الموسوعة
الفقهية الكويتية نَائِحَة
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّائِحَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَبْكِي عَلَى
الْمَيِّتِ وَتُعَدِّدُ مَحَاسِنَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ
مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ النَّائِحَةَ تُعَزَّرُ وَتُحْبَسُ حَتَّى
تُحْدِثَ تَوْبَةً (3) ، حَكَى الأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ صَوْتَ بُكَاءٍ، فَدَخَل
وَمَعَهُ غَيْرُهُ، فَمَال عَلَيْهِمْ ضَرْبًا حَتَّى بَلَغَ النَّائِحَةَ،
فَضَرَبَهَا حَتَّى سَقَطَ خِمَارُهَا، فَقَال: اضْرِبْ فَإِنَّهَا
نَائِحَةٌ وَلاَ حُرْمَةَ لَهَا، إِنَّهَا لاَ تَبْكِي لِشَجْوِكُمْ،
إِنَّهَا تُهْرِيقُ دُمُوعَهَا عَلَى أَخْذِ دَرَاهِمِكُمْ، وَإِنَّهَا
تُؤْذِي مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ،
__________
(1) المغرب للمطرزي.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 34، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 343، والزواجر 1 /
161.
(3) فتح القدير 4 / 318 ط الأميرية.
(40/5)
وَأَحْيَاءَكُمْ فِي دُورِهِمْ، إِنَّهَا
تَنْهَى عَنِ الصَّبْرِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَأْمُرُ
بِالْجَزَعِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (1) .
. وَقَال الشَّيْزَرِيُّ: يَتَفَقَّدُ الْمُحْتَسِبُ الْمَآتِمَ
وَالْمَقَابِرَ، فَإِذَا سَمِعَ نَادِبَةً أَوْ نَائِحَةً عَزَّرَهَا
وَمَنَعَهَا؛ لأَِنَّ النُّوَاحَ حَرَامٌ (2) . قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّائِحَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا فِي النَّارِ
" (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ (ر:
نِيَاحَة) .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 160 ط دار المعارف.
(2) نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 110 ط دار الثقافة ـ بيروت.
(3) حديث: " النائحة ومن حولها في النار ". أورده بهذا اللفظ الشيزري فِي
نهاية الرتبة في طلب الحسبة (ص 110 - ط دار الثقافة) ولم يعزه إلى أي مصدر
حديثي، ولم نهتد لمن أخرجه بهذا اللفظ، ولكن أخرج الطبراني (12 / 426 - 427
ط العراق) مرفوعا: " النائحة ومن حوله وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1 /
191 ط القدسي) وذكر أن في إسناده راويين لم ير من ذكرهما.
(40/5)
نَاب
انْظُرْ: سِن
نَار
انْظُرْ: إِحْرَاق
نَازِلَة
انْظُرْ: قُنُوت، جَائِحَة
(40/6)
نَاضّ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّاضُّ - فِي اللُّغَةِ - اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ الْفِعْل نَضَّ،
يُقَال: نَضَّ الْمَاءُ: سَال، وَالنَّاضُّ مِنَ الْمَاءِ: مَا لَهُ
مَادَّةٌ وَبَقَاءٌ، وَنَضَّ الثَّمَنُ: حَصَل وَتَعَجَّل، وَالنَّضُّ:
الدِّرْهَمُ الصَّامِتُ، وَالنَّاضُّ مِنَ الْمَتَاعِ: مَا تَحَوَّل
وَرِقًا أَوْ عَيْنًا، وَأَهْل الْحِجَازِ يُسَمُّونَ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ نَضًّا وَنَاضًّا، وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهُ نَاضًّا إِذَا
تَحَوَّل عَيْنًا بَعْدَ مَا كَانَ مَتَاعًا؛ لأَِنَّهُ يُقَال: مَا نَضَّ
بِيَدِي مِنْهُ شَيْءٌ، أَيْ مَا حَصَل، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: كَانَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ نَاضِّ الْمَال
(1) ، وَهُوَ مَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، عَيْنًا أَوْ وَرِقًا. (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
__________
(1) حديث عمر رضي الله تعالى عنه " كان يأخذ الزكاة من
ناض المال ". أورده ابن الأثير في
النهاية 5 / 72 ط دار الفكر
(2) لسان العرب، والمصباح المنير
(3) حاشية الدسوقي 3 / 535، وحاشية الجمل 2 / 268، وكشاف القناع 3 / 506.
(40/6)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاضِّ مِنْ
أَحْكَامٍ:
اشْتِرَاطُ النَّضُوضِ لِوُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ:
2 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِي
زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ إِذَا كَانَ التَّاجِرُ مُدِيرًا - وَهُوَ
الَّذِي يَبِيعُ وَيَشْتَرِي كَأَرْبَابِ الْحَوَانِيتِ - أَنْ يَنِضَّ
لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَال، وَلَوْ قَل كَدِرْهَمٍ لاَ أَقَل، فَإِذَا نَضَّ
لَهُ دِرْهَمٌ فَأَكْثَرُ فَإِنَّهُ فِي آخِرِ الْحَوْل يُقَوِّمُ عُرُوضَ
تِجَارَتِهِ، وَيُخْرِجُ عَمَّا قَوَّمَهُ عَيْنًا لاَ عَرَضًا، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنِضَّ لَهُ فِي أَوَّل الْحَوْل أَوْ وَسَطِهِ أَوْ
آخِرِهِ (1) .
وَذَكَرَ أَشْهَبُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنِضَّ لَهُ نِصَابٌ، وَقَال
ابْنُ حَبِيبٍ: إِنَّهُ يُزَكِّي وَلَوْ لَمْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ (2) .
فَإِنْ لَمْ يَنِضَّ لِلتَّاجِرِ شَيْءٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، قَال
سَحْنُونٌ لاِبْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً كَانَ يُدِيرُ مَالَهُ
لِلتِّجَارَةِ لاَ يَنِضُّ لَهُ شَيْءٌ، فَاشْتَرَى بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُ
حِنْطَةً، فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُهُ الَّذِي يُقَوَّمُ فِيهِ كَانَ جَمِيعُ
مَالِهِ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ حِنْطَةً فَقَال: أَنَا أُؤَدِّي إِلَى
الْمَسَاكِينِ رُبْعَ عُشْرِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ كَيْلاً وَلاَ أُقَوِّمُ،
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: قَال لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِذَا كَانَ رَجُلٌ
يُدِيرُ مَالَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلاَ يَنِضُّ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 473، 474، والحطاب 2 / 320.
(2) الحطاب 2 / 320.
(40/7)
لَهُ شَيْءٌ، إِنَّمَا يَبِيعُ الْعَرَضَ
بِالْعَرَضِ فَهَذَا لاَ يُقَوِّمُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لاَ
زَكَاةَ وَلاَ يُقَوِّمُ حَتَّى يَنِضَّ لَهُ بَعْضُ مَالِهِ، قَال
مَالِكٌ: وَمَنْ كَانَ يَبِيعُ بِالْعَيْنِ وَالْعَرَضِ فَذَلِكَ الَّذِي
يُقَوِّمُ (1) .
وَفِي الْحَطَّابِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلاَّ
بِالنَّضُوضِ، وَأَنَّهَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ الْعَرَضَ
بِالْعَرَضِ، قَال الرَّجْرَاجِيُّ فِي الْمُدِيرِ إِذَا كَانَ يَبِيعُ
الْعَرَضَ بِالْعَرَضِ ذَرِيعَةً لإِِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلاَ يَجُوزُ
لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذْهَبِ، وَيُؤْخَذُ بِزَكَاةِ مَا عِنْدَهُ
مِنَ الْمَال، وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ كَانَ يَبِيعُ الْعَرَضَ
بِالْعَرَضِ وَلاَ يَنِضُّ لَهُ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ عَيْنٌ فَلاَ زَكَاةَ
عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَلاَ
تَسْقُطُ عَنْهُ (2) .
وَالتَّاجِرُ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ وَكَانَ مُدِيرًا وَقَدْ نَضَّ
لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ وَلَوْ دِرْهَمًا فَقِيل: إِنَّهُ
يُقَوِّمُ عُرُوضَهُ وَدُيُونَهُ وَيُزَكِّيهَا مَعَ مَا بِيَدِهِ مِنَ
الْعَيْنِ لِحَوْلٍ مِنْ إِسْلاَمِهِ، وَقِيل: إِنَّهُ يَسْتَقْبِل
بِثَمَنِ مَا بَاعَ بِهِ مِنْ عُرُوضِ الإِْدَارَةِ حَوْلاً بَعْدَ
قَبْضِهِ إِذَا كَانَ نِصَابًا؛ لأَِنَّهُ كَالْفَائِدَةِ، فَإِنْ كَانَ
أَقَل مِنْ نِصَابٍ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ (3) .
وَفِي الْمَوَّاقِ بِالنِّسْبَةِ لِمَال الْقِرَاضِ، قَال ابْنُ
__________
(1) المدونة 1 / 254 - 255.
(2) الحطاب 2 / 321.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 477.
(40/7)
رُشْدٍ: إِنْ كَانَ الْعَامِل حَاضِرًا
مَعَ رَبِّ الْمَال، فَكَانَا جَمِيعًا مُدِيرَيْنِ فَلاَ زَكَاةَ
عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنِضَّ الْمَال وَيَتَفَاصَلاَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمَال
بِيَدِهِ أَحْوَالاً (1) .
وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْعَامِل وَرَبِّ الْمَال
مُدِيرًا يَكْفِي النَّضُوضُ لأَِحَدِهِمَا، وَإِنْ أَدَارَ الْعَامِل
فَقَطْ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَنِضَّ لَهُ شَيْءٌ.
وَقَال اللَّقَانِيُّ: يُشْتَرَطُ النَّضُوضُ فِيمَنْ لَهُ الْحُكْمُ (2) .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ النَّضُوضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ضَمِّ رِبْحِ
التِّجَارَةِ إِلَى الأَْصْل أَوْ عَدَمِ ضَمِّهِ.
قَالُوا: يَضُمُّ رِبْحَ التِّجَارَةِ الْحَاصِل أَثْنَاءَ الْحَوْل إِلَى
الأَْصْل فِي الْحَوْل، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَنِضَّ، فَلَوِ اشْتَرَى
عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قَبْل آخِرِ الْحَوْل
وَلَوْ بِلَحْظَةٍ ثَلاَثَمِائَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُزَكِّي الْجَمِيعَ آخِرَ
الْحَوْل، سَوَاءٌ أَحَصَل الرِّبْحُ بِزِيَادَةٍ فِي نَفْسِ الْعَرَضِ
كَسَمْنِ الْحَيَوَانِ أَمْ بِارْتِفَاعِ الأَْسْوَاقِ.
أَمَّا إِذَا نَضَّ - أَيْ صَارَ الْكُل نَاضًّا - دَرَاهِمُ أَوْ
دَنَانِيرُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال الَّذِي هُوَ نِصَابٌ، وَأَمْسَكَهُ
إِلَى آخِرِ الْحَوْل، أَوِ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا قَبْل تَمَامِهِ
فَيُفْرِدُ الرِّبْحَ بِحَوْلِهِ وَيُزَكِّي الأَْصْل بِحَوْلِهِ، وَهَذَا
فِي الأَْظْهَرِ، وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ نَاضًّا بِالْبَيْعِ
__________
(1) المواق بهامش الحطاب 2 / 325.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 477.
(40/8)
أَوْ بِإِتْلاَفِ أَجْنَبِيٍّ، فَإِذَا
اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
بِثَلاَثِمِائَةٍ، وَأَمْسَكَهَا إِلَى تَمَامِ الْحَوْل، أَوِ اشْتَرَى
بِهَا عَرَضًا، وَهُوَ يُسَاوِي ثَلاَثَمِائَةٍ فِي آخِرِ الْحَوْل
فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْ مِائَتَيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ
أَشْهُرٍ أُخْرَى أَخْرَجَ عَنِ الْمِائَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ
أَنَّهُ يُزَكِّي الرِّبْحَ بِحَوْل الأَْصْل، كَمَا يُزَكِّي النِّتَاجَ
بِحَوْل الأُْمَّهَاتِ.
هَذَا إِذَا كَانَ النَّاضُّ مَنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال، أَمَّا إِذَا
كَانَ النَّاضُّ الْمَبِيعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال فَهُوَ
كَبَيْعِ عَرَضٍ بِعَرَضٍ فَيَضُمُّ الرِّبْحَ إِلَى الأَْصْل، وَهَذَا
هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيل عَلَى الْخِلاَفِ فِيمَا هُوَ مِنِ الْجِنْسِ.
وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَال دُونَ نِصَابٍ: كَأَنِ اشْتَرَى عَرَضًا
بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِمِائَتَيْ
دِرْهَمٍ، وَأَمْسَكَهَا إِلَى تَمَامِ حَوْل الشِّرَاءِ، وَاعْتَبَرْنَا
النِّصَابَ آخِرَ الْحَوْل فَقَطْ زَكَّاهُمَا إِنْ ضَمَمْنَا الرِّبْحَ
النَّاضَّ إِلَى الأَْصْل، وَهَذَا عَلَى الْقَوْل الْمَرْجُوحِ، وَإِنْ
لَمْ يَضُمَّ الرِّبْحَ إِلَى الأَْصْل - وَهَذَا عَلَى الْقَوْل
الرَّاجِحِ - فَإِنَّهُ يُزَكِّي مِائَةً وَالرِّبْحَ بَعْدَ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ وَزَكَّى مِائَةَ الأَْصْل قَبْلَهَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْل
التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّ النَّضُوضَ لاَ يَقْطَعُهُ؛ لِكَوْنِهِ نِصَابًا.
وَإِنِ اعْتَبَرْنَا النِّصَابَ فِي جَمِيعِ الْحَوْل أَوْ فِي طَرَفَيْهِ
فَابْتِدَاءُ حَوْل الْجَمِيعِ مِنْ حِينِ بَاعَ وَنَضَّ
(40/8)
فَإِذَا تَمَّ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ (1) .
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي فَسْخِ الشَّرِكَةِ:
3 - الشَّرِكَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لاَزِمٍ وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ
الشَّرِيكَيْنِ فَسْخُ الشَّرِكَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ
يَشْتَرِطُ لِفَسْخِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَكُونَ مَال الشَّرِكَةِ نَاضًّا،
أَيْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَإِذَا كَانَ مَال الشَّرِكَةِ عُرُوضًا
فَلاَ يَجُوزُ فَسْخُ الشَّرِكَةِ، وَتَبْقَى قَائِمَةٌ إِلَى أَنْ يَنِضَّ
الْمَال، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَةِ الْعَقْدِ ف 56، 57)
.
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ:
4 - إِذَا كَانَ رَأْسُ مَال الْمُضَارَبَةِ نَاضًّا - أَيْ صَارَ عَيْنًا
دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ - فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْعُقُودِ
الْجَائِزَةِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَال غَيْرَ نَاضٍّ بِأَنْ كَانَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 399، وشرح المحلي مع القليوبي 2 / 29، 30، والجمل على
شرح المنهج 2 / 268، وروضة الطالبين2 / 269 - 270.
(2) البدائع 6 / 109، 112، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 535، ومغني
المحتاج 2 / 319، 320، وكشاف القناع 3 / 506، 521، والمغني 5 / 64.
(40/9)
عُرُوضًا مَثَلاً فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى
الْفَسْخِ جَازَ (1) .
وَإِنْ طَلَبَ رَبُّ الْمَال أَوِ الْعَامِل تَنْضِيضَهُ فَقَدْ قَال
الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ طَلَبَ رَبُّ الْمَال أَوِ الْعَامِل نَضُوضَ
الْمَال فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الأَْصْلَحِ مِنْ تَعْجِيل
التَّنْضِيضِ أَوْ تَأْخِيرِهِ فَيَحْكُمُ بِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى
نَضُوضِهِ جَازَ كَمَا لَوِ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَةِ الْعُرُوضِ
بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ فَجَمَاعَةُ
الْمُسْلِمِينَ وَيَكْفِي مِنْهُمُ اثْنَانِ، وَاسْتَظْهَرَ الْعَدَوِيُّ
كِفَايَةَ وَاحِدٍ عَارِفٍ يَرْضَيَانِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَلْزَمُ الْعَامِل تَنْضِيضُ رَأْسِ الْمَال إِنْ
كَانَ عِنْدَ الْفَسْخِ عَرَضًا وَطَلَبَ الْمَالِكُ تَنْضِيضَهُ، سَوَاءٌ
أَكَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ أَمْ لاَ، وَلَوْ كَانَ الْمَال عِنْدَ
الْفَسْخِ نَاضًّا لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال أَوْ مِنْ
جِنْسِهِ وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ صِفَتِهِ كَالصِّحَاحِ وَالْمُكَسَّرَةِ
فَكَالْعُرُوضِ.
فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالِكُ التَّنْضِيضَ لَمْ يَجِبْ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ الْمَال لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَحَظُّهُ فِي التَّنْضِيضِ
فَيَجِبُ، وَقِيل: لاَ يَلْزَمُ الْعَامِل التَّنْضِيضُ إِذَا لَمْ يَكُنْ
رِبْحٌ إِذْ لاَ فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ انْفَسَخَ الْقِرَاضُ وَالْمَال عَرَضٌ
فَرَضِيَ رَبُّ الْمَال أَنْ يَأْخُذَ بِمَالِهِ مِنَ الْعَرَضِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 535، ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 64.
(2) الشرح الكبير 3 / 535، 536.
(3) مغني المحتاج 2 / 320.
(40/9)
فَلَهُ ذَلِكَ، فَيُقَوَّمُ الْعَرَضُ
عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ حِصَّةَ الْعَامِل؛ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ مِنَ الْعَامِل
الْبَيْعَ، وَقَدْ صَدَّقَهُ عَلَى الرِّبْحِ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ
مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَظٍّ يَكُونُ لِلْعَامِل فِي بَيْعِهِ إِنْ لَمْ
يَكُنْ حِيلَةً عَلَى قَطْعِ رِبْحِ عَامِلٍ، كَشِرَائِهِ خَزًّا فِي
الصَّيْفِ لِيَرْبَحَ فِي الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي
رِبْحِهِ، ثُمَّ إِنِ ارْتَفَعَ السِّعْرُ بَعْدَ التَّقْوِيمِ عَلَى
الْمَالِكِ وَدَفْعِهِ حِصَّةَ الْعَامِل لَمْ يُطَالِبْهُ الْعَامِل
بِشَيْءٍ، كَمَا لَوِ ارْتَفَعَ بَعْدَ بَيْعِهِ لأَِجْنَبِيٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ رَبُّ الْمَال بِأَخْذِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَرَضِ
وَطَلَبَ الْبَيْعَ أَوْ طَلَبَ الْبَيْعَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ فَسْخِ
الْمُضَارَبَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ الْمُضَارِبَ بَيْعُهُ وَلَوْ
لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ؛ لأَِنَّ عَلَى
الْعَامِل رَدَّ الْمَال نَاضًّا كَمَا أَخَذَهُ، وَإِنْ نَضَّ الْعَامِل
رَأْسَ الْمَال جَمِيعَهُ وَطَلَبَ رَبُّ الْمَال أَنْ يَنِضَّ الْبَاقِي
لَزِمَ الْعَامِل أَنْ يَنِضَّ لَهُ الْبَاقِيَ كَرَأْسِ الْمَال.
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال دَرَاهِمَ فَصَارَ دَنَانِيرَ وَعَكْسُهُ
بِأَنْ كَانَ دَنَانِيرَ فَصَارَ دَرَاهِمَ فَكَعَرَضٍ إِنْ رَضِيَهُ رَبُّ
الْمَال وَإِلاَّ لَزِمَ الْعَامِل إِعَادَتُهُ كَمَا كَانَ (1) .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَجْهَيْنِ إِذَا طَلَبَ رَبُّ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 521.
(40/10)
الْمَال الْبَيْعَ وَأَبَى الْعَامِل.
أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ الْعَامِل عَلَى الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ عَلَيْهِ رَدَّ
الْمَال نَاضًّا كَمَا أَخَذَهُ.
وَالثَّانِي: لاَ يُجْبَرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَال رِبْحٌ أَوْ
أُسْقِطَ حَقُّهُ مِنَ الرِّبْحِ؛ لأَِنَّهُ بِالْفَسْخِ زَال تَصَرُّفُهُ
وَصَارَ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمَال، فَأَشْبَهَ الْوَكِيل إِذَا اشْتَرَى
مَا يَسْتَحِقُّ رَدَّهُ فَزَالَتْ وَكَالَتُهُ قَبْل رَدِّهِ (1) .
وَإِنْ طَلَبَ الْعَامِل الْبَيْعَ وَأَبَى رَبُّ الْمَال وَقَدْ ظَهَرَ
فِي الْمَال رِبْحٌ أُجْبِرَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ قَوْل
إِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ لأَِنَّ حَقَّ الْعَامِل فِي الرِّبْحِ وَلاَ
يَظْهَرُ إِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ؛
لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ رَضِيَهُ مَالِكُهُ كَذَلِكَ
فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى بَيْعِهِ (2) .
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي إِتْمَامِ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ انْفِسَاخِهَا:
5 - مِمَّا تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ مَوْتُ رَبِّ الْمَال أَوْ
عَامِل الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَا جُنُونُ أَحَدِهِمَا، لأَِنَّ
الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ فَيَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ جُنُونِهِ كَالْوَكَالَةِ، وَهَذَا عِنْدَ
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) المغني 5 / 65.
(2) المغني 5 / 64، وكشاف القناع 3 / 520.
(3) بدائع الصنائع 6 / 112، والدر المختار على حاشية ابن عابدين 4 / 489،
ومغني المحتاج 2 / 319، والمغني 5 / 66.
(40/10)
وَإِذَا انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ
بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا
إِذَا كَانَ الْمَال عَرَضًا أَوْ نَاضًّا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَبْطُل الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ أَحَدِ
الْعَاقِدَيْنِ؛ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَشْتَمِل عَلَى الْوَكَالَةِ،
وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِمَوْتِ الْمُوَكِّل وَالْوَكِيل، وَسَوَاءٌ
عَلِمَ الْمُضَارِبُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَال أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لأَِنَّهُ
عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، فَلاَ يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ،
إِلاَّ أَنَّ رَأْسَ الْمَال إِذَا كَانَ مَتَاعًا فَلِلْوَكِيل أَنْ
يَبِيعَ حَتَّى يَصِيرَ نَاضًّا (1) .
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ
الْمُضَارِبَ إِذَا مَاتَ وَالْمَال عُرُوضٌ بَاعَهَا وَصِيُّهُ، وَلَوْ
مَاتَ رَبُّ الْمَال وَالْمَال نَقْدٌ تَبْطُل فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ،
وَلَوْ كَانَ الْمَال عَرَضًا تَبْطُل فِي حَقِّ الْمُسَافَرَةِ إِلَى
غَيْرِ بَلَدِ رَبِّ الْمَال، وَلاَ تَبْطُل فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ فَلَهُ
بَيْعُهُ بِعَرَضٍ وَنَقْدٍ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ لاَ يَنْفَسِخُ
عِنْدَهُمْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَقَارِضَيْنِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا
قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ (3) .
قَال الدَّرْدِيرُ: إِنْ مَاتَ الْعَامِل قَبْل النَّضُوضِ فَلِوَارِثِهِ
الأَْمِينِ أَنْ يُكَمِّلَهُ عَلَى حُكْمٍ مَا كَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 112.
(2) الدر المختار 4 / 489.
(3) التفريع لابن الجلاب 3 / 196.
(40/11)
مُوَرِّثُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ
الْوَارِثُ أَمِينًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمِينٍ كَالأَْوَّل فِي
الأَْمَانَةِ وَالثِّقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوَرَثَةُ بِأَمِينٍ
سَلَّمُوا الْمَال لِرَبِّهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ رِبْحٍ أَوْ أُجْرَةٍ
(1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ مَاتَ الْمَالِكُ أَوْ جُنَّ وَالْمَال
عَرَضٌ فَلِلْعَامِل التَّنْضِيضُ وَالتَّقَاضِي بِغَيْرِ إِذْنِ
الْوَرَثَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ، وَبِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ فِي
مَسْأَلَةِ الْجُنُونِ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الْعَاقِدِ كَمَا فِي حَال
الْحَيَاةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ مَاتَ الْعَامِل فَإِنَّ وَرَثَتَهُ لاَ
يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ دُونَ إِذْنِ الْمَالِكِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ
بِتَصَرُّفِهِمْ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنِ الإِْذْنِ فِي
الْبَيْعِ تَوَلاَّهُ أَمِينٌ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَلاَ يُقَرِّرُ
وَرَثَةُ الْمَالِكِ الْعَامِل عَلَى الْقِرَاضِ، كَمَا لاَ يُقَرِّرُ
الْمَالِكُ وَرَثَةَ الْعَامِل عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ
قِرَاضٍ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ عَلَى الْعَرَضِ، فَإِنْ نَضَّ الْمَال وَلَوْ
مِنْ غَيْرِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال جَازَ تَقْرِيرُ الْجَمِيعِ، فَيَكْفِي
أَنْ يَقُول الْوَرَثَةُ - أَيْ وَرَثَةُ الْمَالِكِ لِلْعَامِل -
قَرَّرْنَاكَ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ مَعَ قَبُولِهِ، أَوْ يَقُول
الْمَالِكُ لِوَرَثَةِ الْعَامِل: قَرَرْتُكُمْ عَلَى مَا كَانَ
مُوَرِّثُكُمْ عَلَيْهِ مَعَ قَبُولِهِمْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَقَدْ
يُسْتَعْمَل التَّقْرِيرُ لإِِنْشَاءِ عَقْدٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ
السَّابِقِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَأَيُّ الْمُتَقَارِضَيْنِ مَاتَ أَوْ جُنَّ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 3 / 536.
(2) أسنى المطالب2 / 390، ومغني المحتاج 2 / 319، 320.
(40/11)
انْفَسَخَ الْقِرَاضُ؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ
جَائِزٌ فَانْفَسَخَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجُنُونِهِ كَالتَّوْكِيل،
فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَوِ الْجُنُونُ بِرَبِّ الْمَال فَأَرَادَ
الْوَارِثُ أَوْ وَلِيُّهُ إِتْمَامَهُ وَالْمَال نَاضٌّ جَازَ، وَيَكُونُ
رَأْسُ الْمَال وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ رَأْسَ الْمَال، وَحِصَّةُ
الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ شَرِكَةً لَهُ مُشَاعَةً، وَهَذِهِ الإِْشَاعَةُ
لاَ تَمْنَعُ لأَِنَّ الشَّرِيكَ هُوَ الْعَامِل وَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ
التَّصَرُّفَ، فَإِنْ كَانَ الْمَال عَرَضًا وَأَرَادُوا إِتْمَامَهُ:
فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ جَوَازُهُ؛ لأَِنَّهُ قَال فِي رِوَايَةِ
عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ: إِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَال لَمْ يَجُزْ لِلْعَامِل
أَنْ يَبِيعَ وَلاَ يَشْتَرِيَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَرَثَةِ، فَظَاهِرُ
هَذَا بَقَاءُ الْعَامِل عَلَى قِرَاضِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا إِتْمَامٌ
لِلْقِرَاضِ لاَ ابْتِدَاءٌ لَهُ؛ وَلأَِنَّ الْقِرَاضَ إِنَّمَا مُنِعَ
فِي الْعُرُوضِ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ إِلَى رَدِّ
مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ
الأَْوْقَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَاهُنَا لأَِنَّ رَأْسَ الْمَال
غَيْرُ الْعُرُوضِ وَحُكْمَهُ بَاقٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّ لِلْعَامِل أَنْ
يَبِيعَهُ لِيُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَال وَيُقَسِّمَ الْبَاقِيَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْقِرَاضَ
قَدْ بَطَل بِالْمَوْتِ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ قِرَاضٍ عَلَى عُرُوضٍ،
وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْيَسُ، لأَِنَّ الْمَال لَوْ كَانَ نَاضًّا كَانَ
ابْتِدَاءَ قِرَاضٍ وَكَانَتْ حِصَّةُ الْعَامِل مِنَ الرِّبْحِ شَرِكَةً
لَهُ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ رَبِّ الْمَال.
(40/12)
وَإِنْ كَانَ الْمَال نَاضًّا بِخَسَارَةٍ
أَوْ تَلَفٍ كَانَ رَأْسُ الْمَال الْمَوْجُودِ مِنْهُ حَال ابْتِدَاءِ
الْقِرَاضِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ هَاهُنَا
وَبِنَاءَهُمَا عَلَى الْقِرَاضِ لَصَارَتْ حِصَّةُ الْعَامِل مِنَ
الرِّبْحِ غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ وَحِصَّتُهُمَا مِنَ الرِّبْحِ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ الْعُرُوضُ بِأَكْثَرَ مِنْ
قِيمَتِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَال نَاقِصًا، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ فِي
الْقِرَاضِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَكَلاَمُ أَحْمَدَ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي بِإِذْنِ
الْوَرَثَةِ كَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بَعْدَ انْفِسَاخِ الْقِرَاضِ.
فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الْعَامِل أَوْ جُنَّ وَأَرَادَ ابْتِدَاءَ الْقِرَاضِ
مَعَ وَارِثِهِ أَوْ وَلِيِّهِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا جَازَ كَمَا قُلْنَا
فِيمَا إِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَال، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا لَمْ يَجُزِ
ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ إِلاَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ ابْتِدَاءُ
الْقِرَاضِ عَلَى الْعُرُوضِ، بِأَنْ تُقَوَّمَ الْعُرُوضُ وَيُجْعَل
رَأْسُ الْمَال قِيمَتَهَا يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ
الْعَمَل قَدْ مَاتَ أَوْ جُنَّ وَذَهَبَ عَمَلُهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ
أَصْلاً يَبْنِي عَلَيْهِ وَارِثُهُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَال نَاضًّا جَازَ ابْتِدَاءُ الْقِرَاضِ فِيهِ إِذَا
اخْتَارَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئَاهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ
شِرَاءٌ وَلاَ بَيْعٌ؛ لأَِنَّ رَبَّ الْمَال إِنَّمَا رَضِيَ بِاجْتِهَادِ
مُوَرِّثِهِ (1) .
__________
(1) المغني 5 / 66، 67.
(40/12)
أَثَرُ النَّضُوضِ فِي تَعَدُّدِ
الْمُضَارَبَةِ:
6 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ رَبُّ الْمَال لَعَامَل الْقِرَاضِ
مَالاً ثَانِيًا بَعْدَ الْمَال الأَْوَّل الَّذِي كَانَ يُضَارِبُ فِيهِ
الْعَامِل، فَإِنْ كَانَ الْمَال الأَْوَّل نَاضًّا أَيْ صَارَ دَرَاهِمَ
أَوْ دَنَانِيرَ - وَذَلِكَ بِبَيْعِ السِّلَعِ الَّتِي اشْتَرَاهَا
وَقَبَضَ ثَمَنَهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ - فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ
فِي الْمَال الثَّانِي بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَال الأَْوَّل قَدْ نَضَّ مُسَاوِيًا،
لِرَأْسِ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ وَلاَ خَسَارَةٍ، بِأَنْ كَانَ رَأْسُ
الْمَال أَلْفًا وَنَضَّ أَلْفًا، فَإِنْ نَضَّ بِرِبْحٍ أَوْ خَسَارَةٍ
فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ نَضَّ بِرِبْحٍ قَدْ يَضِيعُ عَلَى
الْعَامِل رِبْحُهُ، وَإِنْ نَضَّ بِخَسَارَةٍ قَدْ يُجْبِرُ الْقِرَاضُ
الثَّانِي خَسَارَةَ الأَْوَّل.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَ جُزْؤُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ
الرِّبْحُ لِلْعَامِل فِي الْمَال الثَّانِي كَالرِّبْحِ فِي الْمَال
الأَْوَّل، كَالثُّلُثِ مِنْ رِبْحِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
فَإِنِ اخْتَلَفَ جُزْءُ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لِلْعَامِل فِي الثَّانِي
عَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا لَهُ فِي الأَْوَّل فَلاَ يَجُوزُ، وَهَذَانَ
الشَّرْطَانِ ذَكَرَهُمَا خَلِيلٌ.
إِلاَّ أَنَّ الدَّرْدِيرَ وَالدُّسُوقِيَّ قَالاَ: الْحَقُّ أَنَّهُ إِذَا
نَضَّ الأَْوَّل بِمُسَاوٍ جَازَ الدَّفْعُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اتَّفَقَ
جُزْؤُهُمَا (أَيِ الرِّبْحُ) أَوِ اخْتَلَفَ إِنْ شَرَطَا الْخَلْطَ،
(40/13)
وَإِلاَّ مُنِعَ مُطْلَقًا اتَّفَقَ
جُزْؤُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ دَفَعَ رَبُّ الْمَال إِلَى الْمُضَارِبِ
أَلْفَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ لَمْ يَخْلِطْهُمَا الْمُضَارِبُ بِغَيْرِ
إِذْنِ رَبِّ الْمَال؛ لأَِنَّهُ أَفْرَدَ كُل وَاحِدٍ بِعَقْدٍ فَكَانَا
عَقْدَيْنِ، فَإِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ فِي الْخَلْطِ
قَبْل تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي الْمَال الأَْوَّل جَازَ، وَكَذَلِكَ
إِنْ أَذِنَهُ فِي الْخَلْطِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ جَازَ إِنْ كَانَ الْمَال
الأَْوَّل قَدْ نَضَّ وَصَارَ الْمَال كُلُّهُ مُضَارَبَةً وَاحِدَةً،
فَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ فِي الْمَال الأَْوَّل وَلَمْ يَنِضَّهُ
وَأَذِنَهُ فِي الْخَلْطِ فَلاَ يَجُوزُ الْخَلْطُ؛ لأَِنَّ حُكْمَ
الْعَقْدِ الأَْوَّل اسْتَقَرَّ، فَكَانَ رِبْحُهُ وَخُسْرَانُهُ
مُخْتَصًّا بِهِ (2) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 174، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 525.
(2) كشاف القناع 3 / 516.
(40/13)
ناظر
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّاظِرُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ النَّظَرِ، وَالنَّظَرُ
هُوَ: تَقْلِيبُ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ لإِِدْرَاكِ الشَّيْءِ
وَرُؤْيَتِهِ، وَنَظَرْتُ فِي الأَْمْرِ: تَدَبَّرْتُ وَفَكَّرْتُ فِيهِ
(1) . وَالنَّاظِرُ عَلَى الْوَقْفِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ
الَّذِي يَلِي الْوَقْفَ وَحِفْظَهُ وَحِفْظَ رِيعِهِ، وَتَنْفِيذَ شَرْطِ
وَاقِفِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَيِّمُ:
2 - الْقَيِّمُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَنْ قَامَ بِالأَْمْرِ قِيَامًا
وَقَوْمًا: اهْتَمَّ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ.
وَالْقَيِّمُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَنْ يُعَيِّنُهُ
الْحَاكِمُ لِتَنْفِيذِ وَصَايَا مَنْ لَمْ يُوصِ مُعَيَّنًا لِتَنْفِيذِ
وَصِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِينَ مِنْ أَطْفَالٍ
وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَحِفْظِ أَمْوَال الْمَفْقُودِينَ مِمَّنْ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن.
(2) كشاف القناع 4 / 269.
(40/14)
لَيْسَ لَهُمْ وَكِيلٌ. وَيُسَمِّيهِ
الْمَالِكِيَّةُ: مُقَدَّمُ الْقَاضِي.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُقَامُ لِرِعَايَةِ
وَحِفْظِ أَمْوَال وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنَّ الْقَيِّمَ
يَتِمُّ تَعْيِينُهُ مِنْ قِبَل الْحَاكِمِ، أَمَّا النَّاظِرُ فَقَدْ
يُعَيِّنُهُ الْحَاكِمُ وَقَدْ يُعَيِّنُهُ الْوَاقِفُ (1) .
ب - الْمُتَوَلِّي:
3 - الْمُتَوَلِّي فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَوَلَّى الأَْمْرَ
إِذَا تَقَلَّدَهُ وَقَامَ بِهِ.
وَيُقَال: تَوَلَّيْتُ فَلاَنًا: اتَّبَعْتُهُ وَرَضِيتُ بِهِ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ
فِي مَال الْوَقْفِ وَالْقِيَامُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ
الْخَيْرِيَّةِ: وَالْقَيِّمُ وَالْمُتَوَلِّي وَالنَّاظِرُ فِي كَلاَمِ
الْفُقَهَاءِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، ثُمَّ قَال: وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ
الاِنْفِرَادِ (2) ، أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ مُتَوَلِّيًا
وَنَاظِرًا عَلَيْهِ كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فَيُرَادُ بِالنَّاظِرِ
الْمُشْرِفُ.
__________
(1) غريب القرآن للأصفهاني، والمعجم الوسيط، وجواهر الإكليل 2 / 98،
والقليويي وعميرة 3 / 178، وحاشية ابن عابدين 3 / 431.
(2) غريب القرآن للأصفهاني، وَالمعجم الوسيط، والمصباح المنير، وقواعد
الفقه للبركتلي، وحاشية ابن عابدين 3 / 431.
(40/14)
ج - الْوَصِيُّ:
4 - الْوَصِيُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ، فَيُطْلَقُ
عَلَى الَّذِي يُوصِي وَيُطْلَقُ كَذَلِكَ عَلَى مَنْ يُوصَى إِلَيْهِ،
وَالْوَصِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْجَمْعُ
أَوْصِيَاءُ.
يُقَال: أَوْصَيْتُ إِلَيْهِ بِمَالٍ: جَعَلْتُهُ لَهُ، وَأَوْصَيْتُهُ
بِوَلَدِهِ: اسْتَعْطَفْتُهُ عَلَيْهِ (1) .
وَالْوَصِيُّ اصْطِلاَحًا: هُوَ مَنْ جُعِل لَهُ التَّصَرُّفُ بَعْدَ
مَوْتِ الْمُوصِي فِيمَا كَانَ لِلْمُوصِي التَّصَرُّفُ فِيهِ: مِنْ
قَضَاءِ دُيُونِهِ، وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْوَدَائِعِ،
وَاسْتِرْدَادِهَا، وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ
وَصِيَّةٌ، وَالْوِلاَيَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلاَيَةُ
عَلَيْهِمْ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَمَنْ لَمْ يُؤْنَسْ
رُشْدُهُمْ، وَالنَّظَرِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ بِحِفْظِهَا
وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَا لَهُمُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّاظِرِ وَالْوَصِيِّ: أَنَّ النَّاظِرَ هُوَ
الَّذِي يَلِي أَمْرَ الْوَقْفِ، أَمَّا الْوَصِيُّ فَهُوَ الَّذِي
يَتَوَلَّى تَنْفِيذَ الْوَصَايَا وَنَحْوِهَا، فَالْوَصِيُّ أَعَمُّ.
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للأصفهاني، والمعجم الوسيط، ولسان العرب،
ومغني المحتاج 3 / 73، وحاشية ابن عابدين 5 / 414، 447.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 414، 447، وجواهر الإكليل 2 / 99، ومغني المحتاج
3 / 73 - 74، والمغني لابن قدامة 6 / 134، 135.
(40/15)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ أَحْكَامِ النَّاظِرِ، وَهَل يُعَيِّنُهُ
الْوَاقِفُ أَوِ الْحَاكِمُ؟ وَمَا هِيَ شُرُوطُهُ الَّتِي تَجِبُ
تَوَفُّرُهَا حَتَّى يَكُونَ مُؤَهَّلاً لإِِدَارَةِ أَمْوَال الْوَقْفِ؟
وَمَا هِيَ صَلاَحِيَّتُهُ فِي التَّصَرُّفِ بِمَال الْوَقْفِ؟ وَمَنْ
يَحِقُّ لَهُ عَزْل النَّاظِرِ عِنْدَمَا يَفْقِدُ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ
أَهْلِيَّتِهِ؟ وَهَل يَجُوزُ تَعَدُّدُ النَّاظِرِينَ لِمَال وَقْفٍ
وَاحِدٍ.
وَتَفَاصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقَف) .
نافلة
انْظُرْ: نفل
(40/15)
ناقصة
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّاقِصَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَقَصَ، يُقَال: نَقَصَ
الشَّيْءُ يَنْقُصُ نَقْصًا وَنُقْصَانًا وَهُوَ الْخُسْرَانُ فِي
الْحَظِّ، وَانْتَقَصَ: ذَهَبَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ تَمَامِهِ (1) .
وَالنَّاقِصَةُ: اصْطِلاَحًا تُطْلَقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى كُل مَسْأَلَةٍ نَقَصَتْ
فُرُوضُهَا عَنْ أَصْلِهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَطْلَقُوا النَّاقِصَةَ عَلَى:
الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لاَ عَوْل فِيهَا وَلاَ رَدَّ وَفِيهَا عَاصِبٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ النَّاقِصَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ: الرَّدُّ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَقَدْ سُمِّيَتْ مَسْأَلَةُ النَّاقِصَةِ بِالْقَاصِرَةِ وَالْعَادِلَةِ
(3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) المبسوط 29 / 160 - 161، وحاشية ابن عابدين 5 / 501 ط بولاق، وشرح
الزرقاني 8 / 215، وحاشية الجمل 4 / 36، وكشاف القناع 4 / 430، ومطالب أولي
النهى 4 / 580، والمغني مع الشرح الكبير 7 / 31 ط المنار.
(3) المبسوط 29 / 160، وحاشية ابن عابدين 5 / 501.
(40/16)
مَرْجِعُ نُقْصَانِ الْمَسْأَلَةِ
النَّاقِصَةِ:
2 - نُقْصَانُ الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ يَرْجِعُ إِلَى نُقْصَانِ
الأَْسْهُمِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَأُصُول الْمَسَائِل بِاتِّفَاقِ
الْجُمْهُورِ لاَ تَخْرُجُ عَنْ ثَلاَثٍ:
الأُْولَى: عَادِلَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا سِهَامُ أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ مَعَ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهَا مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ
وَأُمٍّ وَأَخٍ لأُِمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ،
وَلِلأَْخِ لأُِمٍّ السُّدُسُ.
الثَّانِيَةُ: نَاقِصَةٌ (أَوْ قَاصِرَةٌ أَوْ عَادِلَةٌ أَوْ مَسْأَلَةُ
الرَّدِّ) وَهِيَ الَّتِي قَصُرَتْ فِيهَا سِهَامُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ
عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهَا: مَاتَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ:
فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَيَبْقَى السُّدُسُ
زَائِدًا عَنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ.
الثَّالِثَةُ: عَائِلَةٌ وَهِيَ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا سِهَامُ أَصْحَابِ
الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَمِثَالُهَا: مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ
وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ وَأُمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْخْتِ
الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَهُنَا زَادَتْ سِهَامُ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ ثُلُثًا (1) .
مَا يَلْزَمُ تَوَافُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ فِي الْمَسْأَلَةِ
النَّاقِصَةِ
__________
(1) المبسوط 29 / 160، 161، والفتاوى الهندية 6 / 468، وشرح الزرقاني 8 /
215، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 36، والمغني لابن قدامة 6 / 287.
(40/16)
تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي
مَدْلُولِهَا.
فَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ) فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ شَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ تَنْقُصَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ عَنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ،
فَإِنْ زَادَتْ فَهِيَ عَائِلَةٌ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فَهِيَ عَادِلَةٌ.
