْفَى الْحُقُوقُ مِنَ التَّرِكَةِ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ
مَذَاهِبَ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي (ذِمَّةٌ ف 6 - 9) .
انْقِطَاعُ الْعَمَل بِالْمَوْتِ وَمَدَى انْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِسَعْيِ
الأَْحْيَاءِ
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي انْقِطَاعِ عَمَل ابْنِ آدَمَ
بِمَوْتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، لأَِنَّ الْمَوْتَ عَجْزٌ كَامِلٌ عَنْ
إِتْيَانِ الْعِبَادَاتِ أَدَاءً وَقَضَاءً، وَلأَِنَّ الْمَيِّتَ قَدِ
ارْتَحَل مِنْ دَارِ الاِبْتِلاَءِ وَالتَّكْلِيفِ
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 175.
(2) فتح الغفار شرح المنار 3 / 98.
(39/255)
إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ (1) ، وَلَكِنَّهُ
يَنْتَفِعُ بِمَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ
(2) ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ
انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ
جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ
(3) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ
وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا
صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ،
أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيل بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ
صَدَقَةً أَخَرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ (4) وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ
أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ
مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً
سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ
__________
(1) فواتح الرحموت 1 / 175.
(2) الروح لابن القيم ص 163.
(3) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عمله. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1255 - ط
عيسى الحلبي) .
(4) حديث: " إن مما يلحق المؤمن. . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 88 - 89، ط عيسى
الحلبي) ، وابن خزيمة (4 / 121 - ط المكتب الإسلامي) . وقال البوصيري في
مصباح الزجاجة: (1 / 80 - ط دار الجنان) : هذا إسناد مختلف فيه.
(39/255)
مَنْ عَمِل بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ (1) .
أَمَّا انْتِفَاعُهُ بِغَيْرِ مَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ
عَمَلٍ صَالِحٍ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
أَمْرَيْنِ:
أ - دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَاسْتِغْفَارُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ قَال
النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِلأَْمْوَاتِ
يَنْفَعُهُمْ وَيَصِلُهُمْ ثَوَابُهُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ} (2) ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ الْمَشْهُورَةِ بِمَعْنَاهَا، وَبِالأَْحَادِيثِ
الْمَشْهُورَةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لأَِهْل بَقِيعِ الْغَرْقَدِ (3) وَكَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا (4) .
__________
(1) حديث: " من سن في الإسلام سنَّة حسنة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 705 - ط
عيسى الحلبي) .
(2) سورة الحشر / 10.
(3) حديث: " الًّلهم اغفر لأهل البقيع ". أخرجه مسلم (2 / 669 - ط عيسى
الحلبي) ضمن حديث طويل.
(4) حديث: " اللهم اغفر لحينا وميتنا ". أخرجه أبو داود (3 / 539 - ط حمص)
، والنسائي (4 / 74 - ط المكتبة التجارية) ، والترمذي (3 / 335 - ط مصطفى
الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(39/256)
ب - مَا جَعَل الأَْحْيَاءُ ثَوَابَهُ
لِلْمَيِّتِ مِنَ الأَْعْمَال الأُْخْرَى كَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ
وَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا
وَوُصُولِهِ لِلْمَيِّتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَدَاءٌ ف 14، وَقِرَاءَةٌ ف 18
وَقُرْبَةٌ ف 11) .
السَّلاَمُ عَلَى الْمَوْتَى وَرَدُّهُمْ
12 - وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَال: مَا مِنْ أَحَدٍ مَرَّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ
يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إِلاَّ عَرَفَهُ وَرَدَّ
عَلَيْهِ السَّلاَمَ (1) وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلَى بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبٍ، ثُمَّ
جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ: يَا فُلاَنُ
ابْنُ فُلاَنٍ، وَيَا فُلاَنُ ابْنُ فُلاَنٍ، هَل وَجَدْتُمْ مَا
وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي
حَقًّا، فَقَال لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُول اللَّهِ، مَا تُخَاطِبُ مِنْ
أَقْوَامٍ قَدْ جَيَّفُوا، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُول
مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا (2) وَوَرَدَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " ما من أحد مر بقبر. . . ". أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (2
/ 165 - ط دار قتيبة - دمشق) من حديث ابن عباس وقال صاحب عون المعبود: صح
عن ابن عباس مرفوعًا.
(2) حديث: " أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 7 / 300 - ط السلفية) من حديث أبي طلحة رضي الله عنه، ومسلم (4 /
2203 - ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(39/256)
أَنَّهُ قَال: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا
وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ
قَرْعَ نِعَالِهِمْ (1) وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّلاَمِ عَلَى الْمَوْتَى، حَيْثُ جَاءَ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إِذَا
زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْل
الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ بِكَمْ لَلاَحِقُونَ (2) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِل،
وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ
الْمَعْدُومِ وَالْجَمَادِ، وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ
تَوَاتَرَتِ الآْثَارُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ زِيَارَةَ الْحَيِّ
لَهُ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِ (3) .
وَجَاءَ فِي فَتَاوَى الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الْمَيِّتَ يَعْرِفُ الزَّائِرَ، لأَِنَّا أُمِرْنَا بِالسَّلاَمِ
عَلَيْهِمْ، وَالشَّرْعُ لاَ يَأْمُرُ بِخِطَابِ مَنْ لاَ يَسْمَعُ (4) .
__________
(1) حديث: " إن العبد إذا وضع في قبره. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2200 - 2201
- ط عيسى الحلبي) ضمن حديث طويل عن أنس رضي الله عنه.
(2) حديث: " السلام على أهل الديار من المؤمنين. . . ". أخرجه مسلم (2 /
669 - ط عيسى الحلبي) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(3) الروح ص 7، 8.
(4) فتاوى العز بن عبد السلام ص 44.
(39/257)
عَوْدَةُ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى فِي
الْحَيَاةِ الْبَرْزَخِيَّةِ
13 - الْمُرَادُ بِالْبَرْزَخِ هَاهُنَا: الْحَاجِزُ بَيْنَ الدُّنْيَا
وَالآْخِرَةِ، قَال الْعُلَمَاءُ: وَلَهُ زَمَانٌ وَمَكَانٌ وَحَالٌ،
فَزَمَانُهُ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَالُهُ
الأَْرْوَاحُ، وَمَكَانُهُ مِنَ الْقَبْرِ إِلَى عِلِّيِّينَ لأَِرْوَاحِ
أَهْل السَّعَادَةِ، أَمَّا أَهْل الشَّقَاوَةِ فَلاَ تُفْتَحُ
لأَِرْوَاحِهِمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بَل هِيَ فِي سِجِّينٍ مَسْجُونَةٍ،
وَبِلَعْنَةِ اللَّهِ مَصْفُودَةٌ (1) ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهُ
يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ اسْمٌ
لِعَذَابِ، الْبَرْزَخِ وَنَعِيمِهِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا
وَالآْخِرَةِ (2) . قَال تَعَالَى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (3) .
هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السُّؤَال فِي الْقَبْرِ، هَل
يَقَعُ عَلَى الْبَدَنِ أَمْ عَلَى الرُّوحِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَعًا،
وَذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ (4) :
الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنَّ
__________
(1) شرح الخريدة للدردير وحاشية السباعي المالكي عليه ص 325 - ط هجر.
(2) الروح ص 103 - 105.
(3) سورة المؤمنين / 100.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 292، 296، والروح ص 62، 63، وإتحاف السادة
المتقين 10 / 377، وشرح عقيدة أهل السنة للبابرتي ص 127، 128، وشرح العقيدة
الطحاوية للغنيمي ص 116، والنووي على مسلم 17 / 200، 201، وفتح الباري 3 /
235، وشرح الخريدة وحاشية السباعي ص 325، 326، والمعتمد لأبي يعلى ص 178.
(39/257)
الرُّوحَ تُعَادُ إِلَى الْجَسَدِ أَوْ
بَعْضِهِ، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْمَيِّتِ قَدْ تَتَفَرَّقُ
أَجَزَاؤُهُ، لأَِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْحَيَاةَ إِلَى
جُزْءٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَيَقَعُ عَلَيْهِ السُّؤَال، كَمَا هُوَ قَادِرٌ
عَلَى أَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُ، قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ تَرْجِعَ الرُّوحُ فِي حَالٍ آخَرَ وَأَمْرٍ ثَانٍ،
وَبِعَوْدِهَا يَرْجِعُ الْمَيِّتُ حَيًّا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ
بِحَيَاةِ الْقَبْرِ عِنْدَ إِتْيَانِ الْمَلَكَيْنِ لِلسُّؤَال، فَإِذَا
رُدَّتْ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ، لِلْجِسْمِ وَالرُّوحِ، تَبِعَتْهَا
الإِْدْرَاكَاتُ الْمَشْرُوطَةُ بِهَا، فَيَتَوَجَّهُ حِينَئِذٍ عَلَى
الْمَيِّتِ السُّؤَال، وَيُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجَوَابُ (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: عَوْدُ الرُّوحِ إِلَى بَدَنِ الْمَيِّتِ فِي
الْقَبْرِ لَيْسَ مِثْل عَوْدِهَا إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ أَكْمَل مِنْ بَعْضِ
الْوُجُوهِ، كَمَا أَنَّ النَّشْأَةَ الأُْخْرَى لَيْسَ مِثْل هَذِهِ
النَّشْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْمَل مِنْهَا، بَل كُل مَوْطِنٍ فِي هَذِهِ
الدَّارِ وَفِي الْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ لَهُ حُكْمٌ يَخُصُّهُ (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ فِي
الْقَبْرِ لِلْمَسْأَلَةِ لَيْسَتِ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ
الْمَعْهُودَةَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الرُّوحُ
بِالْبَدَنِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَتَحْتَاجُ إِلَى مَا
__________
(1) الفتاوى الحديثية ص 121.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 274.
(39/258)
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الأَْحْيَاءُ، بَل هِيَ
مُجَرَّدُ إِعَادَةٍ لِفَائِدَةِ الاِمْتِحَانِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ
الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَهِيَ إِعَادَةٌ عَارِضَةٌ (1) .
الثَّانِي: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالْغَزَالِيِّ: وَهُوَ التَّوَقُّفُ. قَال
الْغُنَيْمِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْل الْحَقِّ اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي الْمَيِّتِ نَوْعَ حَيَاةٍ فِي
الْقَبْرِ، قَدْرَ مَا يَتَأَلَّمُ وَيَلْتَذُّ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي
أَنَّهُ هَل تُعَادُ الرُّوحُ إِلَيْهِ أَمْ لاَ؟
وَالْمَنْقُول عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ التَّوَقُّفُ (2) ، وَقَال
الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَبْعُدُ أَنْ تُعَادَ الرُّوحُ إِلَى الْجَسَدِ فِي
الْقَبْرِ، وَلاَ يَبْعُدُ أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ (3) .
الثَّالِثُ: لاِبْنِ جَرِيرٍ وَجَمَاعَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى
الْبَدَنِ فَقَطْ، وَأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهِ إِدْرَاكًا بِحَيْثُ
يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ وَيَلْتَذُّ وَيَأْلَمُ.
الرَّابِعُ: لاِبْنِ هُبَيْرَةَ وَغَيْرِهِ: وَهُوَ أَنَّ السُّؤَال يَقَعُ
عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ عَوْدٍ إِلَى الْجَسَدِ (4) .
14 - وَقَدْ تَفَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ الْخِلاَفِ اخْتِلاَفُ
__________
(1) فتح الباري 3 / 240.
(2) شرح الغنيمي الميداني على العقيدة الطحاوية ص 117.
(3) إحياء علوم الدين 4 / 421.
(4) المراجع السابقة.
(39/258)
الْعُلَمَاءِ فِي نَعِيمِ الْقَبْرِ
وَعَذَابِهِ فِي الْحَيَاةِ الْبَرْزَخِيَّةِ، هَل يَقَعُ عَلَى الرُّوحِ
فَقَطْ أَمْ عَلَى الْجَسَدِ أَمْ عَلَى كِلَيْهِمَا؟
فَذَهَبَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَالْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ التَّنْعِيمَ
وَالتَّعْذِيبَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الرُّوحِ وَحْدَهَا (1) .
وَقَال جُمْهُورُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ
وَالْفُقَهَاءِ: هُوَ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَسَدِ (2) . قَال النَّوَوِيُّ:
النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ لِلْجَسَدِ بِعَيْنِهِ أَوْ بَعْضِهِ بَعْدَ
إِعَادَةِ الرُّوحِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ (3) ، وَقَال ابْنُ
تَيْمِيَّةَ: الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ
جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، تُنَعَّمُ
النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْبَدَنِ، وَتُعَذَّبُ
مُتَّصِلَةً بِالْبَدَنِ، وَالْبَدَنُ مُتَّصِلٌ بِهَا، فَيَكُونُ
النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْحَال مُجْتَمِعَيْنِ،
كَمَا يَكُونُ لِلرُّوحِ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْبَدَنِ (4) .
وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَدَّ الرُّوحُ إِلَيْهِ، وَيَحُسُّ بِالأَْلَمِ
__________
(1) شرح الخريدة للدردير وحاشية السباعي عليه ص 325، والأربعين في أصول
الدين للغزالي ص 282، ومجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 262، 283، ولوامع الأنوار
البهية للسفاريني 2 / 24، 26.
(2) لوامع الأنوار البهية 2 / 24، والروح لابن القيم ص 73، 74 وفتاوى ابن
حجر العسقلاني 4 / 41.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 17 / 201.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 282.
(39/259)
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَيٍّ (1) .
مُسْتَقَرُّ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ
15 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ جَعَل الدُّورَ ثَلاَثًا: دَارَ
الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ، وَجَعَل لِكُل دَارٍ
أَحْكَامًا تَخْتَصُّ بِهَا، وَرَكَّبَ هَذَا الإِْنْسَانَ مِنْ بَدَنٍ
وَرُوحٍ، وَجَعَل أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الأَْبْدَانِ وَالأَْرْوَاحِ
تَبَعًا لَهَا، وَلِهَذَا جَعَل أَحْكَامَهُ الشَّرْعِيَّةَ مُرَتَّبَةً
عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، وَإِنْ
أَضْمَرَتِ النَّفُوسُ خِلاَفَهُ، وَجَعَل أَحْكَامَ الْبَرْزَخِ عَلَى
الأَْرْوَاحِ، وَالأَْبْدَانُ تَبَعًا لَهَا، فَكَمَا تَبِعَتِ
الأَْرْوَاحُ الأَْبْدَانَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَتَأَلَّمَتْ
بِأَلَمِهَا وَالْتَذَّتْ بِرَاحَتِهَا، فَإِنَّ الأَْبْدَانَ تَتْبَعُ
الأَْرْوَاحَ فِي أَحْكَامِ الْبَرْزَخِ فِي نَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا (2)
حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُعِيدَتِ الأَْرْوَاحُ إِلَى
الأَْجْسَادِ، وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (3) .
وَالْبَرْزَخُ هُوَ أَوَّل دَارِ الْجَزَاءِ، وَعَذَابُ الْبَرْزَخِ
وَنَعِيمُهُ أَوَّل عَذَابِ الآْخِرَةِ وَنَعِيمِهَا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ
مِنْهُ، وَوَاصِلٌ إِلَى أَهْل الْبَرْزَخِ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعِيمِ
__________
(1) المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى ص 178.
(2) الروح لابن القيم ص 91 بتصرف.
(3) الروح ص 74.
(39/259)
الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ بَعْدَ سُؤَال
الْمَلَكَيْنِ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ - فِي حَقِّ
الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ - أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَافْرُشُوهُ مِنَ
الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ
الْجَنَّةِ. قَال: فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْتَحُ لَهُ
فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ.
أَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ
كَذَبَ، فَافْرُشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ،
وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ. قَال: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا
وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ
أَضْلاَعُهُ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُسْتَقَرِّ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى مَا
بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَل هِيَ فِي السَّمَاءِ أَمْ
فِي الأَْرْضِ، وَهَل هِيَ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَمْ لاَ، وَهَل
تُودَعُ فِي أَجْسَادٍ أَمْ تَكُونُ مُجَرَّدَةً؟ فَهَذِهِ مِنَ
الْمَسَائِل الْعِظَامِ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا النَّاسُ، وَهِيَ إِنَّمَا
تُتَلَقَّى مِنَ السَّمْعِ فَقَطْ (2) .
__________
(1) حديث: " نعيم القبر وعذابه. . ". أخرجه أبو داود (5 / 114 - ط حمص) ،
والحاكم (1 / 38 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث البراء بن عازب.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 4 / 295 وما بعدها، والروح لابن القيم ص 129 -
159، والمعتمد لأبي يعلى ص 99، ولوامع الأنوار البهية 2 / 46 وما بعدها،
وفتاوى العز بن عبد السلام ص 44، وقواعد الأحكام للعز ص 697، 698.
(39/260)
قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ
أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ، وَأَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فِي
سِجِّينٍ، وَلِكُل رُوحٍ اتِّصَالٌ، وَهُوَ اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ لاَ
يُشْبِهُ الاِتِّصَال فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بَل أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ
حَال النَّائِمِ انْفِصَالاً، وَشَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِالشَّمْسِ، أَيْ
بِشُعَاعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَجْمَعُ مَا افْتَرَقَ مِنَ الأَْخْبَارِ
أَنَّ مَحَل الأَْرْوَاحِ فِي عِلِّيِّينَ وَفِي سِجِّينٍ، وَمِنْ كَوْنِ
أَفْنِيَةِ الأَْرْوَاحِ عِنْدَ أَفْنِيَةِ قُبُورِهِمْ، كَمَا نَقَلَهُ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْجُمْهُورِ (1) .
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْمُتَوَفَّى:
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ:
16 - الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ: هِيَ مَا تَسْتَحِيل فِي
النِّهَايَةِ إِلَى مَالٍ مِثْل الدُّيُونِ فِي ذِمَمِ الْغُرَمَاءِ،
وَحَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَحَقُّ حَبْسِ
الرَّهْنِ لاِسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَحَقُّ الدِّيَةِ وَالأَْرْشِ فِي
الأَْطْرَافِ وَحُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - الدُّيُونُ فِي ذِمَّةِ الْغُرَمَاءِ
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ تَأْثِيرِ مَوْتِ
__________
(1) فتاوى الحافظ ابن حجر العسقلاني (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 4
/ 40) .
(39/260)
الدَّائِنِ عَلَى الدُّيُونِ الَّتِي
وَجَبَتْ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْغُرَمَاءِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِل إِلَى
وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ الأَْمْوَال الَّتِي تَرَكَهَا، لأَِنَّ الدُّيُونَ
فِي الذِّمَمِ أَمْوَالٌ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِاعْتِبَارِهَا تَؤُول
إِلَى مَالٍ عِنْدَ الاِسْتِيفَاءِ (1) .
18 - وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنَ نَفَقَةِ
الزَّوْجَةِ، سَوَاءٌ تَقَرَّرَ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي،
وَقَالُوا إِنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّ
النَّفَقَةَ صِلَةٌ، وَالصِّلاَتُ عِنْدَهُمْ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ
بِالتَّسْلِيمِ، وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ، إِلاَّ إِذَا
اسْتَدَانَتِ النَّفَقَةَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، فَعِنْدَئِذٍ لاَ تَسْقُطُ
بِمَوْتِهَا، بَل تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهَا، وَكَذَلِكَ دَيْنُ نَفَقَةِ
الأَْقَارِبِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عِنْدَهُمْ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَ لَهُ
قَبْل قَبْضِهِ، لأَِنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ كِفَايَةً
لِلْحَاجَةِ. . . إِلاَّ إِذَا أَذِنَ الْقَاضِي لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ
بِالاِسْتِدَانَةِ وَاسْتَدَانَ، فَعِنْدَئِذٍ لاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ،
بَل تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ
أَيْضًا فِي دَيْنِ نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ. (2)
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 354، وفتح القدير 5 / 250، ومجموع فتاوى
ابن تيمية 20 / 513، وبدائع الفوائد 4 / 123، والقياس لابن تيمية ص 11 وما
بعدها.
(2) الهداية مع فتح القدير 4 / 394، والمبسوط للسرخسي 10 / 81، ورد المحتار
3 / 635، وكشاف القناع 4 / 484، والمغني 7 / 578، والبحر الرائق 4 / 205،
234.
(39/261)
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ
دَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ دَيْنٌ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ وَجَبَ بِالتَّرَاضِي
أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهَا قَبْل تَسَلُّمِهِ،
بَل يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ، أَمَّا نَفَقَةُ
الأَْقَارِبِ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ وَسَدِّ
الْخَلَّةِ، وَهِيَ مُجَرَّدُ إِمْتَاعٍ فَلاَ تَصِيرُ دَيْنًا إِلاَّ
إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي، فَحِينَئِذٍ تَثْبُتُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ،
وَلاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْل قَبْضِهَا، بَل تَنْتَقِل إِلَى
وَرَثَتِهِ (1) .
19 - وَالدُّيُونُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَنْتَقِل إِلَى
الْوَرَثَةِ بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا حَال حَيَاةِ
الدَّائِنِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا حَالًّا انْتَقَل إِلَى الْوَرَثَةِ
حَالاً، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُؤَجَّلاً أَوْ مُقَسَّطًا انْتَقَل كَمَا
هُوَ مُؤَخَّرًا إِلَى أَجَلِهِ، حَيْثُ إِنَّ الأَْجَل عِنْدَهُمْ لاَ
يَسْقُطُ بِمَوْتِ الدَّائِنِ (2) .
وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ
__________
(1) الأم 5 / 89، وأسنى المطالب 3 / 432، ونهاية المحتاج 7 / 191، وشرح
الخرشي 4 / 195، ومنح الجليل 3 / 136، وكشاف القناع 4 / 469، والمغني 7 /
578.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 357، ورد المحتار 4 / 532، والأم 3 /
212، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 356، 357، وحاشية الدسوقي على الشرح
الكبير 3 / 239، والخرشي 5 / 267، والمنتقى للباجي 5 / 86، والقواعد لابن
رجب ص 343.
(39/261)
كُل مَنْ مَاتَ وَلَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ،
فَإِنَّهُ يَنْتَقِل بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَتِهِ حَالًّا، وَيَبْطُل
الأَْجَل بِوَفَاتِهِ (1) .
ثَانِيًا - الدِّيَةُ وَأَرْشُ الأَْطْرَافِ:
20 - الدِّيَةُ وَالأَْرْشُ كِلاَهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ
لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَدَل الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ الدِّيَةَ عَلَى الْمَال الَّذِي هُوَ بَدَل
النَّفْسِ، وَالأَْرْشَ عَلَى الْمَال الْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ
النَّفْسِ مِنَ الأَْطْرَافِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا، أَرْشٌ ف 1) .
