الموسوعة
الفقهية الكويتية مُوسِيقَى
انْظُرْ: مَعَازِفُ.
(39/314)
مُوضِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُوضِحَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْوُضُوحِ يُقَال:
وَضَحَ الشَّيْءُ وُضُوحًا انْكَشَفَ وَانْجَلَى، وَاتَّضَحَ كَذَلِكَ.
وَالْمُوضِحَةُ مِنَ الشِّجَاجِ: الَّتِي بَلَغَتِ الْعَظْمَ فَأَوْضَحَتْ
عَنْهُ، وَقِيل: هِيَ الَّتِي تَقْشُرُ الْجِلْدَةَ الَّتِي بَيْنَ
اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ أَوْ تَشُقُّهَا حَتَّى يَبْدُوَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشِّجَاجُ:
2 - الشِّجَاجُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ شَجَّةٍ، وَالشَّجَّةُ: الْجِرَاحُ
فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) روضة الطالبين 9 / 180، والمدونة 6 / 316، وشرح الرسالة 2 / 242،
وقواعد الفقه للبركتي.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.
(39/315)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
لِلَفْظِ الشِّجَاجِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالشِّجَاجِ: أَنَّ الْمُوضِحَةَ
نَوْعٌ مِنَ الشِّجَاجِ.
ب - الْبَاضِعَةُ:
3 - الْبَاضِعَةُ فِي اللُّغَةِ: الشَّجَّةُ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ
وَتَقْطَعُ الْجِلْدَ وَلاَ تَبْلُغُ الْعَظْمَ وَلاَ يَسِيل مِنْهَا
الدَّمُ (2) .
وَالْبَاضِعَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ
الْجِلْدِ شَقًّا خَفِيفًا (3) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ وَالْبَاضِعَةِ: أَنَّ الْمُوضِحَةَ مِنَ
الشِّجَاجِ الَّتِي تَبْلُغُ الْعَظْمَ وَتُظْهِرُهُ، وَأَمَّا
الْبَاضِعَةُ فَهِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَلاَ تَبْلُغُ
الْعَظْمَ وَلاَ تُظْهِرُهُ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُوضِحَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُوضِحَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيهَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 372، وبدائع الصنائع 7 / 296، وحاشية الدسوقي 4 /
250، ومغني المحتاج 4 / 26.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، وحاشية الجمل 5 / 30.
(3) الاختيار 5 / 41، والدسوقي 4 / 251، وروضة الطالبين 9 / 180، ومغني
المحتاج 4 / 26، وكشاف القناع 6 / 51.
(39/315)
الْقِصَاصُ إِذَا كَانَ عَمْدًا، لِقَوْل
اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ
اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلاَ زِيَادَةٍ لاِنْتِهَائِهِ إِلَى
عَظْمٍ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْكَفِّ مِنَ الْكُوعِ، وَلأَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ فِي
كُل جُرْحٍ يَنْتَهِي إِلَى عَظْمٍ لَسَقَطَ حُكْمُ الآْيَةِ.
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيْفَةَ يَرَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَل بِالْمُوضِحَةِ
عُضْوٌ آخَرُ كَالْبَصَرِ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَهُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ
فِيهِمَا (1) .
ب - كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ
5 - لاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ بِالآْلَةِ الَّتِي
يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ لِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ
(2) ، بَل يُسْتَوْفَى بِالْمُوسَى أَوْ حَدِيدَةٍ مَاضِيَةٍ مُعَدَّةٍ
لِذَلِكَ لاَ يُخْشَى مِنْهَا الزِّيَادَةُ.
وَلاَ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ
__________
(1) الاختيار 5 / 46، وابن عابدين 5 / 373، والشرح الصغير 4 / 349،
والمدونة 6 / 312، وروضة الطالبين 9 / 191، ومغني المحتاج 4 / 30 وما
بعدها، وكشاف القناع 5 / 558، والمغني 7 / 703.
(2) حديث: " إِن اللهَ كتبَ الإحسانَ. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1548) ط عيسى
الحلبي.
(39/316)
كَالْجَرَائِحِيِّ وَمَنْ أَشْبَهَهُ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ عِلْمٌ بِذَلِكَ أَمَرَ بِالاِسْتِنَابَةِ
(1) .
وَلَوْ زَادَ الْمُقْتَصُّ فِي الْمُوضِحَةِ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ
يُنْظَرُ، إِنْ زَادَ بِاضْطِرَابِ الْجَانِي فَلاَ غُرْمَ، وَإِنْ زَادَ
عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ بَعْدَ انْدِمَال
الْمُوضِحَةِ الَّتِي فِي رَأْسِهِ، وَإِنْ آل الأَْمْرُ إِلَى الْمَال
أَوْ أَخْطَأَ بِاضْطِرَابِ يَدِهِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَفِي قَدْرِهِ
وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَحَدُهُمَا: يُوَزَّعُ الأَْرْشُ
عَلَيْهِمَا فَيَجِبُ قِسْطُ الزِّيَادَةِ، وَأَصَحُّهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ أَرْشٌ كَامِلٌ.
وَلَوْ قَال الْمُقْتَصُّ: أَخْطَأْتُ بِالزِّيَادَةِ، فَقَال الْمُقْتَصُّ
مِنْهُ: بَل تَعَمَّدْتَهَا صُدِّقَ الْمُقْتَصُّ بِيَمِينِهِ (2) .
6 - وَإِذَا أَرَادَ الاِسْتِيفَاءَ مِنْ مُوضِحَةٍ وَشِبْهِهَا فَإِنْ
كَانَ عَلَى مَوْضِعِهَا شَعْرٌ حَلَقَهُ.
وَيَعْمِدُ إِلَى مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِنْ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ فَيَعْلَمُ
مِنْهُ طُولَهَا بِخَشَبَةِ أَوْ خَيْطٍ، وَيَضَعُهَا عَلَى رَأْسِ
الشَّاجِّ، وَيُعَلِّمُ طَرَفَيْهِ بِخَطِّ بِسَوَادٍ أَوْ غَيْرِهِ،
وَيَأْخُذُ حَدِيدَةً عَرْضُهَا كَعَرْضِ الشَّجَّةِ، فَيَضَعُهَا فِي
أَوَّل الشَّجَّةِ وَيَجُرُّهَا إِلَى
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تبيين الحقائق 6 / 106، ومغني المحتاج 4 / 31، وروضة الطالبين 9 / 191،
والمغني 7 / 706.
(39/316)
آخِرِهَا مِثْل الشَّجَّةِ طُولاً
وَعَرْضًا، وَلاَ يُرَاعِي الْعُمْقَ لأَِنَّ حَدَّهُ الْعَظْمُ.
وَلاَ يُوضِحُ بِالسَّيْفِ لأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ.
وَكَذَا لَوْ أَوْضَحَ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ يُقْتَصُّ مِنْهُ
بِالْحَدِيدَةِ.
وَإِنْ أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَرَأْسَاهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي
الْمِسَاحَةِ، أَوْضَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ اسْتَوْعَبْنَاهُ إِيضَاحًا، وَلاَ
يُكْتَفَى بِهِ، وَلاَ نُتْمِمْهُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْقَفَا لأَِنَّهُمَا
غَيْرُ مَحَل الْجِنَايَةِ، بَل يُؤْخَذُ قِسْطُ مَا بَقِيَ مِنْ أَرْشِ
الْمُوضِحَةِ لَوْ وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الْمُوضِحَةِ لِتَعَيُّنِهِ
طَرِيقًا.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَكْبَرَ لَمْ يُوضَحْ جَمِيعُهُ، بَل
يُقَدِّرُهُ بِالْمِسَاحَةِ، وَالاِخْتِيَارُ فِي مَوْضِعِهِ إِلَى
الْجَانِي.
وَلَوْ أَرَادَ أَنَّ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَ حَقِّهِ مِنْ مُقَدَّمِ
الرَّأْسِ وَبَعْضَهُ مِنْ مُؤَخِّرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ
يَأْخُذُ مُوضِحَتَيْنِ بَدَل مُوضِحَةٍ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ
الْبَعْضَ وَيَأْخُذَ الْبَاقِيَ قِسَطَهُ مِنَ الأَْرْشِ مَعَ تَمَكُّنِهِ
مِنَ اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 309، ورد المحتار 5 / 373، وحاشية الدسوقي 4 / 251،
وروضة الطالبين 9 / 190 - 192، والمغني لابن قدامة 7 / 704 - 706، وكشاف
القناع 5 / 559.
(39/317)
ج - أَرْشُ الْمُوضِحَةِ
7 - فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل إِنْ كَانَتْ خَطَأً.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَرْشَهَا
مُقَدَّرٌ، فَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي الْمُوضِحَةِ
خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (دِيَاتٌ ف 65) .
د - شُمُول الْمُوضِحَةِ لِلرَّأْسِ وَالْوَجْهِ
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوضِحَةِ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ،
فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ،
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ الْفَارُوقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَمَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ
الْحَسَنِ وَإِسْحَاقُ لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ وَقَوْل أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " الْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ
وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ (2) "، فَكَانَ أَرْشُهَا خَمْسًا مِنَ
__________
(1) حديث: " في الموضحة خمس. . . ". أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة
التجارية الكبرى) ، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 - ط شركة
الطباعة الفنية) ، وتكلم على أسانيده ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) أثر: " الموضحة في الرأس. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8 /
82 - ط مجلس دائرة المعارف) .
(39/317)
الإِْبِل كَغَيْرِهَا، وَلاَ عِبْرَةَ
بِكَثْرَةِ الشَّيْنِ بِدَلِيل التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُوضِحَةِ
الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فِي الأَْرْشِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مُوضِحَةُ الرَّأْسِ مِثْل مُوضِحَةِ الْوَجْهِ،
إِلاَّ إِذَا تَشَيَّنَ الْوَجْهُ فَيُزَادُ فِيهَا لِشَيْنِهَا.
وَإِذَا كَانَتِ الْمُوضِحَةُ فِي الأَْنْفِ أَوْ فِي اللَّحْيِ الأَْسْفَل
فَفِيهَا حُكُومَةٌ، لأَِنَّهَا تَبْعُدُ مِنَ الدِّمَاغِ فَأَشْبَهَتْ
مُوضِحَةَ سَائِرِ الْبَدَنِ (2) .
وَقَال سَعِيْدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ مُوضِحَةَ الْوَجْهِ تُضَعَّفُ
عَلَى مُوضِحَةِ الرَّأْسِ، فَتَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَشْرٌ مِنَ
الإِْبِل لأَِنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ، فَمُوضِحَةُ الرَّأْسِ يَسْتُرُهَا
الشَّعْرُ وَالْعِمَامَةُ (3) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (دِيَاتٌ ف 65) .
9 - وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ
وَالْبَارِزَةِ وَالْمَسْتُورَةِ بِالشَّعْرِ، لأَِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 373، والجوهرة النيرة 2 / 131 الطبعة الأولى،
والمغني والشرح الكبير 9 / 641، ومغني المحتاج 4 / 59 - 60، وكشاف القناع 5
/ 559.
(2) المدونة الكبرى 6 / 310، وحاشية الدسوقي 4 / 251.
(3) المغني والشرح الكبير 9 / 641.
(39/318)
الْمُوضِحَةَ تَشْمَل الْجَمِيعَ وَحَدُّ
الْمُوضِحَةِ مَا أَفْضَى إِلَى الْعَظْمِ وَلَوْ بِقَدْرِ إِبْرَةٍ.
وَإِنْ شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً بَعْضُهَا مُوضِحَةٌ وَبَعْضُهَا
دُونَ الْمُوضِحَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ مُوضِحَةٍ،
لأَِنَّهُ لَوْ أَوْضَحَ الْجَمِيعَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ
مُوضِحَةٍ، فَلأَِنْ لاَ يَلْزَمُهُ فِي الإِْيضَاحِ فِي الْبَعْضِ
أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى (1) .
هـ - مُوضِحَةُ غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ
10 - لَيْسَ فِي غَيْرِ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مُقَدَّرٌ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ إِنَّمَا يُطْلَقُ
عَلَى الْجِرَاحَةِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ.
وَقَوْل الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدِينَ: " الْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ
وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ " يَدُل عَلَى أَنَّ بَاقِيَ الْجَسَدِ بِخِلاَفِهِ،
وَلأَِنَّ الشَّيْنَ فِيمَا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَكْثَرُ وَأَخْطَرُ
مِمَّا فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَلاَ يُلْحَقُ بِهِ.
ثُمَّ إِيجَابُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَجِبَ
فِي مُوضِحَةِ الْعُضْوِ أَكْثَرُ عَنْ دِيَتِهِ، مِثْل أَنْ يُوضِحَ
أُنْمُلَةً دِيَتُهَا ثَلاَثَةٌ وَثُلُثٌ، وَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ.
وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ الْمُوضِحَةَ تَكُونُ
__________
(1) رد المحتار 5 / 372، والدسوقي 4 / 251، ومغني المحتاج 4 / 58، والمغني
والشرح الكبير 9 / 242.
(39/318)
فِي الْجَسَدِ أَيْضًا، وَقَال
الأَْوْزَاعِيُّ فِي جِرَاحَةِ الْجَسَدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جِرَاحَةِ
الرَّأْسِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ قَال: فِي
الْمُوضِحَةِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا (1) .
و تَعَدِّي شَيْنِ مُوضِحَةِ الرَّأْسِ:
11 - إِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَجَرَّ السِّكِّينَ إِلَى قَفَاهُ
فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَحُكُومَةٌ لِجَرِّ الْقَفَا، لأَِنَّ
الْقَفَا لَيْسَ بِمَوْقِعٍ لِلْمُوضِحَةِ.
وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَجَرَّهَا إِلَى وَجْهِهِ فَعَلَى
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ، لأَِنَّ الْوَجْهَ
وَالرَّأْسَ سَوَاءٌ فِي الْمُوضِحَةِ، فَصَارَ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ،
وَالثَّانِي: هُمَا مُوضِحَتَانِ لأَِنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي عُضْوَيْنِ،
فَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ
فِي رَأْسِهِ وَنَزَل إِلَى الْقَفَا (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ مُوضِحَتَيْنِ
بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ لأَِنَّهُمَا
مُوضِحَتَانِ، فَإِنْ أَزَال الْحَاجِزَ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَجَبَ أَرْشُ
مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّهُ صَارَ الْجَمِيعُ بِفِعْلِهِ مُوضِحَةً،
فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْضَحَ الْكُل مِنْ غَيْرِ حَاجِزٍ يَبْقَى
بَيْنَهُمَا.
__________
(1) المغني والشرح الكبير 9 / 642.
(2) المغني مع الشرح الكبير 9 / 643.
(39/319)
وَإِنْ انْدَمَلَتَا ثُمَّ أَزَال
الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ أَرْشُ ثَلاَثِ مَوَاضِحَ، لأَِنَّهُ
اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَرْشُ الأُْولَيَيْنِ بِالاِنْدِمَال، ثُمَّ
لَزِمَتْهُ دِيَةُ الثَّالِثَةِ.
وَإِنْ تَآكَل مَا بَيْنَهُمَا قَبْل انْدِمَالِهِمَا فَزَال لَمْ
يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّ سِرَايَةَ فِعْلِهِ
كَفِعْلِهِ.
وَإِنِ انْدَمَلَتْ إِحْدَاهُمَا وَزَال الْحَاجِزُ بِفِعْلِهِ أَوْ
سِرَايَةِ الأُْخْرَى فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ.
وَإِنْ أَزَال الْحَاجِزَ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَى الأَْوَّل أَرْشُ
مُوضِحَتَيْنِ وَعَلَى الثَّانِي أَرْشُ مُوضِحَةٍ، لأَِنَّ فِعْل
أَحَدِهِمَا لاَ يُبْنَى عَلَى فِعْل الآْخَرِ، فَانْفَرَدَ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ.
وَإِنْ أَزَال الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى الأَْوَّل أَرْشُ
مُوضِحَتَيْنِ لأَِنَّ مَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ لاَ يَسْقُطُ بِفِعْل
غَيْرِهِ.
وَإِنِ اخْتَلَفَا، فَقَال الْجَانِي: أَنَا شَقَقْتُ مَا بَيْنَهُمَا،
وَقَال الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَل أَنَا، أَوْ أَزَالَهَا آخَرُ سِوَاك،
فَالْقَوْل قَوْل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لأَِنَّ سَبَبَ أَرْشِ
الْمُوضِحَتَيْنِ قَدْ وُجِدَ، وَالْجَانِي يَدَّعِي زَوَالَهُ،
وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ
وَالأَْصْل مَعَهُ (1) .
__________
(1) الدسوقي 4 / 271، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 643.
(39/319)
وَإِنْ أَوْضَحَ مُوضِحَتَيْنِ ثُمَّ
قَطَعَ اللَّحْمَ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي الْبَاطِنِ، وَتَرَكَ الْجِلْدَ
الَّذِي فَوْقَهُمَا فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ أَرْشُ
مُوضِحَتَيْنِ لاِنْفِصَالِهِمَا فِي الظَّاهِرِ، وَالثَّانِي: أَرْشُ
مُوضِحَةٍ لاِتِّصَالِهِمَا فِي الْبَاطِنِ.
وَإِنْ جَرَحَهُ جِرَاحًا وَاحِدَةً، وَأَوْضَحَهُ فِي طَرَفَيْهَا،
وَبَاقِيهَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فَفِيهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ، لأَِنَّ مَا
بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِمُوضِحَةِ (1) .
ز - الْوَكَالَةُ بِالصُّلْحِ عَلَى الْمُوضِحَةِ 12 - نَصَّ
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: إِذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ
وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَصَالَحَ عَلَى مُوضِحَتَيْنِ وَمَا يَحْدُثُ
مِنْهُمَا وَضَمِنَ جَازَ، عَلَى الْمُوَكِّل النِّصْفُ وَلَزِمَ الْوَكِيل
النِّصْفُ، سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ عَاشَ، لأَِنَّهُ فِي أَحَدِ
الْمُوضِحَتَيْنِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ وَفِي الأُْخْرَى مُتَبَرِّعٌ
بِالصُّلْحِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
فَإِنْ وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ ادَّعَاهَا قِبَل فُلاَنٍ
فَصَالَحَ الْوَكِيل عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا جَازَ عَلَيْهَا وَلَمْ
يَجُزْ عَلَى غَيْرِهَا، لأَِنَّ وَكِيل الطَّالِبِ مُسْقِطُ الْحَقِّ
بِالصُّلْحِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ بِقَدْرِ مَا أَمَرَهُ
صَاحِبُ الْحَقِّ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ،
فَلاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُهُ أَصْلاً.
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 9 / 643 - 644، والدسوقي 4 / 271.
(39/320)
وَلَوْ وَكَّل الْمَطْلُوبُ وَكِيلاً
بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْوَكِيل عَلَى خِدْمَةِ
عَبْدِ الْمُوَكِّل سِنِينَ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ، لأَِنَّ تَسْمِيَةَ
خِدْمَةِ عَبْدِهِ كَتَسْمِيَةِ رَقَبَةِ عَبْدِهِ، وَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ
جَوَازَ الصُّلْحِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّل لَمْ يَرْضَ بِزَوَال
مِلْكِهِ عَنْ مَنْفَعَةِ عَبْدِهِ، فَيُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ
رَضِيَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْخِدْمَةِ.
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حُرٍّ فَهُوَ عَفْوٌ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَى الآْمِرِ وَلاَ عَلَى الْوَكِيل، لأَِنَّ الْقِصَاصَ
لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْمَال فِيهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِذَا
كَانَ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ لاَ يَجِبُ شَيْءٌ كَالطَّلاَقِ.
وَإِذَا شَجَّ رَجُلاَنِ رَجُلاً مُوضِحَةً فَوَكَّل وَكِيلاً يُصَالِحُ
مَعَ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ - كَمَا لَوْ
بَاشَرَ الصُّلْحَ بِنَفْسِهِ - وَعَلَى الآْخَرِ نِصْفُ الأَْرْشِ،
لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ
الأَْرْشِ دُونَ الْقَوَدِ، فَإِنَّ الاِشْتِرَاكَ فِي الْفِعْل يَمْنَعُ
وُجُوبَ الْقَوَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ: أَنْ صَالِحْ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ
أَيَّهمَا هُوَ فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ
وَمِثْلُهَا لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ، ثُمَّ الرَّأْيُ إِلَى
الْوَكِيل يُصَالِحُ أَيَّهمَا شَاءَ.
(39/320)
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّاجُّ وَاحِدًا
وَالْمَشْجُوجُ اثْنَيْنِ، فَوَكَّل وَكِيلاً بِالصُّلْحِ عَنْهُمَا،
فَصَالَحَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّهِ ثُمَّ قَال الْوَكِيل: هُوَ
فُلاَنٌ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ لأَِنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ فِي حَقِّ
مَنْ صَالَحَ مَعَهُ وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُ
مَا بَاشَرَ مِنَ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلتَّعْيِينِ فِي
الاِبْتِدَاءِ فَكَذَا فِي الاِنْتِهَاءِ يَصِحُّ تَعْيِينُهُ.
وَإِذَا اشْتَرَكَ حُرٌّ وَعَبْدٌ فِي مُوضِحَةٍ شَجَّاهَا رَجُلاً،
فَوَكَّل الْحُرُّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ وَكِيلاً، فَصَالَحَ عَنْهُمَا
عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، فَعَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ نِصْفُ ذَلِكَ، قَلَّتْ
قِيمَةُ الْعَبْدِ أَوْ كَثُرَتْ، وَعَلَى الْحُرِّ نِصْفُهُ لأَِنَّ كُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُطَالَبًا بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ.
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ فِي مُوضِحَةٍ شَجَّهَا إِيَّاهُ رَجُلٌ،
فَصَالَحَ عَلَى الْمُوضِحَةِ الَّتِي شَجَّهَا فُلاَنٌ وَلَمْ يَقُل هِيَ
فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِنَّهُ عَرَّفَهَا بِالإِْضَافَةِ
إِلَى فُلاَنٍ، وَمَحَل فِعْل فُلاَنٍ مَعْلُومٌ مُعَايَنٌ فَيُغْنِي
ذَلِكَ عَنِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ (1) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 19 / 154 - 158، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 317.
(39/321)
مَوْقُوذَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوْقُوذَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الَّتِي تُرْمَى أَوْ تُضْرَبُ
بِالْعَصَا أَوْ بِالْحَجَرِ حَتَّى تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ.
وَالْوَقِيذُ: هُوَ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ، لاَ يُدْرَى أَمَيِّتٌ هُوَ
أَمْ حَيٌّ؟ وَالْوَقِيذُ أَيْضًا: الشَّدِيدُ الْمَرَضِ الْمُشْرِفُ عَلَى
الْمَوْتِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُنْخَنِقَةُ:
2 - الْمُنْخَنِقَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا، وَهُوَ
حَبْسُ النَّفْسِ، سَوَاءٌ فَعَل بِهَا ذَلِكَ آدَمِيٌّ أَوِ اتَّفَقَ
لَهَا ذَلِكَ فِي حَبْلٍ، أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط، وتفسير القرطبي 6 / 48.
(39/321)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ: أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، لِعَدَمِ الذَّبْحِ.
ب - الْمُتَرَدِّيَةُ:
3 - الْمُتَرَدِّيَةُ فِي اللُّغَةِ مُتَفَعِّلَةٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ
الْهَلاَكُ، وَالتَّرَدِّي: التَّعَرُّضُ لِلْهَلاَكِ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} .
وَالْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ: الشَّاةُ أَوْ نَحْوُهَا الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ
الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْل فَتَمُوتُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي
بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بِنَفْسِهَا أَوْ رَدَّاهَا
غَيْرُهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ
(2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ: أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، لأَِنَّهُ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ.
ج - النَّطِيحَةُ:
4 - النَّطِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ،
__________
(1) المعجم الوسيط، وتفسير القرطبي 6 / 48، وروح المعاني 3 / 231.
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، وتفسير القرطبي 6 / 49،
وأحكام القرآن للجصاص 2 / 304، وروح المعاني 3 / 231.
(39/322)
وَهِيَ: الشَّاةُ تَنْطَحُهَا أُخْرَى أَوْ
غَيْرُهَا فَتَمُوتُ قَبْل أَنْ تُذَكَّى.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَالنَّطِيحَةِ: أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْل لَحْمِهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ.
د - مَا أَكَل السَّبُعُ:
5 - مَا أَكَل السَّبُعُ هُوَ: كُل مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ وَأَظْفَارٍ
مِنَ الْحَيَوَانِ كَالأَْسَدِ وَالنَّمِرِ وَالثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ
وَالضَّبُعِ وَنَحْوِهَا (2) .
وَالْعلاَقَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوذَةِ وَمَا أَكَل السَّبُعُ أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَوْقُوذَةَ لاَ يَحِل أَكْل
لَحْمِهَا إِذَا لَمْ يَتِمَّ ذَبْحُهَا (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمفردات في غريب القرآن، وتفسير
القرطبي 6 / 49.
(2) تفسير القرطبي 6 / 49 - 50، والمفردات في غريب القرآن.
(3) تفسير القرطبي 6 / 48، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 304، وصحيح مسلم مع
شرح النووي 13 / 73 - 75، ومغني المحتاج 4 / 274، وتفسير روح المعاني 3 /
231.
(39/322)
تَعْدَادِ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ} .
قَال الْعُلَمَاءُ: كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الأَْنْعَامَ
بِالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَقْتُلُوهَا
فَيَأْكُلُونَهَا.
وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ
الْمِعْرَاضِ فَقَال: مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ
بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُل، فَإِذَا أَصَابَ
بِعَرْضِهِ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلاَ تَأْكُل (2) ، قَال النَّوَوِيُّ:
وَقِيذٌ، أَيْ: مَقْتُولٌ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ.
وَالْمَوْقُوذَةُ الْمَقْتُولَةُ بِالْعَصَا وَنَحْوِهَا، وَأَصْل
الْوَقْذِ مِنَ الْكَسْرِ وَالرَّضِّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي
الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ.
__________
(1) حديث: " ما أصاب بحده فَكُلْهُ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 /
599 ط السلفية) ومسلم (3 / 1530 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " إذا أصبت بحده فكل، فإذا أصاب بعرضه فإنه وقيذ فلا تأكل ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 603 ط السلفية) .
(39/323)
7 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي الصَّيْدِ
بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ (1) .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ،
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ كُل مَا يُقْتل بِغَيْرِ
مُحَدَّدٍ مِنْ عَصًا أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُوَ وَقِيذٌ لاَ
يَحِل أَكْلُهُ إِلاَّ إِذَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَيْدٌ ف 31 - 36) .
ذَكَاةُ الْمَوْقُوذَةِ
8 - قَال الْجَصَّاصُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَكَاةِ
الْمَوْقُوذَةِ وَنَحْوِهَا، فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ: أَنَّهُ إِذَا أُدْرِكَتْ
ذَكَاتُهَا قَبْل أَنْ تَمُوتَ أُكِلَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ} حَيْثُ يَقْتَضِي ذَكَاتَهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً، وَلاَ
فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنَّ تَعِيشَ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ لاَ تَعِيشَ،
وَلاَ بَيْنَ أَنْ تَبْقَى قَصِيرَ الْمُدَّةِ أَوْ طَوِيلَهَا، وَلِمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ
أَنَّهُ: إِذَا تَحَرَّكَ شَيْءٌ مِنْهَا صَحَّتْ ذَكَاتُهَا، وَلَمْ
يَخْتَلِفُوا فِي الأَْنْعَامِ
__________
(1) المعراض مثل المفتاح: سهم لا ريش له (المصباح المنير) .
(2) أحكام القرآن للجصاص 3 / 304، وشرح صحيح مسلم للنووي 13 / 75، وتفسير
القرطبي 6 / 48 - 49، الاختيار 4 / 7 - 8، وحاشية الدسوقي 2 / 103، والشرح
الصغير 2 / 176، ومغني المحتاج 4 / 274، وكشاف القناع 6 / 207 - 208.
(39/323)
إِذَا أَصَابَتْهَا الأَْمْرَاضُ
الْمُتْلِفَةُ الَّتِي قَدْ تَعِيشُ مَعَهَا مُدَّةً قَصِيرَةً أَوْ
طَوِيلَةً أَنَّ ذَكَاتَهَا بِالذَّبْحِ، فَكَذَلِكَ الْمَوْقُوذَةُ
وَنَحْوُهَا (1) .