الثَّانِي: عَدَمُ وُجُودِ عَاصِبٍ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ وُجِدَ
بَيْنَهُمْ عَاصِبٌ أَخَذَ الْبَاقِي مِنَ التَّرِكَةِ بِالْعُصُوبَةِ
وَلاَ رَدَّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَهُمْ مَنْ مَاتَتْ عَنْ: زَوْجٍ وَأُمٍّ
فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُْمِّ الثُّلُثُ، وَيَبْقَى السُّدُسُ
زَائِدًا عَنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ أَنْ لاَ
يَكُونَ فِيهَا عَوْلٌ وَلاَ رَدٌّ، وَفِيهَا عَاصِبٌ (3) ، كَزَوْجٍ
وَأَبٍ (4) .
حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ رَدِّ مَا بَقِيَ
__________
(1) الاختيار 5 / 99، والفتاوى الهندية 6 / 468، ومواهب الجليل 6 / 414 ط
دار الفكر، وَحاشية الدسوقي 4 / 465 ط دار الفكر، وحاشية البيجوري على ابن
قاسم 2 / 77 ط الحلبي، والإقناع لشرف الدين المقدسي 3 / 93 ط دار المعرفة.
(2) المبسوط 29 / 160 - 161، والفتاوى الهندية 6 / 468، وشرح الزرقاني 8 /
215، وحاشية الجمل على المنهج 4 / 36، والمغني لابن قدامة 6 / 287.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 580.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 596.
(40/17)
مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ أَسْهُمِ
أَصْحَابِ الْفُرُوضِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّاقِصَةِ، وَلَكِنَّهُمُ
اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث ف 63 - 73) .
ناقوس
انْظُرْ: أَهْل الْكِتَابِ، معابد
(40/17)
نبّاش
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبَّاشُ فِي اللُّغَة مِنَ النَّبْشِ، وَهُوَ: اسْتِخْرَاجُ
الشَّيْءِ الْمَدْفُونِ، وَنَبْشُ الْمَسْتُورِ وَعَنْهُ: أَبْرَزُهُ.
وَالنَّبَّاشُ هُوَ مَنْ يُفَتِّشُ الْقُبُورَ عَنِ الْمَوْتَى لِيَسْرِقَ
أَكْفَانَهُمْ وَحُلِيَّهُمْ. وَالنِّبَاشَةُ حِرْفَةُ نَبْشِ الْقُبُورِ
المعجم الوسيط. وَالنَّبَّاشُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي
يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ الدَّفْنِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّارِقُ:
2 - السَّارِقُ فِي اللُّغَةِ مَنْ أَخَذَ مَال غَيْرِهِ خُفْيَةً مِنَ
السَّرِقَةِ، وَهِيَ أَخْذُ الشَّخْصِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ فِي
خَفَاءٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ أَخَذَ مَال غَيْرِهِ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ
خُفْيَةً ظُلْمًا (2) .
__________
(1) البحر الرائق 5 / 60، وفتح القدير 5 / 137، والحاوي الكبير 17 / 184.
(2) المفردات في غريب القرآن، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، ومغني
المحتاج 4 / 158.
(40/18)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّبَّاشِ
وَالسَّارِقِ: أَنَّ النَّبَّاشَ أَخَصُّ مِنَ السَّارِقِ.
الطَّرَّارُ:
3 - الطَّرَّارُ فِي اللُّغَةِ، الَّذِي يَقْطَعُ أَوْعِيَةَ النَّفَقَاتِ
وَيَأْخُذُهَا عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الَّذِي يَطُرُّ الْهِمْيَانَ، أَوِ الْجَيْبَ
أَوِ الصُّرَّةَ، وَيَقْطَعُهَا وَيَسُل مَا فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ
صَاحِبِهِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْخَادِمِيُّ بِأَنَّهُ أَخْذُ مَال الْيَقْظَانِ فِي
غَفْلَةٍ مِنْهُ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الطَّرَّارِ وَبَيْنَ النَّبَّاشِ: أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يَأْخُذُ الشَّيْءَ خُفْيَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، غَيْرَ أَنَّ
الطَّرَّارَ يَأْخُذُ الأَْمْوَال، وَالنَّبَّاشَ يَأْخُذُ الأَْكْفَانَ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّبَّاشِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّبَّاشِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
اعْتِبَارُ النَّبَّاشِ سَارِقًا:
4 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ النَّبَّاشَ مُرْتَكِبٌ مُحَرَّمًا، وَلَكِنَّ
الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) المغني 8 / 256، وفتح القدير 5 / 150.
(3) منافع الدقائق في شرح مجامع لحقائق، لأبي سعيد الخادمي، ص 75 ط:
الآستانة.
(40/18)
تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ السَّارِقِينَ
مِنَ الْقَطْعِ وَغَيْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
الْقَوْل الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ
وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ أَنَّ
النَّبَّاشَ يُعْتَبَرُ سَارِقًا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
السَّارِقِينَ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا سَرَقَ مِنْ أَكْفَانِ الْمَوْتَى
مَا يَبْلُغُ نِصَابَ السَّرِقَةِ؛ لأَِنَّ الْكَفَنَ مَالٌ مُتَقَوَّمٌ
سُرِقَ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ وَهُوَ الْقَبْرُ، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْتَ
الْمُغْلَقَ فِي الْعُمْرَانِ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِمَا فِيهِ عَادَةً،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنَّ الْقَبْرَ يُعْتَبَرُ عَادَةً
حِرْزًا لِكَفَنِ الْمَيِّتِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1) حَيْثُ إِنَّ اسْمَ
السَّرِقَةِ يَشْمَل النَّبَّاشَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا إِنَّهَا قَالَتْ: " سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ
أَحْيَائِنَا " (2) . وَعَنْ يَحْيَى النَّسَائِيِّ قَال:
__________
(1) سُورَة الْمَائِدَة / 38.
(2) أثر عائشة رضي الله عنها أخرجه البيهقي في معرفة السنن (12 / 409 - ط
دار الوعي حلب) وأخرجه ابن أبي شيبة (10 / 34 ط الدار السلفية) موقوفا على
إبراهيم، والشعبي ونصه (يقطع سارق أمواتنا كما يقطع سارق أحيائنا) .
(40/19)
كَتَبْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فِي النَّبَّاشِ فَكَتَبَ إِلَيَّ: إِنَّهُ سَارِقٌ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَرَّقَ
حَرَّقْنَاهُ وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ " (1)
قَالُوا: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَرَقَ مَالاً كَامِل الْمِقْدَارِ مِنْ
حِرْزٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ فَتُقْطَعُ يَدُهُ كَمَا لَوْ سَرَقَ لِبَاسَ
الْحَيِّ، لأََنَّ الآْدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيْتًا؛ وَلأَِنَّ
السَّرِقَةَ أَخْذُ الْمَال عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ
مِنَ النَّبَّاشِ وَهَذَا الثَّوْبُ - الْكَفَنُ - كَانَ مَالاً قَبْل أَنْ
يَلْبَسَهُ الْمَيِّتُ فَلاَ تَخْتَل صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِ بِلُبْسِ
الْمَيِّتِ، فَأَمَّا الْحِرْزُ فَلأَِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا مُنْذُ
وُلِدُوا إِحْرَازَ الأَْكْفَانِ بِالْقُبُورِ وَلاَ يُحْرِزُونَهَا
بِأَحْصَنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَكَانَ حِرْزًا مُتَعَيِّنًا لَهُ
بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلاَ يَبْقَى فِي إِحْرَازِهِ شُبْهَةٌ،
لَمَّا كَانَ لاَ يُحْرَزُ بِأَحْصَنَ مِنْهُ عَادَةً (2) . وَلأَِنَّهُ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ
بِقَطْعِ الْمُخْتَفِي (3) قَال الأَْصْمَعِيُّ: وَأَهْل الْحِجَازِ
__________
(1) حديث: " من حرق حرقناه. . . ". أخرجه البيهقي في معرفة السنن (12 /
409، 410 ط دار الوعي حلب) من حديث البراء - رضي الله عنه - ثم قال: في
الإسناد بعض من يجهل.
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 159، 161، والبحر الرائق 5 / 60، وفتح القدير 5 /
137، والدسوقي 4 / 340، والحاوي الكبير 17 / 184 وما بعدها، ومغني المحتاج
4 / 196، وكشاف القناع 6 / 138
(3) حديث: " أنه أمر بقطع المختفي ". لم نقف عليه مرفوعا ولكن ورد موقوفا
على عمر بن عبد العزيز ولفظه عن معمر قال: (بلغني أن عمر بن عبد العزيز قطع
نباشا) أخرجه ابن أبي شيبة (10 / 34 ط الدار السلفية) .
(40/19)
يُسَمُّونَ النَّبَّاشَ: الْمُخْتَفِي؛
إِمَّا لاِخْتِفَائِهِ بِأَخْذِ الْكَفَنِ، وَإِمَّا لإِِظْهَارِهِ
الْمَيِّتَ فِي أَخْذِ كَفَنِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُظْهِرُ، وَهُوَ مِنْ
أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَطَعَ نَبَّاشًا بِعَرَفَاتٍ
وَهُوَ مَجْمَعُ الْحَجِيجِ، وَلاَ يَخْفَى مَا جَرَى فِيهِ عَلَى
عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ؛ وَلأَِنَّ جَسَدَ
الْمَيِّتِ عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهَا فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ فِي
سَرِقَةِ مَا سَتَرَهَا؛ وَلأَِنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِحِفْظِ
مَا وَجَبَ اسْتِبْقَاؤُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ حَتَّى يَنْزَجِرَ النَّاسُ
عَنْ أَخْذِهِ، فَكَانَ كَفَنُ الْمَيِّتِ أَحَقَّ بِالْقَطْعِ
لأَِمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ عَلَى
نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ عِنْدَ أَخْذِهِ (1) .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي
بَعْضِ التَّفَاصِيل وَالشُّرُوطِ.
5 - فَذَهَبُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ
عِنْدَ
__________
(1) الدسوقي 4 / 340، وكشاف القناع 6 / 138، ومغني المحتاج 4 / 169،
والمبسوط للسرخسي 9 / 160، والحاوي الكبير 17 / 184 وما بعدها.
(40/20)
الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ
كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا بِالْقَطْعِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ الَّذِي أُخِذَ
مِنْهُ الْكَفَنُ فِي مَقَابِرِ الْبَلَدِ الأَْنِيسَةِ، بَل تُقْطَعُ
يَدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْرُ قَرِيبًا مِنَ الْعُمْرَانِ أَوْ بَعِيدًا
عَنْهُ. فَالْقَبْرُ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ حَيْثُ كَانَ إِذَا كَانَ
مَطْمُومًا الطَّمَّ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ؛ وَلأَِنَّ النُّفُوسَ
تَهَابُ الْمَوْتَى عَادَةً (1) .
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ فَقَالُوا:
يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ الَّذِي سُرِقَ
مِنْهُ الْكَفَنُ إِمَّا فِي بَيْتٍ مُحَرَّزٍ، أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ مِنْ
مَقَابِرِ الْبَلَدِ الأَْنِيسَةِ، أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ كَائِنَةٍ بِطَرَفِ
الْعِمَارَةِ بِحَيْثُ يَنْدُرُ تَخَلُّفُ الطَّارِقِينَ عَنْهَا فِي
زَمَنٍ يَتَأَتَّى فِيهِ النَّبْشُ، أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ عَلَيْهَا
حُرَّاسٌ مُرَتَّبُونَ فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْبَيْتِ الْمُحَرَّزِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مُنْقَطِعَةً عَنِ الأَْمْصَارِ، أَوْ
فِي مَفَازَةٍ ضَائِعَةٍ وَلاَ حُرَّاسَ عَلَيْهَا، فَلاَ يَجِبُ فِي
الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ قَطْعُ النَّبَّاشِ؛ لأَِنَّ الْقَبْرَ عِنْدَ
ذَلِكَ لَيْسَ بِحِرْزٍ؛ وَلأَِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفَنَ مِنْ غَيْرِ
خَطَرٍ (2) .
6 - وَذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 340، وكشاف القناع 6 / 138، ومغني المحتاج 4 / 196.
(2) الحاوي لكبير للماوردي 17 / 189، ومغني المحتاج 4 / 169.
(40/20)
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مَشْرُوعًا، أَمَّا غَيْرُ
الْمَشْرُوعِ كَأَنْ كُفِّنَ رَجُلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ لَفَائِفَ
أَوْ كُفِّنَتِ امْرَأَةٌ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ ثِيَابٍ فَسُرِقَ
الزَّائِدُ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ قَطْعَ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ
بِحِرْزٍ بِاعْتِبَارِهِ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا، كَمَا لَوْ
وُضِعَ مَعَ الْكَفَنِ غَيْرُهُ أَوْ تُرِكَ مَعَ الْمَيِّتِ طِيبٌ
مَجْمُوعٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ جَوْهَرٌ فَلاَ قَطْعَ فِي أَخْذِ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَتَرْكُهُ فِي
الْقَبْرِ مَعَ الْمَيِّتِ تَضْيِيعٌ لِلْمَال وَسَفَهٌ فَلاَ يَكُونُ
مُحَرَّزًا بِالْقَبْرِ.
وَمِثْلُهُ أَيْضًا مَا لَوْ تُرِكَ الْمَيِّتُ فِي تَابُوتٍ فَسُرِقَ
التَّابُوتُ فَلاَ يُقْطَعُ فِيهِ؛ لِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ حَيْثُ
وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الدَّفْنِ فِيهِ، فَلَمْ يَصِرِ الْقَبْرُ حِرْزًا
لَهُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ تَغَالَى فِي الْكَفَنِ بِحَيْثُ جَرَتِ
الْعَادَةُ أَلاَّ يُخَلَّى مِثْلُهُ بِلاَ حَارِسٍ لَمْ يُقْطَعْ
سَارِقُهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي
قَطْعِ النَّبَّاشِ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا،
فَمَنْ سَرَقَ مِنْ كَفَنِ شَخْصٍ كُفِّنَ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ مَا زَادَ
عَلَى الْكَفَنِ الشَّرْعِيِّ يُقْطَعُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ
وَالرِّسَالَةِ وَالْجَلاَّبِ وَالتَّلْقِينِ (2) .
__________
(1) الحاوي الكبير 17 / 184 وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 196، وكشاف
القناع 6 / 138 - 139، وَالدسوقي 4 / 340.
(2) الدسوقي 4 / 340.
(40/21)
7 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
الَّذِينَ يَرَوْنَ قَطْعَ النَّبَّاشِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
قَطْعِهِ: أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ عَمِيقًا عَلَى مَعْهُودِ الْقُبُورِ
وَمَطْمُومًا الطَّمَّ الَّذِي جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ
الْقَبْرُ عَمِيقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَطْمُومًا الطَّمَّ الْمُعْتَادَ
فَلاَ قَطْعَ فِيهِ (1) .
كَمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ فِي الْقَطْعِ مِنْ أَجْل الْكَفَنِ
أَنْ يُخْرِجَ الْكَفَنَ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ بَعْدَ تَجْرِيدِهِ مِنَ
الْمَيِّتِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنَ اللَّحْدِ إِلَى فَضَاءِ الْقَبْرِ
وَتَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهُ، لِخَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ
قَطْعَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ تَمَامِ حِرْزِهِ.
أَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ جَمِيعِ الْقَبْرِ
مَعَ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُجَرِّدْهُ عَنْهُ فَفِي قَطْعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ قَطْعَ فِيهِ، لاِسْتِبْقَائِهِ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَالثَّانِي: يُقْطَعُ؛ لإِِخْرَاجِ الْكَفَنِ مِنْ حِرْزِهِ (2) .
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا فِي الْقَطْعِ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفَنَ
وَالْمَيِّتُ فِيهِ، فَإِنْ أَكَل الْمَيِّتَ سَبُعٌ أَوْ ذَهَبَ بِهِ
سَيْلٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ فَلاَ قَطْعَ إِلاَّ أَنَّ
الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ فَنِيَ الْمَيِّتُ وَبَقِيَ الْكَفَنُ
قُطِعَ؛ لأََنَّ الْقَبْرَ مَا زَال حِرْزًا لِلْكَفَنِ.
__________
(1) الحاوي الكبير 17 / 190، وكشاف القناع 6 / 138، 139.
(2) مغني المحتاج 4 / 169، والحاوي 17 / 187، 190، وكشاف القناع 6 / 138.
(40/21)
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي
الْقَطْعِ: أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ مُحْتَرَمًا لِيَخْرُجَ قَبْرٌ فِي
أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُحْتَرَمًا
لِيَخْرُجَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ (1) .
8 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ النَّبَّاشَ
سَارِقًا فِي اعْتِبَارِ الْبَحْرِ حِرْزًا لِلْكَفَنِ حَتَّى يَجِبَ
قَطْعُ سَارِقِهِ، وَذَلِكَ إِذَا أُلْقِيَ الْمَيِّتُ مَعَ كَفَنِهِ
فِيهِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقَبْرُ وَالْبَحْرُ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ
فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَأَمَّا الْبَحْرُ فَظَاهِرٌ
كَوْنُهُ حِرْزًا لِلْكَفَنِ مَا دَامَ الْمَيِّتُ فِيهِ، أَمَّا
الْغَرِيقُ فِي الْبَحْرِ أَوْ نَحْوِهِ فَلاَ قَطْعَ عَلَى سَارِقِ مَا
عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْبَحْرُ لَيْسَ حِرْزًا لِكَفَنِ الْمَيِّتِ
الْمَطْرُوحِ فِيهِ فَلاَ يُقْطَعُ آخِذُهُ؛ لأَِنَّهُ ظَاهِرٌ، فَهُوَ
كَمَا لَوْ وُضِعَ الْمَيِّتُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَأُخِذَ كَفَنُهُ،
فَإِنْ غَاصَ فِي الْمَاءِ فَلاَ قَطْعَ عَلَى آخِذِهِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ
طَرْحَهُ فِي الْمَاءِ لاَ يُعَدُّ إِحْرَازًا، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ عَلَى
وَجْهِ الأَْرْضِ وَغَيَّبَهُ الرِّيحُ بِالتُّرَابِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 169 - 170، وكشاف القناع 6 / 138 - 139، وانظر الحاوي
الكبير 17 / 189.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 340.
(3) مغني المحتاج 4 / 170.
(40/22)
9 - الْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ
وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ لاَ قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي " (1) وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْل
الْمَدِينَةِ؛ وَلأَِنَّ نَبَّاشًا رُفِعَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
فَعَزَّرَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَفِي الْمَدِينَةِ بَقِيَّةُ
الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءُ التَّابِعِينَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ
مِنْهُمْ؛ وَلأَِنَّ أَطْرَافَ الْمَيِّتِ أَغْلَظُ حُرْمَةً مِنْ
كَفَنِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ ضَمَانُ أَطْرَافِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ
الْقَطْعُ فِي أَكْفَانِهِ؛ وَلأَِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالٍ
مُحَرَّزٍ مَمْلُوكٍ، وَهَذِهِ الأَْوْصَافُ مُخْتَلَّةٌ (2) .
قَال فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: لاَ قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ؛ لأَِنَّ
الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لِلْمَيِّتِ
حَقِيقَةً، وَلاَ لِلْوَارِثِ؛ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَقَدْ
تَمَكَّنَ الْخَلَل فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الاِنْزِجَارُ؛ لأَِنَّ
الْجِنَايَةَ نَفْسَهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ. وَيَشْمَل هَذَا الْحُكْمُ
مَا إِذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَا
__________
(1) حديث: " لا قطع على المختفي " أورده الزيلعي في نصب الراية (3 / 367 ط
المجلس العلمي) وقال: غريب. ثم ذكر أن ابن أبي شيبة أخرج موقوفا على ابن
عباس رضي الله عنهم: (ليس على النباش قطع) وهو في المصنف (10 / 36 ط الدار
السلفية) .
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 156 - 159، والبحر الرائق 5 / 60، وانظر الحاوي
الكبير 17 / 184 وما بعدها، وفتح القدير مع الحواشي 5 / 137 وما بعدها.
(40/22)
إِذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي
الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ، وَمَا إِذَا سَرَقَ مِنَ الْقَبْرِ
ثَوْبًا غَيْرَ الْكَفَنِ؛ لِعَدَمِ الْحِرْزِ، وَلَوْ سَرَقَ مِنَ
الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ قَبْرُ الْمَيِّتِ مَالاً آخَرَ غَيْرَ الْكَفَنِ
لاَ يُقْطَعُ؛ لِتَأَوُّلِهِ بِالدُّخُول إِلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ،
وَكَذَا لَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ فِيهِ الْمَيِّتُ؛ لِتَأَوُّلِهِ
بِالدُّخُول لِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنَ الْكُل؛
لِوُجُودِ الإِْذْنِ بِالدُّخُول فِيهِ عَادَةً (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لاَ قَطْعَ عَلَى
النَّبَّاشِ لِتَحَقُّقِ قُصُورٍ فِي نَفْسِ مَالِيَّةِ الْكَفَنِ؛
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال مَا تَجْرِي فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالضِّنَةُ،
وَالْكَفَنُ يَنْفِرُ عَنْهُ كُل مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَفَنٌ بِهِ مَيِّتٌ
إِلاَّ نَادِرًا مِنَ النَّاسِ؛ وَلأَِنَّهُ شُرِعَ الْحَدُّ
لِلاِنْزِجَارِ وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَأَمَّا
مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ فَلاَ يُشْرَعُ فِيهِ؛ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ
مَحَل الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّ الاِنْزِجَارَ حَاصِلٌ طَبْعًا كَمَا قُلْنَا
فِي عَدَمِ الْحَدِّ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ (2) .
خَصْمُ النَّبَّاشِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْخَصْمِ فِي سَرِقَةِ الْكَفَنِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَصْمَ فِي ذَلِكَ هُوَ
الْمَالِكُ الأَْوَّل لِلْكَفَنِ.
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الحقائق 5 / 60 والمبسوط 9 / 159 - 160، وفتح
القدير 5 / 137.
(2) فتح القدير 5 / 138.
(40/23)
فَإِذَا كَانَ الْكَفَنُ مِنْ تَرِكَةِ
الْمَيِّتِ أَوْ مِنَ الْوَرَثَةِ، فَالْوَرَثَةُ هُمُ الْخَصْمُ فِي
سَرِقَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ سَرَقَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوْ وَلَدُ
بَعْضِهِمْ لَمْ يُقْطَعْ فَلَوْ نُبِشَ قَبْرُ الْمَيِّتِ وَأُخِذَ مِنْهُ
الْكَفَنُ وَهُوَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ طَالَبَ بِهِ الْوَرَثَةُ مَنْ
أَخَذَهُ؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُمْ، وَلَوْ أَكَل الْمَيِّتَ سَبُعٌ أَوْ
ذَهَبَ بِهِ سَيْلٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ اقْتَسَمُوهُ عَلَى فَرَائِضِ
اللَّهِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْكَفَنُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ سَيِّدٍ مِنْ مَالِهِ
فَالْخَصْمُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمُطَالَبَةِ هُوَ مَالِكُ الْكَفَنِ
الأَْوَّل الأَْجْنَبِيُّ أَوِ السَّيِّدُ؛ لأَِنَّ نَقْل الْمِلْكِ إِلَى
الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْلَكُ ابْتِدَاءً فَكَانَ
الْمُكَفِّنُ مُعِيرًا عَارِيَةً لاَ رُجُوعَ فِيهَا كَإِعَارَةِ الأَْرْضِ
لِلدَّفْنِ.
وَإِنْ كَانَ الْكَفَنُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَالإِْمَامُ هُوَ الْخَصْمُ
(2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخَصْمُ فِي سَرِقَةِ الْكَفَنِ الْوَرَثَةُ؛
لأَِنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ وَرَثَةٌ فَالْخَصْمُ نَائِبُ الإِْمَامِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْكَفَنُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَالْخَصْمُ فِي سَرِقَتِهِ
الْوَرَثَةُ أَيْضًا، لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 169، 170.
(2) مغني المحتاج 4 / 169، وانظر الحاوي الكبير 17 / 188 وما بعدها.
(40/23)
وَأَمَّا لَوْ أَكَل الْمَيِّتَ سَبُعٌ
مَثَلاً وَبَقِيَ الْكَفَنُ فَهُوَ لِمَنْ تَبَرَّعَ بِهِ دُونَ
الْوَرَثَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: كَمَا قَطَعَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الإِْقْنَاعِ؛ لأَِنَّ تَمْلِيكَ الْمَيِّتِ غَيْرُ
مُمْكِنٍ فَهُوَ إِبَاحَةٌ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ، فَإِذَا زَالَتْ تَعَيَّنَ
لِرَبِّهِ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 6 / 138.
(40/24)
نَبْش
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبْشُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَبَشْتُ الأَْرْضَ نَبْشًا:
كَشَفْتُهَا، وَنَبَشْتُ السِّرَّ: أَفْشَيْتُهُ، يُقَال: نَبَشْتُ
الأَْرْضَ وَالْقَبْرَ وَالْبِئْرَ، وَنَبَشْتُ الْمَسْتُورَ، وَنَبَشْتُ
عَنْهُ: أَبْرَزْتُهُ، وَالنَّبْشُ: هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْمَدْفُونِ،
وَمِنْهُ النَّبَّاشُ: الَّذِي يَنْبُشُ الْقُبُورَ عَنِ الْمَوْتَى
لِيَسْرِقَ أَكْفَانَهُمْ وَحُلِيَّهُمْ.
وَالنِّبَاشَةُ: حِرْفَةُ نَبْشِ الْقُبُورِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّبْشِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّبْشِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ:
2 - الأَْصْل أَنَّ نَبْشَ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى عِنْدَ أَهْل
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب، والمعجم الوسيط.
(2) مغني المحتاج 1 / 367.
(40/24)
الْخِبْرَةِ بِتِلْكَ الأَْرْضِ حَرَامٌ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِمَا
فِيهِ مِنْ هَتْكٍ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ (1) .
ثَانِيًا: نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى لِضَرُورَةٍ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل
الْبِلَى إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ أَوْ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ، وَمِنْ
هَذِهِ الأَْغْرَاضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، وَمِنْهَا مَا
يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ
بِمَكَانِ الْقَبْرِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل مَالٍ وَقَعَ فِيهِ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مَالٌ
لَهُ قِيمَةٌ فِي الْقَبْرِ وَدُفِنَ مَعَ الْمَيِّتِ نُبِشَ الْقَبْرُ
وَأُخْرِجَ الْمَال، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْمَال الَّذِي يُنْبَشُ
الْقَبْرُ مِنْ أَجْل اسْتِخْرَاجِهِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، بَل يَجُوزُ ذَلِكَ
وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً، وَلَوْ دِرْهَمًا كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ، أَوْ خَاتَمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 108 - 117، ومغني
المحتاج 1 / 366 - 367، ودليل الفالحين 4 / 564، والمغني لابن قدامة 2 /
511، 552، 553، 554، والمجموع للنووي 5 / 303.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 /
366، والمغني لابن قدامة 2 / 552، 553، والمجموع للنووي 5 / 303.
(40/25)
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ هَذَا النَّبْشِ، هَل
هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لاَ؟ وَهَل هُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ تَغَيُّرِ
الْمَيِّتِ أَمْ لاَ؟
فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُ
الْقَبْرِ - فِي حَالَةِ وُقُوعِ الْمَال فِيهِ - وَإِنْ تَغَيَّرَ
الْمَيِّتُ، وَإِنْ كَانَ الْمَال مِنَ التَّرِكَةِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ
الْمَال، مَا لَمْ يُسَامِحْ مَالِكُهُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالِكُ
ذَلِكَ حَرُمَ النَّبْشُ كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ
الشَّافِعِيَّةِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ الَّذِي
يَظْهَرُ اعْتِمَادُهُ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَنِ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ:
مَا لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مِمَّنْ يُحْتَاطُ لَهُ، قَال
ابْنُ الْقَاسِمِ الْعَبَّادِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ
إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ النَّبْشُ سَوَاءٌ طَلَبَ مَالِكِهِ أَمْ لاَ، وَإِنْ
تَغَيَّرَ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ فِيهِ إِضَاعَةُ مَالٍ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ يُخْرَجُ مِنَ الْقَبْرِ بَعْدَ إِهَالَةِ
التُّرَابِ إِلاَّ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَمَا إِذَا سَقَطَ فِي الْقَبْرِ
مَتَاعٌ، أَوْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ دُفِنَ مَعَهُ مَالٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 /
366، والمجموع للنووي 5 / 300 - 303، والمغني لابن قدامة 2 / 553، وكشاف
القناع 2 / 145.
(2) المجموع للنووي 5 / 300 - 303، وتحفة المحتاج مع الحاشيتين 3 / 204،
ومغني المحتاج 1 / 366.
(40/25)
وَلَوْ كَانَ الْمَال دِرْهَمًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يُنْبَشُ الْقَبْرُ
مِنْ أَجْلِهَا إِذَا نُسِيَ مَعَهُ مَالٌ نَحْوُ ثَوْبٍ أَوْ خَاتَمٍ أَوْ
دَنَانِيرَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَال لِغَيْرِ الْمَيِّتِ أُخْرِجَ
مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ أُخْرِجَ إِنْ كَانَ نَفِيسًا وَلَمْ
يُسَامِحْ فِيهِ الْوَرَثَةُ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ نَبْشِ الْقَبْرِ عَدَمَ تَغَيُّرِ
الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ أُجْبِرَ غَيْرُ الْوَارِثِ عَلَى
أَخْذِ عِوَضِهِ وَلاَ شَيْءَ لِوَارِثِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ
لِلْوَارِثِ إِذَا كَانَ الْمَال غَيْرَ نَفِيسٍ، أَيْ غَيْرَ ذِي بَالٍ
(3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَالٌ لَهُ قِيمَةٌ
عُرْفًا أَوْ رَمَاهُ رَبُّهُ فِيهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخِذَ ذَلِكَ
مِنْهُ بِعَيْنِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ فِي أَخْذِهِ، وَلِمَا رُوِيَ "
أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ خَاتَمَهُ
فِي قَبْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال:
خَاتَمِي، فَدَخَل وَأَخَذَهُ وَكَانَ يَقُول: أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا
بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (4) ، وَقَال
أَحْمَدُ: إِذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 101.
(2) جواهر الإكليل 1 / 117، والخرشي وبهامشه حاشية العدوي 2 / 144 - 145.
(3) جواهر الإكليل 1 / 117، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 144 - 145.
(4) حديث: " أن المغيرة بن شعبة وضع خاتمه. . . ". أخرجه ابن عساكر في
تاريخ دمشق (60 / 29 ط دار الفكر) وَقَال النووي في المجموع (5 / 300 ط
المنيرية) : حديث المغيرة ضعيف غريب. ثم نقل عن أبي أحمد الحاكم أنه قال:
لا يصح هذا الحديث.
(40/26)
مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ جَازَ أَنْ
يُنْبَشَ (1) .
ب - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل مَالٍ بَلَعَهُ الْمَيِّتُ:
5 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ بَلَعَ مَال غَيْرِهِ وَلاَ مَال لَهُ
وَمَاتَ هَل يُشَقُّ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ؛ لأَِنَّ فِي
ذَلِكَ إِبْطَال حُرْمَةِ الأَْعْلَى وَهُوَ الآْدَمِيُّ لِصِيَانَةِ
حُرْمَةِ الأَْدْنَى وَهُوَ الْمَال؛ وَلأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ
مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ حَيًّا لَوِ
ابْتَلَعَ الْمَال إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْفَضَلاَتِ اتِّفَاقًا
فَكَذَا مَيِّتًا.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُهُ؛ لأَِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ
مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ
الظَّالِمِ الْمُتَعَدِّي؛ وَلأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ حُرْمَةُ
الآْدَمِيِّ أَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ صِيَانَةِ الْمَال لَكِنَّهُ أَزَال
احْتِرَامَهُ بِتَعَدِّيهِ، قَالُوا: وَهَذَا الْقَوْل أَوْلَى، وَلَوْ
تَرَكَ مَالاً فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا بَلَعَهُ، وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ
اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ سَقَطَ فِي جَوْفِهِ مَالٌ لِغَيْرِهِ بِلاَ
تَعَدٍّ مِنْهُ لاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ اتِّفَاقًا، كَمَا لاَ يُشَقُّ
الْحَيُّ مُطْلَقًا لإِِفْضَائِهِ إِلَى الْهَلاَكِ لاَ لِمُجَرَّدِ
الاِحْتِرَامِ (2) .
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ شِقِّ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 145.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 102 ط دار إحياء التراث
العربي.
(40/26)
بِطْنِ الْمُبْتَلِعِ يَخْتَلِفُ قَبْل
الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ، أَمْ يَسْتَوِي فِيهِ الأَْمْرَانِ، وَالأَْقْرَبُ
إِلَى مَفْهُومِ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ أَيْ يُشَقُّ
بَطْنُهُ لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال الْمَبْلُوعِ حَتَّى بَعْدَ دَفْنِهِ،
وَذَلِكَ بَعْدَ نَبْشِ قَبْرِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ كَمَا لَوْ دُفِنَ
مَعَهُ الْمَال.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُ الْمَيِّتِ عَنْ
مَالٍ ابْتَلَعَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَاتَ وَهُوَ فِي بَطْنِهِ، سَوَاءٌ
كَانَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، إِذَا كَثُرَ فَبَلَغَ نِصَابَ زَكَاةٍ،
وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ بَلَعَ الْمَيِّتُ جَوْهَرَةً أَوْ غَيْرَهَا
مِنَ الْمَال نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مَا ابْتَلَعَهُ مَال نَفْسِهِ
فَرَجَّحَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَلاَ
يُشَقُّ بَطْنُهُ لإِِخْرَاجِ الْمَال لأَِنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ فِي
حَال حَيَاتِهِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا بَلَعَ مَال نَفْسِهِ
يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَيُشَقُّ بَطْنُهُ لاِسْتِخْرَاجِهِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ
لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ كَمَال الأَْجْنَبِيِّ (2) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَال الَّذِي ابْتَلَعَهُ لِغَيْرِهِ فَمَاتَ
وَدُفِنَ، وَطَلَبَهُ مَالِكُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ بَدَلَهُ أَحَدٌ مِنْ
وَرَثَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُنْبَشُ قَبْرُهُ، وَيُشَقُّ جَوْفُهُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 117.
(2) تحفة المحتاج 3 / 204، وقليوبي وعميرة 1 / 352، والمجموع للنووي 5 /
300، 303، ومغني المحتاج 1 / 366.
(40/27)
وُجُوبًا لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال ثُمَّ
يُدْفَعُ لِمَالِكِهِ، أَمَّا إِذَا ضَمِنَهُ أَحَدٌ مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ
غَيْرِهِمْ، أَوْ دُفِعَ لِصَاحِبِ الْمَال بَدَلُهُ فَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ
نَبْشُهُ وَشَقُّ جَوْفِهِ؛ لِقِيَام بَدَلِهِ مَقَامَهُ، وَصَوْنًا
لِلْمَيِّتِ عَنِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَطْلُبْ
صَاحِبُ الْمَال مَالَهُ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَلاَ
يُشَقُّ بَطْنُهُ، بَل يَجِبُ قِيمَةُ الْمَال الْمَبْلُوعِ فِي
تَرِكَتِهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ
كَكَسْرِهِ حَيًّا " (1) ، قَالُوا: وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ: أَنَّ كَسْرَ الْعَظْمِ وَشَقَّ الْجَوْفِ فِي الْحَيَاةِ لاَ
يَجُوزُ لاِسْتِخْرَاجِ جَوْهَرَةٍ وَغَيْرِهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ
(2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا بَلَعَ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
وَبَقِيَتْ مَالِيَّتُهُ كَخَاتَمٍ مَثَلاً وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ
يُنْبَشْ وَغُرِّمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ
عَدَمِ الضَّرَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ غُرْمُ الْمَال الَّذِي بَلَعَهُ
الْمَيِّتُ؛ لِعَدَمِ تَرِكَةٍ وَنَحْوِهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَشُقَّ
جَوْفُهُ وَأُخِذَ
__________
(1) حديث: " كسر عظم الميت ككسره حيا ". أخرجه أبو داود (3 / 544 - ط حمص)
وابن حبان في صحيحه (الإحسان 7 / 437 ط مؤسسة الرسالة) ونقل علي القاري في
المرقاة (2 / 380) عن ابن القطان أنه قال: " إسناده حسن ".
(2) تحفة المحتاج 3 / 204، وقليوبي وعميرة 1 / 352، والمجموع للنووي 5 /
300 - 303، ومغني المحتاج 1 / 366.
(40/27)
الْمَال، فَدُفِعَ لِرَبِّهِ وَذَلِكَ إِنْ
لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ بِبَذْل قِيمَةِ الْمَال
لِرَبِّهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يُنْبَشُ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ عَدَمِ
الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْمَال، وَإِنْ بَلَعَ مَال الْغَيْرِ بِإِذْنِ
رَبِّهِ فَلاَ يُضْمَنُ الْمَال الَّذِي بَلَعَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ،
وَعَلَيْهِ فَلاَ طَلَبَ لِرَبِّهِ عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّهُ
هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُتَعَرَّضُ لِلْمَيِّتِ بِنَبْشٍ
أَوْ شَقٍّ قَبْل أَنْ يَبْلَى جَسَدُهُ؛ لأَِنَّ مَالِكَ الْمَال هُوَ
الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى مَالِهِ بِالإِْذْنِ لَهُ فَهُوَ كَمَالِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا بَلِيَ جَسَدُهُ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْمَال
وَظُهُورُهُ وَتَخَلُّصُهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ نَبْشُهُ
وَإِخْرَاجُ الْمَال مِنَ الْقَبْرِ وَدَفْعُهُ إِلَى صَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " إِنَّ هَذَا قَبْرُ
أَبِي رِغَالٍ وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ
أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ
فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ
إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ، فَابْتَدَرَهُ
النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ " (2) ، وَلأَِنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ
لِلْمَال (3) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 145 - 146.
(2) حديث: " هذا قبر أبي رغال. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 464 ط حمص) ،
وقال أبو الطيب: فيه بجير بن أبي بجير مجهول (عون المعبود 8 / 346 ط دار
الفكر) .
(3) كشاف القناع 2 / 145 - 146، والمغني لابن قدامة 2 / 552.
(40/28)
وَإِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ لَمْ يُنْبَشْ
قَبْرُهُ قَبْل أَنْ يَبْلَى جَسَدُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلاَكٌ لِمَال
نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَشْبَهُ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُنْبَشُ قَبْرُهُ وَيُشَقُّ جَوْفُهُ
فَيُخْرَجُ الْمَال وَيُوَفَّى مِنْهُ دَيْنُهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ
الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل - إِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ - أَنَّهُ
إِنْ كَانَ يَسِيرًا تُرِكَ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ شُقَّ بَطْنُهُ
وَأُخْرِجَ؛ لأَِنَّ فِيهِ حِفْظَ الْمَال مِنَ الضَّيَاعِ وَنَفْعَ
الْوَرَثَةِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ (2) .
ج - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل كَفَنٍ مَغْصُوبٍ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَبْشِ قَبْرِ الْمَيِّتِ مِنْ
أَجْل كَفَنٍ مَغْصُوبٍ كُفِّنَ بِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْبَشُ الْقَبْرُ إِذَا كُفِّنَ
الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ
نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ بِكَفَنٍ مَغْصُوبٍ بِشُرُوطٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَمْتَنِعَ رَبُّ الْكَفَنِ مِنْ أَخْذِ قِيمَتِهِ.
الثَّانِي: عَدَمُ تَغَيُّرِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ
أُجْبِرَ رَبُّ الْكَفَنِ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ مِنَ الْوَارِثِ.
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ تَطُول الْمُدَّةُ بِحَيْثُ يُعْلَمُ مِنْهَا
__________
(1) كشاف القناع 2 / 146.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 552.
(40/28)
فَسَادُ الْكَفَنِ وَإِلاَّ فَلاَ
يُنْبَشُ، وَيُعْطَى رَبُّ الْكَفَنِ قِيمَتَهُ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَرْجِيحِ نَبْشِ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل كَفَنٍ
مَغْصُوبٍ أَقْوَالٌ:
قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ دُفِنَ فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مَسْرُوقٍ
فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يُنْبَشُ كَمَا لَوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ،
وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، وَصَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ
وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ نَبْشُهُ بَل يُعْطَى صَاحِبُ الثَّوْبِ
قِيمَتَهُ؛ لأَِنَّ الثَّوْبَ صَارَ كَالْهَالِكِ؛ وَلأَِنَّ خَلْعَهُ
أَفْحَشُ فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْعَبْدَرِيُّ، وَهُوَ
قَوْل الدَّارِمِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْمَحَامِلِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ وَكَانَ فِي نَبْشِهِ هَتْكٌ
لِحُرْمَتِهِ لَمْ يُنْبَشْ وَإِلاَّ نُبِشَ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ
الْعُدَّةِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ لأَِنْفُسِهِمَا بَعْدَ حِكَايَتِهِمَا
عَنِ الأَْصْحَابِ وَاخْتَارَهُ أَيْضًا الدَّارِمِيُّ.
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: وَلَوْ كُفِّنَ الرَّجُل فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 101 - 102، وجواهر الإكليل
1 / 117، والخرشي مع العدوي 2 / 144 - 145.
(40/29)
ثَوْبٍ حَرِيرٍ، قَال الرَّافِعِيُّ: هُوَ
كَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ تَجْرِي فِي نَبْشِهِ هَذِهِ الأَْوْجُهُ -
الثَّلاَثَةُ - وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي
أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ بِعَدَمِ النَّبْشِ بِخِلاَفِ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّ
نَبْشَهُ لِحَقِّ مَالِكِهِ، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ؛
لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ اللَّهِ مَبْنِيٌّ عَلَى
الْمُسَامَحَةِ (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ أَوْ ثَوْبٍ
مَغْصُوبَيْنِ وَطَالَبَ بِهِمَا مَالِكُهُمَا فَيَجِبُ النَّبْشُ وَلَوْ
تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ،
لِيَصِل الْمُسْتَحِقُّ إِلَى حَقِّهِ.
وَيُسَنُّ لِصَاحِبِهِمَا التَّرْكُ.
وَمَحَل النَّبْشِ فِي الثَّوْبِ إِذَا وُجِدَ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ
الْمَيِّتُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ النَّبْشُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّا إِذَا لَمْ
نَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِكِهِ قَهْرًا وَلاَ يُدْفَنُ
عُرْيَانًا، وَهُوَ مَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ،
قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كُفِّنَ الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ
وَطَلَبَهُ مَالِكُهُ لَمْ يُنْبَشِ الْقَبْرُ، وَغُرِّمَ ذَلِكَ مِنْ
تَرِكَتِهِ؛ لإِِمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ مَعَ عَدَمِ هَتْكِ حُرْمَةِ
الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُرْمُ لِعَدَمِ تَرِكَةٍ
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 299، ومغني المحتاج 1 / 366.
(2) مغني المحتاج 1 / 366.
(40/29)
وَنَحْوِهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخِذَ
الْكَفَنُ الْمَغْصُوبُ فَدُفِعَ لِمَالِكِهِ إِنْ لَمْ يَبْذُل لَهُ
قِيمَةَ الْكَفَنِ مُتَبَرِّعٌ، سَوَاءٌ كَانَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُ،
فَلاَ يُنْبَشُ حِينَئِذٍ؛ لإِِمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ مَعَ عَدَمِ
هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ (1) .
وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُنْبَشُ إِذَا كَانَ الْكَفَنُ
بَاقِيًا بِحَالِهِ، لِيُرَدَّ إِلَى مَالِكِهِ عَنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ
بَالِيًا فَقِيمَتُهُ مِنْ تَرَكَتِهِ (2) .
د - نَبْشُ الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ بِأَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ
إِذَا دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ وَطَلَبَ مَالِكُهَا نَبْشَهُ وَلَمْ
يَرْضَ بِقِيمَتِهَا؛ لأَِنَّ الْقَبْرَ فِي الأَْرْضِ يَدُومُ ضَرَرُهُ
وَيَكْثُرُ، وَلِيَفْرَغَ لَهُ مِلْكُهُ عَمَّا شُغِل بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: يُسَنُّ لِلْمَالِكِ تَرْكُ النَّبْشِ حَتَّى يَبْلَى
الْمَيِّتُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ إِخْرَاجِهِ
وَمُسَاوَاةِ الْقَبْرِ بِالأَْرْضِ، لِيَزْرَعَ فَوْقَهُ مَثَلاً؛ لأَِنَّ
حَقَّهُ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ وَظَاهِرِهَا، فَإِنْ شَاءَ تَرَكَ حَقَّهُ
فِي بَاطِنِهَا وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ النَّبْشِ عَدَمَ تَغَيُّرِ
الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ أُجْبِرَ الْمَالِكُ عَلَى أَخْذِ
الْعِوَضِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ النَّبْشُ وَلَوْ تَغَيَّرَ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 145.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 554.
(40/30)
الْمَيِّتُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَتْكُ
حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لِيَصِل الْمُسْتَحِقُّ إِلَى حَقِّهِ (1) .
هـ - نَبْشُ قَبْرِ الْحَامِل مِنْ أَجْل الْحَمْل:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَبْشِ قَبْرِ الْحَامِل مِنْ أَجْل
حَمْلِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ دُفِنَتِ امْرَأَةٌ
فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ تُرْجَى حَيَاتُهُ - بِأَنْ يَكُونَ لَهُ سِتَّةُ
أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ - نُبِشَ قَبْرُهَا وَشُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ
الْجَنِينُ تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ يَجِبُ شَقُّ
جَوْفِهَا قَبْل الدَّفْنِ، أَمَّا إِنْ لَمْ تُرْجَ حَيَاتُهُ فَلاَ
يُنْبَشُ قَبْرُهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُفِنَتْ تُرِكَتْ حَتَّى يَمُوتَ
ثُمَّ تُدْفَنُ (2) .
ثَانِيهِمَا: اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ
شَقِّ بَطْنِ الْحَامِل، فَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ مَاتَتْ حَامِلٌ
بِمَنْ يُرْجَى حَيَاتُهُ حَرُمَ شَقُّ بَطْنِهَا مِنْ أَجْل الْحَمْل
مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً، لِمَا فِيهِ مَنْ هَتْكِ حُرْمَةٍ
مُتَيَقَّنَةٍ لإِِبْقَاءِ حَيَاةٍ مَوْهُومَةٍ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ
وَالظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ لاَ يَعِيشُ (3) ، وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وجواهر الإكليل 1 / 117، ومغني المحتاج 1 /
366، وتحفة المحتاج 3 / 204، والمغني لابن قدامة 2 / 554، وكشاف القناع 2 /
145.
(2) مغني المحتاج 1 / 367، وتحفة المحتاج 3 / 205.
(3) جواهر الإكليل 1 / 117، وابن عابدين 1 / 602، وكشاف القناع 2 / 146،
والمغني لابن قدامة 2 / 551 - 552.
(40/30)
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ " (1) .
ثَالِثًا: نَبْشُ الْقَبْرِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمَيِّتِ
نَفْسِهِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ نَبْشِ الْقَبْرِ بِحُقُوقِ
الْمَيِّتِ كَدَفْنِهِ قَبْل الْغُسْل أَوِ التَّكْفِينِ أَوِ الصَّلاَةِ
عَلَيْهِ أَوْ دَفْنِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى
التَّفْصِيل التَّالِي:
أ - دَفْنُهُ قَبْل الْغُسْل:
10 - اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ نَبْشِ الْقَبْرِ
إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلاَ تَيَمُّمٍ.
فَذَهَب الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى
أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ الْقَبْرُ لِلْغُسْل بَعْدَ إِهَالَةِ التُّرَابِ
عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ
هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ؛ وَلأَِنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نُهِيَ
عَنْهَا (2) ، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ
إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُ الْقَبْرِ إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ مِنْ
__________
(1) حديث: " كسر عظم الميت. . " سبق تخريجه ف 5.
(2) ورد فيها حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة
" أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 119 ط السلفية) من حديث عبد الله بن زيد
الأنصاري رضي الله عنه.
(40/31)
غَيْرِ غُسْلٍ أَوْ تَيَمُّمٍ لِغُسْلِهِ،
لأَِنَّهُ وَاجِبٌ فَيُسْتَدْرَكُ عِنْدَ قُرْبِهِ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ
بِنَتَنٍ أَوْ تَقَطُّعٍ، وَإِلاَّ تُرِكَ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنْبَشُ مَا بَقِيَ
مِنْهُ جُزْءٌ (1) .
ب - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل تَكْفِينِ الْمَيِّتِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دُفِنَ
الْمَيِّتُ بِغَيْرِ كَفَنٍ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ، وَعَلَّل
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَكْفِينِ
الْمَيِّتِ السَّتْرُ، وَقَدْ حَصَل التُّرَابُ مَعَ مَا فِي النَّبْشِ
مِنَ الْهَتْكِ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ؛ لأَِنَّ
التَّكْفِينَ وَاجِبٌ فَأَشْبَهَ الْغُسْل (2) .
ج - نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ مِنْ أَجْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُ
الْمَيِّتِ مِنْ أَجْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ
حُرْمَةِ الْمَيِّتِ مَعَ إِمْكَانِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ؛
لِمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 602، ومغني المحتاج 1 / 366، والمغني لابن قدامة
2 / 553.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، ومغني المحتاج 1 / 366 - 367، وتحفة المحتاج
3 / 205، والمغني لابن قدامة 2 / 554.
(40/31)
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ " أَنَّ أَسْوَدَ - رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً - كَانَ يَقُمُّ
الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ قَال: مَا فَعَل ذَلِكَ
الإِْنْسَانُ؟ قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: أَفَلاَ
آذَنْتُمُونِي؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا - قِصَّتُهُ -
قَال: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، قَال: فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ. فَأَتَى
قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ " (1) .
وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى
عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ دُفِنَ قَبْل فِعْل وَاجِبٍ فَيُنْبَشُ لِفِعْلِهِ،
كَمَا لَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَإِنَّمَا يُصَلَّى عَلَى
الْقَبْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
وَهَذَا الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَيِّتُ، فَأَمَّا
إِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ فَلاَ نَبْشَ بِحَالٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يُصَل عَلَى الْمَيِّتِ أُخْرِجَ لَهَا
مَا لَمْ يَفُتْ، بِأَنْ خِيفَ التَّغَيُّرُ، فَإِنْ خِيفَ تَغَيُّرُهُ
صُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ (3) . .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (جَنَائِز ف 37) .
د - نَبْشُ الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ
الْمَيِّتُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) حديث: " أن أسود - رجلا أو امرأة. . . " أَخرجه البخاري (فتح الباري 3
/ 205 ط السلفية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وتحفة المحتاج 3 / 204 - 205، ومغني المحتاج
1 / 366 - 367، والمغني لابن قدامة 2 / 553.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 2 / 142.
(40/32)
الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُ الْقَبْرِ
وَتَوْجِيهُ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ اسْتِدْرَاكًا لِلْوَاجِبِ، إِلاَّ
إِنْ تَغَيَّرَ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ التَّفَسُّخُ فَيُتْرَكُ وَلاَ
يُنْبَشُ (1) .
الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ لاَ يُنْبَشُ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ إِلَى
غَيْرِ الْقِبْلَةِ صَوْنًا لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ مِنَ الْهَتْكِ (2) .
رَابِعًا: نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل نَقْل الْمَيِّتِ إِلَى مَكَانٍ
آخَرَ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَبْشُ
الْقَبْرِ مِنْ أَجْل نَقْل الْمَيِّتِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، قَال ابْنُ
الْهُمَامِ: اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَشَايِخِ - مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ
- فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا
فَلَمْ تَصْبِرْ وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ: أَنَّهُ لاَ يَسَعُهَا ذَلِكَ.
فَتَجْوِيزُ شَوَاذِّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ،
وَلَمْ يُعْلَمْ خِلاَفٌ بَيْنِ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ،
وَأَمَّا نَقْل يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا
السَّلاَمُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ لِيَكُونَا مَعَ آبَائِهِمَا
الْكِرَامِ فَهُوَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَتَوَفَّرْ فِيهِ
شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا (3) .
__________
(1) تحفة المحتاج 3 / 204 - 205، ومغني المحتاج 1 / 366 - 367، والمغني
لابن قدامة 2 / 553.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 602، وفتح القدير 2 / 101 - 102.
(3) فتح القدير 2 / 101 - 102، وحاشية ابن عابدين 1 / 602، ومغني المحتاج 1
/ 366.
(40/32)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ لِنَقْل الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ فِي بُقْعَةٍ
خَيْرٍ مِنْ بُقْعَتِهِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا، كَمُجَاوَرَةِ صَالِحٍ
لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ، أَوْ لإِِفْرَادِهِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ
عَمَّنْ دُفِنَ مَعَهُ، فَيَجُوزُ نَبْشُهُ لِذَلِكَ (1) ، لِقَوْل جَابِرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي
حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ: كَانَ أَوَّل قَتِيلٍ - يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ - وَدُفِنَ
مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ
الآْخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ
كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ " (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ نَبْشِ الْقَبْرِ لِنَقْل الْمَيِّتِ
إِلَى بُقْعَةٍ خَيْرٍ مِنْ بُقْعَتِهِ الشَّهِيدَ إِذَا دُفِنَ
بِمَصْرَعِهِ، فَلاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ لِنَقْلِهِ إِلَى غَيْرِ
مَصْرَعِهِ، حَتَّى لَوْ نُقِل مِنْهُ رُدَّ إِلَيْهِ؛ لأََنَّ دَفْنَ
الشَّهِيدِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُتِل فِيهِ سُنَّةٌ (3) ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ شُهَدَاءِ
أُحُدٍ: " ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ " (4) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 86، 142.
(2) حديث جابر رضي الله عنه: " دفن مع أبي رجل. . . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 214 - 215 ط السلفية) .
(3) كشاف القناع 2 / 86، 142.
(4) حديث: " ادفنوا القتلى في مصارعهم " أخرجه النسائي (4 / 79 ط التجارية
الكبرى) وعبد الرزاق في المصنف (5 / 278 ط المجلس العلمي) من حديث جابر بن
عبد الله رَضي الله عنهم.
(40/33)
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ قَال ابْنُ
قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَلَمْ يَزَل الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَقْبُرُونَ فِي الصَّحَارِي (1) .
خَامِسًا: نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ لِدَفْنِ آخَرَ مَعَهُ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ
نَبْشُ قَبْرِ مَيِّتٍ بَاقٍ لِمَيِّتٍ آخَرَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ
هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ الأَْوَّل، وَمَتَى عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ
الْمَيِّتَ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا جَازَ نَبَشَهُ وَدَفْنُ غَيْرِهِ
فِيهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ وَالْهَوَاءِ، وَهُوَ
فِي الْبِلاَدِ الْحَارَّةِ أَسْرَعُ مِنْهُ فِي الْبِلاَدِ الْبَارِدَةِ.
وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ أَيْ أَنَّهُ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا رَجَعَ
إِلَى قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ.
فَإِنْ حَفَرَ فَوَجَدَ فِيهَا عِظَامًا دَفَنَهَا فِي مَكَانِهَا،
وَأَعَادَ التُّرَابَ كَمَا كَانَ وَلَمْ يَجُزْ دَفْنُ مَيِّتٍ آخَرَ
عَلَيْهِ.
كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا صَارَ الْمَيِّتُ رَمِيمًا الزِّرَاعَةُ
وَالْحِرَاثَةُ وَغَيْرُهُمَا فِي مَوْضِعِ الدَّفْنِ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ
شُرُوطَ وَاقِفٍ، أَوْ لَمْ تَكُنِ الْمَقْبَرَةُ مُسَبَّلَةً (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ بَلِيَ الْمَيِّتُ وَصَارَ تُرَابًا جَازَ
دَفْنُ غَيْرِهِ فِي قَبْرِهِ وَزَرْعُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) المغني لابن قدامة (3 / 441 - ط هجر) .
(2) كشاف القناع 2 / 143 - 144، وحاشية العدوي على الخرشي 2 / 144.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 167.
(40/33)
سَادِسًا: نَبْشُ قُبُورِ الْكُفَّار
لِغَرَضٍ صَحِيحٍ:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِنَبْشِ قُبُورِ الْكُفَّارِ
طَلَبًا لِلْمَال، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) فَقَالُوا
بِجَوَازِ نَبْشِ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِمَالٍ فِيهَا كَقَبْرِ أَبِي
رِغَالٍ (2) ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: " هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ. . . وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ
مَعَهُ غُصْنًا مِنْ ذَهَبٍ إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ
مَعَهُ فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ " (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ دُفِنَ كَافِرٌ فِي الْحَرَمِ يُنْبَشُ
قَبْرُهُ وَيُخْرَجُ إِلَى خَارِجِ الْحَرَمِ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ نَبْشُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِيُتَّخَذَ
مَكَانَهَا مَسْجِدٌ (5) ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قُبُورًا لِلْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ
بِنَبْشِهَا وَجَعَلَهَا مَسْجِدًا (6) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 225، وكشاف القناع 2 / 144.
(2) أبو رغال كان دليلا للحبشة الذين توجهوا إلى مكة لهدم الكعبة فمات في
الطريق ويرجم قبره، (انظر كشاف القناع 2 / 144) .
(3) حديث أبي رغال، سبق تخريجه ف 5.
(4) مغني المحتاج 1 / 367.
(5) كشاف القناع 2 / 144.
(6) حديث: " موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 1 / 524 ط السلفية) ومسلم (1 / 373 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس
بن مالك رضي الله عنه.
(40/34)
نَبَهْرَجة
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبَهْرَجُ وَالنَّبَهْرَجَةُ لَفْظَانِ مُعَرَّبَانِ، قَال ابْنُ
الأَْعْرَابِيِّ: الْبَهْرَجُ الدِّرْهَمُ الْمُبْطَل السِّكَّةِ، وَكُل
مَرْدُودٍ عِنْدَ الْعَرَبِ بَهْرَجٌ وَنَبَهْرَجٌ، وَالْبَهْرَجُ
الْبَاطِل وَالرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْحَنَفِيَّةُ: النَّبَهْرَجَةُ الدِّرْهَمُ
الزَّيْفُ الرَّدِيءُ، أَوْ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ مِنَ الدَّرَاهِمِ،
أَوْ مَا ضُرِبَ فِي غَيْرِ دَارِ السُّلْطَانِ (1) .
الألفاظ ذات الصلة:
أ - الْجِيَاد:
2 - الْجِيَادُ جَمْعُ جَيِّدٍ، وَالدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ: مَا كَانَتْ
مِنِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ: تَرُوجُ فِي التِّجَارَاتِ وَتُوضَعُ فِي
بَيْتِ الْمَال (2) .
وَالصِّلَة بَيْنَهُمَا التَّضَادُّ.
__________
(1) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني، وحاشية ابن عابدين 4 / 218، وقواعد
الفقه للبركتي.
(2) لسان العرب، وابن عابدين 4 / 218.
(40/34)
ب - السَّتُّوقَةُ:
3 - السَّتُّوقَةُ: دَرَاهِمُ صُفْرٌ مُمَوَّهَةٌ بِالْفِضَّةِ نُحَاسُهَا
أَكْثَرُ مِنْ فِضَّتِهَا (1) .
وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: السَّتُّوقَةُ: مَا غَلَبَ عَلَيْهِ غِشُّهُ مِنَ
الدَّرَاهِمِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ الْغِشُّ الزَّائِدُ فِي كُلٍّ،
وَالسَّتُّوقَةُ أَرْدَأُ مِنَ النَّبَهْرَجِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّبَهْرَجَةِ:
التَّعَامُل بِالنَّبَهْرَجَةِ:
4 - النَّبَهْرَجَةُ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةُ، وَهَذَا النَّوْعُ
مِنَ الدَّرَاهِمِ: إِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا هُوَ الْفِضَّةَ فَهِيَ
كَالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ؛ لأَِنَّ الْغِشَّ فِيهَا مُسْتَهْلَكٌ
فَتُجْرَى فِيهَا أَحْكَامُ الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ، فَيَجُوزُ
التَّعَامُل بِهَا مَغْشُوشَةً وَإِنْ جُهِل قَدْرُ غِشِّهَا، وَتَجِبُ
فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ مَا غَلَبَتْ
فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ تَنَاوَلَهُ اسْمُ الدِّرْهَمِ مُطْلَقًا،
وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ.
وَإِنْ غَلَبَ الْغِشُّ فَلَيْسَ كَالْفِضَّةِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ
رَائِجَةً أَوْ نَوَى التِّجَارَةَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا، فَإِنْ
بَلَغَتْ نِصَابًا مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا
الزَّكَاةُ - وَهِيَ الَّتِي غَلَبَتْ فِضَّتُهَا - وَجَبَتْ فِيهَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 218.
(2) التعريفات للجرجاني.
(40/35)
الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً لاَ مَنْوِيَّةً لِلتِّجَارَةِ
فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنِ الْفِضَّةِ
يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ نِصَابُ الْفِضَّةِ أَوْ تَكُونَ
مَنْوِيَّةً لِلتِّجَارَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (زُيُوف ف 6 - 8) .
بَيْعُ النَّبَهْرَجَةِ بِالْجِيَادِ:
5 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ وَالنَّبَهْرَجَةِ إِلاَّ
مِثْلاً بِمِثْلٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زُيُوف ف 9) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 245.
(2) البحر الرائق 2 / 245.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 183.
(40/35)
نبوّة
التَّعْريِفُ:
1 - النُّبُوَّةُ لُغَةً مِنْ (نَبَا يَنْبُو) أَوْ مِنَ (النَّبَأِ) ،
فَنَبَا الشَّيْءُ بِمَعْنَى ارْتَفَعَ، وَمِنْهُ " النَّبِيُّ " وَهُوَ
فِي اللُّغَةِ: الأَْرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنَّبِيُّ أَيْضًا الْعَلَمُ مِنْ أَعْلاَمِ
الأَْرْضِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا، أَيْ كَالْجَبَل وَنَحْوِهِ.
قَال بَعْضُهُمْ: وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ " النَّبِيِّ " لأَِنَّهُ أَرْفَعُ
خَلْقِ اللَّهِ، وَأَيْضًا لأَِنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ.
وَقَال ابْنُ السِّكِّيتِ: إِنْ أَخَذْتَ " النَّبِيَّ " مِنَ النُّبُوَّةِ
وَالنَّبَاوَةِ، وَهِيَ الاِرْتِفَاعُ مِنَ الأَْرْضِ؛ لاِرْتِفَاعِ
قَدْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ، فَأَصْلُهُ غَيْرُ
الْهَمْزِ.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ مِنَ " النَّبَأِ " بِالْهَمْزِ، فَقَدْ لاَحَظَ
مَعْنَى الإِْنْبَاءِ، وَهُوَ الإِْخْبَارُ، تَقُول الْعَرَبُ: أَنْبَأْتُ
فَلاَنًا نُبُوءَةً، أَيْ أَخْبَرْتُهُ خَبَرًا، فَمِنْهُ " النَّبِيُّ "
وَأَصْلُهُ " النَّبِيءُ " فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَوْ بِمَعْنَى
فَاعِلٍ، أَيْ مُنَبِّأٌ أَوْ مُخْبِرٌ، ثُمَّ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ.
(40/36)
قَال الْفَرَّاءُ: النَّبِيُّ هُوَ مَنْ
أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ، فَتُرِكَ هَمْزُهُ.
وَقَال الزَّجَّاجُ: الْقِرَاءَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا فِي النَّبِيِّينَ
وَالأَْنْبِيَاءِ طَرْحُ الْهَمْزِ، وَقَدْ هَمَزَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل
الْمَدِينَةِ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا، وَالأَْجْوَدُ تَرْكُ
الْهَمْزِ (1) .
وَالنُّبُوَّةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: قَال طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّهَا
صِفَةٌ فِي النَّبِيِّ، وَقَال طَائِفَةٌ لَيْسَتْ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً فِي
النَّبِيِّ، بَل هِيَ مُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الإِْلَهِيِّ بِهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ النُّبُوَّةَ تَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا، فَهِيَ
تَتَضَمَّنُ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً فِي النَّبِيِّ، وَصِفَةً إِضَافِيَّةً
هِيَ مُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الإِْلَهِيِّ بِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرِّسَالَةُ:
2 - الرِّسَالَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِْرْسَال،
يُقَال: أَرْسَلْتُ إِلَى فُلاَنٍ، أَيْ وَجَّهْتُ إِلَيْهِ،
وَأَرْسَلْتُهُ فِي رِسَالَةٍ، فَهُوَ مُرْسَلٌ وَرَسُولٌ (3) .
__________
(1) لسان العرب المحيط، وفتح الباري 6 / 361.
(2) كتاب النبوات لابن تيمية ص 389 دار الكتب العلمية - بيروت.
(3) لسان العرب، والتعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(40/36)
وَالرِّسَالَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: كَوْنُ
الشَّخْصِ مُرْسَلاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ
بَعْضِهِمْ لِتَبْلِيغِ الأَْحْكَامِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرِّسَالَةَ أَخَصُّ مِنَ النُّبُوَّةِ.
مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ:
3 - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل إِذَا أَرْسَل رَسُولاً وَكَلَّفَ النَّاسَ
بِتَصْدِيقِهِ وَطَاعَتِهِ، لاَ يَتِمُّ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ إِلاَّ بِأَنْ
يَكُونَ مَعَ الرَّسُول مِنَ الآْيَاتِ وَالدَّلاَئِل وَالْقَرَائِنِ
وَالْمُعْجِزَاتِ مَا يَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ رِسَالَتِهِ
وَصِدْقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَكْفِي الْعَاقِل إِنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ عِنَادٌ وَجُحُودٌ لِيَقْتَنِعَ بِأَنَّ مَنْ أَتَى بِهَا
مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْقَادِرِ عَلَى كُل شَيْءٍ؛ لِكَوْنِهَا
خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ خَارِجَةً عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ،
مَعَ تَحَدِّيهِ لَهُمْ بِهَا، وَنِسْبَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَعَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَتِهَا وَالإِْتْيَانِ بِمِثْلِهَا (1) ،
قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَمَا
أَعْطَاهُ مُعْجِزَةَ الْعَصَا وَبَيَاضِ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ:
فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ (2) ،
وَقَال تَعَالَى فِي حَقِّ
__________
(1) انظر مثلا كتاب النبوات ص (148، 153، 156) ، وأعلام النبوة ص 56 وما
بعدها للماوردي، والمواقف للعضد ص 339 غيرها.
(2) سورة القصص / 32.
(40/37)
رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ
بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (1) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنَ
الأَْنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنَ الآْيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ
عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا
أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ " (2) .
شَرَائِعُ النُّبُوَّاتِ السَّابِقَةِ:
4 - مَا لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ
فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَوَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى
الأَْنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، فَلَيْسَ
شَرْعًا لَنَا اتِّفَاقًا، وَلَسْنَا مُطَالَبِينَ شَرْعًا بِالْبَحْثِ
عَمَّا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَيِّ
مَسْأَلَةٍ وَاقِعَةٍ.
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْل الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَال: "
أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ
__________
(1) سورة النساء / 174.
(2) حديث: " ما من الأنبياء نبي. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 /
3، 13 / 247 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 134 ط عيسى الحلبي) .
(40/37)
أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1) .
5 - وَأَمَّا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ
فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، أَوْ حَكَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَأْثُورِ عَنْهُ مِنَ السُّنَنِ، فَإِنْ كَانَ
مِنْ أُصُول الدِّينِ، كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ
وَالْحِسَابِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي
حَقِّنَا اتِّفَاقًا؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (2) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ
عَدَدًا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (3) وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(4) .
6 - أَمَّا مَا نُقِل فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَحْكِيًّا عَنِ
الأَْنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، وَلَمْ
يَرِدْ فِي شَرْعِنَا إِشْعَارٌ بِرَدِّهِ أَوْ نَسْخِهِ، فَجُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا.
__________
(1) حديث: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب. . . " أخرجه أحمد (3 / 387 ط
الميمنية) مطولا وذكره ابن حجر في الفتح (13 / 334 ط السلفية) وقال: رجاله
موثقون إلا أن في مجالد ضعفا. وقوله: " أمتهوكون " أي متحيرون (لسان العرب)
.
(2) سورة الشورى / 13.
(3) سورة الأنعام / 90.
(4) سورة النحل / 123.
(40/38)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَإِنْ وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَا يُقَرِّرُهُ (1) .
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ف 3)
وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
حُكْمُ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَوْ صَدَّقَ مُدَّعِيًا لَهَا:
7 - مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ
قَطْعًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى
أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ خَاتَمُ
النَّبِيِّينَ، أَيْ آخِرُهُمْ، فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ حَتَّى تَقُومَ
السَّاعَةُ (2) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ
مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ (3) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا خَاتَمُ
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 245 ط بولاق، والبحر المحيط للزركشي 6 / 39
الكويت، وزارة الأوقاف، وروضة الناظر لابن قدامة مع شرحها للشيخ عبد القادر
بدران 1 / 400 - 402 القاهرة، المكتبة السلفية، وتفسير القرطبي 8 / 211،
والبداية والنهاية لابن كثير 2 / 153، 154 القاهرة، المكتبة التجارية،
واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 172 مكتبة أنصار السنة بالقاهرة،
والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4 / 33.
(2) فتح الباري (13 / 86 المكتبة السلفية - القاهرة 1370 هـ) والجواب
الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 4 / 272، وشرح العقيدة الطحاوية لابن
أبي العز الأذرعي عند قول مؤلفها: " وخاتم الأنبياء ".
(3) سورة الأحزاب / 40.
(40/38)
النَّبِيِّينَ " (1) وَقَال أَيْضًا: "
فُضِّلْتُ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ بِسِتٍّ. . . . " الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: "
وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ " (2) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلُّهُمْ
يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِيَّ
بِعْدِي " (3) .
وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَمِنْ هُنَا يَنُصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ
شَرِيكٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّسَالَةِ،
أَوْ قَال بِجَوَازِ اكْتِسَابِهَا بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَتَهْذِيبِ
النَّفْسِ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَكَذَا إِنِ ادَّعَى أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ
النُّبُوَّةَ (4) . قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: لاَ خِلاَفَ فِي
__________
(1) حديث: " أنا خاتم النبيين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 558 ط
السلفية) ، ومسلم (4 / 1791 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " فضلت على الأنبياء بست. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 371 ط عيسى
الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " سيكون في أمتي كذابون. . " أخرجه أبو داود (4 / 452 ط حمص)
والترمذي (4 / 499 ط المكتبة التجارية) من حديث ثوبان رضي الله عنه وقال
الترمذي: حسن صحيح.
(4) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 278، والذخيرة 2 / 23 و 12 / 28
بيروت، دار الغرب الإسلامي 1993 م.
(40/39)
تَكْفِيرِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ. قَال:
وَتُقْبَل تَوْبَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ (1) .
وَقَال عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ: قَال أَهْل السُّنَّةِ
بِتَكْفِيرِ كُل مُتَنَبِّئٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْل الإِْسْلاَمِ
كَزَرَادِشْتَ، وَيُورَاسِفَ، وَمَانِي، وَدِيصَانَ، وَمَرْقِيُونَ،
وَمَزْدَكَ، أَوْ بَعْدَهُ، كَمُسَيْلِمَةَ، وَسَجَاحَ، وَالأَْسْوَدِ بْنِ
يَزِيدَ الْعَنْسِيِّ، وَسَائِرِ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ مِنَ
الْمُتَنَبِّئِينَ (2) .
8 - وَمَنْ صَدَّقَ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ يَكُونُ مُرْتَدًّا؛ لِكُفْرِهِ،
كَذَلِكَ (3) لإِِنْكَارِهِ الأَْمْرَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ.
وَنَقَل الْقَرَافِيُّ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي
لِلنُّبُوَّةِ ذِمِّيًّا اسْتُتِيبَ إِنْ أَعْلَنَ ذَلِكَ، فَإِنْ تَابَ
وَإِلاَّ قُتِل (4) ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْتَل الْمُتَنَبِّئُ
أَسَرَّ ذَلِكَ أَوْ أَعْلَنَهُ.
وَمَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ
(5) قَال الْقَرَافِيُّ: وَلاَ خِلاَفَ فِي كُفْرِهِ.، وَقَال عَبْدُ
الْقَاهِرِ: قَال أَهْل السُّنَّةِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 281، والشفا في حقوق المصطفى مع شرحه للشيخ علي
القاري 5 / 470 - 478 بتحقيق محمد حسنين مخلوف. القاهرة، مطبعة المدني.
(2) الفَرق بين الفِرق لعبد القاهر البغدادي ص 302، بيروت، دار المعرفة
1415 هـ.
(3) شرح المحلي على المنهاج للنووي 4 / 175، القاهرة، عيسى الحلبي، الذخيرة
12 / 22.
(4) الذخيرة 12 / 23.
(5) الذخيرة 12 / 27
(40/39)
بِتَكْفِيرِ مَنِ ادَّعَى لِلأَْئِمَّةِ
الإِْلَهِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ، كَالسَّبَئِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ
وَالْخَطَّابِيَّةِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ (1) .
نَبِيذ
انْظُرْ: أَشْرِبَة
__________
(1) الفرق بين الفرق ص 302.
(40/40)
نَبِيّ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّبِيُّ لُغَةً فَعِيلٌ مِنَ الإِْنْبَاءِ، وَهُوَ الإِْخْبَارُ،
وَالنَّبِيءُ فَعِيلٌ مَهْمُوزٌ؛ لأَِنَّهُ أَنْبَأَ عَنِ اللَّهِ أَيْ
أَخْبَرَ، وَالإِْبْدَال وَالإِْدْغَامُ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، وَقُرِئَ
بِهِمَا فِي السَّبْعَةِ (1) .
وَالنَّبِيُّ فِي الاِصْطِلاَحِ: قَال عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ:
النَّبِيُّ كُل مَنْ نَزَل عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى
لِسَانِ مَلَكٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَكَانَ مُؤَيَّدًا بِنَوْعٍ مِنَ
الْكَرَامَاتِ النَّاقِضَةِ لِلْعَادَاتِ (2) .
وَلَيْسَ كُل مَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ شَيْئًا يَكُونُ نَبِيًّا،
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل (3)
وَقَوْلِهِ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أرْضِعِيهِ (4)
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وفتح الباري 6 / 361، والنبوات لابن
تيمية ص 271، 355، 358، دار الكتاب العربي، بيروت ط 2، 1411 هـ.
(2) تفسير القرطبي 12 / 80 القاهرة، دار الكتب المصرية، وأعلام النبوة
للماوردي ص 38 القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1391 هـ، والنبوات لابن
تيمية ص 301، وكشاف القناع 1 / 6، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب (1 / 35) ،
ط دار الفلاح، 1403 هـ.
(3) سورة النحل / 68.
(4) سُورَة الْقَصَصِ / 7.
(40/40)
وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي (1) قَال ابْنُ
تَيْمِيَّةَ: لأَِنَّ هَؤُلاَءِ الْمُحَدَّثِينَ الْمُلْهَمِينَ
الْمُخَاطَبِينَ يُوحَى إِلَيْهِمْ وَلَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ مَعْصُومِينَ
مُصَدَّقِينَ فِي كُل مَا يَقَعُ لَهُمْ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّسُول:
2 - الرَّسُول فِي اللُّغَةِ: الْمُرْسَل، وَيُسْتَعْمَل لِلْمُذَكَّرِ
وَالْمُؤَنَّثِ وَالْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ:
إِنَّا رَسُول رَبِّ الْعَالَمِينَ (3) وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى رُسُلٍ
وَأَرْسُلٍ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرَّسُول إِنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى
الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ الأَْحْكَامِ (5) .
وَالرَّسُول أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ، قَال الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ:
كُل رَسُولٍ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ (6) .
عَدَدُ الأَْنْبِيَاءِ وَالرُّسُل عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ:
3 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بَعْضَ
__________
(1) سورة المائدة / 111.
(2) النبوات ص 273.
(3) سورة الشعراء / 16.
(4) المعجم الوسيط.
(5) التعريفات للجرجاني.
(6) التعريفات للجرجاني.
(40/41)
الرُّسُل بِأَسْمَائِهِمْ فِي مَوَاضِعَ
كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَسُولاً ذُكِرُوا
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسَعَ
وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (1) ،
وَذَكَرَ سَبْعَةً آخَرِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى هُمْ: آدَمُ وَإِدْرِيسُ
وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَذُو الْكِفْل وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ
النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ.
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ رُسُلاً
آخَرِينَ، وَذَلِكَ حَيْثُ قَال: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ
مِنْ قَبْل وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ (2) ، وَقَال: وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (3) .
آخِرُ الأَْنْبِيَاءِ:
4 - آخِرُ الأَْنْبِيَاءِ بَعْثَةً مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَمْرٌ إِجْمَاعِيٌّ، وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مَثَلِي وَمَثَل
الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَل رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ
وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَل النَّاسُ
يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاَّ
__________
(1) سورة الأنعام / 83 - 86.
(2) سورة النساء / 164.
(3) سورة غافر / 78.
(40/41)
وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ! ! قَال:
فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ " (1) .
أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل:
5 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل فِي قَوْلِهِ:
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل (2) ، وَالْمُرَادُ
بِالْعَزْمِ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ وَالْحَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ فِي
الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ، وَعَدَمُ
التَّهَاوُنِ فِي ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَنْ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ
مِنَ الرُّسُل عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الرُّسُل، أَوْ أَنَّهُمْ جَمِيعُ الرُّسُل
مَا عَدَا يُونُسَ بْنَ مَتَّى، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ (3) ، وَقِيل: إِنَّ
آدَمَ أَيْضًا لَيْسَ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْل فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (4) .
الثَّانِي: أَنَّهُمْ بَعْضُ الرُّسُل، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ
أَسْمَائِهِمْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ:
__________
(1) حديث: " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل. . . " أخرجه البخاري
(فتح الباري 6 / 558 ط السلفية) ومسلم (4 / 1791 ط عيسى الحلبي) من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سورة الأحقاف / 35.
(3) سورة القلم / 48.
(4) سورة طه / 115.
(40/42)
أَشْهَرُهَا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: هُمْ
خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (1) .
ذِكْرُ مَنِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ نَبِيًّا:
مِمَّنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ:
أ - الْخَضِرُ:
6 - الْخَضِرُ هُوَ صَاحِبُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَقَدْ ذُكِرَتْ
قِصَّتُهُ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي
الأَْنْبِيَاءِ غَيْرِ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ (2) ، قَال
الْقُرْطُبِيُّ: الْخَضِرُ نَبِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيل: هُوَ
عَبْدٌ صَالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، وَالآْيَةُ - يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى:
آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا
(3) تَشْهَدُ بِنُبُوَّتِهِ، قَال: وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ:
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (4) يَقْتَضِي أَنَّهُ نَبِيٌّ (5) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 4 / 172، وتفسير القرطبي 16 / 220، 221، وشرح العقيدة
الطحاوية ص 311.
(2) جواهر الإكليل 2 / 282، والذخيرة للقرافي 12 / 30، والزواجر عن اقتراف
الكبائر للهيتمي 1 / 54 القاهرة، ط دار الحديث 1414 هـ، وتفسير القرطبي 11
/ 16، 39.
(3) سورة الكهف / 65.
(4) سورة الكهف / 82.
(5) تفسير ابن كثير 3 / 99، والبداية والنهاية 1 / 299، 398.
(40/42)
ب - لُقْمَانُ:
7 - لُقْمَانُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ،
وَقَدْ قَال بِنُبُوَّتِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَ
جُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا
يُنْقَل كَوْنُهُ نَبِيًّا عَنْ عِكْرِمَةَ (1) .
ج - ذُو الْكِفْل:
8 - ذُو الْكِفْل هُوَ الَّذِي قَال اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ فِي سُورَةِ
الأَْنْبِيَاءِ: وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْل كُلٌّ مِنَ
الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ
الصَّالِحِينَ (2) ، قَال ابْنُ كَثِيرٍ: الظَّاهِرُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي
الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَقْرُونًا مَعَ هَؤُلاَءِ
السَّادَةِ الأَْنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَال: وَهَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ. وَقَدْ زَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا
وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلاً صَالِحًا، وَحَكَمًا مُقْسِطًا عَادِلاً، قَال:
وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (3) .
د - عُزَيْرٌ:
9 - قَال ابْنُ كَثِيرٍ: الْمَشْهُورُ أَنَّ عُزَيْرًا نَبِيٌّ مِنْ
أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيل (4) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 443 وانظر البداية والنهاية 2 / 125، وجواهر
الإكليل 2 / 282، والذخيرة للقرافي 12 / 30.
(2) سورة الأنبياء / 85 - 86.
(3) البداية والنهاية 1 / 225.
(4) البداية والنهاية 2 / 46.
(40/43)
الأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ
بِالأَْنْبِيَاءِ:
10 - الأَْنْبِيَاءُ مُكَلَّفُونَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، فَمَا
شُرِعَ فِي حَقِّ أُمَمِهِمْ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ فِي
الْجُمْلَةِ، وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ مِنْهَا:
أ - تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ:
11 - اخْتَصَّ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ فَرْضًا أَوْ
تَطَوُّعًا، قَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: " إِنَّ الصَّدَقَةَ
لاَ تَنْبَغِي لآِل مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ " (1) ،
وَجَاءَ فِي نَعْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْكُل
الْهَدِيَّةَ وَلاَ يَأْكُل الصَّدَقَةَ (2) .
وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال
الْقَلْيُوبِيُّ: أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا جَائِزٌ إِلاَّ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَحِل لَهُ، قَال:
وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْحِل أَيْضًا فِي سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ (3) .
__________
(1) حديث: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد. . . ". أخرجه مسلم (2 / 753 ط
عيسى الحلبي) من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث.
(2) حديث: " أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ". أخرجه البخاري (فتح الباري
5 / 203 ط السلفية) ومسلم (2 / 756 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
ولفظه في البخاري: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل
عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل:
هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم ".
(3) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 204، 101.
(40/43)
ب - أَمْوَالُهُمْ لاَ تُورَثُ عَنْهُمْ
بَل تَكُونُ صَدَقَةً بَعْدَهُمْ:
12 - دَل عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ: " لاَ تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا
وَلاَ دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ
عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ " (1) ، وَالْحَدِيثُ الآْخَرُ: " إِنَّ
الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَْنْبِيَاءَ لَمْ
يُورِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ " (2) ، قَال
ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ الأَْنْبِيَاءَ أَنْ
يُورِّثُوا دُنْيَا، لِئَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً لِمَنْ يَقْدَحُ فِي
نُبُوَّتِهِمْ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الدُّنْيَا وَوَرَّثُوهَا
لِوَرَثَتِهِمْ.
وَفِي قَوْلٍ: إِنَّ هَذِهِ خَاصِّيَّةٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَلَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ
الأَْنْبِيَاءِ.
وَهَذَا قَوْل ابْنِ عَطِيَّةَ، كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ، قَال:
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نُورَثُ مِنْ
بَابِ تَعْبِيرِ الْوَاحِدِ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (3) ،
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) حديث: " لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما. . ". أخرجه البخاري (الفتح 5
/ 406 ط السلفية) ومسلم (3 / 1382 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا
درهما، ورثوا العلم ". أخرجه أبو داود (4 / 58 ط عزت عبيد دعاس) والترمذي
(5 / 49 ط الحلبي) من حديث أبي الدرداء، وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث
إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندي بمتصل.
(3) تفسير القرطبي 11 / 81، 82، وتفسير ابن كثير 3 / 111، والذخيرة للقرافي
13 / 14، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 214، والعواصم من القواصم
لابن العربي ص 14 نشر محب الدين الخطيب.
(40/44)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ (1) وَقَال
حَاكِيًا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آل يَعْقُوبَ (2) .
ج - لاَ يُدْفَنُ نَبِيٌّ إِلاَّ حَيْثُ قُبِضَ:
13 - يُدْفَنُ النَّبِيُّ حَيْثُ قُبِضَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: " مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ". فَحُفِرَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَكَانِهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الثَّابِتَةُ عَلَى الأُْمَّةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ
بِالأَْنْبِيَاءِ:
أ - وُجُوبُ الإِْيمَانِ بِنُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَةِ الرُّسُل مِنْهُمْ:
14 - يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ أَنْ يُؤْمِنَ
بِمَنِ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِنُبُوَّتِهِ وَاصْطَفَاهُمْ لِرِسَالَتِهِ،
وَالإِْيمَانُ بِهِمْ عَلَى دَرَجَتَيْنِ:
__________
(1) سورة النمل / 16.
(2) سورة مريم / 5 - 6.
(3) حديث: " ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه ". أخرجه مالك في
الموطأ (1 / 231 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال
ابن عبد البر في التجريد (ص 255 ط القدسي) : هذا الحديث وإن لم يوجد على
نسقه في إسناد واحد فإنه صحيح محفوظ بأسانيد ثابتة من حديث أنس وعائشة رضي
الله عنهما.
(40/44)
إِيمَانٌ مُجْمَلٌ: بِأَنْ يُؤْمِنَ بِكُل
نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ إِجْمَالاً، سَوَاءٌ مَنْ عَلِمَ اسْمَهُ
أَوْ جَهِلَهُ.
وَإِيمَانٌ مُفَصَّلٌ: وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ نُوحًا بِعَيْنِهِ
نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَكَذَا إِبْرَاهِيمُ وَسَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ
الْمَقْطُوعِ بِنُبُوَّتِهِمْ.
وَيَشْمَل الأَْمْرَيْنِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِل إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِل إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَْسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ
مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (1) .
فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ عَلَى الإِْجْمَال، أَوْ شَكَّ فِي نُبُوَّةِ
بَعْضِ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ.
أَمَّا مَنْ شَكَّ فِي بَعْضِ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى نَبُّوتِهِمْ
كَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ فَلاَ يَكْفُرُ؛ لِعَدَمِ الْقَطْعِ
بِنُبُوَّتِهِمْ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَ عَدَدُ الأَْنْبِيَاءِ غَيْرَ
مَعْلُومٍ عَلَى الْقَطْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُول: آمَنْتُ بِجَمِيعِ
الأَْنْبِيَاءِ أَوَّلُهُمْ آدَمُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فَلاَ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ
مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَأَنَّ الرُّسُل مِنْهُمْ
ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ، لأَِنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 136.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 254، والمنهاج للنووي وشرحه للمحلي 4 / 175،
وانظر: الإيمان لابن تيمية ص 268، وشرح العقيدة الطحاوية ص 311.