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ الدِّيَةَ وَالأَْرْشَ تَكُونَانِ عَلَى
الْجَانِي فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ،
وَلَكِنْ إِذَا حَدَثَ أَنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ
الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَا وَجَبَ لَهُ الْحَقُّ فِي
الأَْرْشِ، فَمَا هُوَ مُصِيرُ هَذَا الْحَقِّ هَل يُعْتَبَرُ مِلْكًا
لَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِ، بِحَيْثُ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ
وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ
لِوَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمْ أَنَّهُ يَسْقُطُ
حَقُّهُ فِي تَمَلُّكِهِ، وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ دُونَهُ، بِحَيْثُ لاَ
تُوَفَّى مِنْهُ دُيُونُهُ وَلاَ يُنَفَّذُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ وَصَايَاهُ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) المحلي 8 / 84، 85.
(39/262)
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَالٌ
يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، لأَِنَّهَا بَدَل نَفْسِهِ، وَنَفْسُهُ
لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا، وَلأَِنَّ بَدَل أَطْرَافِهِ فِي حَال
حَيَاتِهِ لَهُ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَجُوزُ
تَجَدُّدُ الْمِلْكِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً
وَنَحْوَهَا فَسَقَطَ بِهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ. . . وَعَلَى ذَلِكَ:
فَإِنَّهُ تُسَدَّدُ مِنْهَا دُيُونُهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ،
وَتُقْضَى مِنْهَا سَائِرُ حَوَائِجِهِ مِنْ تَجْهِيزٍ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ
مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ حَسَبَ
قَوَاعِدِ الإِْرْثِ (1) .
وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَشَدَ النَّاسَ بِمِنًى: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنَ الدِّيَةِ أَنْ يُخْبِرَنِي، فَقَامَ الضَّحَّاكُ بْنُ
سُفْيَانَ الْكِلاَبِيُّ فَقَال: كَتَبَ إِلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ
الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. . . فَقَضَى عُمَرُ بِذَلِكَ. قَال
ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَشْيَمُ قُتِل خَطَأً " (2) .
__________
(1) العقود الدرية لابن عابدين 2 / 253، ورد المحتار 6 / 759، ونهاية
المحتاج وحاشية الشبرامسلي عليه 6 / 3، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 4
/ 35، ومواهب الجليل 6 / 255، وحاشية الدسوقي 4 / 234، والمغني 8 / 548،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 558، ومعالم السنن للخطابي 4 / 190.
(2) أثر: أن عمر بن الخطاب نشد الناس بمنى. أخرجه مالك في الموطأ (2 / 866
- 867 - ط الحلبي) ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 352) عن ابن القطان أنه
أعله بالانقطاع بين عمر والراوي عنه وهو سعيد ابن المسيب.
(39/262)
قَال الْبَاجِيُّ: اقْتَضَى ذَلِكَ
تَعَلُّقَ هَذَا الْحُكْمِ بِقَتْل الْخَطَأِ، إِلاَّ أَنَّ دِيَةَ
الْعَمْدِ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ عَلَى
ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلِمْنَاهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَأَنَّهَا كَسَائِرِ مَال الْمَيِّتِ،
يَرِثُ مِنْهَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالإِْخْوَةُ لِلأُْمِّ
وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ
وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ (1) .
وَعَلَّقَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَثَرِ عُمَرَ وَقَضَائِهِ
بِقَوْلِهِ: وَلاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنْ يَرِثَ الدِّيَةَ فِي
الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَال الْمَيِّتِ،
لأَِنَّهَا تُمْلَكُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ، فَنُوَرِّثُ
الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْ وَرِثَ مَا سِوَاهَا مِنْ مَال
الْمَيِّتِ، وَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَقَدْ وَجَبَتْ
دِيَتُهُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَتْ لَهُ
حِصَّتُهُ مِنْ دِيَتِهِ، كَأَنَّ رَجُلاً جَنَى عَلَيْهِ فِي صَدْرِ
النَّهَارِ فَمَاتَ، وَمَاتَ ابْنٌ لَهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَأُخِذَتْ
دِيَةُ أَبِيهِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، فَمِيرَاثُ الاِبْنِ الَّذِي عَاشَ
بَعْدَهُ سَاعَةً قَائِمٌ فِي دِيَتِهِ، كَمَا يَثْبُتُ فِي دَيْنٍ لَوْ
كَانَ لأَِبِيهِ، وَكَذَلِكَ امْرَأَتُهُ
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 7 / 104.
(39/263)
وَغَيْرُهَا مِمَّنْ يَرِثُهُ إِذَا مَاتَ
(1) .
وَالثَّانِي: لإِِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ،
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ وَشَرِيكٍ
وَهُوَ أَنَّ الدِّيَةَ تَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، وَلاَ تَكُونُ
مِلْكًا لِلْمَيِّتِ أَصْلاً، إِذِ الْمَقْتُول لاَ تَجِبُ دِيَتُهُ إِلاَّ
بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ بَطَل مِلْكُهُ، وَلِهَذَا لاَ
يَصِحُّ أَنْ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ، وَلاَ أَنْ تُنَفَّذَ مِنْهَا
وَصَايَاهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي اسْتِدْلاَلِهِمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: أَنَّ
الدِّيَةَ مَالٌ حَدَثَ لِلأَْهْل بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ، وَلَمْ
يَرِثُوهُ عَنْهُ قَطُّ، إِذْ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي
حَيَاتِهِ، فَكَانَ مِنَ الْبَاطِل أَنْ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْ مَال
الْوَرَثَةِ الَّذِي لَمْ يَمْلِكْهُ هُوَ قَطُّ فِي حَيَاتِهِ، وَأَنْ
تُنَفَّذَ مِنْهُ وَصِيَّتُهُ. . . ثُمَّ إِنَّهُ بِالْمَوْتِ تَزُول
أَمْلاَكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ مِلْكٌ؟ وَلِهَذَا لاَ تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ مِنْ مَال الدِّيَةِ،
لأَِنَّ الْمَيِّتَ إِنَّمَا يُوصِي بِجُزْءٍ مِنْ مَالٍ لاَ بِمَال
وَرَثَتِهِ (2) .
ثَالِثًا - حُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ
21 - حَقُّ الاِرْتِفَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ حَقٍّ مُقَرَّرٍ عَلَى عَقَارٍ
لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِ مَالِكِ
__________
(1) الأم 6 / 88، 89.
(2) المحلي 10 / 490، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 321، والمغني 8 / 548،
549، والمبدع لبرهان الدين ابن مفلح 6 / 56.
(39/263)
الْعَقَارِ الأَْوَّل، وَتَشْمَل حُقُوقُ
الاِرْتِفَاقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: حَقَّ الشُّرْبِ، وَحَقَّ الْمَجْرَى،
وَحَقَّ الْمَسِيل، وَحَقَّ الْمُرُورِ، وَحَقَّ التَّعَلِّي، وَحَقَّ
الْجِوَارِ (1) .
وَحُقُوقُ الاِرْتِفَاقِ لَيْسَتْ بِمُفْرَدِهَا مَالاً عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهَا أُمُورٌ لاَ يُمْكِنُ حَوْزُهَا
وَادِّخَارُهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهَا
وَإِجَارَتِهَا وَهِبَتِهَا اسْتِقْلاَلاً، وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا
حُقُوقًا مَالِيَّةً لِتَعَلُّقِهَا بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ، وَمِنْ هُنَا
أَجَازُوا بَيْعَهَا تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَنْفَعَتِهِ.
أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فَقَدِ اعْتَبَرُوهَا مِنْ قَبِيل الأَْمْوَال،
وَأَجَازُوا - فِي الْجُمْلَةِ - بَيْعَهَا وَهِبَتَهَا اسْتِقْلاَلاً (2)
.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لاَ
تَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ، بَل تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ
تَبَعًا لِلْعَقَارِ الَّذِي ثَبَتَتْ لِمَصْلَحَتِهِ، لأَِنَّهُ حُقُوقٌ
مَالِيَّةٌ، فِيهَا مَعْنَى الْمَال، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْيَانٍ
مَالِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَلاَ تَأْثِيرَ لِلْمَوْتِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قِيل
إِنَّهَا أَمْوَالٌ ذَاتُهَا أَوْ حُقُوقٌ مُتَعَلِّقَةٌ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 148، وجامع الفصولين 1 / 65، ومنح الجليل 3 / 69.
(2) بدائع الصنائع 6 / 189، وتبيين الحقائق 6 / 43، وفتح القدير 6 / 428.
(39/264)
بِأَعْيَانٍ مَالِيَّةٍ (1) .
رَابِعًا - حُقُوقُ الْمُرْتَهِنِ:
22 - الرَّهْنُ هُوَ الْمَال الَّذِي يُجْعَل وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ،
لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ
عَلَيْهِ. وَبِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ
بِالرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ بِحَيْثُ إِذَا كَانَ عَلَى
الرَّاهِنِ دُيُونٌ أُخْرَى لاَ تَفِي بِهَا أَمْوَالُهُ، وَبِيعَ
الرَّهْنُ لِسَدَادِ مَا عَلَيْهِ، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ
دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ أَوَّلاً، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِبَقِيَّةِ
الْغُرَمَاءِ (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ لاَ تَبْطُل
بِمَوْتِهِ، بَل تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَالْمَيِّتُ
الَّذِي لَهُ دَيْنٌ بِهِ رَهْنٌ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ
بِرَهْنِهِ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ رَهْنًا عِنْدَهُمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا
سَائِرُ حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 567، والبدائع 6 / 192، وتبيين الحقائق 6 / 43، ونهاية
المحتاج 4 / 401، وأسنى المطالب 2 / 226، ومواهب الجليل 4 / 76، والفروق
للقرافي 3 / 275، والبهجة على التحفة 2 / 17، والقواعد لابن رجب ص 343.
(2) المغني 6 / 443، وشرح منتهى الإرادات 2 / 228، ورد المحتار 5 / 307،
وانظر م (701) من مجلة الأحكام العدلية وم (975) من مرشد الحيران.
(3) العقود الدرية لابن عابدين 2 / 238، والهداية وحواشيها 10 / 178، والأم
3 / 147، ومغني المحتاج 2 / 129، وحاشية الدسوقي 3 / 217، وتهذيب الفروق 3
/ 285، والقواعد لابن رجب ص 343.
(39/264)
23 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ إِذَا مَاتَ قَبْل قَبْضِ
الرَّهْنِ، هَل تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ أَمْ تَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ؟
وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُل
بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ قَبْل قَبْضِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَلاَ
يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، لأَِنَّ الرَّهْنَ لاَ يَلْزَمُ عِنْدَهُمْ
إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْل أَنْ يَلْزَمَ
عَقْدُ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يَبْطُل (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ حُقُوقَ الْمُرْتَهِنِ
تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِمُ
الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ مَتَى طَلَبُوا ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى
الإِْقْبَاضُ حَتَّى يُفْلِسَ الرَّاهِنُ أَوْ يَمْرَضَ أَوْ يَمُوتَ،
وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّهْنَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ
الْعَقْدِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى قَبْضٍ (2) .
__________
(1) الهداية مع تكملة الفتح 10 / 136، والأم 3 / 139، ومغني المحتاج 2 /
128، والمغني 6 / 446، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 280، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 232، وكشاف القناع 3 / 332، والقواعد لابن رجب ص 344، وروضة
الطالبين 4 / 65.
(2) التاودي على التحفة 1 / 168، والمنتقى للباجي 5 / 248، وحاشية الدسوقي
3 / 231، والإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 2، وبداية
المجتهد 2 / 230.
(39/265)
خَامِسًا - حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ
لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ
وَالاِمْتِنَاعَ عَنْ تَسْلِيمِهِ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى يَسْتَوْفِيَ
ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ حَالًّا، أَوِ الْقَدْرَ الْحَال مِنْهُ إِذَا كَانَ
بَعْضُهُ مُؤَجَّلاً (1) ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً،
فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ، اعْتِبَارًا لِتَرَاضِيهِمَا عَلَى
تَأْخِيرِهِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ
الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا
حَالًّا، أَيْ مَالاً غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلاَ مُؤَجَّلٍ، وَكَانَ حَاضِرًا
مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَائِبًا عَنِ
الْمَجْلِسِ، فَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ (2) .
وَلَمَّا كَانَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ
الثَّمَنِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، أَيِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِالْمَال، فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 561، ونهاية المحتاج 4 / 96، 103، والمجموع شرح المهذب
9 / 270، والخرشي 5 / 159، والبهجة شرح التحفة 2 / 17.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 187، ومجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد م
329.
(39/265)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَقِّ إِذَا مَاتَ،
فَإِنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ،
بَل يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ - كَسَائِرِ أَعْيَانِهِ الْمَالِيَّةِ -
وَلاَ يَكُونُ لِلْمَوْتِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ (1) .
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ الْمَحْضَةِ
25 - الْحُقُوقُ الشَّخْصِيَّةُ الْمَحْضَةُ هِيَ الَّتِي تَثْبُتُ
لِلإِْنْسَانِ بِاعْتِبَارِ شَخْصِهِ وَذَاتِهِ وَمَا يَتَوَفَّرُ فِيهِ
مِنْ صِفَاتٍ وَمَعَانٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، مِثْل حَقِّ
الْحَضَانَةِ، وَحَقِّ الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال، وَحَقِّ
الْمُظَاهِرِ فِي الْعَوْدِ، وَحَقِّ الْفَيْءِ بَعْدَ الإِْيلاَءِ،
وَحَقِّ أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ فِي وَظَائِفِهِمْ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ
بِمَوْتِ ذَوِيهَا أَوْ أَصْحَابِهَا وَلاَ تُورَثُ عَنْهُمْ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَةٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا،
وَظِيفَةٌ) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَبَيَانِ
تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمَقْذُوفِ عَلَى هَذَا الْحَقِّ
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَذْفٌ ف 44) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 297، وتكملة المجموع للسبكي 12 / 193،
والفروق للقرافي 3 / 277، وتهذيب الفروق والقواعد السنية 3 / 285.
(39/266)
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْحُقُوقِ
الشَّبِيهَةِ بِالْحَقَّيْنِ الْمَالِيِّ وَالشَّخْصِيِّ
26 - نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَجْمَعُ بَيْنَ شَبَهَيْنِ،
شَبَهٌ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ، وَشَبَهٌ بِالْحَقِّ الشَّخْصِيِّ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ عَلَى الآْخَرِ
حَتَّى تَلْحَقَ بِهِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى
هَذِهِ الْحُقُوقِ.
أَوَّلاً - حَقُّ الْخِيَارِ:
27 - يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُ الْمَوْتِ عَلَى حُقُوقِ الْخِيَارَاتِ بِحَسَبِ
نَوْعِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ لِلْعَاقِدِ وَطَبِيعَتِهِ وَاجْتِهَادِ
الْفُقَهَاءِ فِي تَغْلِيبِ شَبَهِهِ بِالْحَقِّ الْمَالِيِّ أَوِ الْحَقِّ
الشَّخْصِيِّ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - خِيَارُ الْمَجْلِسِ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي
أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى هَذَا الْخِيَارِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ انْتِقَال الْخِيَارِ
بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي 92 الْمَذْهَبِ، 92 وَهُوَ سُقُوطُ
الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيل بَيْنَ وُقُوعِ
الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَيْنَ
(39/266)
عَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، حَيْثُ
يَنْتَقِل الْخِيَارُ إِلَى الْوَارِثِ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى دُونَ
الثَّانِيَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (خِيَارٌ ف 13) .
ب - خِيَارُ الْقَبُول:
29 - خِيَارُ الْقَبُول: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي الْقَبُول أَوْ
عَدَمِهِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ صُدُورِ الإِْيجَابِ مِنَ الطَّرَفِ
الآْخَرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ
عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ سُقُوطُ خِيَارِ
الْقَبُول وَانْتِهَاؤُهُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ
مَوْتَ الْمُوجِبِ يُسْقِطُ إِيجَابَهُ، وَأَمَّا مَوْتُ الَّذِي خُوطِبَ
بِالإِْيجَابِ، فَلأَِنَّ حَقَّ الْقَبُول لاَ يُورَثُ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ خِيَارَ الْقَبُول يُورَثُ
وَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ (3) .
ج - خِيَارُ الْعَيْبِ:
35 - خِيَارُ الْعَيْبِ: وَهُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي رَدِّ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 46، وأسنى المطالب 2 / 49، والمجموع 9 / 206، 222،
ونهاية المحتاج 4 / 8، والفروع 4 / 91، وكشاف القناع 3 / 211، والمنثور في
القواعد للزركشي 2 / 56.
(2) رد المحتار 4 / 29، والفتاوى الهندية 3 / 7، والمجموع 9 / 11.
(3) الفروق للقرافي 3 / 277.
(39/267)
الْمَبِيعِ بِسَبَبِ وُجُودِ وَصْفٍ
مَذْمُومٍ فِيهِ يَنْقُصُ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ نُقْصَانًا يَفُوتُ
بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَيَغْلِبُ فِي جَنْسِهِ عَدَمُهُ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ
يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، وَذَلِكَ
لِتَعَلُّقِهِ بِالأَْعْيَانِ الْمَالِيَّةِ وَلُصُوقِهِ بِهَا (1) .
قَال الشِّيرَازِيُّ: انْتَقَل إِلَى وَارِثِهِ لأَِنَّهُ حَقٌّ لاَزِمٌ
يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ فَانْتَقَل بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ كَحَبْسِ
الْمَبِيعِ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الثَّمَنُ (2) .
د - خِيَارُ الشَّرْطِ:
31 - خِيَارُ الشَّرْطِ: هُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِالاِشْتِرَاطِ لأَِحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا يُخَوِّل صَاحِبَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ
خِلاَل مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَقِل
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 211، والفروق 3 / 275، 276، وتكملة المجموع 12 /
193، ورد المحتار 4 / 582، وفتح القدير 6 / 351، والأشباه والنظائر لابن
نجيم ص 297، 298.
(2) تكملة المجموع 12 / 193.
(39/267)
إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ،
بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مُشْتَمِلاَتِ التَّرِكَةِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ
لإِِصْلاَحِ الْمَال، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ
ثَمَنِهِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ
صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي،
وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلاً أَمْ نَائِبًا، قَال
الزَّيْلَعِيُّ: لأَِنَّ الْخِيَارَ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ
هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَلاَ يَنْتَقِل عَنْهُ كَسَائِرِ
أَوْصَافِهِ.
وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيل بَيْنَ مُطَالَبَةِ
صَاحِبِهِ بِهِ قَبْل مَوْتِهِ وَبَيْنَ عَدَمِهَا، قَالُوا: فَإِذَا مَاتَ
صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ بَطَل
الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا طَالَبَ بِهِ قَبْل
مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ، فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ خِيَارَ
الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ
فِي حَيَاتِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (خِيَارُ الشَّرْطِ ف 54) .
__________
(1) المبسوط 13 / 42، وتبيين الحقائق 2 / 18، وفتح القدير والعناية 5 /
125، ومغني المحتاج 2 / 45، والمجموع 9 / 222، والخرشي 4 / 29، وحاشية
الدسوقي 3 / 102، والقواعد لابن رجب ص 316، وبداية المجتهد 2 / 211، 212،
والشرح الصغير 2 / 144، والفروع 4 / 91، وكشاف القناع 4 / 210، 225،
والإنصاف 4 / 393، ومطالب أولي النهى 3 / 99.
(39/268)
هـ - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
32 - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ: هُوَ حَقٌّ يُثْبِتُ لِلْمُتَمَلِّكِ الْفَسْخَ
أَوِ الإِْمْضَاءَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحَل الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي
عَقَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ
وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، بِاعْتِبَارِهِ لِمُطْلَقِ التَّرَوِّي
لاَ لِتَحَاشِي الضَّرَرِ أَوِ الْخُلْفِ فِي الْوَصْفِ، وَغَايَتُهُ أَنْ
يَنْظُرَ الْمُشْتَرِي: هَل يَصْلُحُ لَهُ الْمَبِيعُ أَمْ لاَ؟ وَمَعَ
اعْتِبَارِهِمْ إِيَّاهُ خِيَارًا حُكْمِيًّا مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ،
فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِالإِْرَادَةِ مِنْ حَيْثُ
الاِسْتِعْمَال، وَالْحُقُوقُ الْمُرْتَبِطَةُ بِمَشِيئَةِ الْعَاقِدِ لاَ
تُورَثُ، لأَِنَّ انْتِقَالَهَا إِلَى الْوَارِثِ يَعْنِي نَقْل
الإِْرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ (1) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ
صَاحِبِهِ، بَل يَنْتَقِل إِلَى وَارِثِهِ (2) .
و خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ:
33 - خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي
فَسْخِ الْعَقْدِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ فِي
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 296.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 294.
(39/268)
وَهَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ
مُسْتَحِقِّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَيَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ ف 13) .
ز - خِيَارُ التَّعْيِينِ:
34 - خِيَارُ التَّعْيِينِ: وَهُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ
الأَْشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا خِلاَل
مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ
التَّعْيِينِ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بَل يَنْتَقِل إِلَى
وَارِثِهِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ مَحَل
الْخِيَارِ، ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالاً ثَابِتًا ضِمْنَ
الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْخِيَارِ، فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ
أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ
(2) .
ح - خِيَارُ التَّغْرِيرِ:
35 - خِيَارُ التَّغْرِيرِ هُوَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ
لِتَعَرُّضِهِ لأَِقْوَالٍ مُوهِمَةٍ مِنَ الْبَائِعِ دَفَعَتْهُ
لِلتَّعَاقُدِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كَوْنِهِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 19، وفتح القدير 5 / 135، والفروق للقرافي 3 / 276.
(2) بدائع الصنائع 5 / 262، والفتاوى الهندية 3 / 55، وجامع الفصولين 1 /
245، والفروق للقرافي 3 / 276، 277.
(39/269)
مَوْرُوثًا، فَاسْتَظْهَرَ
التُّمُرْتَاشِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَأَقَرَّهُ الْحَصْكَفِيُّ -
أَنَّ خِيَارَ التَّغْرِيرِ لاَ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ، لأَِنَّهُ
مِنَ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهِيَ لاَ تُورَثُ. قَال ابْنُ
عَابِدِينَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا بَحَثَهُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّ خِيَارَ
ظُهُورِ الْخِيَانَةِ لاَ يُورَثُ، لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ
خِيَارٍ لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، بَل هُنَاكَ مَا يَجْعَل
نَفْيَ تَوْرِيثِهِ بِالأَْوْلَى، لأَِنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ الْخِدَاعِ،
فَإِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَلْفُوظِ بِهِ لاَ يُورَثُ، فَكَيْفَ
يُورَثُ غَيْرُ الْمَلْفُوظِ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ.
وَفِي رَأْيٍ أَنَّهُ يُورَثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ (1) .