قَال إِسْحَاقُ: وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنْ
جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْهُمْ أَبُو يُوْسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ
صَالِحٍ، وَهُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْل أَهْل
الْمَدِينَةِ: إِذَا صَارَتِ الْمَوْقُوذَةُ وَأَمْثَالُهَا إِلَى حَالٍ
لاَ تَعِيشُ مَعَهَا فَلاَ يَحِل أَكْل لَحْمِهَا وَإِنْ تَمَّ ذَبْحُهَا
قَبْل الْمَوْتِ (2) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ فِي هَذِهِ
الأَْشْيَاءِ فَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ لاَ يُؤْكَل إِلاَّ مَا ذُكِّيَ
بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ، وَاَلَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ
ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي وَهِيَ تَضْطَرِبُ فَلْيَأْكُل، وَهُوَ
الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ، وَقَرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ مِنْ كُل بَلَدٍ طُول عُمْرِهِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ
الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ (3) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2 / 305 - 306، وتفسير القرطبي 6 / 50 - 51.
(2) تفسير القرطبي 6 / 50، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 306.
(3) تفسير القرطبي 6 / 50 - 51، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 305 - 306.
(39/324)
مَوْقُوفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوْقُوفُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ لِفِعْل: وَقَفَ، بِمَعْنَى:
سَكَنَ وَحُبِسَ وَمُنِعَ، يُقَال: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ: سَكَنَتْ،
وَوَقَفْتُهَا أَنَا: مَنَعْتُهَا مِنَ السَّيْرِ وَنَحْوِهِ، وَوَقَفْتُ
الدَّارَ: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ.
وَيُطْلَقُ عَلَى عَكْسِ الْجُلُوسِ، يُقَال: وَقَفَ الرَّجُل: قَامَ عَنْ
مَجْلِسِهِ، وَعَلَى الْمَنْعِ: وَقَفْتُهُ عَنِ الْكَلاَمِ: مَنَعْتُهُ
عَنْهُ (1) .
وَالْمَوْقُوفُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الْمَعْنَى الأَْوَّل: يُطْلَقُ عَلَى كُل عَيْنٍ مَحْبُوسَةٍ فِي سَبِيل
الْبِرِّ وَالْخَيْرِ بِشُرُوطٍ (2) .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، وَهُوَ
مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى
سَبِيل التَّوَقُّفِ،
__________
(1) المصباح المنير.
(2) روضة الطالبين 5 / 314، وأسنى المطالب 2 / 457.
(39/324)
وَلاَ يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْغَيْرِ بِهِ (1) .
وَالْمَوْقُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ
مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمْ وَلاَ
يَتَجَاوَزُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدَقَةُ:
2 - الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الْعَطِيَّةُ تَبْتَغِي بِهَا الْمَثُوبَةَ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالصَّدَقَةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ،
فَلَيْسَ كُل مَوْقُوفٍ صَدَقَةً، وَلَيْسَ كُل صَدَقَةٍ مَوْقُوفًا.
ب - الْمُوصَى بِهِ:
3 - الْمُوصَى بِهِ اسْمٌ لِمَا يَتَبَرَّعُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالٍ
فِي حَال حَيَاتِهِ تَبَرُّعًا مُضَافًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ (5) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالْمُوصَى بِهِ أَنَّ كُلًّا
__________
(1) قواعد الفقه للبركتي.
(2) علوم الحديث لابن الصلاح ص 41، والتعريفات للجرجاني.
(3) لسان العرب، وتاج العروس.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) رد المحتار 5 / 416 بتصرف.
(39/325)
مِنْهُمَا بَذْل مَالٍ بِلاَ عِوَضٍ
ابْتِغَاءَ الْمَثُوبَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْقُوفِ:
أَوَّلاً - الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ الْمَحْبُوسَةِ:
أ - مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْمَوْقُوفِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُول،
كَحَيَوَانٍ وَسِلاَحٍ وَأَثَاثٍ وَنَحْوِ ذَلِك، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ
خَالِدًا فَإِنَّهُ احْتَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ
(1) . وَلأَِنَّ الأُْمَّةَ اتَّفَقَتْ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ
وَالأَْزْمَانِ عَلَى وَقْفِ الْحُصُرِ وَالْقَنَادِيل وَالزَّلاَلِيِّ فِي
الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَبْسِ
__________
(1) حديث: " أما خالد فإنكم تظلمون خالدًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 331 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 676 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ
للبخاري.
(2) مغني المحتاج 2 / 377، وروضة الطالبين 4 / 315، وأسنى المطالب 2 / 457
- 458، والمغني 5 / 642، والخرشي 7 / 79.
(39/325)
الْعَيْنِ لِلْبِرِّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا
لاَ يُنْقَل وَلاَ يُحَوَّل كَالْعَقَارِ، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ وَقْفُ
الْمَنْقُول مَقْصُودًا، لأَِنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَوَقْفُ
الْمَنْقُول لاَ يَتَأَبَّدُ لِكَوْنِهِ عَلَى شُرَفِ الْهَلاَكِ، فَلاَ
يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا.
وَيَجُوزُ إِنْ كَانَ تَبَعًا لِمَا لاَ يُنْقَل كَالْعَقَارِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ
وَالْمَنْقُول وَالْمَنْفَعَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
ب - انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ مِنَ الْوَاقِفِ بِالْوَقْفِ
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ
بِالْوَقْفِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالٍ
ثَلاَثَةٍ لَهُمْ، وَأَبُو يُوْسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ تَنْتَقِل مِنْ
مِلْكِ الْوَاقِفِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمَعْنَى انْتِقَالِهِ إِلَى اللَّهِ: أَنَّ الْمِلْكَ يَنْفَكُّ مِنِ
اخْتِصَاصِ الآْدَمِيِّ، وَإِلاَّ فَجَمِيعُ الأَْشْيَاءِ مِلْكٌ لَهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلاَ تَكُونُ لِلْوَاقِفِ وَلاَ لِلْمَوْقُوفِ
عَلَيْهِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 220، وتبيين الحقائق 3 / 327.
(39/326)
غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَأَبِيْ يُوْسُفَ أَنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَنْتَقِل بِمُجَرَّدِ
التَّلَفُّظِ بِصِيغَةِ صَحِيحَةٍ مِنْ صِيَغِ الْوَقْفِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بْنِ الْحَسَنِ لاَ تَنْتَقِل بِالْقَوْل حَتَّى
يَجْعَل لِلْمَوْقُوفِ وَلِيًّا يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي انْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَبَيْنَ أَنْ
يَكُونَ جِهَةً عَامَّةً كَالرِّبَاطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْغُزَاةِ
وَالْفُقَرَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا. فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ
هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْت
حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ
أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُبْتَاعُ وَلاَ يُورَثُ وَلاَ
يُوهَبُ. قَال: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى
وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل وَالضَّيْفِ، لاَ
جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ
يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 342، ومغني المحتاج 2 / 389، وتبيين الحقائق 3 /
325، وبدائع الصنائع 6 / 221.
(2) حديث: " أصاب عمر أرضًا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 354 ط
السلفية) ومسلم (3 / 1255 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(39/326)
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا
مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ:
إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ
صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (1) وَلأَِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا قَدْ تَعَامَلُوهُ فَكَانَ إِجْمَاعًا
وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ لِيَصِل
ثَوَابُهُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَأَمْكَنَ دَفْعُ هَذِهِ الْحَاجَةِ
بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْمَسْجِدِ،
وَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَسْجِدُ.
وَلِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِزَوَال الْمِلْكِ
بِمُجَرَّدِ الْقَوْل - كَمَا سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ - لأَِنَّهُ
أَسْقَطَ حَقَّهُ لِلَّهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ
يَزُول الْمِلْكُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُتَوَلِّي لأَِنَّهُ
صَدَقَةٌ، فَيَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْ شَرْطِهِ كَالصَّدَقَةِ
الْمُنَفَّذَةِ، وَلأَِنَّ التَّمْلِيكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ
يَتَحَقَّقُ قَصْدًا لأَِنَّهُ مَالِكُ الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُ
يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْعَبْدِ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة. . . ". أخرجه
مسلم (3 / 1255 ط عيسى الحلبي) .
(2) تبيين الحقائق 3 / 325، ومغني المحتاج 2 / 382، وأسنى المطالب 2 / 462،
وروضة الطالبين 5 / 322.
(39/327)
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبَو
حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إِذَا
لَمْ يَجْعَلْهُ مَسْجِدًا، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَالآْتِي:
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَزُول الْمِلْكُ إِلاَّ بِقَضَاءِ قَاضٍ يَرَى
ذَلِكَ، لأَِنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ: لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ (1) وَلأَِنَّ
الْمِلْكَ فِيهِ بَاقٍ، إِذْ غَرَضُهُ التَّصَدُّقُ بِغَلَّتِهِ، وَهُوَ
لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ الأَْصْل عَلَى مِلْكِهِ، وَيَدُل
عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّل ثَمَرَتَهَا (2) أَيْ:
احْبِسْهُ عَلَى مِلْكِك وَتَصَدَّقْ بِثَمَرَتِهَا، وَإِلاَّ كَانَ
مُسَبِّلاً جَمِيعَهَا، وَلأَِنَّ خُرُوجَ الْمِلْكِ لاَ إِلَى مَالِكٍ
غَيْرُ مَشْرُوعٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَانَا عَنِ
__________
(1) حديث: " لا حبس عن فرائض الله ". أخرجه الدارقطني في السنن (4 / 68 ط
دار المحاسن. القاهرة) والبيهقي في السنن الكبرى (6 / 162 ط دائرة المعارف)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الدارقطني: لم يسنده غير ابن لهيعة
عن أخيه وهما ضعيفان.
(2) حديث: " احبس أصلها وسبل ثمرتها ". أخرجه النسائي (6 / 232 ط المكتبة
التجارية) ، وابن ماجه (2 / 801 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله
عنهما.
(39/327)
السَّائِبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَيِّبُهَا
مَالِكُهَا وَيُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ بِزَعْمِهِمْ، قَال تَعَالَى: {مَا
جَعَل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ
حَامٍ} .
وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَعْل الْبُقْعَةِ مَسْجِدًا أَوِ
الْوَقْفِ عَلَيْهِ وَالْعِتْقِ، حَيْثُ يَزُول الْمِلْكُ بِهِمَا،
لأَِنَّهُ يُحْرَزُ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى لاَ يَجُوزَ لَهُ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلِهَذَا لاَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى
كَانَ لَهُ وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلاَّتِهِ إِلَى
مَصَارِفِهِ، وَنَصْبِ الْقَيِّمِ، وَلأَِنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ
أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْدُومَةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلاَّ فِي
الْوَصِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ
الْمَوْقُوفَةِ ثَابِتٌ لِلْوَاقِفِ، لأَِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ مِنْ بَابِ
الإِْسْقَاطِ فَلاَ يَزُول بِهِ الْمِلْكُ، بَل يَبْقَى فِي مِلْكِ
الْوَاقِفِ، وَلِلْوَاقِفِ فِي حَيَاتِهِ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إِصْلاَحَهُ
لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ الإِْصْلاَحُ إِلَى تَغْيِيرِ مَعَالِمِهِ،
وَلِوَارِثِهِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعِ الْوَارِثُ
فَلِلإِْمَامِ ذَلِكَ، هَذَا إِذَا قَامَ الْوَرَثَةُ بِإِصْلاَحِهِ،
وَإِلاَّ فَلِغَيْرِهِمْ إِصْلاَحُهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّانِي: يَبْقَى مِلْكُ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 325، والخرشي 7 / 98.
(39/328)
رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْوَاقِفِ،
لأَِنَّهُ حَبَسَ الأَْصْل وَسَبَّل الثَّمَرَةَ، وَذَلِكَ لاَ يُوجِبُ
زَوَال مِلْكِهِ (1) .
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ
ثَالِثٍ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ
مُعَيَّنَةٍ وَبَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ، حَيْثُ يَبْقَى
الأَْوَّل عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَالثَّانِي يَنْتَقِل إِلَى مِلْكِ
اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً عَامَّةً،
كَالْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْغُزَاةِ،
فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَنْتَقِل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا
عِنْدَهُمْ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ آدَمِيًّا
مُعَيَّنًا أَوْ عَدَدًا مِنَ الآْدَمِيِّينَ مَحْصُورِينَ كَأَوْلاَدِهِ
أَوْ أَوْلاَدِ زَيْدٍ: يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ،
فَيَمْلِكُهُ كَالْهِبَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الثَّالِثِ لَهُمْ: يَنْتَقِل
الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِلْحَاقًا بِالصَّدَقَةِ
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا وُقِفَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، أَمَّا
إِذَا جَعَل الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً فَهُوَ فَكٌّ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 320، 325، والبدائع 6 / 221، والخرشي 7 / 98،
والزرقاني 7 / 91، وروضة الطالبين 5 / 342، ومغني المحتاج 2 / 389.
(39/328)
عَنِ الْمِلْكِ، فَيَنْقَطِعُ مِنْهُ
اخْتِصَاصُ الآْدَمِيِّينَ قَطْعًا (1) .
ج - الاِنْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ
6 - مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ
كَسَائِرِ الأَْمْلاَكِ، وَلَكِنْ لاَ يُؤَجِّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ
نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي تَأْجِيرِهَا.
وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ فَوَائِدَ الْمَوْقُوفِ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ الْوَقْفِ
عِنْدَ الإِْطْلاَقِ أَوْ شَرْطِ أَنَّهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَائِدُ الْمَوْقُوفِ كَثَمَرَةِ،
وَصُوفٍ، وَلَبَنٍ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ
الإِْطْلاَقِ، أَوْ شَرْطُ الْوَلَدِ لَهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فَيَمْلِكُهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَفِي قَوْلٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ وَقْفًا تَبَعًا لأُِمِّهِ،
وَلَوْ كَانَتْ حَامِلاً عِنْدَ الْوَقْفِ فَوَلَدُهَا وَقْفٌ عَلَى
الْقَوْل الثَّانِي وَكَذَا عَلَى الأَْوَّل بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْل
يُعْلَمُ، وَهَذَا الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ مَاتَتِ الْبَهِيمَةُ اخْتَصَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِجِلْدِهَا،
لأَِنَّهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 254، والمغني 5 / 601، ومغني المحتاج 2 / 389.
(39/329)
وَكُل هَذَا مَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ
غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهِ الاِنْتِفَاعِ (1) .
د - حُكْمُ بَدَل الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ إِذَا تَلِفَتْ
7 - لاَ يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَدَل الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةَ
إِنْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدٍ ضَامِنَةٍ، بَل يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهَا
لِتَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهَا مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي
اسْتِمْرَارِ الثَّوَابِ.
وَاَلَّذِي يَتَوَلَّى الشِّرَاءَ وَالْوَقْفَ هُوَ الْحَاكِمُ بِنَاءً
عَلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ خَاصٌّ أَوْ لاَ.
أَمَّا مَا اشْتَرَاهُ النَّاظِرُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ رِيعِ
الْمَوْقُوفِ أَوْ يَعْمُرُهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لِجِهَةِ
الْوَقْفِ فَالْمُنْشِئُ هُوَ النَّاظِرُ، وَكَذَا مَا يَشْتَرِيهِ
الْحَاكِمُ بِبَدَل الْمُتْلَفِ لاَ يَصِيرُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَقِفَهُ
الْحَاكِمُ.
أَمَّا مَا يَقُومُ النَّاظِرُ أَوِ الْحَاكِمُ مِنْ تَرْمِيمِ
الْمَوْقُوفِ وَإِصْلاَحِ جُدْرَانِهِ فَلَيْسَ وَقْفًا مُنْشِئًا، لأَِنَّ
الْعَيْنَ فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ بَدَل الْعَيْنِ التَّالِفَةِ
بِمِثْلِهَا فَاتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، أَمَّا الأَْرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ
فَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالطِّينُ وَالْحَجَرُ الْمَبْنِيُّ بِهِمَا
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 327، والخرشي 7 / 98، ومغني المحتاج 2 / 389 - 390،
وشرح روض الطالب 2 / 470، وكشاف القناع 4 / 256، والمغني 5 / 604.
(39/329)
كَالْوَصْفِ التَّابِعِ لِلْمَوْقُوفِ (1)
.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَصِيرُ الْبَدَل وَقْفًا
بِلاَ حَاجَةٍ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ جَدِيدٍ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا إِذَا أَمْكَنَ
وَإِلاَّ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ (2) .
هـ - الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ وَجِنَايَتُهُ
8 - إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ قِنًّا وَكَانَ قَتْلُهُ عَمْدًا فَلَيْسَ
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَفْوٌ مَجَّانًا وَلاَ قَوَدٌ، لأَِنَّهُ لاَ
يَخْتَصُّ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بَل هُوَ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ،
فَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ بَدَلُهُ: أَيْ مِثْلُهُ.
وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الْبَدَل الْمُشْتَرَى مَعْنَاهُ: وُجُوبُ
الذَّكَرِ فِي الذَّكَرِ، وَالأُْنْثَى فِي الأُْنْثَى، وَالْكَبِيرِ فِي
الْكَبِيرِ، وَسَائِرِ الأَْوْصَافِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ الأَْعْيَانُ
بِتَفَاوُتِهَا، وَلاَ سِيَّمَا الصِّنَاعِيَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي
الْوَقْفِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ جُبْرَانُ مَا فَاتَ وَلاَ يَحْصُل بِدُونِ
ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ بَعْضِ أَطْرَافِهِ عَمْدًا
فَلِلْقِنِّ الْمَوْقُوفِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لأَِنَّهُ حَقُّهُ لاَ
يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 391، ونهاية المحتاج 5 / 389، وكشاف القناع 4 / 256 -
257.
(2) الدسوقي 4 / 90 - 91، وكشاف القناع 4 / 257.
(39/330)
وَإِنْ عَفَا الْقِنُّ الْمَوْقُوفُ عَنِ
الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ لاَ تُوجِبُ الْقِصَاصَ
لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ أَوْ لِكَوْنِهَا خَطَأً وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ
فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِمَّا فِيهِ
نِصْفُ دِيَةٍ فِي الْحُرِّ وَإِلاَّ فَبِحِسَابِهِ وَيُشْتَرَى
بِالأَْرْشِ مِثْلُهُ أَوْ شِقْصُ بَدَلِهِ.
وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ خَطَأً فَالأَْرْشُ عَلَى
الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا وَلَمْ
يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ كَأُمِّ
الْوَلَدِ.
وَلَمْ يَلْزَمِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَجِبُ
أَقَل الأَْمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ (1) .
9 - وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ
وَجَنَى فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي كَسْبِهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إِيجَابُ الأَْرْشِ عَلَيْهِ، وَلاَ
يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَتِهِ فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ.
وَإِنْ جَنَى الْمَوْقُوفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَجَبَ الْقِصَاصُ
لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 257، والمغني 5 / 636 - 637، ونهاية المحتاج 5 / 390.
(39/330)
فَإِنْ قُتِل قِصَاصًا بَطَل الْوَقْفُ
كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ بَاقِيهِ وَقْفًا
(1) .
و عَطَبُ الْمَوْقُوفِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ
10 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَوْقُوفِ،
كَأَنْ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ
ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا إِلَى مَغْرَزِهَا قَبْل جَفَافِهَا
لَمْ يَنْقَطِعِ الْوَقْفُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنِ امْتَنَعَ وَقْفُهَا
ابْتِدَاءً لَقُوَّةِ الدَّوَامِ (2) بَل يُنْتَفَعُ بِهَا جِذْعًا
بِإِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهَا، وَلاَ
تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ، وَقِيل: تُبَاعُ لِتَعَذُّرِ الاِنْتِفَاعِ كَمَا
شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَالثَّمَنُ عَلَى هَذَا الْقَوْل حُكْمُهُ كَقِيمَةِ
الْمُتْلَفِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ
وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ إِنِ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ أَوْ خِيفَ
الْكَسْرُ أَوِ الْهَدْمُ، وَقَال الْبُهُوتِيُّ نَقْلاً عَنْ صَاحِبِ
التَّلْخِيصِ: إِذَا أَشْرَفَ الْجِذْعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الاِنْكِسَارِ
أَوْ دَارُهُ عَلَى الاِنْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ
عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً
لِلْمَالِيَّةِ، أَوْ يُنْقَضُ تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ.
__________
(1) المغني 5 / 636، وكشاف القناع 4 / 256 - 257.
(2) مغني المحتاج 2 / 391، ونهاية المحتاج 5 / 389.
(3) مغني المحتاج 2 / 391 - 392.
(39/331)
وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ
الْمُسَبَّلَةُ وَنَحْوُهَا جَازَ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا، وَيَصِحُّ
بَيْعُ مَا فَضَل مِنْ نِجَارَةِ خَشَبِ الْمَوْقُوفِ وَنُحَاتَتِهِ وَإِنْ
شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لأَِنَّهُ
شَرْطٌ فَاسِدٌ (1) ، لِخَبَرِ: مَا بَال أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا
لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ (2) .
وَإِنْ بِيعَ الْمَوْقُوفُ يُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ
مِثْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي مِثْلِهِ، لأَِنَّ فِي إِقَامَةِ الْبَدَل
مَقَامَهُ تَأْبِيدًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ فَتَعَيَّنَ
وُجُوبُهُ، وَيُصْرَفُ فِي جِهَتِهِ وَهِيَ مَصْرِفُهُ، لاِمْتِنَاعِ
تَغْيِيرِ الْمَصْرِفِ مَعَ إِمْكَانِ مُرَاعَاتِهِ.
وَإِنْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ صُرِفَ فِي
جِهَةٍ مِثْلِهَا، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى الْغُزَاةِ فِي مَكَانٍ فَتَعَطَّل
الْغَزْوُ فِيهِ، صُرِفَ الْبَدَل إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْغُزَاةِ فِي
مَكَانٍ آخَرَ تَحْصِيلاً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي الْجُمْلَةِ حَسْبَ
الإِْمْكَانِ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 293.
(2) حديث: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 3 / 353 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1143 ط عيسى الحلبي)
من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) كشاف القناع 4 / 293.
(39/331)
ز - عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ
حَتَّى لاَ يَضِيعَ الْوَقْفُ وَتَتَعَطَّل أَغْرَاضُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْعِمَارَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ
الْعِمَارَةَ تَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ
الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ شَرْطَ
الْوَاقِفِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ) .
ج - نَقْضُ الْمَوْقُوفِ
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا انْهَدَمَ الْبِنَاءُ الْمَوْقُوفُ
يُصْرَفُ نَقْضُهُ إِلَى عِمَارَتِهِ إِنِ احْتَاجَ، وَإِلاَّ حَفِظَهُ
إِلَى الاِحْتِيَاجِ، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْعِمَارَةِ، لأَِنَّ
الْمَوْقُوفَ لاَ يَبْقَى بِدُونِهَا فَلاَ يَحْصُل صَرْفُ الْغَلَّةِ
إِلَى الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَبْطُل غَرَضُ الْوَاقِفِ إِلَى
الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَصْرِفُهُ لِلْحَال إِنِ احْتَاجَ
إِلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَيْهِ كَيْ لاَ
يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَوَانَ الْحَاجَةِ.
وَلاَ يُقْسَمُ النَّقْضُ عَلَى مُسْتَحِقِّي غَلَّةِ
(39/332)
الْمَوْقُوفِ لأَِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ
حَقٌّ فِي الْعَيْنِ وَلاَ فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي
الْمَنَافِعِ، فَلاَ يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ غَيْرُ حَقِّهِمْ، وَإِنْ
تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إِلَى الْعِمَارَةِ،
لأَِنَّ الْبَدَل يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَل فَيُصْرَفُ مَصْرِفَ الْبَدَل
(1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَنَقْضُ الْحَبْسِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُبْدَل رِيعٌ خَرِبٌ بِرِيعٍ غَيْرِ خَرِبٍ إِلاَّ
لِتَوْسِعَةِ مَسْجِدٍ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ
وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ لإِِمْكَانِ الاِنْتِفَاعِ
بِهِ حَالاً بِالصَّلاَةِ فِي أَرْضِهِ، نَعَمْ لَوْ خِيفَ عَلَى نَقْضِهِ
نُقِضَ وَحُفِظَ لَيُعْمِرَ بِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إِنْ رَآهُ الْحَاكِمُ،
وَالْمَسْجِدُ الأَْقْرَبُ أَوْلَى، وَبَحَثَ الأَْذْرَعِيُّ تَعَيُّنَ
مَسْجِدٍ خُصَّ بِطَائِفَةٍ خُصَّ بِهَا الْمُنْهَدِمُ إِنْ وُجِدَ وَإِنْ
بَعُدَ (2) .
ثَانِيًا - الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ الْمَوْقُوفُ:
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ كُل تَصَرُّفٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ
بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ كَبَيْعٍ وَتَزْوِيجٍ، أَوْ
إِسْقَاطًا كَطَلاَقٍ وَإِعْتَاقٍ وَلَهُ مُجِيزٌ: أَيْ لَهُ مَنْ لَهُ
حَقُّ الإِْجَازَةِ حَال وُقُوعِهِ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا.
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 328، والبحر الرائق 5 / 237.
(2) الخرشي 7 / 95، ونهاية المحتاج 5 / 392.
(39/332)
أَمَّا مَا لاَ مُجِيزَ لَهُ لاَ
يَنْعَقِدُ أَصْلاً (1) .
فَإِنْ بَاعَ صَبِيٌّ مَثَلاً ثُمَّ بَلَغَ قَبْل إِجَازَةِ وَلِيِّهِ
فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ جَازَ، لأَِنَّهُ كَانَ لَهُ
مُجِيزٌ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْوَلِيُّ، أَمَّا إِنْ طَلَّقَ
الصَّبِيُّ زَوْجَتَهُ مَثَلاً قَبْل الْبُلُوغِ فَأَجَازَهُ بِنَفْسِهِ
بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلإِْسْقَاطِ
مُجِيزٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ لأَِنَّ الْوَلِيَّ لاَ يَمْلِكُ إِيقَاعَ
الطَّلاَقِ عَلَى زَوْجَةِ مُوَلِّيهِ فَلاَ يَمْلِكُ إِجَازَتَهُ (2) .
(ر: الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ) .
أَقْسَامُ الْمَوْقُوفِ:
14 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ إِلَى: مَوْقُوفٍ
قَابِلٍ لِلصِّحَّةِ، وَمَوْقُوفٍ فَاسِدٍ (3) .
وَالْمَوْقُوفُ الْقَابِل لِلصِّحَّةِ: هُوَ مَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَصْل
وَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيل التَّوَقُّفِ وَلاَ يُفِيدُ
تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ (4) ، وَيَتَنَاوَل كُل تَصَرُّفٍ
فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ التَّصَرُّفُ
كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ، أَمْ
إِسْقَاطًا كَالطَّلاَقِ وَالإِْعْتَاقِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 135.
(2) رد المحتار 4 / 135.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 4، 135.
(4) قواعد الفقه للبركتي.
(39/333)
وَالتَّمْلِيكُ يَشْمَل الْحَقِيقِيَّ
كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَنْقُل الْمِلْكَ، وَالْحُكْمِيُّ
كَالتَّزْوِيجِ، وَهَذَا مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ (1) .
وَالْفَاسِدُ الْمَوْقُوفُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ لاَ فِي
وَصْفِهِ (2) ، كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ
الْفَاسِدَةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمُّونَهُ: مَوْقُوفًا فَاسِدًا فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ
الْمِلْكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
فَإِذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا ثَبَتَ فِيهِ الْمِلْكُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ.
وَقَال زُفَرُ: لاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالتَّسْلِيمِ مُكْرَهًا لأَِنَّهُ
مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ فَلاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَهَا، وَقَال
الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ
- إِنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ،
وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا، فَصَارَ كَسَائِرِ
الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ
قَبَضَهُ وَأَعْتَقَ أَوْ تَصَرَّفَ بِهِ أَيَّ تَصَرُّفٍ - لاَ يُمْكِنُ
نَقْضُهُ - جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ
الْفَاسِدَةِ.
وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الإِْكْرَاهُ
وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقَطِعُ حَقُّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 4، 135.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(39/333)
اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ بِالإِْكْرَاهِ
وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الأَْيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَصَرَّفَ إِنْسَانٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى
إِجَازَةِ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ وَذَلِكَ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ
مِلْكَ غَيْرِهِ فَإِنَّ نَفَاذَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَالِكِهِ
(2) .
وَكَبَيْعِ الْغَاصِبِ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ لِغَيْرِ الْمَغْصُوبِ
مِنْهُ (3) .
وَكَطَلاَقِ الْفُضُولِيِّ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِجَازَةِ
الزَّوْجِ (4) .
15 - وَالْوَقْفُ يُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ لِبَيَانِ مَا
يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الْعُقُودِ، فَمِنَ الأَْوَّل حَجُّ
الصَّبِيِّ، فَإِنْ دَامَ صَبِيًّا إِلَى آخِرِ أَعْمَال الْحَجِّ كَانَ
نَفْلاً، وَإِنْ بَلَغَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ انْقَلَبَ فَرْضًا.
وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فَسَلَّمَ سَاهِيًا
قَبْل الإِْتْيَانِ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَذَكَّرَ قَرِيبًا فَفِي
صِحَّةِ سَلاَمِهِ وَجْهَانِ: فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَقَدْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 169، وحاشية ابن عابدين 5 / 81.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 12.
(3) الخرشي 6 / 146.
(4) جواهر الإكليل 1 / 339، وحاشية الدسوقي 2 / 395.
(39/334)
فَاتَ مَحَل السُّجُودِ، وَإِنْ
أَبْطَلْنَاهُ فَإِنْ سَجَدَ فَهُوَ بَاقٍ فِي الصَّلاَةِ وَلَوْ أَحْدَثَ
لَبَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ فَقَال الإِْمَامُ:
الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ وَلاَ بُدَّ مِنَ السَّلاَمِ.
وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال: السَّلاَمُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ سَجَدَ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ وَإِنْ تَرَكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ تَحَلَّل (1)
.
أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْوَقْفُ فِيهَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلاَثِ
مَسَائِل:
الأُْولَى: بَيْعُ الْفُضُولِيِّ فِي الْقَوْل الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ:
وَهُوَ وَقْفُ صِحَّةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الصِّحةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى
الإِْجَازَةِ فَلاَ تَحْصُل إِلاَّ بَعْدَهَا، هَذَا مَا نَقَلَهُ
النَّوَوِيُّ عَنِ الأَْكْثَرِينَ، وَنَقَل الرَّافِعِيُّ عَنِ الإِْمَامِ:
أَنَّ الصِّحةَ نَاجِزَةٌ وَالْمُتَوَقِّفَ عَلَى الإِْجَازَةِ هُوَ
الْمِلْكُ.
الثَّانِيَةُ: بَيْعُ مَال مُوَرِّثِهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ، وَهُوَ وَقْفُ
تَبَيُّنٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَحِيحٌ وَنَحْنُ لاَ
نَعْلَمُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ فِي ثَانِي الْحَال فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى
ظُهُورِ أَمْرٍ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمِلْكُ فِيهِ مِنْ حِينِ
الْعَقْدِ وَلاَ خِيَارَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ وَهِيَ مَا إِذَا غَصَبَ أَمْوَالاً
وَبَاعَهَا وَتَصَرَّفَ فِي أَثْمَانِهَا بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَوْ
يَتَعَذَّرُ تَتَبُّعُهَا بِالنَّقْضِ فَفِي قَوْلٍ
__________
(1) المنثور 3 / 338 - 345.
(39/334)
عِنْدَهُمْ: لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ
وَيَأْخُذَ الْحَاصِل مِنْ أَثْمَانِهَا (1) .
16 - وَتَنْحَصِرُ التَّصَرُّفَاتُ الْمَوْقُوفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
فِي سِتَّةِ أَنْوَاعٍ:
وَضَبَطَ الإِْمَامُ الْوَقْفَ الْبَاطِل فِي الْعُقُودِ بِتَوَقُّفِ
الْعَقْدِ عَلَى وُجُودِ شَرْطٍ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَبَيْعِ
الْفُضُولِيِّ.
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ السِّتَّةُ هِيَ:
الأَْوَّل: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُول شَرْطٍ بَعْدَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ
فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ لأَِنَّهُ يَتَوَقَّفُ
عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.
الثَّانِي: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَبْيِينٍ وَانْكِشَافٍ سَابِقٍ عَلَى
الْعَقْدِ فَهُوَ صَحِيحٌ كَبَيْعِ مَال أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ.
وَأَلْحَقَ بِهِ الرَّافِعِيُّ: مَا إِذَا بَاعَ الْعَبْدَ عَلَى ظَنٍّ
أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مُكَاتَبٌ وَكَانَ قَدْ عَجَّزَ نَفْسَهُ، أَوْ فَسَخَ
الْكِتَابَةَ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ
فُضُولِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي ذَلِكَ يَصِحُّ فِي
الأَْصَحِّ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل: أَنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَتَوَقَّفُ
عَلَى الْقَبُول وَأَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلاً قَبْل بُلُوغِ الْخَبَرِ
إِلَيْهِ.
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 340 - 341، ومغني المحتاج 2 / 15.
(39/335)
الثَّالِثُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى
انْقِطَاعِ تَعَدِّي فَقَوْلاَنِ: الأَْصَحُّ الإِْبْطَال كَبَيْعِ
الْمُفْلِسِ مَالَهُ ثُمَّ يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى
مِلْكِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْفَكِّ إِنْ وُجِدَ
نَفَذَ وَإِلاَّ فَلاَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل: فَهُوَ وَقْفُ تَبْيِينٍ.
وَالرَّابِعُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى ارْتِفَاعِ حَجْرٍ حُكْمِيٍّ خَاصٍّ
كَأَنْ يُقِيمَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى عِتْقِهِ وَلَمْ يُعَدَّلاَ،
فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْجُرُ عَلَى السَّيِّدِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ
إِلَى التَّعْدِيل، فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ
تَبَيَّنَ عَدَمُ عَدَالَتِهِمْ فَعَلَى قَوْل الْوَقْفِ فِي صُورَةِ
الْمُفْلِسِ كَمَا سَبَقَ، بَل أَوْلَى لأَِنَّهَا أَخَصُّ مِنْهَا
لِوُجُودِ الْحَجْرِ هُنَا عَلَى الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَهُنَاكَ عَلَى
الْعُمُومِ.
الْخَامِسُ: مَا تَوَقَّفَ لأَِجْل حَجْرٍ شَرْعِيٍّ مِنْ غَيْرِ
الْحَاكِمِ وَفِيهِ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ بِالْمُحَابَاةِ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى
قَدْرِ الثُّلُثِ فِيهَا، وَفِيهَا قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا
بَاطِلَةٌ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ،
فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَارِثُ صَحَّتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ.
ثَانِيَتُهَا: إِذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ هِيَ ثُلُثُ مَالِهِ
وَبَاقِي الْمَال غَائِبٌ فَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي
(39/335)
ثُلُثَيِ الْحَاضِرِ ثُمَّ بَانَ تَلَفُ
الْغَائِبِ فَأَلْحَقهَا الرَّافِعِيُّ بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ،
وَخَالَفَهُ النَّوَوِيُّ فَأَلْحَقَهَا بِبَيْعِ مَال مُوَرِّثِهِ يَظُنُّ
حَيَاتَهُ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ، لأَِنَّ التَّصَرُّفَ
هُنَا صَادَفَ مِلْكَهُ فَهِيَ بِبَيْعِ الاِبْنِ أَشْبَهُ مِنْهُ
بِالْفُضُولِيِّ.
السَّادِسُ: مَا تَوَقَّفَ لأَِجْل حَجْرٍ وَضْعِيٍّ أَيْ بِاخْتِيَارِ
الْمُكَلَّفِ كَالرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ
الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ
الَّذِي يُجِيزُ وَقْفَ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى
الاِنْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ، وَأَلْحَقَهُ الإِْمَامُ بِبَيْعِ الْمُفْلِسِ
مَالَهُ.
هَذَا وَأَنَّ الْوَقْفَ الْمُمْتَنِعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّمَا
هُوَ فِي الاِبْتِدَاءِ دُونَ الاِسْتِدَامَةِ، لِهَذَا قَالُوا: لَوِ
ارْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا، فَإِنْ
أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ بَانَتْ، وَلاَ
يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِ مُرْتَدَّةٍ
وَقَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْقَى الْمِلْكُ مَوْقُوفًا فِي مِلْكِ
الْمَبِيعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا عَلَى
الأَْصَحِّ.
وَمِلْكُ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْل الْقَبُول
الأَْصَحُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، إِنْ قَبِل تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ مِنْ
حِينِ الْمَوْتِ، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ.
(39/336)
وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ مَالَهُ،
فَإِنْ تَابَ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُل وَإِنْ قُتِل حَدًّا
أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَهُ زَال مِنْ حِينِ
الاِرْتِدَادِ (1) .
ثَالِثًا - الْمَوْقُوفُ مِنَ الأَْحَادِيثِ
17 - وَهُوَ مَا يُرْوَى عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ
أَقْوَالِهِمْ أَوْ أَفْعَالِهِمْ وَنَحْوِهَا فَيُوقَفُ عَلَيْهِمْ وَلاَ
يُتَجَاوَزُ بِهِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ إِنَّ مِنْهُ مَا يَتَّصِل الإِْسْنَادُ فِيهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ
فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الْمَوْصُول، وَمِنْهُ مَا لاَ يَتَّصِل
إِسْنَادُهُ فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ غَيْرِ الْمَوْصُول عَلَى حَسَبِ
مَا عُرِفَ مِثْلُهُ فِي الْمَرْفُوعِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المنثور للزركشي 3 / 339 وما بعدها.
(2) مقدمة ابن الصلاح ص 41 - 42.
(39/336)
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: مَوْلًى،
وَالْعَتَاقَةُ.
وَالْمَوْلَى: يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: يُطْلَقُ عَلَى ابْنِ
الْعَمِّ، وَعَلَى الْعَصَبَةِ عَامَّةً، وَالْحَلِيفِ: وَهُوَ مَوْلَى
الْمُوَالاَةِ، وَعَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَلَى الْعَتِيقِ، وَعَلَى
مَنْ أَسْلَمَ بِيَدِهِ شَخْصٌ (1) .
أَمَّا الْعَتَاقَةُ لُغَةً: فَهِيَ مِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ عَتَاقَةً، مِنْ
بَابِ ضَرَبَ: خَرَجَ مِنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ (2) .
وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْمُعْتِقُ، وَهُوَ مَنْ
لَهُ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ
أَوْ مُبَعَّضٌ، بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّزٍ اسْتِقْلاَلاً، أَوْ بِعِوَضٍ
كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ ضِمْنًا كَقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ:
أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي فَأَجَابَهُ، أَوْ كِتَابَةً مِنْهُ وَتَدْبِيرًا
وَاسْتِيلاَدًا
__________
(1) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي.
(2) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي.
(39/337)
أَوْ قَرَابَةً كَأَنْ يَمْلِكَ مَنْ
يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ.
وَوَلاَءُ الْعَتَاقَةِ يُسَمَّى أَيْضًا وَلاَءَ نِعْمَةٍ، لأَِنَّ
الْمُعْتِقَ أَنْعَمَ عَلَى الْمُعْتَقِ حَيْثُ أَحْيَاهُ حُكْمًا.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ، أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى،
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالإِْعْتَاقِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَوْلَى الْمُوَالاَةِ:
2 - مَوْلَى الْمُوَالاَةِ هُوَ شَخْصٌ مَجْهُول النَّسَبِ آخَى مَعْرُوفَ
النَّسَبِ وَوَالاَهُ، فَقَال: إِنْ جَنَتْ يَدِيَّ جِنَايَةً تَجِبُ
دِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِك، وَإِنْ حَصَل لِي مَالٌ فَهُوَ لَك بَعْدَ
مَوْتِي.
وَيُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ: مُوَالاَةً، وَالشَّخْصُ الْمَعْرُوفُ
النَّسَبِ: مَوْلَى الْمُوَالاَةِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
ثُبُوتُ الْوَلاَءِ بِالْعِتْقِ
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ
رَقِيقٌ بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّرٍ، إِمَّا اسْتِقْلاَلاً
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 506، وتبيين الحقائق 5 / 175، وبدائع الصنائع 4 /
160، وكشاف القناع 4 / 498.
(2) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي.
(39/337)
أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ
نَفْسِهِ، أَوْ بِفَرْعٍ مِنَ الإِْعْتَاقِ كَكِتَابَةٍ، وَتَدْبِيرٍ
وَاسْتِيلاَدٍ، أَوْ بِمِلْكِ قَرِيبٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَلَهُ
وَلاَؤُهُ، وَيُسَمَّى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ.
وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَكَفَّارَةٍ عَنْ قَتْلٍ، أَوْ
ظِهَارٍ، أَوْ إِفْطَارٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ
عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، أَوْ عَنْ إِيلاَءٍ،
أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ عَنْ نَذْرٍ، فَلَهُ وَلاَؤُهُ أَيْضًا (1) .
لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لِمَنْ
أَعْتَقَ (2) وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْوَلاَءُ
لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (3) وَعَنِ الْحَسَنِ قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلاَءُ (4) وَوَرَدَ: أَنَّ رَجُلاً
مَاتَ عَلَى عَهْدِ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 160، وتبيين الحقائق 5 / 175، ومغني المحتاج 4 /
506، وكشاف القناع 4 / 498.
(2) حديث: " الولاء لمن أعتق ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 185 - ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 1141 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". أخرجه الحاكم (4 / 341) والبيهقي
في السنن الكبرى (10 / 292) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " الميراث للعصبة. . . ". أخرجه سعيد بن منصور في السنن (1 / 75
- ط علمي برس) من حديث الحسن مرسلاً.
(39/338)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ،
فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ (1)
. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَرِثُ
عَتِيْقَهُ، إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا سِوَاهُ.
تَرْتِيبُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الإِْرْثِ
4 - مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُقَدَّمٌ فِي التَّوْرِيثِ عَلَى ذَوِي
الأَْرْحَامِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ،
إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَمْ تُوجَدْ
عَصَبَةُ النَّسَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ، وَمُؤَخَّرٌ عَنِ الْعَصَبَةِ النَّسَبِيَّةِ (2) .
فَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ بِنْتَهُ وَمَوْلاَهُ: فَلِبِنْتِهِ
النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِمَوْلاَهُ، وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ
وَمَوْلاَهُ: فَالْمَال لِمَوْلاَهُ دُونَ ذِي رَحِمِهِ.
وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُقَدَّمُ الرَّدُّ
عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَنْهُمَا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ: تَقْدِيمُ ذَوِي الأَْرْحَامِ عَلَى مَوْلَى
الْعَتَاقَةِ، قَال ابن قُدَامَةَ: وَلَعَلَّهُمْ
__________
(1) حديث: " أن رجلاً مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ".
أخرجه الترمذي (4 / 423) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: حديث حسن.
(2) بدائع الصنائع 4 / 159، وتبيين الحقائق 5 / 175، 6 / 238، 246،
والدسوقي 4 / 467، 416، ومغني المحتاج 4 / 506، 3 / 4، 20، والمغني لابن
قدامة 6 / 348 - 349.
(39/338)
يَحْتَجُّونَ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
.
وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أَوْ ذُو فَرْضٍ
يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، فَلاَ شَيْءَ لِلْمَوْلَى.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ
بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (1) .
وَالْعَصَبَةُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ،
لأَِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ
الْمُشَبَّهِ، وَلأَِنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلاَءِ بِدَلِيل
أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ
وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَلاَءِ
(2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 63 وَمَا بَعْدَهَا) .
ثُبُوتُ الْوَلاَءِ لِلْكَافِرِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَلاَءَ يَثْبُتُ
لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَعَكْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا.
__________
(1) حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 /
11 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1233 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) بدائع الصنائع 4 / 159، وتبيين الحقائق 5 / 175، 6 / 238، 246،
والدسوقي 4 / 416، 467، ومغني المحتاج 3 / 4، 20، 4 / 506، والمغني لابن
قدامة 6 / 348 - 349.
(39/339)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّوَارُثِ
فِي حَالَةِ اخْتِلاَفِ دِينِهِمَا بِحَدِيثِ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ (1) ، وَلأَِنَّهُ مِيرَاثٌ
فَيَمْنَعُهُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ كَمِيرَاثِ النَّسَبِ، وَلأَِنَّ
اخْتِلاَفَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ فَمَنَعَ
الْمِيرَاثَ بِالْوَلاَءِ كَالْقَتْل وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ
الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مَنَعَ الأَْقْوَى فَالأَْضْعَفُ
أَوْلَى، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ
الْوَلاَءَ بِالنَّسَبِ بِقَوْلِهِ: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ
النَّسَبِ (2) فَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلاَفُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ
صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ
الْوَلاَءِ وَثُبُوتِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الإِْسْلاَمِ تَوَارَثَا
كَالْمُتَنَاسِبَينِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ
مُسْلِمًا - سَوَاءٌ مَلَكَهُ مُسْلِمًا أَوْ أَسْلَمَ عِنْدَهُ - أَوْ
أَعْتَقَ عَنْهُ فَلاَ وَلاَءَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، بَل
وَلاَؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَعُودُ لَهُ إِنْ أَسْلَمَ عَلَى
الْمَذْهَبِ.
وَإِنْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا فَمَالُهُ لِبَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ قَرَابَةٌ عَلَى دِينِهِ،
__________
(1) حديث: " لا يرث المسلم الكافر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 /
50 ط السلفية) ومسلم (3 / 1233 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". سبق تخريجه ف 3.
(39/339)
فَإِنْ كَانَ لَهُ قَرَابَةٌ كُفَّارٌ
فَالْوَلاَءُ لَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَ الْوَلاَءُ لِسَيِّدِهِ
الْمُسْلِمِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدٍ
الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1)
.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 18) .
انْتِقَال الْوَلاَءِ
6 - لاَ يَصِحُّ مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ نَقْل الْوَلاَءِ بِالْبَيْعِ
أَوِ الْهِبَةِ، وَلاَ أَنْ يَأْذَنَ لِعَتِيقِهِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ
يَشَاءُ، وَلاَ يَنْتَقِل الْوَلاَءُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَلاَ يَرِثُهُ
وَرَثَتُهُ، وَإِنَّمَا يَرِثُونَ الْمَال بِالْوَلاَءِ مَعَ بَقَائِهِ
لِلْمَوْلَى (2) . لِحَدِيثِ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ
وَقَال: الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (3) وَقَال عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ
(4) وَلأَِنَّهُ مَعْنًى يُورَثُ بِهِ فَلاَ يَنْتَقِل كَالْقَرَابَةِ (5)
.
__________
(1) رد المحتار 5 / 76، والدسوقي 4 / 415 - 416، ومغني المحتاج 4 / 506،
والمغني 6 / 349 - 352.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". سبق تخريجه ف 3.
(4) حديث: " لعن الله من تولى. . . ". أخرجه أحمد (1 / 309 - ط الميمنية)
من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 103 ط القدسي) :
رجاله رجال الصحيح.
(5) المغني 6 / 352، والمصادر السابقة.
(39/340)
عِتْقُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ
وَلاَءَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ
7 - لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ لاَ وَلاَءَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ
عَلَى أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ
لِغَيْرِهِ لَمْ يَبْطُل وَلاَؤُهُ وَلَمْ يَنْتَقِل كَنَسَبِهِ (1)
لِخَبَرِ: مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ
اللَّهِ أَوْثَقُ (2) وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (3) وَقَوْلِهِ:
الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ (4) .
فَكَمَا لاَ يَزُول نَسَبُ الإِْنْسَانِ وَلاَ يَنْتَقِل كَذَلِكَ لاَ
يَزُول وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ أَهْل بَرِيرَةَ
اشْتِرَاطَ وَلاَئِهَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَال صلى
الله عليه وسلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرِيهَا
وَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ، فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ
أَعْتَقَ (5) يَعْنِي:
__________
(1) رد المحتار 5 / 174، والشرح الصغير 4 / 572، ومغني المحتاج 4 / 507،
وكشاف القناع 4 / 498، والمغني 6 / 452 - 353.
(2) حديث: " ما كان من شرط ليس في كتاب الله. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 5 / 326 ط السلفية) ومسلم (2 / 1143 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " الولاء لمن أعتق ". سبق تخريجه ف 3.
(4) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". سبق تخريجه ف 3.
(5) حديث: " اشتريها واشترطي. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1143 ط عيسى الحلبي)
.
(39/340)
أَنَّ اشْتِرَاطَ تَحْوِيل الْوَلاَءِ لاَ
يُفِيدُ شَيْئًا، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال: إِنِّي أَعْتَقْتُ غُلاَمًا لِي
وَجَعَلْتُهُ سَائِبَةً، فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالاً. فَقَال عَبْدُ اللَّهِ:
إِنَّ أَهْل الإِْسْلاَمِ لاَ يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُسَيِّبُ
أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْتَ وَارِثُهُ وَوَلِيُّ نِعْمَتِهِ، فَإِنْ
تَحَرَّجْتَ مِنْ شَيْءٍ فَأَدْنَاهُ نَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَال (1) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ أَعْتَقَ الرَّجُل
عَبْدَهُ سَائِبَةً، كَأَنْ يَقُول: قَدْ أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً لَمْ
يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلاَءٌ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ وَسَلَّمَهُ،
وَقَال أَحْمَدُ: قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السَّائِبَةُ
وَالصَّدَقَةُ لِيَوْمِهَا وَمَتَى قَال الرَّجُل لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ
سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلاَءٌ، فَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ
مَالاً وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا اشْتُرِيَ بِمَالِهِ رِقَابٌ فَأُعْتِقُوا
فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ قَال: أَعْتَقَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا عَبْدًا سَائِبَةً، فَمَاتَ، فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ
بِمَالِهِ رِقَابًا فَأَعْتَقَهُمْ وَوَلاَؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
(2) .
__________
(1) أثر: " أن رجلاً جاء إلى عبد الله. . . ". أخرجه البيهقي في السنن
الكبرى (10 / 300 ط دائرة المعارف) ، وأخرجه البخاري مختصرًا ونصه عن عبد
الله بن مسعود: " إن أهل الإسلام لا يسيّبون وإن أهل الجاهلية كانوا
يسيّبون " (فتح الباري 12 / 40 ط السلفية) . وانظر: كشاف القناع 4 / 498،
والمصادر السابقة.
(2) المغني 6 / 353.
(39/341)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَائِبَةٌ ف 3) .
الْمِيرَاثُ بِالْوَلاَءِ
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ لاَ عَصَبَةَ لَهُ
بِنَسَبٍ وَلَهُ مُعْتِقٌ فَمَالُهُ وَمَا لَحِقَ بِهِ - أَوِ الْفَاضِل
مِنْهُ بَعْدَ الْفُرُوضِ أَوِ الْفَرْضِ - لَهُ، رَجُلاً كَانَ أَوِ
امْرَأَةً، لإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (1) . وَلأَِنَّ الإِْنْعَامَ
بِالإِْعْتَاقِ مَوْجُودٌ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فَاسْتَوَيَا فِي
الإِْرْثِ بِهِ.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُعْتِقٌ فَلِعَصَبَتِهِ: أَيِ الْمُعْتِقِ (2) .
وَتَرْتِيبُهُمْ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي النَّسَبِ، فَيُقَدَّمُ ابْنُ
الْمُعْتِقِ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ
وَإِنْ عَلاَ.
وَلَكِنْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْظْهَرُ أَنَّ أَخَا الْمُعْتِقِ
لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ وَابْنَ أَخِيهِ يُقَدَّمَانِ عَلَى جَدِّ
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ فِي أَنَّ الْبُنُوَّةَ
أَقْوَى مِنَ الأُْبُوَّةِ.
وَإِنَّمَا خَالَفُوا فِي النَّسَبِ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الأَْخَ لاَ يُسْقِطُ الْجَدَّ،
__________
(1) حديث: " إنما الولاء لمن أعتق ". سبق تخريجه ف 3.
(2) رد المحتار 5 / 74 - 75، والدسوقي 4 / 420، ومغني المحتاج 3 / 20،
والمغني 6 / 374.
(39/341)
وَلاَ إِجْمَاعَ فِي الْوَلاَءِ فَصَارُوا
إِلَى الْقِيَاسِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 51) .
إِرْثُ النِّسَاءِ بِالْوَلاَءِ
9 - لاَ يَرِثُ النِّسَاءُ بِالْوَلاَءِ إِلاَّ مَنْ أَعْتَقْنَ
بِالْمُبَاشَرَةِ، أَوْ مُنْتَمِيًا إِلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ وَلاَءٍ
لِحَدِيثِ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلاَءِ إِلاَّ مَا أَعْتَقْنَ،
أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ
كَاتَبْنَ، أَوْ دَبَّرْنَ أَوْ دَبَّرَ مَنْ دَبَّرْنَ، أَوْ جَرَّ
وَلاَءَ مُعْتَقِهِنَّ (2) .
وَلأَِنَّ ثُبُوتَ صِفَةِ الْمِلْكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُعْتِقِ حَصَل
مِنْ جِهَتِهَا، فَكَانَتْ مُحْيِيَةً لَهُ فَيُنْسَبُ الْمُعْتَقُ
بِالْوَلاَءِ إِلَيْهَا.
فَإِنْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ عَتِيقُهُ وَلَمْ
يُخَلِّفْ عَاصِبًا ذَكَرًا فَإِرْثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ
حَقَّ لِبَنَاتِهِ وَلاَ لأَِخَوَاتِهِ انْفَرَدْنَ أَوِ اجْتَمَعْنَ،
فَلَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنِ ابْنٍ وَبِنْتٍ، ثُمَّ مَاتَ
الْعَتِيقُ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا
__________
(1) الدسوقي 4 / 420، ومغني المحتاج 3 / 20 - 21.
(2) حديث: " ليس للنساء من الولاء إلاَّ ما أعتقن. . . ". ذكره الزيلعي في
نصب الراية (4 / 154 ط المكتب الإسلامي) وقال: غريب. وأخرج البيهقي في
السنن الكبرى (10 / 306 ط دائرة المعارف) ، عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت
أنهم كانوا يجعلون الولاء للكبر من العصبة، ولا يورثون النساء إلا ما أعتقن
أو أعتق من أعتقن.
(39/342)
فَمَا تَرَكَهُ الْعَتِيقُ لاَبْن مَوْلَى
الْعَتَاقَةِ وَلاَ شَيْءَ لِلْبِنْتِ.
وَكَذَا إِنْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ وَبِنْتَ صُلْبٍ أَخَذَ ابْنُ الْعَمِّ
الْمَال وَلاَ شَيْءَ لِبِنْتِ الصُّلْبِ (1) .
حُقُوقٌ أُخْرَى تَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
10 - يَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلاَيَةُ الصَّلاَةِ عَلَى
عَتِيقِهِ، وَوِلاَيَةُ النِّكَاحِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الْقُصَّرِ،
وَعَلَيْهِ الْعَقْل عَنْهُ (2)
__________
(1) المصادر السابقة، وتبيين الحقائق 5 / 178.
(2) تبيين الحقائق 5 / 178، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 428، 4 /
417، ومغني المحتاج 1 / 347، 3 / 151، 4 / 96.
(39/342)
مَوْلَى الْمُوَالاَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مَوْلَى الْمُوَالاَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: مَوْلًى،
وَالْمُوَالاَةُ.
وَالْمَوْلَى مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلاَءِ، وَهُوَ النُّصْرَةُ
وَالْمَحَبَّةُ، وَيُطْلَقُ الْمَوْلَى عَلَى: ابْنِ الْعَمِّ وَعَلَى
الْعَصَبَةِ عَامَّةً، وَعَلَى الْمُعْتَقِ (بِالْفَتْحِ) ، وَالْمُعْتِقِ
(بِالْكَسْرِ) ، وَعَلَى الْحَلِيفِ، وَالنَّاصِرِ (1) .
وَالْمُوَالاَةُ لُغَةً: مَصْدَرٌ لِلْفِعْل وَالَى، يُقَال: وَالاَهُ
مُوَالاَةً وَوَلاَءً، مِنْ بَابِ قَاتَل: تَابَعَهُ.
وَمَوْلَى الْمُوَالاَةِ اصْطِلاَحًا هُوَ: أَنْ يُؤَاخِيَ شَخْصٌ مَجْهُول
النَّسَبِ شَخْصًا مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَيُوَالِيَ مَعَهُ، كَأَنْ يَقُول:
أَنْتَ مَوْلاَيَ تَرِثُنِي إِذَا مُتُّ، وَتَعْقِل عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ،
وَقَال الآْخَرُ: قَبِلْتُ. أَوْ يَقُول: وَالَيْتُكَ، فَيَقُول: قَبِلْتُ
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الإِْرْثَ وَالْعَقْل فِي الْعَقْدِ،
__________
(1) المصباح المنير، ورد المحتار 5 / 75، والبحر الرائق 8 / 73، وقواعد
الفقه للبركتي.
(39/343)
وَيُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ " مُوَالاَةً "
وَالشَّخْصُ الْمَعْرُوفُ النَّسَبِ: " مَوْلَى الْمُوَالاَةِ " (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
2 - مَوْلَى الْعَتَاقَةِ هُوَ: مَنْ لَهُ وَلاَءُ الْعَتَاقَةِ،
وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ أَوْ مُبَعَّضٌ بِإِعْتَاقٍ
مُنَجَّزٍ اسْتِقْلاَلاً، أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ،
أَوْ ضِمْنًا كَقَوْل الرَّجُل لآِخَرَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي
فَأَجَابَهُ الآْخَرُ، أَوْ بِكِتَابَةٍ مِنْهُ، أَوْ تَدْبِيرٍ، أَوْ
بِاسْتِيلاَدٍ أَوْ قَرَابَةٍ كَأَنْ يَمْلِكَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ
أَقَارِبِهِ بِإِرْثٍ أَوْ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَمَوْلَى
الْمُوَالاَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ مَنْ يَقُول
بِبَقَاءِ الْمِيرَاثِ لِمَوْلَى الْمُوَالاَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَوْلَى الْمُوَالاَةِ:
مِيرَاثُ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ. فَذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) المصباح المنير، وشرح السراجية ص 9 ط مصطفى الحلبي، وقواعد الفقه
للبركتي، والتعريفات للجرجاني.