(40/45)
ب - طَاعَةُ الأَْنْبِيَاءِ
وَمُتَابَعَتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ:
15 - يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ طَاعَةُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِنَ
الأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ، لأَِنَّهُمْ
إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ الأَْنْبِيَاءُ وَالرُّسُل قَبْل مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُ كُل رَسُولٍ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً،
فَرِسَالَةُ نُوحٍ إِلَى قَوْمِهِ، وَرِسَالَةُ هُودٍ إِلَى عَادٍ،
وَرِسَالَةُ صَالِحٍ إِلَى ثَمُودَ، وَرِسَالَةُ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ
بَنِي إِسْرَائِيل خَاصَّةً، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ الإِْسْرَائِيلِيِّينَ
مُكَلَّفِينَ بِطَاعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَاتِّبَاعِهِ، كَمَا
قَال تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ (1) ، وَقَال:
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا (2) ، وَقَال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا (3) ، وَقَال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ
شُعَيْبًا (4) ، وَقَال: وَإِذْ قَال مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ
تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُول اللَّهِ إِلَيْكُمْ (5) ،
وَقَال تَعَالَى فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَرَسُولاً إِلَى
بَنِي إِسْرَائِيل (6) .
__________
(1) سورة الأعراف / 59.
(2) سورة هود / 50.
(3) سورة النمل / 45.
(4) سورة هود / 84.
(5) سورة الصف / 5.
(6) سورة آل عمران / 49.
(40/45)
أَمَّا رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ عَامَّةٌ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ
سَمِعَ بِدَعْوَتِهِ إِلاَّ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالإِْيمَانِ بِهِ
وَاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ وَالدُّخُول فِي دِينِ الإِْسْلاَمِ
وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (1) ، وَقَال: وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (2) ، وَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ
يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي. . . " فَذَكَرَ مِنْهَا: " كَانَ كُل نَبِيٍّ
يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُل أَحْمَرَ
وَأَسْوَدَ " (3) ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الدِّيَانَاتِ
السَّابِقَةِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِيَانَتِهِ وَيَكْتَفِيَ بِهَا، بَل
عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالإِْيمَانُ بِهِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَجْرُ مَرَّتَيْنِ،
قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى
قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ
الْحَبَشَةِ وَأَسْلَمُوا (4) : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا
آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا
(5) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
__________
(1) سورة الأنبياء / 107.
(2) سورة سبأ / 28.
(3) حديث: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. . . " أخرجه مسلم (1 / 370 -
371 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) تفسير القرطبي 13 / 296.
(5) سورة القصص / 52 - 54.
(40/46)
ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَأَدْرَكَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ
وَاتَّبَعَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ " (1) .
وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُكَلَّفًا بِالرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ
لاِسْتِمْدَادِ الأَْحْكَامِ مِنْهَا وَالْعَمَل بِمَا فِيهَا، إِلاَّ
أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ تِلْكَ الدِّيَانَاتِ فِي الْقُرْآنِ أَوِ
السُّنَّةِ فَنَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا
لِلشَّافِعِيَّةِ (ر: نُبُوَّة، شَرْع مَنْ قَبْلَنَا ف 3) .
ج - وُجُوبُ تَوْقِيرِ الأَْنْبِيَاءِ:
16 - يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ تَوْقِيرُ الأَْنْبِيَاءِ وَهُوَ
تَعْظِيمُهُمْ وَإِكْرَامُ ذِكْرِهُمْ وَتَجَنُّبُ أَيِّ قَوْلٍ أَوْ
عَمَلٍ يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ، وَمِنْ هُنَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ
مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " (2) أَيْ لِمَا يُوحِي بِهِ التَّفْضِيل
عَلَيْهِ مِنْ غَضٍّ لِمَقَامِهِ، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: حُقُوقُ
الأَْنْبِيَاءِ فِي تَعْزِيرِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ
مَحَبَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ
__________
(1) حديث: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 190
ط السلفية) ، ومسلم (1 / 134 - 135 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 6 / 450 ط السلفية) من حديث ابن مسعود.
(40/46)
النُّفُوسِ وَالْمَال وَالأَْهْل،
وَإِيثَارُ طَاعَتِهِمْ وَمُتَابَعَةُ سُنَنِهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ (1) .
د - التَّسْلِيمُ وَالصَّلاَةُ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ:
17 - لَقَدْ أُمِرْنَا بِالصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ ذِكْرُ السَّلاَمِ عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَهَارُونَ وَإِلْيَاسَ، وَفِي خِتَامِ السُّورَةِ عَمَّ
الْمُرْسَلِينَ بِالسَّلاَمِ فَقَال: وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (2)
وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ ذَكَرَ السَّلاَمَ عَلَى يَحْيَى وَعِيسَى
عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ سورة مريم / 15 33. وَقَال تَعَالَى: قُل الْحَمْدُ
لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى (3) ، وَمِنْ هُنَا
لَمْ يُوجَدْ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلاَمِ
عَلَى الأَْنْبِيَاءِ، لأَِنَّ مِثْل قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِ فِي الآْخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (4) يَدُل عَلَى
ذَلِكَ، قِيل: فِي الآْخِرِينَ الْمُرَادُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيل: هُمْ جَمِيعُ الأُْمَمِ بَعْدَهُ،
وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ دَلِيل الْمَشْرُوعِيَّةِ. وَقَدْ قَال
النَّبِيُّ
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 336.
(2) سورة الصافات / 181.
(3) سورة النمل / 59.
(4) سورة الصافات / 108 - 109.
(40/47)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا
أَنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ " (1) .
وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرِدْ فِيهَا بِخُصُوصِهِمْ نَصٌّ
خَاصٌّ يَصِحُّ، وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ
الشِّفَا، وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، أَنَّهُ لاَ تُشْرَعُ الصَّلاَةُ
عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ
مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ.
وَلَكِنْ قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِمْ
وَاسْتِحْبَابِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَِنَّ أَكْثَرَهُمْ وَهُوَ مَنْ كَانَ
مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ يَدْخُلُونَ فِي الصَّلاَةِ
الإِْبْرَاهِيمِيَّةِ: " كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل
إِبْرَاهِيمَ " دُخُولاً أَوَّلِيًّا، حَتَّى لَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ فِي
الأَْذْكَارِ: أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى
جَوَازِهَا وَاسْتِحْبَابِهَا عَلَى سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ
وَالْمَلاَئِكَةِ اسْتِقْلاَلاً (2) .
__________
(1) حديث: " إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من
المرسلين ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (23 / 116 ط الحلبي) من حديث قتادة
مرسلا، وذكر السخاوي في القول البديع (ص 52، 53) شواهد له مشيرا إلى تقويته
بها.
(2) تفسير القرطبي 15 / 90، 142، وشرح الشفا 3 / 830، والأذكار للنووي ص 99
دمشق، دار الملاح، وانظر جلاء الأفهام لابن القيم ص 312 ط المنيرية.
(40/47)
وَقَدْ نَقَل ابْنُ كَثِيرٍ مَا رَوَاهُ
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
كَتَبَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ نَاسًا مِنَ النَّاسِ قَدِ الْتَمَسُوا
الدُّنْيَا بِعَمَل الآْخِرَةِ، وَإِنَّ نَاسًا مِنَ الْقُصَّاصِ قَدْ
أَحْدَثُوا فِي الصَّلاَةِ عَلَى خُلَفَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ عَدْل
الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا
جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَمُرْهُمْ أَنْ تَكُونَ صَلاَتُهُمْ عَلَى
النَّبِيِّينَ وَدُعَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً (1) .
هـ - حُكْمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ:
18 - لاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى فِي الإِْيمَانِ، وَلاَ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ بَعْضِهِمْ
وَبَعْضٍ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَكَافِرٌ
بِالأَْنْبِيَاءِ أَوْ بِبَعْضِهِمْ، أَوْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِبَعْضِ
الأَْنْبِيَاءِ وَكَافِرٌ بِبَعْضِهِمُ الآْخَرِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ
الإِْيمَانِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِإِيمَانِهِ بِمَنْ آمَنَ بِهِ عَنْ أَنْ
يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْكُفْرِ حَقِيقَةً، دَل عَلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ
أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (2) . ذَلِكَ لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ
يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلاَ يَنْفَعُ مَنْ آمَنَ
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 517.
(2) سورة النساء / 150 - 151.
(40/48)
بِاللَّهِ أَوْ بِبَعْضِ رُسُلِهِ
إِيمَانُهُ إِذَا كَفَرَ بِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَمَنْ فَعَل ذَلِكَ
فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل الَّذِي أَوْحَى إِلَيْهِ
بِالنُّبُوَّةِ، وَكَفَرَ بِسَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ.
وَمَنْ سَمَّى أَتْبَاعَ الدِّيَانَاتِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنِينَ فَقَدْ خَالَفَ
الشَّرِيعَةَ وَنَاقَضَ الْقُرْآنَ (1) .
قَال ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ لأَِنَّ الإِْيمَانَ وَاجِبٌ بِكُل
نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْل الأَْرْضِ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ
لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي يَتَبَيَّنُ أَنَّ
إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا
شَرْعِيًّا، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ، إِذْ لَوْ
كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُول اللَّهِ لآَمَنُوا بِنَظِيرِهِ
وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلاً وَأَقْوَى بُرْهَانًا (2) .
وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، وَأَلاَّ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ
الْعِلْمِ وَالنُّبُوَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ مَنْ يُبْعَثُ بَعْدَهُ
وَنُصْرَتِهِ (3) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ
قَال أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا
أَقْرَرْنَا قَال فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ
تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 6.
(2) تفسير ابن كثير 1 / 572.
(3) تفسير القرطبي 4 / 124، 125، وتفسير ابن كثير 1 / 377، 378.
(4) سورة آل عمران / 81 - 82.
(40/48)
، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ
مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ
إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي " (1) فَبِالأَْحْرَى أَتْبَاعُ مُوسَى وَعِيسَى
عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ يَلْزَمُهُمُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالإِْيمَانُ بِهِ، وَإِلاَّ فَهُمْ مِنَ
الْكَافِرِينَ حَقًّا.
وَيَدْخُل فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا مَنْ قَال: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أُرْسِل إِلَى جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ
خَاصَّةً، وَلاَ يَلْزَمُ أَتْبَاعَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا
السَّلاَمُ اتِّبَاعُهُ (2) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ دَرَجَاتٌ
وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ
زَبُورًا (3) وَقَوْلِهِ: تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (4) .
وَقَال
__________
(1) حديث: " والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا. . . .
" أخرجه أحمد (3 / 387 ط الميمنية) وذكره ابن حجر في فتح الباري (13 / 334
ط السلفية) وقال: رجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا.
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1 / 139، 161، 176 مطبعة
المجد.
(3) سورة الإسراء / 55.
(4) سورة البقرة / 253.
(40/49)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (1) .
وَمَنْ كَانَ مِنَ النَّبِيِّينَ رَسُولاً فَهُوَ أَفْضَل مِمَّنْ لَمْ
يُرْسَل، قَال الْقُرْطُبِيُّ: فَإِنَّ مَنْ أُرْسِل فُضِّل عَلَى غَيْرِهِ
بِالرِّسَالَةِ وَاسْتَوَوْا فِي النُّبُوَّةِ.
وَأَفْضَل الرُّسُل أُولُو الْعَزْمِ مِنْهُمْ، وَهَذَا الْقَوْل مَرْوِيٌّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَفْضَلُهُمْ عَلَى الإِْطْلاَقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى،
عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمْ، حَيْثُ قَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ
الأَْنْبِيَاءِ " (2) . وَقَال: " لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ
اللَّهِ " (3) وَقَال: " لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى " (4)
__________
(1) حديث: " أنا سيد الناس يوم القيامة " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 /
371 ط السلفية) ومسلم (1 / 186 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
(2) حديث: " لا تخيروا بين الأنبياء ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 70 ط
السلفية) ومسلم (4 / 1845 ط عيسى الحلبي) من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله
عنه.
(3) حديث: " لا تفضلوا بين أنبياء الله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 /
450 - 451 ط السلفية) ومسلم (4 / 1844 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
(4) حديث: " لا تخيروني على موسى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 70 ط
السلفية) ومسلم (4 / 1844 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(40/49)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " (1)
. فَقِيل: هَذَا كَانَ قَبْل أَنْ تَنْزِل عَلَيْهِ آيَاتُ التَّفْضِيل،
وَقَبْل أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ. فَعَلَى هَذَا:
التَّفْضِيل الآْنَ جَائِزٌ.
وَقِيل: إِنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى سَبِيل التَّوَاضُعِ.
وَقِيل: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ
إِلَى أَنْ يُذْكَرَ بَعْضُهُمْ بِمَا لاَ يَنْبَغِي، وَيَقِل احْتِرَامُهُ
عِنْدَ الْمُمَارَاةِ.
وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ
تَعْيِينِ الْمَفْضُول، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فُضِّل مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ.
وَقَال شَارِحُ الطَّحَاوِيَّةِ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ التَّفْضِيل إِذَا
كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفَخْرِ وَالْحَمِيَّةِ وَهَوَى
النَّفْسِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الاِنْتِقَاصِ لِلْمَفْضُول.
وَاخْتَارَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْضِيل إِنَّمَا هُوَ
مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لاَ تَفَاضُل
فِيهَا، وَالتَّفْضِيل فِي زِيَادَةِ الأَْحْوَال وَالْخُصُوصِ
وَالْكَرَامَاتِ وَالأَْلْطَافِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ". سبق تخريجه ف 16.
(2) تفسير القرطبي 3 / 261، 263، وتفسير ابن كثير 3 / 47 و 1 / 304، وفتح
الباري 6 / 452، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1 / 49، 55، والصارم
المسلول ص 566.
(40/50)
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الأَْنْبِيَاءِ
وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ أَفْضَل عِنْدَ
اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ، وَمِنْ
جَمِيعِ الأَْوْلِيَاءِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ إِلَى أَنْ قَال: وَإِسْمَاعِيل
وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ
(1) فَقَوْلُهُ: وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَرَدَ بَعْدَ
ذِكْرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَبِيًّا، مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا مِنَ
الأَْنْبِيَاءِ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ النَّاسِ. وَقَال تَعَالَى: وَلَقَدْ
آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (2) .
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَلاَ نُفَضِّل أَحَدًا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ عَلَى
أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، وَنَقُول: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَل مِنْ
جَمِيعِ الأَْوْلِيَاءِ.
وَاخْتُلِفَ هَل الأَْنْبِيَاءُ أَفْضَل أَمِ الْمَلاَئِكَةُ؟
فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خَوَاصَّ بَنِي آدَمَ، وَهُمُ
الأَْنْبِيَاءُ أَفْضَل مِنْ كُل الْمَلاَئِكَةِ، وَعَوَّامَ بَنِي آدَمَ
وَهُمُ الأَْتْقِيَاءُ أَفْضَل مِنْ عَوَامِّ الْمَلاَئِكَةِ.
وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ خِلاَفِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، وَرُوِيَ
التَّوَقُّفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو
حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْقَاطِعِ، وَتَفْوِيضِ عِلْمِ مَا لَمْ يَحْصُل لَنَا
الْجَزْمُ بِعِلْمِهِ
__________
(1) سورة الأنعام / 83 - 86.
(2) سورة النمل / 15.
(40/50)
إِلَى عَالِمِهِ.
وَأَطْلَقَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ الْقَوْل بِأَنَّ أَهْل
السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِتَفْضِيل الأَْنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ،
قَال: عَلَى خِلاَفِ قَوْل الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْل مَعَ أَكْثَرِ
الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَفْضِيل الْمَلاَئِكَةِ عَلَى
الأَْنْبِيَاءِ (1) .
التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ:
21 - لاَ بَأْسَ بِالتَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ، وَاسْتَحَبَّهُ
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي وَهْبٍ
الْجُشَمِيِّ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَْنْبِيَاءِ " (2) ، قَال ابْنُ
الْقَيِّمِ: وَقَدْ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَحَبُّ الأَْسْمَاءِ
إِلَى اللَّهِ أَسْمَاءُ الأَْنْبِيَاءِ. قَال: وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ
يَدُل عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ أَحَبُّ
الأَْسْمَاءِ (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 354، والفرق بين الفرق ص 343،
وتفسير القرطبي 6 / 26، وتفسير فتح القدير للشوكاني 1 / 542 والكشاف وبذيله
الإنصاف لابن المنير 1 / 460، وشرح العقيدة الطحاوية 2 / 741.
(2) حديث: " تسموا بأسماء الأنبياء ". أخرجه أبو داود (5 / 237 ط حمص) ،
وأحمد (4 / 345 ط الميمنية) ، وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (3 / 88 ط
الحلبي) أن راويه عن الصحابي فيه جهالة
(3) تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص 66 بتصحيح وتعليق عبد الحكيم
شرف الدين. والحديث الذي عناه ابن القيم هو حديث ابن عمر مرفوعا: " إن أحب
أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن " أخرجه مسلم (3 / 1682 ط الحلبي) .
(40/51)
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " وُلِدَ
لِي اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ بَاسِمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ " (1) .
وَقِيل: يُكْرَهُ التَّسَمِّي بِأَسْمَائِهِمْ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ:
وَلَعَل مَنْ قَال ذَلِكَ قَصَدَ صِيَانَةَ أَسْمَائِهِمْ عَنِ
الاِبْتِذَال (2) ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَسْمِيَة ف 11) .
حُكْمُ مَنْ آذَى نَبِيًّا أَوِ انْتَقَصَهُ:
22 - مَنْ آذَى نَبِيًّا مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، أَوْ
سَبَّهُ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوْ كَذَّبَهُ أَوْ جَوَّزَ عَلَيْهِ
الْكَذِبَ، فَقَدْ كَفَرَ، وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ مَنْ فَعَل ذَلِكَ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، لأَِنَّ الأَْنْبِيَاءَ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
الْبَشَرِ جَمِيعًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى
الْعَالَمِينَ (3) فَفِي انْتِقَاصِ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ
لِلْقُرْآنِ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ مِنْهُمْ. قَال
الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُخْتَلَفِ
فِي نُبُوَّتِهِ مِنْهُمْ وَالْكَافِرِ بِهِ كَالْحُكْمِ
__________
(1) حديث: " ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ". أخرجه مسلم (4
/ 1807 ط عيسى الحلبي) .
(2) تحفة المودود ص 61، وكشاف القناع 3 / 26.
(3) سورة الأنعام / 86.
(40/51)
فِيمَنِ اتُّفِقَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، إِذْ
لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ
تَنَقَّصَهُمْ وَآذَاهُمْ، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ حَال الْمَقُول فِيهِ، لاَ
سِيَّمَا مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقِيَّتُهُ وَفَضْلُهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ
تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُمْ. قَال: وَأَمَّا إِنْكَارُ نُبُوَّتِهِمْ فَإِنْ
كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ فَلاَ حَرَجَ
عَلَيْهِ، لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَوَامِّ
النَّاسِ زُجِرَ عَنِ الْخَوْضِ فِي مِثْل هَذَا، فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ (1)
.
حُكْمُ تَصْوِيرِ الأَْنْبِيَاءِ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ تَصْوِيرِ كُل ذِي رُوحٍ مِنْ
حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَتَصْوِيرُ الأَْنْبِيَاءِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ
بِهِمْ وَتَطَوُّرَ الأَْمْرِ إِلَى عِبَادَةِ صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ
كَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ النَّصَارَى.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِيهِمْ: "
إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُل الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا
عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ،
فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2) .
__________
(1) الشفا وشرحه 5 / 492 - 503، وانظر الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن
تيمية ص 567، وجواهر الإكليل 2 / 280 - 282، 360، والذخيرة للقرافي 12 /
20، 27، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي 1 / 55، ومغني المحتاج 4 / 133
- 135.
(2) حديث: " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 1 / 524 ط السلفية) ومسلم (1 / 376) من حديث عائشة رضي الله عنها،
واللفظ للبخاري.
(40/52)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ
لَمْ يَدْخُل حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ بِأَيْدِيهِمَا الأَْزْلاَمُ،
فَقَال: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا
بِالأَْزْلاَمِ قَطُّ " (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَصْوِير ف 26) .
نَبِيُّ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
24 - النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اصْطَفَاهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَشَرَّفَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ وَرَسُولاً إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَخَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى
النُّبُوَّاتِ بِهِ، فَلاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَتَتَعَلَّقُ بِهِ وَلأَِفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
25 - مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَلَّفًا
بِهِ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَالأُْمَّةُ
مُكَلَّفَةٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِمَّا
اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَى اقْتِدَاءِ الأُْمَّةِ بِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّأَسِّي بِأَفْعَالِهِ، مَا
وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلُّوا كَمَا
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت. . . ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 387 ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما.
(40/52)
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " (1) ،
وَقَوْلِهِ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " (2) ، وَقَوْلِهِ: " لَكِنِّي
أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،
فَمَنْ رَغَبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " (3) .
وَالدَّلِيل كَذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الآْخِرَ (4) .
وَكَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ
الآْيَةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَدَعُ أَمْرًا
رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِي
هَذَا الْمَال إِلاَّ صَنَعْتُهُ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا
مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَبَّ عَلَى
الرُّكْنِ فَقَال: إِنِّي لأََعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ
تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 111
ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(2) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 ط الحلبي) والبيهقي
(5 / 125 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ
للبيهقي.
(3) حديث: " لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد. . " أخرجه البخاري (فتح الباري
9 / 104 ط السلفية) ومسلم (2 / 1020 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، واللفظ
للبخاري.
(4) سورة الأحزاب / 21.
(40/53)
قَبَّلْتُكَ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ أَحَدَ أَصْحَابِهِ نَزَل عَنْ رَاحِلَتِهِ
فَأَوْتَرَ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ، فَقَال: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَال: خَشِيتُ
الْفَجْرَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ. فَقَال ابْنُ عُمَرَ: أَلَيْسَ لَكَ
فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ قَال: بَلَى وَاللَّهِ. قَال: إِنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى
الْبَعِيرِ. (1) .
ب - خَصَائِصُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
26 - اخْتَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَصَائِصَ
وَمَقَامَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ لَيْسَتْ لِسَائِرِ النَّاسِ،
وَهَذِهِ الْخَصَائِصُ أَنْوَاعٌ:
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي لاَ تَتَعَدَّاهُ إِلَى
أُمَّتِهِ كَكَوْنِهِ لاَ يُورَثُ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: الْمَزَايَا الأُْخْرَوِيَّةُ كَإِعْطَائِهِ الشَّفَاعَةَ
وَكَوْنِهِ أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثَالِثًا: الْفَضَائِل الدُّنْيَوِيَّةُ كَكَوْنِهِ أَصْدَقَ النَّاسِ
حَدِيثًا.
رَابِعًا: الْمُعْجِزَاتُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري 1 / 377، والمغني لعبد الجبار 17 /
257، وقد نقلا الإجماع على هذه القاعدة، والإحكام للآمدي 1 / 265 ونقل فيها
خلافا، وتيسير التحرير 3 / 120، وفتح الباري 11 / 94.
(40/53)
لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً
أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُبَاحَةً.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِصَاص ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج - الإِْيمَانُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
27 - يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لاَ
يَتِمُّ الإِْيمَانُ إِلاَّ بِهِ.
كَمَا يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى
بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالرِّسَالَةِ، لأَِنَّ الشَّهَادَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنَا (1) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا
ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا،
وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " (2) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلاَم ف 16 - 20) .
د ـ مَحَبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
28 - يَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ
__________
(1) سورة التغابن / 8.
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا. . . ". أخرجه مسلم (1 / 52 ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(40/54)
وَرَسُولَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ
أَحَدًا أَوْ شَيْئًا سِوَاهُمَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُل إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (1)
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِي هَذَا حَضٌّ وَتَنْبِيهٌ وَدَلاَلَةٌ
وَحُجَّةٌ عَلَى إِلْزَامِ مَحَبَّتِهِ، وَوُجُوبِ فَرْضِهَا، وَعِظَمِ
خَطَرِهَا، وَاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
إِذْ قَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ مَالُهُ وَوَلَدُهُ أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ: حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ فَسَّقَهُمْ بِتَمَامِ الآْيَةِ (2) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " (3) ، وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ،
لأََنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُل شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى
أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ ". فَقَال عُمَرُ: فَإِنَّهُ
الآْنَ
__________
(1) سورة التوبة / 24.
(2) الشفا 3 / 535 - 538.
(3) حديث: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين
". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 58 ط السلفية) ومسلم (1 / 67 ط الحلبي)
من حديث أنس رضي الله عنه.
(40/54)
وَاللَّهِ لأََنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
نَفْسِي، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الآْنَ
يَا عُمَرُ " (1) .
وَمِنْ حُبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ سُنَّتِهِ
وَاتِّبَاعُهَا وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهَا،
وَمِنْهُ حُبُّ آلِهِ الأَْتْقِيَاءِ الأَْبْرَارِ، وَحُبُّ أَصْحَابِهِ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ (2) ، كَمَا فِي حَدِيثِهِ فِي
الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " اللَّهُمَّ إِنِّي
أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا " (3) ، وَقَال:
" اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي،
فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ
فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي
فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ " (4)
.
__________
(1) حديث عمر رضي الله عنه: " يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء. . ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 523 ط السلفية) من حديث عبد الله بن هشام
رضي الله عنه.
(2) الشفا وشرحه 3 / 561 - 583، وانظر: دليل الفالحين شرح رياض الصالحين
لابن علان 1 / 459 الكويت - دار البيان، وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص
150، بيروت - دار الخير، والصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص
426.
(3) حديث: " اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ". أخرجه الترمذي (5
/ 657 ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري (فتح
الباري 7 / 88 ط السلفية) من غير قوله: " وأحب من يحبهما ".
(4) حديث: " الله الله في أصحابي. . . " أخرجه الترمذي (5 / 696 ط الحلبي)
من حديث عبد الله بن مغفل وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(40/55)
وَمِمَّا يُنْشِئُ مَحَبَّتَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ إِحْسَانُهُ
وَإِنْعَامُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ، وَهِدَايَتُهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ،
وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِنْقَاذُ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ مِنَ النَّارِ
(1) .
هـ - النَّصِيحَةُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
29 - يَجِبُ النُّصْحُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدِّينُ النَّصِيحَةُ.
قَالُوا: لِمَنْ؟ قَال: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " (2) ، قَال الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ
كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ
لَهُ، وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبَذْل الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ
وَنَهَى عَنْهُ، وَمُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ
الْخَفَّافُ: النَّصِيحَةُ لَهُ حِمَايَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا،
وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ، وَالذَّبُّ عَنْهَا وَنَشْرُهَا. أهـ،
وَقَال مِثْلُهُ أَبُو بَكْرٍ الآْجُرِّيُّ، وَأَضَافَ: النَّصِيحَةُ لَهُ
الْتِزَامُ التَّوْقِيرِ وَالإِْجْلاَل، وَشِدَّةُ الْمَحَبَّةِ،
وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى تَعَلُّمِ سُنَّتِهِ وَمَحَبَّةِ آلِهِ
وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ وَانْحَرَفَ
عَنْهَا وَبُغْضُهُ
__________
(1) الشفا 3 / 591 - 596.
(2) حديث: " الدين النصيحة. . " أخرجه مسلم (1 / 74 ط الحلبي) من حديث تميم
الداري رضي الله عنه.
(40/55)
وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَصِيحَة) .
وَ - تَعْظِيمُ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَوْقِيرُهُ:
30 - تَعْظِيمُ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاجِبٌ، لِعُلُوِّ مَقَامِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، الَّذِي هُوَ
أَعْلَى مَقَامٍ يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَهُ بَشَرٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً (2) ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: تُعَزِّرُوهُ: أَيْ
تُعَظِّمُوهُ وَتُفَخِّمُوهُ، وَالتَّعْزِيرُ: التَّفْخِيمُ
وَالتَّوْقِيرُ، وَقِيل: تُعَزِّرُوهُ: تَنْصُرُوهُ وَتَمْنَعُوا مِنْهُ.
ثُمَّ قَال: وَتُوَقِّرُوهُ: أَيْ تُسَوِّدُوهُ. وَالْهَاءُ فِيهِمَا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: التَّعْزِيرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِنَصْرِهِ
وَتَأْيِيدِهِ وَمَنْعِهِ مِنْ كُل مَا يُؤْذِيهِ، وَالتَّوْقِيرُ اسْمٌ
جَامِعٌ لِكُل مَا فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ وَسَكِينَةٌ مِنَ الإِْجْلاَل
وَالإِْكْرَامِ، وَأَنْ يُعَامَل مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ بِمَا
يَصُونُهُ عَنْ كُل مَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْوَقَارِ (4) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَوْقِيرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) شرح الشفا 3 / 602 - 605.
(2) سورة الفتح / 8 - 9.
(3) تفسير القرطبي 16 / 266.
(4) الصارم المسلول ص 427.
(40/56)
تَوْقِيرُهُ فِي نِدَائِهِ وَتَسْمِيَتِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
31 - أُمِرَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِتَوْقِيرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَال نِدَائِهِمْ لَهُ
فَقَال تَعَالَى: لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضًا (1) أَيْ لاَ تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، كَمَا يَدْعُو
بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِاسْمِهِ، وَلَكِنْ قُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا
رَسُول اللَّهِ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: نَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا: يَا
مُحَمَّدُ، أَوْ يَا أَحْمَدُ، أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ
يَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: وَكَيْفَ لاَ
يُخَاطِبُونَهُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْرَمَهُ فِي
مُخَاطَبَتِهِ إِيَّاهُ بِمَا لَمْ يُكْرِمْ بِهِ أَحَدًا مِنَ
الأَْنْبِيَاءِ، فَلَمْ يَدْعُهُ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ قَطُّ (3) ، بَل
يَقُول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ (4) ، يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (5) ، يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا
أُنْزِل إِلَيْكَ (6) مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَال: يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ (7) ، يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ (8)
__________
(1) سورة النور / 63.
(2) النبوات لابن تيمية ص 270، وتفسير القرطبي 16 / 267، 306، 12 / 322،
والشفا للقاضي عياض 3 / 616.
(3) الصارم المسلول ص 427 - 428.
(4) سورة الأحزاب / 28.
(5) سورة الأحزاب / 1.
(6) سورة المائدة / 67.
(7) سورة البقرة / 33.
(8) سورة هود / 46.
(40/56)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا (1)
يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ (2) يَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ (3) .
وَتَوْقِيرُهُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّنَا عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلاَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا، بَل
لاَ بُدَّ مِنْ قَرْنِهِ بِالصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ.
(انْظُرِ الصَّلاَة عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف
3 وَمَا بَعْدَهَا) .
غَضُّ الصَّوْتِ عِنْدَهُ وَتَوْقِيرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
32 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَابْنُ سِيرِينَ
وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُرِئَ كَلاَمُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ عَلَى كُل حَاضِرٍ أَلاَّ يَرْفَعَ
صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلاَ يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي
مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:
حُرْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا
كَحُرْمَتِهِ حَيَّا، وَكَلاَمُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي
الرِّفْعَةِ مِثَال كَلاَمِهِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِذَا قُرِئَ
كَلاَمُهُ وَجَبَ عَلَى كُل حَاضِرٍ أَنْ لاَ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ
وَلاَ يُعْرِضَ عَنْهُ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ
__________
(1) سورة هود / 76.
(2) سورة الأعراف / 144.
(3) سورة المائدة / 110.
(40/57)
فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ،
وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: تَوْقِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ لاَزِمٌ بَعْدَ
مَوْتِهِ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسُنَّتِهِ وَسَمَاعِ
اسْمِهِ وَسِيرَتِهِ، وَمُعَامَلَةِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ، وَتَعْظِيمِ أَهْل
بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَال: وَيَنْبَغِي
مُرَاعَاةُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ
عِنْدَ قَبْرِهِ (1) .
تَوْقِيرُ آل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِرُّهُمْ وَحُبُّهُمْ:
33 - قَال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي
أَهْل بَيْتِهِ " وَقَال أَيْضًا: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَقَرَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ
أَنْ أَصِل مِنْ قَرَابَتِي ".
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَثْنَى
اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ فَقَال
تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (2) ، وَقَال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (3) ،
__________
(1) تفسير القرطبي 16 / 307، والشفا للقاضي عياض 3 / 643، 644، 660. أحكام
القرآن لابن العربي 4 / 146.
(2) سورة الفتح / 29.
(3) سورة الفتح / 18.
(40/57)
وَقَال: وَالسَّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (1) وَقَدْ قَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَْنْصَارِ: " إِنَّ
اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا، فَجَعَل لِي مِنْهُمْ
وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " (2) .
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: مِنْ تَوْقِيرِهِ وَبِرِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيرُ أَصْحَابِهِ وَبِرُّهُمْ وَمَعْرِفَةُ
حَقِّهِمْ وَحُسْنُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمْ،
وَالإِْمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُمْ،
وَالإِْضْرَابُ عَنْ أَخْبَارِ الْمُؤَرِّخِينَ الْقَادِحَةِ فِي أَحَدٍ
مِنْهُمْ، وَلاَ يُذْكَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِسُوءٍ (3) .
ز - الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ:
34 - الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَشْرُوعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ
اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (4) .
__________
(1) سورة التوبة / 100.
(2) حديث: " إن الله اختار لي. . . " أخرجه الطبراني في الأوسط (1 / 282 ط
مكتبة المعارف) من حديث عويم بن ساعدة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 /
17) : وفيه من لم أعرفه.
(3) الشفا للقاضي عياض 3 / 670، 682 - 685، وشرح العقيدة الطحاوية ص 467.
(4) سورة الأحزاب / 56.
(40/58)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي مُوَاطِنَ وَاسْتِحْبَابِهَا فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى.
وَفِي صِيغَةِ الصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَأَوْقَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا
تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (الصَّلاَة عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
ح - سُؤَال الْوَسِيلَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُسْلِمِ الدُّعَاءُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِفْعَةِ مَقَامِهِ فِي
الآْخِرَةِ، وَذَلِكَ بِسُؤَال الْوَسِيلَةِ لَهُ، وَمَوْضِعُ ذَلِكَ
بَعْدَ تَمَامِ الأَْذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
مَرْفُوعًا: " إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول،
ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ،
فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ
عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَل اللَّهَ
لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ " (1) .
وَالصِّيغَةُ الْمَنْدُوبَةُ لِذَلِكَ وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ
رَبَّ هَذِهِ
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما
يقول. . . ". أخرجه مسلم (1 / 288 ط عيسى الحلبي) .
(40/58)
الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ
الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ
مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ " (1) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ
الإِْقَامَةِ أَيْضًا (2) .
ط - التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
36 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى الإِْيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ،
وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول: أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ، وَيُرِيدُ:
أَنِّي أَسْأَلُكَ بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَتَوَسَّل إِلَيْكَ
بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوَسُّل ف 8 - 14) .
ي - طَلَبُ شَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
37 - طَلَبُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَيَاتِهِ جَائِزٌ، كَمَا شَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِمُغِيثٍ زَوْجِ بَرِيرَةَ عِنْدَمَا خُيِّرَتْ لَمَّا عَتَقَتْ بَيْنَ
الْبَقَاءِ مَعَهُ وَبَيْنَ مُفَارَقَتِهِ، فَشَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ لِتَرْضَى بِالْبَقَاءِ مَعَهُ،
فَقَالَتْ: " لاَ حَاجَةَ
__________
(1) حديث جابر بن عبد الله: " من قال حين يسمع النداء ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 94 ط السلفية) .
(2) المغني لابن قدامة 1 / 428 ط ثالثة، وتفسير ابن كثير 2 / 53، وفتح
القدير على الهداية 1 / 250 ط مكة، المكتبة التجارية، ونهاية المحتاج
للرملي 1 / 422، والمهذب للشيرازي تحقيق محمد الزحيلي 1 / 204 - بيروت، دار
القلم.
(40/59)
لِي فِيهِ " (1) .
وَكَذَلِكَ يَتَشَفَّعُ بِهِ بَنُو آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَشْفَعُ
لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِتَعْجِيل الْحِسَابِ، كَمَا وَرَدَ بِهِ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ
طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ الْعَبْدُ
بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُول: اللَّهُمَّ شَفِّعْ فِينَا
نَبِيَّكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَانْظُرْ (شَفَاعَة ف 6 - 8)
ك - الْحَلِفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ:
38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَلِفِ بِالأَْنْبِيَاءِ، فَذَهَبَ
جُمْهُورُهُمْ إِلَى كَرَاهَةِ الْحَلِفِ بِالأَْنْبِيَاءِ، وَذَهَبَ
آخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 47 - 51) .
ل - التَّبَرُّكُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِآثَارِهِ:
39 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِآثَارِهِ، وَأَوْرَدَ
عُلَمَاءُ السِّيرَةِ وَالشَّمَائِل وَالْحَدِيثِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً
تُمَثِّل تَبَرُّكَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِصُوَرٍ
مُتَعَدِّدَةٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ.
__________
(1) حديث: " لا حاجة لي فيه " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 408 ط
السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(40/59)
قَال ابْنُ رَجَبٍ: وَالتَّبَرُّكُ
بِالآْثَارِ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ
يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ مَعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلاَ يَفْعَلُهُ
التَّابِعُونَ مَعَ الصَّحَابَةِ مَعَ عُلُوِّ قَدْرِهِمْ فَدَل عَلَى
أَنَّ هَذَا لاَ يُفْعَل إِلاَّ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِثْل التَّبَرُّكِ بِالْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ وَالنَّوَوِيُّ: يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ
(1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَبَرُّك ف 6 وَمَا بَعْدَهَا) .
م - التَّسَمِّي بِاسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ:
40 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّسْمِيَةِ بِاسْمِهِ وَالتَّكَنِّي
بِكُنْيَتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
مِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسَمِّي بِاسْمِهِ، وَلاَ يَجُوزُ
التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ.
وَمِنْهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا فِي الأَْمْرَيْنِ.
وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ اسْمِهِ " مُحَمَّدٍ " وَكُنْيَتِهِ
" أَبِي الْقَاسِمِ ".
وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْكُنْيَةِ وَالاِسْمِ فِي حَال
حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ
__________
(1) الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف
بين يدي الساعة، لابن رجب الحنبلي ص 46، وفتح الباري 3 / 130 - 131 - 144،
وشرح صحيح مسلم للنووي (5 / 161، 7 / 143 / 44) .
(40/60)
(تَسْمِيَة ف 11، وَكُنْيَة ف 4 وَمَا
بَعْدَهَا) .
ن - وُجُوبُ طَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
41 - أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ طَاعَةَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ
وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (1) وَقَال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَاعَة ف 6) .
س - اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أَفْعَالِهِ الْجِبِلِّيَّةِ:
42 - يَجِبُ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أُمُورِ الدِّينِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ
الأُْمَّةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدُهُمْ وَمُقَلِّدُهُمْ.
أَمَّا أَفْعَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْجِبِلِّيَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اتِّبَاع ف 3
- 4) وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ع - اجْتِهَادُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
43 - الأَْحْكَامُ الَّتِي صَدَرَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَ فِيهَا الأُْصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا كُلُّهَا مُوحَى بِهَا إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى، بِدَلاَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (3)
__________
(1) سورة الأنفال / 20.
(2) سورة النساء / 80.
(3) سورة النجم / 3 - 5.
(40/60)
الثَّانِي: أَنَّ مِنْهَا - وَهُوَ
الأَْكْثَرُ - مَا هُوَ وَحْيٌ، سَوَاءٌ كَانَ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ،
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ف - حُكْمُ مَنْ تَنَقَّصَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ أَوْ آذَاهُ:
44 - وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ تَعْظِيمُ جُرْمِ تَنَقُّصِ
النَّبِيِّ أَوِ الاِسْتِخْفَافِ بِهِ، وَلَعْنُ فَاعِلِهِ، وَذَلِكَ
فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ
لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (2) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ
تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا
مُجْرِمِينَ (3) ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى
__________
(1) تيسير التحرير 1 / 189، 4 / 183، 236، القاهرة، مصطفى الحلبي،
وإحكام الأحكام للآمدي 3 / 43، 44، 4 / 222، 282 - القاهرة مكتبة
المعارف، والرسالة للإمام الشافعي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ص 92، وأصول
البزدوي وشرح البخاري 3 / 926 - 933. .
(2) سورة الأحزاب / 57.
(3) سورة التوبة / 65 - 66.
(40/61)
تَكْفِيرِ مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
(1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة ف 15 وَمَا بَعْدَهَا، سَب
ف 11 - 18، اسْتِخْفَاف 5 - 7) .
ص - حُكْمُ مَنْ تَرَكَ التَّأَدُّبَ فِي الْكَلاَمِ فِي حَقِّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
45 - قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَمًّا وَلاَ عَيْبًا
وَلاَ سَبًّا وَلاَ تَكْذِيبًا، وَلَكِنْ أَتَى مِنَ الْكَلاَمِ
بِمُجْمَلٍ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ مُشْكِلٍ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ
يَتَرَدَّدُ فِي الْمُرَادِ بِهِ أَهُوَ السَّلاَمَةُ أَمِ الشَّرُّ،
فَقَدِ اخُتِلَفَ فِيهِ فَقِيل: يُقْتَل تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيل: يُدْرَأُ
عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، لِكَوْنِ قَوْلِهِ مُحْتَمَلاً،
وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ.
وَكَذَا لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ عَامٍّ يَدْخُل فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَوْ سَبَّ بَنِي هَاشِمٍ (2) .
ق - حُكْمُ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
46 - مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُتَعَمِّدًا فَقَدِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ
جَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية ص 527 - 529، والشفا في
حقوق المصطفى وشرحه 4 / 76 - 192، وجواهر الإكليل 1 / 269، وحاشية ابن
عابدين 3 / 290 - 291، والذخيرة للقرافي 12 / 18.
(2) شرح الشفا 5 / 192 - 242.
(40/61)
قَال: " إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ
كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " (1) ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ
بِذَلِكَ السُّوءَ أَوْ قَصَدَ خَيْرًا كَمَنْ يَضَعُ الأَْحَادِيثَ
لِلتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ.
وَقَدْ قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِكُفْرِ مَنْ فَعَل ذَلِكَ، مِنْهُمْ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ،
وَوَجَّهَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبٌ عَلَى
اللَّهِ، وَإِفْسَادٌ لِلدِّينِ مِنَ الدَّاخِل.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْكَذِبَ
عَلَيْهِ فِي دَعْوَى السَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ يَشْمَلُهُ
التَّحْرِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (2) ، وَهُوَ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ
فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّل بِي، وَمَنْ
كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
" (3) .
__________
(1) حديث: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد. . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 160 ط السلفية) ومسلم في مقدمة صحيحه (1 / 10 ط عيسى
الحلبي) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2) الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 179، وشرح المنهاج مع حاشية
القليوبي وعميرة 4 / 75، وفتح الباري 1 / 202 و 3 / 162.
(3) حديث: " من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي. . .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 202 ط السلفية) من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
(40/62)
نَتْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّتْرُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَ النُّونِ - كَمَا
ضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ - فِي اللُّغَةِ: جَذْبُ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ
أَوْ بِجَفَاءٍ، وَبَابُهُ قَتَل، وَاسْتَنْتَرَ مِنْ بَوْلِهِ:
اجْتَذَبَهُ وَاسْتَخْرَجَ بَقِيَّتَهُ مِنَ الذَّكَرِ عِنْدَ
الاِسْتِنْجَاءِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى النَّتْرِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ
فِي اللُّغَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِنْجَاءُ:
2 - الاِسْتِنْجَاءُ لُغَةً: الْقَطْعُ، مِنْ نَجَا (2) ، وَقِيل: مِنَ
النَّجْوَةِ وَهِيَ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الأَْرْضِ، لأَِنَّهُ
يَسْتَتِرُ عَنِ النَّاسِ بِهَا (3) .