ط - خِيَارُ النَّقْدِ:
36 - خِيَارُ النَّقْدِ: هُوَ حَقٌّ يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِلتَّمَكُّنِ
مِنَ الْفَسْخِ عِنْدَ عَدَمِ نَقْدِ الْبَدَل مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ،
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُورَثُ، بَل يَسْقُطُ
بِمَوْتِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، لأَِنَّهُ وَصْفٌ لَهُ، وَالأَْوْصَافُ لاَ
تُورَثُ، وَأُسْوَةٌ بِأَصْلِهِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ، حَيْثُ إِنَّهُ
لاَ يُورَثُ عِنْدَهُمْ (2) .
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِهِ أَوْ
إِرْثِهِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ
أَصْلاً.
__________
(1) رد المحتار 4 / 160، 161.
(2) رد المحتار 4 / 55.
(39/269)
ثَانِيًا - حَقُّ الشُّفْعَةِ:
37 - الشُّفْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ فِي الْعَقَارِ
لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ صَاحِبُ حَقِّ
الشُّفْعَةِ قَبْل أَنْ يَأْخُذَ بِهَا، هَل يَنْتَقِل ذَلِكَ الْحَقُّ
لِوَرَثَتِهِ، أَمْ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حَقٌّ مَالِيٌّ، فَيُورَثُ عَنِ
الْمَيِّتِ كَمَا تُورَثُ أَمْوَالُهُ، وَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي
الْمُطَالَبَةِ بِهِ (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ إِذَا مَاتَ قَبْل
الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْتُهُ
قَبْل الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ الشُّفْعَةَ مُجَرَّدُ خِيَارٍ فِي
التَّمَلُّكِ، وَهِيَ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ فِي الأَْخْذِ أَوِ التَّرْكِ،
وَذَلِكَ لاَ يُورَثُ إِلاَّ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ
بِهَا أَوْ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا (2) .
الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ التَّفْصِيل بَيْنَ مَا إِذَا مَاتَ
الشَّفِيعُ قَبْل الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 191، وأسنى المطالب 3 / 3، والمنثور للزركشي 2 / 56،
وبداية المجتهد 2 / 260، والفروق 3 / 276، والقواعد لابن رجب ص 342.
(2) المبسوط 14 / 116، وبدائع الصنائع 5 / 25، وتبيين الحقائق 5 / 257.
(39/270)
قَبْلَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، لأَِنَّهُ نَوْعُ خِيَارٍ شُرِعَ لِلتَّمْلِيكِ،
أَشْبَهَ الإِْيجَابَ قَبْل قَبُولِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ
عَلَى الشُّفْعَةِ، لاِحْتِمَال رَغْبَتِهِ عَنْهَا، فَلاَ يَنْتَقِل إِلَى
الْوَرَثَةِ مَا شُكَّ فِي ثُبُوتِهِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ
بَعْدَ طَلَبِهِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَنْتَقِل لِوَرَثَتِهِ، لأَِنَّ
الطَّلَبَ يَنْتَقِل بِهِ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
مَوْرُوثًا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَةٌ ف 51) .
ثَالِثًا - حَقُّ الْمَالِكِ فِي إِجَازَةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ
38 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا مَاتَ قَبْل
إِجَازَتِهِ لِعَقْدِ الْفُضُولِيِّ الْمَوْقُوفِ عَلَى إِجَازَتِهِ،
فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الإِْجَازَةِ يَبْطُل بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَنْتَقِل
إِلَى وَرَثَتِهِ، لأَِنَّ الإِْجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنَ الْمَالِكِ
لاَ مِنْ وَارِثِهِ (2) ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَصَرُّفَ
الْفُضُولِيِّ فِي الْقِسْمَةِ، فَمَعَ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى
إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الإِْجَازَةِ لاَ يَبْطُل
بِمَوْتِهِ، بَل يَنْتَقِل إِلَى وَارِثِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي نَقْضِ الْقِسْمَةِ
بَعْدَ تَمَامِهَا ثُمَّ إِعَادَتِهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَالْقِيَاسُ
بُطْلاَنُ الْقِسْمَةِ بِمَوْتِهِ، وَعَدَمُ انْتِقَالِهَا لِلْوَارِثِ،
وَهُوَ قَوْل
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 445.
(2) فتح القدير 7 / 54، 56، ورد المحتار 4 / 582.
(39/270)
الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ لأَِنَّ الْقِسْمَةَ
مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ (1) .
رَابِعًا - اسْتِحْقَاقُ الْمَنَافِعِ بِمُوجِبِ الإِْجَارَةِ
وَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ
39 - الْمَنْفَعَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْفَائِدَةُ
الْعَرَضِيَّةُ الَّتِي تُنَال مِنَ الأَْعْيَانِ بِطَرِيقِ
اسْتِعْمَالِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى الْمَنَافِعِ
الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الشَّخْصُ فِي - عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ
بِمُوجِبِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ أَوِ الإِْعَارَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ
بِالْمَنْفَعَةِ، هَل يَبْطُل حَقُّهُ فِيهَا بِالْمَوْتِ أَمْ أَنَّهَا
تُورَثُ عَنْهُ؟ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الإِْجَارَةُ:
40 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ
الْمَنَافِعِ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَإِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ
أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِذَا مَاتَ قَبْل انْقِضَاءِ أَمَدِ الإِْجَارَةِ،
فَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِهِ، بَل يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي
اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ
__________
(1) فتح القدير 7 / 56، والبحر الرائق 6 / 160، والأشباه والنظائر لابن
نجيم ص 212.
(39/271)
الإِْجَارَةِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ عَقْدٌ
لاَزِمٌ، فَلاَ يَنْفَسِخُ مَوْتُ الْعَاقِدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ،
وَهِيَ مَالٌ، فَيَنْتَقِل إِلَى وَارِثِهِ (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ أَنَّ
عَقْدَ الإِْجَارَةِ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْل انْتِهَاءِ
مُدَّةِ الإِْجَارَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهَا، وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْوِرَاثَةَ خِلاَفَةٌ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إِلاَّ فِيمَا يَبْقَى
زَمَانَيْنِ، لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الأَْوَّل،
وَيَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، وَالْمَنْفَعَةُ
الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لاَ تَبْقَى لِتُورَثَ،
وَالَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ
الْوَارِثُ فِيهَا، إِذِ الْمِلْكُ لاَ يَسْبِقُ الْوُجُودَ، وَإِذَا
ثَبَتَ انْتِفَاءُ الإِْرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلاَنُ الْعَقْدِ (2) .
ب - الإِْعَارَةُ:
41 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِ مَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى
اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ فِي الْعَارِيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) القليوبي وعميرة 3 / 67، وأسنى المطالب 2 / 431، ونهاية المحتاج 5 /
314، وبداية المجتهد 2 / 230، والبهجة شرح التحفة 2 / 170، والمغني لابن
قدامة 8 / 43، 44، وشرح منتهى الإرادات 2 / 373.
(2) رد المحتار 5 / 54، وتكملة فتح القدير 9 / 145، 146، وبداية المجتهد 2
/ 230، والمغني 8 / 43، والمبسوط 15 / 153، 154، 16 / 5.
(39/271)
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَعِيرِ
بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ حَقٌّ شَخْصِيٌّ، يَنْتَهِي بِوَفَاةِ
صَاحِبِهِ، وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ
الإِْعَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ، وَيَجِبُ عَلَى
وَرَثَتِهِ رَدُّ الْعَارِيَةِ فَوْرًا إِلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ لَمْ
يَطْلُبْهَا (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الإِْعَارَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ
مُقَيَّدَةً بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُطْلَقَةً، فَإِنَّ
الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَحِقُّ الاِنْتِفَاعَ بِهَا فِي الْمُدَّةِ
الْمُحَدَّدَةِ أَوِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ عَادَةً عِنْدَ
الإِْطْلاَقِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ قَبْل انْتِهَاءِ تِلْكَ
الْمُدَّةِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي الْمُدَّةِ
الْمُتَبَقِّيَةِ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل يَنْتَقِل إِلَى
وَرَثَتِهِ، إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَرَطَ
الْمُعِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِنَفْسِهِ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ
لاَ تُورَثُ عَنْهُ الْمُدَّةَ الْمُتَبَقِّيَةَ، لأَِنَّ فِيهَا
يُعْتَبَرُ حَقًّا شَخْصِيًّا (2) .
ج - الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ:
42 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 145، 146، ورد المحتار 5 / 686، والقليوبي وعميرة
3 / 22، وأسنى المطالب 2 / 332، وكشاف القناع 4 / 73، والمبسوط 11 / 143.
(2) بداية المجتهد 2 / 313، والدسوقي 3 / 433، والفروق 1 / 187، والبهجة 2
/ 274.
(39/272)
بِالْمَنْفَعَةِ قَبْل انْقِضَاءِ
أَمَدِهَا، هَل تَبْطُل الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَوْتِهِ، أَمْ
أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ حَتَّى نِهَايَةِ
مُدَّتِهَا؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا تَبَقَّى مِنْ مُدَّةِ
الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ بِهَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ،
وَلاَ يُورَثُ عَنْهُ، بَل تَعُودُ الْعَيْنُ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي
بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُوصِي قَدْ أَوْجَبَ الْحَقَّ
لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ،
فَإِذَا انْتَقَل هَذَا الْحَقُّ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ
الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، وَلأَِنَّ
الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لاَ يَبْقَى زَمَانَيْنِ حَتَّى يَكُونَ
مَحَلًّا لِلتَّوَارُثِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ يَمْلِكُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ،
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا مَاتَ، فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل
تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ إِذَا
كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ أَوْ كَانَتْ عَلَى
التَّأْبِيدِ لأَِنَّهَا مَالٌ، فَتُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ
__________
(1) رد المحتار 5 / 458، وبدائع الصنائع 6 / 118، وتكملة الفتح والعناية 10
/ 487.
(39/272)
بِالْمَنْفَعَةِ مُقَيَّدَةً بِحَيَاةِ
الْمُوصَى لَهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ
بِهَا حَقًّا شَخْصِيًّا، فَيَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ، وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى
وَرَثَتِهِ (1) .
خَامِسًا - أَجَل الدُّيُونِ:
43 - الأَْجَل فِي الدُّيُونِ حَقٌّ لِلْمَدِينِ، وَمَنْ ثَبَتَ لَهُ هَذَا
الْحَقُّ فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ مُطَالَبَتُهُ بِالدَّيْنِ قَبْل حُلُولِهِ،
فَإِذَا مَاتَ فَهَل يَبْطُل الأَْجَل وَيَحِل الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، أَمْ
يَبْقَى ثَابِتًا كَمَا هُوَ وَيَنْتَقِل عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ،
وَهُوَ أَنَّ الأَْجَل يَسْقُطُ، وَيَحِل الدَّيْنُ بِمَوْتِ الْمَدِينِ،
وَتَنْقَلِبُ جَمِيعُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ الَّتِي عَلَيْهِ مَهْمَا
اخْتَلَفَتْ آجَالُهَا حَالَّةً بِمَوْتِهِ، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَسوَّارٌ وَالثَّوْرِيُّ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 83، وأسنى المطالب 3 / 56، والقليوبي وعميرة 3 / 11،
والأشباه والنظائر للسيوطي ص 326، 327، والخرشي 8 / 118، وحاشية الدسوقي 4
/ 398، ومنح الجليل 4 / 681، والزرقاني على خليل 8 / 197، وكشاف القناع 4 /
375، والقواعد لابن رجب ص 209.
(2) المبسوط 18 / 187، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 225، وبدائع الصنائع
5 / 213، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 354، والأم 3 / 212، والمهذب 1 /
327، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 356، والخرشي 5 / 266، وحاشية الدسوقي 3
/ 239، والمدونة 13 / 233، والمبدع 4 / 326، والإنصاف للمرداوي 5 / 307،
والمغني 4 / 486.
(39/273)
قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ:
وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحِ التَّوَارُثَ إِلاَّ
بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَالْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ لاَ يُرِيدُوا أَنْ يُؤَخِّرُوا حُقُوقَهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ
إِلَى مَحِل أَجَل الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُجْعَل الدَّيْنُ حَالًّا،
وَإِمَّا أَنْ يَرْضَوْا بِتَأْخِيرِ مِيرَاثِهِمْ حَتَّى تَحِل
الدُّيُونُ، فَتَكُونُ الدُّيُونُ حِينَئِذٍ مَضْمُونَةً فِي التَّرِكَةِ
خَاصَّةً لاَ فِي ذِمَمِهِمْ (1) ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّهُ
لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ
الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَال، وَلاَ يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي
ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلاَ
ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ، وَلاَ رَضِيَ صَاحِبُ
الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ
تَعْلِيقُهُ عَلَى الأَْعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ، لأَِنَّهُ ضَرَرٌ
بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلاَ نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ (2) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَالَتَيْنِ، وَقَالُوا:
إِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّل لاَ يَحِل بِالْمَوْتِ فِيهِمَا، وَهِيَ:
أ - إِذَا قُتِل إِلَى الدَّائِنِ الْمَدِينُ، فَإِنَّ دَيْنَهُ لاَ يَحِل،
لأَِنَّهُ قَدِ اسْتَعْجَلَهُ قَبْل أَوَانِهِ فَعُوقِبَ بِالْحِرْمَانِ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 286.
(2) المغني 4 / 486.
(39/273)
ب - إِذَا اشْتَرَطَ الْمَدِينُ عَلَى
الدَّائِنِ أَنْ لاَ يَحِل الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل الَّذِي عَلَيْهِ
بِمَوْتِهِ، فَيُعْمَل بِالشَّرْطِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ
الْمُؤَجَّل لاَ يَحِل بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ
أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ بِالأَْقَل مِنْ قِيمَةِ
التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَل، لأَِنَّ
الْوَرَثَةَ قَدْ لاَ يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ
الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ
سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِل مُبْطِلاً
لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلاَفَةِ، وَعَلاَمَةٌ عَلَى
الْوَرَثَةِ، وَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ
كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ
الْغُرَمَاءِ بِمَال الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ
أَحَبَّ الْوَرَثَةُ الْتِزَامَ الدَّيْنِ وَأَدَاءَهُ لِلْغَرِيمِ عَلَى
أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي الْمَال، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ
يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ
رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ (2) .
__________
(1) الخرشي 5 / 226، 267، وحاشية الدسوقي 3 / 265، 266.
(2) المغني 4 / 486، وشرح منتهى الإرادات 2 / 286، والمبدع 4 / 326،
والإنصاف للمرداوي 5 / 307.
(39/274)
وَالثَّالِثُ: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
أَنَّ الأَْجَل لاَ يَحِل بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يُوَثِّقِ
الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمُ الدَّيْنَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْجَل حَقٌّ
لِلْمَيِّتِ، فَيُورَثُ عَنْهُ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَبِهِ قَال طَاوُسٌ
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ (1) .
سَادِسًا - حَقُّ التَّحْجِيرِ:
44 - وَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ لِمَنْ قَامَ بِوَضَعِ عَلاَمَاتٍ فِي أَرْضٍ
مَوَاتٍ - سَوَاءٌ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرْزِ أَخْشَابٍ عَلَيْهَا
أَوْ حَصَادِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَشِيشِ وَالشَّوْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ -
لِيَصِيرَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا لِسَبْقِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ
حَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَهُ أَمَدًا مُعَيَّنًا يَنْتَهِي فِيهِ،
بِحَيْثُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ خِلاَلَهُ، وَهُوَ ثَلاَثُ
سَنَوَاتٍ، وَجَعَل بَعْضُهُمْ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ لاِجْتِهَادِ
الْحَاكِمِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
وَالْمُتَحَجِّرُ إِذَا مَاتَ قَبْل نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ
لاِحْتِجَارِهِ، فَهَل يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّهُ
يَنْتَقِل فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ إِلَى وَرَثَتِهِ؟
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ
يُورَثُ، وَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمُتَحَجِّرِ، وَيَكُونُ
__________
(1) المغني 4 / 486، والمبدع 4 / 326.
(39/274)
وَرَثَتُهُ أَحَقَّ بِالأَْرْضِ مِنْ
غَيْرِهِمْ (1) . وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، إِذِ
الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنْ تُورَثَ الْحُقُوقُ كَالأَْمْوَال، إِلاَّ إِذَا
قَامَ دَلِيلٌ عَلَى مُفَارَقَةِ الْحَقِّ لِمَعْنَى الْمَال، وَحَقُّ
التَّحْجِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَال، لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَكَانَ
مَوْرُوثًا (2) .
سَابِعًا - حَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ:
45 - الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ: هِيَ الَّتِي فُرِضَ الْخَرَاجُ عَلَى
الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ
مُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ: هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ غَيْرِ
الْعُشْرِيَّةِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَال.
وَيَعْتَبِرُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
الأَْرَاضِي الْخَرَاجِيَّةَ مَوْقُوفَةً عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقُولُونَ: هِيَ مِلْكٌ
لأَِصْحَابِهَا، وَلَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ
التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْهُمْ
بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِمْ، إِذْ لَيْسَ حَقُّ انْتِفَاعِهِمْ
بِهَا إِلاَّ أَثَرًا مِنْ آثَارِ ثُبُوتِ مَلَكِيَّتِهِمْ عَلَيْهَا (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 447، وكشاف القناع 4 / 193، والقواعد لابن رجب ص 211.
(2) بداية المجتهد 2 / 212.
(3) رد المحتار 4 / 177، 178.
(39/275)
وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى قَوْل جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ بِوَقْفِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ
الْمُنْتَفِعِينَ بِالأَْرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْفَلاَّحِينَ
وَنَحْوِهِمْ لاَ يَمْلِكُونَهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ
بِهَا فِي مُقَابِل دَفْعِ خَرَاجِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَال، ثُمَّ
إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْتِقَال هَذَا الْحَقِّ لِوَرَثَتِهِمْ
بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُتَأَخِّرِي
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْمَنْفَعَةِ بِالأَْرَاضِيِ
الْخَرَاجِيَّةِ يُورَثُ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُنْتَفِعُ
بِهَا انْتَقَل الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ، لأَِنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ
مَوْرُوثٌ (1) .
وَالثَّانِي: لِمُتَقَدِّمِي فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ
الْمُنْتَفِعَ بِالأَْرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ إِذَا مَاتَ سَقَطَ حَقُّهُ
فِي الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَلاَ تُورَثُ عَنْهُ، وَيَكُونُ لِلإِْمَامِ
أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ بَعْدِهِ لِمَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ مُقْتَضَيَاتِ
الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ (2) .
ثَامِنًا - حَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِالإِْقْطَاعِ:
46 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 201، وحاشية الدسوقي 2 / 203، وفتح العلي المالك 2 /
245، 246، وكشاف القناع 3 / 99، والقواعد لابن رجب ص 212، 213، 341، 342.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 203، 4 / 52 - 53.
(39/275)
أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُقْطِعَ الأَْرْضَ
مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِرَقَبَتِهَا كَمَا
يُعْطِي الْمَال لِمُسْتَحِقِّهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُقْطَعُ، فَإِنَّهَا
تَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ، سَوَاءٌ عَمَّرَهَا
وَأَحْيَاهَا أَمْ لاَ (1) .
أَمَّا إِقْطَاعُ الأَْرَاضِي الْمَوَاتِ لإِِحْيَائِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَفِي انْتِقَال الْحَقِّ فِيهِ إِلَى
الْوَارِثِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُفِيدُ
الْمِلْكَ لِلْمُقْطَعِ إِلاَّ بِالإِْحْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ
أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْل الإِْحْيَاءِ، وَهَذَا الْحَقُّ
يَنْتَقِل لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْطَعَ كُل
مَوَاتٍ وَكُل مَا لَيْسَ فِيهِ مِلْكٌ لأَِحَدٍ، فَإِنْ عَمَّرَهَا
الْمُقْطَعَ وَأَحْيَاهَا صَارَتْ مِلْكًا لَهُ، وَتُورَثُ عَنْهُ
كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُحْيِهَا وَلَمْ يُعَمِّرْهَا
طِيلَةَ ثَلاَثَةِ سَنَوَاتٍ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِيهَا يَبْطُل، وَتَعُودُ
إِلَى حَالِهَا مَوَاتًا، وَلِلإِْمَامِ أَنْ
__________
(1) رد المحتار 4 / 193، والخراج لأبي يوسف ص 60، 61، والمجموع للنووي 6 /
95، وأسنى المطالب 2 / 448، ونهاية المحتاج 5 / 337، والخرشي 7 / 69،
وحاشية الدسوقي 4 / 60.
(2) أسنى المطالب 2 / 447، والمهذب 1 / 426، وكشاف القناع 4 / 195،
والقواعد لابن رجب ص 211.
(39/276)
يُعْطِيَهَا غَيْرَهُ (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ
تَمْلِيكٌ مُجَرَّدٌ، فَمَنْ أَقْطَعَهُ الإِْمَامُ شَيْئًا صَارَ مِلْكًا
لَهُ وَإِنْ لَمْ يُحْيِهِ وَيُعَمِّرْهُ، وَبِالْمَوْتِ يَنْتَقِل إِلَى
وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ (2) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لإِِقْطَاعِ الاِسْتِغْلاَل الَّذِي يَقَعُ عَلَى
أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال لِمَنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، عَلَى سَبِيل
اسْتِغْلاَلِهَا لاَ تَمْلِيكِهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يُعْطِيَ
الأَْرْضَ التَّابِعَةَ لِبَيْتِ الْمَال مَنْفَعَةً، بِحَيْثُ يَكُونُ
الْمُعْطَى مُسْتَحِقًّا لِمَنْفَعَتِهَا دُونَ رِقْبَتِهَا وَحَقُّ
الاِنْتِفَاعِ بِهَا يُعْتَبَرُ حَقًّا شَخْصِيًّا، فَيَسْقُطُ بِوَفَاةِ
صَاحِبِهِ وَلاَ يُورَثُ عَنْهُ، لأَِنَّهُ مُقَيَّدٌ عُرْفًا بِحَيَاةِ
الْمُقْطَعِ، وَتَرْجِعُ الأَْرْضُ الْمُقْطَعَةُ بِمَوْتِهِ لِبَيْتِ
الْمَال وَقْفًا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 194، والفتاوى الهندية 5 / 386، رد المحتار 4 / 193،
والخراج لأبي يوسف ص 60، 61.
(2) المنتقى للباجي 6 / 30، وشرح الخرشي 7 / 69، وحاشية الدسوقي 4 / 68.
(3) رد المحتار 4 / 393، والشرح الكبير مع الدسوقي 4 / 68، وفتح العلي
المالك 2 / 245، 246، والأحكام السلطانية للماوردي ص 195، 196، والأشباه
والنظائر للسيوطي ص 327.