(2) تبيين الحقائق 5 / 175، وبدائع الصنائع 4 / 160، ومغني المحتاج 4 /
504، وكشاف القناع 2 / 498.
(39/343)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّورِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ عَقْدَ
الْمُوَالاَةِ لَيْسَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الإِْرْثِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْمُوَالاَةِ سَبَبٌ مِنْ
أَسْبَابِ الإِْرْثِ، وَمَرْتَبَتُهُ بَعْدَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، فَإِذَا
أَسْلَمَ شَخْصٌ مُكَلَّفٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَوَالاَهُ،
وَعَاقَدَهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ، كَأَنْ يَقُول: أَنْتَ مَوْلاَيَ
تَرِثُنِي إِذَا مُتُّ وَتَعْقِل عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ، فَيَقُول
الآْخَرُ: قَبِلْتُ، صَحَّ هَذَا الْعَقْدُ، فَيَرِثُهُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ
ذِكْرِ الإِْرْثِ وَالْعَقْل، وَعَقْلُهُ عَلَيْهِ وَإِرْثُهُ لَهُ.
وَكَذَا لَوْ شُرِطَ الإِْرْثُ وَالْعَقْل مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَيَرِثُ
كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَهُ (2) .
وَلِكُلٍّ أَدِلَّتُهُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ ف 52) .
شُرُوطُ اعْتِبَارِ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ
4 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
__________
(1) البهجة شرح التحفة 2 / 593، وشرح المحلي على هامش القليوبي وعميرة 3 /
137، والمغني 6 / 381.
(2) رد المحتار، وحاشية ابن عابدين 5 / 78، وتبيين الحقائق 5 / 178 وما
بعده.
(39/344)
أ - أَنْ يُذْكَرَ الْمِيرَاثُ وَالْعَقْل
فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ، فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ
فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ شُرِطَ الإِْرْثُ وَالْعَقْل مِنَ الْجَانِبَيْنِ
كَانَ كَذَلِكَ، لأَِنَّهُ مُمْكِنٌ، فَيَتَوَارَثَانِ بِلاَ خِلاَفٍ
بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ مَجْهُول النَّسَبِ، وَهَذَا مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ
عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ
أَنْ يَكُونَ مَجْهُول النَّسَبِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ
الْمُخْتَارُ.
ج - أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ وَلاَءُ عَتَاقَةٍ، وَلاَ وَلاَءُ
مُوَالاَةٍ قَدْ عَقَل عَنْهُ، فَإِنْ عَقَل عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ
الاِنْتِقَال لِتَأَكُّدِ الْعَقْدِ بِالْعَقْل عَنْهُ.
د - أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلاً، فَلَوْ عَقَدَ مَعَ صَبِيٍّ
مُمَيِّزٍ أَوْ مَعَ عَبْدٍ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَْبِ
وَالسَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ الأَْبُ صَحَّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ
لِلصَّبِيِّ، كَمَا يَصِحُّ عَقْدُهُ مَعَ الْعَبْدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ
إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ لِلسَّيِّدِ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ وَكِيلاً عَنْهُ
فِي عَقْدِهِ.
هـ - أَنْ لاَ يَكُونَ عَرَبِيًّا وَلاَ مَوْلَى عَرَبِيٍّ،
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 179 - 180، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 186 - 187،
وابن عابدين 5 / 78 - 79.
(39/344)
لأَِنَّ تَنَاصُرَ الْعَرَبِ بِالْقَبَائِل
فَأَغْنَى عَنِ الْمُوَالاَةِ.
و أَنْ لاَ يَكُونَ عَقَل عَنْهُ بَيْتُ الْمَال، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ
يَكُونُ وَلاَؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَمْلِكُ تَحْوِيلَهُ
إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ.
وَأَمَّا الإِْسْلاَمُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالاَةُ
الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ وَعَكْسُهُ، وَالذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّ وَإِنْ
أَسْلَمَ الأَْسْفَل، لأَِنَّ الْمُوَالاَةَ كَالْوَصِيَّةِ فِي صِحَّتِهَا
مِنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ أَوِ الذِّمِّيِّ، لَكِنْ
بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْتَحِقُّهَا
بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ، بِخِلاَفِ الْمَوْلَى
فَإِنَّهُ لاَ يَرِثُ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ (1) .
الاِنْتِقَال عَنِ الْمَوْلَى إِلَى الْغَيْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ
5 - يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الاِنْتِقَال مِنْ
مُوَالاَةِ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ بِمَحْضَرِ مِنَ الآْخَرِ مَا لَمْ
يَعْقِل عَنْهُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لاَزِمٍ كَالْوَصِيَّةِ
وَالْوَكَالَةِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ
بِعِلْمِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ الآْخَرُ غَائِبًا لاَ يَمْلِكُ فَسْخَهُ
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ لاَزِمٍ، لأَِنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بَيْنَهُمَا كَمَا
فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ، وَلاَ يَخْلُو عَنْ
ضَرَرٍ، لأَِنَّهُ قَدْ يَمُوتُ الأَْسْفَل فَيَكُونُ الأَْعْلَى أَخَذَ
مَالَهُ مِيرَاثًا فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 79، والبدائع 4 / 171.
(39/345)
أَوْ يَعْتِقُ الأَْسْفَل عَبِيدًا عَلَى
ظَنٍّ أَنَّ عَقْل عَبِيدَهُ عَلَى الْمَوْلَى الأَْعْلَى فَيَجِبُ
عَلَيْهِ وَحْدَهُ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِك، فَلاَ يَصِحُّ الْفَسْخُ إِلاَّ
بِمَحْضَرٍ مِنَ الآْخَرِ.
وَإِنْ عَاقَدَ الأَْسْفَل الْمُوَالاَةَ مَعَ غَيْرِ مَوْلاَهُ بِغَيْرِ
مَحْضَرٍ مِنَ الأَْوَّل تَصِحُّ الْمُوَالاَةُ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ
الأَْوَّل لأَِنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ،
كَمَا فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَلاَءَ كَالنَّسَبِ، إِذَا ثَبَتَ
مِنْ شَخْصٍ يُنَافِي ثُبُوتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً.
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي هَذَا لأَِنَّهَا مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَعْقِل عَنْهُ، فَإِنْ عَقَل عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ
التَّحَوُّل إِلَى غَيْرِهِ لِتَأَكُّدِ الْعَقْدِ بِتَعَلُّقِ حَقِّ
الْغَيْرِ بِهِ، وَلِحُصُول الْمَقْصُودِ بِهِ، وَلاِتِّصَال الْقَضَاءِ
بِهِ، وَلأَِنَّ وِلاَيَةَ التَّحَوُّل قَبْل أَنْ يَعْقِل عَنْهُ
بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَبَرُّعٌ
بِالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ وَعَقْل جِنَايَتِهِ، فَإِذَا عَقَل عَنْهُ
صَارَ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا لاَ يَتَحَوَّل وَلَدُهُ بَعْدَ
مَا تَحَمَّل الْجِنَايَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا إِذَا عَقَل عَنْ
وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ وَلاَ لِلأَْبِ أَنْ يَتَحَوَّل إِلَى
غَيْرِهِ، لأَِنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 179 - 181، والبحر الرائق 8 / 78 - 79، وأحكام
القرآن للجصاص 2 / 186 - 187، وابن عابدين 5 / 78 - 79.
(39/345)
تَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي
الْمُوَالاَةِ
6 - إِنْ وَالَتِ امْرَأَةٌ فَوَلَدَتْ تَبِعَهَا الْوَلَدُ فِي
الْمُوَالاَةِ.
وَكَذَا لَوْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا مَوْلاَةُ فُلاَنٍ - وَمَعَهَا صَغِيرٌ
لاَ يُعْرَفُ لَهُ أَبٌ - صَحَّ إِقْرَارُهَا عَلَى نَفْسِهَا،
وَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، وَيَصِيرَانِ مَوْلًى لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَهَذَا
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْوَلاَءَ كَالنَّسَبِ، وَهُوَ نَفْعٌ
مَحْضٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ أَبٌ فَتَمْلِكُهُ
الأُْمُّ كَقَبُول الْهِبَةِ.
وَقَال صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي
الصُّورَتَيْنِ، لأَِنَّ الأُْمَّ لاَ وِلاَيَةَ لَهَا فِي مَالِهِ،
فَلأَِنْ لاَ يَكُونَ لَهَا فِي نَفْسِهِ أَوْلَى (1) .
إِرْثُ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ
7 - يَرِثُ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ بِالْعُصُوبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
فَيَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ عِنْدَ انْعِدَامِ وَارِثٍ سِوَاهُ،
فَيُؤَخَّرُ فِي الإِْرْثِ عَنِ الْعَصَبَةِ بِأَقْسَامِهَا الثَّلاَثَةِ:
الْعَصَبَةُ بِالنَّفْسِ، وَالْعَصَبَةُ بِالْغَيْرِ، وَالْعَصَبَةُ مَعَ
الْغَيْرِ.
كَمَا يُؤَخَّرُ عَنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، لأَِنَّ تَوْرِيثَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(39/346)
مَوْلَى الْعَتَاقَةِ بِالإِْجْمَاعِ،
وَفِي تَوْرِيثِ مَوْلَى الْمُوَالاَةِ خِلاَفٌ.
وَيُؤَخَّرُ أَيْضًا عَنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، لأَِنَّ عَقْدَ
الْمُوَالاَةِ عَقْدُهُمَا فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِمَا، وَذَوُو
الأَْرْحَامِ وَارِثُونَ شَرْعًا فَلاَ يَمْلِكَانِ إِبْطَالَهُ.
وَإِذَا مَاتَ الأَْعْلَى ثُمَّ الأَْسْفَل فَإِنَّمَا يَرِثُهُ الذُّكُورُ
مِنْ أَوْلاَدِ الأَْعْلَى دُونَ الإِْنَاثِ (1) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(39/346)
مَوْلُودٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَوْلُودُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْوِلاَدَةِ،
وَالصَّبِيُّ الْمَوْلُودُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ.
وَالْوَلَدُ: كُل مَا وَلَدَهُ شَيْءٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ
وَالأُْنْثَى وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّقْطُ
2 - السِّقْطُ فِي اللُّغَةِ: الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى
يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ قَبْل تَمَامِهِ، وَهُوَ مُسْتَبِينُ
الْخَلْقِ (3) ، يُقَال: سَقَطَ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلاَ
يُقَال: وَقَعَ، فَهُوَ سِقْطٌ بِكَسْرِ السِّينِ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، وتاج اللغة.
(39/347)
وَضَمِّهَا، وَفَتْحِهَا، وَالْكَسْرُ
أَسْلَمُ وَأَكْثَرُ (1) .
وَالسِّقْطُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْوَلَدُ لِغَيْرِ تَمَامٍ، وَقِيل:
الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْلُودِ وَالسِّقْطِ: أَنَّ الْمَوْلُودَ يُولَدُ
بَعْدَ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْل، وَأَمَّا السِّقْطُ فَيَنْزِل قَبْل
تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْل.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْلُودِ:
عَلاَمَاتُ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ
3 - عَلاَمَاتُ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ هِيَ كُل مَا دَل عَلَى الْحَيَاةِ
مِنْ رَضَاعٍ، أَوِ اسْتِهْلاَلٍ، أَوْ حَرَكَةٍ، أَوْ سُعَالٍ، أَوْ
تَنَفُّسٍ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَيَاةٌ ف 16، وَاسْتِهْلاَلٌ ف 2 - 9، وَتَغْسِيل
الْمَيِّتِ ف 25) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ظُهُورِ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ آثَارٌ شَرْعِيَّةٌ
عَدِيدَةٌ أَهَمُّهَا: ثُبُوتُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لَهُ.
وَيُقْصَدُ بِأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ: صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لأَِنْ
تَكُونَ لَهُ حُقُوقُ قِبَل غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ وَاجِبَاتٌ
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط.
(2) قواعد الفقه للبركتي.
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 588 الطبعة الثانية 1386 هـ - 1966 م.
(39/347)
لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ
بِنَفْسِهِ أَمْ بِوَاسِطَةٍ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهِ. وَمَنَاطُ
هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ الْحَيَاةُ، فَتَثْبُتُ لِكُل إِنْسَانٍ حَيٍّ،
وَتَسْتَمِرُّ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا تُوُفِّيَ زَايَلَتْهُ (1) .
فَإِذَا مَاتَ يُغَسَّل وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ
إِنْ قُتِل (2) .
وَبِوِلاَدَةِ الْمَوْلُودِ يَقَعُ الْمُعَلَّقُ مِنَ الطَّلاَقِ
وَالْعِتَاقِ وَغَيْرِهِمَا بِوِلاَدَتِهِ (3) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَهْلِيَّةٌ ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ وَتَحْنِيكُهُ
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى حِينَ يُولَدُ،
وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى، وَكَذَلِك يُسْتَحَبُّ
تَحْنِيكُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (أَذَانٌ ف 51، وَتَحْنِيكٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) كشف الأسرار للبزدوي 4 / 1360 - 1368، والتلويح والتوضيح في أصول الفقه
2 / 164، وشرح المنار لابن ملك ص 30 وما بعدها، وشرح السراجية ص 216 وما
بعدها، والمغني 7 / 198 - 200 ط 1403 هـ - 1983 م.
(2) المهذب للشيرازي 1 / 134، والمغني 7 / 198 - 200.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 303.
(39/348)
حَلْقُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ حَلْقُ
رَأْسِ الْمَوْلُودِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ
وَالتَّصَدُّقُ بِوَزْنِ الشَّعْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْمَوْلُودِ مُبَاحٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَلْقٌ ف 5) .
تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْمِيَةُ
الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَسْمِيَةٌ فُ 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْمَوْلُودِ
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يُولَدُ قَبْل
غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ تُخْرَجُ عَنْهُ زَكَاةُ
الْفِطْرِ.
أَمَّا مَنْ وُلِدَ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَبْل
طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ
عَنْهُ تَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ ف 8) .
خِتَانُ الْمَوْلُودِ
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِتَانِ الْمَوْلُودِ:
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ خِتَانَ الذَّكَرِ سُنَّةٌ،
(39/348)
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ.
أَمَّا الأُْنْثَى فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَذَهَبَ
آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقَال غَيْرُهُمْ: إِنَّهُ مَكْرُمَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي وَقْتِ خِتَانِ الْمَوْلُودِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِتَانٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَثْقِيبُ أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ
9 - اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَثْقِيبِ أُذُنَيِ الْمَوْلُودِ
لأَِجْل تَعْلِيقِ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ فِيهِمَا.
فَقَال بَعْضُهُمْ بِالْجَوَازِ، وَقَال آخَرُونَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ،
وَفَرَّقَ غَيْرُهُمْ بَيْنَ الصَّبِيِّ فَحَرَّمَهُ وَالصَّبِيَّةِ
فَأَجَازَهُ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: لاَ أَدْرِي رُخْصَةً فِي تَثْقِيبِ
أُذُنِ الصَّبِيَّةِ لأَِجْل تَعْلِيقِ حُلِيِّ الذَّهَبِ، أَوْ نَحْوِهِ
فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جُرْحٌ مُؤْلِمٌ، وَمِثْلُهُ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ،
فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ
وَالْخِتَانِ، وَالتَّزَيُّنِ بِالْحُلِيِّ غَيْرُ مُهِمٍّ، فَهَذَا وَإِنْ
كَانَ مُعْتَادًا فَهُوَ حَرَامٌ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَاجِبٌ،
وَالاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالأُْجْرَةُ الْمَأْخُوذَةُ
عَلَيْهِ حَرَامٌ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 296، حاشية عميرة على شرح المحلي للمنهاج 4 / 211،
نهاية المحتاج 8 / 30 - 31.
(39/349)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
إِلَى أَنَّ تَثْقِيبَ آذَانِ الْبَنَاتِ لِلزِّينَةِ جَائِزٌ وَلاَ بَأْسَ
بِهِ، وَيُكْرَهُ لِلصِّبْيَانِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الأُْنْثَى
مُحْتَاجَةٌ لِلْحِلْيَةِ، فَثَقْبُ الأُْذُنِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهَا
بِخِلاَفِ الصَّبِيِّ، كَمَا أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا
يَثْقُبُونَ آذَانَ الصِّبْيَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَزَيُّنٌ ف 18) .
إِرْضَاعُ الْمَوْلُودِ إِلَى تَمَامِ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِرْضَاعُ الطِّفْل مَا
دَامَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَفِي مُدَّتِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رَضَاعٌ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
حَضَانَةُ الْمَوْلُودِ
11 - حَضَانَةُ الْمَوْلُودِ وَاجِبَةٌ شَرْعًا، لأَِنَّ الْمَحْضُونَ قَدْ
يَهْلِكُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، فَيَجِبُ حِفْظُهُ مِنَ
الْهَلاَكِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (حَضَانَةٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) تحفة المولود ص 147، وحاشية ابن عابدين 5 / 249، وفتح القدير 10 / 331،
والقليوبي وعميرة 4 / 211.
(39/349)
نَفَقَةُ الْمَوْلُودِ
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ الصِّغَارِ
- ذُكْرَانًا أَوْ إِنَاثًا - عَلَى الأَْبِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ
وَكَانَ لَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .
تَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ لأَِبَوَيْهِ فِي الدِّينِ
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الأَْبُ وَلَهُ
أَوْلاَدٌ صِغَارٌ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِمْ تَبَعًا
لأَِبِيهِمْ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِسْلاَمِ
أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ، فَيُحْكَمُ بِإِسْلاَمِ الصِّغَارِ
بِالتَّبَعِيَّةِ، وَقَال مَالِكٌ: لاَ عِبْرَةَ بِإِسْلاَمِ الأُْمِّ أَوِ
الْجَدِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِسْلاَمَ الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ
يَسْتَتْبِعُ الْحُكْمَ بِإِسْلاَمِ الأَْحْفَادِ الصِّغَارِ وَمَنْ فِي
حُكْمِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الأَْبُ حَيًّا كَافِرًا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِسْلاَمٌ ف 25، 26) .
بَوْل الْمَوْلُودِ
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ
__________
(1) الهداية 1 / 42 ط مصطفى الحلبي، وحاشية الدسوقي 2 / 524 وما بعدها،
وحاشيتا القليوبي وعميرة 4 / 84 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 7 / 582 وما
بعدها.
(39/350)
إِذَا أَكَلاَ الطَّعَامَ وَبَلَغَا
عَامَيْنِ فَإِنَّ بَوْلَهُمَا نَجِسٌ كَنَجَاسَةِ بَوْل الْكَبِيرِ.
أَمَّا بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِذَا لَمْ يَأْكُلاَ الطَّعَامَ
وَكَانَا فِي فَتْرَةِ الرَّضَاعَةِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي وُجُوبِ
التَّطَهُّرِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ
بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، فَبَوْل الصَّغِيرِ يُنْضَحُ بِالْمَاءِ
وَبَوْل الصَّغِيرَةِ يَجِبُ غَسْلُهُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صِغَرٌ ف 26) .
حُكْمُ رِيقِ وَلُعَابِ الْمَوْلُودِ
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى طَهَارَةِ رِيقِ
الإِْنْسَانِ مُطْلَقًا (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: رِيقُ الْمَوْلُودِ وَلُعَابُهُ مِنَ الْمَسَائِل
الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَقَدْ عَلِمَ الشَّارِعُ أَنَّ
الطِّفْل يَقِيءُ كَثِيرًا، وَلاَ يُمْكِنُ غَسْل فَمِهِ، وَلاَ يَزَال
رِيقُهُ يَسِيل عَلَى مَنْ يُرَبِّيهِ، وَلَمْ يَأْمُرِ الشَّارِعُ بِغَسْل
الثِّيَابِ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ مَنَعَ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهَا، وَلاَ
أَمَرَ بِالتَّحَرُّزِ مِنْ رِيقِ الطِّفْل، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ: هَذَا مِنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 46، والزرقاني 1 / 24، وتحفة المحتاج 1 / 294،
وكشاف القناع 1 / 194.
(39/350)
النَّجَاسَةِ الَّتِي يُعْفَى عَنْهَا
لِلْمَشَقَّةِ وَالْحَاجَةِ كَطِينِ الشَّوَارِعِ، وَالنَّجَاسَةِ بَعْدَ
الاِسْتِجْمَارِ، وَنَجَاسَةِ أَسْفَل الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ
دَلْكِهِمَا بِالأَْرْضِ. . . بَل رِيقُ الطِّفْل يَطْهُرُ فَمُهُ
لِلْحَاجَةِ، كَمَا كَانَ رِيقُ الْهِرَّةِ مُطَهِّرًا لِفَمِهَا (1) ،
وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي
الإِْنَاءَ إِلَى الْهِرِّ حَتَّى يَشْرَبَ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهِ
(2) .
وَتَفْصِيل ذَلِك فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَة) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَوْتِ مَنِ اسْتَهَل
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ إِذَا خَرَجَ
حَيًّا وَاسْتَهَل، بِأَنْ صَرَخَ وَظَهَرَ صَوْتُهُ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ
مَا يَدُل عَلَى حَيَاتِهِ بَعْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى،
وَيُغَسَّل، وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ، وَيَرِثُ،
وَيُورَثُ (3) . لِمَا رَوَى
__________
(1) تحفة المودود بأحكام المولود ص 154.
(2) حديث أبي قتادة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء إلى
الهر. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1 / 246) .
(3) البحر الرائق 2 / 202، وفتح القدير 2 / 465، والدر المختار 1 / 828 -
830، والشرح الصغير 1 / 274، وبداية المجتهد 1 / 309، ومغني المحتاج 1 /
349، والمهذب 1 / 134، والمغني لابن قدامة 3 / 289، وكشاف القناع 2 / 116.
(39/351)
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: إِذَا اسْتَهَل الصَّبِيُّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ (1) ،
وَلأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الدُّنْيَا فِي الإِْسْلاَمِ
وَالْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ، فَغُسِل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا استهل الصبي ورث. . . ". أخرجه الحاكم (4 / 349) وصححه
ووافقه الذهبي.
(2) المهذب 1 / 134.
(39/351)
مِيَاهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمِيَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَاءٍ، وَالْمَاءُ مَعْرُوفٌ،
وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَاءِ وَأَصْلُهُ مَوَهَ
بِالتَّحْرِيكِ تَحَوَّلَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ
أَلِفًا ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً.
وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاهٍ جَمْعَ قِلَّةٍ، وَعَلَى مِيَاهٍ جَمْعَ
كَثْرَةٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَيَّالٌ بِهِ حَيَاةُ كُل
نَامٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط، وأساس البلاغة 4 / 299 -
300 ط دار الكتب العلمية - بيروت.
(2) حاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 202 طبعة دار المعرفة - بيروت،
وحاشية الرملي الكبير بهامش أسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 5 ط دار إحياء
الكتب العربية بمصر، وحاشية القليوبي 1 / 18 ط عيسى الحلبي بمصر، والشرح
الصغير على أقرب المسالك 1 / 45 ط عيسى الحلبي 1 / 30 ط دار المعارف بمصر.
(39/352)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الطَّهَارَةُ
2 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَنْ غَسْل أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ
بِصِفَّةٍ مَخْصُوصَةٍ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِيَاهِ وَالطَّهَارَةِ أَنَّ الْمِيَاهَ تَكُونُ
وَسِيلَةً لِلطَّهَارَةِ.
أَقْسَامُ الْمِيَاهِ
يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْمِيَاهِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ:
مُطْلَقٍ، وَمُسْتَعْمَلٍ، وَمُسَخَّنٍ، وَمُخْتَلَطٍ.
الْمَاءُ الْمُطْلَقُ:
3 - الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا صَدَقَ
عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلاَ قَيْدٍ (2) .
وَقِيل: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَاقِي عَلَى وَصْفِ خِلْقَتِهِ (3)
.
وَقَدْ أَجَمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ طَاهِرٌ
فِي ذَاتِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ (4) .
__________
(1) مختار الصحاح، والتعريفات للجرجاني.
(2) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 1 / 34 ط دار الفكر - بيروت، ومغني
المحتاج 1 / 17.
(3) كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار 1 / 17، 18 ط الشؤون الدينية بقطر.
(4) فتح القدير 1 / 68، 69، ومواهب الجليل 1 / 43 ط دار الفكر، وكفاية
الأخيار 1 / 17، والروض المربع 1 / 11 ط دار الكتب العربية، والمغني 1 / 7،
والمجموع 1 / 84.
(39/352)
وَعَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنْ هَذَا
النَّوْعِ مِنَ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
الْمُرَادِ بِالطَّهُورِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
أَوْلاً: أَنَّ لَفْظَةَ طَهُورٍ جَاءَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ
لِلْمُطَهِّرِ، وَمِنْ هَذَا:
أ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُورًا} (1) . فَقَوْلُهُ: (طَهُورًا) يُرَادُ بِهِ مَا يُتَطَهَّرُ
بِهِ، يُفَسِّرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2) ، فَهَذِهِ الآْيَةُ
مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ بِالأُْولَى (3) .
ب - وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ
مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل،
وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحَل لأَِحَدِ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ
الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) سورة الأنفال / 11.
(3) المجموع 1 / 85.
(39/353)
إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى
النَّاسِ عَامَّةً (1) .
فَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَ
الْمُرَادُ بِالطَّهُورِ الطَّاهِرُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِزْيَةٌ،
لأَِنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُل أَحَدٍ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سِيقَ
لإِِثْبَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَصَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ بِالتَّطَهُّرِ بِالتُّرَابِ (2) .
ج - وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا: جُعِلَتْ لِي كُل أَرْضٍ طَيِّبَةً
مَسْجِدًا وَطَهُورًا (3) .
فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ كُل
أَرْضٍ طَيِّبَةٍ جُعِلَتْ لَهُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَالطَّيِّبَةُ
الطَّاهِرَةُ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى طَهُورًا: طَاهِرًا لَلَزِمَ تَحْصِيل
الْحَاصِل، وَتَحْصِيل الْحَاصِل بِالنِّسْبَةِ لَهُ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ (4) .
د - وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ سُئِل عَنِ
__________
(1) حديث جابر: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 1 / 436) ومسلم (1 / 370 - 371) واللفظ للبخاري.
(2) الذخيرة 1 / 159، والمجموع 1 / 85، والمغني 1 / 7.
(3) حديث أنس: " جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا ". أخرجه ابن الجارود
في المنتقى (ص 51) ، وصحح إسناده ابن حجر في فتح الباري (1 / 438) .
(4) فتح الباري 1 / 438 ط السلفية.
(39/353)
التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَال:
هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (1) .
فَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ
هَذَا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الْبَحْرِ،
فَلَوْلاَ أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الطَّهُورِ أَنَّهُ الْمُطَهِّرُ،
لَمْ يَحْصُل لَهُمُ الْجَوَابُ (2) .
ثَانِيًا: أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِل وَصِيغَةِ
الْمُبَالَغَةِ فَقَالَتْ: قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ،
وَقُعُودٌ: لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ
بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ،
فَالطَّهُورُ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ
غَيْرَهُ، وَالطَّاهِرُ مِنَ الأَْسْمَاءِ اللاَّزِمَةِ (3) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ
وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْريِّ وَسُفْيَانَ وَأَبِي بَكْرِ
الأَْصَمِّ وَابْنِ دَاوُدَ (4) .
وَاحْتَجُّوا بِمَا يَلِي:
أَوَّلاً: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا
طَهُورًا} (5) .
__________
(1) حديث: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ". أخرجه الترمذي (1 / 101) من
حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) المجموع 1 / 85، والمغني 1 / 7.
(3) المغني 1 / 7.
(4) البحر الرائق 1 / 70، والمجموع 1 / 84
(5) سورة الإنسان / 21.
(39/354)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْل الْجَنَّةِ لاَ
يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثٍ وَلاَ نَجَسٍ، فَعُلِمَ أَنَّ
الْمُرَادَ بِالطَّهُورِ هُوَ الطَّاهِرُ (1) .
ثَانِيًا: قَوْل جَرِيرٍ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ:
عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورٌ
وَالرِّيقُ لاَ يُتَطَهَّرُ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ (2) .