__________
(1) القليوبي 1 / 41، والدسوقي 1 / 110، والقاموس المحيط، وانظر: معجم
مقاييس اللغة لابن فارس 5 / 386 ط الحلبي، والمصباح المنير، ولسان
العرب مادة (نتر) .
(2) المصباح المنير.
(3) انظر: لسان العرب ماد (نجا) ، وأسنى المطالب 1 / 44 ط المكتبة
الإسلامية.
(40/62)
وَاصْطِلاَحًا: إِزَالَةُ الْخَارِجِ مِنَ
السَّبِيلَيْنِ عَنْ مَخْرَجِهِ (1) .
وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمُ اسْتِطَابَةً، وَهِيَ: طَلَبُ الطِّيبِ، وَهُوَ
الطَّهَارَةُ وَيَكُونُ بِالْمَاءِ وَالْحَجَرِ.
كَمَا سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ - أَيْضًا - اسْتِنْقَاءً وَهُوَ: طَلَبُ
النَّقَاوَةِ بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمَّا
الاِسْتِجْمَارُ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالاِسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ،
مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِمَارِ وَهُوَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْرِ وَالاِسْتِنْجَاءِ هِيَ أَنَّ
النَّتْرَ مُقَدِّمَةٌ لِلاِسْتِنْجَاءِ.
ب - الاِسْتِبْرَاءُ:
3 - الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ
بِاسْتِفْرَاغِ مَا فِي الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الأَْخْبَثَيْنِ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْرِ وَالاِسْتِبْرَاءِ هِيَ الْعُمُومُ
وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فَكُل نَتْرٍ اسْتِبْرَاءٌ، وَلَيْسَ كُل
اسْتِبْرَاءٍ نَتْرًا.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 18 ط دار الكتاب العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 110
ط دار الفكر، وأسنى المطالب 1 / 44، وكشاف القناع 1 / 58 ط عالم الكتب.
(2) بدائع الصنائع 1 / 18، وحاشية ابن عابدين 1 / 230 ط بولاق، وحاشية
الدسوقي 1 / 110 - 111، وأسنى المطالب 1 / 44، وكشاف القناع 1 / 58.
(3) لسان العرب.
(4) مواهب الجليل 1 / 282 ط دار الفكر.
(40/63)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّتْرِ مِنْ
أَحْكَامٍ:
مَحَل النَّتْرِ وَمَوْضِعُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَحَل النَّتْرِ هُوَ
الذَّكَرُ وَمَوْضِعَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (1) مَعَ
اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِبْرَاءِ الْمَرْأَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ،
بَل تَصْبِرُ قَلِيلاً، ثُمَّ تَسْتَنْجِي (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الاِسْتِبْرَاءَ فِي
حَقِّهَا أَنْ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى عَانَتِهَا، وَيَقُومُ ذَلِكَ
مَقَامَ السَّلْتِ وَالنَّتْرِ، وَأَمَّا الْخُنْثَى فَيَفْعَل مَا
يَفْعَلُهُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ احْتِيَاطًا (3) .
حُكْمُ النَّتْرِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّتْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - الْقَوْل الأَْوَّل: وُجُوبُ النَّتْرِ، وَهُوَ قَوْل
الْحَنَفِيَّةِ (4) ، وَالْمَالِكِيَّةِ (5) ، وَاخْتَارَهُ
__________
(1) حاشية الطحطاوي ص 24، وحاشية الدسوقي 1 / 109، 110، وأسنى المطالب
1 / 49، ونهاية المحتاج 1 / 141، 142، والإنصاف 1 / 102 ط دار إحياء
التراث العربي، وكشاف القناع 1 / 65، والأم 1 / 22 ط دار المعرفة.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 230.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 109، 110، وأسنى المطالب 1 / 49، ونهاية المحتاج
1 / 141، 142.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 230.
(5) حاشية العدوي على شرح أبي الحسن 1 / 152، 153 ط دار الباز، ومواهب
الجليل 1 / 282، وحاشية الدسوقي 1 / 109، 110.
(40/63)
الْقَاضِي حُسَيْنٌ (1) وَالْبَغَوِيُّ (2)
وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَصَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ الْوُجُوبَ عَلَى مَا إِذَا غَلَبَ عَلَى
ظَنِّهِ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ إِنْ لَمْ
يَفْعَلْهُ (3) .
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: " اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل فَإِنَّ
عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ " (4) .
وَبِحَدِيثِ: " إِذَا بَال أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاَثًا
وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الأَْمْرِ بِنَتْرِ الذَّكَرِ (5) .
ب - الْقَوْل الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ النَّتْرِ، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ (6) وَالْحَنَابِلَةِ (7) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 142.
(2) شرح السنة 1 / 375 ط المكتب الإسلامي.
(3) نهاية المحتاج 1 / 142.
(4) حديث: " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه. . . . "
الحديث. أخرجه الدارقطني في السنن (1 / 128 ط الفنية المتحدة) من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه وقال: الصواب مرسل، ثم ذكر له شاهدا عن ابن
عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ
(5) حديث: " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثا. . ". الحديث. أخرجه ابن
ماجه (1 / 118 ط عيسى الحلبي) من حديث يزداد بن فساءة رضي الله عنه
وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 97 دار الجنان) : يقال يزداد لا
تصح له صحبة وزمعة ضعيف.
(6) أسنى المطالب 1 / 49، ونهاية المحتاج 1 / 141، 142، وشرح المحلي مع
القليوبي وعميرة 1 / 41 ط عيسى الحلبي.
(7) الإنصاف 1 / 102، وكشاف القناع 1 / 65.
(40/64)
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ
الظَّاهِرَ مِنَ انْقِطَاعِ الْبَوْل عَدَمُ عَوْدِهِ (1) .
أَثَرُ الاِخْتِلاَفِ فِي حُكْمِ النَّتْرِ:
6 - يَنْبَنِي عَلَى الاِخْتِلاَفِ السَّابِقِ فِي حُكْمِ النَّتْرِ
عَلَى الْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ نَدْبُ النَّتْرِ وَاسْتِحْبَابُهُ
أَنَّ مَنْ تَرَكَ نَتْرَ ذَكَرِهِ وَاسْتَنْجَى عَقِيبَ انْقِطَاعِ
الْبَوْل ثُمَّ تَوَضَّأَ فَاسْتِنْجَاؤُهُ صَحِيحٌ وَوُضُوؤُهُ
كَامِلٌ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ خُرُوجِ شَيْءٍ آخَرَ، قَالُوا:
وَالاِسْتِنْجَاءُ يَقْطَعُ الْبَوْل فَلاَ يَبْطُل اسْتِنْجَاؤُهُ
وَوُضُوؤُهُ إِلاَّ أَنْ يَتَيَقَّنَ خُرُوجَ شَيْءٍ (2) .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل - وَهُوَ وُجُوبُ النَّتْرِ -
فَإِنَّ اسْتِنْجَاءَهُ يَكُونُ فَاسِدًا وَوُضُوءَهُ بَاطِلاً
وَكَذَلِكَ صَلاَتُهُ (3) .
كَيْفِيَّةُ النَّتْرِ وَشَرْطُهُ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ نَتْرَ الذَّكَرِ
يَكُونُ بِإِصْبَعَيْنِ يُمِرُّهُمَا مِنْ أَصْلِهِ إِلَى رَأْسِ
الذَّكَرِ، وَحَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ إِبْهَامَ يُسْرَاهُ
وَمُسَبِّحَتَهَا لِذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَضَعُ
إِصْبَعَهُ الْوُسْطَى تَحْتَ الذَّكَرِ وَالإِْبْهَامَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 49، وشرح المحلي مع القليوبي وعميرة 1 / 41.
(2) المجموع 2 / 94 ط المكتبة العالمية.
(3) شرح صحيح مسلم 3 / 205.
(40/64)
فَوْقَهُ (1) ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ
فَإِنَّ كَيْفِيَّةَ النَّتْرِ عِنْدَهُمْ تَكُونُ بِعَصْرِ الذَّكَرِ
(2) .
أَمَّا شَرْطُ النَّتْرِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3)
إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ
ذَلِكَ بِأَنَّ قُوَّةَ السَّلْتِ وَالنَّتْرِ تُوجِبُ اسْتِرْخَاءَ
الْعُرُوقِ بِمَا فِيهَا فَلاَ تَنْقَطِعُ الْمَادَّةُ وَيَضُرُّ
بِالْمَثَانَةِ، وَرُبَّمَا أَبْطَل الإِْنْعَاظَ أَوْ أَضْعَفَهُ،
وَهُوَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ (4) .
عَدَدُ مَرَّاتِ النَّتْرِ:
8 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (5) عَلَى أَنَّ عَدَدَ مَرَّاتِ
نَتْرِ الذَّكَرِ ثَلاَثٌ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: " إِذَا
بَال أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاَثًا " (6) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَصْرِ الذَّكَرِ دُونَ تَحْدِيدِ
مَرَّاتٍ لاِسْتِبْرَائِهِ مِنَ الْبَوْل (7) ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 282، وأسنى المطالب 1 / 49، وكشاف القناع 1 / 65.
(2) حاشية الطحطاوي ص 24.
(3) حاشية الطحطاوي ص 24، وحاشية الدسوقي / 109، 1، 110، وأسنى المطالب
1 / 49، ونهاية المحتاج / 141، 1، 142، والمغني لابن قدامة 1 / 155 ط
الرياض.
(4) حاشية العدوي 1 / 152، 153، وحاشية الرهوني على الزرقاني 1 / 164 ط
دار الفكر، والإنعاظ: انتشار الذكر (المصباح) .
(5) مواهب الجليل 1 / 282، وأسنى المطالب 1 / 49، والإنصاف 1 / 102،
وكشاف القناع 1 / 65.
(6) مواهب الجليل 1 / 282، وحديث: " إذا بال أحدكم. . . . " سبق تخرجه
ف 5.
(7) حاشية الطحطاوي ص 24.
(40/65)
النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
وَالدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ
فِي مَجْرَى الْبَوْل شَيْءٌ يَخَافُ خُرُوجَهُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَحْصُل لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَدْنَى عَصْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَحْتَاجُ إِلَى تَنَحْنُحٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَشْيِ
خُطُوَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرِ لَحْظَةٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ السَّلْتِ
وَالنَّتْرِ خَفِيفًا لاَ بِقُوَّةٍ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى
الظَّنِّ انْقِطَاعُ الْمَادَّةِ ثَلاَثًا أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ
(2) .
__________
(1) المجموع 2 / 94، وانظر: أسنى المطالب 1 / 49.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 109، 110.
(40/65)
نَتَفَ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّتْفُ فِي اللُّغَةِ: نَزْعُ الشَّعْرِ وَالشَّيْبِ
وَالرِّيشِ، يُقَال: نَتَفْتُ الشَّعْرَ وَالرِّيشَ أَنْتِفُهُ نَتْفًا
- وَبَابُهُ ضَرَبَ - نَزَعْتُهُ بِالْمِنْتَافِ أَوْ بِالأَْصَابِعِ،
وَالنُّتَافُ وَالنُّتَافَةُ: مَا انْتَتَفَ وَسَقَطَ مِنَ الشَّيْءِ
الْمَنْتُوفِ، وَنُتَافَةُ الإِْبِطِ: مَا نُتِفَ مِنْهُ، وَالآْلَةُ:
مِنْتَافٌ، وَالنُّتْفَةُ: مَا تَنْزِعُهُ بِأَصَابِعِكَ مِنْ نَبْتٍ
وَغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ نُتَفٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَلْقُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْحَلْقِ: إِزَالَةُ شَعْرِ الإِْنْسَانِ
بِالْمُوسَى وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَدِيدِ، يُقَال: حَلَقَ شَعْرَهُ
حَلْقًا وَحِلاَقًا: أَزَالَهُ بِالْمُوسَى وَنَحْوِهِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي، والمغرب.
(40/66)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالْحَلْقِ إِزَالَةُ الشَّعْرِ فِي
كُلٍّ مِنْهُمَا.
ب - الاِسْتِحْدَادُ:
3 - الاِسْتِحْدَادُ: هُوَ حَلْقُ الْعَانَةِ خَاصَّةً بِاسْتِعْمَال
الْحَدِيدِ وَهُوَ الْمُوسَى.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالاِسْتِحْدَادِ إِزَالَةُ
الشَّعْرِ فِي كُلٍّ.
ج - الْحَفُّ:
4 - الْحَفُّ: هُوَ أَخْذُ شَعْرِ الْوَجْهِ، يُقَال: حَفَّتِ
الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا حَفًّا: زَيَّنَتْهُ بِأَخْذِ شَعْرِهِ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّتْفِ وَالْحَفِّ أَنَّ فِي كِلَيْهِمَا
إِزَالَةَ الشَّعْرِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّتْفِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنَّتْفِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) لسان العرب، ونيل الأوطار 1 / 122.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب.
(40/66)
نَتْفُ شَعْرِ الْمُحْرِمِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ إِزَالَةُ شَعْرِ
الْمُحْرِمِ قَبْل التَّحَلُّل بِنَتْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ فِيهِ
شَعْرُ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَالإِْبِطِ وَالْعَانَةِ
وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ شُعُورِ الْبَدَنِ، حَتَّى يَحْرُمَ نَتْفُ
شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَدَنِ، وَإِنْ فَعَل
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَصَى وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَلَوْ مَشَطَ
شَعْرَ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ فَأَدَّى إِلَى نَتْفِ شَيْءٍ مِنَ
الشَّعْرِ، حَرُمَ وَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ فَلاَ
يَحْرُمُ وَلَكِنْ يُكْرَهُ، وَإِنْ مَشَطَ فَانْتَتَفَ لَزِمَتْهُ
الْفِدْيَةُ، فَإِنْ سَقَطَ شَعْرٌ فَشَكَّ هَل انْتَتَفَ بِالْمُشْطِ
أَمْ كَانَ مُنْسَلًّا فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَدَلِيل تَحْرِيمِ النَّتْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلاَ تَحْلِقُوا
رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (2) ، وَقِيسَ
النَّتْفُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَعَبَّرَ النَّصُّ
بِالْحَلْقِ لأَِنَّهُ الْغَالِبُ فِي إِزَالَةِ الشَّعْرِ (3) .
نَتْفُ رِيشِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ نَتَفَ رِيشَ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ
حَتَّى عَجَزَ عَنِ الاِمْتِنَاعِ عَمَّنْ يُرِيدُ أَخْذَهُ فَعَلَيْهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 204، والدسوقي 2 / 60، وحاشية الجمل 2 / 511
- 512، وتحفة المحتاج 2 / 170، والروضة 3 / 135، وكشاف القناع 2 / 421
- 422.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) تحفة المحتاج 4 / 170، كشاف القناع 2 / 422.
(40/67)
فِدْيَةٌ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ
الْفِدْيَةِ نَتْفُ كُل الرِّيشِ، بَل يُشْتَرَطُ نَتْفُ مَا
يُخْرِجُهُ مِنْ حَيِّزِ الاِمْتِنَاعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ
بِحَيْثُ لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ وَلَمْ تُعْلَمْ
سَلاَمَتُهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى
الطَّيَرَانِ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَتَفَ رِيشَهُ الَّذِي
لاَ يَقْدِرُ عَلَى الطَّيَرَانِ إِلاَّ بِهِ وَأَمْسَكَهُ عِنْدَهُ
حَتَّى نَبَتَ بَدَلُهُ وَأَطْلَقَهُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا نَتَفَ رِيشَ
طَائِرٍ مِنَ الصَّيْدِ الْمَضْمُونِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي
الإِْحْرَامِ لَمْ يَخْل حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ
يَكُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بَعْدَ النَّتْفِ أَوْ يَصِيرَ غَيْرَ
مُمْتَنِعٍ بَعْدَ النَّتْفِ، فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ
النَّتْفِ، فَالْكَلاَمُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ.
وَالثَّانِي: ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالتَّلَفِ.
فَأَمَّا ضَمَانُ نَقْصِهِ بِالنَّتْفِ فَلاَ يَخْلُو حَالُهُ مِنْ
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لاَ يَسْتَخْلِفَ مَا نَتَفَ مِنْ رِيشِهِ، فَعَلَيْهِ
ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْهُ، وَهُوَ: أَنْ يُقَوَّمَ قَبْل نَتْفِ
رِيشِهِ، فَإِذَا قِيل: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قَوَّمَهُ بَعْدَ نَتْفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 216.
(2) الدسوقي 2 / 76.
(40/67)
رِيشِهِ فَإِذَا قِيل: تِسْعَةٌ، عُلِمَ
أَنَّ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَيُنْظَرُ فِي
الطَّائِرِ الْمَنْتُوفِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ
فَعَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعُشْرُ شَاةٍ
عِنْدَ الْمُزَنِيِّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ قِيمَتُهُ فَعَلَيْهِ
ضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ (1) .
وَإِنِ اسْتُخْلِفَ مَا نُتِفَ مِنْ رِيشِهِ وَعَادَ كَمَا كَانَ قَبْل
نَتْفِ رِيشِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ بِالنَّتْفِ قَبْل حُدُوثِ
مَا اسْتُخْلِفَ، لأَِنَّ الرِّيشَ الْمَضْمُونَ بِالنَّتْفِ غَيْرُ
الَّذِي اسْتُخْلِفَ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنِ
اخْتِلاَفِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ جَنَى عَلَى سِنٍّ
فَانْقَلَعَتْ فَأَخَذَ دِيَتَهَا، ثُمَّ نَبَتَتْ مِنْ جَدِيدٍ، هَل
يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَ مِنَ الدِّيَةِ أَمْ لاَ؟ وَإِذَا
امْتَنَعَ الطَّائِرُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَل اسْتُخْلِفَ رِيشُهُ أَمْ
لَمْ يُسْتَخْلَفْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ وَجْهًا وَاحِدًا،
لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ (2) .
7 - أَمَّا ضَمَانُ نَفْسِهِ إِنْ تَلِفَ فَلاَ يَخْلُو حَالُهُ مِنْ
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 337 ط دار الكتب العلمية.
(2) المصدر السابق.
(40/68)
أَحَدُهَا: أَنْ يَتْلَفَ مِنْ ذَلِكَ
النَّتْفِ، وَهُوَ أَنْ يَمْتَنِعَ بَعْدَ النَّتْفِ فَيَطِيرَ
مُتَحَامِلاً لِنَفْسِهِ وَيَسْقُطَ مِنْ شِدَّةِ الأَْلَمِ فَيَمُوتَ،
فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَفْسِهِ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ نَقْصِهِ، فَإِنْ
كَانَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ شَاةٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ
مِمَّا تَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ قَبْل النَّتْفِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّتْفِ: إِمَّا
حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ حَادِثٍ غَيْرِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ
نَفْسِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُعْلَمَ هَل مَاتَ مِنْ ذَلِكَ النَّتْفِ أَوْ
مِنْ غَيْرِهِ فَالاِحْتِيَاطُ أَنْ يَفْدِيَهُ كُلَّهُ وَيَضْمَنَ
نَفْسَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مِنْ نَتْفِهِ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ أَنْ يَضْمَنَ إِلاَّ قَدْرَ نَقْصِهِ، لأَِنَّ ظَاهِرَ
مَوْتِهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أَنَّهُ فِي حَادِثٍ غَيْرِهِ.
وَإِنْ صَارَ الطَّائِرُ بِالنَّتْفِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَعَلَيْهِ
أَنْ يُمْسِكَهُ وَيُطْعِمَهُ وَيَسْقِيَهُ لِيَنْظُرَ مَا يَؤُول
إِلَيْهِ حَالُهُ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ، فَإِنْ عَاشَ غَيْرَ
مُمْتَنِعٍ وَصَارَ مَطْرُوحًا كَالْكَسِيرِ الزَّمِنِ فَعَلَيْهِ
ضَمَانُ نَفْسِهِ وَفِدَاءُ جَمِيعِهِ، لأَِنَّ الصَّيْدَ
بِامْتِنَاعِهِ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَقَدْ
أَتْلَفَهُ (1) .
وَإِنْ عَاشَ مُمْتَنِعًا وَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل
النَّتْفِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 338.
(40/68)
أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ،
لِعَدَمِ نَقْصِهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ عَافِيًا (أَيْ
طَوِيل الرِّيشِ) مُمْتَنِعًا وَمَنْتُوفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَإِنْ
غَابَ الصَّيْدُ بَعْدَ النَّتْفِ فَلاَ يُعْلَمُ هَل امْتَنَعَ أَوْ
لَمْ يَمْتَنِعْ إِلاَّ أَنَّ جِنَايَتَهُ مَعْلُومَةٌ فَعَلَيْهِ
ضَمَانُ نَفْسِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ حَتَّى
يُعْلَمَ امْتِنَاعُهُ، وَفِي غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ
مَاتَ الصَّيْدُ فَإِنْ مَاتَ بِالنَّتْفِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ
قِيمَتِهِ أَوْ فِدَاءُ مِثْلِهِ، لأَِنَّ مَوْتَهُ مِنْ جِنَايَتِهِ،
وَإِنْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ غَيْرِ النَّتْفِ، فَإِنْ كَانَ
السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الصَّيْدِ
لَوِ انْفَرَدَ: كَأَنْ يَفْتَرِسَهُ سَبُعٌ أَوْ يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ
فَيَكُونُ عَلَى الْجَانِي الأَْوَّل أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً
لأَِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ ضَامِنًا.
وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ
الصَّيْدِ لَوِ انْفَرَدَ مِثْل أَنْ يَقْتُلَهُ مُحْرِمٌ أَوْ
يَقْتُلَهُ مُحِلٌّ، وَالصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ: فَإِنْ كَانَتْ
جِنَايَةُ الأَْوَّل بِالنَّتْفِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ وَبَرَأَ
غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الأَْوَّل أَنْ
يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّهُ قَدْ كَفَّهُ عَنِ الاِمْتِنَاعِ،
وَوَجَبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّهُ قَتَل
صَيْدًا حَيًّا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِشَاةٍ كَانَ عَلَى
الأَْوَّل شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ
كَانَ مِمَّا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَعَلَى الأَْوَّل قِيمَتُهُ
وَهُوَ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ، وَعَلَى الثَّانِي قِيمَتُهُ وَهُوَ صَيْدٌ
غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ
(40/69)
الأَْوَّل بِالنَّتْفِ غَيْرَ
مُسْتَقِرَّةٍ وَلاَ بَرَأَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَاتِلاً
لِلصَّيْدِ بِالتَّوْجِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ
بَطْنَهُ وَيُخْرِجَ حَشْوَتَهُ وَجَبَ عَلَى الأَْوَّل مَا بَيْنَ
قِيمَتِهِ عَافِيًا وَمَنْتُوفًا، لأَِنَّهُ بِالنَّتْفِ جَارِحٌ،
وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّهُ بِالتَّوْجِيهِ
قَاتِلٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جَارِحًا مِنْ غَيْرِ تَوْجِيهٍ
فَقَدِ اسْتَوَيَا فَيَكُونَانِ قَاتِلَيْنِ وَتَكُونُ الْفِدْيَةُ
عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ.
وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ غَيْرَ
مُمْتَنِعٍ، وَلاَ يُعْلَمُ هَل مَاتَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ
الْجِنَايَةِ أَوْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ غَيْرِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ
أَنْ يَفْدِيَهُ كَامِلاً، لأَِنَّ حُدُوثَ سَبَبِهِ بَعْدَ الأَْوَّل
مَظْنُونٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حُكْمُ الْيَقِينِ،
وَلأَِنَّ الأَْوَّل قَدْ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ
مِمَّا ضَمِنَهُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ، وَقَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَنْ رَمَى طَيْرًا فَجَرَحَهُ جُرْحًا لاَ
يَمْتَنِعُ مَعَهُ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي نَتْفِ
الرِّيشِ (1) .
8 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ
أَوْ شَعْرَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَعَادَ مَا نَتَفَهُ فَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ لأَِنَّ النَّقْصَ زَال، أَشْبَهَ مَا لَوِ انْدَمَل
الْجُرْحُ، فَإِنْ صَارَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بِنَتْفِ رِيشِهِ
وَنَحْوِهِ فَكَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَارَ بِهِ غَيْرَ
مُمْتَنِعٍ فَعَلَيْهِ جَزَاءُ
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 338 - 339.
(40/69)
جَمِيعِهِ لأَِنَّهُ عَطَّلَهُ فَصَارَ
كَالتَّالِفِ، وَإِنْ نَتَفَهُ فَغَابَ وَلَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُ
فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ (1) .
نَتْفُ شَعْرِ الْوَجْهِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَتْفِ شَعْرِ وَجْهِ الْمَرْأَةِ،
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي النَّمْصِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِلَعْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ
وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ
تَعَالَى (2) .
وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَنَمُّص ف 4
وَمَا بَعْدَهَا) .
نَتْفُ شَعْرِ الإِْبِطِ:
10 - إِنَّ نَتْفَ شَعْرِ الإِْبِطِ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي
وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ - أَوْ خَمْسٌ مِنَ
الْفِطْرَةِ -: الْخِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَنَتْفُ الإِْبِطِ
وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ (3) وَلاَ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 467.
(2) حديث لعنه صلى الله عليه وسلم الواشمات والمستوشمات والمتنمصات.
أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 372 ط السلفية) ومسلم (3 / 1678 ط عيسى
الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3) حديث: " الفطرة خمس - أو خمس من الفطرة -: الختان والاستحداد. . .
" أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 334 ط السلفية) ومسلم (1 / 221 ط
عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(40/70)
خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ
نَتْفَ الإِْبِطِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْل
السُّنَّةِ يَحْصُل بِإِزَالَتِهِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ حَلْقٍ أَوْ
نُورَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الأَْوْلَى وَالأَْفْضَل إِزَالَتُهُ
بِالنَّتْفِ الَّذِي وَرَدَ فِي النَّصِّ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (فِطْرَة ف 10) .
نَتْفُ الشَّيْبِ:
11 - لاَ بَأْسَ بِنَتْفِ الشَّيْبِ إِلاَّ إِذَا قُصِدَ لِلتَّزَيُّنِ
(1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (لِحْيَة ف 14) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 261.
(40/70)
نِثَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النِّثَارُ لُغَةً مِنْ نَثَرَ الشَّيْءَ يَنْثُرُهُ وَيَنْثِرُهُ
نَثْرًا وَنِثَارًا: رَمَاهُ مُتَفَرِّقًا (1) وَالنِّثَارُ
بِالْكَسْرِ وَالضَّمِ - لُغَةً - اسْمٌ لِلْفِعْل كَالنَّثْرِ،
وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَنْثُورِ كَالْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ
(2) .
قَال اللَّيْثُ: النِّثَارُ بِالْكَسْرِ: نَثْرُكَ الشَّيْءَ بِيَدِكَ
تَرْمِي بِهِ مُتَفَرِّقًا مِثْل نَثْرِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ
وَالسُّكَّرِ، وَكَذَلِكَ نَثْرُ الْحَبِّ إِذَا بُذِرَ.
وَالنُّثَارُ بِالضَّمِّ، فُتَاتُ مَا يَتَنَاثَرُ حَوَالَيِ
الْخِوَانِ مِنَ الْخُبْزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُل شَيْءٍ (3) .
وَنَثَرَ الْمُتَوَضِّئُ وَاسْتَنْثَرَ بِمَعْنَى اسْتَنْشَقَ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَجْعَل الاِسْتِنْشَاقَ إِيصَال
الْمَاءِ. . وَالاِسْتِنْثَارَ إِخْرَاجَ مَا فِي الأَْنْفِ مِنْ
مُخَاطٍ وَغَيْرِهِ (4) .
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المصباح المنير.
(3) لسان العرب.
(4) المصباح المنير، معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5 / 389 ط عيسى
الحلبي.
(40/71)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّوْزِيعُ:
2 - التَّوْزِيعُ لُغَةً: الْقِسْمَةُ وَالتَّفْرِيقُ (2) ، يُقَال:
وَزَّعْتُ الْمَال تَوْزِيعًا: قَسَّمْتُهُ أَقْسَامًا،
وَتَوَزَّعْنَاهُ اقْتَسَمْنَاهُ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النِّثَارِ وَالتَّوْزِيعِ هِيَ أَنَّ كُل
نِثَارٍ تَوْزِيعٌ، وَلَيْسَ كُل تَوْزِيعٍ نِثَارًا أَوْ نَثْرًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ -
وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى جَوَازِ
نَثْرِ الدَّرَاهِمِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ
وَغَيْرِهِ وَإِبَاحَةِ الْتِقَاطِهِ (4) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مُقَابِل
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى كَرَاهِيَةِ النِّثَارِ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 371 ط الحلبي، وشرح المنهج مع حاشية الجمل 4 /
277 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(3) المصباح المنير.
(4) الفتاوى الهندية 5 / 345، ومواهب الجليل 4 / 6، ونهاية المحتاج 6 /
371، والإنصاف 8 / 340، 341.
(40/71)
وَالْتِقَاطِهِ (1) ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النُّهْبَةُ لاَ
تَحِل (2) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ
انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا (3) .
مَنْ يَجُوزُ لَهُ الأَْخْذُ وَمَنْ لاَ يَجُوزُ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّةِ: النُّهْبَةُ جَائِزَةٌ إِذَا أَذِنَ صَاحِبُهَا
فِيهَا، فَإِذَا وَضَعَ الرَّجُل مِقْدَارًا مِنَ السُّكَّرِ أَوْ
عَدَدًا مِنَ الدَّرَاهِمِ بَيْنَ قَوْمٍ وَقَال: مَنْ شَاءَ أَخَذَ
مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ قَال: مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ
فَكُل مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ، وَلاَ يَكُونُ
لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِذَا نَثَرَ السُّكَّرَ
فَحَضَرَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ النَّثْرِ قَبْل أَنْ
يَنْتَهِبَ الْمَنْثُورَ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا هَل
لَهُ ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لَهُ
أَنْ يَأْخُذَهُ، وَقَال الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَإِذَا نَثَرَ السُّكَّرَ وَوَقَعَ عَلَى ذَيْل رَجُلٍ أَوْ كُمِّهِ
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 6، والإنصاف 8 / 340، 341، ونهاية المحتاج 6 /
371.
(2) حديث: " النهبة لا تحل ". أخرجه الحاكم (2 / 134 ط دائرة المعارف)
وابن ماجه (2 / 1299 ط عيسى الحلبي) من حديث ثعلبة بن الحكم، وصحح
إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 286 ط دار الجنان) .
(3) حديث: " من انتهب نهبة فليس منا ". أخرجه الترمذي (3 / 431 ط
الحلبي) من حديث عمران بن حصين، وقال: حسن صحيح.
(40/72)
فَإِنْ كَانَ بَسَطَ ذَيْلَهُ أَوْ كُمَّهُ
لِيَقَعَ عَلَيْهِ السُّكَّرُ لاَ يَكُونُ لأَِحَدٍ أَخْذُهُ، وَلَوْ
أَخَذَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الذَّيْل وَالْكُمِّ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ
مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ ذَيْلَهُ أَوْ كُمَّهُ فَالسُّكَّرُ
لِلآْخِذِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الذَّيْل وَالْكُمِّ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ
مِنْهُ.
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُل إِلَى غَيْرِهِ سُكَّرًا أَوْ دَرَاهِمَ
لِيَنْثُرَهُ عَلَى الْعَرُوسِ فَأَرَادَ أَنْ يَحْبِسَ لِنَفْسِهِ
شَيْئًا فَفِيمَا إِذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ دَرَاهِمَ لَيْسَ لَهُ
ذَلِكَ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الدَّرَاهِمَ إِلَى
غَيْرِهِ لِيَنْثُرَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ، وَإِذَا نَثَرَ لَيْسَ لَهُ
أَنْ يَلْتَقِطَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَفِيمَا إِذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ سُكَّرًا لَهُ أَنْ يَحْبِسَ قَدْرَ
مَا يَحْبِسُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ هَكَذَا اخْتَارَهُ الْفَقِيهُ
أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا
قَالُوا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَحِل الْتِقَاطُ النَّثْرِ لِلْعِلْمِ
بِرِضَا مَالِكِهِ، وَتَرْكُهُ أَوْلَى، وَقِيل: أَخْذُهُ مَكْرُوهٌ
لأَِنَّهُ دَنَاءَةٌ. نَعَمْ إِنْ عُلِمَ أَنَّ النَّاثِرَ لاَ
يُؤْثِرُ بِهِ وَلَمْ يَقْدَحْ أَخْذُهُ فِي مُرُوءَتِهِ لَمْ يَكُنْ
تَرْكُهُ أَوْلَى (2) ، وَلاَ تُرَدُّ شَهَادَةُ مُلْتَقِطِ النِّثَارِ
(3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 345، 346 بتصرف.
(2) نهاية المحتاج 6 / 371.
(3) أسنى المطالب 4 / 347 ط المكتبة الإسلامية، ومغني المحتاج 3 / 239
وما بعدها.
(40/72)
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمْ أَخْذُ
النِّثَارِ مِنَ الْهَوَاءِ بِإِزَارٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ
مِنْهُ أَوِ الْتَقَطَهُ أَوْ بَسَطَ حِجْرَهُ لَهُ فَوَقَعَ فِيهِ
مَلَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ حِجْرَهُ لَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ؛
لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ قَصْدُ تَمَلُّكٍ وَلاَ فِعْلٍ، نَعَمْ
هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ لَمْ
يَمْلِكْهُ، وَلَوْ سَقَطَ مَنْ حِجْرِهِ قَبْل أَنْ يَقْصِدَ أَخْذَهُ
أَوْ قَامَ فَسَقَطَ بَطَل اخْتِصَاصُهُ بِهِ، وَلَوْ نَفَضَهُ فَهُوَ
كَمَا لَوْ وَقَعَ عَلَى الأَْرْضِ أَيْ فَيَبْطُل اخْتِصَاصُهُ بِهِ
(1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا يُنْثَرُ عَلَيْهِمْ لِيَأْكُلُوهُ عَلَى
وَجْهِ مَا يُؤْكَل دُونَ أَنْ يُنْتَهَبَ فَانْتِهَابُهُ حَرَامٌ لاَ
يَحِل وَلاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ مُخْرِجَهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ
يَتَسَاوَوْا فِي أَكْلِهِ عَلَى وَجْهِ مَا يُؤْكَل، فَمَنْ أَخَذَ
مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَأْكُل مِنْهُ مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى
وَجْهِ الأَْكْل فَقَدْ أَخَذَ حَرَامًا وَأَكَل سُحْتًا.
وَأَمَّا مَا يُنْثَرُ عَلَيْهِمْ لِيَنْتَهِبُوهُ فَقَدْ كَرِهَهُ
مَالِكٌ وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ، وَتَأَوَّل أَنَّ النَّهْيَ عَنِ
الاِنْتِهَابِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ انْتِهَابُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي
انْتِهَابِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ حَصَل فِي حِجْرِهِ شَيْءٌ مِنْهُ - أَيْ
مِنَ النِّثَارِ - فَهُوَ لَهُ، وَكَذَا مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ
فَهُوَ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِيهِمَا مُطْلَقًا، وَقِيل:
لاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِالْقَصْدِ (3) .
__________
(1) شرح المنهج وحاشية الجمل 4 / 278، ونهاية المحتاج 6 / 371، ومغني
المحتاج 3 / 239 وما بعدها.
(2) مواهب الجليل 4 / 6 بتصرف.
(3) الإنصاف 8 / 340، 341.
(40/73)
نَجَاسَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّجَاسَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذَارَةُ، يُقَال: تَنَجَّسَ
الشَّيْءُ: صَارَ نَجِسًا، وَتَلَطَّخَ بِالْقَذِرِ (1) .
وَالنَّجَاسَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ
بِأَنَّهَا: مُسْتَقْذِرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ حَيْثُ لاَ
مُرَخِّصَ (2) .
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ
لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ بِهِ أَوْ فِيهِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّهَارَةُ:
2 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ
وَالنَّجِسِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُل مَا يَشِينُ (4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) القليوبي على المنهاج 1 / 68، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 122.
(3) الشرح الكبير 1 / 32.
(4) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والتعريفات للجرجاني.
(40/73)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ
تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ بِهِ أَوْ
فِيهِ أَوْ لَهُ (1) .
فَالطَّهَارَةُ هِيَ الْمَدْخَل لأَِدَاءِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لاَ
تَجُوزُ إِلاَّ بِهَا، كَالصَّلاَةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ،
وَهِيَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِإِزَالَةِ مَا قَدْ يَكُونُ عَالِقًا
وَقَائِمًا بِالْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ مِنْ أَحْدَاثٍ
وَأَخْبَاثٍ.
ب - الاِسْتِنْجَاءُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الاِسْتِنْجَاءِ لُغَةً: الْخَلاَصُ مِنَ الشَّيْءِ.
يُقَال: اسْتَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا (2) .
وَالاِسْتِنْجَاءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ
السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ بِالْغَسْل أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ
وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.
وَالاِسْتِنْجَاءُ خَاصٌّ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ
السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، لاَ عَنْ بَاقِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالاِسْتِنْجَاءِ: أَنَّ
الاِسْتِنْجَاءَ وَسِيلَةٌ لإِِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَل
وَتَطْهِيرِهِ. (ر: اسْتِنْجَاء ف 1) .
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 30.
(2) لسان العرب.
(40/74)
مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا وَمَا لاَ
يُعْتَبَرُ:
4 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الأَْعْيَانَ النَّجِسَةَ إِلَى
نَوْعَيْنِ: النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ وَالنَّجَاسَةُ
الْمُخَفَّفَةُ. وَقَالُوا: كُل مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ
مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجُهُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل فَهُوَ مُغَلَّظٌ،
كَالْغَائِطِ وَالْبَوْل وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ
وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ إِذَا مَلأََ الْفَمَ وَدَمِ
الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالاِسْتِحَاضَةِ، وَكَذَلِكَ بَوْل
الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلاَ أَوْ لاَ، وَالْخَمْرُ وَالدَّمُ
الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْمَيْتَةِ وَبَوْل مَا لاَ يُؤْكَل
وَالرَّوْثُ وَإِخْثَاءُ الْبَقَرِ وَالْعَذِرَةُ وَنَجْوُ الْكَلْبِ
وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالأَْوِزِّ وَخِرَاءُ السِّبَاعِ
وَالسِّنَّوْرِ وَالْفَأْرِ وَخِرَاءُ الْحَيَّةِ وَبَوْلُهَا
وَخِرَاءُ الْعَلَقِ وَدَمُ الْحَلَمَةِ وَالْوَزَغَةِ إِذَا كَانَ
سَائِلاً، فَهَذِهِ الأَْعْيَانُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً
غَلِيظَةً.
وَعَدُّوا مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمُخَفَّفَةِ: بَوْل مَا يُؤْكَل
لَحْمُهُ وَالْفَرَسُ وَخِرَاءُ طَيْرٍ لاَ يُؤْكَل.
أَمَّا أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ الَّتِي لاَ دَمَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ
صُلْبَةً، كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ
وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَصَبِ وَالإِْنْفَحَةِ
الصُّلْبَةِ فَلَيْسَتْ بِنَجِسٍ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ
لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ (1) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 45 - 46، وبدائع الصنائع 1 / 60.
(2) سورة النحل / 80.
(40/74)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عِنْدَ الْكَلاَمِ
عَنْ تَمْيِيزِ الأَْعْيَانِ الطَّاهِرَةِ عَنِ النَّجِسَةِ:
أ - الْجَمَادَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَّ الْمُسْكِرَ.
ب - وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ.
ج - وَالْمَيْتَاتُ كُلُّهَا عَلَى النَّجَاسَةِ.
د - وَدُودُ الطَّعَامِ كُلُّهُ طَاهِرٌ، وَلاَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ
الطَّعَامِ، وَكُل مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لاَ يَنْجَسُ
بِالْمَوْتِ، وَلاَ يَنْجَسُ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ
(1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الأَْعْيَانِ
الطَّهَارَةُ.
وَفَصَّلُوا فِي ضَبْطِهَا فَقَالُوا: الأَْعْيَانُ جَمَادٌ
وَحَيَوَانٌ.
فَالْجَمَادُ كُلُّهُ طَاهِرٌ.
وَالْحَيَوَانُ - أَيِ الْحَيُّ - كُلُّهُ طَاهِرٌ إِلاَّ الْكَلْبَ
وَالْخِنْزِيرَ وَفَرْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَجُزْءُ الْحَيَوَانِ كَمَيْتَتِهِ.
وَالْمَيْتَةُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ،
وَالآْدَمِيَّ، وَالْجَنِينَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدَ
الَّذِي لاَ تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ.
وَالْمُنْفَصِل عَنِ الْحَيَوَانِ إِمَّا يَرْشَحُ رَشْحًا
كَالْعَرَقِ، وَلَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ - أَيِ الْحَيِّ - وَإِمَّا
لَهُ
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة 1 / 11.
(40/75)
اسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ كَالْبَوْل
فَهُوَ نَجِسٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ (1) .
تَقْسِيمُ النَّجَاسَةِ إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ
حُكْمِيَّةٍ:
5 - مِنْ تَقْسِيمَاتِ النَّجَاسَةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا
الْفُقَهَاءُ تَقْسِيمُهَا إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ
حُكْمِيَّةٍ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ تَعْنِي
الْخَبَثَ، وَالْحُكْمِيَّةَ تَعْنِي الْحَدَثَ.
وَعَرَّفُوا الْخَبَثَ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُسْتَقْذَرَةٌ شَرْعًا.
وَعَرَّفُوا الْحَدَثَ بِأَنَّهُ: وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يَحُل فِي
الأَْعْضَاءِ يُزِيل الطَّهَارَةَ (2) . سَوَاءٌ كَانَ أَصْغَرَ أَوْ
أَكْبَرَ، فَلاَ تَحِل مَثَلاً صَلاَةٌ مَعَ وُجُودِهِ حَتَّى يَضَعَ
مُرِيدُ الصَّلاَةِ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لاَ تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَِحَدٍ مِنَ
النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ (3)
فَهُوَ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ
__________
(1) حاشية البرلسي مع القليوبي على شرح المحلي للمنهاج 1 / 68 - 69،
وحاشية الجمل على شرح المنهج 1 / 168، وروضة الطالبين 1 / 13، والأشباه
والنظائر للسيوطي ص 60، ومغني المحتاج 1 / 77.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 58، 205 ط بولاق.
(3) حديث: " إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس. . " أخرجه الطبراني في
الكبير (5 / 38 ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث رفاعة الزرقي، وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 104 ط القدسي) : رجاله رجال الصحيح.
(40/75)
النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ.
وَيَطْهَرُ الْخَبَثُ بِزَوَالِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: " اغْسِلِي عَنْكِ
الدَّمَ وَصَلِّي (1) فَإِنَّهُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ
النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ (2) .
وَيَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِيَّةِ عَنِ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا
بَقَاءُ بَعْضِ الْمَحَل وَإِنْ قَل مِنْ غَيْرِ إِصَابَةِ مُزِيلِهَا.
فَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ يَمْنَعُهُ قِيَامُ هَذَا الْحَدَثِ
مِنَ الصَّلاَةِ مَثَلاً حَتَّى يَتَوَضَّأَ حَالَةَ وُجُودِ الْمَاءِ
أَوْ يَتَيَمَّمَ حَالَةَ فَقْدِهِ بِشُرُوطِهِ، وَالْمُحْدِثُ حَدَثًا
أَكْبَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِل. وَعَلَى هَذَا
فَقَلِيل الْحُكْمِيَّةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلاَةِ بِالاِتِّفَاقِ.
وَالْعَيْنِيَّةُ تَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ غِلَظِهَا وَخِفَّتِهَا،
وَقَلِيلُهَا عَفْوٌ، وَهُوَ دُونَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فِي
الْغَلِيظَةِ، وَدُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ فِي
الْخَفِيفَةِ، وَتَطْهَرُ بِزَوَال عَيْنِهَا فِي الْمَرْئِيِّ،
وَبِالْغُسْل فِي غَيْرِهِ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ هِيَ مَا لاَ
تَتَجَاوَزُ مَحَل حُلُول مُوجِبِهَا كَالنَّجَاسَاتِ،
وَالْحُكْمِيَّةَ
__________
(1) حديث: " اغسلي عنك الدم وصلي ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 332
ط السلفية) ومسلم (1 / 262 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله
عنها.
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 43 ط مطبعة حجازي - القاهرة.
(3) مراقي الفلاح ص 45، 52، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 132، وابن
عابدين 1 / 215 ط الثالثة.
(40/76)
هِيَ مَا تَتَجَاوَزُهُ بِغَسْل أَعْضَاءِ
الْوُضُوءِ أَوْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ وَبِنُزُول
الْمَنِيِّ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُكْمِيَّةُ عَلَى مَا لاَ وَصْفَ لَهُ مِنْ طَعْمٍ
أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ (1) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْمَانِعُ
مِنَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ
بِجَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ عِنْدَ
مُوجِبِهِ.
وَالْخَبَثُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِعَيْنِ
النَّجَاسَةِ (2) .
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: النَّجَاسَةُ حَدَثٌ وَخَبَثٌ، فَالْحَدَثُ
هُوَ الْمَنْعُ الْقَائِمُ بِالأَْعْضَاءِ لِمُوجِبٍ مِنْ بَوْلٍ
وَنَحْوِهِ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُرِيدُ
الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ ثَوْبًا أَوْ مَكَانًا فَهِيَ طَهَارَةُ
خَبَثٍ أَيْ طَهَارَةٌ مِنْهُ.
وَالْحَدَثُ وَالْخَبَثُ لاَ يُرْفَعَانِ إِلاَّ بِالْمَاءِ
الْمُطْلَقِ.
وَالْحَدَثُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الأَْكْبَرُ وَالأَْصْغَرُ،
أَمَّا الأَْكْبَرُ فَهُوَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ،
وَالأَْصْغَرُ هُوَ الْبَوْل وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ
وَالْوَدْيُ.
وَأَمَّا الْخَبَثُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ
__________
(1) القليوبي 1 / 17، 69.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 31، 33، وجواهر الإكليل 1 / 5.
(40/76)
بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ
الْمَكَانِ.
وَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالأَْحْدَاثِ
وَالأَْخْبَاثِ، وَلاَ يَصِحُّ التَّطْهِيرُ مِنْهَا إِلاَّ بِالْمَاءِ
الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ أَوْ
تَغَيَّرَ بِمَا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَقَرَارِهِ
وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، قَال تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (1) وَالْمَاءُ الطَّهُورُ مَا كَانَ
طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، كَمَاءِ الْمَطَرِ
وَالْبَحْرِ وَالْبِئْرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ
أَوْصَافِهِ الثَّلاَثَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرِّيحُ
(2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ
بِالْبَدَنِ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَال هَذَا
الْوَصْفِ يَكُونُ بِالْوُضُوءِ فِي الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ،
وَبِالْغُسْل فِي الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ (الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ
وَالنِّفَاسُ) .
وَالْخَبَثُ مَا كَانَ نَجِسًا مُسْتَقْذَرًا، وَتَطْهِيرُهُ
بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ، فَهُوَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيل الْخَبَثَ
(3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 32، 40، والشرح الصغير 1 / 25،
36، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 34 ط دار الفكر.
(3) منار السبيل في شرح الدليل 1 / 8 المكتب الإسلامي، ونيل المآرب
بشرح دليل الطالب 1 / 38، نشر مكتبة الفلاح، والمغني لابن قدامة مع
الشرح 1 / 714 ط دار الكتاب.
(40/77)
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1) وَقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اغْسِل
خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ (2) ، وَقَوْلِهِ فِي
الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْخَبَثَ يَخْتَصُّ بِالنَّجَاسَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ، وَيُقَسِّمُونَ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ
(الْخَبَثَ) إِلَى قِسْمَيْنِ: مُغَلَّظَةٌ وَمُخَفَّفَةٌ.
فَمَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الأَْدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ
بَلْوَى أَمْ لاَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِلاَّ
فَمُخَفَّفٌ، وَلاَ نَظَرَ لِلأَْدِلَّةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ (الْخَبَثُ)
ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: مُغَلَّظَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ أَوْ
مُتَوَسِّطَةٌ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا نَجُسَ بِمُلاَقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ
خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَنَجَّسَ بِبَوْل صَبِيٍّ لَمْ يُطْعَمْ
__________
(1) سورة الأنفال / 11.
(2) حديث: " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد " أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 227 ط السلفية) ومسلم (1 / 419 ط عيسى الحلبي) من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". أخرجه أبو داود (1 / 64 ط
حمص) والترمذي (1 / 101 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
وقال الترمذي: حسن صحيح.
(40/77)
غَيْرَ لَبَنٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا (1) .
طَهَارَةُ الآْدَمِيِّ وَنَجَاسَتُهُ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ
الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ (3) ، وَلَوْ
كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ نَجِسَةً لَمْ يُنْزِلْهُمْ فِيهِ تَنْزِيهًا
لَهُ (4) .
وَأَمَّا الآْدَمِيُّ الْمَيِّتُ فَيَرَى عَامَّةُ مَشَايِخِ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ
الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ
الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي
الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا غُسِل يُحْكَمُ
بِطِهَارَتِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا كَرَامَةً لَهُ، وَأَمَّا
الْكَافِرُ فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالْغَسْل، وَأَنَّهُ لاَ تَصِحُّ
صَلاَةُ حَامِلِهِ (5) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 82، ومغني المحتاج 1 / 83، 85.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) حديث: " أنزل النبي صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد ".
أخرجه أبو داود (3 / 421 ط حمص) من حديث الحسن البصري عن عثمان بن أبي
العاص رضي الله عنه، وقال المنذري في مختصر السنن (4 / 244) : إن الحسن
البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص.
(4) الاختيار شرح المختار 1 / 17، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 30،
والمغني لابن قدامة 1 / 43 ط دار الكتاب العربي.
(5) الاختيار شرح المختار 1 / 15 ط حجازي، وبدائع الصنائع 1 / 299،
وحاشية ابن عابدين 1 / 141.
(40/78)
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: مَيْتَةُ
الآْدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ،
وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ شَعْبَانَ وَابْنِ عَبْدِ
الْحَكَمِ نَجَاسَتُهُ.
قَال عِيَاضٌ: لأَِنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسَهُ،
إِذْ لاَ مَعْنَى لِغَسْل الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ
الْعَذِرَةِ وَلِصَلاَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى
سُهَيْل بْنِ بَيْضَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ (1) ،
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل
عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ الْمَوْتِ (2) ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا
لَمَا فَعَل عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ذَلِكَ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَهَارَةِ الآْدَمِيِّ الْمَيِّتِ
مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (4) وَتَكْرِيمُهُمْ يَقْتَضِي طَهَارَتَهُمْ
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَضِيَّةُ التَّكْرِيمِ أَنْ لاَ يُحْكَمَ
بِنَجَاسَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ
وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
__________
(1) حديث صلاته عليه الصلاة والسلام على سهيل بن بيضاء في المسجد.
أخرجه مسلم (2 / 668 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) حديث: " قبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون بعد الموت ".
أخرجه أبو داود (3 / 513 ط حمص) والترمذي (3 / 306 ط الحلبي) من حديث
عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 64 - 65 ط دار الفكر، والشرح
الكبير 1 / 53، 54.
(4) سورة الإسراء / 70.
(40/78)
نَجَسٌ سورة التوبة / 28. فَالْمُرَادُ
بِهِ نَجَاسَةُ الاِعْتِقَادِ أَوِ اجْتِنَابُهُمْ كَالنَّجِسِ لاَ
نَجَاسَةُ الأَْبْدَانِ (1) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ
الآْدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ (2) وَلأَِنَّهُ
آدَمِيٌّ فَلَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْل
كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ.
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لاِسْتِوَائِهِمَا
فِي الآْدَمِيَّةِ وَفِي حَال الْحَيَاةِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَنْجُسَ
الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ، لأَِنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي
الْمُسْلِمِ وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ
يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ (3)
. .
7 - وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ حُكْمَ أَجْزَاءِ
الآْدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي
حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لأَِنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ
وَلأَِنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ (4)
.
__________
(1) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 30.
(2) حديث: " إن المؤمن لا ينجس ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 391 ط
السلفية) ، ومسلم (1 / 282 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 46.
(4) الاختيار شرح المختار 1 / 15، ومراقي الفلاح ص 49، والشرح الكبير
مع حاشية الدسوقي 1 / 54، والإقناع للشربيني 1 / 30، المغني لابن قدامة
1 / 46.
(40/79)
وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لأَِنَّهَا لاَ حُرْمَةَ لَهَا
بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهَا (1) .
طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَنَجَاسَتُهُ:
أ - الْكَلْبُ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ
وَالنَّجَاسَةُ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ
نَجِسُ الْعَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ
الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ سُؤْرَهُ وَرُطُوبَاتِهِ نَجِسَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ،
لِقَوْلِهِمْ: الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الطَّهَارَةُ، فَكُل حَيٍّ
وَلَوْ كَلْبًا طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ
وَلُعَابُهُ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ شَعْرِ الْكَلْبِ، وَحُكْمِ مَعَضِّ
كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، فَذَهَبَ
بَعْضُهُمْ إِلَى الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى
الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 15 - 19، شَعْر
وَصُوف وَوَبَر ف 19، صَيْد.
ف 44) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 45 - 46.
(40/79)
ب - الْخِنْزِيرُ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ
أَجْزَائِهِ، وَمَا يَنْفَصِل عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ، وَذَلِكَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُل لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (1) . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ رَاجِعٌ إِلَى
الْخِنْزِيرِ فَيَدُل عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ
أَجْزَائِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَال
الْحَيَاةِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي كُل حَيٍّ الطَّهَارَةُ،
وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ،
وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِنْزِير ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
ج ـ - سِبَاعُ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ
وَالطَّيْرِ أَوْ نَجَاسَتِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ
كَالأَْسَدِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْقِرْدِ،
وَنَجَاسَةِ
__________
(1) سورة الأنعام / 154.
(40/80)
سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ
وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَّ مِنْ جَمِيعِ
الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ، وَقِيل بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ
وَالْمُشْرِكِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَسْآرِهَا،
إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ
أَحَدِهِمَا فَهُوَ نَجِسٌ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحَيَوَانُ قِسْمَانِ: نَجِسٌ وَطَاهِرٌ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: النَّجِسُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ نَجِسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ
وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا،
فَهَذَا نَجِسٌ عَيْنُهُ وَسُؤْرُهُ وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ
الْبَهَائِمِ إِلاَّ السِّنَّوْرَ وَمَا دُوَنَهُ فِي الْخِلْقَةِ،
وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ وَالْحِمَارُ الأَْهْلِيُّ وَالْبَغْل،
فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفَسِهِ وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ،
وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 31 - 34، ومراقي الفلاح ص 5 ط الحلبي، والاختيار
شرح المختار 1 / 18 ط حجازي، وفتح القدير 1 / 74 - 76.
(2) القوانين الفقهية ص 27 ط دار القلم - بيروت - الأولى.
(3) روضة الطالبين 1 / 13 ط المكتب الإسلامي.
(40/80)
الأَْوَّل: الآْدَمِيُّ، وَالثَّانِي: مَا
يُؤْكَل لَحْمُهُ، وَالثَّالِثُ: السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي
الْخِلْقَةِ (1) .
طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَنَجَاسَتُهُ:
أ - مَيْتَةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:
11 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ
سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِمِا إِذَا وَقَعَ فِي
مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ مَائِعٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ لاَ يُنَجِّسُ مَا
وَقَعَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا
وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ
لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُْخْرَى
شِفَاءً " وَفِي رِوَايَةٍ: " وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي
فِيهِ الدَّاءُ (2) ، وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إِلَى مَوْتِهِ فَلَوْ
نَجَّسَ لَمَا أَمَرَ بِهِ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنَجِّسُ
مَا وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَمَحَل الْخِلاَفِ إِذَا لَمْ تَنْشَأْ
فِيهِ، فَإِنْ نَشَأَتْ فِيهِ وَمَاتَتْ كَدُودِ الْخَل لَمْ
تُنَجِّسْهُ جَزْمًا (3) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 1 / 41، 44.
(2) حديث: " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه. . " أخرجه البخاري
(فتح الباري 6 / 359 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
والرواية الأخرى أخرجها أبو داود (4 / 183 ط حمص) .
(3) مراقي الفلاح ص 7، 10 ط الحلبي، والاختيار شرح المختار 1 / 14،
وفتح القدير 1 / 57، والشرح الكبير للدسوقي 1 / 48 - 49، ومغني المحتاج
1 / 23 - 24، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 39 - 40.
(40/81)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَا
لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ: مَا
يَتَوَلَّدُ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا،
وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَصَرَاصِرِ الْحَشِّ وَدُودِهِ
فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ
النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ
وَالْبَالُوعَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الإِْنَاءِ أَوِ الْحَبِّ صُبَّ،
وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ وَلاَ تَأْكُل الْعَذِرَةَ
(1) .
ب - مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ وَالْبَرْمَائِيِّ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ مَائِيَّ
الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لاَ يُفْسِدُهُ
كَالسَّمَكِ وَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (2)
، وَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ تَنَجُّسِهِ بِالْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
نَجِسًا لاَ يُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ خَارِجَ
الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ.
وَلَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَل وَاللَّبَنِ رُوِيَ عَنْ
مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لاَ يُفْسِدُ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُنْتَفِخُ
وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الضِّفْدَعِ الْبَرِّيِّ
وَالْمَائِيِّ. وَقِيل: إِنْ كَانَ لِلْبَرِّيِّ دَمٌ سَائِلٌ
أَفْسَدَهُ وَهُوَ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 1 / 39، 40.
(2) حديث: " هو الطهور ماؤه. . . ". سبق تخريجه ف 5.
(40/81)
الصَّحِيحُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دَوَابُّ الْمَاءِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل
مَيْتَتُهُ، فَمَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ طَاهِرَةٌ لِهَذَا
الْحَدِيثِ وَسَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَوُجِدَ طَافِيًا، أَوْ
بِسَبَبِ شَيْءٍ فُعِل بِهِ: مِنِ اصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ
مَجُوسِيٍّ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ وَمَاتَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ فِي بَطْنِ حُوتٍ أَوْ طَيْرٍ مَيِّتًا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ تَطُول حَيَاتُهُ بِبَرٍّ
كَحُوتٍ، أَوْ تَطُول حَيَاتُهُ كَالضِّفْدَعِ الْبَحْرِيِّ
وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ.
وَعَنْ عَبْدِ الْحَقِّ: وَأَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ
فَنَجِسَةٌ، وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ مِنَ الأَْقْوَال فِي مَيْتَةِ مَا
تَطُول حَيَاتُهُ بِبَرٍّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْبَحْرِ
كَالتِّمْسَاحِ الطَّهَارَةُ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ
أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْل الْمُدُنِ وَالأَْمْصَارِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ
(2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَيْتَةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ طَاهِرَةٌ
وَحَلاَلٌ أَكْلُهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ.
__________
(1) الاختيار شرح المختار 1 / 14 ط مصطفى الحلبي 1936، وفتح القدير 1 /
57.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 48 - 49، دار الفكر، والشرح
الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 49، 2 / 115، والشرح الصغير 1 / 45، 2
/ 115، وجواهر الإكليل 1 / 8، 216، وشرح الزرقاني 1 / 21، 22.
(40/82)
وَقَالُوا: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي
الْبَرِّ كَطَيْرِ الْمَاءِ مِثْل الْبَطِّ وَالأَْوِزِّ وَنَحْوِهِمَا
حَلاَلٌ، إِلاَّ مَيْتَتَهَا لاَ تَحِل قَطْعًا، وَالضِّفْدَعُ
وَالسَّرَطَانُ مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَذَوَاتُ السُّمُومِ
حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَحْرُمُ التِّمْسَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ،
وَالسُّلَحْفَاةُ عَلَى الأَْصَحِّ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَةُ السَّمَكِ
وَسَائِرِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يَعِيشُ إِلاَّ فِي
الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ
يُبَحْ أَكْلُهُ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَمْ يُمْنَعْ لأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.
وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضِّفْدَعِ
وَالتِّمْسَاحِ وَشِبْهِهِمَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، فَيُنَجَّسُ
الْمَاءَ الْقَلِيل إِذَا مَاتَ فِيهِ، وَالْكَثِيرَ إِذَا غَيَّرَهُ،
لأَِنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ
كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ
لاَ تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ. وَيُفَارِقُ
السَّمَكَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ وَلاَ يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ (2) .
ج - مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا
نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ:
فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ،
__________
(1) المهذب 1 / 257، وشرح المنهاج وحاشيتا عميرة والقليوبي عليه 4 /
257، وروضة الطالبين 3 / 275 ط المكتب الإسلامي.
(2) المغني لابن قدامة مع الشرح 1 / 40 دار الكتاب العربي.
(40/82)
وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ
وَالطِّحَال (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة) .
د - مَا انْفَصَل مِنَ الْحَيَوَانِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ مَا انْفَصَل
مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ
حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل
التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ غَيْرَ
الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهَا وَعَصَبَهَا - عَلَى الْمَشْهُورِ -
وَحَافِرَهَا وَقَرْنَهَا الْخَالِيَةَ عَنِ الدُّسُومَةِ، وَكَذَا كُل
مَا لاَ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَهُوَ مَا لاَ يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ
بِقَطْعِهِ كَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالظِّلْفِ طَاهِرٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي أُذُنَيْهِ فَفِي الْبَدَائِعِ نَجِسَةٌ، وَفِي
__________
(1) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودفان. . ". أخرجه أحمد (2 / 97 ط
الميمنية) من حديث ابن عمر مرفوعا، وأخرجه البيهقي (1 / 254) موقوفا
على ابن عمر. وقال ابن حجر في الفتح (9 / 621) : أخرجه أحمد والدارقطني
مرفوعا، وقال: إن الموقوف أصح، ورجح البيهقي أيضا الموقوف إلا أنه قال:
إن له حكم الرفع.
(2) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ". أخرجه أبو داود (3
/ 277 ط حمص) والترمذي (4 / 74 ط الحلبي) من حديث أبي واقد الليثي،
وقال الترمذي: حسن غريب.
(40/83)
الْخَانِيَةِ: لاَ، وَفِي الأَْشْبَاهِ:
الْمُنْفَصِل مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إِلاَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ
فَطَاهِرٌ وَإِنْ كَثُرَ (1) .
(ر: أَطْعِمَة ف 74 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ إِلاَّ
الشَّعْرَ وَشِبْهَهَا مِنَ الرِّيشِ.
وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ مِنْهُ فِي حَال
حَيَاتِهِ فَهِيَ نَجِسَةٌ إِجْمَاعًا إِلاَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ
وَالْوَبَرَ. وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قِيل
بِطَهَارَتِهِ فَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ قِيل
بِالنَّجَاسَةِ فَلَحْمُهُ نَجِسٌ.
وَأَمَّا الْعَظْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ
وَالظِّلْفِ فَهِيَ نَجِسَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا الصُّوفُ
وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ (2) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: الْجُزْءُ الْمُنْفَصِل مِنَ الْحَيِّ
كَمَيْتَةِ ذَلِكَ الْحَيِّ: إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ، وَإِنْ
كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ لِخَبَرِ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ
حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ، فَالْمُنْفَصِل مِنَ الآْدَمِيِّ أَوِ
السَّمَكِ أَوِ الْجَرَادِ طَاهِرٌ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ إِلاَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 137 - 138 ط: الثالثة المطبعة الأميرية
الكبرى 1323 هـ، والاختيار شرح المختار 1 / 15 مطبعة حجازي.
(2) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 1 / 51، 52، والشرح الصغير 1 / 49 -
51، وحاشية الدسوقي 1 / 49 - 54.
(40/83)
شَعْرَ الْمَأْكُول أَوْ صُوفَهُ أَوْ
رِيشَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَطَاهِرٌ بِالإِْجْمَاعِ وَلَوْ نُتِفَ
مِنْهَا. قَال اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (1) وَهُوَ مَحْمُولٌ
عَلَى مَا إِذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ
عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ (2) .
وَقَالُوا: دَخَل فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ
عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لأَِنَّ كُلًّا
مِنْهَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا
وَعَصَبُهَا وَحَافِرُهَا، وَأُصُول شَعْرِهَا إِذَا نُتِفَ، وَأُصُول
رِيشِهَا إِذَا نُتِفَ وَهُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ نَجِسٌ، لأَِنَّهُ
مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ أَشْبَهَ سَائِرَهَا، وَلأَِنَّ
أُصُول الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِل
شَعْرًا وَلاَ رِيشًا.
وَصُوفُ مَيْتَةٍ طَاهِرَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْغَنَمِ طَاهِرٌ،
وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ
مَأْكُولَةٍ كَهِرٍّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا
وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَالآْيَةُ سِيقَتْ لِلاِمْتِنَانِ،
فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِحَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ،
وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلاَثَةِ.
__________
(1) سورة النحل / 80.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 30.
(3) مغني المحتاج 1 / 78.
(40/84)
وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مِنْ قَرْنٍ
وَإِلْيَةٍ وَنَحْوِهِمَا كَحَافِرٍ وَجِلْدٍ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ
طَهَارَةً أَوْ نَجَاسَةً (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ
مَيْتَةٌ.
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (شَعْر
وَصُوف وَوَبَر ف 17 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَظْم ف 2، وَأَظْفَار ف 12) .
هـ - جِلْدُ الْحَيَوَانِ:
15 - جِلْدُ الْحَيَوَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِلْدَ مَيْتَةٍ، أَوْ
جِلْدَ حَيَوَانٍ حَيٍّ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ.
أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
نَجَاسَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ - إِلَى أَنَّ
الدِّبَاغَةَ تُطَهِّرُ جُلُودَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ جِلْدَ
الْخِنْزِيرِ عِنْدَهُمْ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ
الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا
اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 56، 57.
(40/84)
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى
عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ.
وَأَمَّا جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّذْكِيَةَ لاَ
تُطَهِّرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ عِنْدَهُمْ
بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَتَفْصِيل مَا سَبَقَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (جِلْد ف 8، 10،
وَدِبَاغَة ف 9 وَمَا بَعْدَهَا، وَطَهَارَة ف 23) .
حُكْمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ:
أ - الرِّيقُ وَالْمُخَاطُ وَالْبَلْغَمُ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الْبَلْغَمِ، فَمَنْ قَاءَ
بَلْغَمًا لاَ يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ وَإِنْ مَلأََ الْفَمَ
لِطَهَارَتِهِ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ
طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ (1) ،
وَلِهَذَا لاَ يَنْقُضُ النَّازِل مِنَ الرَّأْسِ بِالإِْجْمَاعِ، هُوَ
لِلُزُوجَتِهِ لاَ تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا
يُجَاوِرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيل غَيْرُ
نَاقِضٍ، بِخِلاَفِ الصَّفْرَاءِ فَإِنَّهَا تُمَازِجُهَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْجَوْفِ نَقَضَ
__________
(1) حَدِيث " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدّ بَعْضه عَلَى بَعْض ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 513 ط السَّلَفِيَّة)
مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(40/85)
لأَِنَّهُ مَحَل النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ
الصَّفْرَاءَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل حَيٍّ بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ
بَرِّيًّا، كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ آدَمِيًّا، مُسْلِمًا كَانَ
أَوْ كَافِرًا، لُعَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ - وَهُوَ مَا سَال مِنْ فَمِهِ
فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ - طَاهِرٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ
الْمَعِدَةِ بِصُفْرَتِهِ وَنُتُونَتِهِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ، وَلاَ
يُسَمَّى حِينَئِذٍ لُعَابًا، وَيُعْفَى عَنْهُ إِذَا لاَزَمَ وَإِلاَّ
فَلاَ، وَمُخَاطُهُ كَذَلِكَ طَاهِرٌ، وَهُوَ مَا سَال مِنْ أَنْفِهِ
(2) .
وَالْبَلْغَمُ طَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُنْعَقِدُ كَالْمُخَاطِ يَخْرُجُ
مِنَ الصَّدْرِ أَوْ يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ
غَيْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُونَ بِطِهَارَةِ الْمَعِدَةِ لِعِلَّةِ
الْحَيَاةِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا طَاهِرٌ، وَعِلَّةُ نَجَاسَةِ
الْقَيْءِ الاِسْتِحَالَةُ إِلَى فَسَادٍ (3) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا انْفَصَل عَنْ بَاطِنِ
الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَاسْتِحَالَةٌ فِي
الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا كَاللُّعَابِ وَالدَّمْعِ
وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ، فَلَهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَرَشَّحِ
مِنْهُ، إِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرٌ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَلْغَمَ الصَّاعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ
__________
(1) مَرَاقِي الْفَلاَح ص 18 ط الْحَلَبِيّ، وَالاِخْتِيَار شَرْح
الْمُخْتَار 1 / 9 ط الْحَلَبِيّ.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 50، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 8،
وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 64 - 65.
(3) حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 51، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 44،
وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9.
(40/85)
نَجِسٌ، بِخِلاَفِ النَّازِل مِنَ
الرَّأْسِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ أَوِ الصَّدْرِ فَإِنَّهُ
طَاهِرٌ (1) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ رِيقَ الآْدَمِيِّ وَمُخَاطَهُ
وَنُخَامَتَهُ طَاهِرٌ، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ
بِيَدِهِ فَقَال: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ
فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ - أَوْ: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ - فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَل قِبْلَتِهِ،
وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ
رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَال:
أَوْ يَفْعَل هَكَذَا (2) ، وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ
بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ وَلاَ تَحْتَ
قَدَمِهِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي الْبَلْغَمِ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ
وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ.
وَرِيقُ مَأْكُول اللَّحْمِ طَاهِرٌ، وَمَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ
وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ
أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلاَتِهِمَا وَمَا يَنْفَصِل عَنْهُمَا.
الثَّانِي: مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 16 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ،
وَالإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 32، وقليوبي مَعَ
الْمِنْهَاجِ 1 / 69 وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 174.
(2) حَدِيث أَنَس: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَة فِي الْقِبْلَةِ. . " أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 507 - 508 ط السَّلَفِيَّة) .
(40/86)
الطَّيْرِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، فَعَنْ
أَحْمَدَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلاَتِهَا
إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا، وَعَنْهُ مَا يَدُل
عَلَى طَهَارَتِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الآْدَمِيِّ (1) .
ب - الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ:
17 - يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَجَاسَةِ الْقَيْءِ،
لأَِنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَال فِي الْجَوْفِ إِلَى النَّتْنِ
وَالْفَسَادِ فَكَانَ نَجِسًا (2) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا
يُغْسَل الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ. . . وَعَدَّ مِنْهَا الْقَيْءَ (3) .
وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ
أَمَّا مَا دُونَهُ فَطَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْل
أَبِي يُوسُفَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النَّجِسَ مِنْهُ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ
عَنْ حَال الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ لِصَفْرَاءَ أَوْ
بَلْغَمٍ وَلَمْ
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 733 - 734.
(2) الْمُهَذَّب 1 / 53 - 54، وَمِنْهَاج الطَّالِبِينَ مَعَ شَرْحِ
الْمَحَلِّيّ 1 / 70، وَالإِْقْنَاعِ لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 /
31، وَمَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل 1 / 53، وَالْمُغْنِي
لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 175، 176.
(3) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنْ خَمْس. . ". أَخْرَجَهُ
الدَّارَقُطْنِيّ (1 / 127 ط الْفَنِّيَّة الْمُتَّحِدَة) مِنْ حَدِيثِ
عَمَّار بْن يَاسِر، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ فِي
إِسْنَادِهِ رَاوِيَيْنِ ضَعِيفَيْنِ.
(4) فَتْح الْقَدِير 1 / 141، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 16، 18، 30 ط
الْحَلَبِيّ، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 8، 9 ط حِجَازِيّ.
(40/86)
يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ
فَطَاهِرٌ (1) .
فَإِذَا تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ نَجِسٌ كَمَا
هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ (2) .
18 - أَمَّا الْقَلْسُ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ -
فَهُوَ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَاءٌ تَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ أَوْ
يَقْذِفُهُ رِيحٌ مِنْ فَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ طَعَامٌ (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَلْسَ
نَجِسٌ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ
أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ،
ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ
(4) .
وَقَالُوا: إِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي
زَوَال الطَّهَارَةِ (5) .
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 51، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 94، وَالْخَرَشِيُّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 1
/ 86، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 63 ط دَار
الْفِكْرِ.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 51.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 51،
وَالْخَرَشِيُّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 1 / 86.
(4) حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " مَنْ أَصَابَهُ قَيْء
أَوْ رُعَاف أَوْ قَلْس أَوْ مَذْي، فَلْيَتَوَضَّأْ. . " أَخْرَجَهُ
ابْن مَاجَة (1 / 385 - 386 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَضِعْف إِسْنَاده
الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (1 / 223 ط دَار الْجِنَان)
.
(5) فَتْح الْقَدِير 1 / 26، 27، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ
الشَّرْحِ 1 / 176، 734.
(40/87)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَلْسَ
طَاهِرٌ كَالْقَيْءِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ،
فَإِنْ تَغَيَّرَ كَانَ نَجِسًا (1) .
ج -
الْجِرَّةُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ:
19 - الْجِرَّةُ بِالْكَسْرِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا:
مَا يَصْدُرُ مِنْ جَوْفِ الْبَعِيرِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ
إِلَى فِيهِ (2) .
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ
أَوْ غَيْرُهُ مِنْ جَوْفِهِ لِلاِجْتِرَارِ (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ
إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَرَوْثِهِ، لأَِنَّهُ وَارَاهُ جَوْفُهُ،
كَالْمَاءِ إِذَا وَصَل إِلَى جَوْفِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ،
فَكَذَا الْجِرَّةُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّوْثِ، وَلاَ
يَجْتَرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلاَّ مَا لَهُ كَرِشٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ
مَعِدَةَ مُبَاحِ الأَْكْل طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ مَرَارَةٍ وَصَفْرَاءَ (4) .
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 51،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 94، وَالْخَرَشِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 1
/ 86.
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 30، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 31 ط
مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ.
(3) الإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 31.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 233، والقليوبي عَلَى الْمِنْهَاجِ 1
/ 72، وَالاِخْتِيَار لِتَعْلِيل الْمُخْتَار 1 / 31، وَالأَْشْبَاه
وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيمِ 1 / 202، وَمَوَاهِبَ الْجَلِيل 1 / 94،
95 ط دَار الْفِكْرِ، وَالْمُغْنِي 2 / 88 ط مَكْتَبَة الرِّيَاضِ،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79.
(40/87)
د - عَرَقُ الْحَيَوَانِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ
أَوْ نَجَاسَتِهِ.
فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ
الْحَيَوَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَرَق ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
هـ - اللَّبَن:
21 - اللَّبَن إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ،
فَإِنْ كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ فَهُوَ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُول اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ
بِلاَ خِلاَفٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ تَبَعًا
لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي حِل أَكْل الْحَيَوَانِ، فَمَا حَل أَكْلُهُ
كَانَ لَبَنُهُ طَاهِرًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لَبَن ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) .
و الإِْنْفَحَةُ:
22 - الإِْنْفَحَةُ: مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ
جِلْدِيٍّ يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَل
الرَّضِيعِ يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ
فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، وَجِلْدَةُ
الإِْنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَرِشًا إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ
(40/88)
الْعُشْبَ (1) .
وَالإِْنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً
فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ بِالاِتِّفَاقِ، وَقَيَّدَ
الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يُطْعَمَ الْمُذَكَّى غَيْرُ
اللَّبَنِ.
وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ
شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَل ظَاهِرُهَا
وَتُؤْكَل، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ
وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلاَ تُؤْكَل (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَطْعِمَة ف 85) .
ز - الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الدَّمِ، لِحَدِيثِ
أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ
إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَال: " تَحُتُّهُ
ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ (3) ،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير وَالْقَامُوس الْمُحِيط.
(2) الْبَدَائِع 5 / 43، وَالْخَرَشِيّ عَلَى خَلِيل 1 / 85،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 227، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ
الْكَبِيرِ 11 / 89.
(3) حَدِيث أَسْمَاءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " تَحُتُّهُ ثُمَّ
تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فِيهِ ". أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 330 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1
/ 240 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(40/88)
يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
إِنَّمَا يُغْسَل الثَّوْبُ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْل وَالدَّمِ (1)
وَكَذَلِكَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ لأَِنَّهُمَا مِثْلُهُ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ دَمَ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ فَقَالُوا
بِطَهَارَتِهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِقَتْلَى أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ
لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلاَّ يَأْتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ
الْمِسْكِ (2) . فَإِنِ انْفَصَل الدَّمُ عَنِ الشَّهِيدِ كَانَ
الدَّمُ نَجِسًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ دَمِ الإِْنْسَانِ
الَّذِي لاَ يَسِيل عَنْ رَأْسِ جُرْحِهِ، وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ دَمِ
الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ
وَفِيهِ حَرَجٌ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا دُونَ
الدِّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِذَا انْفَصَل عَنِ
الْحَيَوَانِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فِي
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْل.
. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 17.
(2) حَدِيث: " زَمَّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلِمٌ
يُكَلِّمُ. . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (4 / 78 ط التِّجَارِيَّة
الْكُبْرَى) وَأَحْمَد (5 / 431 ط الميمنية) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه
بْن ثَعْلَبَة، وَاللَّفْظ لِلنِّسَائِيِّ، وَقَال السُّيُوطِيّ:
صَحِيحٌ (فَيْض الْقَدِير 4 / 65 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) .
(3) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 8، 30، 31، وَمَرَاقِي
الْفَلاَح 17، 30 ط الْحَلَبِيّ.
(4) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 57، وَالْخَرَشِيّ عَلَى مُخْتَصَر
خَلِيل 1 / 87.
(40/89)
الْعُرْفِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ،
سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنِ انْفَصَل مِنْهُ ثُمَّ عَادَ
إِلَيْهِ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، إِلاَّ دَمَ الْكَلْبِ
وَالْخِنْزِيرِ وَفَرْعَ أَحَدِهِمَا فَلاَ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
لِغِلَظِ نَجَاسَتِهِ، وَأَمَّا دَمُ الشَّخْصِ نَفْسِهِ الَّذِي لَمْ
يَنْفَصِل مِنْهُ كَدَمِ الدَّمَامِيل وَالْقُرُوحِ وَمَوْضِعِ
الْفَصْدِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، انْتَشَرَ بِعَرَقٍ
أَمْ لاَ.
وَيُعْفَى عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْل وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا
تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَشُقُّ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَمَحَل
الْعَفْوِ عَنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ مَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ،
فَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِهِ كَأَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ دَمٌ أَوْ
دَمِيَتْ لِثَتُهُ لَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَا لاَ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فَيُعْفَى
عَنْهُ وَلَوْ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ لِمَشَقَّةِ
الاِحْتِرَازِ عَنْهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ
وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ فِي غَيْرِ مَائِعٍ
وَمَطْعُومٍ، أَيْ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ فِي الصَّلاَةِ، لأَِنَّ
الإِْنْسَانَ غَالِبًا لاَ يَسْلَمُ مِنْهُ وَيَشُقُّ التَّحَرُّزُ
مِنْهُ، وَقَدْرُ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ هُوَ مَا لاَ
يَفْحُشُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ الْقَيْحِ
وَنَحْوِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ مِنَ الدَّمِ،
وَالْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ
طَاهِرٍ خَارِجًا مِنْ غَيْرِ سَبِيلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَبِيلٍ لَمْ
__________
(1) الإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 82، 83.
(40/89)
يُعْفَ عَنْهُ، وَلاَ يُعْفَى عَنِ الدَّمِ
الْخَارِجِ مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ،
وَيُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ فِي ثَوْبٍ مِنْ دَمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَحُشَ
لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، وَيُعْفَى عَنْ دَمِ بَقٍّ وَقَمْلٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِنْ كُل مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً (1) . (ر: عَفُوف 7
وَمَا بَعْدَهَا، مَعْفُوَّات ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
ح - دَمُ الْحَيْضِ وَالاِسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ دَمِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ وَالاِسْتِحَاضَةِ (2) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا
رَسُول اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ،
أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا
أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ
فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالاِسْتِحَاضَةِ
فِي مَنْعِ الْعِبَادَاتِ تَنْظُرُ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 190، 191.
(2) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ
1936، وَمَرَاقِي الْفَلاَح 30، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ
السَّالِكِ 1 / 104، وَالْمُهَذَّبِ 1 / 53، وَالْمُغْنِي لاِبْن
قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 731.
(3) حَدِيث عَائِشَة: " إِنَّمَا ذَلِكَ عَرَق وَلَيْسَ بِحَيْض. . "
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 331 ط السَّلَفِيَّة)
وَمُسْلِم (1 / 262 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(40/90)
مُصْطَلَحَاتِ: (اسْتِحَاضَة ف 25 وَمَا
بَعْدَهَا، حَيْض ف 33 وَمَا بَعْدَهَا، نِفَاس) .
ط - الْمِسْكُ وَالزَّبَادُ وَالْعَنْبَرُ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلاَلٌ،
فَيُؤْكَل بِكُل حَالٍ، وَكَذَا نَافِجَتُهُ طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا عَلَى
الأَْصَحِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا،
وَبَيْنَ مَا انْفَصَل مِنَ الْمَذْبُوحَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ
كَوْنِهَا بِحَال لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ فَسَدَتْ أَوْ لاَ.
وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لاِسْتِحَالَتِهِ إِلَى الطِّيبِيَّةِ.
وَكَذَا الْعَنْبَرُ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى، قَال فِي
خِزَانَةِ الرِّوَايَاتِ نَاقِلاً عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى:
الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَفِي الْمِنْهَاجِيَّةِ مِنْ مُخْتَصَرِ
الْمَسَائِل: الْمِسْكُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا
لَكِنَّهُ تَغَيَّرَ، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ، وَكَذَا الْعَنْبَرُ
(1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ - كَمَا قَال
النَّوَوِيُّ - طَاهِرٌ، وَفِي فَأْرَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي حَيَاةِ
الظَّبْيَةِ وَجْهَانِ: الأَْصَحُّ الطَّهَارَةُ كَالْجَنِينِ، فَإِنِ
انْفَصَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا فَنَجِسَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ
كَاللَّبَنِ، وَطَاهِرَةٌ فِي وَجْهٍ كَالْبَيْضِ الْمُتَصَلِّبِ.
وَالزَّبَادُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ لَبَنُ سِنَّوْرٍ بَحْرِيٍّ أَوْ
عَرَقُ
__________
(1) الأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر 76، وَالْفَتَاوَى الْخَانِيَة عَلَى
هَامِشِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 24، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ
1 / 139 - 140، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 33، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 141،
147.
(40/90)
سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَهُوَ الأَْصَحُّ،
وَيُعْفَى عَنْ قَلِيل شَعَرٍ فِيهِ عُرْفًا فِي مَأْخُوذٍ جَامِدٍ،
وَفِي مَأْخُوذٍ مِنْهُ مَائِعٍ.
وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ نَبَاتٌ بَحْرِيٌّ عَلَى الأَْصَحِّ،
نَعَمْ مَا يَبْتَلِعُهُ مِنْهُ حَيَوَانُ الْبَحْرِ ثُمَّ يُلْقِيهِ
نَجِسٌ لأَِنَّهُ مِنَ الْقَيْءِ وَيُعْرَفُ بِسَوَادِهِ (1) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي طَهَارَةِ
الْمِسْكِ وَحِل أَكْلِهِ، وَهُوَ الدَّمُ الْمُنْعَقِدُ يُوجَدُ
عِنْدَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالْغَزَال وَاسْتَحَال إِلَى صَلاَحٍ،
وَكَذَا فَأْرَتُهُ وَهِيَ وِعَاؤُهُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِنَ
الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ تَطَيَّبَ بِذَلِكَ (2) وَلَوْ كَانَ نَجِسًا مَا
تَطَيَّبَ بِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ طَاهِرَانِ وَهُوَ
سُرَّةُ الْغَزَال، وَكَذَا الزَّبَادُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ عَرَقُ
سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ، وَفِي الإِْقْنَاعِ نَجِسٌ، لأَِنَّهُ عَرَقُ
حَيَوَانٍ أَكْبَرَ مِنَ الْهِرِّ، وَالْعَنْبَرُ طَاهِرٌ (4) .
__________
(1) الْقَلْيُوبِيّ عَلَى الْمِنْهَاجِ 1 / 72، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 1 / 17، وَالإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ 1 / 26،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 224.
(2) حَدِيث أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطِيبُ
بِالْمِسْكِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 849 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ
حَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
(3) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 65، 66،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 52، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9،
وَحَاشِيَة الزُّرْقَانِيّ 1 / 27.
(4) شَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 103، 104، وَمَطَالِب أُولِي
النُّهَى 1 / 237 - 238، 6 / 308.
(40/91)
ي - الْبَوْل وَالْعَذِرَةُ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْل وَعَذِرَةِ
الآْدَمِيِّ وَبَوْل وَرَوْثِ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، لِمَا وَرَدَ
أَنَّهُ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ،
فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ (1)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَنْزِهُوا مِنَ
الْبَوْل (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: إِنَّمَا يُغْسَل الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ
الْغَائِطِ وَالْبَوْل وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْمَنِيِّ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ بَوْل وَرَوْثِ الْحَيَوَانِ مَأْكُول
اللَّحْمِ، وَكَذَا خُرْءُ الطَّيْرِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى طَهَارَتِهِمَا فِي حَيَاةِ
الْحَيَوَانِ أَوْ بَعْدَ ذَكَاتِهِ لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّ
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ
يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا (4) ، وَلَوْ كَانَ
__________
(1) حَدِيث: " جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَال فِي طَائِفَة الْمَسْجِد ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 324 ط السَّلَفِيَّة) ،
وَمُسْلِم (1 / 236 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن
مَالِك، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) حَدِيث: " اسْتَنْزَهُوا مِنَ الْبَوْل ". أَخْرَجَهُ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ (1 / 128 ط الْفَنِّيَّة الْمُتَّحِدَة)
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَال: الصَّوَابُ مُرْسَل، ثُمَّ
ذَكَّرَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ مُقَارِبٍ، وَقَال
(3) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنْ خَمْس: مِنَ الْغَائِطِ
وَالْبَوْل. . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .
(4) حَدِيث أَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
العرنيين بِشُرْب أَبْوَال الإِْبِل أُخْرِجُهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 1 / 335 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1296 ط
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(40/91)
نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ،
وَلِصَلاَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَابِضِ
الْغَنَمِ (1) ، وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ بَوْل وَرَوْثُ الْحَيَوَانِ
مَأْكُول اللَّحْمِ نَجِسًا لَتَنَجَّسَتِ الْحُبُوبُ الَّتِي
تَدُوسُهَا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا لاَ تَسْلَمُ مِنْ أَبْوَالِهَا.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ بَوْل مَا
يُؤْكَل لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، أَمَّا رَوْثُهُ فَهُوَ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ نَجَاسَتُهُ خَفِيفَةٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ هُوَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ
الْخَفِيفَةِ وَقِلَّةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ الْغَلِيظَةِ، لاَ
فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْهِيرِ، لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ بِالْغِلَظِ
وَالْخِفَّةِ.
وَأَمَّا خُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ فَهُوَ
نَجِسٌ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَخُرْءُ مَا
يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ طَاهِرٌ إِلاَّ الدَّجَاجَ
وَالْبَطَّ الأَْهْلِيَّ وَالأَْوِزَّ فَنَجَاسَةُ خُرْئِهَا غَلِيظَةٌ
لِنَتْنِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَوْل الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول
اللَّحْمِ نَجِسٌ وَكَذَلِكَ رَوْثُهُ، وَكَذَا ذَرْقُ الطَّيْرِ،
لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جِيءَ
لَهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ لِيَسْتَنْجِيَ
__________
(1) حَدِيث صَلاَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَابِضِ
الْغَنَمِ أُخْرِجُهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 524 ط
السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 373 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ
أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(40/92)
بِهَا أَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَدَّ
الرَّوْثَةَ وَقَال: هَذَا رِكْسٌ (1) ، وَالرِّكْسُ النَّجَسُ.
وَأَمَّا أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرَنِيِّينَ
بِشُرْبِ أَبْوَال الإِْبِل فَكَانَ لِلتَّدَاوِي، وَالتَّدَاوِي
بِالنَّجِسِ جَائِزٌ عِنْدَ فَقْدِ الطَّاهِرِ إِلاَّ خَالِصَ
الْخَمْرِ، وَلأَِنَّ أَبْوَال مَأْكُول اللَّحْمِ وَأَرْوَاثَهَا
مِمَّا اسْتَحَال بِالْبَاطِنِ، وَكُل مَا اسْتَحَال بِالْبَاطِنِ
نَجِسٌ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (ذَرْق ف 3 - 5، رَوْث ف 2 - 3) .
ك - الْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ، لِلأَْمْرِ
بِغَسْل الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْوُضُوءِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي
أَنْ أَسْأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ
ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ فَسَأَلَهُ،
فَقَال: يَغْسِل ذَكَرَهُ
__________
(1) حَدِيثُ: " هَذَا رَكْس ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (فَتْح
الْبَارِي 1 / 256 ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن
مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 1 / 80، 81، وَالْفَتَاوَى الْخَانِيَة
بِهَامِش الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 19، وَالْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّة 1 / 46 - 48، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 30 -
33 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 30،
وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 51،
وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 47، وَحَاشِيَة الْجُمَل عَلَى الْمَنْهَجِ 1
/ 174، وَالْمَجْمُوعِ 2 / 550، وَالْمُغْنِي 1 / 731 - 832،
وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 1 / 234، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79.
(40/92)
وَيَتَوَضَّأُ (1) ، وَلأَِنَّهُ خَارِجٌ
مِنْ سَبِيل الْحَدَثِ لاَ يَخْلُقُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَهُوَ كَالْبَوْل.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْوَدْيِ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ أَوْ طَهَارَتِهِ: فَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَذْي ف 4، وَمَنِيّ ف 5، وَوَدْي) .
ل - رُطُوبَةُ الْفَرْجِ:
28 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ
الْمَرْأَةِ الدَّاخِلِيِّ كَسَائِرِ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ، وَذَهَبَ
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى نَجَاسَتِهِ.
أَمَّا رُطُوبَةُ الْفَرْجِ الْخَارِجِيِّ فَطَاهِرَةٌ اتِّفَاقًا.
وَإِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا فَلاَ عِبْرَةَ بِهَا
بِاتِّفَاقٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ
مُبَاحِ الأَْكْل نَجِسَةٌ، أَمَّا مِنْ مُبَاحِ الأَْكْل فَطَاهِرَةٌ
مَا لَمْ يَتَغَذَّ بِنَجِسٍ، وَرُطُوبَةُ فَرْجِ الآْدَمِيِّ نَجِسَةٌ
عَلَى الرَّاجِحِ خِلاَفًا لِمَنْ قَال بِطَهَارَتِهِ (3) .
__________
(1) حَدِيث: " يَغْسِل ذِكْره وَيَتَوَضَّأُ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِي 1 / 379 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 247 ط
عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِمُسْلِم.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 112، 208، 233.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 57، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 105.
(40/93)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مِنَ الآْدَمِيِّ أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ
وَلَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ لَيْسَتْ بِنَجِسٍ فِي الأَْصَحِّ بَل
طَاهِرَةٌ لأَِنَّهَا كَعَرَقِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهَا
نَجِسَةٌ، لأَِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ مَحَل النَّجَاسَةِ يَنْجُسُ
بِهَا ذَكَرُ الْمُجَامِعِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ
رُطُوبَةَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ طَاهِرَةٌ لِلْحُكْمِ بِطَهَارَةِ
مَنِيِّهَا، فَلَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا لَزِمَ
الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ مَنِيِّهَا.
وَقَالُوا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - اخْتَارَهَا أَبُو
إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلاَ وَجَزَمَ بِهِ فِي الإِْفَادَاتِ - إِنَّ
رُطُوبَةَ الْفَرْجِ نَجِسَةٌ، وَقَال الْقَاضِي: مَا أَصَابَ مِنْهُ
فِي حَال الْجِمَاعِ نَجِسٌ لأَِنَّهُ لاَ يَسْلَمُ مِنَ الْمَذْيِ (2)
.
حُكْمُ الْخَمْرِ:
29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ
كَالْبَوْل وَالدَّمِ، لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا وَتَسْمِيَتِهَا رِجْسًا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ
وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ (3) ، وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْءُ
الْقَذِرُ أَوِ النَّتِنُ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 81، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 228 -
229، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 1 / 315 - 316.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 195، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 1 / 237،
وَالإِْنْصَاف 1 / 341.
(3) سُورَة الْمَائِدَة / 90
(40/93)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ
رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ وَالصَّنْعَانِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ إِلَى
طَهَارَتِهَا تَمَسُّكًا بِالأَْصْل، وَحَمَلُوا الرِّجْسَ فِي
الآْيَةِ عَلَى الْقَذَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَشْرِبَة ف 30 - 32 وَمَا بَعْدَهَا،
وَتَخْلِيل ف 13 - 14) .
مَا تُلاَقِيهِ النَّجَاسَةُ:
أ - تَلاَقِي الْجَافَّيْنِ أَوِ الطَّاهِرِ الْجَافِّ بِالنَّجِسِ
الْمَائِعِ أَوِ الْمُبْتَل وَعَكْسِهِ:
35 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ ابْتَل فِرَاشٌ أَوْ تُرَابٌ نَجِسَانِ
مِنْ عَرَقِ نَائِمٍ أَوْ بَلَل قَدَمٍ وَظَهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ
فِي الْبَدَنِ وَالْقَدَمِ تَنَجَّسَا وَإِلاَّ فَلاَ، كَمَا لاَ
يَنْجُسُ ثَوْبٌ جَافٌّ طَاهِرٌ لُفَّ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ رَطْبٍ لاَ
يَنْعَصِرُ الرَّطْبُ لَوْ عُصِرَ، وَلاَ يَنْجُسُ ثَوْبٌ رَطْبٌ
بِنَشْرِهِ عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ يَابِسَةٍ فَتَنَدَّتْ مِنْهُ وَلَمْ
يَظْهَرْ أَثَرُهَا فِيهِ، وَلاَ بِرِيحٍ هَبَّتْ عَلَى نَجَاسَةٍ
فَأَصَابَتِ الثَّوْبَ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِيهِ أَيِ
الثَّوْبِ، وَقِيل: يَنْجُسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولاً لاِتِّصَالِهَا
بِهِ.
وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ وَمَقْعَدَتُهُ مَبْلُولَةٌ فَالصَّحِيحُ
طَهَارَةُ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ فَلاَ تُنَجِّسُ الثِّيَابَ
الْمُبْتَلَّةَ (1) .
__________
(1) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 85، وَحَاشِيَة ابْن
عَابِدِينَ 1 / 231، 221 - 223، 5 / 468، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة
1 / 41، 45.
(40/94)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ زَال عَيْنُ
النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَل بِغَيْرِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ مِنْ
مُضَافٍ وَبَقِيَ بَلَلُهُ، فَلاَقَى جَافًّا، أَوْ جَفَّ وَلاَقَى
مَبْلُولاً لَمْ يَتَنَجَّسْ مُلاَقِي مَحَلِّهَا عَلَى الْمَذْهَبِ،
إِذْ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْحُكْمُ وَهُوَ لاَ يَنْتَقِل، وَمُقَابِل
الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُضَافَ قَدْ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ
الْمُلاَقَاةِ فَالْبَاقِي نَجِسٌ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا
لاَقَى الْمَحَل الْمَبْلُول جَافًّا، أَوْ لاَقَى الْمَحَل الْجَافَّ
شَيْءٌ مَبْلُولٌ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلاَقَاةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْعْيَانَ
الطَّاهِرَةَ إِذَا لاَقَاهَا شَيْءٌ نَجِسٌ وَأَحَدُهُمَا رَطْبٌ
وَالآْخَرُ يَابِسٌ فَيُنَجَّسُ الطَّاهِرُ بِمُلاَقَاتِهَا (2) .
ب - وُقُوعُ النَّجَاسَةِ فِي مَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ:
31 - إِذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي سَمْنٍ وَنَحْوِهِ مِنَ
الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَقَدْ ذَهَبَ
الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُنْتَفَعُ
بِالْبَاقِي، لِمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ فَأْرَةٍ
سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَال: " أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا
فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ (3)
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 80، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 13،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 165، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 50.
(2) الْمُهَذَّب 1 / 55، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 184، 188، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاج 1 / 83.
(3) حَدِيث مَيْمُونَة: " أَلْقَوْهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ،
وَكُلُوا سُمْنَكُمْ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 /
343 ط السَّلَفِيَّة) .
(40/94)
أَمَّا إِذَا كَانَ السَّمْنُ وَنَحْوُهُ
مَائِعًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَنْجُسُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ فَقَال: "
إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ
مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ
الْمَائِعَ كَالْمَاءِ لاَ يَنْجُسُ إِلاَّ بِمَا يَنْجُسُ بِهِ
الْمَاءُ.
32 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ فِي إِمْكَانِ تَطْهِيرِ
الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ
الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ. لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ.
وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ
الْمَائِعِ مِنَ النَّجَاسَةِ (2) .
__________
(1) حَدِيث: " إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلَّفُوهَا وَمَا حَوْلَهَا،
وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تُقَرِّبُوهُ ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد
(4 / 181 ط حِمْص) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَقَال التِّرْمِذِيّ فِي الْجَامِعِ (4 / 257 ط الْحَلَبِيّ)
: حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، ثُمَّ نَقَل عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ
خَطَّأَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 222، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 147،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 108، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 32،
وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9، 10، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 56، 57،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 58 - 59 وَالْمِنْهَاج وقليوبي عَلَيْهِ 1
/ 76، وَالْمُهَذَّب 1 / 57، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 1 / 36،
وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 188، وَالإِْنْصَاف 1 / 67.
(40/95)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَائِع ف 3
- 4، وَطَهَارَة ف 15) .
ج - الْمِيَاهُ الَّتِي تُلاَقِي النَّجَاسَةَ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَتْهُ
نَجَاسَةٌ وَغَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ كَانَ نَجِسًا، سَوَاءٌ
أَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ
الْمَاءَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ
فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً أَنَّهُ
نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ
تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ عَلَى أَقْوَالٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف 17 - 23) .
د - الْمَاءُ الْمُنْفَصِل عَنْ مَحَل التَّطْهِيرِ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَاءِ الَّذِي أُزِيل بِهِ حَدَثٌ
أَوْ خَبَثٌ مِنْ حَيْثُ بَقَاؤُهُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ أَوْ فَقْدُهُ
الطَّهُورِيَّةَ، وَمِنْ حَيْثُ نَجَاسَتُهُ أَوْ عَدَمُ نَجَاسَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه ف 9 - 12) .
هـ - تَنَجُّسُ الآْبَارِ:
35 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْبِئْرَ الصَّغِيرَةَ - وَهِيَ مَا
دُونَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ - يَنْجُسُ مَاؤُهَا بِوُقُوعِ
نَجَاسَةٍ فِيهَا، وَإِنْ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ مِنْ غَيْرِ
(40/95)
الأَْرْوَاثِ كَقَطْرَةِ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ،
وَلِكَيْ تَطْهُرَ يُنْزَحُ مَاؤُهَا كَمَا تُنْزَحُ بِوُقُوعِ
خِنْزِيرٍ فِيهَا وَلَوْ خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ يُصِبْ فَمُهُ الْمَاءَ
لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
وَتُنْزَحُ بِمَوْتِ كَلْبٍ فِيهَا، فَإِذَا لَمْ يَمُتْ وَخَرَجَ
حَيًّا وَلَمْ يَصِل فَمُهُ الْمَاءَ لاَ يَنْجُسُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ
نَجِسِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.
كَمَا تُنْزَحُ أَيْضًا بِمَوْتِ شَاةٍ أَوْ مَوْتِ آدَمِيٍّ فِيهَا،
لِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ بِمَوْتِ زِنْجِيٍّ وَأَمْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَتُنْزَحُ بِانْتِفَاخِ حَيَوَانٍ وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا لاِنْتِشَارِ
النَّجَاسَةِ، فَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا نُزِحَ مِنْهَا وُجُوبًا
مِائَتَا دَلْوٍ وَسَطٍ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمَل كَثِيرًا فِي تِلْكَ
الْبِئْرِ، وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَاجِبَ
بِمِائَتَيْ دَلْوٍ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، وَأَفْتَى بِهِ
لَمَّا شَاهَدَ آبَارَ بَغْدَادَ كَثِيرَةَ الْمِيَاهِ لِمُجَاوَرَةِ
دِجْلَةَ.
وَإِنْ مَاتَ فِي الْبِئْرِ دَجَاجَةٌ أَوْ هِرَّةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا
فِي الْجُثَّةِ وَلَمْ يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ أَرْبَعِينَ دَلْوًا
بَعْدَ إِخْرَاجِ الْوَاقِعِ مِنْهَا، رُوِيَ التَّقْدِيرُ
بِالأَْرْبَعِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فِي الدَّجَاجَةِ، وَمَا قَارَبَهَا يُعْطَى حُكْمَهَا،
وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ لِمَا
رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ.
وَإِنْ مَاتَ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ نَحْوُهَا كَعُصْفُورٍ وَلَمْ
يَنْتَفِخْ لَزِمَ نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ،
لِقَوْل
(40/96)
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَأْرَةٍ
مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ مِنْ سَاعَتِهَا: يُنْزَحُ
عِشْرُونَ دَلْوًا، وَتُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ إِلَى ثَلاَثِينَ
لاِحْتِمَال زِيَادَةِ الدَّلْوِ الْمَذْكُورِ فِي الأَْثَرِ عَلَى مَا
قُدِّرَ بِهِ مِنَ الْوَسَطِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْزُوحُ طَهَارَةً
لِلْبِئْرِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَا وَالْبَكَرَةِ وَيَدِ
الْمُسْتَسْقَى، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ،
لأَِنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ كَانَتْ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ،
فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ، كَطَهَارَةِ
دَنِّ الْخَمْرِ بِتَخَلُّلِهَا، وَطَهَارَةِ عُرْوَةِ الأَْبْرِيقِ
بِطَهَارَةِ الْيَدِ إِذَا أَخَذَهَا كُلَّمَا غَسَل يَدَهُ.
وَلاَ تُنَجَّسُ الْبِئْرُ بِالْبَعْرِ وَهُوَ لِلإِْبِل وَالْغَنَمِ،
وَالرَّوْثِ - لِلْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيِ
لِلْبَقَرِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ آبَارِ الأَْمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ
فِي الصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ،
وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِشُمُول
الضَّرُورَةِ، فَلاَ تُنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، وَهُوَ
مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ أَوْ أَنْ لاَ يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ
بَعْرَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَالْقَلِيل
مَا يَسْتَقِلُّهُ وَعَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ.
وَلاَ يُنَجَّسُ الْمَاءُ بِخُرْءِ حَمَامٍ وَعُصْفُورٍ، وَلاَ
بِمَوْتِ مَا لاَ دَمَ لَهُ فِيهِ كَسَمَكٍ وَضُفْدَعٍ، وَلاَ
بِوُقُوعِ آدَمِيٍّ وَمَا يُؤْكَل لَحْمُهُ إِذَا خَرَجَ حَيًّا وَلَمْ
يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةً، وَلاَ بِوُقُوعِ
بَغْلٍ
(40/96)
وَحِمَارٍ وَسِبَاعِ طَيْرٍ وَوَحْشٍ فِي
الصَّحِيحِ، وَإِنْ وَصَل لُعَابُ الْوَاقِعِ إِلَى الْمَاءِ أَخَذَ
حُكْمَهُ، وَوُجُودُ حَيَوَانٍ مَيِّتٍ فِيهَا يُنَجِّسُهَا مِنْ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمُنْتَفِخٍ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا
إِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَقْتُ وُقُوعِهِ (1) .
36 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ
سَائِلَةٍ فِي بِئْرٍ فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا
أَوْ رِيحًا وَجَبَ نَزْحُهُ حَتَّى يَزُول التَّغَيُّرُ وَيَعُودَ
كَهَيْئَتِهِ أَوَّلاً طَاهِرًا مُطَهِّرًا، فَإِنْ زَال بِنَفْسِهِ
فَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ إِلَى أَصْلِهِ، فَيَصِيرُ طَهُورًا خِلاَفًا
لاِبْنِ الْقَاسِمِ، وَقَال الْبُنَانِيُّ: الأَْرْجَحُ أَنَّهُ
يَطْهُرُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَاعْتَمَدَ
عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَالأَْجْهُورِيُّ، وَقَال عَبْدُ الْبَاقِي: لاَ
يَطْهُرُ، وَرَجَّحَ ابْنُ رُشْدٍ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ. وَإِنْ لَمْ
يَتَغَيَّرْ نُدِبَ النَّزْحُ بِقَدْرِ الْمَاءِ قِلَّةً وَكَثْرَةً،
وَالْحَيَوَانِ صِغَرًا وَكِبَرًا، وَأَمَّا إِنْ وَقَعَ حَيًّا أَوْ
طُرِقَ مَيِّتًا وَأُخْرِجَ فَلاَ نَزْحَ وَلاَ كَرَاهَةَ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: إِنْ مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ
بِمَاءٍ لاَ مَادَّةَ لَهُ كَالْجُبِّ لاَ يُشْرَبُ مِنْهَا وَلاَ
يُتَوَضَّأُ، وَيُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ، بِخِلاَفِ مَا لَهُ
مَادَّةٌ.
__________
(1) حَاشِيَة الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 21، 22،
وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 16 - 17 ط مُصْطَفَى
الْحَلَبِيِّ 1936، وَفَتْح الْقَدِير 1 / 68 - 74، وَحَاشِيَة ابْن
عَابِدِينَ 1 / 141 - 148.
(40/97)
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ قَال مَالِكٌ فِي
ثِيَابٍ أَصَابَهَا مَاءُ بِئْرٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَمَاتَتْ
وَتَسَلَّخَتْ: يُغْسَل الثَّوْبُ وَتُعَادُ الصَّلاَةُ فِي الْوَقْتِ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ: وَإِذَا مَاتَ
الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل أَوِ الْكَثِيرِ لَهُ
مَادَّةٌ أَوْ لاَ كَالصَّهَارِيجِ - وَكَانَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ
أَيْ دَمٌ يَجْرِي مِنْهُ إِذَا جُرِحَ - فَإِنَّهُ يُنْدَبُ النَّزْحُ
مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَيَوَانِ مَنْ كِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ، وَبِقَدْرِ
الْمَاءِ مِنْ قِلَّةٍ وَكَثْرَةٍ، إِلَى ظَنِّ زَوَال الْفَضَلاَتِ
الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ فِيهِ حَال خُرُوجِ رُوحِهِ فِي الْمَاءِ.
وَيُنْقِصُ النَّازِحُ الدَّلْوَ لِئَلاَّ تَطْفُوَ الدُّهْنِيَّةُ
فَتَعُودَ لِلْمَاءِ ثَانِيًا، وَالْمَدَارُ عَلَى ظَنِّ زَوَال
الْفَضَلاَتِ.
فَلَوْ أُخْرِجَ الْحَيَوَانُ مِنَ الْمَاءِ قَبْل مَوْتِهِ، أَوْ
وَقَعَ فِيهِ مَيِّتًا، أَوْ كَانَ جَارِيًا أَوْ مُسْتَبْحِرًا
كَغَدِيرٍ عَظِيمٍ جِدًّا، أَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ بَحْرِيًّا
كَحُوتٍ، أَوْ بَرِّيًّا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَعَقْرَبٍ
وَذُبَابٍ، لَمْ يُنْدَبِ النَّزْحُ، فَلاَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ
كَمَا لاَ يُكْرَهُ بَعْدَ النَّزْحِ. هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرِ
الْمَاءُ بِالْحَيَوَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنًا أَوْ
طَعْمًا أَوْ رِيحًا تَنَجَّسَ لأَِنَّ مَيْتَتَهُ نَجِسَةٌ (1) .
__________
(1) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 43 - 45،
وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 41 وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 18،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 46، وَالْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ ص 40،
وَحَاشِيَة الرهوني 1 / 58، 59.
(40/97)
37 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَاءَ
الْبِئْرِ كَغَيْرِهِ فِي قَبُول النَّجَاسَةِ وَزَوَالِهَا، فَإِنْ
كَانَ قَلِيلاً وَتَنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ
يُنْزَحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ وَإِنْ
نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا، وَقَدْ تَنْجُسُ جُدْرَانُ
الْبِئْرِ أَيْضًا بِالنَّزْحِ، بَل يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ
لِيَزْدَادَ فَيَبْلُغَ حَدَّ الْكَثْرَةِ.
وَإِنْ كَانَ نَبْعُهَا قَلِيلاً لاَ تُتَوَقَّعُ كَثْرَتُهُ صُبَّ
فِيهَا مَاءٌ لِيَبْلُغَ الْكَثْرَةَ وَيَزُول التَّغَيُّرُ إِنْ كَانَ
تَغَيَّرَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا طَاهِرًا وَتَفَتَّتَ فِيهِ شَيْءٌ
نَجِسٌ كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا فَقَدْ يَبْقَى عَلَى
طَهُورِيَّتِهِ لِكَثْرَتِهِ وَعَدَمِ التَّغَيُّرِ، لَكِنْ
يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَنْزَحُ دَلْوًا إِلاَّ
وَفِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَقَى
الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَخْرُجَ الشَّعْرُ مِنْهُ.
فَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فَوَّارَةً وَتَعَذَّرَ نَزْحُ الْجَمِيعِ
نَزَحَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الشَّعْرَ خَرَجَ كُلُّهُ
مَعَهُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ وَمَا يَحْدُثُ
طَهُورٌ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَيْقِنِ النَّجَاسَةِ وَلاَ
مَظْنُونِهَا، وَلاَ يَضُرُّ احْتِمَال بَقَاءِ الشَّعْرِ.
فَإِنْ تَحَقَّقَ شَعْرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَكَمَ بِهِ، فَأَمَّا قَبْل
النَّزْحِ إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
أَنَّهُ لاَ يَخْلُو كُل دَلْوٍ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ لَكِنْ
لَمْ يَتَيَقَّنْهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ قَوْلاَنِ (1) .
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 25 ط الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 1 / 63 - 67.
(40/98)
38 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدْ قَال
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: سُئِل أَحْمَدُ عَنْ بِئْرٍ بَال فِيهَا
إِنْسَانٌ؟ قَال: تُنْزَحُ حَتَّى تَغْلِبَهُمْ، قُلْتُ: مَا حَدُّهُ؟
قَال: لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى نَزْحِهَا، وَقِيل لأَِبِي عَبْدِ
اللَّهِ: الْغَدِيرُ يُبَال فِيهِ، قَال: الْغَدِيرُ أَسْهَل وَلَمْ
يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَقَال فِي الْبِئْرِ يَكُونُ لَهَا مَادَّةٌ: هُوَ
وَاقِفٌ لاَ يَجْرِي لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجْرِي، يَعْنِي أَنَّهُ
يَتَنَجَّسُ بِالْبَوْل فِيهِ إِذَا أَمْكَنَ نَزْحُهُ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبَوْل الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، قَال مُهَنَّا:
سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ بِئْرٍ غَزِيرَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ خِرْقَةٌ
أَصَابَهَا بَوْلٌ. قَال: تُنْزَحُ، وَقَال فِي قَطْرَةِ بَوْلٍ
وَقَعَتْ فِي مَاءٍ: لاَ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ سَائِرَ
النَّجَاسَاتِ لاَ فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَإِذَا
كَانَتْ بِئْرُ الْمَاءِ مُلاَصِقَةً لِبِئْرٍ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ
غَيْرُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ وَشَكَّ فِي وُصُولِهَا إِلَى الْمَاءِ
فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ، قَال أَحْمَدُ: يَكُونُ
بَيْنَ الْبِئْرِ وَالْبَالُوعَةِ مَا لَمْ يُغَيِّرْ طَعْمًا وَلاَ
رِيحًا، وَقَال الْحَسَنُ: مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ
فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل
الطَّهَارَةُ فَلاَ تَزُول بِالشَّكِّ، وَإِنْ أَحَبَّ عِلْمَ
حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَلْيَطْرَحْ فِي الْبِئْرِ النَّجِسَةِ نِفْطًا،
فَإِنْ وَجَدَ رَائِحَتَهُ فِي الْمَاءِ عَلِمَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ
وَإِلاَّ فَلاَ.
وَإِذَا نَزَحَ مَاءَ الْبِئْرِ النَّجِسَ فَنَبَعَ فِيهِ بَعْدَ
ذَلِكَ مَاءٌ أَوْ صُبَّ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ، لأَِنَّ أَرْضَ
الْبِئْرِ مِنْ
(40/98)
جُمْلَةِ الأَْرْضِ الَّتِي تَطْهُرُ
بِالْمُكَاثَرَةِ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَجُسَتْ
جَوَانِبُ الْبِئْرِ فَهَل يَجِبُ غَسْلُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ
إِحْدَاهُمَا: يَجِبُ لأَِنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَأَشْبَهَ رَأْسَ
الْبِئْرِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجِبُ لِلْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِذَلِكَ
فَعُفِيَ عَنْهُ كَمَحَل الاِسْتِنْجَاءِ وَأَسْفَل الْحِذَاءِ (1) .
صَلاَةُ حَامِل النَّجَاسَةِ وَمَنْ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ أَثْنَاءَ
الصَّلاَةِ:
39 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَلَّى حَامِلاً بَيْضَةً مَذِرَةً
صَارَ مُحُّهَا دَمًا جَازَ لأَِنَّهُ فِي مَعْدِنِهِ، وَالشَّيْءُ مَا
دَامَ فِي مَعْدِنِهِ لاَ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، بِخِلاَفِ
مَا لَوْ حَمَل قَارُورَةً مَضْمُومَةً فِيهَا بَوْلٌ فَلاَ تَجُوزُ
صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ فِي غَيْرِ مَعْدِنِهِ.
وَلَوْ أَصَابَ رَأْسُهُ خَيْمَةً نَجِسَةً تَبْطُل صَلاَتُهُ
لأَِنَّهُ يُعَدُّ حَامِلاً لِلنَّجَاسَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمُصَلِّي
فِي صَلاَةٍ وَلَوْ نَفْلاً مُبْطِلٌ لَهَا وَيَقْطَعُهَا - وَلَوْ
مَأْمُومًا - إِنِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ
مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَّسِعَ
الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا بِأَنْ
يَبْقَى
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 37، 38 دَار
الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 211، 269، 270، وَمَرَاقِي الْفَلاَح
ص 112، 113.
(40/99)
مِنْهُ مَا يَسَعُ وَلَوْ رَكْعَةً، وَأَنْ
يَجِدَ لَوْ قَطَعَ مَا يُزِيلُهَا بِهِ أَوْ ثَوْبًا آخَرَ
يَلْبَسُهُ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مَا فِيهِ النَّجَاسَةُ مَحْمُولاً
لِغَيْرِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يَقْطَعُ لِعَدَمِ بُطْلاَنِهَا، وَذَلِكَ
كَمَا لَوْ تَعَلَّقَ صَبِيٌّ نَجِسُ الثِّيَابِ أَوِ الْبَدَنِ
بِمُصَلٍّ - وَالصَّبِيُّ مُسْتَقِرٌّ بِالأَْرْضِ - فَالصَّلاَةُ
صَحِيحَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ حَمَل حَيَوَانًا طَاهِرًا فِي صَلاَتِهِ
صَحَّتْ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ
بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا
سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (2) ، وَلأَِنَّ مَا فِي
الْحَيَوَانِ مِنَ النَّجَاسَةِ فِي مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ
كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي فِي جَوْفِ الْمُصَلِّي، وَإِنْ حَمَل
قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ وَقَدْ سَدَّ رَأْسَهَا فَفِيهَا
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ لاَ تَخْرُجُ
مِنْهَا كَمَا لَوْ حَمَل حَيَوَانًا طَاهِرًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ حَمَل نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي
غَيْرِ مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا إِذَا حَمَل النَّجَاسَةَ فِي
كُمِّهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ حَمَل قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 65 - 70 وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 11،
وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 1 / 37 - 41.
(2) حَدِيث: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أمامة بِنْت زَيْنَب بِنْت رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . " أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 590 ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ
أَبِي قَتَادَة الأَْنْصَارِيّ.
(3) الْمُهَذَّب 1 / 68، وَالْمَجْمُوع 3 / 150.
(40/99)
مَسْدُودَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ
لأَِنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا فِي غَيْرِ
مَعْدِنِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَمَلَهَا فِي كُمِّهِ.
وَقَالُوا إِذَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ
أَوْ أَزَالَهَا فِي الْحَال لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلِمَ
بِالنَّجَاسَةِ فِي نَعْلَيْهِ خَلَعَهُمَا وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ (1) ،
وَلأَِنَّ النَّجَاسَةَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا فَعُفِيَ عَنْ يَسِيرِ
زَمَنِهَا كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ (2) .
تَوَقِّي النَّجَاسَاتِ:
40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كِتَابَةُ
الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ، كَمَا لاَ يَجُوزُ إِلْقَاؤُهُ فِي
نَجَاسَةٍ أَوْ تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.
وَلاَ يَجُوزُ كَذَلِكَ إِلْقَاءُ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ
أَوِ الْحَدِيثِ أَوِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَجَاسَةٍ أَوْ
تَلْطِيخُهُ بِنَجِسٍ.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنِ
النَّجَاسَاتِ، فَلاَ يَجُوزُ إِدْخَال النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ
أَوْ دُخُول مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ،
__________
(1) حَدِيث خَلْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَعْلَيْهِ لِمَا عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ فِيهِمَا. أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد (1 / 426 ط حِمْص) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (1 / 260 ط
دَائِرَة الْمَعَارِفِ) ، وَقَال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْط مُسْلِم.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 289 - 292، وَالإِْنْصَاف 1 / 487 - 488،
وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 1 / 715 - 716 دَار الْكِتَابِ
الْعَرَبِيِّ.
(40/100)
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِخَشْيَةِ
تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بِنَاؤُهُ بِنَجِسٍ أَوْ
مُتَنَجِّسٍ (1) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ تَوَقِّي النَّجَاسَةِ فِي
الأَْبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ عِنْدَ الصَّلاَةِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوَقِّي الْمَلاَعِنِ الثَّلاَثِ،
وَهِيَ الْبَوْل وَالْبَرَازُ فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ مَوْرِدِ
مَاءٍ أَوْ ظِلٍّ يُنْتَفَعُ بِهِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مَرْفُوعًا: اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَةَ: الْبَرَازَ
فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّل (3) ، وَكَذَلِكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ (4)
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 116، 3 / 223، 284، وَحَاشِيَة
الطحطاوي عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَح 46، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 /
125، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 21، 2 / 3، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 /
27، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 344، وقليوبي 4 / 176، وَالزَّوَاجِر
1 / 26، وَالْمُغْنِي 1 / 148، وَرَوض الطَّالِب 2 / 62، وَالْفُرُوعُ
1 / 188، 193.
(2) مَرَاقِي الْفَلاَح 59 - 60، وَالاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 /
43 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1936، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 38،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 200، وَالْمُهَذَّب 1 / 66 - 68،
وَالإِْقْنَاع لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 169، 170، وَشَرْح
الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ 1 / 180، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة
مَعَ الشَّرْحِ 1 / 713 - 714 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(3) حَدِيث: " اتَّقَوُا الْمَلاَعِن الثَّلاَثَة: الْبِرَازُ فِي
الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَة الطَّرِيقِ، وَالظِّل ". أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد (1 / 29 ط حِمْص) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (1 / 167 ط
دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) ، وَقَال الْحَاكِم: صَحِيح،
وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 239، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 14،
وَشَرْح الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ 1 / 40، 41، وَالإِْقْنَاع
لِلشِّرْبِينِيِّ الْخَطِيب 1 / 72، وَالْمُهَذَّب 1 / 33،
وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 156، 157 ط دَار
الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 65، وَحَاشِيَة
الدُّسُوقِيّ 1 / 106، 107، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ
السَّالِكِ 1 / 69.
(40/100)
تَطْهِيرُ النَّجَاسَاتِ:
41 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَطْهِيرَ
النَّجَاسَاتِ وَاجِبٌ مِنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ
وَالْمَكَانِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (1) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ
يُصِيبُ الثَّوْبَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ
وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فِيهِ (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَهَارَة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَطْهِيرُ الدُّبَّاءِ إِذَا اسْتُعْمِل فِيهِ الْخَمْرُ:
42 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا انْتُبِذَ فِي الدُّبَّاءِ
وَنَحْوِهَا مِنَ الآْنِيَةِ قَبْل اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ
فَلاَ إِشْكَال فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ. وَإِنِ اسْتُعْمِل فِيهَا
الْخَمْرُ ثُمَّ انْتُبِذَ فِيهَا يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ
عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلاَثًا، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لاَ
يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلاَفِ
الْعَتِيقِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَل ثَلاَثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُل مَرَّةٍ،
وَهِيَ مِنْ مَسَائِل غَسْل مَا لاَ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ.
__________
(1) سُورَة الْمُدَّثِّر / 4
(2) حَدِيث: " تَحْتَهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف
23.
(40/101)
وَقِيل عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُمْلأَُ
مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إِذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا
غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ
بِطَهَارَتِهِ (1)
بَيْعُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ:
43 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ النَّجِسِ غَيْرُ
جَائِزٍ، وَفِي هَذَا قَالُوا: إِنَّ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ
غَيْرُ جَائِزٍ لأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ
إِهَانَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الاِنْتِفَاعَ بِهِ
لِلْخَرَزِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَل لاَ يَتَأَتَّى
بِدُونِهِ (2)
كَمَا لَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْل أَنْ تُدْبَغَ
لأَِنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ
(3) وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِهَا
وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لأَِنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ
بِالدِّبَاغِ، أَمَّا قَبْل الدِّبَاغِ فَهِيَ نَجِسَةٌ (4)
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسَّبُعِ، الْمُعَلَّمُ
وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لأَِنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ
حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالاً فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلاَفِ
الْهَوَامِّ
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 48.
(2) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 202 الْمَطْبَعَة
الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ.
(3) حَدِيث: " لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمِيتَةِ بِإِهَاب. . . "
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (4 / 0 37 - 371 ط حِمْص) وَالتِّرْمِذِيّ (4
/ 222 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عكيم رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيَ، وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(4) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 203 الْمَطْبَعَة
الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ.
(40/101)
الْمُؤْذِيَةِ لأَِنَّهُ لاَ يُنْتَفَعُ
بِهَا (1) ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ
الْكَلْبِ الْعَقُورِ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ
الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ (2)
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ
بَيْعَهَا (3) .
وَأَهْل الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ
لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَلأَِنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبَيْعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ
مُحْتَاجُونَ إِلَى مُبَاشَرَتِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ
كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ وَعَقْدَهُمْ عَلَى
الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ، لأَِنَّهَا
أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ
وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَل عَلَيْهِ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا
(4)
__________
(1) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 357 الْمَطْبَعَة
الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ.
(2) حَدِيث: " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْب صَيْد ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِي 4 / 426 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 1198 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُود الأَْنْصَارِيّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِدُونِ الاِسْتِثْنَاءِ فِيهِ. وَأَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيّ (3 / 569 ط الْحَلَبِيّ) مَعَ الاِسْتِثْنَاءِ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَال التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث لاَ
يَصْحُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ جَابِر
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) حَدِيث: " إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا "
أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1206 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ
عَبْد اللَّه بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ ا.
(4) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 360 الْمَطْبَعَة
الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ، وَكِتَاب الْخَرَاج لأَِبِي يُوسُف
ص 210 ط السَّلَفِيَّة.
(40/102)
وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ
بَيْعُ الْحَيَّاتِ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الأَْدْوِيَةِ
وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلاَ يَجُوزُ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لأَِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ
لِلاِسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ،
وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا خُلِطَتْ
بِالتُّرَابِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ تَبَعًا لِلتُّرَابِ
الْمَخْلُوطِ، بِخِلاَفِ الدَّمِ يُمْنَعُ مُطْلَقًا (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ لَدَيْهِمْ إِلَى أَنَّ
الْمُتَنَجِّسَ الَّذِي يَقْبَل التَّطْهِيرَ كَالثَّوْبِ
الْمُتَنَجِّسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لاَ يَقْبَلُهُ كَالزَّيْتِ
الْمُتَنَجِّسِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ (2)
وَفِي أَسْهَل الْمَدَارِكِ عَنِ الْخَرَشِيِّ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ
وَالْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ نَجِسٌ، وَلَوْ دُبِغَ عَلَى
الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْل مَالِكٍ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَلاَ يُؤَثِّرُ دَبْغُهُ
طَهَارَةً فِي ظَاهِرِهِ وَلاَ بَاطِنِهِ (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ طَهَارَةُ عَيْنِهِ،
فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ نَجِسِ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ
بِالاِسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لاَ كَالسِّرْجِينِ
وَالْكَلْبِ وَلَوْ مُعَلَّمًا وَالْخَمْرِ وَلَوْ مُحْتَرَمَةً،
لِخَبَرِ
__________
(1) فَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 357، 359.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 60 وَمَا
بَعْدَهَا.
(3) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 55.
(40/102)
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ (1) وَقَال كَذَلِكَ: إِنَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ
وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (2) وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ
كَالْخَل وَاللَّبَنِ وَالصَّبْغِ وَالآْجُرِّ الْمَعْجُونِ بِالزِّبْل
لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ، أَمَّا مَا يُمْكِنُ
تَطْهِيرُهُ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ
لإِِمْكَانِ طُهْرِهِ (3)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: وَفْقُ ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ
بَيْعِ النَّجِسِ، وَقَال أَبُو مُوسَى فِي الزَّيْتِ الَّذِي وَقَعَتْ
فِيهِ نَجَاسَةٌ: لُتُّوهُ بِالسَّوِيقِ وَبِيعُوهُ وَلاَ تَبِيعُوهُ
مِنْ مُسْلِمٍ وَبَيِّنُوهُ.
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً؛ أَنَّهُ يُبَاعُ
لِكَافِرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ، لأَِنَّ الْكُفَّارَ
يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَيَسْتَبِيحُونَ أَكْلَهُ.
وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ بِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ
الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ
__________
(1) حَدِيث: " نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِي 4 / 426 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1198 / 3 ط
عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(2) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُوله حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ
وَالْمِيتَةَ وَالْخِنْزِيرِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 4 / 424 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1207 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمِ ا.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 11. هـ
(40/103)
الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا
أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْل
شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ (1) وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ
حِلَّهُ وَلاَ يَجُوزُ لَنَا بَيْعُهُ لَهُمْ كَالْخَمْرِ
وَالْخِنْزِيرِ (2)
الاِنْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ دُونَ تَطْهِيرٍ:
44 - ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَحِل
الاِنْتِفَاعُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ يَقُول وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ
وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ. فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ
شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ
بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَال: لاَ. هُوَ
حَرَامٌ (3)
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِشَعْرِ
الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ
نَجِسُ
__________
(1) حَدِيث: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
عَلَيْهِمُ الشُّحُوم. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 758 ط حِمْص)
مِنْ حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 4 / 414 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1207 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) بِدُونِ ذِكْر " إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا "
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 11 / 87 - 88 ط دَار
الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ، وَكَشَّاف الْقِنَاع 3 / 156.
(3) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُوله حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ
وَالْمِيتَةَ وَالْخِنْزِيرِ " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 43.
(40/103)
الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عَمَلَهُمْ
لاَ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ وَلأَِنَّ غَيْرَهُ لاَ يَعْمَل عَمَلَهُ (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ
مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ كَزَيْتٍ وَلَبَنٍ وَخَلٍّ
وَنَبِيذٍ، أَمَّا النَّجِسُ وَهُوَ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً
كَالْبَوْل وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، إِلاَّ
جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ
الدَّبْغِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ، أَوْ مَيْتَةً تُطْرَحُ
لِكِلاَبٍ إِذْ طَرْحُ الْمَيْتَةِ لِلْكِلاَبِ فِيهِ انْتِفَاعٌ
لِتَوْفِيرِ مَا كَانَتْ تَأْكُلُهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِهَا، أَوْ
شَحْمَ مَيْتَةٍ لِدُهْنِ عِجْلَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَظْمَ مَيْتَةٍ
لِوَقُودٍ عَلَى طُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ لِتَصِيرَ جِيرًا، أَوْ دَعَتْ
ضَرُورَةٌ كَإِسَاغَةِ غُصَّةٍ بِخَمْرٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ،
وَكَأَكْل مَيْتَةٍ لِمُضْطَرٍّ، أَوْ جَعْل عَذِرَةٍ بِمَاءٍ لِسَقْيِ
الزَّرْعِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لاَ فِيهِ، فَلاَ يُوقَدُ
بِزَيْتٍ تَنَجَّسَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَهُ
وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ، وَلاَ يُبْنَى بِالْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ
بُنِيَ بِهِ لاَ يُهْدَمُ لإِِضَاعَةِ الْمَال، وَفِي غَيْرِ أَكْل
وَشُرْبِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الآْدَمِيِّ أَكْل
وَشُرْبُ الْمُتَنَجِّسِ لِتَنْجِيسِهِ جَوْفَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ
تَطْهِيرِهِ، وَلاَ يُدْهَنُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الاِدِّهَانَ بِهِ
مَكْرُوهٌ عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُزِيل
بِهِ النَّجَاسَةَ،
__________
(1) ابْن عَابِدِينَ 1 / 231 الطَّبْعَة الثَّالِثَة 1323 هـ
الْمَطْبَعَة الأَْمِيرِيَّة الْكُبْرَى، وَفَتْح الْقَدِير
وَالْعِنَايَة بِهَامِشِهِ 5 / 202، 357 - 359 الْمَطْبَعَة الْكُبْرَى
الأَْمِيرِيَّة 1316 هـ
(40/104)
وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَأَكْل
الآْدَمِيِّ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ وَيُعْمَل
بِهِ صَابُونٌ، ثُمَّ تُغْسَل الثِّيَابُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ
بَعْدَ الْغَسْل بِهِ، وَيُدْهَنَ بِهِ حَبْلٌ وَعَجَلَةٌ وَسَاقِيَةٌ
وَيُسْقَى بِهِ وَيُطْعَمَ لِلدَّوَابِّ (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَال النَّجِسِ
وَالْمُتَنَجِّسِ فِي الأَْشْيَاءِ الْيَابِسَةِ كَاسْتِعْمَال
الإِْنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ
قَبْل الدِّبَاغِ، وَإِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ (2)
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الاِسْتِصْبَاحِ
بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِبَاحَتُهُ، لأَِنَّ
ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ،
وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لاَ يَجُوزُ
الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْمُنْذِرِ، لِحَدِيثِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ
شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا
الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ
(3)
وَفِي إِبَاحَةِ الاِسْتِصْبَاحِ بِهِ قَالُوا: إِنَّهُ زَيْتٌ
أُمْكِنَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَجَازَ كَالطَّاهِرِ،
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 60 - 61، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 /
10، وَأَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 54 - 55.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 44.