(39/276)
تَاسِعًا - الاِخْتِصَاصُ بِالاِنْتِفَاعِ
بِالأَْعْيَانِ النَّجِسَةِ:
47 - الاِخْتِصَاصُ هُوَ حَقٌّ فِي شَيْءٍ، يَخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ
بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ، وَهُوَ
غَيْرُ قَابِلٍ لِلشُّمُول وَالْمُعَاوَضَاتِ (1) .
وَمِنْ صُوَرِ الاِخْتِصَاصِ بِالأَْعْيَانِ النَّجِسَةِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْكَلْبُ الْمُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ
كَكَلْبِ الْحِرَاسَةِ وَالصَّيْدِ وَالزُّيُوتِ وَالأَْدْهَانِ
الْمُتَنَجِّسَةِ الَّتِي يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهَا بِالاِسْتِصْبَاحِ
أَوْ بِتَحْوِيلِهَا إِلَى صَابُونٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) ، وَالاِخْتِصَاصُ
بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ وَنَحْوِهَا لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمْ،
وَلَكِنَّهُ يُعْطِي صَاحِبَهُ حَقَّ الاِنْتِفَاعِ الْمَحْدُودِ بِهَا فِي
الْوُجُوهِ السَّائِغَةِ شَرْعًا. وَهَذَا الْحَقُّ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ
إِلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الاِخْتِصَاصِ وَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ (3) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ
الأَْعْيَانَ النَّجِسَةَ أَوِ الْمُتَنَجِّسَةَ الَّتِي أُبِيحَ
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 204.
(2) نهاية المحتاج 6 / 52، والقواعد لابن رجب ص 205، وقواعد الأحكام 2 /
86، والمنثور في القواعد 3 / 234.
(3) المجموع للنووي 9 / 211، 231، ونهاية المحتاج 6 / 51، وكشاف القناع 3 /
154، والقواعد لابن رجب ص 211.
(39/277)
الاِنْتِفَاعُ بِهَا شَرْعًا مَالاً
مُتَقَوِّمًا، كَالسِّرْجِينِ وَالْبَعْرِ وَكِلاَبِ الْمَاشِيَةِ
وَالصَّيْدِ وَنَحْوِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُورَثُ عَنْ
صَاحِبِهَا بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ (1) .
عَاشِرًا - حَقُّ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ:
48 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْقَوَدَ لاَ يَجِبُ
إِلاَّ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شُرُوطِهِ، وَأَنَّهُ
حَقُّ الْوَرَثَةِ (أَوْلِيَاءِ الدَّمِ) ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ الْحَقِّ هَل يَثْبُتُ لَهُمُ ابْتِدَاءً أَمْ بِطَرِيقِ الإِْرْثِ
عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؟ وَمَنْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَهُ
مِنْهُمْ؟ وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَأَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لِلْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ أَوَّلاً بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَى
وَرَثَتِهِ جَمِيعِهِمْ، الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْكِبَارِ
وَالصِّغَارِ، مِنْ ذَوِي الأَْنْسَابِ وَالأَْسْبَابِ، كَسَائِرِ
أَمْوَالِهِ وَأَمْلاَكِهِ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَمَتَى انْتَقَل الْحَقُّ لِلْوَرَثَةِ، فَهُمْ
بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءُوا اقْتَصُّوا، وَإِنْ شَاءُوا
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 143، 144، والهداية مع الفتح 6 / 427، والبهجة 2 /
46، وحاشية الدسوقي 3 / 9، 10.
(39/277)
عَفَوْا، وَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ
حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِيهِ، لأَِنَّهُ لاَ
يَتَجَزَّأُ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالاً، وَلاَ يَكُونُ
لِلْعَافِي شَيْءٌ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مَجَّانًا
بِرِضَاهُ.
وَإِذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ إِلَى مَالٍ بِعَفْوِ الْوَرَثَةِ إِلَيْهِ،
فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَال يَكُونُ لِلْمَوْرُوثِ أَوَّلاً، فَتُقْضَى مِنْهُ
دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ
لِوَرَثَتِهِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدَ
فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ
الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَى
الْعَصَبَاتِ الذُّكُورِ مِنْ وَرَثَتِهِ خَاصَّةً، لأَِنَّهُ ثَبَتَ
لِدَفْعِ الْعَارِ، فَاخْتَصَّ بِهِ الْعَصَبَاتُ، كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ
(2) .
وَالثَّالِثُ: لأَِبِي حَنيِفَةَ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ
مَوْرُوثًا عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، بَل هُوَ ثَابِتٌ
__________
(1) فتح الغفار 3 / 101، والتلويح على التوضيح (ط. كراتشي) 2 / 783، وتكملة
فتح القدير 10 / 242، ورد المحتار 6 / 536، 537، وأسنى المطالب 4 / 35،
والأم 5 / 10، ونهاية المحتاج 7 / 283، والمغني 11 / 581، والإنصاف 9 /
482، 483، شرح منتهى الإرادات 3 / 283، 284.
(2) المنتقى للباجي 7 / 125، والزرقاني على خليل 8 / 30، والخرشي 8 / 21،
وحاشية الدسوقي 4 / 227، ونهاية المحتاج 7 / 284، والإنصاف للمرداوي 9 /
482، 3 / 48، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 293
(39/278)
ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ، لأَِنَّ
الْغَرَضَ مِنْهُ التَّشَفِّي وَدَرْكُ الثَّأْرِ، وَالْمَيِّتُ لاَ يَجِبُ
لَهُ إِلاَّ مَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ مِنْ تَجْهِيزِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ
وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِصَاصُ لاَ يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ،
ثُمَّ إِنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى وَرَثَتِهِ مِنْ وَجْهٍ،
لاِنْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِهِ
وَيَنْتَصِرُونَ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلِذَا
وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، لِحُصُول التَّشَفِّي لَهُمْ
وَلِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّهِمْ، لاَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمَيِّتِ
ثُمَّ يَنْتَقِل إِلَيْهِمْ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ التَّوَارُثُ كَمَا فِي
سَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلَكِنْ إِذَا انْقَلَبَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَالاً،
فَإِنَّهُ يَصِيرُ عِنْدَئِذٍ مَوْرُوثًا، لأَِنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ
حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ
صُلُوحِهِ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالاً بِالصُّلْحِ
عَلَيْهِ أَوِ الْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ - وَالْمَال يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ
الْمَيِّتِ مِنَ التَّجْهِيزِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنْفِيذِ
الْوَصَايَا - ارْتَفَعَتِ الضَّرُورَةُ، وَصَارَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ
هُوَ الْمَال، إِذِ الْخُلْفُ إِنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ
بِهِ الأَْصْل، فَيَثْبُتُ الْفَاضِل عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ
لِوَرَثَتِهِ خِلاَفَةً لاَ أَصَالَةً (1) .
أَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) التلويح على التوضيح (ط. كراتشي) 2 / 783، وفتح الغفار لابن نجيم 3 /
101، 102.
(39/278)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ يُورَثُ عَنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلاَ يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ
قَبْل اسْتِيفَائِهِ، وَثُبُوتُهُ لِوَرَثَتِهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل
الْمِيرَاثِ عَنْهُ لاَ ابْتِدَاءً (1) ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ فِي الأَْطْرَافِ لاَ
يَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ إِلاَّ إِذَا طَالَبَ بِهِ الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِ قَبْل مَوْتِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُطَالِبْ فِيهِ، فَإِنَّهُ
يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِوَفَاتِهِ (2) .
حَادِيَ عَشَرَ - حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي قَبُول الْوَصِيَّةِ:
49 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قَبُول الْوَصِيَّةِ مِنَ
الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنِ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَأَنَّ
لَهُ الْحَقَّ فِي قَبُولِهِ أَوْ رَدِّهَا بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ.
وَلَكِنْ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْمُوصِي وَقَبْل صُدُورِ
الْقَبُول أَوِ الرَّدِّ مِنْهُ، فَهَل يَنْتَقِل ذَلِكَ الْحَقُّ
لِوَرَثَتِهِ أَمْ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ
عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 114، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 246، وأسنى
المطالب وحاشية الرملي عليه 4 / 30، ونهاية المحتاج 7 / 265، والفروق
للقرافي 3 / 279، والقواعد لابن رجب ص 342، 343، وشرح منتهى الإرادات 3 /
290.
(2) القواعد لابن رجب ص 341، 342.
(39/279)
وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْقَبُول أَوِ
الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ يَنْتَقِل لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ إِذَا
مَاتَ بَعْدَ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَوْ رَدٍّ، لأَِنَّهُ حَقٌّ
مَوْرُوثٌ، فَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ
شَاءُوا قَبِلُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ
لَهُ بِعَيْنِهِ وَشَخْصِهِ، فَحِينَئِذٍ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ
يَنْتَقِل ذَلِكَ الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ
الْمُوصَى لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْل الْقَبُول أَوِ الرَّدِّ بَعْدَ وَفَاةِ
الْمُوصِي، فَإِنَّ الْمُوصَى بِهِ يَدْخُل فِي مِلْكِهِ دُونَ حَاجَةٍ
إِلَى قَبُول الْوَرَثَةِ، لأَِنَّ الْقَبُول عِنْدَهُمْ هُوَ عِبَارَةٌ
عَنْ عَدَمِ الرَّدِّ، فَمَتَى وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّ الْمُوصَى لَهُ
اعْتُبِرَ قَابِلاً حُكْمًا (2) .
الثَّالِثُ: لِلأْبْهَرِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ أَخَذَ بِهَا ابْنُ حَامِدٍ وَوَصَفَهَا
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 66، وأسنى المطالب 3 / 43، ومواهب الجليل 6 / 367،
والخرشي 8 / 169، والمدونة 15 / 35، وحاشية الدسوقي 4 / 424، والبهجة 2 /
312، وشرح منتهى الإرادات 2 / 545، والمبدع 6 / 21، وكشاف القناع 4 / 346،
والقواعد لابن رجب ص 343، والمغني 8 / 417.
(2) البدائع 7 / 331، 332، والهداية مع تكملة الفتح والعناية 10 / 429،
ومواهب الجليل 6 / 367، والمغني 8 / 417.
(39/279)
الْقَاضِي بِأَنَّهَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ،
وَهِيَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْل
قَبُولِهِ، لأَِنَّهَا عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول، فَإِذَا مَاتَ
مَنْ لَهُ حَقُّ الْقَبُول قَبْلَهُ بَطَل الْعَقْدُ، كَالْهِبَةِ،
وَلأَِنَّهُ خِيَارٌ لاَ يُعْتَاضُ عَنْهُ، فَيَبْطُل بِالْمَوْتِ،
كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ وَخِيَارِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ (1)
.
ثَانِيَ عَشَرَ - حَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَبُول الْهِبَةِ
وَقَبْضِهَا:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْل
الْقَبُول، هَل تَبْطُل الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ، أَمْ أَنَّ حَقَّ الْقَبُول
يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إِذَا مَاتَ قَبْل الْقَبُول بَطَلَتِ الْهِبَةُ،
وَلَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْقَبُول مِنْ بَعْدِهِ، أَشْبَهَ مَا
لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فَمَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْل الْقَبُول.
وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ الْقَبُول وَقَبْل الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ
تَبْطُل أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَلْزَمُ وَلاَ يَنْتَقِل الْمِلْكُ
فِيهَا إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَقَدِ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ
لَهُ قَبْلَهُ، وَلأَِنَّ الْهِبَةَ صِلَةٌ، وَالصِّلاَتُ تَبْطُل
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 367، والمبدع 6 / 21، والمغني 8 / 417، والقواعد لابن
رجب ص 343.
(39/280)
بِالْمَوْتِ قَبْل الْقَبْضِ، وَلأَِنَّهَا
عَقْدٌ جَائِزٌ قَبْلَهُ، فَبَطَل بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ،
كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، حَيْثُ
نَصُّوا عَلَى عَدَمِ انْفِسَاخِ الْهِبَةِ بِمَوْتِ الْمُتَّهِبِ قَبْل
الْقَبْضِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَئُول إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُل
بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَارِثُ
الْمُتَّهِبِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي الْقَبْضِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ إِذَا
مَاتَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِالْهِبَةِ، فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل،
وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُول أَوِ الرَّدِّ، إِلاَّ إِذَا
كَانَ الْوَاهِبُ يَقْصِدُ شَخْصَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَذَاتَهُ لَفْظًا
أَوْ بِدَلاَلَةِ قَرَائِنِ الأَْحْوَال، فَحِينَئِذٍ تَبْطُل الْهِبَةُ
بِمَوْتِهِ قَبْل الْقَبُول، لأَِنَّ الْحَقَّ هَاهُنَا شَخْصِيٌّ،
فَيَنْتَهِي بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ.
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْهِبَةِ، وَلَمْ
يَظْهَرْ مِنْهُ رَدٌّ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَابِلاً
__________
(1) رد المحتار 5 / 701، والمهذب 1 / 454، ومغني المحتاج 2 / 401، ونهاية
المحتاج 5 / 412، وأسنى المطالب 2 / 482، وكشاف القناع 4 / 303، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 520، والمغني 8 / 243، وانظر م (83) من مرشد الحيران وم (849)
من المجلة العدلية وم (905) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(39/280)
حُكْمًا، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ
فِي الْقَبْضِ، وَكَذَا إِذَا قَبِل صَرَاحَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضِ
الْهِبَةَ حَتَّى وَافَتْهُ الْمَنِيَّةُ، فَيُورَثُ عَنْهُ حَقُّ
قَبْضِهَا (1) .
ثَالِثَ عَشَرَ - حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ
51 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى
أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ،
وَلاَ يَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لأَِنَّ الْخِيَارَ فِي
الرُّجُوعِ فِيهَا حَقٌّ شَخْصِيٌّ لِلْوَاهِبِ، ثَبَتَ لَهُ لِمَعَانٍ
وَأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ فِيهِ، وَالْحَقُّ الشَّخْصِيُّ لاَ يُورَثُ.
ثُمَّ إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَوْجَبَ هَذَا الْحَقَّ لِلْوَاهِبِ،
وَالْوَارِثُ لَيْسَ بِوَاهِبٍ.
وَأَيْضًا هُوَ حَقٌّ مُجَرَّدٌ، وَالْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ لاَ تُورَثُ
ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تُورَثُ تَبَعًا لِلْمَال، وَوَرَثَةُ الْوَاهِبِ
لاَ يَرِثُونَ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ الَّتِي هِيَ مَالٌ، فَلاَ
يَرِثُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ (2) .
__________
(1) الخرشي 7 / 106، 108، وحاشية الدسوقي 4 / 202، والبهجة 2 / 246،
والمدونة 15 / 120.
(2) رد المحتار 5 / 701، 6 / 762، وتبيين الحقائق 5 / 99، ومغني المحتاج 2
/ 401، والمجموع شرح المهذب 9 / 211، وأسنى المطالب 2 / 484، وبداية
المجتهد 2 / 211، والفروق للقرافي 3 / 278، وشرح منتهى الإرادات 2 / 520،
والمغني 8 / 243، والقواعد لابن رجب ص 342.
(39/281)
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامَاتِ
الْمُتَوَفَّى:
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ الْمُفْتَرَضَةِ بِنَصِّ
الشَّارِعِ:
هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ مَالِيَّةٌ وَغَيْرُ مَالِيَّةٍ، وَسَنَعْرِضُ
فِيمَا يَلِي أَثَرَ الْمَوْتِ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الاِلْتِزَامَاتِ:
أَوَّلاً - الاِلْتِزَامَاتُ الْمَالِيَّةُ:
أ - الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ:
52 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى سُقُوطِ دَيْنِ
الزَّكَاةِ إِذَا تُوُفِّيَ مَنْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ قَبْل
أَدَائِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا، وَلَمْ
يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيَلْزَمُ
إِخْرَاجُهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا، وَهُوَ
مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ
وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ
بِأَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ حَقٌّ مَالِيٌّ وَاجِبٌ لَزِمَهُ حَال
الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، كَدَيْنِ الْعَبْدِ. وَيُفَارِقُ
الصَّلاَةَ، فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ
بِهَا وَلاَ النِّيَابَةُ فِيهَا
(39/281)
وَبِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ
الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1)
حَيْثُ عَمَّمَ سُبْحَانَهُ الدُّيُونَ كُلَّهَا، وَالزَّكَاةُ دَيْنٌ
قَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ
وَسَائِرِ مَنْ فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِنَصِّ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ.
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا
رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ،
أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ.
قَال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (2) . فَدَل ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ تُقْضَى، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ
مِنْهَا (3) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ
زَكَاةٍ لَمْ يُؤَدِّهِ فِي حَيَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ فِي
أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلاَ يُلْزَمُ الْوَرَثَةُ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ
تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَوْصَى بِأَدَائِهَا مِنْ
تَرِكَتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهَا كَسَائِرِ الْوَصَايَا،
وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لاَ يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.
وَهُوَ قَوْل ابْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ
بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَحُمَيْدٍ الطَّوِيل وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
__________
(1) سورة النساء / 11.
(2) حديث: " يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 4 / 192 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 804 ط عيسى الحلبي) .
(3) المغني 4 / 145، والمجموع 5 / 335، 6 / 231.
(39/282)
وَتَعْلِيل ذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ الأَْفْعَال، إِذْ بِهَا تَظْهَرُ
الطَّاعَةُ وَالاِمْتِثَال، وَمَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا، فَالْمَال
مُتَعَلِّقٌ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْفِعْل، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال
كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ
التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الإِْيصَاءُ بِالْمَال الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهَا
تَبَرُّعًا مِنَ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً، فَاعْتُبِرَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، أَلاَ تَرَى
أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَالصِّلاَتُ تَبْطُل
بِالْمَوْتِ قَبْل التَّسْلِيمِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ زَكَاةَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ،
فَقَالُوا بِعَدَمِ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ قَبْل الأَْدَاءِ إِذَا كَانَ
الْخَارِجُ، قَائِمًا، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ
الْعُشْرِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْل أَدَائِهِ
(2) .
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ
لَمْ تُؤَدَّ فِي حَيَاتِهِ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ
الزَّكَاةُ حَالَّةً فِي الْعَامِ الْحَاضِرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ،
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَنْ سِنِينَ مَاضِيَةٍ فَرَّطَ فِي أَدَاءِ
الزَّكَاةِ فِيهَا.
__________
(1) فتح الغفار 3 / 98، ورد المحتار 6 / 760، وبدائع الصنائع 2 / 53، وفتح
القدير 2 / 359، والمغني 4 / 146، والمجموع 5 / 335، 336، والمبسوط 27 /
146.
(2) رد المحتار 2 / 332، وبدائع الصنائع 2 / 53.
(39/282)
الْحَالَةُ الأُْولَى: فَإِنْ كَانَتِ
الزَّكَاةُ حَالَّةً فِي الْعَامِ الْحَاضِرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ،
فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ حَرْثٍ وَثَمَرٍ وَمَاشِيَةٍ، أَوْ
زَكَاةَ عَيْنٍ (ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) .
فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ كَحَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ
وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل تَخْرَجُ مِنْ
رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ، سَوَاءٌ
أَوْصَى بِهَا أَوْ لاَ، لأَِنَّهَا مِنَ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ زَكَاةَ عَيْنٍ حَاضِرَةً (مِنَ الأَْمْوَال
الْبَاطِنَةِ) فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال جَبْرًا عَنِ
الْوَرَثَةِ، إِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَبَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ
وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أَمَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا، وَلَمْ
يَعْتَرِفْ بِبَقَائِهَا، وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، فَلاَ يُجْبَرُ
الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِهَا لاَ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ وَلاَ مِنْ
رَأْسِ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ فِي غَيْرِ جَبْرٍ، إِلاَّ أَنْ
يَتَحَقَّقَ الْوَرَثَةُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِهَا، فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ
مِنْ رَأْسِ مَالِهِ جَبْرًا.
وَإِذَا اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا، وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، أُخْرِجَتْ
مِنَ الثُّلُثِ جَبْرًا.
وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَقَائِهَا وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا، لَمْ يُقْضَ
عَلَيْهِمْ بِإِخْرَاجِهَا، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُونَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
إِجْبَارٍ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهَا قَبْل مَوْتِهِ،
فَإِنْ عَلِمُوا عَدَمَ إِخْرَاجِهَا أُجْبِرُوا عَلَى الإِْخْرَاجِ مِنْ
رَأْسِ مَالِهِ.
(39/283)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَإِذَا كَانَتِ
الزَّكَاةُ عَنْ مُدَّةٍ مَاضِيَةٍ، وَفَرَّطَ فِي أَدَائِهَا سَوَاءٌ
أَكَانَتْ زَكَاةَ عَيْنٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ حَرْثٍ فَيَلْزَمُ
إِخْرَاجُهَا مِنَ الثُّلُثِ إِنْ أَوْصَى بِهَا أَوِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهَا
بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّتِهِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُوصِ بِهَا، فَإِنَّهُ لاَ
يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا لاَ مِنَ الثُّلُثِ وَلاَ مِنْ رَأْسِ
الْمَال.
وَلَوْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ
يُفَرِّطْ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال.
وَإِذَا أَشْهَدَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ
الْوَصِيَّةِ، وَتَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ (1) .
ب - صَدَقَةُ الْفِطْرِ:
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى سُقُوطِ
صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ قَبْل
أَدَائِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهَا،
وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، لَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ، بَل يَجِبُ
إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا.
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 441، والخرشي وحاشية العدوي عليه
8 / 183، 184، 197، وانظر: بداية المجتهد 2 / 337.
(39/283)
زَكَاةُ الْفِطْرِ إِذَا مَاتَ قَبْل
أَدَائِهَا فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا،
وَلاَ يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ مَا لَمْ يُوصِ
بِهَا.
فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ
الْوَصَايَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ
الصِّلَةِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ،
وَالصِّلاَتُ تَبْطُل بِالْمَوْتِ قَبْل التَّسْلِيمِ.
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ
الْحَاضِرَةَ إِذَا مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْل إِخْرَاجِهَا،
فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ كَزَكَاةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ
إِنْ أَوْصَى بِهَا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُؤْمَرُونَ
بِإِخْرَاجِهَا، لَكِنَّهُمْ لاَ يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ سِنِينَ مَاضِيَةٍ فَرَّطَ فِيهَا،
ثُمَّ أَوْصَى بِأَدَائِهَا قَبْل مَوْتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ
ثُلُثِ مَالِهِ.
وَلَوْ أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ
مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ (1) .
__________
(1) فتح الغفار 3 / 99، ورد المحتار 6 / 760، وبدائع الصنائع 2 / 53، وفتح
القدير 2 / 359، والمجموع 5 / 335، 336، 6 / 231، والمغني 4 / 317، والخرشي
8 / 184، وحاشية الدسوقي 4 / 408.