ثَالِثًا: وَالطَّهُورُ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى
وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ فِي الشَّكُورِ
وَالْغَفُورِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْغَافِرِ وَالشَّاكِرِ،
فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّهُورِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي
الطَّاهِرِ، وَلاَ تَكُونُ تِلْكَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ
إِلاَّ بِاعْتِبَارِ التَّطْهِيرِ لأَِنَّ فِي نَفْسِ الطَّهَارَةِ كِلْتَا
الصِّفَّتَيْنِ سَوَاءٌ، فَتَكُونُ صِفَّةُ التَّطْهِيرِ لَهُ بِهَذَا
الطَّرِيقِ، لاَ أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الْمُطَهَّر (3) .
أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ
4 - أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ هِيَ:
الأَْوَّل: مَاءُ السَّمَاءِ أَيِ النَّازِل مِنْهَا، يَعْنِي
__________
(1) البحر الرائق 1 / 70، والذخيرة 1 / 160، والمجموع 1 / 84.
(2) البحر الرائق 1 / 70، والمجموع 1 / 84 - 85.
(3) البحر الرائق 1 / 70، والكشاف للزمخشري 3 / 95 ط دار المعرفة - بيروت.
(39/354)
الْمَطَرَ، وَمِنْهُ النَّدَى، وَالأَْصْل
فِيهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (1) .
وَالثَّانِي: مَاءُ الْبَحْرِ وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو
هُرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَل رَجُلٌ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ
الْبَحْرَ، وَنَحْمِل مَعَنَا الْقَلِيل مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ
تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟
فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ
مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (2) .
وَالثَّالِثُ: مَاءُ النَّهْرِ
وَالرَّابِعُ: مَاءُ الْبِئْرِ وَالأَْصْل فِيهِ: مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قِيل: يَا
رَسُول اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ
يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلاَبِ وَالنَّتِنُ (أَيْ كَانَتْ
تَجْرُفُهَا إِلَيْهَا السُّيُول مِنَ الطُّرُقِ وَالأَْفْنِيَةِ وَلاَ
تُطْرَحُ فِيهَا قَصْدًا وَلاَ عَمْدًا فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ
شَيْءٌ (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 11.
(2) حديث: " هو الطهور ماؤه. . . ". تقدم تخريجه ف 3.
(3) حديث أبي سعيد: " أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من
بئر بضاعة؟ . . . ". أخرجه الترمذي (1 / 95 - 96) وقال: حديث حسن.
(39/355)
الْخَامِسُ: مَاءُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا
يَنْبُعُ مِنَ الأَْرْضِ.
السَّادِسُ: مَاءُ الثَّلْجِ وَهُوَ مَا نَزَل مِنَ السَّمَاءِ مَائِعًا
ثُمَّ جَمَدَ (1) ، أَوْ مَا يَتِمُّ تَجْمِيدُهُ بِالْوَسَائِل
الصِّنَاعِيَةِ الْحَدِيثَةِ.
السَّابِعُ: مَاءُ الْبَرَدِ وَهُوَ مَا نَزَل مِنَ السَّمَاءِ جَامِدًا
ثُمَّ مَاعَ عَلَى الأَْرْضِ، وَيُسمَّى حَبُّ الْغَمَامِ وَحَبُّ
الْمُزْنِ (2) .
وَالأَْصْل فِي مَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ: حَدِيثُ أَبِي هُرِيرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً
- قَال: أَحْسِبُهُ قَال: هُنَيَّةً -، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا
رَسُول اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةِ مَا
تَقُول؟ قَال: أَقُول: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ
كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي
مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ،
اللَّهُمَّ اغْسِل خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَال بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَاءِ
الْمُطْلَقِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ،
__________
(1) المغني 1 / 18.
(2) مختار الصحاح، والمعجم الوجيز.
(3) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير
والقراءة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 227) .
(39/355)
وَآخَرُ بِعَدِمِهَا، وَمِنْ قَائِلٍ
بِصِحَّتِهَا وَآخَرُ بِعَدِمِ صِحَّتِهَا، وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ
تَتَمَثَّل فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - مَاءُ الْبَحْرِ
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَال مَاءِ الْبَحْرِ فِي
الطَّهَارَةِ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ،
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (1) .
يَقُول التِّرْمِذِيُّ: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ الْبَحْرِ (2) ،
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ (3) وَلأَِنَّ
مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ فَيَقَعُ
التَّطَهُّرُ بِهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْد
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ
عَبْدِ الْبَرِّ كَرَاهَةُ التَّطَهُّرِ بِهِ (4) .
توى7 ثَانِيًا - مَاءُ الثَّلْجِ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 1 / 68، 69، ومواهب الجليل 1 / 46، ومغني
المحتاج 1 / 17، والكافي 1 / 3.
(2) سنن الترمذي 1 / 101 - 102.
(3) الحديث سبق تخريجه ف 3.
(4) المجموع 1 / 90 - 91.
(39/356)
ثَانِيًا - مَاءُ الثَّلْجِ
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ
الثَّلْجِ إِذَا ذَابَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِهِ قَبْل الإِْذَابَةِ
عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ
الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدِمِ جِوَازِ التَّطَهُّرِ
بِالثَّلْجِ قَبْل الإِْذَابَةِ مَا لَمْ يَتَقَاطَرْ وَيَسِل عَلَى
الْعُضْوِ.
يَقُول صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: " يُرْفَعُ الْحَدَثُ مُطْلَقًا
بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ مَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ كَمَاءِ
سَمَاءٍ وَأَوْدِيَةٍ وَعُيُونٍ وَآبَارٍ وَبِحَارٍ وَثَلْجٍ مُذَابٍ
بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ " (1) .
وَيَقُول صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَهُوَ - أَيِ الْمَاءُ
الْمُطْلَقُ - مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلاَ قَيْدٍ وَإِنْ جُمِعَ
مِنْ نَدًى أَوْ ذَابَ أَيْ تَمَيَّعَ بَعْدَ جُمُودِهِ كَالثَّلْجِ وَهُوَ
مَا يَنْزِل مَائِعًا ثُمَّ يَجْمُدُ عَلَى الأَْرْضِ (2) .
وَيَقُول صَاحِبُ الْمُغْنِي (3) : الذَّائِبُ مِنَ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ
طَهُورٌ، لأَِنَّهُ مَاءٌ نَزَل مِنَ السَّمَاءِ،
__________
(1) الدر المختار بهامش حاشية الطحطاوي 1 / 102 ط دار المعرفة.
(2) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 1 / 34، ويراجع: المجموع 1 / 81، 82.
(3) المغني 1 / 18.
(39/356)
وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اغْسِل خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ
وَالْبَرَدِ (1) .
فَإِنْ أَخَذَ الثَّلْجَ فَمَرَّرَهُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَمْ تَحْصُل
الطَّهَارَةُ بِهِ، وَلَوِ ابْتَل بِهِ الْعُضْوُ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ
الْغُسْل، وَأَقَل ذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَى الْعُضْوِ، إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيَذُوبُ، وَيَجْرِي مَاؤُهُ عَلَى الأَْعْضَاءِ
فَيَحْصُل بِهِ الْغَسْل، فَيُجْزِئُهُ.
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِهِ وَإِنْ لَمْ
يَتَقَاطَرْ (2) .
يَقُول الطَّحْطَاوِيُّ: قَوْلُهُ (بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ) هُوَ
الْمُعْتَمَدُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ (3)
.
وَيَقُول النَّوَوِيُّ: وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ جَوَازُ
الْوُضُوءِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِل وَيُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُول
وَالْمَمْسُوحِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ لأَِنَّهُ
لاَ يُسَمَّى غَسْلاً وَلاَ فِي مَعْنَاهُ (4) .
__________
(1) حديث: " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ". تقدم تخريجه ف (5)
.
(2) الدر المختار بحاشية الطحطاوي 1 / 102، والمجموع 1 / 82.
(3) حاشية الطحطاوي 1 / 102.
(4) المجموع 1 / 81، 82.
(39/357)
الْقَوْل الثَّالِثُ: فَرَّقَ
الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ سَيْل الثَّلْجِ عَلَى الْعُضْوِ لِشِدَّةِ حَرِّ
وَحَرَارَةِ الْجِسْمِ وَرَخَاوَةِ الثَّلْجِ، وَبَيْنَ عَدَمِ سَيْلِهِ.
فَإِنْ سَال عَلَى الْعُضْوِ صَحَّ الْوُضُوءُ عَلَى الصَّحِيحِ لِحُصُول
جَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهُ لاَ
يُسَمَّى غَسْلاً، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَاوَرْدِيُّ
وَالدَّارِمِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَسِل لَمْ يَصِحَّ بِلاَ خِلاَفٍ فِي
الْمَغْسُول، وَيَصِحُّ مَسْحُ الْمَمْسُوحِ مِنْهُ وَهُوَ الرَّأْسُ
وَالْخُفُّ وَالْجَبِيرَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ (1) .
ثَالِثًا - مَاءُ زَمْزَمَ
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ فِي
الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَسِ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ
فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جِوَازِ
اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي إِزَالَةِ
الأَْحْدَاثِ، أَمَا فِي إِزَالَةِ الأَْنْجَاسِ فَيُكْرَهُ تَشْرِيفًا
لَهُ وَإِكْرَامًا (2) .
__________
(1) المجموع 1 / 81، 82.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1 / 179، 180 ط مصطفى الحلبي، ومغني
المحتاج 1 / 20، والمجموع 1 / 92، وحاشية العدوي 1 / 140 ط عيسى الحلبي.
(39/357)
الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى
جِوَازِ اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا، أَيْ
سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِعْمَال فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَمْ فِي
إِزَالَةِ النَّجَسِ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى كَرَاهَةِ
اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا أَيْ فِي إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ
لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ أُحِلُّهَا
لِمُغْتَسَلٍ يَغْتَسِل فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ لِشَارِبٍ وَمُتَوَضِّئٍ
حِلٌّ وَبِلٌّ (2) .
رَابِعًا - الْمَاءُ الآْجِنُ
8 - وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ بِطُول مُكْثِهِ فِي الْمَكَانِ
مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةِ شَيْء (3) ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْمَاءُ الآْسِنُ.
(ر: مُصْطَلَحُ آجِنٌ فِقْرَة 1، وَمُصْطَلَحُ طَهَارَةٍ فِقْرَة 10) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الآْجِنِ مِنْ
غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
__________
(1) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني بأعلى حاشية
العدوي 1 / 139 ط عيسى الحلبي.
(2) منار السبيل شرح الدليل 1 / 10 - 11 ط المكتب الإسلامي. وأثر ابن عباس:
" لا أحلها لمغتسل يغتسل في المسجد. . . ". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1
/ 36.
(3) مختار الصحاح، والمغني 1 / 14.
(39/358)
يَقُول صَاحِبُ مُلْتَقَى الأَْبْحُرِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَاءِ
السَّمَاءِ وَالْعَيْنِ وَالْبِئْرِ وَالأَْوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ، وَإِنْ
غَيَّرَ طَاهِرٌ بَعْضَ أَوْصَافِهِ كَالتُّرَابِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَالأُْشْنَانِ وَالصَّابُونِ أَوْ أَنْتَنَ بِالْمُكْثِ (1) .
وَيَقُول صَاحِبُ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلاَ
يَضُرُّ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِشَيْءِ تَوَلَّدَ مِنْهُ كَالسَّمَكِ
وَالَدُودِ وَالطُّحْلُبِ (بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا) ، وَكَذَا إِذَا
تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِطُول مُكْثِهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أُلْقِيَ فِيهِ
فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ (2) .
وَيَقُول الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلاَ يُقَال
الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِطُول الْمُكْثِ أَوْ بِمُجَاوَرٍ أَوْ بِمَا
يَعْسُرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ غَيْرَ مُطْلَقٍ، بَل هُوَ مُطْلَقٌ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ، وَلأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ بِمَا يُتَعَذَّرُ صَوْنُهُ
عَنْهُ (4) .
وَنُقِل عَنِ ابْنِ سِيرِينَ الْقَوْل بِكَرَاهَةِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ
الآْجِنِ.
__________
(1) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1 / 27، 28.
(2) أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك بأعلى الشرح الصغير 1 / 49 ط عيسى
الحلبي.
(3) حاشية الرملي بهامش أسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 8.
(4) المجموع 1 / 91.
(39/358)
يَقُول صَاحِبُ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ:
أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُل مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِمَّا لاَ يَنْفَكُّ
عَنْهُ غَالِبًا أَنَّهُ لاَ يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ
وَالتَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلاَفًا شَاذًّا رُوِيَ فِي الْمَاءِ الآْجِنِ
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (1) .
وَيَقُول النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالْمُكْثِ فَنَقَل ابْنُ
الْمُنْذِرِ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، إِلاَّ ابْنَ
سِيرِينَ فَكَرِهَهُ (2) .
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل
وَحُكْمِهِ وَذَلِك عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
9 - الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: هُوَ
الْمَاءُ الَّذِي أُزِيل بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِل فِي الْبَدَنِ عَلَى
وَجْهِ الْقُرْبَةِ، كَالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ
أَوْ لإِِسْقَاطِ فَرْضٍ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِل
لإِِقَامَةِ قُرْبَةٍ.
وَعِنْدَ زُفَرَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل لإِِزَالَةِ الْحَدَثِ.
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 / 40، وجاء في مصنف ابن أبي شيبة 1 /
58 ط دار الفكر ما نصه: عن ابن سيرين أنه كان يكره الوضوء بالماء الآجن.
(2) المجموع 1 / 91.
(39/359)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ
الْبَدَنِ (1) .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلاَفِ عِنْدَهُمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ
الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل فِيمَا يَلِي:
أ - إِذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوَ الصَّلاَةِ
الْمَعْهُودَةِ وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُول الْمَسْجِدِ وَمَسِّ
الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا.
فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً بِلاَ خِلاَفٍ
لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ، وَهُمَا: إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَإِقَامَةُ
الْقُرْبَةِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْدِثٍ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَ
الثَّلاَثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ
إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى
نُورٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ: لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً لاِنْعِدَامِ إِزَالَةِ
الْحَدَثِ.
ب - إِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَل لِلتَّبَرُّدِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا
صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَزُفَرَ لِوُجُودِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لاَ يَصِيرُ
مُسْتَعْمَلاً لِعَدَمِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مُحْدِثًا لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً بِالاِتِّفَاقِ.
ج - إِذَا تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 89، 90.
(39/359)
وَنَحْوِهِ لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً
بِالاِتِّفَاقِ لأَِنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ مُخَيَّرٌ جَائِزٌ، فَلَمْ
يُوجَدْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَلاَ إِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.
د - إِذَا غَسَل الأَْشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنَ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ
وَالأَْوَانِي وَالأَْحْجَارِ وَنَحْوِهِ، أَوْ غَسَلَتِ الْمَرْأَةُ
يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ أَوِ الْحِنَّاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لاَ يَصِيرُ
الْمَاءُ مُسْتَعْمَلاً.
وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ بِطَهُورٍ
لِحَدَثٍ بَل لِخَبَثٍ عَلَى الرَّاجِحِ الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ
إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهِ (1) .
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
10 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل:
هُوَ مَا اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ،
وَأَنَّ الْمُسْتَعْمَل فِي رَفْعِ حَدَثٍ: هُوَ مَا تَقَاطَرَ مِنَ
الأَْعْضَاءِ أَوِ اتَّصَل بِهَا أَوِ انْفَصَل عَنْهَا - وَكَانَ
الْمُنْفَصِل يَسِيرًا - أَوْ غَسَل عُضْوَهُ فِيهِ (2) .
وَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لَكِنْ يُكْرَهُ
اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوِ اغْتِسَالاَتٍ مَنْدُوبَةٍ مَعَ
وُجُودِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَلاَ يُكْرَهُ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 66، 67، والدر المختار ورد المحتار 1 / 134.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 41، 42.
(39/360)
الأَْرْجَحِ اسْتِعْمَالُهُ مَرَّةً
أُخْرَى فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوْ غَسْل إِنَاءٍ وَنَحْوِهِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل قَلِيلاً كَآنِيَّةِ الْوُضُوءِ
وَالْغُسْل، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ، كَمَا
أَنَّهُ لاَ كَرَاهَةَ إِذَا صُبَّ عَلَى الْمَاءِ الْيَسِيرِ
الْمُسْتَعْمَل مَاءٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ
مُسْتَعْمَلٌ مِثْلُهُ حَتَّى كَثُرَ لَمْ تَنْتَفِ الْكَرَاهَةُ لأَِنَّ
مَا ثَبَتَ لِلأَْجْزَاءِ يَثْبُتُ لِلْكُل، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ
السَّلاَمِ نَفْيَهَا (1) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ آنِيَةِ
الْغَسْل فَأَقَل الْمُسْتَعْمَل فِي حَدَثٍ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي
حَدَثٍ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَأَنْ يَكُونَ
اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ لاَ حُكْمَ خَبَثٍ، وَأَنْ يَكُونَ
الاِسْتِعْمَال الثَّانِي فِي رَفْعِ حَدَثٍ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل فِي حُكْمِ خَبَثٍ لاَ
يُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل فِي حَدَثٍ
لاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حُكْمِ خَبَثٍ، وَالرَّاجِحُ فِي تَعْلِيل
الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ (3) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) الشرح الصغير 1 / 56.
(3) الشرح الصغير 1 / 56، وأقرب المسالك 1 / 56، وحاشية العدوي على الخرشي
1 / 74 - 76.
(39/360)
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ:
11 - الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَاءُ
الْقَلِيل الْمُسْتَعْمَل فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ عَنْ حَدَثٍ
كَالْغَسْلَةِ الأُْولَى فِيهِ، أَوْ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ عَنِ الْبَدَنِ
أَوِ الثَّوْبِ، أَمَّا نَفْل الطَّهَارَةِ كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ،
وَالثَّالِثَةِ فَالأَْصَحُّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَهُورٌ (1) .
وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيل الَّذِي لاَ يَبْلُغُ
قُلَّتَيْنِ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ
فَأَكْثَرَ.
فَيَرَوْنَ فِي الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ: أَنَّ الْقَلِيل مِنَ الْمَاءِ
الْمُسْتَعْمَل طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، فَلاَ يَرْفَعُ حَدَثًا وَلاَ
يُزِيل نَجَسًا لأَِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لاَ يَحْتَرِزُونَ
عَنْهُ وَلاَ عَمَّا يَتَقَاطَرُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ.
فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لاَ أَعْقِل
فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ (2) .
وَلأَِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ - مَعَ قِلَّةِ مِيَاهِهِمْ - لَمْ
يَجْمَعُوا الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل لِلاِسْتِعْمَال ثَانِيًا بَل
انْتَقَلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ، كَمَا لَمْ يَجْمَعُوهُ لِلشُّرْبِ
لأَِنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ.
__________
(1) المهذب 1 / 8.
(2) حديث جابر: " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 1 / 301) ، ومسلم (3 / 1235) .
(39/361)
فَإِنْ جُمِعَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل
فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ عَلَى الأَْصَحِّ (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ مَنْعِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل، قَال
الشِّرْبِينِيُّ: وَهُوَ الأَْصَحُّ: لأَِنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ كَمَا
صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَإِنْ جُمِعَ الْمُسْتَعْمَل عَلَى الْجَدِيدِ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ
فَطَهُورٌ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ أَشَدُّ مِنَ
الاِسْتِعْمَال، وَالْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ لَوْ جُمِعَ حَتَّى بَلَغَ
قُلَّتَيْنِ أَيْ وَلاَ تَغَيُّرَ بِهِ صَارَ طَهُورًا قَطْعًا،
فَالْمُسْتَعْمَل أَوْلَى، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَعُودُ طَهُورًا
لأَِنَّ قَوَّتَهُ صَارَتْ مُسْتَوْفَاةً بِالاِسْتِعْمَال فَالْتَحَقَ
بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ سُرَيْجٍ (2) .
وَيَقُول الشِّيرَازِيُّ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل ضَرْبَانِ: مُسْتَعْمَلٌ
فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَمُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ النَّجَسِ.
فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَل فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ
اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، لأَِنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ
لاَقَى مَحَلًّا طَاهِرًا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ غُسِل بِهِ ثَوْبٌ
طَاهِرٌ.
ثُمَّ قَال: وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَل فِي النَّجَسِ فَيُنْظَرُ فِيهِ:
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 21.
(2) مغني المحتاج 1 / 21.
(39/361)
فَإِنِ انْفَصَل مِنَ الْمَحَل وَتَغَيَّرَ
فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ
وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (1) .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي
إِسْحَاقَ لأَِنَّهُ مَاءٌ لاَ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَلَمْ
يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا وَقَعَتْ
فِيهِ نَجَاسَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْقَاسِمِ
الأَْنْمَاطِيِّ لأَِنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ لاَقَى نَجَاسَةً، فَأَشْبَهَ مَا
وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنِ انْفَصَل وَالْمَحَل طَاهِرٌ فَهُوَ طَاهِرٌ،
وَإِنِ انْفَصَل وَالْمَحَل نَجِسٌ، فَهُوَ نَجِسٌ. وَهُوَ قَوْل أَبِي
الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ لأَِنَّ الْمُنْفَصِل مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي
فِي الْمَحَل: فَكَانَ حُكْمُهُ فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ حُكْمَهُ
(2) .
__________
(1) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ".
أخرجه ابن ماجه (1 / 174) من حديث أبي أمامة، وذكر البوصيري في مصباح
الزجاجة (1 / 131) أن في إسناده راويًا ضعيفًا.
(2) المهذب 1 / 8.
(39/362)
الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ:
12 - قَال الْحَنَابِلَةُ: الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِل فِي رَفْعِ حَدَثٍ
أَوْ إِزَالَةِ نَجَسٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ طَاهِرٌ
غَيْرُ مُطَهِّرٍ لاَ يَرْفَعُ حَدَثًا وَلاَ يُزِيل نَجِسًا وَهَذَا هُوَ
ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ.
أَمَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَل فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ كَتَجْدِيدِ
الْوُضُوءِ وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِيهِ وَالْغُسْل
لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمَل فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لأَِنَّهُ
طَهَارَةٌ مَشْرُوعَةٌ أَشَبَهَ مَا لَوِ اغْتَسَل بِهِ مِنْ جَنَابَةٍ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَمْنَعُ الطُّهُورِيَّةَ لأَِنَّهُ لَمْ يَزَل
مَانِعًا مِنَ الصَّلاَةِ أَشَبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ
تَكُنِ الطَّهَارَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ
فِيهَا شَيْئًا كَالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ فِي الْوُضُوءِ لَمْ يُؤَثِّرِ
اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا وَكَانَ كَمَا لَوْ تَبَرَّدَ أَوْ
غَسَل بِهِ ثَوْبَهُ، وَلاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَا اسْتُعْمِل
فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلاَقِهِ، قَال
ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا.
وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَل فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ كَغَسْل
الْيَدَيْنِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ
لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ
(39/362)
قُلْنَا بِوُجُوبِهِ فَقَال القْاضِي: هُوَ
طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ
رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ إِطْلاَقِهِ لأَِنَّهُ
مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ تَعَبُّدٍ أَشَبَهَ الْمُسْتَعْمَل فِي رَفْعِ
الْحَدَثِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل يَدَهُ فِي الإِْنَاءِ
قَبْل غَسْلِهَا (1) ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَنْعًا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلاَقِهِ لأَِنَّهُ
لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا، أَشَبَهَ الْمُتَبَرَّدَ بِهِ (2) .
الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ غَيْرِهَا.
أ - الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ (الْمُشَمَّسُ) :
13 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِتَأْثِيرِ
الشَّمْسِ فِيهِ اسْمَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: جِوَازُ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ
__________
(1) حديث: " نهيه صلى الله عليه وسلم أن يغمس القائم من نوم الليل. . . ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 263) ومسلم (1 / 233) من حديث أبي هريرة.
(2) المغني 1 / 18 - 21.
(39/363)
غَيْرِ كَرَاهَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا
الاِسْتِعْمَال فِي الْبَدَنِ أَمْ فِي الثَّوْبِ.
وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ
لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَالنَّوَوِيِّ
وَالرُّويَانِيِّ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِهِ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ
الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
يَقُول الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيِّ: وَيُكْرَهُ شَرْعًا تَنْزِيهًا
الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ أَيْ مَا سَخَّنَتْهُ الشَّمْسُ، أَيْ يُكْرَهُ
اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَأَكْلٍ
وَشُرْبٍ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ: كَانَ يَكْرَهُ الاِغْتِسَال بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، وَقَال:
يُورِثُ الْبَرَصَ (3) .
لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِبِلاَدٍ حَارَّةٍ أَيْ تَقْلِبُهُ
الشَّمْسُ عَنْ حَالَتِهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقَلَهُ فِي
الْبَحْرِ عَنِ الأَْصْحَابِ فِي آنِيةٍ مُنْطَبِعَةٍ غَيْرِ
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 42، والأم 1 / 3، والمغني 1 / 17 - 20، والمجموع 1 /
87، 89، والدر المختار بأعلى رد المحتار 1 / 27.
(2) مغني المحتاج 1 / 19.
(3) أثر عمر " أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس ". أخرجه الشافعي في
الأم (1 / 3) ، وذكر ابن حجر في التلخيص (1 / 22) أن في إسناده راويًا
ضعيفًا جدًا.
(39/363)
النَّقْدَيْنِ وَهِيَ كُل مَا طُرِقَ
كَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يُسْتَعْمَل فِي حَال حَرَارَتِهِ،
لأَِنَّ الشَّمْسَ بِحِدَّتِهَا تَفْصِل مِنْهُ زُهُومَةً تَعْلُو
الْمَاءَ، فَإِذَا لاَقَتِ الْبَدَنَ بِسُخُونَتِهَا خِيفَ أَنْ تَقْبِضَ
عَلَيْهِ فَيَحْتَبِسَ الدَّمُ فَيَحْصُل الْبَرَصُ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: يُكْرَهُ الْمُشَمَّسُ أَيِ الْمُسَخَّنُ بِالشَّمْسِ
فِي الأَْقْطَارِ الْحَارَّةِ كَأَرْضِ الْحِجَازِ لاَ فِي نَحْوِ مِصْرَ
وَالرُّومِ.
وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى قَوْل الدَّرْدِيرِ فِي الشَّرْحِ
الْكَبِيرِ " وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ " بِقَوْلِهِ: هُوَ مَا
نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَنْ مَالِكٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَهْل الْمَذْهَبِ.
وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ طِبِّيَّةٌ لاَ شَرْعِيَّةٌ لأَِنَّهَا لاَ تَمْنَعُ
مِنْ إِكْمَال الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَتْ
كَرَاهَتُهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ فَإِنَّهَا شَرْعِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَ الْكَرَاهَتَيْنِ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ يُثَابُ تَارِكُهَا
بِخِلاَفِ الطِّبِّيَّةِ (1) .
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: قَدَّمْنَا فِي مَنْدُوبَاتِ الْوُضُوءِ أَنَّ
مِنْهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ بِمَاءٍ مُشَمَّسٍ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي
الْحِلْيَةِ مُسْتَدِلًّا بِمَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ،
وَلِذَا صَرَّحَ فِي الْفَتْحِ بِكَرَاهَتِهِ، وَمِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ.
وَقَال فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَفِي الْقُنْيَةِ: وَتُكْرَهُ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 16، وحاشية الدسوقي 1 / 44.
(39/364)
الطَّهَارَةُ بِالْمُشَمَّسِ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
حِينَ سَخَّنَتِ الْمَاءَ بِالشَّمْسِ: لاَ تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ
فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ (1) ، وَفِي الْغَايَةِ: يُكْرَهُ
بِالْمُشَمَّسِ فِي قُطْرٍ حَارٍّ فِي أَوَانٍ مُنْطَبِعَةٍ (2) .
ب - الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِغَيْرِ الشَّمْسِ
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ
الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ لاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ
نَهْيٍ عَنْهُ وَلِذَهَابِ الزُّهُومَةِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَأَضَافَ
الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ التَّسْخِينُ بِنَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ
وَإِنْ قَال بَعْضُهُمْ فِيهِ وَقْفَةٌ.
وَأَمَّا شَدِيدُ السُّخُونَةِ أَوِ الْبُرُودَةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الطَّهَارَةِ لِمَنْعِهِ
الإِْسْبَاغَ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّجَاسَةِ
عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَحَقَّقَ وُصُول شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ
إِلَى الْمَاءِ فَيُنَجِّسَهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا.
__________
(1) حديث: " لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص ". أخرجه الدارقطني (1 /
38) من حديث عائشة، وذكر أن فيه راويًا متروكًا، وقال: " غريب جدًا ".
(2) رد المحتار على الدر المختار 1 / 180.
(3) الشرح الكبير 1 / 45، ونهاية المحتاج 1 / 71، ومغني المحتاج 1 / 19 -
20.