(39/284)
ج - الْخَرَاجُ وَالْعُشْرُ:
54 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَنَّ أَرْضًا مِنْ أَرَاضِي الْخَرَاجِ
مَاتَ رَبُّهَا قَبْل أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ، فَإِنَّهُ لاَ
يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ فِي مَعْنَى الصِّلَةِ،
فَيَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْل الاِسْتِيفَاءِ، وَلاَ يَتَحَوَّل إِلَى
التَّرِكَةِ كَالزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّ خَرَاجَ الأَْرْضِ مُعْتَبَرٌ
بِخَرَاجِ الرَّأْسِ، فَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الصَّغَارِ،
وَكَمَا أَنَّ خَرَاجَ الرَّأْسِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ قَبْل
الاِسْتِيفَاءِ، فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الأَْرْضِ، وَلاَ يُمْكِنُ
اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الْوَرَثَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِمْ، لأَِنَّهُمْ لَمْ
يَتَمَكَّنُوا مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، وَفِيهَا زَرْعٌ، فَإِنَّهُ
يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عَلَى حَالِهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ
الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْعُشْرِ
وَالْخَرَاجِ، وَقَال: يَسْقُطُ بِمَوْتِ رَبِّ الأَْرْضِ، وَأَمَّا فِي
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَالزَّرْعُ الْقَائِمُ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ
الْفُقَرَاءِ وَرَبِّ الأَْرْضِ، عُشْرُهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ، وَتِسْعَةُ
أَعْشَارِهِ حَقُّ رَبِّ الأَْرْضِ، وَلِهَذَا لاَ يُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ
الْعُشْرِ الْمَالِكُ، حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ
وَالْمَدِينِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَبِمَوْتِ أَحَدِ
الشَّرِيكَيْنِ لاَ يَبْطُل حَقُّ الآْخَرِ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَحِلُّهُ،
وَهَذَا بِخِلاَفِ الْخَرَاجِ، حَيْثُ إِنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ،
وَبِمَوْتِهِ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ أَنْ
(39/284)
تَكُونَ صَالِحَةً لاِلْتِزَامِ
الْحُقُوقِ، وَالْمَال لاَ يَقُومُ مَقَامَ الذِّمَّةِ فِيمَا طَرِيقُهُ
طَرِيقُ الصِّلَةِ (1) .
د - الْجِزْيَةُ:
55 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنِ الذِّمِّيِّ
إِذَا مَاتَ قَبْل أَدَائِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَإِنَّهَا
تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْل أَدَائِهَا، سَوَاءٌ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْل أَوْ
فِي أَثْنَائِهِ، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا
عُقُوبَةٌ فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ، وَلأَِنَّهَا تَسْقُطُ
أَيْضًا بِإِسْلاَمِهِ، فَتَسْقُطُ كَذَلِك بِمَوْتِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا أَوْصَى بِهَا فَإِنَّهَا
تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا (2) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ
إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْحَوْل، فَإِنَّ الْجِزْيَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ،
لأَِنَّهَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ
بِمَوْتِهِ، بَل تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ
الْمَالِيَّةِ.
__________
(1) المبسوط للسرخسي 3 / 50، وبدائع الصنائع 2 / 53.
(2) بدائع الصنائع 2 / 53، والمنتقى للباجي 2 / 176، والمغني لابن قدامة 13
/ 222، والهداية مع الفتح 2 / 359، 6 / 52 - 54، ورد المحتار 4 / 200.
(39/285)
أَمَّا إِذَا مَاتَ فِي أَثَنَاء الْحَوْل،
فَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهَا لاَ
تَجِبُ قَبْل كَمَال الْحَوْل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَسْقُطُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ
قِسْطُ مَا مَضَى، لأَِنَّهَا كَالأُْجْرَةِ (1) .
هـ - الْكَفَّارَاتُ الْوَاجِبَةُ وَفِدْيَةُ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ
وَجَزَاءُ الصَّيْدِ:
56 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ
الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الإِْنْسَانِ إِذَا مَاتَ قَبْل
أَدَائِهَا، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْل الْخَطَأِ
وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا،
وَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ فَدِيَةِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ
الصَّيْدِ إِذَا مَاتَ قَبْل إِخْرَاجِهَا وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ،
الْكَفَّارَاتِ وَنَحْوَهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَفِدْيَةِ
الصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ لاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْل أَدَائِهَا وَتَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ،
أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ (2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 130، وكشاف القناع 3 / 122، والمغني 13 / 222،
ونهاية المحتاج 8 / 88، 89، وأسنى المطالب 4 / 216، والأحكام السلطانية
للماوردي ص 145.
(2) نهاية المحتاج 6 / 5، 6، والمجموع 6 / 231، 332، وكشاف القناع 4 / 351،
404، والقواعد لابن رجب ص 344.
(39/285)
وَكَذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى
أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِدْيَةُ الصَّوْمِ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَمَاتَ
قَبْل أَدَائِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَأَنَّ
الْمُتَمَتِّعَ إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ
مِنْهُ، وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْهَدْيِ، وَلَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ بَعْدُ،
فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي
الْمَذْهَبِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ تَسْقُطُ
بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا قَبْل
وَفَاتِهِ، فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا،
وَمَا زَادَ مِنْهَا عَلَى الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ
الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازُوهُ نَفَذَ وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَل.
وَكَذَا الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِفِدْيَةِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ
وَجَزَاءِ الصَّيْدِ (2) .
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا أَشْهَدَ فِي
صِحَّتِهِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ أَنَّهَا
بِذِمَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهَا، فَإِنَّهَا
بِمَوْتِهِ تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ
يُوصِ.
وَأَمَّا إِذَا فَرَّطَ فِي أَدَائِهَا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 6 / 259، 7 / 191، 192.
(2) بدائع الصنائع 2 / 53، وفتح القدير 2 / 358، 359، ورد المحتار 6 / 760.
(39/286)
يُشْهِدْ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا
بِذِمَّتِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِهَا، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ
مَالِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْحَجِّ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ،
فَلاَ يُجْبَرُ الْوَرَثَةُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ التَّرِكَةِ أَصْلاً.
وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فِي الْحَجِّ،
فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَال إِذَا مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ
رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَمْ لاَ. وَإِذَا
مَاتَ قَبْل رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ
إِذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ، فَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ ذَبْحُهُ، وَلَوْ مَاتَ
قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (1) .
و نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ
57 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى
زَوْجِهَا مَتَى سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ
الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَلَمْ تَكُنْ نَاشِزًا.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إِنْ لَمْ
يُؤَدِّهَا إِلَيْهَا، وَوُجُوبِهَا فِي تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْل
الأَْدَاءِ، أَوْ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ عَلَى
ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ
الزَّوْجَةِ تَكُونُ عَلَى زَوْجِهَا - حَتَّى لَوْ كَانَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 433، 4 / 408، والخرشي وحاشية العدوي 2 / 381، 8 /
183، 197.
(39/286)
مُعْسِرًا - إِذَا لَمْ تَمْنَعْهُ
تَمَتُّعًا مُبَاحًا، وَتَجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَهَا إِذَا لَمْ
يَقُمْ بِوَاجِبِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ بِهَا
قَضَاءُ قَاضٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ
قَبْل الأَْدَاءِ إِلَيْهَا، بَل تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ
الدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى
الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ لاَ تَصِيرُ دَيْنًا وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ
بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قَضَى بِهَا الْقَاضِي وَأَمَرَ الزَّوْجَةَ
بِالاِسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَفَعَلَتْ، فَإِنَّ دَيْنَ
النَّفَقَةِ هَذَا لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ قَبْل أَدَائِهِ
إِلَيْهَا.
أَمَّا إِذَا قَضَى بِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالاِسْتِدَانَةِ،
فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، لأَِنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلاَتُ تَسْقُطُ
بِالْمَوْتِ قَبْل التَّسْلِيمِ (2) .
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ
عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ لاَ تَلْزَمُهُ فِي حَال إِعْسَارِهِ، وَمَا
أَنْفَقَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 191، 201، وأسنى المطالب 3 / 430، 432، والمهذب 2 /
165، والأم 5 / 89، وكشاف القناع 4 / 469، وشرح منتهى الإرادات 3 / 247،
257، والمغني 11 / 366، 367، والمحرر للمجد ابن تيمية 2 / 115.
(2) فتح القدير 4 / 394، ورد المحتار 3 / 595.
(39/287)
لاَ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ،
وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ عَلَى هَذِهِ الْحَال، فَلاَ يَجِبُ لَهَا فِي
تَرِكَتِهِ شَيْءٌ مِنَ النَّفَقَةِ عَنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لأَِنَّهَا
كَانَتْ سَاقِطَةً عَنْهُ خِلاَلَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَإِنَّ مَا تَجَمَّدَ عَلَيْهِ مِنْ
نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فِي زَمَنِ الْيَسَارِ، يَكُونُ ثَابِتًا فِي
ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْهُ قَاضٍ، وَلاَ
يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْل أَدَائِهِ، بَل يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ
كَسَائِرِ دُيُونِ الْعِبَادِ، وَتُحَاصِصُ الزَّوْجَةُ فِيهِ سَائِرَ
الْغُرَمَاءِ (1) .
ز - نَفَقَةُ الأَْقَارِبِ:
58 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ دَيْنًا
فِي ذِمَّةِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِمَنْ ثَبَتَتْ لَهُ، وَوُجُوبِهَا
فِي تَرِكَتِهِ إِذَا مَاتَ قَبْل أَدَائِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، وَذَلِكَ
عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
أَنَّ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
قَبْل أَدَائِهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، لأَِنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلاَتُ
تَبْطُل بِالْمَوْتِ قَبْل التَّسْلِيمِ، إِلاَّ إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي
وَأَمَرَ بِاسْتِدَانَتِهَا عَلَيْهِ، فَفَعَل الْمُسْتَحِقُّ،
فَعِنْدَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ لَزِمَتْهُ، وَلاَ تَسْقُطُ
بِمَوْتِهِ قَبْل الأَْدَاءِ، بَل تُؤْخَذُ
__________
(1) الخرشي 5 / 273، ومنح الجليل 3 / 136.
(39/287)
مِنْ تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ
الْعِبَادِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفَرْضِ الْحَاكِمِ وَأَمْرِهِ
بِالاِسْتِدَانَةِ (1) .
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مُتَجَمِّدَ نَفَقَةِ
الأَْقَارِبِ يَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ لَزِمَتْهُ قَبْل أَدَائِهَا إِلاَّ
إِذَا حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ، أَوْ أَنْفَقَ شَخْصٌ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ
لَهُ غَيْرَ قَاصِدٍ التَّبَرُّعَ عَلَيْهَا بِهَا، وَكَانَ مَنْ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ مُوسِرًا، فَعِنْدَئِذٍ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلاَ
تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ قَبْل الأَْدَاءِ، بَل تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ
كَسَائِرِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ لِلآْدَمِيِّينَ (2) .
ح - الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ:
59 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْقَتْل الْخَطَأِ تَجِبُ
عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَجَّمَةً عَلَى ثَلاَثِ سِنِينَ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ مِنَ الْعَاقِلَةِ قَبْل الأَْدَاءِ، فَهَل تَسْقُطُ عَنْهُ، أَمْ
تَكُونُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ
__________
(1) فتح القدير 4 / 425، ورد المحتار 3 / 625، وزاد المعاد 5 / 505 (ط.
مؤسسة الرسالة) ، وشرح منتهى الإرادات 2 / 247، 257، والإنصاف 9 / 403،
وكشاف القناع 5 / 484، والمحرر 2 / 115، وتحفة المحتاج 8 / 349 ونهاية
المحتاج 7 / 210، 211، وحاشية الرملي على أسنى المطالب 3 / 444.
(2) الخرشي وحاشية العدوي عليه 4 / 204، 205، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي
عليه 2 / 524.
(39/288)
مَاتَ مِنَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْحَوْل
وَكَانَ مُوسِرًا، اسْتَقَرَّتِ الدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَأُخِذَتْ مِنْ
تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ، وَأَمَّا إِذَا
مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل، أَوْ مَاتَ مُعْسِرًا، فَلاَ يَلْزَمُهُ
شَيْءٌ مِنْهَا. الثَّانِي: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ
مِنَ الْعَاقِلَةِ قَبْل الْحَوْل أَوْ بَعْدَهُ، فَلاَ يَجِبُ فِي
تَرِكَتِهِ شَيْءٌ مِمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْل الْحَوْل، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، إِذْ هِيَ
مَالٌ يَجِبُ فِي آخِرِ الْحَوْل عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ، فَأَشْبَهَ
الزَّكَاةَ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْل، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
أَيْضًا، لأَِنَّهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ.
الثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا ضُرِبَ عَلَى فَرْدٍ مِنَ
الْعَاقِلَةِ، وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ حِينَ لَزِمَهُ،
فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل يَكُونُ دَيْنًا يُقْضَى مِنْ
تَرِكَتِهِ، وَحَتَّى مَا كَانَ مُؤَجَّلاً مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحِل
بِمَوْتِهِ (1) .
ط - الْفِعْل الضَّارُّ:
60 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَلْحَقَ بِغَيْرِهِ
ضَرَرًا يَسْتَوْجِبُ ضَمَانًا مَالِيًّا، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي
ذِمَّتِهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْل تَأْدِيَتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ
بِوَفَاتِهِ،
__________
(1) المغني 12 / 47، ونهاية المحتاج 7 / 354، وأسنى المطالب 4 / 86، وحاشية
الدسوقي 4 / 253، والخرشي 8 / 47.
(39/288)
بَل يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا
عَلَى الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ،
كَسَائِرِ دُيُونِ الآْدَمِيِّينَ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَيْنٌ ف 20) .
ثَانِيًا - الاِلْتِزَامَاتُ غَيْرُ الْمَالِيَّةِ:
أ - الْحَجُّ الْوَاجِبُ:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ
الْحَجُّ، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهِ، هَل
يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ بِمَوْتِهِ أَمْ لاَ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَهُوَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ بِمَوْتِهِ فِي الأَْحْكَامِ
الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلاَ يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ
تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لأَِجْل الْحَجِّ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى
بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ كَسَائِرِ
الْوَصَايَا، وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ (1) .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لاَ يَنُوبُ فِيهَا أَحَدٌ
عَنْ أَحَدٍ، فَلاَ يُصَلِّي شَخْصٌ عَنْ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ،
وَهُوَ مَدْلُول قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ
إِلاَّ مَا سَعَى} (2) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 359، والخرشي 2 / 296، والموافقات 2 / 174، 175، وبداية
المجتهد 1 / 320، والمغني 5 / 38، والمبسوط للسرخسي 27 / 146.
(2) سورة النجم / 39.
(39/289)
أَمَّا مَنْ أَمَرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ أَوْ
أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِيهِ سَعْيٌ.
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ
لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ جَمِيعِ
تَرِكَتِهِ، أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُ
وَارِثَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ
يَحُجُّ عَنْهُ إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا، فَإِنَّ الْحَجَّ يَبْقَى فِي
ذِمَّتِهِ وَلاَ يَلْزَمُ وَارِثَهُ، شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ
وَطَاوُسٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أَفَأَحُجُّ
عَنْهَا، قَال: حُجِّي عَنْهَا (2) وَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ
أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: أَرَأَيْتَ لَوْ
كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال:
فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ (3) ، وَأَيْضًا بِأَنَّ الْحَجَّ حَقٌّ
مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ، وَقَدْ لَزِمَهُ فِي حَال
__________
(1) المجموع 7 / 109، 110، والمغني 5 / 38، والقواعد لابن رجب ص 344.
(2) حديث: " إن أمي ماتت ولم تحج. . . "، أخرجه مسلم (2 / 805 - ط عيسى
الحلبي) .
(3) حديث: " إن أبي مات ولم يحج. . . ". أخرجه النسائي (5 / 118 - ط
المكتبة التجارية الكبرى) .
(39/289)
الْحَيَاةِ، وَهُوَ حَقٌّ تَدْخُلُهُ
النِّيَابَةُ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ.
ب - الصَّلاَةُ الْوَاجِبَةُ:
62 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلاَةٌ
وَاجِبَةٌ، سَقَطَتْ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَوْتِهِ، لأَِنَّ
الصَّلاَةَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، فَلاَ يَنُوبُ أَحَدٌ عَنِ
الْمَيِّتِ فِي أَدَائِهَا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبَادَاتِ -
كَمَا يَقُول الشَّاطِبِيُّ - الْخُضُوعُ لِلَّهِ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ
وَالتَّذَلُّل بَيْنَ يَدَيْهِ وَالاِنْقِيَادُ تَحْتَ حُكْمِهِ
وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ
وَجَوَارِحِهِ حَاضِرًا مَعَ اللَّهِ وَمُرَاقِبًا لَهُ غَيْرَ غَافِلٍ
عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ سَاعِيًا فِي مَرْضَاتِهِ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ
عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ، وَالنِّيَابَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَقْصُودَ
وَتُضَادُّهُ، لأَِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لاَ يَكُونَ الْعَبْدُ عَبْدًا
وَلاَ الْمَطْلُوبُ بِالْخُضُوعِ وَالتَّوَجُّهِ خَاضِعًا وَلاَ
مُتَوَجِّهًا إِذَا نَابَ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَامَ
غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، فَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَاضِعُ
الْمُتَوَجِّهُ، وَالْخُضُوعُ وَالتَّوَجُّهُ وَنَحْوُهُمَا إِنَّمَا هُوَ
اتِّصَافٌ بِصِفَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالاِتِّصَافُ لاَ يَعْدُو
الْمُتَّصِفَ بِهِ وَلاَ يَنْتَقِل عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. (1)
__________
(1) الموافقات 2 / 167، وفتح القدير 2 / 359، 360، والمجموع 6 / 372،
ونهاية المحتاج 2 / 187، والمنتقى 2 / 63، وبداية المجتهد 1 / 320، وإعلام
الموقعين 4 / 390.
(39/290)
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا:
إِذَا أَوْصَى مَنْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَائِتَةٌ بِالْكَفَّارَةِ،
فَيَلْزَمُ وَلِيَّهُ - وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ فِي
مَالِهِ بِوِلاَيَةٍ أَوْ وِرَاثَةٍ - أَنْ يُعْطِيَ عَنْهُ لِكُل صَلاَةٍ
نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَالْفِطْرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ
كَسَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ سَقَطَتْ عَنْهُ تِلْكَ
الصَّلَوَاتُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ (1) ، وَقَال
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - عَلَى خِلاَفِ الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ -
يُطْعِمُ الْوَلِيُّ عَنْ كُل صَلاَةٍ فَائِتَةٍ مُدًّا. (2)
ج - الصَّوْمُ الْوَاجِبُ:
63 - الصَّوْمُ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى صُنُوفٍ، فَمِنْهُ مَا يَجِبُ
مُحَدَّدًا بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، كَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كُل
عَامٍ، وَمِنْهُ مَا يَجِبُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارَاتٍ أُخْرَى كَصَوْمِ
الْكَفَّارَاتِ بِأَنْوَاعِهَا - كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ -
وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ،
وَمِنْهُ مَا يَجِبُ عَلَى سَبِيل الْبَدَل، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَمِنْهُ
مَا يَجِبُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ -
إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِأَحَدِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 237.
(2) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 3 / 188.
(39/290)
الأَْسْبَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَلَمْ
يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ إِمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ
مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ، وَدَامَ عُذْرُهُ إِلَى
أَنْ مَاتَ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَلاَ يَجِبُ عَلَى وَرَثَتِهِ
صِيَامٌ وَلاَ فِي تَرِكَتِهِ إِطْعَامٌ، وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ (1) .
64 - أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الصِّيَامِ، لَكِنَّهُ لَمْ
يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ
عَنْهُ بِالْمَوْتِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ
صَوْمُ رَمَضَانَ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا مِنَ الصَّوْمِ
الْوَاجِبِ، سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ فِي الأَْحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ،
فَلاَ يَلْزَمُ وَلِيَّهُ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، لأَِنَّ فَرْضَ الصِّيَامِ
جَارٍ مَجْرَى الصَّلاَةِ، فَلاَ يَنُوبُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فِيهِ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى
الْوَلِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ.
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ
لاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَوِ الْوَرَثَةِ أَنْ يُطْعِمُوا
__________
(1) المغني 4 / 398، والمجموع 6 / 368، 369، والمبسوط 3 / 89، 90.
(2) فتح القدير والعناية 2 / 351، 352، 358، 359، والمجموع 6 / 368 - 372،
والمغني 4 / 398، ونهاية المحتاج 3 / 184، وبداية المجتهد 1 / 299، وإعلام
الموقعين 4 / 390، والمنتقى 2 / 63.
(39/291)
عَنْهُ شَيْئًا إِلاَّ إِذَا أَوْصَى
بِذَلِكَ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ
التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ
أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ مِسْكِينًا، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ
أَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَال اللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ
وَابْنُ عَلِيَّةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ
مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَلَى سَبِيل
الْجَوَازِ دُونَ اللُّزُومِ، مَعَ تَخْيِيرِ الْوَلِيِّ بَيْنَ الصِّيَامِ
عَنْهُ وَبَيْنَ الإِْطْعَامِ (2) .
وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (3)
وَمَا رَوَى بُرَيْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المغني 4 / 398، وبداية المجتهد 1 / 299، 300، والمجموع 6 / 368، 369،
371، والمنتقى 2 / 63، وفتح القدير مع العناية 2 / 352، 353، 357، 358،
والموافقات 2 / 174.
(2) المجموع 6 / 368، 369، 372، والمغني 4 / 398، ونهاية المحتاج 3 / 184.
(3) حديث عائشة: " من مات وعليه صيام. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 /
192 - ط السلفية) ومسلم (2 / 803 - ط عيسى الحلبي) .
(39/291)
00 أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ،
وَكَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: صَوْمِي
عَنْهَا (1) وَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ،
أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَال: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ
قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ
يُقْضَى (2) .
أَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ الثَّابِتَةِ بِاخْتِيَارِ
الْمُكَلَّفِ:
الاِلْتِزَامُ الاِخْتِيَارِيُّ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ مَا يَثْبُتُ
بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الاِلْتِزَامُ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا
لِتَعَاقُدٍ وَارْتِبَاطٍ تَمَّ بَيْنَ إِرَادَةِ شَخْصَيْنِ، وَقَدْ
يَكُونُ أَثَرًا لِعَهْدٍ قَطَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِرَادَتِهِ
الْمُنْفَرِدَةِ.
أَوَّلاً - الاِلْتِزَامَاتُ الْعَقَدِيَّةُ الَّتِي تَنْشَأُ بِإِرَادَةِ
طَرَفَيْنِ:
65 - وَمَنْشَأُ هَذِهِ الاِلْتِزَامَاتِ الْعَقْدُ، الَّذِي هُوَ
عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ الإِْيجَابِ الصَّادِرِ مِنْ أَحَدِ
__________
(1) حديث بريدة: " إن أمي ماتت وعليها صوم شهر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 805
- ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه. . ". سبق تخريجه ف 52.
(39/292)
الْعَاقِدَيْنِ بِقَبُول الآْخَرِ عَلَى
وَجْهٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (1) .
وَالاِلْتِزَامَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْعُقُودِ عَلَى ثَلاَثِ أَقْسَامٍ،
الْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ لاَزِمَةٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ،
وَالْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ جَائِزَةٍ (غَيْرِ لاَزِمَةٍ) مِنَ
الْجَانِبَيْنِ، وَالْتِزَامَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ عُقُودٍ لاَزِمَةٍ مِنْ
جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ:
أ - الْبَيْعُ:
66 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى لَزِمَ،
فَإِنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنِ الْتِزَامٍ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ
تُجَاهَ الآْخَرِ لاَ يَسْقُطُ وَلاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ، فَإِذَا مَاتَ
الْبَائِعُ قَامَ وَرَثَتُهُ بِإِيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامَاتٍ
تُجَاهَ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي قَامَ وَرَثَتُهُ
بِتَنْفِيذِ مَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ وَالْتِزَامَاتٍ تُجَاهَ
الْبَائِعِ، وَذَلِكَ فِي حُدُودِ مَا تَرَكَ (2) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
وَإِنْ مَاتَ الْمُتَبَايِعَانِ، فَوَرَثَتُهُمَا بِمَنْزِلَتِهِمَا،
لأَِنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي أَخْذِ مَالِهِمَا وَإِرْثِ حُقُوقِهِمَا،
__________
(1) مرشد الحيران م 262.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 204، والمجموع للنووي 9 / 211، والقواعد لابن رجب
ص 344، والمغني لابن قدامة 6 / 286.
(39/292)
فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُمَا أَوْ يَصِيرُ
لَهُمَا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: عَقْدٌ ف 61) .
67 - وَقَدِ اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا مَاتَ أَحَدُ
الْعَاقِدَيْنِ مُفْلِسًا، وَأَوْرَدُوا تَفْصِيلاً فِي أَثَرِ ذَلِكَ
عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ عَقْدِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ
بَيْنَهُمْ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ فِي الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ،
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ شَيْئًا، ثُمَّ مَاتَ مُفْلِسًا بَعْدَ أَدَاءِ
ثَمَنِهِ لِلْبَائِعِ، فَالْمَبِيعُ مِلْكُهُ خَاصَّةً، سَوَاءٌ قَبَضَهُ
مِنَ الْبَائِعِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
ب - أَمَّا إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَبْل تَأْدِيَةِ الثَّمَنِ، فَيُنْظَرُ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ
مِنْ تَرِكَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَبِيعَهُ الْقَاضِي وَيُؤَدِّيَ
لِلْبَائِعِ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ عَنْ حَقِّ
الْبَائِعِ يُدْفَعُ الزَّائِدُ لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ
حَقِّ الْبَائِعِ أَخَذَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ الَّذِي بِيعَ بِهِ،
وَيَكُونُ فِي الْبَاقِي أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ (2) .
__________
(1) المغني 6 / 286.
(2) رد المحتار 4 / 564، والحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن 2 / 715،
وانظر: م 464 من مرشد الحيران وم 296 من المجلة العدلية.
(39/293)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ
الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ أَيْ أَنَّ لَهُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَاسْتِيفَاءَ
الْمَبِيعِ لِنَفْسِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ، فَهَل يَكُونُ
لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَيَحْبِسَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا
بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ
الْحُقُوقِ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ، أَمْ
يَصِيرُ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ قَبْل مَوْتِهِ مِثْل
بَاقِي الْغُرَمَاءِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي
الْمَبِيعَ اسْتِرْدَادُهُ، بَل يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ،
فَيَقْسِمُونَهُ، جَمِيعًا (2) ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا
رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ
الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 254، وحاشية العدوي على الخرشي 5 / 281.
(2) رد المحتار 4 / 564، والحجة على أهل المدينة 2 / 715، وبدائع الصنائع 5
/ 252، وانظر م 463 من مرشد الحيران وم 295 من المجلة العدلية، وشرح ميارة
على التحفة 2 / 242، والتاودي على التحفة 2 / 333، والنووي على مسلم 10 /
222، والإفصاح لابن هبيرة ص 242، وكشاف القناع 3 / 355، ومعالم السنن
للخطابي 3 / 159، والقوانين الفقهية ص 348.
(39/293)
بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ
مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ
بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَبِيعَ وَضَارَبَ الْغُرَمَاءَ
بِثَمَنِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهُ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ
الْغُرَمَاءِ (2) وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى:
أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ
بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ (3) .
ج - أَمَّا إِذَا مَاتَ الْبَائِعُ مُفْلِسًا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ
وَقَبْل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي يَكُونُ
أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ
لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، بَل
__________
(1) حديث: " أيما رجل باع. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 790 - ط عيسى
الحلبي) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أبو داود (3 / 791 - 792 - ط حمص) عن
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلاً، واللفظ لأبي داود.
(2) النووي على مسلم 10 / 222، ومعالم السنن للخطابي 3 / 159، ونهاية
المحتاج 4 / 325، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 194.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أيما رجل مات. . . " أخرجه
ابن ماجه (2 / 790 - ط عيسى الحلبي) . وأخرجه كل من البخاري (فتح الباري 5
/ 62 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1193 - ط عيسى الحلبي) بلفظ مقارب.
(39/294)
لِلْمُشْتَرِي جَبْرُهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ
إِلَيْهِ مَا دَامَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً، فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ بَعْدَ
مَوْتِ الْبَائِعِ أَيْضًا، إِذْ لاَ حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ بِوَجْهٍ،
لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْبَائِعِ - وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا
بِالثَّمَنِ لَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ - وَعَلَى هَذَا كَانَ لَهُ أَخْذُهُ
إِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً أَوِ اسْتِرْدَادُ ثَمَنِهِ إِنْ كَانَ
قَدْ هَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ وَرَثَتِهِ (1) . وَانْظُرْ
مُصْطَلَحَ (إِفْلاَسٌ ف 37) .
ب - السَّلَمُ:
68 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ إِذَا
مَاتَ بَعْدَ تَأْدِيَةِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ
يَكُونُ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَقُومُ
وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ كَسَائِرِ دُيُونِهِ
الْمُؤَجَّلَةِ.
وَلَكِنْ إِذَا مَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل حُلُول زَمَنِ
الْوَفَاءِ، فَهَل يَبْطُل الأَْجَل بِمَوْتِهِ، وَيَحِل دَيْنُ السَّلَمِ،
أَمْ أَنَّهُ يَبْقَى كَمَا هُوَ إِلَى وَقْتِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الأَْجَل يَبْطُل
بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَحِل دَيْنُ السَّلَمِ، وَيَلْزَمُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 564، والمنتقى للباجي 5 / 91، وانظر: م 465 من مرشد
الحيران وم 297 من المجلة العدلية.
(39/294)
تَسْلِيمُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا إِلَى
رَبِّ السَّلَمِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَفِّرًا فِي وَقْتِ الْحُلُول الطَّارِئِ
بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَل يُفْسَخُ عَقْدُ
السَّلَمِ لِذَلِك أَمْ لاَ؟ وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَسْخِ، هَل
تُوقَفُ قِيمَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنَ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَقْتِ
الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ عَادَةً أَمْ لاَ؟
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُؤْخَذُ مِنَ التَّرِكَةِ حَالًّا لأَِنَّ مِنْ
شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الأَْسْوَاقِ
مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى مَحِل الأَْجَل عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ
لِتَدُومَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ
ذَلِكَ، وَمَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل أَنْ يَحِل الأَْجَل،
فَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَيَؤُول ذَلِكَ
إِلَى الْغَرَرِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَحِل بِمَوْتِ
الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي حُلُول سَائِرِ الدُّيُونِ
الْمُؤَجَّلَةِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ
الْمُسْلَمَ فِيهِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ مِنَ التَّرِكَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ
إِذَا كَانَ مَوْتُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ قَبْل مَحَل أَجَلِهِ، وَلَمْ
يَكُنِ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا فِي الأَْسْوَاقِ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ
تَقْسِيمُ التَّرِكَةِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَغْلِبُ وُجُودُهُ فِيهِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 206، والبحر الرائق 6 / 172، وبدائع الصنائع 5 / 213.
(39/295)
قَال الْحَطَّابُ: إِذَا مَاتَ الْمُسْلَمُ
إِلَيْهِ قَبْل وَقْتِ الإِْبَّانِ، أَيْ وَقْتِ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ
عَادَةً، فَإِنَّهُ يَجِبُ وَقْفُ قَسْمِ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّمَا يُوقَفُ إِنْ خِيفَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ
الْمُسْلَمُ فِيهِ كُل التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ أَقَل مِنَ التَّرِكَةِ
وَقَفَ قَدْرَ مَا يَرَى أَنْ يَفِيَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَسَمَ مَا
سِوَاهُ، وَهَذَا خِلاَفًا لِمَا يَرَاهُ أَشْهَبُ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ
الْقَسْمَ لاَ يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ
يَسِيرًا.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: إِنْ كَانَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ
دُيُونٌ أُخْرَى قُسِمَتِ التَّرِكَةُ عَلَيْهِ، وَيَضْرِبُ لِلْمُسْلَمِ
قِيمَةَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي وَقْتِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي أَغْلَبِ
الأَْحْوَال مِنْ غَلاَءٍ وَرُخْصٍ.
وَقَال بَعْضُهُمْ تَتْمِيمًا لِقَوْل ابْنِ عَبْدِ السَّلاَم بِأَنَّهُ
يُوقَفُ لِلْمُسْلَمِ مَا صَارَ لَهُ فِي الْمُحَاصَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ
وَقْتُ الإِْبَّانِ، فَيُشْتَرَى لَهُ مَا أَسْلَمَ فِيهِ، فَإِنْ نَقَصَ
عَنْ ذَلِكَ أُتْبِعَ بِالْقِيمَةِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ طَرَأَ لَهُ
مَالٌ، وَإِنْ زَادَ لَمْ يَشْتَرِ لَهُ إِلاَّ قَدْرَ حَقِّهِ، وَتُتْرَكُ
الْبَقِيَّةُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ وَارِثٍ أَوْ مِدْيَانٍ
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ
مَوْجُودًا فِي الأَْسْوَاقِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 535، وانظر البهجة شرح التحفة 2 / 157، 158.
(39/295)
وَتَسْلِيمُهُ لِرَبِّ السَّلَمِ وَإِنْ
غَلاَ وَزَادَ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا
فِيهَا، فَيَثْبُتُ لِلْمُسْلَمِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالصَّبْرِ
حَتَّى يُوجَدَ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ
الْعَقْدُ - كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ - لأَِنَّ
الْمُسْلَمَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ،
وَالْوَفَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَل مُمْكِنٌ، وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْل
الْقَبْضِ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ
الأَْجَل لاَ يَحِل بِمَوْتِ الْمَدِينِ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ
غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ عَلَى أَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنْ
قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَلاَ يُوقَفُ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَةِ
الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لأَِجَل دَيْنِ السَّلَمِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَثَّقْ بِذَلِكَ حَل، لأَِنَّ الْوَرَثَةَ قَدْ لاَ
يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي
ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ (2) .
ج - الإِْجَارَةُ:
69 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُؤَجِّر فِي
إِجَارَةِ الأَْعْيَانِ وَالأَْجِيرِ فِي إِجَارَةِ الأَْعْمَال عَلَى مَا
الْتَزَمَ بِهْ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 4 / 189، 190، وفتح العزيز 9 /
245، وأسنى المطالب 2 / 127.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 286، والمغني 6 / 407، 568، والإنصاف 5 / 307،
والمبدع 4 / 326.
(39/296)
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ
الْمُؤَجِّرُ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْفَسِخُ
بِالْمَوْتِ، بَل تَبْقَى عَلَى حَالِهَا، لأَِنَّهَا عَقْدٌ لاَزِمٌ فَلاَ
يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ مَعَ سَلاَمَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ،
وَلِذَلِك تَبْقَى الْعَيْنُ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ
مِنْهَا مَا تَبَقَّى لَهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ
الْمُؤَجِّرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ قَوْل
إِسْحَاقَ وَالْبَتِّيِّ وَأبِي ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (1) .
وَأَمَّا مَا الْتَزَمَ بِهِ الأَْجِيرُ مِنَ الْعَمَل: فَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ مُرْتَبَطًا بِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ، كَمَا إِذَا قَال لَهُ:
اسْتَأْجَرْتُكَ أَوِ اكْتَرَيْتُكَ لِتَعْمَل كَذَا أَوْ لِكَذَا أَوْ
لِعَمَل كَذَا، أَوْ يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِذِمَّةِ الأَْجِيرِ، كَمَا
إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لأَِدَاءِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يَلْزَمُ ذِمَّتَهُ، مِثْل
أَنْ يُلْزِمَهُ حَمْل كَذَا إِلَى مَكَانِ كَذَا أَوْ خِيَاطَةِ كَذَا
دُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَا
يُسَمَّى فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ بِإِجَارَةِ الذِّمَّةِ.
فَإِنْ كَانَ الاِلْتِزَامُ مُرْتَبِطًا بِعَيْنِ الأَْجِيرِ وَذَاتِهِ،
__________
(1) الأم 3 / 255 - 256، والقليوبي وعميرة 3 / 84، ونهاية المحتاج 5 / 313،
314، وبداية المجتهد 2 / 292، والمغني 8 / 43 - 44، وكشاف القناع 4 / 29 -
31، 34، والبهجة 2 / 178، 181، وأسنى المطالب 2 / 431 - 432، وحاشية
الدسوقي 4 / 27، 28، والخرشي 7 / 30.
(39/296)
فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وَيَنْتَهِي بِمَوْتِ
الأَْجِيرِ لاِنْفِسَاخِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِهِ نَظَرًا لِفَوَاتِ
مَحَل الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَاسْتِحَالَةِ إِكْمَال
تَنْفِيذِ الْعَقْدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ،
أَمَّا فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَنِ فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الأَْجِيرِ
فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ أَجْرٍ، وَذَلِكَ لاِسْتِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الاِلْتِزَامُ مَوْصُوفًا فِي ذِمَّةِ الأَْجِيرِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ
اسْتُؤْجِرَ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ بِإِكْمَال وَتَوْفِيَةِ الْتِزَامِهِ،
لأَِنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَلَمْ
يَرْغَبْ وَرَثَتُهُ فِي إِتْمَامِ ذَلِكَ الْعَمَل الْمَوْصُوفِ فِي
ذِمَّتِهِ لِيَسْتَحِقُّوا الأَْجْرَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَا
لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَوْتِ الْمُلْتَزِمِ مُفْلِسًا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ
أَنَّ الإِْجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ لأَِعْيَانِهِ
وَالأَْجِيرِ عَلَى عَمَلِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ قَبْل تَنْفِيذِ الْعَقْدِ
أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأَِنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مِلْكِ
الْمُؤَجِّرِ يُتَعَذَّرُ بِالْمَوْتِ، فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً،
وَيَنْتَهِي الْتِزَامُ كُلٍّ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَالأَْجِيرِ (2) .
__________
(1) انظر المراجع السابقة.
(2) المبسوط 15 / 153 - 154، 16 / 5، وتكملة فتح القدير 9 / 145، ورد
المحتار 6 / 83، وبداية المجتهد 2 / 229 - 230، والمغني 8 / 43.
(39/297)
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا
بَعْضَ الْحَالاَتِ الْخَاصَّةِ، وَقَالُوا إِنَّ الإِْجَارَةَ فِيهَا لاَ
تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ ضَرُورَةً، وَهِيَ:
أ - إِذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ قَبْل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَفِي
الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ زَرْعُ بَقْلٍ، أَيْ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ،
فَيَبْقَى الْعَقْدُ وَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ حَتَّى يُدْرِكَ
الزَّرْعُ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عِنْدَئِذٍ الأَْجْرُ الْمُسَمَّى إِلَى
نِهَايَةِ مُدَّةِ الْعَقْدِ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَجْرُ
الْمِثْل حَتَّى يُدْرِكَ.
ب - إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَمَاتَ صَاحِبُ
الدَّابَّةِ وَسَطَ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَ
الدَّابَّةَ إِلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِالأَْجْرِ إِذَا لَمْ يَجِدْ
دَابَّةً أُخْرَى يَصِل بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ثَمَّةَ قَاضٍ
يَرْفَعُ الأَْمْرَ إِلَيْهِ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِمَوْتِ صَاحِبِ
الدَّابَّةِ (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي (إِجَارَةٌ ف 59 - 72) .
د - الْمُسَاقَاةُ:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى
الاِلْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، سَوَاءٌ
فِي ذَلِكَ مَا الْتَزَمَ بِهْ صَاحِبُ الشَّجَرِ أَوِ النَّخْل
بِتَمْكِينِ الْعَامِل مِنَ الْقِيَامِ بِسَقْيِهِ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 222 - 223، ورد المحتار 6 / 83، 84، 85، والفتاوى
الخيرية 2 / 131، والعناية على الهداية 9 / 145.
(39/297)
وَإِصْلاَحِهِ، أَوْ مَا الْتَزَمَ بِهِ
الْعَامِل مِنْ تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَعَمَل سَائِرِ مَا يُحْتَاجُ
إِلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ لاَ يَنْفَسِخُ
بِمَوْتِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل بَدْءِ الْعَمَل
أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَأَشْبَهَ الإِْجَارَةَ،
وَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا.
وَعَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَامِل الْمُسَاقَاةِ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ
يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي إِتْمَامِ الْعَمَل إِذَا كَانُوا عَارِفِينَ
بِالْعَمَل أُمَنَاءَ، وَيَلْزَمُ الْمَالِكَ أَوْ وَرَثَتَهُ
تَمْكِينُهُمْ مِنَ الْعَمَل إِنْ كَانُوا كَذَلِكَ.
فَإِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْعَمَل لَمْ يُجْبَرُوا
عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْوَارِثَ لاَ يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي
عَلَى مُوَرِّثِهِ إِلاَّ مَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ،
وَالْعَمَل هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ
يَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ مَنْ يَقُومُ بِالْعَمَل،
لأَِنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ، فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَرِكَةٌ، وَلَمْ يَتَبَرَّعِ الْوَرَثَةُ
بِالْوَفَاءِ، فَلِرَبِّ الْمَال الْفَسْخُ، لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ قَبْل
قَبْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَبَّ الشَّجَرِ، لَمْ تُفْسَخِ
(39/298)
الْمُسَاقَاةُ، وَيَسْتَمِرُّ الْعَامِل
فِي عَمَلِهِ، وَيَجِبُ عَلَى وَرَثَةِ رَبِّ الْمَال تَمْكِينُهُ مِنَ
الْعَمَل وَالاِسْتِمْرَارِ فِيهِ وَعَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ، وَبَعْدَ
تَمَامِ الْعَمَل يَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَرِ بِحَسَبِ مَا
اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَبْطُل
بِالْمَوْتِ، أَيْ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ أَوِ الْعَامِل، قَبْل بَدْءِ
الْعَمَل أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الإِْجَارَةِ،
وَهَذَا هُوَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ.
ثُمَّ فَصَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِذَا قَامَ الْعَامِل
بِرِعَايَةِ وَسِقَايَةِ الشَّجَرِ، وَلَقَّحَهُ حَتَّى صَارَ بُسْرًا
أَخْضَرَ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَإِنَّ الْمُسَاقَاةَ
تَنْتَقِضُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ لِلْعَامِل -
اسْتِحْسَانًا - أَنْ يَقُومَ بِرِعَايَةِ الشَّجَرِ حَتَّى يُدْرِكَ
الثَّمَرُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الشَّجَرِ، لأَِنَّ فِي
انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ إِضْرَارًا بِالْعَامِل
وَإِبْطَالاً لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ تَرْكُ
الثِّمَارِ عَلَى الأَْشْجَارِ إِلَى وَقْتِ الإِْدْرَاكِ، وَإِذَا
انْتَقَضَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الْجِذَاذَ قَبْل الإِْدْرَاكِ،
وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بَالِغٌ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لاَ تَبْطُل
الْمُسَاقَاةُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 399، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 5 / 257،
وبداية المجتهد 2 / 250، وحاشية الدسوقي 3 / 488، والمدونة 12 / 27،
والمغني 7 / 542، 546.
(39/298)
بِمَوْتِ رَبِّ الشَّجَرِ فِي
الاِسْتِحْسَانِ، فَإِنْ أَبَى الْعَامِل أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي عَمَل
الشَّجَرِ وَأَصَرَّ عَلَى قَطْعِهِ وَأَخْذِهِ بُسْرًا انْتَقَضَ
الْعَقْدُ، لأَِنَّ إِبْقَاءَ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا إِنَّمَا كَانَ
لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ الْتِزَامَ الضَّرَرِ كَانَ
لَهُ مَا اخْتَارَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ
بِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ، فَيَثْبُتُ لَهُمُ الْخِيَارُ عَلَى النَّحْوِ
التَّالِي:
أ - أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي
الْعَقْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ مُوَرِّثِهِمْ وَالْعَامِل.
ب - أَنْ يُعْطُوا الْعَامِل قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنَ الْبُسْرِ.