(39/364)
وَالثَّانِي: أَلاَّ يُتَحَقَّقَ وُصُول
شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْحَائِل غَيْرُ
حَصِينٍ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْل الطَّهَارَةِ وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ.
الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ الْحَائِل حَصِينًا فَقَال الْقَاضٍي يُكْرَهُ،
وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيل أَنَّهُ لاَ
يُكْرَهُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ فِي نَجَاسَتِهِ، بِخِلاَفِ
الَّتِي قَبْلَهَا.
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ
رِوَايَتَيْنِ عَلَى الإِْطْلاَقِ (1) .
الْمَاءُ الْمُخْتَلِطُ:
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِطَاهِرٍ، أَوْ يَكُونَ
مُخْتَلِطًا بِنَجَسٍ.
أَوَّلاً - حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا اخْتَلَطَ بِهِ
شَيْءٌ طَاهِرٌ - وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لِقِلَّتِهِ - لَمْ يَمْنَعِ
الطَّهَارَةَ بِهِ، لأَِنَّ الْمَاءَ بَاقٍ عَلَى إِطْلاَقِهِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ لاَ
يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ - كَالطُّحْلُبِ وَالْخَزِّ وَسَائِرِ مَا
يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ، وَكَذَا أَوْرَاقُ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقُطُ فِي
الْمَاءِ أَوْ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَتُلْقِيهِ فِيهِ، وَمَا تَجْذِبُهُ
السُّيُول مِنَ الْعِيدَانِ وَالتِّبْنِ
__________
(1) المغني 1 / 17 - 18.
(39/365)
وَنَحْوِهِ كَالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ -
فَتَغَيَّرَ بِهِ يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ، لأَِنَّهُ يَشُقُّ
التَّحَرُّزُ مِنْهُ (1) .
أَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ
- كَزَعْفَرَانٍ وَصَابُونٍ وَنَحْوِهِمَا - فَتَغَيَّرَ بِهِ أَحَدُ
أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:
الْفَرِيقُ الأَْوَّل: وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ:
يَرَوْنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ
يَشْتَرِطُونَ أَنْ لاَ يَكُونَ التَّغْيِيرُ عَنْ طَبْخٍ، أَوْ عَنْ
غَلَبَةِ أَجْزَاءِ الْمُخَالِطِ حَتَّى يَصِيرَ ثَخِينًا. قَال صَاحِبُ
الْهِدَايَةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ
فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَمَاءِ الْمَدِّ، وَالْمَاءِ الَّذِي
اخْتَلَطَ بِهِ اللَّبَنُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الصَّابُونُ أَوِ
الأُْشْنَانُ. . . إِلَى أَنْ يَقُول:
وَلاَ يَجُوزُ - أَيِ التَّطَهُّرُ - بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ،
فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ، كَالأَْشْرِبَةِ وَالْخَل وَمَاءِ
الْبَاقِلاَّ، لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ
بِمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَغَيْرِهِ: مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ، فَإِنْ
تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَنَقَل عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ وَالْمَيْمُونِيُّ
__________
(1) الهداية بأعلى فتح القدير 1 / 71، والشرح الصغير على أقرب المسالك 1 /
46، والمهذب 1 / 5، والمغني 1 / 13.
(2) الهداية بأعلى فتح القدير 1 / 62، والهداية 1 / 8.
(39/365)
وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ جَوَازَ
الْوُضُوءِ بِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا} (2) . فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل بِاسْتِعْمَال
الْمَاءِ - مُنَكَّرًا - عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُبِحِ
التَّيَمُّمَ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى
اسْتِعْمَالِهِ، فَدَل هَذَا عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَعَدَمِ جَوَازِ
التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ مِسْكًا
أَمْ عَسَلاً أَمْ نَحْوَ ذَلِكَ (3) .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَل هُوَ
وَمَيْمُونَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ
(4) .
فَهَذَا الْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلاَلَةِ فِي جَوَازِ التَّطَهُّرِ
بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ،
لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلاَطٌ يَمْنَعُ التَّطَهُّرَ لَمَا اغْتَسَل
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فِيهِ أَثَرُ
الْعَجِينِ فَدَل هَذَا عَلَى طُهُورِيَّتِهِ (5) ، وَلأَِنَّ الْمَاءَ
طَهُورٌ بِأَصْل خِلْقَتِهِ، وَقَدْ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ
اسْمَ الْمَاءِ وَلاَ رِقَّتَهُ وَلاَ جَرَيَانَهُ، فَأَشْبَهَ
__________
(1) المغني 1 / 12، والمحرر 1 / 2.
(2) سورة النساء / 43.
(3) المغني 1 / 12.
(4) حديث أم هانئ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من
إناء واحد. . . ". أخرجه النسائي (1 / 131) ، والبيهقي (1 / 7) ، وأشار
البيهقي إلى انقطاع في سنده بين مجاهد وأم هانئ.
(5) تبيين الحقائق 1 / 12، والمغني 1 / 15.
(39/366)
الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ، أَوِ
الْمُخْتَلَطَ بِالطُّحْلُبِ وَشِبْهَهُ (1) .
وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ. قَال
صَاحِبُ أَسْهَل الْمَدَارِكِ: وَالْمُتَغَيِّرُ بِالطَّاهِرِ كَاللَّبَنِ
طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ طَهُورٍ، يُسْتَعْمَل فِي الْعَادَاتِ
كَالطَّبْخِ وَالشُّرْبِ، وَلاَ يُسْتَعْمَل فِي الْعِبَادَاتِ
كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: مَنْعُ الطَّهَارَةِ بِالْمُتَغَيِّرِ بِمُخَالَطَةِ
مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَالْمَاءُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ مَذْهَبُنَا
(3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ
مِنْهُ فَغَيَّرَ إِحْدَى صِفَاتِهِ - طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ
- كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ،
اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَاخْتَلَفَتِ
الرِّوَايَةُ عَنْ إِمَامِنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ. فَرُوِيَ
عَنْهُ: لاَ تَحْصُل الطَّهَارَةُ بِهِ. . . قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى:
وَهِيَ الأَْصَحُّ وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي
الْخِلاَفِ (4) ، وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ وَهِيَ الْمَذْهَبُ (5) .
__________
(1) المغني 1 / 12.
(2) أسهل المدارك 1 / 38.
(3) المجموع 1 / 104.
(4) المغني 1 / 12.
(5) الإنصاف 1 / 32.
(39/366)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ
بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ، وَيُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ،
فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ الْمَغْلِيِّ،
وَبِأَنَّ اخْتِلاَطَ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ
كَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَمْنَعُهُ الإِْطْلاَقُ، وَلِهَذَا لاَ
يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ الْحَالِفُ عَلَى أَلاَّ يَشْرَبَ مَاءً،
وَلِقِيَاسِهِ عَلَى مَاءِ الْوَرْدِ.
ثَانِيًا - حُكْمُ الْمَاءِ إِذَا تَغَيَّرَ بِمُجَاوَرَةِ طَاهِرٍ
16 - إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمُجَاوَرَةِ (1) طَاهِرٍ كَالدُّهْنِ
وَالطَّاهِرَاتِ الصُّلْبَةِ كَالْعُودِ وَالْكَافُورِ، إِذَا لَمْ
يَهْلِكْ فِي الْمَاءِ وَلَمْ يُمْعَ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّ
هَذَا التَّغْيِيرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُجَاوَرَةِ فَلاَ
يَضُرُّ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ إِطْلاَقَ الاِسْمِ عَلَيْهِ، فَهُوَ
يُشْبِهُ تَرَوُّحَ الْمَاءِ بِرِيحِ شَيْءٍ عَلَى جَانِبِهِ (2) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ مُتَغَيِّرٌ
بِمُجَاوِرٍ طَاهِرٍ كَعُودٍ وَدُهْنٍ، مُطَيَّبَيْنِ أَوْ لاَ، أَوْ
بِتُرَابٍ طُرِحَ فِيهِ، لأَِنَّ تَغَيُّرَهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي
الأَْوَّل تَرَوُّحًا، وَفِي الثَّانِي كُدُورَةً لاَ يَمْنَعُ
__________
(1) المجاور: ما يتميز في رأي العين، وقيل: ما يمكن فصله بخلاف الخليط،
وقيل: المعتبر العرف (أسنى المطالب 1 / 8) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 15، وتبيين الحقائق 1 / 20، والشرح الصغير 1 / 46،
وحاشية الدسوقي 1 / 35، والمغني 1 / 13.
(39/367)
إِطْلاَقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ لَدَيْهِمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ
فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ: أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، قِيَاسًا
عَلَى الْمُتَغَيِّرِ الْمُخْتَلَطِ (2) .
أَمَّا إِذَا هَلَكَ الْمُجَاوِرُ الطَّاهِرُ وَمَاعَ فِي الْمَاءِ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّاهِرِ.
ثَالِثًا - حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَسٍ
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ
نَجَاسَةٌ، وَغَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَانَ نَجِسًا، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ
الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَغَيَّرَتْ
لِلْمَاءِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رَائِحَةً أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ
كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ
أَحَدَ أَوْصَافِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ
تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ كَثِيرًا
أَمْ قَلِيلاً، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَإِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
__________
(1) شرح المنهاج 1 / 19.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 35، والمهذب 1 / 5.
(39/367)
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: اخْتَلَفُوا فِي
الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ
أَوْصَافِهِ، فَقَال قَوْمٌ: هُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ كَثِيرًا أَمْ
قَلِيلاً، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ (1) .
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ إِذَا
لاَقَتْهُ النَّجَاسَةُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا فَالْمَشْهُورُ فِي
الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى:
أَنَّ الْمَاءَ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ
(2) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ،
إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْنِهِ قَلِيلاً وَبَيْنَ كَوْنِهِ
كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً يَنْجُسُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا
لاَ يَنْجُسُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ،
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ (4) .
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 41.
(2) المغني 1 / 23.
(3) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه. . . ". تقدم
تخريجه ف (11) .
(4) بدائع الصنائع 1 / 71، وبداية المجتهد 1 / 41، ومغني المحتاج 1 / 21،
والمغني 1 / 23، والمجموع 1 / 112.
(39/368)
18 - لَكِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْل
اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِل بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ عَلَى
ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى: أَنَّ
الْمَاءَ إِنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ
قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْخُلُوصِ التَّحْرِيكُ، فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ
حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الآْخَرُ فَهُوَ مِمَّا
يَخْلُصُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مِمَّا لاَ يَخْلُصُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّحْرِيكِ: فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالاِغْتِسَال مِنْ غَيْرِ
عُنْفٍ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ
بِالْوُضُوءِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلاَ
وُضُوءٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا
اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي
الإِْنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ
بَاتَتْ يَدُهُ (2) .
فَلَوْ كَانَ مَاءُ الإِْنَاءِ لاَ يَنْجُسُ بِالْغَمْسِ لَمْ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 71، 72.
(2) حديث: " إذا استيقظ أحدكم من نومه. . . ". أخرجه مسلم (1 / 233) .
(39/368)
يَكُنْ لِلنَّهْيِ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ
مَعْنًى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَاءَ الإِْنَاءِ إِذَا حَرَّكَهُ آدَمِيٌّ
مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ سَرَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ إِلَى الطَّرَفِ الآْخَرِ
(1) .
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا
وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ
بِالتُّرَابِ (2) .
فَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسْل
الإِْنَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ
الْكَلْبُ، وَوُلُوغُ الْكَلْبِ لاَ يُغَيِّرُ لَوْنَ الْمَاءِ وَلاَ
طَعْمَهُ وَلاَ رِيحَهُ، وَإِنَّمَا يُحَرِّكُهُ (3) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَيَرَى أَنَّهُ إِنْ
تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ
لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ
وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ (5) . وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ،
إِلاَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 72.
(2) حديث: " طهور إناء أحدكم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 234) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 72.
(4) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 1 / 43.
(5) حديث: " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه. . . " تقدم تخريجه
فقرة (11) .
(39/369)
إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ
لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ (1) . فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ
تُفِيدَانِ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَعَدَمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي مَعْرِفَةِ
الطَّاهِرِ مِنَ النَّجِسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَدًّا فَاصِلاً
بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إِذَا وَرَدَ
الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ مَا
لَمْ يَتَغَيَّرْ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ
فَهُوَ كَثِيرٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ قَلِيلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ
فِي الْفَلاَةِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَال:
إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ، وَفِي
رِوَايَةٍ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ (2)
.
فَتَحْدِيدُ الْمَاءِ بِالْقُلَّتَيْنِ وَنَفْيُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ يَدُل
عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ، إِذْ لَوِ اسْتَوَى
__________
(1) حديث: " إن الماء طاهر إلاَّ إن تغير ريحه. . . ". أخرجه البيهقي (1 /
260) ، وقال: الحديث غير قوي.
(2) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون في
الفلاة. . . ". أخرج الرواية الأولى الترمذي (1 / 97) ، والحاكم (1 / 132)
، والرواية الثانية للحاكم، وصححه ووافقه الذهبي.
(39/369)
حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا
لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْدِيدِ مَعْنًى (1) .
وَلأَِنَّ الأُْصُول مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا صَعُبَتْ
إِزَالَتُهَا وَشَقَّ الاِحْتِرَازُ مِنْهَا عُفِيَ عَنْهَا، كَدَمِ
الْبَرَاغِيثِ وَسَلَسِ الْبَوْل وَالاِسْتِحَاضَةِ. وَإِذَا لَمْ يَشُقَّ
الاِحْتِرَازُ لَمْ يُعْفَ عَنْهَا كَغَيْرِ الدَّمِ مِنَ النَّجَاسَاتِ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلِيل الْمَاءِ لاَ يَشُقُّ حِفْظُهُ، وَكَثِيرُهُ
يَشُقُّ، فَعُفِيَ عَمَّا شَقَّ دُونَ غَيْرِهِ، وَضَبَطَ الشَّرْعُ حَدَّ
الْقُلَّةِ بِقُلَّتَيْنِ فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ
بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الْعُدُول عَنْهُ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَسٍ فِي
حَالَتَيِ الْجَرَيَانِ وَالرُّكُودِ
وَفِيمَا يَلِي أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ:
أَوَّلاً - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
19 - فَرَّقَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَاءِ جَارِيًا
أَوْ رَاكِدًا:
فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ وَكَانَ جَارِيًا وَالنَّجَاسَةُ
غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ: فَهُوَ
طَاهِرٌ عِنْدَهُمْ.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ وَقَعَ - أَيِ النَّجَسُ -
__________
(1) المجموع 1 / 114، والمغني 1 / 25.
(2) المجموع 1 / 116.
(39/370)
فِي الْمَاءِ: فَإِنْ كَانَ جَارِيًا:
أ - فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْل وَالْخَمْرِ
وَنَحْوِهِمَا: لاَ يَنْجُسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ
أَوْ رِيحُهُ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ
الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. كَذَا
ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.
ثُمَّ قَال: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِل بَال فِي الْمَاءِ
الْجَارِي وَرَجُلٌ أَسْفَل مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ؟ قَال: لاَ بَأْسَ
بِهِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ مِمَّا لاَ يَخْلُصُ بَعْضُهُ
إِلَى بَعْضٍ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَل أَنَّهُ
نَجِسٌ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الأَْصْل
فَلاَ نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ.
ب - وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا،
فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لاَ يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَل الْجِيفَةِ لأَِنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ،
وَالنَّجِسُ لاَ يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ.
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ، لأَِنَّ
الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ.
وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، وَالأَْكْثَرُ يَجْرِي
عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَل الْجِيفَةِ،
لأَِنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ، أَوْ دُونَ
(39/370)
النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ بِهِ، لأَِنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ، فَلاَ
يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ.
وَفِي الاِسْتِحْسَانِ: لاَ يَجُوزُ احْتِيَاطًا (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ: فَقَال
بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي
الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ، وَإِلاَّ
فَلاَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ كَانَ بِحَال لَوِ اغْتَرَفَ إِنْسَانٌ
الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الأَْرْضِ بِالاِغْتِرَافِ
فَهُوَ جَارٍ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقِيل: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ، وَمَا لاَ فَلاَ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الأَْقَاوِيل.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا وَكَانَ قَلِيلاً يَنْجُسُ وَإِنْ كَانَ
كَثِيرًا لاَ يَنْجُسُ (2) .
ثَانِيًا - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
20 - قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ - وَهُوَ مَا كَانَ
قَدْرَ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل فَمَا دُونَهُمَا - إِذَا حَلَّتْ
فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ كَالْقَطْرَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 71 وما بعدها.
(2) بدائع الصنائع 1 / 71 المطبعة العلمية.
(39/371)
وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ
اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي حُكْمِ خَبَثٍ وَمُتَوَقِّفٌ
عَلَى طُهُورٍ كَالطَّهَارَةِ الْمَسْنُونَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعَادَاتِ فَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ،
فَالْكَرَاهَةُ خَاصَّةٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طُهُورٍ.
ثُمَّ قَال: الْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِقُيُودٍ سَبْعَةٍ: أَنْ يَكُونَ
الْمَاءُ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ يَسِيرًا، وَأَنْ تَكُونَ
النَّجَاسَةُ الَّتِي حَلَّتْ فِيهِ قَطْرَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنْ لاَ
تُغَيِّرَهُ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَادَّةٌ
كَبِئْرٍ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ جَارِيًا، وَأَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ
فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طُهُورٍ كَرَفْعِ حَدَثٍ وَحُكْمِ خَبَثٍ
وَأَوْضِيَةٍ وَاغْتِسَالاَتٍ مَنْدُوبَةٍ. فَإِنِ انْتَفَى قَيْدٌ مِنْهَا
فَلاَ كَرَاهَةَ (1) .
ثَالِثًا - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
21 - يَقُول الشِّيرَازِيُّ: إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ لاَ
يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِدًا أَوْ جَارِيًا، أَوْ بَعْضُهُ
رَاكِدًا وَبَعْضُهُ جَارِيًا.
أ - فَإِنْ كَانَ رَاكِدًا: نَظَرْتَ فِي النَّجَاسَةِ: فَإِنْ كَانَتْ
نَجَاسَةً يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ مِنْ خَمْرٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ مَيْتَةٍ
لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ نَظَرْتَ: فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ
مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رَائِحَةٍ فَهُوَ نَجِسٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 43.
(39/371)
00 الْمَاءُ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ مَا
غَيَّرَ رِيحَهُ أَوْ طَعْمَهُ (1) . فَنَصَّ عَلَى الطَّعْمِ وَالرِّيحِ،
وَقِيسَ اللَّوْنُ عَلَيْهِمَا لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُمَا (2) .
وَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ: نَجِسَ الْجَمِيعُ، لأَِنَّهُ
مَاءٌ وَاحِدٌ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْجُسَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ.
وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ: نَظَرْتَ: فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ
الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَهُوَ
طَاهِرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ
الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ (3) . وَلأَِنَّ الْقَلِيل
يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي الظُّرُوفِ، وَالْكَثِيرُ لاَ
يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَجَعَل الْقُلَّتَيْنِ حَدًّا
فَاصِلاً بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ قَال: فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مِمَّا لاَ يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ
فَفِيهِ ثَلاَثُ طُرُقٍ:
__________
(1) حديث: " الماء لا ينجس. . . ". أخرجه البيهقي (1 / 260) من حديث أبي
أمامة، وقال: الحديث غير قوي.
(2) قال النووي في المجموع (1 / 111) : أما قول المصنف: فنص على الطعم
والريح وقسنا اللون عليهما: فكأنه قاله لأنه لم يقف على الرواية التي فيها
اللون وهي موجودة في سنن ابن ماجه والبيهقي. (انظر سنن ابن ماجه 1 / 174،
وسنن البيهقي 1 / 260) .
(3) حديث: " إن كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ". تقدم تخريجه فقرة (17) .
(39/372)
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: لاَ حُكْمَ
لَهَا، لأَِنَّهَا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهَا فَهِيَ كَغُبَارِ
السِّرْجِينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ
النَّجَاسَاتِ لأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ فَهِيَ كَالنَّجَاسَةِ
الَّتِي يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: فِيهِ قَوْلاَنِ.
كَمَا بَيَّنَ حُكْمَهُ إِنْ كَانَ جَارِيًا، فَقَال:
ب - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَارِيَةٌ
كَالْمَيْتَةِ، وَالْجَرْيَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ، فَالْمَاءُ الَّذِي
قَبْلَهَا طَاهِرٌ لأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى النَّجَاسَةِ، فَهُوَ
كَالْمَاءِ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى النَّجَاسَةِ مِنْ إِبْرِيقٍ، وَاَلَّذِي
بَعْدَهَا طَاهِرٌ أَيْضًا لأَِنَّهُ لَمْ تَصِل إِلَيْهِ النَّجَاسَةُ،
وَأَمَّا مَا يُحِيطُ بِالنَّجَاسَةِ مِنْ فَوْقِهَا وَتَحْتِهَا
وَيَمِينِهَا وَشِمَالِهَا فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ
فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمَا فَهُوَ نَجِسٌ كَالرَّاكِدِ.
وَقَال أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ الْقَاصِّ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ قَالَهُ فِي
الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لاَ يَنْجُسُ الْمَاءُ الْجَارِي إِلاَّ لِتَغَيُّرٍ،
لأَِنَّهُ مَاءٌ وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ
تَغَيُّرٍ، كَالْمَاءِ الْمُزَال بِهِ النَّجَاسَةُ.
وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ وَاقِفَةً وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهَا،
فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا طَاهِرٌ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهَا
إِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمَا فَهُوَ
نَجِسٌ، وَكَذَلِك كُل مَا يَجْرِي
(39/372)
عَلَيْهَا بَعْدَهَا فَهُوَ نَجِسٌ، وَلاَ
يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَرْكُدَ فِي مَوْضِعٍ وَيَبْلُغَ
قُلَّتَيْنِ.
وَأَضَافَ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ جَارِيًا وَبَعْضُهُ
رَاكِدًا: بِأَنْ يَكُونَ فِي النَّهْرِ مَوْضِعٌ مُنْخَفِضٌ يَرْكُدُ
فِيهِ الْمَاءُ، وَالْمَاءُ يَجْرِي بِجَنْبِهِ وَالرَّاكِدُ زَائِلٌ عَنْ
سَمْتِ الْجَرْيِ، فَوَقَعَ فِي الرَّاكِدِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ دُونَ
الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَرْيَةِ الَّتِي يُحَاذِيهَا
يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ.
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَتَتَنَجَّسُ كُل
جَرْيَةٍ بِجَنْبِهَا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَوْضِعٍ قُلَّتَانِ
فَيَطْهُرُ (1) .
رَابِعًا - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
22 - قَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمُخَالَطَةِ
النَّجَاسَةِ فَهُوَ نَجِسٌ.
وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَهُوَ يَسِيرٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ،
إِحْدَاهُمَا: يَنْجُسُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ،
وَعُمُومُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي النَّجَاسَةَ سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا
الطَّرْفُ أَوْ لاَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لاَ يَنْجُسُ، وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي
الْمَاءِ الرَّاكِدِ.
وَأَمَّا الْجَارِي، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَالرَّاكِدِ إِنْ
__________
(1) المهذب 1 / 13 وما بعدها.
(39/373)
بَلَغَ جَمِيعُهُ قُلَّتَيْنِ دَفَعَ
النَّجَاسَةَ إِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.
قَال فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ: وَلاَ يَنْجُسُ قَلِيلٌ جَارٍ قَبْل
تَغَيُّرِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَنْ أَحْمَدَ تُعْتَبَرُ كُل
جَرْيَةٍ بِنَفْسِهَا، اخْتَارَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَقَال: هِيَ
الْمَذْهَبُ (1) .
تَطْهِيرُ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمَاءِ النَّجِسِ
عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي: قَال الْكَاسَانِيُّ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي
كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ الْمِيَاهِ النَّجِسَةِ فِي الأَْوَانِي
وَنَحْوِهَا، فَقَال أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدَاوَنِيُّ وَأَبُو اللَّيْثِ:
إِذَا دَخَل الْمَاءُ الطَّاهِرُ فِي الإِْنَاءِ وَخَرَجَ بَعْضُهُ
يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لاَ تَسْتَبِينَ فِيهِ النَّجَاسَةُ،
لأَِنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا، وَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ
النَّجَاسَةِ فِيهِ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ الأَْعْمَشِ: لاَ يَطْهُرُ حَتَّى يَدْخُل الْمَاءُ
فِيهِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ مِثْل مَا كَانَ فِيهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،
فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلاَثًا.
وَقِيل: إِذَا خَرَجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ،
كَالْبِئْرِ إِذَا تَنَجَّسَتْ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهَا
__________
(1) الإنصاف 1 / 56، 57.
(39/373)
بِنَزْحِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِصَبِّ
الْمَاءِ عَلَيْهِ وَمُكَاثَرَتِهِ حَتَّى يَزُول التَّغَيُّرُ. وَلَوْ
زَال التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ
(2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَةٌ ف 16) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) : فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ
مَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُرَادُ تَطْهِيرُهُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ
وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ أَوْ يَزِيدُ.
أ - فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ: فَتَطْهِيرُهُ يَكُونُ
بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُكَاثَرَةِ صَبُّ الْمَاءِ دَفْعَةً وَاحِدَةً،
بَل الْمُرَادُ إِيصَال الْمَاءِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ مِنَ
الْمُتَابَعَةِ، إِمَّا مِنْ سَاقِيَةٍ، وَإِمَّا دَلْوًا فَدَلْوًا، أَوْ
يَسِيل إِلَيْهِ مَاءُ الْمَطَرِ.
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَكُونُ التَّكْثِيرُ حَتَّى
يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاءُ الَّذِي كَاثَرَهُ بِهِ
طَاهِرًا أَمْ نَجِسًا، قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا، لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ
يَحْمِل الْخَبَثَ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 87، وفتح القدير 1 / 55.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 46، 47، وشرح الخرشي 1 / 79.
(3) المهذب 1 / 6، 7، والمجموع 1 / 132 وما بعدها، والمغني 1 / 35.
(4) حديث: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ". تقدم تخريجه فقرة (17) .
(39/374)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَكُونُ
التَّكْثِيرُ بِقُلَّتَيْنِ طَاهِرَتَيْنِ، لأَِنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَوْ
وَرَدَ عَلَيْهِمَا مَاءٌ نَجَسٌ لَمْ يُنَجِّسْهُمَا مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ
بِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ وَارِدَةً، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ
بِطَهَارَتِهِمَا طَهَارَةُ مَا اخْتَلَطَتَا بِهِ.
ب - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ بِالنَّجَاسَةِ، وَحِينَئِذٍ يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ
لاَ غَيْرُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِهَا فَيَطْهُرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا زَال التَّغَيُّرُ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُول
تَغَيُّرُهُ بِطُول مُكْثِهِ.
وَلاَ يَطْهُرُ بِأَخْذِ بَعْضِهِ حِينَئِذٍ وَلَوْ زَال بِهِ
التَّغَيُّرُ، لأَِنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ قُلَّتَيْنِ وَفِيهِ نَجَاسَةٌ.
ج - وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَزِيدُ عَنْ قُلَّتَيْنِ فَلَهُ حَالاَنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ، فَلاَ سَبِيل
إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ
بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ بِزَوَال تَغَيُّرِهِ
بِمُكْثِهِ، أَوْ بِالأَْخْذِ مِنْهُ مَا يَزُول بِهِ التَّغَيُّرُ
وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا. فَإِنْ بَقِيَ مَا دُونَ
الْقُلَّتَيْنِ قَبْل زَوَال تَغَيُّرِهِ لَمْ يَبْقَ التَّغَيُّرُ عِلَّةَ
تَنْجِيسِهِ، لأَِنَّهُ تَنَجَّسَ بِدُونِهِ فَلاَ يَزُول التَّنْجِيسُ
بِزَوَالِهِ، وَلِذَلِك طَهُرَ الْكَثِيرُ بِالنَّزْحِ وَطُول
(39/374)
الْمُكْثِ وَلَمْ يَطْهُرِ الْقَلِيل،
فَإِنَّ الْكَثِيرَ لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ التَّغَيُّرَ زَال
تَنْجِيسُهُ بِزَوَال عِلَّتِهِ كَالْخَمْرَةِ إِذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا،
وَالْقَلِيل عِلَّةُ تَنْجِيسِهِ الْمُلاَقَاةُ لاَ التَّغَيُّرُ فَلَمْ
يُؤَثِّرْ زَوَالُهُ فِي زَوَال التَّنْجِيسِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَطْهِيرِهِ بِالتُّرَابِ أَوِ الْجِصِّ إِنْ زَال بِهِ
التَّغَيُّرُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: لاَ يَطْهُرُ، كَمَا لاَ يَطْهُرُ إِذَا طُرِحَ فِيهِ كَافُورٌ
أَوْ مِسْكٌ فَزَالَتْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ، وَلأَِنَّ التُّرَابَ أَوِ
الْجِصَّ لاَ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ غَيْرِهِ
أَوْلَى، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالثَّانِي: يَطْهُرُ، لأَِنَّ عِلَّةَ نَجَاسَتِهِ التَّغَيُّرُ وَقَدْ
زَال، فَيَزُول التَّنْجِيسُ كَمَا لَوْ زَال بِمُكْثِهِ أَوْ بِإِضَافَةِ
مَاءٍ آخَرَ، وَيُفَارِقُ الْكَافُورَ وَالْمِسْكَ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الرَّائِحَةُ بَاقِيَةً، وَإِنَّمَا لَمْ تَظْهَرْ لِغَلَبَةِ
رَائِحَةِ الْكَافُورِ وَالْمِسْكِ (2) .