ج - أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيَرْجِعُوا
بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِل مِنَ الثَّمَرِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ عَامِل الْمُسَاقَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ
الْعَقْدَ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ اسْتِحْسَانًا وَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ
أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي تَعَهُّدِ الشَّجَرِ وَرِعَايَتِهِ، وَإِنْ
كَرِهَ رَبُّ الشَّجَرِ، لأَِنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، إِلاَّ أَنْ
يَقُول الْوَرَثَةُ: نَحْنُ نَأْخُذُهُ بُسْرًا، وَطَلَبُوا نَصِيبَ
مُوَرِّثِهِمْ مِنَ الْبُسْرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِصَاحِبِ
الشَّجَرِ مِنَ الْخِيَارِ مِثْل مَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ
لِوَرَثَتِهِ إِذَا أَبَى الْعَامِل أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الْقِيَامِ عَلَى
الشَّجَرِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَا جَمِيعًا، كَانَ الْخِيَارُ فِي الْقِيَامِ
(39/299)
عَلَيْهِ لِوَرَثَةِ الْعَامِل،
لأَِنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ هَذَا
الْخِيَارُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ
لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ كَانَ الْخِيَارُ
لِوَرَثَةِ رَبِّ الشَّجَرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْوَجْهِ الأَْوَّل
(1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ
الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا مَاتَ
الْعَامِل أَوْ رَبُّ الشَّجَرِ انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ، كَمَا لَوْ
فَسَخَهَا أَحَدُهُمَا، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ عَقْدَ
الْمُسَاقَاةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَمَتَى انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ظُهُورِ
الثَّمَرَةِ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ،
وَيَلْزَمُ الْعَامِل أَوْ وَارِثَهُ إِتْمَامُ الْعَمَل، فَإِنْ ظَهَرَتْ،
ثَمَرَةٌ أُخْرَى بَعْدَ الْفَسْخِ فَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل فِيهَا،
وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ شُرُوعِ
الْعَامِل فِي الْعَمَل وَقَبْل ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَلَهُ أُجْرَةُ
مِثْل عَمَلِهِ، وَيَقُومُ وَارِثُ الْعَامِل بَعْدَ مَوْتِهِ مَقَامَهُ
فِي الْمِلْكِ وَالْعَمَل، فَإِنْ أَبَى الْوَارِثُ أَنْ يَأْخُذَ
وَيَعْمَل، لَمْ يُجْبَرْ، وَيَسْتَأْجِرُ الْحَاكِمُ مِنَ التَّرِكَةِ
مَنْ يَعْمَل، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِكَةٌ، أَوْ تَعَذَّرَ
الاِسْتِئْجَارُ
__________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية 9 / 481 - 482، والفتاوى الهندية 5 / 281
- 282، وتبيين الحقائق للزيلعي 5 / 285، والمبسوط للسرخسي 23 / 56.
(39/299)
مِنْهَا بِيعَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ
الثَّمَرِ الظَّاهِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَكْمِيل الْعَمَل،
وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَعْمَلُهُ (1) .
هـ - الْمُزَارَعَةُ:
71 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ
تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَامِل
أَمْ رَبَّ الأَْرْضِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُزَارَعَةَ مِنَ الْعُقُودِ
الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا
مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الزِّرَاعَةِ، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْفَسِخُ،
إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إِبْطَال مَالٍ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَلاَ شَيْءَ
لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا عَمِل.
أَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ فَإِنَّ
الْمُزَارَعَةَ تَبْقَى اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ لِدَفْعِ مَا يُصِيبُ
أَحَدَهُمَا مِنْ ضَرَرٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا تَبْطُل، وَلَكِنْ تَبْقَى
حُكْمًا إِلَى حَصْدِ الزَّرْعِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ: أَنَّ صَاحِبَ الأَْرْضِ إِذَا مَاتَ
وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَإِنَّ الْعَمَل يَكُونُ عَلَى
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 345، وكشاف القناع 3 / 538 - 539، والمغني 7 /
546، وانظر المواد 1965 - 1968 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(2) بدائع الصنائع 6 / 184 - 185، والمبسوط للسرخسي 23 / 45، والهداية
بشروحها العناية وتكملة الفتح 9 / 473، 474، 477، والمغني 7 / 546، 561،
وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 345.
(39/300)
الْمُزَارِعِ خَاصَّةً، لأَِنَّ الْعَقْدَ
وَإِنْ كَانَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ
الْمَوْتُ، إِلاَّ أَنَّنَا أَبْقَيْنَاهُ تَقْدِيرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ
عَنِ الْمُزَارِعِ، لأَِنَّهُ لَوِ انْفَسَخَ لَثَبَتَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ
حَقُّ الْقَلْعِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ، فَجَعَل ذَلِكَ عُذْرًا
فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ
الْعَمَل عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً كَمَا كَانَ قَبْل الْمَوْتِ.
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُزَارِعُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ، فَلِوَرَثَتِهِ
أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ
الأَْرْضِ، لأَِنَّ فِي الْقَطْعِ ضَرَرًا بِهِمْ وَلاَ ضَرَرَ بِصَاحِبِ
الأَْرْضِ فِي التَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الإِْدْرَاكِ، وَإِنْ أَرَادَ
الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ وَتَرْكَ الْعَمَل، لَمْ يُجْبَرُوا
عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ حَقِيقَةً، إِلاَّ أَنَّا
أَبْقَيْنَاهُ بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ، فَإِنِ امْتَنَعُوا عَنِ
الْعَمَل بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا، وَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الأَْرْضِ:
إِمَّا أَنْ يَقْسِمَهُ بِالْحِصَصِ، أَوْ يُعْطِيَهُمْ قِيمَةَ حِصَصِهِمْ
مِنَ الزَّرْعِ الْبَقْل، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَال
نَفْسِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِهِمْ،
لأَِنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 184 - 185، والمبسوط للسرخسي 23 / 45، والهداية مع
العناية وتكملة فتح القدير 9 / 473، 474، 477.
(39/300)
و - الْحَوَالَةُ:
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوِ
الْمُحِيل فِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى الاِلْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ
عَنْ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل اسْتِيفَاءِ
دَيْنِ الْحَوَالَةِ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُحَال
عَلَيْهِ يُلْزَمُ بِالدَّيْنِ الْمَحَال بِهِ، وَلاَ يُطَالَبُ بِهِ
الْمُحِيل أَبَدًا، لأَِنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ بَرِئَتْ بِمُقْتَضَى
الْحَوَالَةِ، فَلاَ يَكُونُ لِلْمُحَال الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ عَلَى
الْمُحِيل بِحَالٍ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ الْمَحَال عَلَيْهِ،
فَإِنَّ مَا الْتَزَمَ بِهِ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِهِ، بَل يُؤْخَذُ مِنْ
تَرِكَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا لاَ تَرِكَةَ لَهُ فَإِنَّ
الْتِزَامَهُ لاَ يَبْطُل، وَلاَ يَكُونُ لِلْمُحَال حَقٌّ فِي الرُّجُوعِ
عَلَى الْمُحِيل، لأَِنَّ الْحَوَالَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ لاَ يَنْفَسِخُ
بِالْمَوْتِ فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل لِبَقَاءِ الدَّيْنِ
الْمُحَال بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا مَوْتُ الْمُحِيل فَلاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الْحَوَالَةِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ ذِمَّتَهُ
قَدْ بَرِئَتْ وَانْتَقَل الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ،
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 415، وأسنى المطالب 2 / 232، وكشاف القناع 3 / 386،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 257.
(39/301)
فَأَصْبَحَ هُوَ الْمُطَالَبَ بِهِ
وَحْدَهُ، إِذِ الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الإِْيفَاءِ
ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِمَوْتِ
الْمُحَال عَلَيْهِ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ مَالٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ
تَرِكَتِهِ وَيُعْطَى لِلْمُحَال.
وَإِذَا كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدِينًا قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ
الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَال بِالْحِصَصِ، فَإِنْ بَقِيَ لِلْمُحَال
شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ رَجِعَ بِهِ عَلَى الْمُحِيل.
وَإِذَا كَانَ دَيْنُ الْحَوَالَةِ مُؤَجَّلاً فَإِنَّهُ يَحِل بِوَفَاةِ
الْمُحَال عَلَيْهِ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنِ الأَْجَل بِمَوْتِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا،
فَإِنَّ الْحَوَالَةَ حِينَئِذٍ تَنْتَهِي فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ - إِنْ
لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِشَيْءٍ مِنْهُ - أَوْ تَنْتَهِي فِي بَاقِيهِ إِنْ
تَرَكَ وَفَاءً بِبَعْضِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُحِيل فَإِنَّ لِوَفَاتِهِ تَأْثِيرًا عَلَى
الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، وَإِنْ كَانَ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ
ذِمَّةَ الْمُحِيل قَدْ بَرِئَتْ لاِنْتِقَال الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ
الْمُحَال عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ
الْمُحَال، فَخَوْفًا أَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ وَيَتْوَى، كَانَ لَهُ
الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل رَغْمَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْهُ، إِذِ
الْبَرَاءَةُ هَهُنَا مُؤَقَّتَةٌ وَمَرْهُونَةٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ
__________
(1) المبسوط 20 / 72، ورد المحتار 5 / 345، وتكملة فتح القدير والعناية مع
الهداية 7 / 245، 250.
(39/301)
الْمُحَال، وَلِهَذَا فَإِنْ مَاتَ
الْمُحِيل بَعْدَ الْحَوَالَةِ وَقَبْل اسْتِيفَاءِ الْمُحَال الْمَال مِنَ
الْمُحَال عَلَيْهِ بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُحِيل
دُيُونٌ أُخْرَى، فَالْمُحَال أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً، فَإِنَّهُ لاَ تَبْطُل
بِمَوْتِ الْمُحِيل، وَلاَ تَأْثِيرَ لِمَوْتِهِ عَلَى الْحَوَالَةِ،
وَأَسَاسُ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ: أَنَّ
الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ تَبَرُّعٌ، وَإِذَا كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ
مَدِينًا لِلْمُحِيل لاَ تَتَقَيَّدُ بِدَيْنِهِ، وَلِذَا كَانَ لِلْمُحِيل
مُطَالَبَتُهُ بِهِ قَبْل الأَْدَاءِ، فَلاَ تَبْطُل بِقِسْمَةِ دَيْنِ
الْمُحِيل بَيْنَ غُرَمَائِهِ، لأَِنَّ الْمُحَال لَمْ يَبْقَ مِنْ
غُرَمَائِهِ، بَل صَارَ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحَال عَلَيْهِ، فَهَذَا
كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لاَ تَبْطُل
بِمَوْتِ الْمُحِيل، بَل تَبْقَى مُطَالَبَةُ الْمُحَال عَلَى الْمُحْتَال
عَلَيْهِ، وَإِنْ أُخِذَ مِنْهُ دَيْنُ الْمُحِيل وَقُسِمَ بَيْنَ
غُرَمَائِهِ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ (2) .
ثَالِثًا: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ مَتَى تَمَّتْ،
فَإِنَّ الدَّيْنَ يَنْتَقِل مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى ذِمَّةِ
الْمُحَال عَلَيْهِ، وَيُصْبِحُ الْمُحَال عَلَيْهِ مُلْتَزِمًا
بِأَدَائِهِ لِلْمُحَال، فَإِذَا مَاتَ قَبْل الأَْدَاءِ، فَإِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 17، والبحر الرائق 6 / 274، وتبيين الحقائق 4 / 174،
والعقود الدرية 1 / 292.
(2) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 293.
(39/302)
يُؤْخَذُ الدَّيْنُ الْمُحَال بِهِ مِنْ
تَرِكَتِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لِلْمُحَال عَلَى الْمُحِيل بِحَال، حَتَّى
وَإِنْ مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ
الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوْ
أَفْلَسَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، فَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ شَرْطُهُ
إِذَا مَاتَ الْمُحَال أَوْ فَلَّسَ (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ:
وَتَشْمَل هَذِهِ الْعُقُودُ الرَّهْنَ وَالْكَفَالَةَ، إِذِ الرَّهْنُ
لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ، وَالْكَفَالَةُ
لاَزِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيل دُونَ الْمَكْفُول لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ
فِيمَا يَلِي:
أ - الرَّهْنُ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامِ الرَّاهِنِ
بَيْنَ حَالَتَيْنِ:
73 - الْحَالَةُ الأُْولَى: مَوْتُ الرَّاهِنِ بَعْدُ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ
لِلْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ بَعْدُ
الْقَبْضِ يَكُونُ لاَزِمًا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا اللُّزُومِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
لِلرَّاهِنِ فَسْخُهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، فَإِذَا
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 94 - 95، والخرشي 6 / 17 - 18، والبهجة 2 / 58.
(39/302)
مَاتَ الرَّاهِنُ بَعْدَ الْقَبْضِ،
فَإِنَّ الْتِزَامَهُ النَّاشِئَ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ لاَ يَسْقُطُ
بِمَوْتِهِ، لأَِنَّ الرَّهْنَ قَدْ لَزِمَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلاَ حَقَّ
لِلْوَرَثَةِ فِي إِبْطَال حَقِّ الْمُرْتَهِنِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَيْنِ
الْمَرْهُونَةِ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثًا لَهُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ
الْعَيْنَ تَبْقَى تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ
دَيْنَهُ، وَإِلاَّ بِيعَتِ الْعَيْنُ لِوَفَاءِ حَقِّهِ إِذَا تَعَذَّرَ
الاِسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1)
.
74 - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْتُ الرَّاهِنِ قَبْل الْقَبْضِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الْتِزَامِ
الرَّاهِنِ بَعْدَ الرَّهْنِ إِذَا مَاتَ قَبْل تَسْلِيمِ الْعَيْنِ
الْمَرْهُونَةِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُل بِمَوْتِ الرَّاهِنِ
قَبْل الْقَبْضِ، وَيَنْتَهِي الْتِزَامُهُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ
وَرَثَتَهُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَبِذَلِكَ
__________
(1) العقود الدرية 2 / 238، والعناية على الهداية 10 / 175 - 176، وحاشية
الدسوقي 3 / 217، والمنتقى 5 / 248، ومغني المحتاج 2 / 129، وكشاف القناع 3
/ 332، والمغني 6 / 531 - 532.
(39/303)
لاَ يَخْتَصُّ الْمُرْتَهِنُ بِالْعَيْنِ
الْمَرْهُونَةِ، بَل يَكُونُ فِي دَيْنِهِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ
أَنَّ الرَّهْنَ لاَ يَبْطُل بِمَوْتِ الرَّاهِنِ قَبْل الْقَبْضِ، لأَِنَّ
مَصِيرَ الرَّهْنِ إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ
كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي
الإِْقْبَاضِ إِنْ شَاؤُوا وَلاَ يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ عَقْدَ
الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا فِي حَقِّ مُوَرِّثِهِمْ قَبْل الْقَبْضِ،
فَلَمْ يَلْزَمْ بِمَوْتِهِ، وَيَرِثُ وَرَثَتُهُ خِيَارَهُ فِي
التَّسْلِيمِ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ عَدَمِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَبَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ نَصُّوا فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِوَرَثَةِ الرَّاهِنِ أَنْ
يَخُصُّوا الْمُرْتَهِنَ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، إِذَا كَانَ عَلَى
مُوَرِّثِهِمْ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى دَيْنِهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ (2) .
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 6 / 63، والخرشي 5 / 245، والشرح
الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 217، والمهذب 1 / 307، وفتح العزيز 10 / 76،
وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 157.
(2) نهاية المحتاج 4 / 251، وأسنى المطالب 2 / 157، ومغني المحتاج 2 / 129،
والمهذب 1 / 307، وفتح العزيز 10 / 76، وشرح منتهى الإرادات 2 / 232، وكشاف
القناع 3 / 332، والقواعد ص 344.
(39/303)
ب - الْكَفَالَةُ: 75 - الْكَفَالَةُ
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: كَفَالَةٌ بِالْمَال، وَكَفَالَةٌ
بِالنَّفْسِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَكْفُول
لَهُ (رَبَّ الْحَقِّ) إِذَا مَاتَ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لاَ تَسْقُطُ،
سَوَاءٌ أَكَانَتْ كَفَالَةً بِالْمَال أَوْ بِالنَّفْسِ، وَيَنْتَقِل
الْحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَوْرُوثَةِ،
فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ
الْمَكْفُول بِهِ (1) .
أَمَّا عَنْ أَثَرِ مَوْتِ الْكَفِيل فِي بُطْلاَنِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ
فَيُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِالْمَال وَالْكَفَالَةِ
بِالنَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْكَفَالَةُ بِالْمَال:
76 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيل
بِأَدَاءِ الْمَال فِيهَا لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل يُؤْخَذُ مِنْ
تَرِكَتِهِ، لأَِنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ، فَيُطَالَبُ
بِهِ وَصِيُّهُ أَوْ وَارِثُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ (2) .
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 171، وأسنى المطالب 2 / 244، وشرح منتهى الإرادات
2 / 246، 254.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 171، ورد المحتار 5 / 292، ونهاية المحتاج 4 /
445، شرح منتهى الإرادات 2 / 254، والخرشي 6 / 28، وحاشية الدسوقي 3 / 303.
(39/304)
وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ
مُؤَجَّلاً، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وأحمد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَحِل
بِمَوْتِ الْكَفِيل، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا. وَلَكِنَّ
وَرَثَتَهُ لاَ تَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ حُلُول
الأَْجَل، لأَِنَّ الأَْجَل بَاقٍ فِي حَقِّ الْمَكْفُول لِبَقَاءِ
حَاجَتِهِ إِلَيْهِ (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي
الْمَذْهَبِ فَقَالُوا: لاَ يَحِل الدَّيْنُ الْمَكْفُول بِهِ الْمُؤَجَّل
بِمَوْتِ الْكَفِيل إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ
مَلِيءٍ لأَِنَّ التَّأْجِيل حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمَيِّتِ، فَلَمْ
يَبْطُل بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ (2) .
ب - الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ:
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ مَوْتِ الْكَفِيل عَلَى
الْتِزَامِهِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 170 - 171، ونهاية المحتاج 4 / 445 - 446،
والخرشي 6 / 28، والمغني 7 / 83.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 252، وكشاف القناع 3 / 374.
(39/304)
الْمَكْفُول بِهِ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ،
وَلاَ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِذَلِكَ، فَيُطَالَبُ وَرَثَتُهُ بِإِحْضَارِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا أَوْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أُخِذَ مِنَ التَّرِكَةِ
قَدْرُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَكْفُول بِهِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ
الْكَفَالَةَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْكَفِيل، لأَِنَّ تَسْلِيمَ الْكَفِيل
الْمَطْلُوبَ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيل لاَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَلاَ
تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى وَرَثَتِهِ، لأَِنَّهُمْ
لَمْ يَكْفُلُوا لَهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا لَهُ لاَ
فِيمَا عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ لاَ شَيْءَ لِلْمَكْفُول لَهُ فِي
تَرِكَتِهِ، لأَِنَّ مَالَهُ لاَ يَصْلُحُ لإِِيفَاءِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ
(2) .
78 - أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمَكْفُول بِهِ - فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ
- فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَسْقُطُ عَنِ الْكَفِيل، وَلاَ يُلْزَمُ بِشَيْءٍ،
لأَِنَّ النَّفْسَ الْمَكْفُولَةَ قَدْ ذَهَبَتْ، فَعَجَزَ الْكَفِيل عَنْ
إِحْضَارِهَا، وَلأَِنَّ الْحُضُورَ قَدْ سَقَطَ عَنِ الْمَكْفُول،
فَبَرِئَ الْكَفِيل تَبَعًا لِذَلِكَ، لأَِنَّ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ
أَجْلِهِ سَقَطَ عَنِ الأَْصْل فَبَرِئَ الْفَرْعُ، كَالضَّامِنِ إِذَا
قَضَى الْمَضْمُونُ عَنْهُ الدَّيْنَ أَوْ أُبْرِئَ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ
__________
(1) الخرشي 6 / 28، وكشاف القناع 3 / 379، وشرح منتهى الإرادات 2 / 254،
والبحر الرائق 6 / 230.
(2) رد المحتار 5 / 292، وتكملة فتح القدير 7 / 170، ونهاية المحتاج 4 /
439، والمبسوط 19 / 164.
(39/305)
قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ اللَّيْثُ وَالْحَكَمُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى
الْكَفِيل غُرْمُ مَا عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْكَفِيل وَثِيقَةٌ بِحَقٍّ،
فَإِذَا تَعَذَّرَتْ مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، اسْتُوْفِيَ
مِنَ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ، وَلأَِنَّهُ تَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ،
فَلَزِمَ كَفِيلَهُ مَا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ غَابَ (2) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ مِنَ
الْجَانِبَيْنِ:
وَتَشْمَل هَذِهِ الْعُقُودُ الْهِبَةَ قَبْل الْقَبْضِ، وَالإِْعَارَةَ،
وَالْقَرْضَ، وَالْوَكَالَةَ، وَالشَّرِكَةَ، وَالْمُضَارَبَةَ، وَبَيَانُ
ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْهِبَةُ قَبْل الْقَبْضِ:
79 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ الْهِبَةِ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ
قَبْل لُزُومِ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) المبسوط 19 / 184، وبداية المجتهد 2 / 295، والتاج والإكليل 5 / 115،
وأسنى المطالب 2 / 244، ونهاية المحتاج 4 / 437، وشرح منتهى الإرادات 2 /
254، والمغني 7 / 105.
(2) مواهب الجليل 5 / 115، وبداية المجتهد 2 / 295، والمغني 7 / 105.
(39/305)
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ،
وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْل الْقَبْضِ.
وَعَلَّل ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ بِانْتِقَال الْمُلْكِ لِوَارِثِ
الْوَاهِبِ قَبْل تَمَامِهَا.
وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْهِبَةَ نَوْعٌ مِنِ الْتِزَامِ
الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَيْءٍ، وَلاَ يُقْضَى بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُلْتَزِمِ إِذَا أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ قَبْل
الْحِيَازَةِ.
وَعَلَّلَهُ مُوَافِقُوهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي
غَيْرِ الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَل بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ
أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا مَاتَ قَبْل قَبْضِ هِبَتِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ
عَقْدُ الْهِبَةِ، لأَِنَّهُ يَئُول إِلَى اللُّزُومِ، فَلَمْ يَبْطُل
بِالْمَوْتِ، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَيَقُومُ وَارِثُ
الْوَاهِبِ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي الإِْقْبَاضِ وَالإِْذْنِ فِيهِ،
وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ أَقْبَضَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ
يُقْبِضْ (2) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 700، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 88،
وتحرير الكلام في مسائل الالتزام (بهامش فتاوى عليش) 1 / 218، والمغني 8 /
243، والمهذب 1 / 454، ومغني المحتاج 2 / 401.
(2) مغني المحتاج 2 / 401، وأسنى المطالب 2 / 282، والمهذب 1 / 454، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 520، والمغني 8 / 243.
(39/306)
ب - الإِْعَارَةُ:
80 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْفِسَاخِ عَقْدِ الْعَارِيَةِ بِمَوْتِ
الْمُعِيرِ، وَانْتِهَاءِ تَبَرُّعِهِ بِمَنَافِعِهَا لِلْمُسْتَعِيرِ،
وَوُجُوبِ مُبَادَرَةِ الْمُسْتَعِيرِ إِلَى رَدِّ الْعَارِيَةِ
لِوَرَثَتِهِ.
وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا عَقْدٌ
جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَتَبْطُل بِمَوْتِ أَيٍّ مِنْهُمَا،
كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.
وَوَجْهُ الْبُطْلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ انْتَقَلَتْ
إِلَى وَارِثِ الْمُعِيرِ بِمَوْتِهِ، وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ هَذَا
تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا جَعَل الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ
مِلْكَ نَفْسِهِ لاَ مِلْكَ غَيْرِهِ (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الإِْعَارَةَ
مَعْرُوفٌ، وَالْوَفَاءُ بِهَا لاَزِمٌ، لأَِنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ
مَعْرُوفًا لَزِمَهُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ مَا لَمْ يَمُتْ أَوْ
يُفْلِسْ قَبْل الْحِيَازَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا كَانَتِ الْعَارِيَةُ مُقَيَّدَةً بِعَمَلٍ،
كَطَحْنِ إِرْدَبٍّ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ حَمْلِهِ عَلَى
__________
(1) المبسوط 11 / 143، وأسنى المطالب 2 / 332، ونهاية المحتاج 5 / 130 -
131، وشرح منتهى الإرادات 2 / 398، وكشاف القناع 4 / 73.
(39/306)
الدَّابَّةِ الْمُسْتَعَارَةِ إِلَى جِهَةٍ
مَا كَانَ حُكْمُهَا اللُّزُومَ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ
الْعَمَل الَّذِي اسْتُعِيرَتْ لأَِجْلِهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ
مُقَيَّدَةً بِزَمَنٍ، كَيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ مِثْلاً، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ
فِي حَقِّهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَْجَل الْمَضْرُوبُ لِلاِنْتِفَاعِ
بِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً - غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِعَمَلٍ أَوْ
زَمَنٍ - فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَكُونُ لاَزِمًا فِي حَقِّ الْمُعِيرِ،
وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ.
وَحَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، فَإِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ بَعْدَ
قَبْضِ الْمُسْتَعِيرِ لِلْعَارِيَةِ، وَبَقِيَ فِي مُدَّتِهَا، أَوْ مِنَ
الْغَرَضِ الْمُسْتَعَارَةِ لأَِجْلِهِ شَيْءٌ، فَلاَ تَبْطُل الإِْعَارَةُ
بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَنْتَهِي الْتِزَامُهُ، وَتَبْقَى الْعَيْنُ
الْمُعَارَةُ بِيَدِ الْمُسْتَعِيرِ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِهَا إِلَى
نِهَايَةِ الْعَمَل أَوِ الْمُدَّةِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ قَبْل
أَنْ يَقْبِضَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَةَ فَإِنَّ الإِْعَارَةَ تَبْطُل
بِمَوْتِهِ لِعَدَمِ تَمَامِهَا بِالْحِيَازَةِ قَبْلَهُ (1) .
ج - الْوَكَالَةُ:
81 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ
__________
(1) الخرشي 6 / 126، والمدونة 15 / 167، وحاشية الدسوقي 3 / 394، وبداية
المجتهد 2 / 313، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب 1 / 218 - 219.
(39/307)
تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّل أَوِ
الْوَكِيل، وَتَبْطُل سَائِرُ الاِلْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا
مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
أَمَّا الْمُوَكِّل: فَلأَِنَّ التَّوْكِيل إِنَّمَا قَامَ بِإِذْنِهِ،
وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُ بِالْمَوْتِ
بَطَل إِذْنُهُ، وَانْتَقَل الْحَقُّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ.
وَأَمَّا الْوَكِيل: فَلأَِنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلتَّصَرُّفِ قَدْ زَالَتْ
بِمَوْتِهِ، وَلَيْسَ الْوَكَالَةُ حَقًّا لَهُ فَتُورَثُ عَنْهُ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّ الْوَكَالَةَ تَعْتَمِدُ الْحَيَاةَ
وَالْعَقْل، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ صِحَّتُهَا، لاِنْتِفَاءِ
مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَوْتَ الْمُوَكِّل فِي حَالَةِ
الْوَكَالَةِ بِبَيْعِ الرَّهْنِ إِذَا وَكَّل الرَّاهِنُ الْعَدْل أَوِ
الْمُرْتَهِنَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، فَحِينَئِذٍ لاَ
تَبْطُل الْوَكَالَةُ وَلاَ يَنْعَزِل
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 37 - 39، والمبسوط 11 / 181، 213، 19 / 73، ونهاية
المحتاج 5 / 55، والقليوبي وعميرة 2 / 348، والمهذب 1 / 364، وميارة على
التحفة 1 / 136، والخرشي 6 / 86، وبداية المجتهد 2 / 303، وكشاف القناع 3 /
468، وانظر: م (1529) من المجلة العدلية، والمغني 7 / 234.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 305.
(39/307)
الْوَكِيل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل (1) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَوْتَ الْمُوَكِّل إِذَا وَكَّل مَنْ
يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ، كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، فَفِي
هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ تَبْطُل الْوَكَالَةُ بِمَوْتِهِ (2) .
د - الشَّرِكَةُ:
82 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْفِسَاخِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ
(بِأَنْوَاعِهَا) وَبُطْلاَنِ الاِلْتِزَامَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا
بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ، فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ
كَالْوَكَالَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَإِنَّمَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ
لأَِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، أَيْ مَشْرُوطٌ ابْتِدَاؤُهَا بِهَا
ضَرُورَةً، فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ ابْتِدَاؤُهَا إِلاَّ بِوِلاَيَةِ
التَّصَرُّفِ لِكُل مِنْهُمَا فِي مَال الآْخَرِ، وَلاَ تَبْقَى
الْوِلاَيَةُ إِلاَّ بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 539، والهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 8 / 141،
ودرر الحكام 3 / 664، وانظر: م (971) من مرشد الحيران وم (1527) من المجلة
العدلية.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 305، وانظر: م (1211) من مجلة الأحكام الشرعية
على مذهب أحمد.
(3) فتح القدير 6 / 194، ورد المحتار 4 / 327، وفتح العزيز 10 / 424، وأسنى
المطالب 2 / 257، ونهاية المحتاج 5 / 10، وبداية المجتهد 2 / 256، والمدونة
12 / 84، والمغني 7 / 131، وكشاف القناع 3 / 506 - 507، وقد جاء في م
(1832) من مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية: تبطل الشركة بموت أحد الشريكين
وجنونه المطبق وبالحجر عليه لسفه، وبكل ما يبطل الوكالة.
(39/308)
هـ - الْمُضَارَبَةُ:
83 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ
الْمُضَارَبَةِ وَبُطْلاَنِ الاِلْتِزَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ
بِمَوْتِ الْمُضَارِبِ أَوْ رَبِّ الْمَال إِذَا كَانَ مَال الْمُضَارَبَةِ
نَاضًّا (أَيْ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ مَالِهَا) ، وَذَلِكَ لأَِنَّ
الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَالْوَكَالَةُ تَنْفَسِخُ
بِمَوْتِ أَحَدِ عَاقِدَيْهَا وَلاَ تُوَرَّثُ، فَتَتْبَعُهَا
الْمُضَارَبَةُ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَال عُرُوضًا تِجَارِيَّةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا،
وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ بُطْلاَنُ الْمُضَارَبَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 112، والعقود الدرية لابن عابدين 2 / 67 - 68، ورد
المحتار 5 / 654 - 655، والفتاوى الهندية 4 / 329، ونهاية المحتاج 5 / 237،
والخرشي 6 / 213، والمدونة 12 / 130، والمغني 7 / 172.
(39/308)
بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَتُبَاعُ
السِّلَعُ وَالْعُرُوضُ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَال جَمِيعُهُ،
وَيُوَزَّعَ بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى وَالطَّرَفِ الْبَاقِي (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَبْطُل
بِوَفَاةِ رَبِّ الْمَال أَوِ الْمُضَارِبِ.
أَمَّا رَبُّ الْمَال إِذَا مَاتَ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي الْمَال،
وَيَبْقَى الْعَامِل عَلَى قِرَاضِهِ إِذَا أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَقَاءَهُ،
وَإِنْ أَرَادُوا فَسْخَ الْعَقْدِ وَأَخْذَ مَالِهِمْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ
بَعْدَ نَضُوضِهِ.
وَأَمَّا الْمُضَارِبُ إِذَا مَاتَ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي حَقِّ
عَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَنْتَزِعَهُ
مِنْهُمْ إِذَا أَرَادُوا الْعَمَل فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوا
فِيهِ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ لِمُوَرِّثِهِمْ (2) .
__________
(1) الهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 8 / 470، والبدائع 6 / 112، ورد
المحتار 5 / 654 - 655، وأسنى المطالب 2 / 390، ونهاية المحتاج 5 / 237،
والمغني 7 / 172، وشرح منتهى الإرادات 2 / 336، وانظر: م (1865) و (1866)
من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد.
(2) المنتقى للباجي 5 / 174 - 175، والمدونة 12 / 130، والخرشي 6 / 213،
والبهجة شرح التحفة 2 / 221، وحاشية الدسوقي 3 / 479.
(39/309)
و - الْجَعَالَةُ:
84 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
تَأْثِيرِ الْمَوْتِ عَلَى الاِلْتِزَامِ عَلَى الْجَعَالَةِ بَيْنَ مَوْتِ
الْجَاعِل وَمَوْتِ الْمَجْعُول لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
مَوْتُ الْجَاعِل:
85 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى
انْفِسَاخِ الْجَعَالَةِ بِمَوْتِ الْجَاعِل وَبُطْلاَنِ الْتِزَامِهِ
فِيهَا قَبْل شُرُوعِ الْعَامِل (الْمَجْعُول لَهُ فِي الْعَمَل) .
وَقَال ابن حبيب وابن القاسم فِي ظَاهِرِ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْهُ: لاَ
يَبْطُل الْجُعْل بِمَوْتِ الْجَاعِل، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ وَرَثَتَهُ، وَلاَ
يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَجْعُول لَهُ مِنَ الْعَمَل.
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْجَاعِل بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنَ الْعَمَل فَلاَ
أَثَرَ لِوَفَاتِهِ عَلَى الْتِزَامِهِ، لأَِنَّهُ قَدْ تَمَّ
وَاسْتَقَرَّ، وَوَجَبَ لِلْعَامِل الْجُعْل فِي تَرِكَتِهِ (1) .
وَلَوْ مَاتَ الْجَاعِل بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْعَامِل فِي الْعَمَل،
وَلَكِنْ قَبْل إِتْمَامِهِ
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 179 - 180، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام 1 /
289، ونهاية المحتاج 5 / 474.
(39/309)
، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ بُطْلاَنُ الْجَعَالَةِ بِمَوْتِهِ،
لأَِنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ إِلاَّ أَنَّ
الْعَامِل إِذَا أَتَمَّ الْعَمَل بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ
قِسْطَ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمُسَمَّى، وَلاَ يَسْتَحِقُّ
شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ مَا عَمِلَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْجَاعِل، لِعَدَمِ
الْتِزَامِ الْوَرَثَةِ لَهُ بِهِ (1) .
وَالثَّانِي: لِلإِْمَامِ مَالِكٍ - فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ
وَأَشْهَبَ عَنْهُ - وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ
الْجَاعِل بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْعَامِل فِي الْعَمَل، وَتَلْزَمُ
وَرَثَتَهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَجْعُول لَهُ مِنَ
الْعَمَل. (2)
مَوْتُ الْمَجْعُول لَهُ:
86 - إِذَا مَاتَ الْعَامِل (الْمَجْعُول لَهُ) قَبْل أَنْ يَشْرَعَ فِي
الْعَمَل فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجَعَالَةَ
تَبْطُل بِمَوْتِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِلُزُومِ
الْجَعَالَةِ بِالْقَوْل بِالنِّسْبَةِ لِلْجَاعِل، وَعَلَيْهِ فَإِذَا
مَاتَ الْمَجْعُول لَهُ قَبْل الشُّرُوعِ فِيهِ لَمْ يَبْطُل
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 5 / 474، أسنى المطالب 2 / 443.
(2) المقدمات الممهدات 2 / 179 (ط دار الغرب الإسلامي) .
(39/310)
الْعَقْدُ، وَيَنْزِل وَرَثَتُهُ
مَنْزِلَتَهُ، وَلَيْسَ لِلْجَاعِل أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْعَمَل (1) .
أَمَّا إِذَا مَاتَ الْعَامِل بَعْدَ أَنْ شَرَعَ فِي الْعَمَل، وَقَبْل
إِتْمَامِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ لاَ تَبْطُل
بِمَوْتِ الْعَامِل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَل، وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ
مَقَامَهُ فِي إِكْمَالِهِ إِنْ كَانُوا أُمَنَاءَ، وَلَيْسَ لِلْجَاعِل
أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْعَمَل، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا أَتَمَّ
الْوَرَثَةُ الْعَمَل اسْتَحَقُّوا الْجُعْل كَامِلاً، بَعْضُهُ
بِالإِْرْثِ مِنْ عَمَل مُوَرِّثِهِمْ، وَبَعْضُهُ الآْخَرُ نَتِيجَةُ
عَمَلِهِمْ (2) .
الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْجَعَالَةَ تَبْطُل
بِمَوْتِهِ، لأَِنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ،
فَإِنْ أَتَمَّ وَرَثَتُهُ الْعَمَل مِنْ بَعْدِهِ، اسْتَحَقُّوا قِسْطَ
مَا عَمِل مُوَرِّثُهُمْ مِنَ الْجُعْل الْمُسَمَّى فَقَطْ، وَلاَ شَيْءَ
لَهُمْ فِي الْعَمَل الَّذِي أَتَمُّوهُ بَعْدَ وَفَاةِ مُوَرِّثِهِمْ (3)
.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَعَالَة ف67) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 308 ط التنوسي.
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب 1 / 289، والمقدمات الممهدات 2
/ 308 ط التنوسي.
(3) أسنى المطالب 2 / 443، ونهاية المحتاج 5 / 474.
(39/310)
ز - الْوَصِيَّةُ:
87 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَلْزَمُ فِي حَقِّ
الْمُوصِي مَا دَامَ حَيًّا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ
مَتَى شَاءَ لأَِنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ لَمْ يَتِمَّ، إِذْ تَمَامُهَا
بِمَوْتِ الْمُوصِي، فَجَازَ رُجُوعُهُ عَنْهَا قَبْل تَمَامِهَا،
وَلأَِنَّ الْقَبُول فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ مَوْتِ
الْمُوصِي وَكُل عَقْدٍ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِيجَابِهِ الْقَبُول،
فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوصِي
إِذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا، وَلاَ يَسْقُطُ الْتِزَامُهُ بِوَفَاتِهِ،
بَل يُعْتَبَرُ مَوْتُهُ مُوجِبًا لِلُزُومِهَا، مِنْ جِهَتِهِ، وَقَاطِعًا
لِحَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَمُثْبِتًا لاِلْتِزَامِهِ النَّاشِئِ
عَنْهَا وَالْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا (1) .
ح - النَّذْرُ:
88 - إِذَا مَاتَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ النَّذْرُ دُونَ أَنْ يَفِيَ بِهِ،
فَهَل يَبْطُل الْتِزَامُهُ بِالْمَوْتِ أَمْ لاَ؟
__________
(1) العناية على الهداية 10 / 436، وأسنى المطالب 3 / 63 - 64، ونهاية
المحتاج 6 / 94، والبهجة شرح التحفة 2 / 313، وبداية المجتهد 2 / 336،
وحاشية الدسوقي 4 / 380 - 381، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام 1 / 238 -
239، والمغني 8 / 407، وكشاف القناع 4 / 348.
(39/311)
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
النَّذْرِ الْمَالِيِّ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا، وَبَيْنَ
غَيْرِ الْمَالِيِّ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالاِعْتِكَافِ
وَنَحْوِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - النَّذْرُ الْمَالِيُّ:
89 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ فِي صِحَّتِهِ
وَنَحْوِهَا، ثُمَّ مَاتَ قَبْل الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَذَلِكَ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ
سُقُوطِ النَّذْرِ بِمَوْتِهِ إِذَا أَوْصَى بِأَنْ يُوفَّى مِنْ مَالِهِ،
وَيُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ
سَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ
إِخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِمْ إِلاَّ أَنْ يَتَطَوَّعُوا بِهِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ
النَّذْرَ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، بَل يُؤْخَذُ مِنْ رَأْسِ مَال
تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ
يُوصِ بِهِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 53، ورد المحتار 6 / 760، وفتح القدير 2 / 358،
والزرقاني على الموطأ 2 / 185، والمنتقى للباجي 2 / 62، 63، والخرشي وحاشية
العدوي عليه 8 / 184.
(2) المجموع للنووي 6 / 231 - 232، ونهاية المحتاج 6 / 5 - 6، وفتح الباري
11 / 585، وتحفة المحتاج 10 / 96 - 97، والمغني 3 / 656، وكشاف القناع 4 /
403 - 404، والقواعد لابن رجب ص 344.
(39/311)
ب - النَّذْرُ غَيْرُ الْمَالِيِّ:
90 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَنْذُورُ
بِهِ حَجًّا أَوْ صَوْمًا أَوْ صَلاَةً أَوِ اعْتِكَافًا عَلَى النَّحْوِ
التَّالِي:
أ - فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ صَلاَةً، فَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْل فِعْلِهَا
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِهَا
بِمَوْتِهِ، فَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنِ الْمَيِّتِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ
لاَ بَدَل لَهَا، وَهِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ يَنُوبُ أَحَدٌ عَنِ
الْمَيِّتِ فِي أَدَائِهَا (1) .
ب - وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ حَجًّا، وَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْل التَّمَكُّنِ
مِنْ أَدَائِهِ لأَِيِّ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 359 - 360، ونهاية المحتاج 3 / 187، والمجموع 6 / 372،
والمنتقى 2 / 63، وبداية المجتهد 1 / 320، والمغني 13 / 655 - 656.
(2) المجموع 8 / 494، والمغني 5 / 38.
(39/312)
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي
الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ
مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ (1) .
وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ يَحُجَّ،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ
يَسْقُطُ بِوَفَاةِ النَّاذِرِ، وَلاَ يَلْزَمُ وَرَثَتَهُ الْحَجُّ
عَنْهُ، فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لأَِجْل قَضَاءِ مَا وَجَبَ
عَلَيْهِ مِنْ حَجٍّ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ
فِي حُدُودِ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ
صَارَ بِالتَّمَكُّنِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ
جَمِيعِ تَرِكَتِهِ إِنْ تَرَكَ مَالاً، بِأَنْ يَحُجَّ وَارِثُهُ عَنْهُ
أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ
لَمْ يُوصِ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالاً، بَقِيَ النَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ،
وَلاَ يُلْزَمُ الْوَرَثَةَ بِقَضَائِهِ عَنْهُ (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 4، والمبدع 3 / 89، والمغني 5 / 38، 13 / 655 -
656.
(2) العناية على الهداية 10 / 470، وبداية المجتهد 1 / 320، والخرشي 2 /
296، والمغني 5 / 38.
(3) المجموع 8 / 494، وشرح منتهى الإرادات 2 / 4، والمبدع 3 / 98، والمغني
5 / 38، 13 / 656.
(39/312)
ج - وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ صَوْمًا،
فَمَاتَ النَّاذِرُ قَبْل فِعْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، فَلاَ يَصُومُ
عَنْهُ أَحَدٌ، لأَِنَّ الصَّوْمَ الْوَاجِبَ جَارٍ مَجْرَى الصَّلاَةِ،
فَكَمَا أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، فَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ
عَنْ أَحَدٍ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ
أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَيَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ،
فَيُقْبَل قَضَاءُ الْوَلِيِّ لَهُ كَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ.
غَيْرَ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى الْوَلِيِّ فِي قَوْل
الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَهُ
عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ لَهُ وَالْمَعْرُوفِ (2) .
د - وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ اعْتِكَافًا، فَمَاتَ النَّاذِرُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 253، 359، وتكملة الفتح 10 / 470، وبداية المجتهد 1 /
299 - 300، والمنتقى للباجي 2 / 63، والمجموع 6 / 368، والمغني 13 / 655.
(2) المجموع 6 / 368 - 369، والمغني 8 / 28، 13 / 655، وإعلام الموقعين 4 /
390.
(39/313)
قَبْل أَدَائِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّ الاِعْتِكَافَ يَسْقُطُ
بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَفْعَلُهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ
لاَ يَسْقُطُ، وَيَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ اسْتِحْبَابًا عَلَى سَبِيل
الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ، لاَ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ (1) .
ط - الْعِدَةُ:
91 - الْعِدَةُ: إِخْبَارٌ عَنْ إِنْشَاءِ الْمُخْبِرِ مَعْرُوفًا فِي
الْمُسْتَقْبَل، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ
بِالْعِدَةِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ
الْوَفَاءَ بِهَا مُسْتَحَبٌّ لاَ وَاجِبٌ (2) .
__________
(1) المجموع 6 / 372، ونهاية المحتاج 3 / 187، والمغني 13 / 655 - 656.
(2) البيان والتحصيل لابن رشد 8 / 18، والمبدع 9 / 345، والعقود الدرية
لابن عابدين 2 / 321، والتمهيد لابن عبد البر 3 / 209، والفتوحات الربانية
لابن علان 6 / 258 - 259.
(39/313)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ
إِلَى أَنَّ الْعِدَةَ إِذَا كَانَتْ مُرْتَبِطَةً بِسَبَبٍ، وَدَخَل
الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَيُلْزَمُ
بِهِ الْوَاعِدُ قَضَاءً، رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَوْعُودِ
الْمُغَرَّرِ بِهِ، وَتَقْرِيرًا لِمَبْدَأِ تَحْمِيل التَّبَعِيَّةِ
لِمَنْ وَرَّطَهُ فِي ذَلِكَ، إِذْ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ، وَذَلِكَ
كَمَا إِذَا وَعَدَهُ بِأَنْ يُسْلِفَهُ ثَمَنَ دَارٍ يُرِيدُ شِرَاءَهَا،
فَاشْتَرَاهَا الْمَوْعُودُ تَعْوِيلاً عَلَى وَعْدِهِ، أَوْ أَنْ
يُقْرِضَهُ مَبْلَغَ الْمَهْرِ فِي الزَّوَاجِ، فَتَزَوَّجَ اعْتِمَادًا
عَلَى عِدَتِهِ (1) .
وَلَكِنَّ الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنَّ
الْوَاعِدَ إِذَا مَاتَ قَبْل إِنْجَازِ وَعْدِهِ فَإِنَّ الْوَعْدَ
يَسْقُطُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا، أَمْ مُعَلَّقًا عَلَى سَبَبٍ
وَدَخَل الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، أَمَّا عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ، فَلأَِنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ الْوَاعِدَ أَصْلاً،
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ فِي الْحَالَةِ
الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَلأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ
الْمَعْرُوفَ لاَزِمٌ لِمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَمُتْ
أَوْ يُفْلِسْ، وَبِالْمَوْتِ سَقَطَ الْتِزَامُهُ وَتَلاَشَى فَلاَ
يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْءٌ لأَِجْلِهِ (2) .
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام 1 / 256 - 257، والمنتقى 3 / 227،
والفروق للقرافي 4 / 25، والبيان والتحصيل 8 / 18.
(2) المراجع السابقة.
(39/314)
مَوْزُونٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرُ. |