تَطْهِيرُ مِيَاهِ الآْبَارِ
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ
الْبِئْرِ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالتَّكْثِيرِ إِلَى أَنْ يَزُول
التَّغَيُّرُ وَيَكُونَ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ
وَيَصِل إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى
يَصِل هَذَا الْحَدَّ.
__________
(1) المغني 1 / 36.
(2) المهذب 1 / 6، 7، والمجموع 1 / 132 وما بعدها، والمغني 1 / 35 وما
بعدها.
(39/375)
كَمَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اعْتِبَارِ النَّزْحِ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ
أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ
فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِالنَّزْحِ فَقَطْ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (آبَارٌ ف 21 - 32) .
اخْتِلاَطُ الأَْوَانِي وَاشْتِبَاهُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ الطَّهُورِ
بِالْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ
25 - إِذَا اخْتَلَطَتِ الأَْوَانِي اخْتِلاَطَ مُجَاوَرَةٍ، وَكَانَ فِي
بَعْضِهَا مَاءٌ طَهُورٌ، وَفِي الْبَعْضِ الآْخَرِ مَاءٌ نَجِسٌ
وَاشْتَبَهَ الأَْمْرُ عَلَى الشَّخْصِ، وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى
إِيجَادِ مَاءٍ آخَرَ طَهُورٍ غَيْرِ الَّذِي فِي بَعْضِهَا، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خَمْسَةِ
أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَجِبُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي
لِمَعْرِفَةِ الطَّهُورِ مِنْهَا، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى
ظَنِّهِ طَهُورِيَّةُ أَحَدِهَا بِعَلاَمَةٍ تَظْهَرُ جَازَ لَهُ
التَّطَهُّرُ بِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ (1) ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
(2) .
__________
(1) المجموع 1 / 180، ومغني المحتاج 1 / 26.
(2) مواهب الجليل 1 / 171، وتهذيب الفروق 1 / 228 ط عالم الكتب - بيروت.
(39/375)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1) . وَهَذَا وَاجِدٌ لِلْمَاءِ
فَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ، وَوَجَبَ الاِجْتِهَادُ، وَبِأَنَّ
التَّطَهُّرَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ يُمْكِنُ التَّوَصُّل
إِلَيْهِ بِالاِجْتِهَادِ، فَوَجَبَ قِيَاسًا عَلَى الْقِبْلَةِ، وَعَلَى
الاِجْتِهَادِ فِي الأَْحْكَامِ وَفِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَإِنْ
كَانَ قَدْ يَقَعُ فِي الْخَطَأِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي إِذَا
كَانَ عَدَدُ أَوَانِي الْمَاءِ الطَّهُورِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ أَوَانِي
النَّجِسِ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُ أَوَانِي الْمَاءِ الطَّهُورِ مُسَاوِيًا
لِعَدَدِ أَوَانِي النَّجِسِ أَوْ أَقَل لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، بَل
يَتَيَمَّمُ.
وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (3) ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ
إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (5) . وَكَثْرَةُ النَّجِسِ تَرِيبُ، فَوَجَبَ
تَرْكُهُ وَالْعُدُول إِلَى مَا لاَ رَيْبَ
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) المجموع 1 / 181.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 21 ط الثانية طبع المطبعة
الأزهرية.
(4) المغني 1 / 60.
(5) حديث: " دع ما يريبك. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 668) ، وقال: حديث حسن
صحيح.
(39/376)
فِيهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَبِأَنَّ
الأُْصُول مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْحَرَامِ وَاسْتِوَاءَ
الْحَلاَل وَالْحَرَامِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ كَأُخْتٍ
أَوْ زَوْجَةٍ اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ.
وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ وَبَوْلٌ، فَإِنَّهُ لاَ
يَجْتَهِدُ فِيهِ بَل يَتَيَمَّمُ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْمِيَاهِ
الْمُخْتَلِطَةِ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ مُطْلَقًا، بَل يَتْرُكُ الْجَمِيعَ
وَيَتَيَمَّمُ.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، وَبِهِ قَال
أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَأَحْمَدُ
وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّجِسِ،
وَأَنَّهُ اشْتَبَهَ طَاهِرٌ بِنَجِسٍ فَلَمْ يَجُزِ الاِجْتِهَادُ فِيهِ
كَمَا لَوِ اشْتَبَهَ مَاءٌ وَبَوْلٌ (5) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ: فَقَال أَحْمَدُ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ: لاَ يَتَيَمَّمُ حَتَّى يُرِيقَ الْمَاءَ لِتَحَقُّقِ
عَدَمِ الْمَاءِ.
وَقَال سَحْنُونٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: يَتَيَمَّمُ
__________
(1) المغني 1 / 61.
(2) مواهب الجليل 1 / 171، والقوانين الفقهية ص 38.
(3) المجموع 1 / 181.
(4) المغني 1 / 61، وكشاف القناع 1 / 32، 33.
(5) المجموع 1 / 181، والمغني 1 / 61.
(39/376)
وَإِنْ لَمْ يُرِقْهُ لأَِنَّهُ
كَالْمَعْدُومِ.
الْقَوْل الرَّابِعُ: يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ
وَزِيَادَةِ إِنَاءٍ.
وَبِهَذَا قَال ابن الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِسَحْنُونٍ
(1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الشَّخْصَ فِي هَذِهِ الْحَالَة مَعَهُ مَاءٌ
مُحَقَّقُ الطَّهَارَةِ وَلاَ سَبِيل إِلَى تَيَقُّنِ اسْتِعْمَالِهِ
إِلاَّ بِالتَّوَضُّؤِ وَالصَّلاَةِ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ
إِنَاءٍ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.
الْقَوْل الْخَامِسُ: يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِأَيِّهَا شَاءَ بِلاَ
اجْتِهَادٍ وَلاَ ظَنٍّ.
وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الأَْصْل طَهَارَةُ الْمَاءِ فِي كُل الأَْوَانِي.
سَقْيُ أَرْضِ الْفِلاَحَةِ بِمَاءٍ نَجِسٍ
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ
عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الزَّرْعَ الَّذِي يُسْقَى
بِمَاءٍ نَجِسٍ طَاهِرٌ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَاءُ النَّجِسُ ظَاهِرَ
الزَّرْعِ تَنَجَّسَ وَوَجَبَ تَطْهِيرُهُ بِالْغَسْل.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ
الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 171، والقوانين الفقهية ص 38.
(2) المجموع 1 / 180.
(39/377)
تَحْرُمُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ
لاَ يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ (1) ، وَلأَِنَّهَا تَتَغَذَّى
بِالنَّجَاسَاتِ وَتَتَرَقَّى فِيهَا أَجْزَاؤُهَا، وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ
تُطَهِّرُ، فَعَلَى هَذَا تَطْهُرُ إِذَا سُقِيَتِ الطَّاهِرَاتِ،
كَالْجَلاَّلَةِ إِذَا حُبِسَتْ وَأُطْعِمَتِ الطَّاهِرَاتِ (2) .
__________
(1) أثر ابن عباس: " كنا نكري. . . ". أخرجه البيهقي (6 / 139) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 217، وشرح الخرشي 1 / 88، وحاشية الدسوقي 1 / 52،
ومغني المحتاج 1 / 81، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 72 - 73.
(39/377)
مُيَاوَمَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْمُيَاوَمَةُ لُغَةً: مِنْ يَاوَمَهُ مُيَاوَمَةً وَيِوَامًا:
عَامَلَهُ بِالأَْيَّامِ، وَيَاوَمْتُ الرَّجُل مُيَاوَمَةً وَيِوَامًا:
أَيْ عَامَلْتُهُ أَوِ اسْتَأْجَرْتُهُ الْيَوْمَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْجَل:
2 - أَجَل الشَّيْءِ لُغَةً: مُدَّتُهُ وَالْوَقْتُ الَّذِي يَحِل فِيهِ
(2) .
وَاصْطِلاَحًا: الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا
أَمْرٌ مِنَ الأُْمُورِ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الأَْجَل وَالْمُيَاوَمَةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا وَقْتٌ
مُحَدَّدٌ، غَيْرَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أُمُورٍ:
أ - أَنَّ الْوَقْتَ فِي الْمُيَاوَمَةِ مُحَدَّدٌ بِالْيَوْمِ أَوِ
__________
(1) القاموس المحيط، وتاج العروس، ولسان العرب.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط.
(39/378)
الأَْيَّامِ، أَمَّا الأَْجَل فَإِنَّهُ
قَدْ يُحَدَّدُ بِالأَْيَّامِ أَوِ الشُّهُورِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
ب - أَنَّ مَحَل الْمُيَاوَمَةِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ، أَمَّا الأَْجَل
فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَنْفَعَةِ أَوْ غَيْرِهَا كَضَرْبِ أَجَلٍ لِلْمَدِينِ
الْمُعْسِرِ بِسَنَةٍ مَثَلاً.
ب - التَّأْقِيتُ:
3 - التَّأْقِيتُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَقَّتَ أَوْ وَقَّتَ، وَمَعْنَاهُ:
تَحْدِيدُ الأَْوْقَاتِ، وَهُوَ يَتَنَاوَل الشَّيْءَ الَّذِي قَدَّرْتَ
لَهُ حِينًا أَوْ غَايَةً. تَقُول: وَقَّتُّهُ لِيَوْمِ كَذَا مِثْل
أَجَّلْتُهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ثَابِتًا فِي الْحَال، وَيَنْتَهِيَ
فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ (2) .
وَالْمُيَاوَمَةُ وَالتَّأْقِيتُ يَتَّفِقَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
فِيهِ تَحْدِيدٌ لِلْوَقْتِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي التَّأْقِيتِ
بِمُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّتِهِ فِي الْمُيَاوَمَةِ أَوْ أَقَل.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَأْقِيتٌ ف 1) .
ج - الْمُشَاهَرَةُ:
4 - الْمُشَاهَرَةُ لُغَةً: الْمُعَامَلَةُ شَهْرًا بِشَهْرٍ، وَشَاهَرَ
الأَْجِيرَ مُشَاهَرَةً وَشِهَارًا: اسْتَأْجَرَهُ لِلشَّهْرِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) الكليات 2 / 103.
(39/378)
وَالْمُشَاهَرَةُ مِنَ الشَّهْرِ
كَالْمُعَاوَمَةِ مِنَ الْعَامِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَتَتَّفِقُ الْمُيَاوَمَةُ مَعَ الْمُشَاهَرَةِ فِي أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ لِلْمَنْفَعَةِ، غَيْرَ أَنَّهَا فِي
الْمُشَاهَرَةِ مُحَدَّدَةٌ بِشَهْرٍ، وَفِي الْمُيَاوَمَةِ مُحَدَّدَةٌ
بِيَوْمٍ أَوْ أَضْعَافِهِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُيَاوَمَةِ:
أ - حُكْمُ الْمُيَاوَمَةِ
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُيَاوَمَةَ - بِمَعْنَى
تَحْدِيدِ مُدَّةِ الْمَنْفَعَةِ بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ - جَائِزَةٌ إِذَا
اتَّفَقَ الطَّرَفَانِ عَلَيْهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِجَارَةٌ ف 35 - 37، 47، إِعَارَةٌ ف
9، 12) .
ب - مُدَّةُ الْمُيَاوَمَةِ وَتَحْدِيدُ الْيَوْمِ
6 - الْمُيَاوَمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَصْلِهَا وَهُوَ (يَوْمٌ) .
وَالْيَوْمُ مُحَدَّدٌ شَرْعًا بِالزَّمَانِ الْمُمْتَدِّ مِنْ
__________
(1) لسان العرب.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 7 - 8، وتبيين الحقائق 5 / 108 - 109، ومجلة
الأحكام العدلية مادة 495، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 4، ونهاية
المحتاج 5 / 275 - 276، وكشاف القناع 4 / 22 - 23.
(39/379)
طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ، بِخِلاَفِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مُمْتَدٌّ مِنْ طُلُوعِ
الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَلِذَلِكَ يُقَال: صُمْتُ الْيَوْمَ، وَلاَ
يُقَال: صُمْتُ النَّهَارَ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ تَحْدِيدُ الْيَوْمِ بِالْعُرْفِ، جَاءَ فِي مَجَلَّةِ
الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ أَحَدٌ أَجِيرًا عَلَى أَنْ
يَعْمَل يَوْمًا، يَعْمَل مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الْعَصْرِ أَوِ
الْغُرُوبِ، عَلَى وَفْقِ عُرْفِ الْبَلْدَةِ فِي خُصُوصِ الْعَمَل (2) .
__________
(1) الكليات 5 / 118.
(2) مجلة الأحكام العدلية مادة 495.
(39/379)
مَيْتَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ الْمَيْتَةُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ
مِنَ الْحَيَوَانِ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ
الْجَسَدَ. أَمَّا الْمِيتَةُ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - فَهِيَ لِلْحَال
وَالْهَيْئَةِ. يُقَال: مَاتَ مِيتَةً حَسَنَةً، وَمَاتَ مِيتَةً
جَاهِلِيَّةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجَصَّاصُ: الْمَيْتَةُ فِي الشَّرْعِ اسْمُ
الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمُذَكَّى، وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً
بِأَنْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لآِدَمِيِّ فِيهِ،
وَقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِسَبَبِ فِعْل الآْدَمِيِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ
فِعْلُهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ (2) .
كَمَا تُطْلَقُ الْمَيْتَةُ شَرْعًا عَلَى الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ
الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، كَالْيَدِ وَالرِّجْل وَالأَْلْيَةِ وَغَيْرِهَا،
سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولاً أَمْ غَيْرَ مَأْكُولٍ
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، وتحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 94،
وتهذيب الأسماء واللغات 2 / 146، وأنيس الفقهاء للقونوي ص 123.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 132.
(39/380)
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَهِيَ
مَيْتَةٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّذْكِيَةُ:
2 - التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ ذَكَّى، وَالاِسْمُ الذَّكَاةُ،
وَمَعْنَاهَا تَمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحُ، يُقَال: ذَكَّيْتُ
الذَّبِيحَةَ إِذَا أَتْمَمْتُ ذَبْحَهَا، وَالْمُذَكَّاةُ اسْمُ مَفْعُولٍ
مِنْ ذَكَّى.
وَالتَّذْكِيَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ هِيَ السَّبَبُ الْمُوصِل
إِلَى حِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا (2) ، وَقَدْ
عَرَّفَهَا الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِقَوْلِهِ: هِيَ فِي الشَّرْعِ
عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ وَفَرْيِ الأَْوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ،
وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ، وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ
عَلَيْهِ، مَقْرُونًا ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَذِكْرِ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى
__________
(1) حديث: " ما قطع من البهيمة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 277 ط حمص) ،
والترمذي (4 / 74 ط الحلبي) من حديث أبي واقد الليثي وقال الترمذي: حسن
غريب.
(2) المصباح المنير، ورد المحتار 5 / 186، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 300،
والخرشي 3 / 2، وكشاف القناع 6 / 201، وكفاية الأخيار 2 / 137، وبداية
المجتهد 1 / 447، والتفريغ لابن الجلاب 1 / 401، والكافي لابن عبد البر 1 /
428 - ط الرياض.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 541.
(39/380)
التَّضَادُّ مِنْ حَيْثُ أَنَّ
الْمُذَكَّاةَ يَحِل أَكْلُهَا، أَمَّا الْمَيْتَةُ فَلاَ يَحِل أَكْلُهَا.
ب - الْمُنْخَنِقَةُ:
3 - الْمُنْخَنِقَةُ هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا - بِحَبْلٍ أَوْ
بِغَيْرِ حَبْلٍ - إِمَّا قَصْدًا، وَإِمَّا اتِّفَاقًا بِأَنْ تَتَخَبَّطَ
الدَّابَّةُ فِي وِثَاقِهَا، فَتَمُوتَ بِهِ.
قَال الرَّازِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى وُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ،
فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَمِنْهَا: مَا يُخْنَقُ بِحَبْل الصَّائِدِ.
وَمِنْهَا: مَا يَدْخُل رَأْسُهَا بَيْنَ عُودَيْنِ فِي شَجَرَةٍ،
فَتَخْتَنِقُ، فَتَمُوتُ. وَالْمُنْخَنِقَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ،
لأَِنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ وَمَا سَال دَمُهَا، كَانَتْ كَالْمَيِّتِ
حَتْفَ أَنْفِهِ، إِلاَّ أَنَّهَا فَارَقَتِ الْمَيْتَةَ بِكَوْنِهَا
تَمُوتُ بِسَبَبِ انْعِصَارِ الْحَلْقِ بِالْخَنْقِ (1) .
فَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ.
ج - الْمَوْقُوذَةُ:
4 - الْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، يُقَال:
وَقَذَهَا وَأَوْقَذَهَا، إِذَا ضَرَبَهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَيَدْخُل
فِي الْمَوْقُوذَةِ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقِ فَمَاتَ. قَال الضَّحَّاكُ:
كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الأَْنْعَامَ بِالْخَشَبِ
لآِلِهَتِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهَا، فَيَأْكُلُوهَا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي 11 / 133، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 538،
والكشاف 1 / 322.
(39/381)
وَالْمَوْقُوذَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ،
مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَاتَتْ دُونَ تَذْكِيَةٍ (1) .
وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمَوْقُوذَةِ.
د - الْمُتَرَدِّيَةُ:
5 - الْمُتَرَدِّي: هُوَ الْوَاقِعُ فِي الرَّدَى، وَهُوَ الْهَلاَكُ.
وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ تَطِيحُ فِي
بِئْرٍ، أَوْ تَسْقُطُ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَمُوتُ. وَالْمُتَرَدِّيَةُ مِنْ
جِنْسِ الْمَيْتَةِ، لأَِنَّهَا مَاتَتْ دُونَ تَذْكِيَةٍ (2) .
وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَرَدِّيَةِ.
هـ - النَّطِيحَةُ:
6 - النَّطِيحَةُ هِيَ الْمَنْطُوحَةُ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَذَلِكَ مِثْل
كَبْشَيْنِ تَنَاطَحَا إِلَى أَنْ مَاتَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا.
وَالنَّطِيحَةُ مِنَ الْمَيْتَةِ، لأَِنَّهَا مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ
تَذْكِيَةٍ (3) .
وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنَ النَّطِيحَةِ.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 538، والتسهيل لعلوم التنزيل ص 167،
وتفسير الفخر الرازي 11 / 133، والكشاف 1 / 322، وأحكام القرآن للكيا
الهراس 3 / 42، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 297.
(2) الكشاف للزمخشري 1 / 322، والتسهيل لابن جزي ص 167، وتفسير الرازي 11 /
133.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 538، والكشاف 1 / 322، وتفسير الرازي 11
/ 133، والتسهيل ص 167، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 298.
(39/381)
و - الْمَيِّتُ:
7 - الْمَيِّتُ فِي اللُّغَةِ - بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ - يُقَال:
مَيِّتٌ وَمَيْتٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَّكَّرُ
وَالْمُؤَنَّثُ، قَال تَعَالَى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا (1) ،
وَقَال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُل مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}
(2) ، وَالْمَيِّتُ هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ، وَجَمْعُهُ أَمْوَاتٌ
وَمَوْتَى (3) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ، وَالْمَوْتَى جَمْعُ مَنْ
يَعْقِل، وَالْمَيِّتُونَ مُخْتَصٌّ بِذُكُورِ الْعُقَلاَءِ،
وَالْمَيِّتَاتُ بِالتَّشْدِيدِ مُخْتَصَّةٌ لإِِنَاثِهِمْ،
وَبِالتَّخْفِيفِ لِلْحَيَوَانَاتِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتَةِ هُوَ أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا قَدْ فَارَقَ الْحَيَاةَ.
ز - الذَّبِيحَةُ عَلَى النُّصُبِ
8 - النُّصُبُ هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ مَنْصُوبَةً حَوْل الْبَيْتِ
الْحَرَامِ، وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا
وَيَشْرَحُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا، وَيُعَظِّمُونَهَا بِذَلِكَ،
وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، قَال ابْنُ جُزَيٍّ: وَلَيْسَتْ هِيَ
بِالأَْصْنَامِ، لأَِنَّ الأَْصْنَامَ مُصَوَّرَةٌ،
__________
(1) سورة الفرقان / 49.
(2) سورة إبراهيم / 17.
(3) لسان العرب، والمعجم الوسيط.
(4) قواعد الفقه للبركتي.
(39/382)
وَالنُّصُبُ غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ،
وَتُسَمَّى الأَْنْصَابَ، وَالْمُفْرَدُ نِصَابٌ، وَقِيل: إِنَّ النُّصُبَ
مُفْرَدٌ، وَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ (1) .
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ
الشَّرْعِيِّ، وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
ج - أَكِيلَةُ السَّبُعِ:
9 - أَكِيلَةُ السَّبُعِ هِيَ مَا بَقِيَ مِمَّا أَكَلَهُ السَّبُعُ أَوِ
افْتَرَسَهُ مِنَ الْمَاشِيَةِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا
جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ، وَأَكَل بَعْضَهُ، أَكَلُوا مَا
بَقِيَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (2) .
وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ دَاخِلَةٌ فِي الْمَيْتَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ
الشَّرْعِيِّ، وَالْمَيْتَةُ أَعَمُّ مِنْهَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَيْتَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
حُرْمَةُ أَكْل الْمَيْتَةِ:
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْل الْمَيْتَةِ فِي حَالَةِ
السَّعَةِ وَالاِخْتِيَارِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) التسهيل لابن جزي ص 168، والكشاف 1 / 322، وتفسير الرازي 11 / 134.
(2) تفسير الرازي 11 / 134، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 539.
(3) تبيين الحقائق 5 / 185، والكافي لابن عبد البر 1 / 439 - ط الرياض،
وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 52، ولباب اللباب لابن راشد القفصي ص 75،
وبداية المجتهد 1 / 440 و 465، وشرح منتهى الإرادات 3 / 396، والمبدع 9 /
193، وكشاف القناع 6 / 188، والمغني لابن قدامة 13 / 330 (ط هجر) .
(39/382)
00 {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ
اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وَقَدْ عَبَّرَ الإِْمَامُ الرَّازِيُّ عَنْ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ أَكْل
الْمَيْتَةِ الَّتِي نَفَقَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ
أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعُقُول، لأَِنَّ
الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا، فَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ حَتْفَ
أَنْفِهِ احْتَبَسَ الدَّمُ فِي عُرُوقِهِ وَتَعَفَّنَ وَفَسَدَ، وَحَصَل
مِنْ أَكْلِهِ مَضَارُّ عَظِيمَةٌ (2) .
وَأَمَّا حِكْمَةُ تَحْرِيمِ أَكْل الْمَيْتَةِ الَّتِي قُتِلَتْ عَلَى
هَيْئَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ (أَيْ بِدُونِ تَذْكِيَةٍ) فَقَدْ أَوْضَحَهَا
الإُْمَامُ ابْنُ الْقُيِّمِ بِقَوْلِهِ: فَلأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، وَالْخَبَثُ الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ
قَدْ يَظْهَرُ لَنَا وَقَدْ يَخْفَى، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَنْصِبْ
عَلَيْهِ الشَّارِعُ عَلاَمَةً غَيْرَ وَصْفِهِ، وَمَا كَانَ خَفِيًّا
نَصَبَ عَلَيْهِ عَلاَمَةً تَدُل عَلَى خَبَثِهِ.
فَاحْتِقَانُ الدَّمِ فِي الْمَيْتَةِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا
__________
(1) سورة البقرة / 173.
(2) تفسير الرازي 11 / 132.
(39/383)
ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ
وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ وَمَنْ أَهَل بِذَبِيحَتِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ،
فَنَفْسُ ذَبِيحَةِ هَؤُلاَءِ أَكْسَبَتِ الْمَذْبُوحَ خَبَثًا أَوْجَبَ
تَحْرِيمَهُ، وَلاَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ اسْمِ الأَْوْثَانِ
وَالْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ عَلَى الذَّبِيحَةِ يُكْسِبُهَا خَبَثًا،
وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ يُكْسِبُهَا طِيبًا إِلاَّ مَنْ قَل
نَصِيبُهُ مِنْ حَقَائِقِ الْعِلْمِ وَالإِْيمَانِ وَذَوْقِ الشَّرِيعَةِ
(1) .
11 - وَأَمَّا فِي حَالَةِ الإِْلْجَاءِ وَالاِضْطِرَارِ، فَقَدْ ذَهَبَ
الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَئِذٍ، فَمَنِ اضْطُرَّ
إِلَى أَكْل الْمَيْتَةِ إِمَّا بِإِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ
بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ أَوْ بِفَقْرٍ لاَ يَجِدُ مَعَهُ غَيْرَ
الْمَيْتَةِ، حَل لَهُ ذَلِكَ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ (2) ، حَيْثُ جَاءَ
فِي التَّنْزِيل بَعْدَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وَقَال سُبْحَانَهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(4) .
قَال الزَّيْلَعِيُّ: فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 154.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 156 - 159، ورد المحتار 5 / 215، وأحكام
القرآن لابن العربي 1 / 55، والمغني لابن قدامة 13 / 330.
(3) سورة البقرة / 173.
(4) سورة المائدة / 3.
(39/383)
بِحَالَةِ الاِخْتِيَارِ، وَفِي حَالَةِ
الاِضْطِرَارِ مُبَاحٌ (1) ، لأَِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ
الْمَحْظُورَاتِ (2) .
12 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ
لأَِكْل الْمَيْتَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا،
وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ (3) .
الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا مَخُوفًا
أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ طُول مُدَّتِهِ، أَوِ انْقِطَاعَهُ عَنْ رُفْقَتِهِ،
أَوْ خَوْفَ ضَعْفٍ عَنْ مَشْيٍ أَوْ رُكُوبٍ، فَيُسَمَّى هَذَا الْخَائِفُ
مُضْطَرًّا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
الثَّالِثُ: خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 185.
(2) المادة 21 من مجلة الأحكام العدلية، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 94،
والأشباه والنظائر للسيوطي ص 84، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 317،
وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 365.
(3) الخرشي 3 / 28، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 603، والكافي لابن عبد البر 1
/ 439 - ط الرياض، والقوانين الفقهية ص 178، ولباب اللباب للقفصي ص 75،
وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، وبداية المجتهد 1 / 476، والذخيرة
للقرافي 4 / 109.
(4) مغني المحتاج 4 / 306، والمجموع للنووي 9 / 42، وتحفة المحتاج 9 / 390،
وكشاف القناع 6 / 194، وشرح المنتهى 3 / 400، وكفاية الأخيار 2 / 144.
(39/384)
أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الأَْكْل،
وَيَحْصُل ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَجِدُ فِيهِ غَيْرَ الْمَيْتَةِ، أَوْ
أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا
بِوَعِيدٍ يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
هَذَا فِي مَيْتَةِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ، وَأَمَّا مَيْتَةُ الآْدَمِيِّ
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (ضَرُورَةٌ ف 10) .
13 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ
الاِضْطِرَارِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: الْوُجُوبُ، فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْل الْمَيْتَةِ، وَجَبَ
عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الأَْكْل وَصَبَرَ حَتَّى
مَاتَ أَثِمَ، وَهُوَ قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ
وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 159، وتبيين الحقائق 5 / 185.
(2) رد المحتار 5 / 215، وتبيين الحقائق 5 / 185، وأحكام القرآن للجصاص 1 /
157، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 56، والتسهيل لابن جزي ص 69، والمجموع
للنووي 9 / 42، ومغني المحتاج 4 / 306، وكشاف القناع 6 / 194، وشرح المنتهى
3 / 400، والمبدع 9 / 205، والمغني 13 / 331، وعدة الصابرين لابن القيم ص
30، والذخيرة 4 / 110، والإنصاف 10 / 37.
(39/384)
00 {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} (1) حَيْثُ أَنَّ تَرْكَ الأَْكْل مَعَ إِمْكَانِهِ فِي
هَذِهِ الْحَال إِلْقَاءٌ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا} (2) ، وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا
أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، فَلَزِمَهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ
حَلاَلٌ (3) .
الثَّانِي. الإِْبَاحَةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَسَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي إِسَحَاقَ الشِّيرَازِيِّ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَوِ
امْتَنَعَ الْمُضْطَرُّ عَنْ أَكْلِهَا حَتَّى مَاتَ، فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ (4) ، لأَِنَّ إِبَاحَةَ الأَْكْل رُخْصَةٌ، فَلاَ تَجِبُ
عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ. وَلأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ
النَّجَاسَةِ وَالأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ
بِتَنَاوُل الْمَيْتَةِ، وَفَارَقَ الْحَلاَل فِي الأَْصْل مِنْ هَذِهِ
الْوُجُوهِ (5) .
الثَّالِثُ: النَّدْبُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ (6) .
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) سورة النساء / 29.
(3) المغني 13 / 332.
(4) تبيين الحقائق 5 / 185، والذخيرة 4 / 110، والمجموع شرح المهذب 9 / 40،
والمغني 13 / 332.
(5) المغني 13 / 332.
(6) المبدع 9 / 205.
(39/385)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (ضَرُورَةٌ ف 10،
أَطْعِمَةٌ ف 90) .
مِقْدَارُ مَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُلُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ مَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ
تَنَاوُلُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ حَبِيْبٍ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ مَا يَسُدُّ
بِهِ رَمَقَهُ (1) ، أَيْ: مَا يَحْفَظُ بِهِ حَيَاتَهُ، قَال الصَّاوِيُّ:
الْمُرَادُ بِالرَّمَقِ: الْحَيَاةُ، وَسَدُّهَا: حِفْظُهَا (2) .
لأَِنَّ مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (3) ، وَذَلِكَ
أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ، وَاسْتَثْنَى مَا اضْطُرَّ
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار 5 / 215، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 157،
160، وتفسير الرازي 5 / 24، والإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 257، وأحكام
القرآن لابن العربي 1 / 55، 56، وبداية المجتهد 1 / 476، والمجموع 9 / 43،
ومغني المحتاج 4 / 307، والمغني لابن قدامة 13 / 330، وكشاف القناع 6 /
194، وشرح المنتهى 3 / 400، والمبدع 9 / 206، وكفاية الأخيار 2 / 143.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 183.
(3) الأشباه لابن نجيم ص 95، المادة 22، من مجلة الأحكام العدلية، والمنثور
في القواعد 2 / 320، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 84.
(39/385)
إِلَيْهِ، فَإِذَا انْدَفَعَتِ
الضَّرُورَةُ، عَادَتِ الْحُرْمَةُ كَحَالَةِ الاِبْتِدَاءِ (1) .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ، فَزَال
الْحُكْمُ بِزَوَال عِلَّتِهِ، لأَِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنَّ
الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا (2) .
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
قَوْلٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَشْبَعَ، لأَِنَّ
الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ، فَتَعُودُ مُبَاحَةً كَسَائِرِ
الأَْطْعِمَةِ (3) ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً نَزَل الْحَرَّةَ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ
نَاقَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسْلُخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ
شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَال: حَتَّى أَسْأَل رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَال: هَل
عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟ قَال: لاَ، قَال: فَكُلُوهَا (4) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 400.
(2) كفاية الأخيار 2 / 144.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 55، عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 1 /
603، والذخيرة للقرافي 4 / 109، والشرح الصغير للدردير 2 / 184، والتسهيل
لابن جزي ص 69، ولباب اللباب للقفصي ص 75، والقوانين الفقهية ص 178،
والتفريع لابن الجلاب 1 / 407، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، والخرشي 3 /
28، وبداية المجتهد 1 / 466، والمجموع شرح المهذب 9 / 40، 42، وكفاية
الأخيار 2 / 144، والمبدع 9 / 206، والمغني 13 / 331، وتفسير الرازي 5 /
24.
(4) حديث جابر بن سمرة " أن رجلاً نزل الحرة. . . ". أخرجه أبو داود (4 /
166 - 167 - ط حمص) وأحمد (5 / 104 ط الميمنية) ، وسكت عنه المنذري (5 /
326 ط دار المعرفة) ، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (9 / 30 ط دار الجيل) :
وليس في إسناده مطعن.
(39/386)
الثَّالِثُ: لِعُبَيْدِ الَّلهِ بْنِ
الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ: وَهُوَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُل مِنْهَا مَا
يَسُدُّ جُوعَهُ، وَذَلِكَ فَوْقَ قَدْرِ إِمْسَاكِ الرَّمَقِ (1) .
تَزَوُّدُ الْمُضْطَرِّ بِالْمَيْتَةِ:
15 - إِذَا خَشِيَ الْمُضْطَرُّ اسْتِمْرَارَ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَهَل
يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّدُ مِنَ الْمَيْتَةِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ
ذَلِكَ، فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ
ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي اسْتِصْحَابِهَا وَلاَ فِي إِعْدَادِهَا لِدَفْعِ
ضَرُورَتِهِ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلاَ يَأْكُل مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ
ضَرُورَتِهِ (2) .
__________
(1) تفسير الرازي 5 / 24، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 160.
(2) الذخيرة للقرافي 4 / 109، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 603، والشرح الصغير
للدردير 2 / 184، ولباب اللباب للقفصي ص 75، والقوانين الفقهية ص 178،
والكافي لابن عبد البر 1 / 439، وبداية المجتهد 1 / 476، والتفريع لابن
الجلاب 1 / 407، وكفاية الأخيار 2 / 144، ومغني المحتاج 4 / 307، وقواعد
الأحكام في مصالح الأنام 1 / 142، وكشاف القناع 6 / 194، وشرح منتهى
الإرادات 3 / 400، والمغني 13 / 333، ومغني المحتاج 4 / 307.
(39/386)
وَالثَّانِي: لأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ تَوَسَّعَ
فِيمَا لَمْ يُبَحْ إِلاَّ لِلضَّرُورَةٍ (1) .
حُكْمُ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ
إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَنَاوُلِهَا لِلْعِلاَجِ، بِأَنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُ
أَنَّ فِيهَا شِفَاءً، وَلَمْ يَجِدْ دَوَاءً غَيْرَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
مُنْفَرِدَةً أَمْ مَخْلُوطَةً بِغَيْرِهَا فِي بَعْضِ الأَْدْوِيَةِ
الْمُرَكَّبَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الإِْبَاحَةُ،
وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ
(2) لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ
شُرْبَ أَبْوَال الإِْبِل وَأَلْبَانِهَا لِلتَّدَاوِي (3) ، قَال العز بن
عبد السلام: لأَِنَّ مَصْلَحَةَ الْعَافِيَةِ وَالسَّلاَمَةِ أَكْمَل مِنْ
مَصْلَحَةِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 13 / 333.
(2) رد المحتار 4 / 215، والبدائع 1 / 61، والمجموع للنووي 9 / 50، ونيل
الأوطار 8 / 204.
(3) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أباح للعُرنيين شرب أبوال الإبل. . .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 142 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1296 ط
عيسى الحلبي) .
(4) قواعد الأحكام 1 / 142، (ط دار الطباع بدمشق) .
(39/387)
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ. وَهُوَ
قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، لِمَا وَرَدَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ
لَمْ يَجْعَل شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا. (2)
قَال ابن القيم: وَالْمُعَالَجَةُ بِالْمُحَرَّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلاً
وَشَرْعًا، أَمَّا الشَّرْعُ فَلِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَأَمَّا الْعَقْل،
فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا حَرَّمَهُ لِخُبْثِهِ،
فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى هَذِهِ الأُْمَّةِ طَيِّبًا عُقُوبَةً
لَهَا، كَمَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ} (3) ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى هَذِهِ الأُْمَّةِ مَا حَرَّمَ
لِخَبَثِهِ، وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حَمِيَّةً لَهُمْ، وَصِيَانَةً عَنْ
تَنَاوُلِهِ، فَلاَ يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشِّفَاءُ مِنَ
الأَْسْقَامِ وَالْعِلَل، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَثَّرَ فِي إِزَالَتِهَا،
لَكِنَّهُ يُعْقِبُ سُمًّا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ
__________
(1) التفريع لابن الجلاب 1 / 408، والذخيرة للقرافي 4 / 112، وانظر بداية
المجتهد 1 / 476، وتفسير الرازي 5 / 25، والمغني 13 / 343، ومجموع فتاوى
ابن تيمية 21 / 562 وما بعدها.
(2) حديث: " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها. . . ". أخرجه ابن
حبان في صحيحه (4 / 233 ط الرسالة) وأبو يعلى في المسند (12 - ط دار
المأمون) ، من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد
(5 / 86 ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق، وقد وثقه ابن
حبان.
(3) سورة النساء / 160.
(39/387)
بِقُوَّةِ الْخُبْثِ الَّذِي فِيهِ،
فَيَكُونُ الْمُدَاوَى بِهِ قَدْ سَعَى فِي إِزَالَةِ سَقَمِ الْبَدَنِ
بِسَقَمِ الْقَلْبِ (1) .
نَجَاسَةُ الْمَيْتَةِ
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةُ
الْعَيْنِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَهَا بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) ، وَوَصَفَهَا بِالرِّجْسِ فِي قَوْلِهِ: {قُل
لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (3) وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَذَرُ
وَالنَّجَسُ، وَحَكَى الرَّازِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى نَجَاسَةِ
الْمَيْتَةِ (4) ، هَذَا فِي مَيْتَةِ غَيْرِ الآْدَمِيِّ، أَمَّا مَيْتَةُ
الآْدَمِيِّ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَةٌ) .
نَجَاسَةُ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ إِنْفَحَةِ
الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ، حَيْثُ إِنَّهَا
قَدْ تُسْتَعْمَل فِي صِنَاعَةِ الْجُبْنِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) زاد المعاد 4 / 156.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) سورة الأنعام / 145.
(4) تفسير الفخر الرازي 5 / 19.
(39/388)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي
ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَالْجُبْنُ الْمَعْقُودُ
بِهَا مُتَنَجِّسٌ، لاَ يَحِل أَكْلُهُ، لأَِنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ
تَحْرِيمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَمِنْهَا الإِْنْفَحَةُ.
وَالثَّانِي: لأَِبِيْ يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَهُوَ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ
وِعَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَل ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَل.
وَالثَّالِثُ: لأَِبِيْ حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ
رَجَّحَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، لأَِنَّ
الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْمَدَائِنَ
أَكَلُوا الْجُبْنَ، وَهُوَ يُعْمَل بِالإِْنْفَحَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ
صِغَارِ الْمَعْزِ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ (1) .
نَجَاسَةُ لَبَنِ الْمَيْتَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ اللَّبَنِ الْخَارِجِ مِنْ
مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لأَِبِيْ حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 63، 5 / 43، وتبيين الحقائق 1 / 26، والبحر الرائق 1
/ 112، وتفسير الفخر الرازي 5 / 19، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 147، والخرشي
1 / 85، ولباب اللباب ص 75، ونهاية المحتاج 1 / 227، وأحكام القرآن للكيا
الهراس 1 / 72، المغني لابن قدامة 1 / 100، والمبدع 9 / 209، 1 / 147،
والفتاوى الكبرى لابن تيمية 1 / 480، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 532.
(39/388)
عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ
شَرْعًا (1) ، وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الأَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (2) ، حَيْثُ
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا، فَلاَ
يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ مَجْرَاهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا،
وَهَذَا يَقْتَضِي الْحِل، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَالْمِنَّةُ
بِالْحَلاَل لاَ بِالْحَرَامِ.
وَالثَّانِي: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَهُوَ أَنَّهُ نَجِسٌ، لاَ يَحِل تَنَاوُلُهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (3) حَيْثُ إِنَّ تَحْرِيمَ
الْمَيْتَةِ تَحْرِيمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَمِنْهَا اللَّبَنُ،
وَلأَِنَّهُ مَائِعٌ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، فَتَنَجَّسَ بِهِ، أَشْبَهَ مَا
لَوْ حُلِبَ فِي إِنَاءٍ نَجِسٍ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 43، وتبيين الحقائق 1 / 26، أحكام القرآن للجصاص 1 /
147، وتفسير الرازي 5 / 19، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 102.
(2) سورة النحل / 66.
(3) سورة المائدة / 3.
(4) أحكام القرآن للجصاص 1 / 85، والبدائع 5 / 41 - 43، وتفسير الرازي 5 /
19، والتفريع 1 / 408، والكافي لابن عبد البر 1 / 439، والشرح الصغير 1 /
50، والخرشي 1 / 85، والمجموع 1 / 244، ونهاية المحتاج 1 / 227، وأحكام
القرآن للكيا الهراس 1 / 72، والمغني لابن قدامة 1 / 74، ومجموع فتاوى ابن
تيمية 21 / 102.
(39/389)
نَجَاسَةُ الْبَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ
الْمَيْتَةِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَةِ الْبَيْضِ الْمُنْفَصِل عَنْ
مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيْضَةَ الَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْ جَوْفِ
مَيْتَةِ الدَّجَاجِ إِذَا صَلُبَتْ قِشْرَتُهَا فَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَيَحِل
أَكْلُهَا، لأَِنَّ الْقِشْرَةَ إِذَا صَلُبَتْ حَجَزَتْ بَيْنَ
الْمَأْكُول وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ، فَتَحِل.
أَمَّا قَبْل تَصَلُّبِ قِشْرَتِهَا فَهِيَ نَجِسَةٌ لاَ تُؤْكَل (1) .
وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا هِيَ مُودَعَةٌ
فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهَا فَأَشْبَهَتِ الْوَلَدَ إِذَا خَرَجَ
حَيًّا مِنَ الْمَيْتَةِ، وَلأَِنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُخْلَقُ
مِنْهَا مِثْل أَصْلِهَا، فَأَشْبَهَتِ الْوَلَدَ الْحَيَّ، وَلاَ خِلاَفَ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْبَيْضَةِ نَجِسٌ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ
أَنَّهَا طَاهِرَةٌ يَجُوزُ أَكْلُهَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ اشْتَدَّ
قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ (3) .
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَوَجْهٌ
__________
(1) تفسير الرازي 5 / 19، والمجموع 1 / 244، والمغني 1 / 75.
(2) المجموع 1 / 244، والمغني 1 / 101.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 120، 149، والبدائع 5 / 43، وتبيين الحقائق 1
/ 26، والمجموع 1 / 244.
(39/389)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهَا
نَجِسَةٌ مُطْلَقًا، وَلاَ يَحِل أَكْلُهَا، لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنَ
الْمَيْتَةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (أَطْعِمَةٌ ف 81) .
مَا يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنَ الْمَيْتَةِ
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ مِنْ
بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ فِي
ذَلِكَ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أ - جِلْدُ الْمَيْتَةِ بَعْدَ
الدِّبَاغِ
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ
قَبْل دَبْغِهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ
عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ (2) :
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ جُلُودَ الْمَيْتَةِ تَطْهُرُ كُلُّهَا بِالدِّبَاغِ
إِلاَّ الْخِنْزِيرَ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ
الْكَلْبِ.
__________
(1) التفريع لابن الجلاب 1 / 408، والكافي لابن عبد البر 1 / 439 - ط
الرياض، والمجموع 1 / 244، والمغني 1 / 75، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 148.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 142، والبدائع 1 / 85، والشرح الصغير للدردير
1 / 52، والذخيرة 1 / 166، والتفريع 1 / 408، وبداية المجتهد 1 / 78،
والكافي لابن عبد البر 1 / 439، والمجموع 1 / 217، وأحكام القرآن للكيا
الهراس 1 / 71، وتفسير الرازي 5 / 16، ومغني المحتاج 1 / 78، والمغني 1 /
89، 94، والإنصاف 1 / 86، ومجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 95.
(39/390)
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ طَهَارَةِ جِلْدِ
الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَكِنْ يَجُوزُ
الاِنْتِفَاعُ بِذَلِكَ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ وَاسْتِعْمَالُهُ مَعَ
نَجَاسَتِهِ فِي الْيَابِسَاتِ وَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ
الْمَائِعَاتِ.
الثَّالِثُ: لأَِبِيْ يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَلِسَحْنُونٍ وَابْنِ
عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْجُلُودِ
تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ حَتَّى الْخِنْزِيرُ.
الرَّابِعُ: لأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا
يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَيْتَةِ مَا كَانَ طَاهِرًا حَال
الْحَيَاةِ.
الْخَامِسُ: لِلأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِيْ َثْورٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ، وَهُوَ طَهَارَةُ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول
اللَّحْمِ فَقَطْ.
(ر: دِبَاغَةٌ ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - صُوفُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِنْتِفَاعِ بِصُوفِ وَشَعْرِ
وَوَبَرِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ عَلَى قَوْلَيْنِ
(1) :
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 26، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 149، والبدائع 1 / 63،
والذخيرة 1 / 183، والتفريع 1 / 408، ومدارج السالكين 3 / 260، والكافي
لابن عبد البر 1 / 439، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1169، وبداية
المجتهد 1 / 78، والمجموع 1 / 231، والإنصاف 1 / 92، وتفسير الرازي 5 / 15،
والمغني 1 / 106.
(39/390)
الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ،
وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا طَاهِرٌ يَجُوزُ
الاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ اْلمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) ،
فَعَمَّ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِالإِْبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ
الْمُذَكَّى مِنْهَا وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ، وَلأَِنَّهُ عَزَّ وَجَل ذَكَرَ
هَذِهِ الأَْشْيَاءَ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ، وَالْمِنَّةُ لاَ تَقَعُ
بِالنَّجِسِ الَّذِي لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَيْتَةِ: إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا (2) .
قَال الْجَصَّاُصُ: فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ،
فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْعَظْمُ وَنَحْوُهَا مِنَ
الْمَأْكُول لَمْ يَتَنَاوَلْهَا التَّحْرِيمُ (3) .
__________
(1) سورة النحل / 80.
(2) حديث: " إنما حرم أكلها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 355) ، ومسلم
(1 / 276 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 150.
(39/391)
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ هَذِهِ
الشُّعُورَ وَالأَْصْوَافَ وَالأَْوْبَارَ أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا،
لِعَدَمِ تَعَرُّضِهَا لِلتَّعَفُّنِ وَالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى
بِطَهَارَتِهَا كَالْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ، وَلأَِنَّ نَجَاسَةَ
الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لأَِعْيَانِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ
السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي
هَذِهِ الأَْشْيَاءِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: وَحُجَّتُنَا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ قَبْل الْمَوْتِ،
فَتَكُونُ طَاهِرَةً بَعْدَهُ، عَمَلاً بِالاِسْتِصْحَابِ (1) ، وَلأَِنَّ
الْمَوْتَ لاَ يَلْحَقُهَا، إِذِ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى يَحِل
بَعْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ فِي الصُّوفِ
وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ، فَيَخْلُفَهَا الْمَوْتُ فِيهَا (2) .
الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا نَجِسٌ
لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنَ
الْمَيْتَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (3)
عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ سَائِرِ أَجْزَائِهَا.
ج - عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الاِنْتِفَاعِ بِعَظْمِ
الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ وَقَرْنِهَا
__________
(1) الذخيرة 1 / 184.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1169.
(3) سورة المائدة / 3.
(39/391)
وَظِلْفِهَا وَظُفُرِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ
بِهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ
وَهِيَ رَمِيمٌ قُل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّل مَرَّةٍ} (1)
حَيْثُ دَل عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً، فَصَارَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ
مَيْتَةً، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ
الاِنْتِفَاعُ بِهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ} (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ
أَنَّهَا طَاهِرَةٌ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا
أَجْسَامٌ مُنْتَفَعٌ بِهَا، غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ لِلتَّعَفُّنِ
وَالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِطَهَارَتِهَا، كَالْجُلُودِ
الْمَدْبُوغَةِ، وَلأَِنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ
لأَِعْيَانِهَا، بَل لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ
وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي هَذِهِ
الأَْشْيَاءِ (3) .
__________
(1) سورة يس / 78 - 79.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) بدائع الصنائع 1 / 63، وتبيين الحقائق 1 / 26، وأحكام القرآن للجصاص 1
/ 149، والإنصاف للمرداوي 1 / 92، والذخيرة للقرافي 1 / 183، والتفريع لابن
جلاب 1 / 408، وتفسير الرازي 5 / 15، والكافي لابن عبد البر 1 / 439،
وبداية المجتهد 1 / 78، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 72، والمجموع شرح
المهذب 1 / 231، والمغني لابن قدامة 1 / 97، ومختصر الفتاوى المصرية لابن
تيمية ص 26.
(39/392)
د - إِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْحَيَوَانِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ
بِإِطْعَامِهَا لِلدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ أَوِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ
وَالطَّيْرِ وَالْبَازِي الْمُعَلَّمِ وَنَحْوِهِمْ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ: وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ ذَلِك، لأَِنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ
الْمَيْتَةَ لِلْحَيَوَانِ فَقَدِ انْتَفَعَ بِتِلْكَ الْمَيْتَةِ، وقَوْله
تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (1) دَالٌّ عَلَى عَدَمِ
جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا (2) .
قَال الْجَصَّاصُ: قَال أَصْحَابُنَا: لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ
بِالْمَيْتَةِ عَلَى وَجْهٍ، وَلاَ يُطْعِمُهَا الْكِلاَبَ وَالْجَوَارِحَ،
لأَِنَّ ذَلِك ضَرْبٌ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِهَا، مُؤَكَّدًا بِهِ
حُكْمُ الْحَظْرِ، فَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ
أَنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ بِهِ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ: لاَ أَرَى أَنْ يُطْعِمَ الْكَلْبَ
الْمُعَلَّمَ الْمَيْتَةَ، وَلاَ الطَّيْرَ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 132، وتفسير الفخر الرازي 5 / 16.
(3) أحكام القرآن 1 / 132.
(39/392)
الْمُعَلَّمَ، لأَِنَّهُ يُضْرِيهِ عَلَى
الْمَيْتَةِ، فَإِنْ أَكَل الْكَلْبُ فَلاَ أَرَى صَاحِبَهُ حَرَجًا،
وَلَعَل أَحْمَدَ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ إِذَا صَادَ
وَقَتَل أَكَل مِنْهُ، لِتَضْرِيَتِهِ بِإِطْعَامِهِ الْمَيْتَةَ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ جَوَازُ إِطْعَامِ
كَلْبِهِ وَطَيْرِهِ الْبَازِي الْمُعَلَّمِ الْمَيْتَةَ، وَكَذَا عَلْفُ
دَوَابِّهِ الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا الْمَيْتَةَ، لأَِنَّ هَذِهِ
الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَتْ بِمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، وَلأَِنَّهُ
اسْتِعْمَالٌ لِلْمَيْتَةِ فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الإِْتْلاَفِ، وَلَيْسَ
فِيهِ ضَرَرٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَكَذَا يُبَاحُ أَنْ يَعْلِفَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ
مِنَ الْحَيَوَانِ كَالأَْنْعَامِ الأَْطْعِمَةَ النَّجِسَةَ إِذَا كَانَ
لاَ يُرَادُ ذَبْحُهَا أَوْ حَلْبُهَا قَرِيبًا، لأَِنَّهُ يَجُوزُ
تَرْكُهَا فِي الْمَرْعَى عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا
تَرْعَى النَّجَاسَةَ، وَيَحْرُمُ عَلْفُهَا النَّجَاسَةَ إِذَا كَانَتْ
تُؤْكَل قَرِيبًا أَوْ تُحْلَبُ قَرِيبًا، وَإِنْ تَأَخَّرَ الذَّبْحُ أَوِ
الْحَلْبُ (2) .
وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ جَوَازُ عَلْفِ
الدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانَاتِ مُطْلَقًا الطَّعَامَ النَّجِسَ، مَا أُكِل
لَحْمُهُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُؤْكَل، قَال
__________
(1) المغني 13 / 350.
(2) الكافي لابن عبد البر 1 / 439، والمغني 13 / 350، مختصر الفتاوى
المصرية لابن تيمية ص 25، والمبدع 9 / 204، وكشاف القناع 6 / 192، وشرح
منتهى الإرادات 3 / 399.
(39/393)
ابْنُ الْجَلاَّبِ: وَلاَ بَأْسَ بِعَلْفِ
الدَّوَابِّ الطَّعَامَ النَّجِسَ مَا أُكِل لَحْمُهُ وَمَا لَمْ يُؤْكَل
لَحْمُهُ (1) .
هـ - طِلاَءُ الْجُلُودِ وَالسُّفُنِ وَالاِسْتِصْبَاحُ بِدُهْنِ
الْمَيْتَةِ
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ
بِدُهْنِ الْمَيْتَةِ بِاسْتِصْبَاحٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَلاَ أَنْ تُطْلَى
بِهِ ظُهُورُ السُّفُنِ وَالْجُلُودِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ
بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالأَْصْنَامَ فَقِيل: يَا
رَسُول اللَّهِ، شُحُومُ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ،
وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَال: لاَ،
هُوَ حَرَامٌ. ثُمَّ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتَل
اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا، جَمَلُوهُ
ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ (3) . حَيْثُ بَيَّنَ
__________
(1) التفريع 1 / 407.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 145، وأحكام القرآن الكريم للكيا الهراس 1 /
71، والمغني 13 / 449، وتفسير الرازي 5 / 16.
(3) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 4 / 414 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 ط عيسى الحلبي) .
(39/393)
النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَهُ عَلَى
الإِْطْلاَقِ، وَدَخَل تَحْتَ تَحْرِيمِهِ سَائِرُ ضُرُوبِ الاِنْتِفَاعِ
بِهِ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ.
وَالثَّانِي: لِعَطَاءٍ وَهُوَ جَوَازُ دَهْنِ ظُهُورِ السُّفُنِ بِشُحُومِ
الْمَيْتَةِ (1) .
وَالثَّالِثُ: لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ
بِالنَّجَاسَاتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرُهُ.
وَحَكَى أَنَّ الإِْمَامَ أَحْمَدَ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ
ابْنِ مَنْصُورٍ (2) .
الْمَيْتَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنَ التَّحْرِيمِ
27 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ
وَجَوَازِ أَكْلِهَا (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (4) ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 145، وأحكام القرآن للكيا الهراس 1 / 71.
(2) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 26.
(3) البدائع 5 / 35، والمبسوط 11 / 249، والفتاوى الخانية 3 / 357،
والتفريع 1 / 405، والقوانين الفقهية ص 176، وبداية المجتهد 1 / 76، 465،
والذخيرة 1 / 179، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 52، والشرح الصغير 2 /
182، ومغني المحتاج 4 / 297، والمجموع 9 / 23، 31، وشرح منتهى الإرادات 3 /
399، والمغني 13 / 299، 345، وكشاف القناع 6 / 192.
(4) سورة المائدة / 96.
(39/394)
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا صِيدَ
مِنْهُ، وَطَعَامَهُ مَا مَاتَ فِيهِ (1) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ (2) .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْجَرَادِ، وَجَوَازِ
أَكْلِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا
مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ،
وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال (3) .
وَقَدْ عَلَّل ابْنُ الْقَيِّمِ ذَلِكَ الْحُكْمَ الاِسْتِثْنَائِيَّ
بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْمَيْتَةَ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لاِحْتِقَانِ
الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلاَتِ وَالدَّمِ الْخَبِيثِ فِيهَا، وَالذَّكَاةُ
لَمَّا كَانَتْ تُزِيل ذَلِكَ الدَّمَ وَالْفَضَلاَتِ كَانَتْ سَبَبَ
الْحِل، وَإِلاَّ فَالْمَوْتُ لاَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَإِنَّهُ
حَاصِلٌ بِالذَّكَاةِ كَمَا يَحْصُل بِغَيْرِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي
الْحَيَوَانِ دَمٌ وَفَضَلاَتٌ
__________
(1) فتح الباري 9 / 529، وسنن البيهقي 9 / 254.
(2) حديث: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". أخرجه أبو داود (1 / 64 ط حمص) ،
والترمذي (1 / 101 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3) حديث: " أحلت لنا ميتتان. . . ". أخرجه أحمد (2 / 97 ط الميمنية) ،
وضعف إسناده ابن حجر (بلوغ المرام ص 28 ط دار إحياء العلوم) .
(39/394)
تُزِيلُهَا الذَّكَاةُ لَمْ يَحْرُمْ
بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِحِلِّهِ ذَكَاةٌ كَالْجَرَادِ، وَلِهَذَا
لاَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً كَالذُّبَابِ
وَالنَّحْلَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالسَّمَكُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، فَإِنَّهُ
لَوْ كَانَ لَهُ دَمٌ وَفَضَلاَتٌ تَحْتَقِنُ بِمَوْتِهِ لَمْ يَحِل
لِمَوْتِهِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ (1) .
(ر: أَطْعِمَةٌ ف 15، 53) .
مِيرَاثٌ
انْظُرْ: إِرْثٌ.
__________
(1) زاد المعاد 3 / 393.
(39/395)
|