(3) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سُئِل عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 43.
(40/104)
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ
مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ
أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ (1) ، وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ
بِمَيْتَةٍ وَلاَ هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ،
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَصْبَحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ
يَمَسُّهُ وَلاَ تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ.
وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ
وَقَال: يُجْعَل مِنْهُ الأَْسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ.
وَنُقِل عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ
الْجُلُودُ، وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا وَقَال: إِنَّ فِي هَذَا
لَعَجَبًا! ! شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ؟ ! !
فَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى قَوْل أَحْمَدَ: كُل انْتِفَاعٍ يُفْضِي
إِلَى تَنْجِيسِ إِنْسَانٍ لاَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى
ذَلِكَ جَازَ، فَأَمَّا أَكْلُهُ فَلاَ إِشْكَال فِي تَحْرِيمِهِ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَإِنْ
كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ (2) وَلأَِنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ.
فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَلاَ يَجُوزُ
الاِنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِاسْتِصْبَاحٍ وَلاَ غَيْرِهِ، وَلاَ
أَنْ
__________
(1) الْحَدِيث الَّذِي جَاءَ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ أَكْل الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ
ثَمُود. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 6 / 378 ط
السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (4 / 2286 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ
حَدِيثِ ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
(2) حَدِيث: " وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تقربُوهُ ". سَبَقَ
تَخْرِيجه (ف 31) .
(40/105)
تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَلاَ الْجُلُودُ،
لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ
وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ، فَقِيل: يَا رَسُول
اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا
السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟
قَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ (1) .
وَإِذَا اسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَدُخَانُهُ نَجِسٌ
لأَِنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيل مِنْهُ وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ تَطْهُرُ،
فَإِنْ عَلِقَ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ
كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ (2) .
اسْتِعْمَال مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَال مَا غَالِبُ حَالِهِ
النَّجَاسَةُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الأَْكْل وَالشُّرْبُ
فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ قَبْل الْغَسْل، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَكَل
أَوْ شَرِبَ فِيهَا قَبْل الْغَسْل جَازَ، وَلاَ يَكُونُ آكِلاً
وَشَارِبًا حَرَامًا. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِنَجَاسَةِ
الأَْوَانِي، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ
يَشْرَبَ
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُوله حَرَّمَ بَيْع الْمَيِّتَة. . "
سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 43.
(2) الْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 11 / 86 - 88 ط دَار
الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(40/105)
وَيَأْكُل مِنْهَا قَبْل الْغَسْل، وَلَوْ
شَرِبَ أَوْ أَكَل كَانَ شَارِبًا وَآكِلاً حَرَامًا، وَهُوَ نَظِيرُ
سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِنْقَارِهَا
نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.
وَالصَّلاَةُ فِي سَرَاوِيل الْمُشْرِكِينَ نَظِيرُ الأَْكْل
وَالشُّرْبِ مِنْ أَوَانِيهِمْ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ سَرَاوِيلَهُمْ
نَجِسَةٌ لاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ
تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا، وَلَوْ صَلَّى يَجُوزُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى فَرْضٌ
أَوْ نَفْلٌ بِلِبَاسِ كَافِرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كِتَابِيٍّ أَوْ
غَيْرِهِ، بَاشَرَ جِلْدَهُ أَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ، كَانَ مِمَّا
الشَّأْنُ أَنْ تَلْحَقَهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْل وَمَا حَاذَى
الْفَرْجَ، أَوْ لاَ كَعِمَامَتِهِ وَالشَّال، جَدِيدًا أَوْ لاَ،
إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ أَوْ تُظَنَّ طَهَارَتُهُ، بِخِلاَفِ نَسْجِهِ
أَيْ مَنْسُوجِ الْكَافِرِ، فَيُصَلَّى فِيهِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ
نَجَاسَتُهُ أَوْ تُظَنَّ لِحَمْلِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَكَذَا
سَائِرُ صَنَائِعِهِ يُحْمَل فِيهَا عَلَى الطَّهَارَةِ عِنْدَ
الشَّكِّ - وَلَوْ صَنَعَهَا فِي بَيْتِ نَفْسِهِ - خِلاَفًا لاِبْنِ
عَرَفَةَ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ، أَيْ
غَيْرُ مُرِيدِ الصَّلاَةِ بِهِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهُ
بِمَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ يَظُنَّ
أَنَّ مَنْ يَنَامُ فِيهِ مُحْتَاطٌ فِي طَهَارَتِهِ، وَإِلاَّ صَلَّى
فِيهِ، وَكَذَا يُصَلَّى فِيهِ إِذَا أَخْبَرَ صَاحِبُهُ بِطَهَارَتِهِ
إِذَا كَانَ ثِقَةً.
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 347.
(40/106)
وَأَمَّا مَا يُفْرَشُ فِي الْمَضَايِفِ
وَالْقِيعَانِ وَالْمَقَاعِدِ فَتَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهِ، لأَِنَّ
الْغَالِبَ أَنَّ النَّائِمَ عَلَيْهِ يَلْتَفُّ فِي شَيْءٍ آخَرَ
غَيْرِ ذَلِكَ الْفَرْشِ، فَإِذَا حَصَل مِنْهُ شَيْءٌ مَثَلاً
فَإِنَّمَا يُصِيبُ مَا هُوَ مُلْتَفٌّ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الأَْصْل
وَالْغَالِبُ عَلَى طَهَارَتِهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتِ النَّجَاسَةُ
فِي شَيْءٍ وَالأَْصْل فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي
الْخَمْرِ، وَالنَّجَاسَةُ كَالْمَجُوسِ وَالْمَجَانِينِ
وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ. . حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ
عَمَلاً بِالأَْصْل، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى كَعَرَقِ
الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا. . وَنَحْوِ ذَلِكَ (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ الْكُفَّارِ
وَأَوَانِيَهُمْ طَاهِرَةٌ إِنْ جَهِل حَالَهَا كَمَا لَوْ عُلِمَتْ
طَهَارَتُهَا، وَكَذَا آنِيَةُ مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَثِيَابُهُمْ،
وَآنِيَةُ مَنْ لاَبَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا وَثِيَابُهُمْ
طَاهِرَةٌ.
وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ وَالْحَائِضِ
وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمْ كَمُدْمِنِي الْخَمْرِ لأَِنَّ الأَْصْل
طَهَارَتُهَا، مَعَ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، مَا لَمْ
تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهَا (3) .
الصَّبْغُ لِلثِّيَابِ وَالاِخْتِضَابُ بِمَادَّةٍ نَجِسَةٍ:
46 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِي 1 / 61 - 62.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 29.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 53.
(40/106)
بِمُتَنَجِّسٍ يُطَهَّرُ بِغَسْلِهِ
ثَلاَثًا، فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُل أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ
بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغُسِل كُلٌّ ثَلاَثًا طَهُرَ، أَمَّا
إِذَا كَانَ الاِخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلاَ يَطْهُرُ
إِلاَّ بِزَوَال عَيْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا وَخُرُوجِ الْمَاءِ
صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ لأَِنَّ الأَْثَرَ الَّذِي
يَشُقُّ زَوَالُهُ لاَ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل
الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ
غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ
يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجِسٌ.
وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ
مِنْ صَفَاءِ غُسَالَةِ ثَوْبٍ صُبِغَ بِنَجِسٍ، وَيَكْفِي غَمْرُ مَا
صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ صَبُّ مَاءٍ قَلِيلٍ
عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَيَطْهُرُ هُوَ وَصِبْغُهُ (1) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِضَاب ف 15) .
الاِسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ:
47 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِسْتِجْمَارُ
بِالنَّجِسِ وَلاَ بِالْمُتَنَجِّسِ، وَمِمَّا اشْتَرَطُوهُ فِيمَا
يَصِحُّ الاِسْتِجْمَارُ بِهِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَيْ غَيْرَ
نَجِسٍ وَلاَ مُتَنَجِّسٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِجْمَار ف 28) .
__________
(1) ابْن عَابِدِينَ 1 / 229، 230، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 60،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 1 / 163 وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 1
/ 75.
(40/107)
التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي
بِالنَّجِسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي ف 8) .
سَقْيُ الزُّرُوعِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالتَّسْمِيدُ
بِالنَّجَاسَاتِ:
49 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
سَقْيِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ أَنَّهَا لاَ
تَتَنَجَّسُ وَلاَ تَحْرُمُ (1) .
(ر: أَطْعِمَة ف 11) .
وَفِي هَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: الزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِنَجِسٍ
طَاهِرٌ وَإِنْ تَنَجَّسَ ظَاهِرُهُ فَيُغْسَل مَا أَصَابَهُ مِنَ
النَّجَاسَةِ (2) ، وَلَوْ جَعَل الْعَذِرَةَ فِي الْمَاءِ لِسَقْيِ
الزَّرْعِ جَازَ (3) ، وَأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ بِالنَّجِسِ
كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا نَجِسٌ لاَ يُسْتَعْمَل فِي شَيْءٍ مِنَ
الْعَادَاتِ وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَكِنْ يُسْقَى بِهِ
الزَّرْعُ وَالْبَهَائِمُ (4) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى السِّرْجِينِ
قَال عَنْهُ الأَْصْحَابُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 217، وَالْخَرَشِيّ 1 / 88،
وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 8 / 149.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 52.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 61.
(4) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 35،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 61.
(40/107)
الْعَيْنِ لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلاَقَاةِ
النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِل طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَل فَحَبَّاتُهُ
الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ (1) ، وَلَوْ أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَبًّا ثُمَّ
أَلْقَتْهُ صَحِيحًا: فَإِنْ كَانَتْ صَلاَبَتُهُ بَاقِيَةً بِحَيْثُ
لَوْ زُرِعَ نَبَتَ فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ، وَيَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهِ،
لأَِنَّهُ وَإِنْ صَارَ غِذَاءً لَهَا فَمَا تَغَيَّرَ إِلَى فَسَادٍ،
فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ نَوَاةً، وَإِنْ زَالَتْ صَلاَبَتُهُ
بِحَيْثُ لاَ يَنْبُتُ فَنَجِسُ الْعَيْنِ (2) .
وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتَ
بِالنَّجِسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ
يَدْمِلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ (3) . وَلأَِنَّهَا تَتَغَذَّى
بِالنَّجَاسَاتِ وَأَجْزَاؤُهَا تَتَحَلَّل فِيهَا، وَالاِسْتِحَالَةُ
لاَ تُطَهِّرُ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِل أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلاَ يَحْرُمَ،
وَلاَ يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لأَِنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيل فِي
بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيل فِي
أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْخُل أَرْضَهُ بِالْمَعَرَّةِ
وَيَقُول: مِكْتَل عَرَّةٍ مِكْتَل بُرٍّ، وَالْعَرَّةُ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 17.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 1 / 18 الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ.
(3) حَدِيث: " كُنَّا نُكْرَيْ أَرْض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ (6
/ 139 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) وَقَال: حَدِيثٌ
ضَعِيفٌ.
(40/108)
عَذِرَةُ النَّاسِ (1) .
وَكَرِهُوا لِذَلِكَ أَكْل الزُّرُوعِ الَّتِي تُسَمَّدُ
بِالنَّجَاسَةِ (2) ، أَوْ تُسْقَى بِمُتَنَجِّسٍ مِنْ زَرْعٍ
وَثَمَرٍ، وَلاَ يَحِل حَتَّى يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ
يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ، وَنُقِل فِي الإِْنْصَافِ عَنِ
ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلاَ مُحَرَّمٍ، بَل
يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيل لَبَنًا، وَجَزَمَ
بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ طَاهِرٌ فَالتَّسْمِيدُ
بِهِ لاَ يُحَرِّمُ الزَّرْعَ (3) .
إِطْعَامُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَفًا نَجِسًا أَوْ مُتَنَجِّسًا:
55 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِطْعَامَ الْعَلَفِ
النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ لِلدَّوَابِّ (4) ، كَمَا أَجَازُوا
سَقْيَ الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجِسِ لِلْبَهَائِمِ وَالزَّرْعِ
(5) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ بِحُرْمَةِ الاِنْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ فِي
التَّدَاوِي بِالاِحْتِقَانِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَالإِْقْطَارِ فِي
الإِْحْلِيل، ذَلِكَ لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ،
فَإِذَا
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 11 / 72 - 73 ط دَار
الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 1 / 256.
(3) الإِْنْصَاف 10 / 368، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ 11 / 82.
(4) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَيْهِ 1 / 61،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 279 الْمَكْتَب الإِْسْلاَمِيّ، والقليوبي
عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ 1 / 76.
(5) أَسْهَل الْمَدَارِك شَرْح إِرْشَادِ السَّالِكِ 1 / 35.
(40/108)
حَرُمَ سَقْيُ الدَّوَابِّ بِالنَّجِسِ
حَرُمَ إِطْعَامُهَا بِهِ (1) .
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ إِطْعَامَ ذَلِكَ لِمَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ
مِنَ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُجِيزُوا إِطْعَامَهُ لِمَا يُؤْكَل
مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى
يَكُونَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ، فَقَدْ
سُئِل أَحْمَدُ عَنْ خَبَّازٍ خَبَزَ خُبْزًا فَبَاعَ مِنْهُ، ثُمَّ
نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ؟
فَقَال: لاَ يَبِيعُ الْخُبْزَ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ
اسْتَرَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ تَصَّدَّقَ بِثَمَنِهِ،
وَيُطْعِمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، وَلاَ
يُطْعِمُ لِمَا يُؤْكَل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ
يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى
الْجَلاَّلَةِ (2) ، قَال: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ
إِنَّمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ، قِيل لَهُ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ
الْحَجَّامِ يُطْعِمُ النَّوَاضِحَ، قَالَتْ هَذَا أَشَدُّ عِنْدِي لاَ
يُطْعِمُ الرَّقِيقَ لَكِنْ يَعْلِفُهُ الْبَهَائِمَ، قِيل لَهُ:
أَيْنَ الْحُجَّةُ؟ قَال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ صَخْرٍ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَأَمَرَهُمْ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا
مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِْبِل
الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي
كَانَ
__________
(1) الْعِنَايَة بِهَامِش فَتْح الْقَدِير 8 / 157 ط الْمَطْبَعَة
الْكُبْرَى الأَْمِيرِيَّة 1318 هـ.
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة مَعَ الشَّرْحِ 11 / 88 دَار
الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ.
(40/109)
تَرِدُهَا النَّاقَةُ (1) .
دَرَجَاتُ النَّجَاسَاتِ:
أ - النَّجَاسَاتُ الْمُغَلَّظَةُ:
51 - الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا
وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ آخَرُ وَلاَ حَرَجَ
فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ لاَ
يُعَارِضُ النَّصَّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اتُّفِقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ
وَلاَ بَلْوَى فِي إِصَابَتِهِ.
وَالْقَدْرُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّلاَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ
الْغَلِيظَةِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ
كَانَ مَائِعًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا (2) .
وَقَالُوا: كُل مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ
لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْل
وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، كَذَلِكَ
الْمَنِيُّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ
كَانَ يَابِسَةً فَافْرُكِيهِ (3)
__________
(1) حَدِيث: " فَأَمَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُهَرِيقُوا. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ (ف 44) .
(2) الاِخْتِيَار شُرِحَ الْمُخْتَار 1 / 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ
1936.
(3) حَدِيث: " إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا
فَافْرُكِيهِ ". قَال ابْن الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ (1 / 107 ط
دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) : هَذَا الْحَدِيثُ لاَ يُعَرِّفُ
وَإِنَّمَا الْمَنْقُول أَنَّهَا هِيَ كَانَتْ تَفْعَل ذ وَأَصِلُهُ
فِي مُسْلِم (1 / 238) .
(40/109)
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا
يُغْسَل الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَنِيَّ (1)
وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ وَجَفَّ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
أَنَّهُ يَطْهُرُ لأَِنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ، وَالاِكْتِفَاءَ
بِالْفَرْكِ لاَ يَدُل عَلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقُل بِالْفَرْكِ، فَتَجُوزُ الصَّلاَةُ
فِيهِ حَتَّى إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ يَعُودُ نَجِسًا عِنْدَهُ
خِلاَفًا لَهُمَا.
0 وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالإِْخْثَاءُ وَبَوْل مَا لاَ يُؤْكَل
لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ
نَجَاسَتَهَا ثَبَتَتْ بِنَصٍّ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي الرَّوْثَةِ: هِيَ
رِجْسٌ (2) ، وَالإِْخْثَاءُ مِثْلُهُ، وَلأَِنَّهُ اسْتَحَال إِلَى
نَتَنٍ وَفَسَادٍ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَيَوَانٍ يُمْكِنُ
التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ كَالآْدَمِيِّ.
__________
(1) حَدِيث: " إِنَّمَا يَغْسِل الثَّوْبَ مِنْ خَمْس. . " سَبَقَ
تَخْرِيجَهُ ف 17.
(2) حَدِيث: " هِيَ رِجْس ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي
1 / 256 ط السَّلَفِيَّة) وَابْن مَاجَهْ (1 / 114 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَلَفَظَ الْبُخَارِيّ: " هَذَا رَكْس " بِالْكَاف.
(40/110)
وَكَذَلِكَ بَوْل الْفَأْرَةِ وَخُرْؤُهَا،
لإِِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل (1) ، وَالاِحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ
فِي الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ فَيُعْفَى
عَنْهُ فِيهِمَا.
وَكَذَلِكَ بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلاَ أَوْ لاَ،
لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ
مِنْ نَضْحِ بَوْل الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَأْكُل فِيمَا رَوَاهُ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُنْضَحُ بَوْل الْغُلاَمِ،
وَيُغْسَل بَوْل الْجَارِيَةِ (2) فَالنَّضْحُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى
الْغَسْل، قَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِلْمِقْدَادِ بْنِ
الأَْسْوَدِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ: تَوَضَّأْ وَانْضَحْ
فَرْجَكَ (3) أَيِ اغْسِلْهُ فَيُحْمَل عَلَيْهِ تَوْفِيقًا.
وَالْبَطُّ الأَْهْلِيُّ وَالدَّجَاجُ نَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ
بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (4) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
إِنَّ الْمُغَلَّظَ مَا نَجُسَ بِمُلاَقَاةِ
__________
(1) حَدِيث: " اسْتَنْزَهُوا مِنَ الْبَوْل. . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف
26.
(2) حَدِيث: " يَنْضَحُ بَوْل الْغُلاَمِ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد (1 / 263 ط حِمْص) وَالتِّرْمِذِيّ (2 / 509 ط التِّجَارِيَّة
الْكُبْرَى) وَصَحَّحَ إِسْنَاده ابْن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ (1 /
187 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) .
(3) حَدِيث: " تَوَضَّأَ وَانَضْح فَرَجك ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 /
247 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(4) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَار 1 / 32، 33 - 35 ط مُصْطَفَى
الْحَلَبِيِّ 1936.
(40/110)
شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ
مُتَوَلِّدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا (1) .
وَالنَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً
كَالْبَوْل وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْمُتَنَجِّسُ مَا كَانَ
طَاهِرًا فِي الأَْصْل وَأَصَابَهُ نَجَاسَةٌ (2) .
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرِهَا إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ.
الأَْوَّل: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ
مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْل
سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
الثَّانِي: نَجَاسَةُ بِوْل الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُل
الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَل النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْل
بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ الْمُتَنَجِّسَاتِ وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ
غَسَلاَتٍ مُنْقِيَةٍ وَلاَ يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ (3) .
ب - النَّجَاسَاتُ الْمُخَفَّفَةُ:
52 - الْمُخَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا
تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ،
لأَِنَّ الاِجْتِهَادَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالنَّصِّ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 83.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 60.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 83 1 - 89 1، وَشَرْح مُنْتَهَى
الإِْرَادَاتِ 1 / 97، 101.
(40/111)
وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ لاَ
تَمْنَعُ الصَّلاَةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ الثَّوْبِ، لأَِنَّ
لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكُل فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ
وَحَلْقِهِ، وَثُمَّ قِيل: رُبُعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَقِيل: رُبُعُ
مَا أَصَابَهُ كَالْكُمِّ وَالذَّيْل، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: شِبْرٌ
فِي شِبْرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْهُ:
مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُخْتَارُ الرُّبُعُ، وَعَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ
الْمُبْتَلَى، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الاِسْتِفْحَاشِ (1) .
وَمِنَ النَّجَسِ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ الرَّوْثُ وَالإِْخْثَاءُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فِي
الطُّرُقَاتِ وَوُقُوعِ الاِخْتِلاَفِ فِيهِ (2) .
وَبَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ وَبَوْل الْفَرَسِ وَدَمُ السَّمَكِ
وَلُعَابُ الْبَغْل وَالْحِمَارِ وَخُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ
مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَوْل
مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ طَاهِرٌ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ
أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا -
أَيْ لَمْ تُوَافِقْهُمْ - فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ
بُطُونُهُمْ فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِل الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا
مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَخَرَجُوا وَشَرِبُوا
__________
(1) الاِخْتِيَار شُرِحَ الْمُخْتَار 1 / 30 - 31 ط مُصْطَفَى
الْحَلَبِيِّ 1936.
(2) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 31 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ
1936.
(40/111)
فَصَحُّوا (1) . فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ
الإِْبِل نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِشُرْبِهِ لِكَوْنِهِ حَرَامًا -
وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ (2) .
وَيَدْخُل فِي الطَّاهِرِ بَوْل الْفَرَسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا،
وَدَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً لأَِنَّهُ يَبْيَضُّ
بِالشَّمْسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلِذَا قِيل
بِخِفَّتِهِ لِذَلِكَ، وَلُعَابُ الْبَغْل وَالْحِمَارِ لِتَعَارُضِ
النُّصُوصِ، وَخُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ
لِعُمُومِ الْبَلْوَى فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ
لأَِنَّهَا تَزْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجَاسَتُهُ
غَلِيظَةٌ لأَِنَّهَا لاَ تُخَالِطُ النَّاسَ فَلاَ بَلْوَى (3) .
وَالْمُخَفَّفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ خُصُوصُ بَوْل
الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يَتَغَذَّ إِلاَّ
بِاللَّبَنِ، بِخِلاَفِ الأُْنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل، ذَلِكَ
لأَِنَّ بَوْل
__________
(1) حَدِيث: " أَمْر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَنْ يُخْرِجُوا إِلَى إِبِل الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ
أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالهَا " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 1 / 335 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1296 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) حَدِيث: " إِنِ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرُمَ
عَلَيْكُمْ ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (10
/ ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثٍ أَمْ
سَلَمَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَال الهيثمي فِي مَجْمَع
الزَّوَائِد (5 / 86 ط الْقُدْسِيّ) : رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى
وَالْبَزَّار، وَرِجَال أَبِي يُعْلَى رِجَال الصَّحِيحِ خَلاَ حَسَّان
بْن مخارق وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْن حِبَّانَ.
(3) الاِخْتِيَار شَرْح الْمُخْتَارِ 1 / 33 ط مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ
1936.
(40/112)
الصَّبِيِّ عِنْدَمَا يُرَادُ تَطْهِيرُ
مَحَل إِصَابَتِهِ يُرَشُّ عَلَى مَحَل الإِْصَابَةِ بِمَاءٍ يَعُمُّ
النَّجَاسَةَ وَإِنْ لَمْ يَسِل، أَمَّا الأُْنْثَى وَالْخُنْثَى
الْمُشْكِل فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْل مَحَل الإِْصَابَةِ، وَيَتَحَقَّقُ
الْغَسْل بِالسَّيَلاَنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يُغْسَل مِنْ بَوْل الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْل
الْغُلاَمِ (1) . وَأُلْحِقَ الْخُنْثَى بِالأُْنْثَى.
وَلَهُمْ تَقْسِيمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ،
وَهِيَ مَا عَدَا النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ وَالْمُخَفَّفَةَ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا، وَهِيَ مَا تُيُقِّنَ وُجُودُهَا، وَلاَ
يُدْرَكُ لَهَا طَعْمٌ وَلاَ لَوْنٌ وَلاَ رِيحٌ كَفَى فِي
تَطْهِيرِهَا جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا بِحَيْثُ يَسِيل
زَائِدًا عَلَى النَّضْحِ.
وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً وَجَبَ بَعْدَ زَوَال عَيْنِهَا إِزَالَةُ
الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَإِنْ عَسُرَ، لأَِنَّ بَقَاءَهُ يَدُل عَلَى
بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُطَهَّرُ
الْمَحَل لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا سَهُل فَيَضُرُّ
بَقَاؤُهُ لِدَلاَلَةِ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَفِي الرِّيحِ قَوْلُهُ أَنَّهُ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، قَال
النَّوَوِيُّ:
__________
(1) حَدِيث: " يَغْسِل مِنْ بَوْل الْجَارِيَة وَيَرُشُّ. . . ".
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (1 / 262 ط حِمْص) وَالنَّسَائِيّ (1 / 158 ط
التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرِكِ (1 / 166
ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَبِي
السَّمْحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَال الْحَاكِم: صَحِيحٌ
وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.
(40/112)
فَإِنْ بَقِيَا مَعًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ
ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّةِ دَلاَلَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ
الْعَيْنِ، وَالثَّانِي لاَ يَضُرُّ لاِغْتِفَارِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ،
فَكَذَا مُجْتَمِعَيْنِ (1) .
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرُهَا إِلَى
ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الأَْوَّل: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ
وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ
تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْل سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ بَوْل الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُل
الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَل النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْل
بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ، وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ
مُنْقِيَةٍ وَلاَ يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ (2) .
ج ـ - النَّجَاسَاتُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا:
53 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ
الْمُغَلَّظَةِ عَنْ أُمُورٍ: فَيُعْفَى قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَزْنًا
فِي النَّجَاسَةِ الْكَثِيفَةِ وَقُدِّرَ بِعِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَفِي
النَّجَاسَةِ الرَّقِيقَةِ أَوِ الْمَائِعَةِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ
مِسَاحَةً، وَقُدِّرَ بِمُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِل مَفَاصِل
الأَْصَابِعِ، وَالْمَقْصُودُ بِعَفْوِ الشَّارِعِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 85.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 183 - 189، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ
1 / 97، 101
(40/113)
عَنْهَا: الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ
الصَّلاَةِ، وَإِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ إِجْمَاعًا
إِنْ بَلَغَتِ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ.
وَيُعْفَى عَنْ بَوْل الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْئِهِمَا فِيمَا
تَظْهَرُ فِيهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَيُعْفَى عَنْ خُرْءِ
الْفَأْرَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكْثُرْ حَتَّى
يَظْهَرَ أَثَرُهُ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِهَا إِذَا سَقَطَ فِي
الْبِئْرِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَصَابَ
أَحَدُهُمَا ثَوْبًا أَوْ إِنَاءً مَثَلاً فَإِنَّهُ لاَ يُعْفَى
عَنْهُ لإِِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْل الْهِرَّةِ
إِذَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ ثَوْبٍ لِظُهُورِ الضَّرُورَةِ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا أَصَابَ خُرْؤُهَا أَوْ بَوْلُهَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ لاَ يُعْفَى عَنْهُ.
وَيُعْفَى عَنْ بُخَارِ النَّجِسِ وَغُبَارِ سِرْقِينٍ، فَلَوْ مَرَّتِ
الرِّيحُ بِالْعَذِرَاتِ وَأَصَابَتِ الثَّوْبَ لاَ يَتَنَجَّسُ إِلاَّ
أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيل: يَتَنَجَّسُ
إِنْ كَانَ مَبْلُولاً لاِتِّصَالِهَا بِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ رَشَاشِ الْبَوْل إِذَا كَانَ رَقِيقًا كَرُءُوسِ
الإِْبَرِ بِحَيْثُ لاَ يُرَى وَلَوْ مَلأََ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ،
فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ الدَّمُ
الَّذِي يُصِيبُ الْقَصَّابَ فَيُعْفَى عَنْهُ فِي حَقِّهِ
لِلضَّرُورَةِ، فَلَوْ أَصَابَ الرَّشَاشُ ثَوْبًا ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ
الثَّوْبُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ تَنَجَّسَ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ
حِينَئِذٍ، وَمِثْل هَذَا أَثَرُ الذُّبَابِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى
نَجَاسَةٍ ثُمَّ أَصَابَ ثَوْبَ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ.
(40/113)
وَيُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الْغَاسِل مِنْ
غُسَالَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا لاَ يُمْكِنُهُ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ مَا
دَامَ فِي تَغْسِيلِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوطًا
بِنَجَاسَةٍ غَالِبَةٍ مَا لَمْ يُرَ عَيْنُهَا.
وَيُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبُعِ
الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوْ رُبُعِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.
وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ، لأَِنَّ
الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ
مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ، وَلاَ عِبْرَةَ فِيهِ لِوَزْنٍ أَوْ
مِسَاحَةٍ.
وَيُعْفَى عَنْ بَعْرِ الإِْبِل وَالْغَنَمِ إِذَا وَقَعَ فِي
الْبِئْرِ أَوْ فِي الإِْنَاءِ، مَا لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً فَاحِشَةً
أَوْ يَتَفَتَّتْ فَيَتَلَوَّنَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي خَالَطَهُ.
وَالْقَلِيل الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاظِرُ
إِلَيْهِ، وَالْكَثِيرُ عَكْسُهُ.
وَأَمَّا رَوْثُ الْحِمَارِ وَخَثْيُ الْبَقَرِ وَالْفِيل فَإِنَّهُ
يُعْفَى عَنْهُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى، سَوَاءٌ كَانَ
يَابِسًا أَوْ رَطْبًا (1) .
54 - وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مَا يَأْتِي: أ
- سَلَسُ الأَْحْدَاثِ كَبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ مَذْيٍ أَوْ وَدْيٍ
أَوْ مَنِيٍّ إِذَا سَال شَيْءٌ مِنْهَا بِنَفْسِهِ، فَلاَ يَجِبُ
غَسْلُهُ عَنِ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي لاَ
يُمِكُنُ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 210، وَمَرَاقِي الْفَلاَح ص 84، 85،
188 - 190.
(40/114)
التَّحَوُّل عَنْهُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ
إِذَا حَصَل شَيْءٌ مِنْهَا وَلَوْ كُل يَوْمٍ مَرَّةً.
ب - بَلَل الْبَاسُورِ إِذَا أَصَابَ يَدَ صَاحِبِهِ أَوْ ثَوْبِهِ كُل
يَوْمٍ وَلَوْ مَرَّةً، وَأَمَّا يَدُهُ فَلاَ يُعْفَى عَنْ غَسْلِهَا
إِلاَّ إِذَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي إِرْجَاعِهِ بِأَنْ يَزِيدَ
عَنْ مَرَّتَيْنِ كُل يَوْمٍ، وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ فِي الثَّوْبِ
وَالْبَدَنِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَوْمِ وَلَمْ يُكْتَفَ فِي
الْيَدِ إِلاَّ بِمَا زَادَ عَلَى اثْنَتَيْنِ لأَِنَّ الْيَدَ لاَ
يَشُقُّ غَسْلُهَا إِلاَّ عِنْدَ الْكَثْرَةِ بِخِلاَفِ الثَّوْبِ
وَالْبَدَنِ.
ج - مَا يُصِيبُ ثَوْبَ أَوْ بَدَنَ الْمُرْضِعَةِ مِنْ بَوْل أَوْ
غَائِطِ رَضِيعِهَا - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيدَهَا - إِذَا
اجْتَهَدَتْ فِي التَّحَرُّزِ عَنْهُمَا حَال نُزُولِهِمَا، وَلَكِنْ
يُنْدَبُ لَهَا إِعْدَادُ ثَوْبٍ لِلصَّلاَةِ.
د - مَا يُصِيبُ ثَوْبَ أَوْ بَدَنَ الْجَزَّارِ وَنَازِحِ
الْمَرَاحِيضِ وَالطَّبِيبِ الَّذِي يُعَالِجُ الْجُرُوحَ، وَلَكِنْ
يُنْدَبُ لَهُمْ إِعْدَادُ ثَوْبٍ لِلصَّلاَةِ.
هـ - مَا يُصِيبُ ثَوْبَ الْمُصَلِّي أَوْ بَدَنَهُ أَوْ مَكَانَهُ
مِنْ دَمِهِ أَوْ دَمِ غَيْرِهِ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَلَوْ
خِنْزِيرًا، إِذَا كَانَتْ مِسَاحَتُهُ لاَ تَزِيدُ عَنْ قَدْرِ
الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ، وَهُوَ الدَّائِرَةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي
تَكُونُ فِي ذِرَاعِ الْبَغْل، وَلاَ عِبْرَةَ بِالْوَزْنِ، وَمِثْل
الدَّمِ فِي ذَلِكَ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ.
و مَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ أَوْ مَكَانَهُ مِنْ بَوْل
أَوَرَوْثِ خَيْلٍ أَوْ بِغَالٍ أَوْ حَمِيرٍ إِذَا كَانَ مِمَّنْ
يُبَاشِرُ
(40/114)
رَعْيَهَا أَوْ عَلْفَهَا أَوْ رَبْطَهَا
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيُعْفَى عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ.
ز - أَثَرُ ذُبَابٍ أَوْ نَامُوسٍ أَوْ نَمْلٍ صَغِيرٍ يَقَعُ عَلَى
النَّجَاسَةِ وَيَرْفَعُ شَيْئًا مِنْهَا فَيَتَعَلَّقُ بِرِجْلِهِ
أَوْ فَمِهِ، ثُمَّ يَقَعُ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ لِمَشَقَّةِ
الاِحْتِرَازِ، أَمَّا أَثَرُ النَّمْل الْكَبِيرِ فَلاَ يُعْفَى
عَنْهُ لِنُدْرَتِهِ.
ح - أَثَرُ دَمِ مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ بَعْدَ مَسْحِهِ بِخِرْقَةٍ
وَنَحْوِهَا، فَيُعْفَى عَنْهُ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ فَيَغْسِلَهُ.
ط - مَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ أَوْ رِجْلَهُ مِنْ طِينِ الْمَطَرِ أَوْ
مَائِهِ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَاسَةٍ مَا دَامَ مَوْجُودًا فِي الطُّرُقِ
وَلَوْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ، فَيُعْفَى عَنْهُ بِشُرُوطٍ
ثَلاَثَةٍ: أَوَّلاً: أَنْ لاَ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الْمُخَالِطَةُ
أَكْثَرَ مِنَ الطِّينِ أَوِ الْمَاءِ تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا.
ثَانِيًا: أَنْ لاَ تُصِيبَهُ النَّجَاسَةُ بِدُونِ مَاءٍ أَوْ طِينٍ.
ثَالِثًا: أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الإِْصَابَةِ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ الطِّينِ أَوِ الْمَاءِ، كَأَنْ يَعْدِل عَنْ طَرِيقٍ
خَالِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى طَرِيقٍ فِيهَا ذَلِكَ.
ي - الْمِدَّةُ السَّائِلَةُ مِنْ دَمَامِل أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ،
سَوَاءٌ سَالَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ بِعَصْرِهَا وَلَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ
إِلَيْهِ، لأَِنَّ كَثْرَتَهَا مَظِنَّةُ الاِحْتِيَاجِ إِلَى
الْعَصْرِ، فَيُعْفَى عَمَّا سَال عَنْهَا وَلَوْ زَادَ عَلَى قَدْرِ
الدِّرْهَمِ، وَأَمَّا الدُّمَّل الْوَاحِدُ فَيُعْفَى
(40/115)
عَمَّا سَال مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ
بِعَصْرٍ احْتِيجَ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُصِرَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ فَلاَ
يُعْفَى إِلاَّ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ.
ك - خُرْءُ الْبَرَاغِيثِ وَلَوْ كَثُرَ، وَإِنْ تَغَذَّتْ بِالدَّمِ
الْمَسْفُوحِ، فَخُرْؤُهَا نَجِسٌ وَلَكِنْ يُعْفَى عَنْهُ.
وَأَمَّا دَمُهَا فَإِنَّهُ كَدَمِ غَيْرِهَا لاَ يُعْفَى عَمَّا زَادَ
مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
ل - الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ إِذَا كَانَ مِنَ
الْمَعِدَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ أَصْفَرَ مُنْتِنًا فَإِنَّهُ نَجِسٌ،
وَلَكِنْ يُعْفَى عَنْهُ إِذَا لاَزَمَ.
م - الْقَلِيل مِنْ مَيْتَةِ الْقُمَّل فَيُعْفَى مِنْهُ عَنْ
ثَلاَثَةٍ فَأَقَل.
ن - أَثَرُ النَّجَاسَةِ عَلَى السَّبِيلَيْنِ بَعْدَ إِزَالَةِ عَيْنِ
النَّجَاسَةِ بِمَا يُزِيلُهَا مِنْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ فَيُعْفَى
عَنْهُ، وَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يَنْتَشِرْ
كَثِيرًا، فَإِنِ انْتَشَرَ تَعَيَّنَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ، كَمَا
يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنْ قُمَّل
الْمَرْأَةِ (1) .
وَقَالُوا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ رَمَادَ نَجِسٍ طَاهِرٌ
مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلاً قَوِيًّا
أَوْ لاَ.
وَأَمَّا دُخَانُ النَّجَاسَةِ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ نَجِسٌ،
وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ وَالتُّونُسِيُّ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 71 - 78.
(40/115)
وَالْمَازِرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ
عَرَفَةَ، قَال بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَاخْتَارَ ابْنُ
رُشْدٍ طَهَارَةَ دُخَانِ النَّجَاسَةِ كَالرَّمَادِ (1) .
وَقَالُوا: يُعْفَى عَمَّا تَعَلَّقَ بِذَيْل ثَوْبِ الْمَرْأَةِ
الْيَابِسِ مِنَ الْغُبَارِ النَّجِسِ (2) .
55 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُعْفَى عَنْ أُمُورٍ: مِنْهَا مَا لاَ
يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ الْمُعْتَدِل مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ
مُغَلَّظَةً.
وَمِنْهَا الأَْثَرُ الْبَاقِي بِالْمَحَل بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ
بِالْحَجَرِ، فَيُعْفَى عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِصَاحِبِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِنْجَاء ف 23) .
وَمِنْهَا طِينُ الشَّارِعِ الْمُخْتَلِطُ بِالنَّجَاسَةِ
الْمُحَقَّقَةِ، فَإِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ ذَلِكَ الطِّينِ أَوْ
ظَنَّ كَانَ طَاهِرًا، لاَ نَجِسًا مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَإِنَّمَا
يُعْفَى عَنْهُ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلاً: أَنْ لاَ تَظْهَرَ
عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ.
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْمَارُّ مُحْتَرِزًا عَنْ إِصَابَتِهَا،
بِحَيْثُ لاَ يُرْخِي ذَيْل ثِيَابِهِ وَلاَ يَتَعَرَّضُ لِرَشَاشٍ
نَحْوَ سِقَاءٍ.
ثَالِثًا: أَنْ تُصِيبَهُ النَّجَاسَةُ وَهُوَ مَاشٍ أَوْ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 57، 58.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 74.
(40/116)
رَاكِبٌ، أَمَّا إِذَا سَقَطَ عَلَى
الأَْرْضِ فَتَلَوَّثَتْ ثِيَابُهُ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ لِنُدْرَةِ
الْوُقُوعِ.
رَابِعًا: أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ فِي ثَوْبٍ أَوْ بَدَنٍ.
وَمِمَّا يُعْفَى عَنْهُ عِنْدَهُمُ الدَّمُ الْبَاقِي عَلَى اللَّحْمِ
وَعِظَامِهِ، فَقِيل: إِنَّهُ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ
الْحَلِيمِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَهَذَا
هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ.
وَمِنْهَا دُخَانُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ
قَلِيلِهِ وَعَنْ يَسِيرِهِ عُرْفًا.
وَمِنْهَا بُخَارُ النَّجَاسَةِ إِنْ تَصَاعَدَ بِوَاسِطَةِ نَارٍ
فَنَجِسٌ، لأَِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَفْصِلُهَا النَّارُ
بِقُوَّتِهَا لَكِنْ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَ
كَالْبُخَارِ الْخَارِجِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَنِيفِ فَطَاهِرٌ.
وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ غُبَارَ
النَّجَاسَةِ الْيَابِسَةِ.
وَمِنْهَا الْمَاءُ السَّائِل مِنْ فَمِ النَّائِمِ إِنْ كَانَ مِنَ
الْمَعِدَةِ، كَأَنْ خَرَجَ مُنْتِنًا بِصُفْرَةٍ فَنَجِسٌ، لاَ إِنْ
كَانَ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْهَا فَطَاهِرٌ.
وَقِيل: إِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَنَجِسٌ وإِلاَّ فَطَاهِرٌ، فَإِنِ
ابْتُلِيَ بِهِ شَخْصٌ لِكَثْرَتِهِ مِنْهُ قَال فِي الرَّوْضَةِ:
(40/116)
فَالظَّاهِرُ الْعَفْوُ (1) .
56 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ
الْمُغَلَّظَةِ لأَِجْل مَحَلِّهَا فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: مَحَل الاِسْتِنْجَاءِ، فَيُعْفَى فِيهِ عَنْ أَثَرِ
الاِسْتِجْمَارِ بَعْدَ الإِْنْقَاءِ وَاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ.
الثَّانِي: أَسْفَل الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ إِذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ
فَدَلَّكَهَا بِالأَْرْضِ حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، فَفِيهِ
ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا: يُجْزِئُ دَلْكُهُ بِالأَْرْضِ،
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الأُْولَى كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ،
وَالثَّانِيَةُ: يَجِبُ غَسْلُهُ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ،
وَالثَّالِثَةُ: يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْبَوْل وَالْعَذِرَةِ دُونَ
غَيْرِهِمَا.
الثَّالِثُ: إِذَا جَبَّرَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَانْجَبَرَ لَمْ
يَلْزَمْهُ قَلْعُهُ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ، لأَِنَّهَا نَجَاسَةٌ
بَاطِنَةٌ يَتَضَرَّرُ بِإِزَالَتِهَا، فَأَشْبَهَتْ دِمَاءَ
الْعُرُوقِ.
وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْيَسِيرُ مَا
يَعُدُّهُ الإِْنْسَانُ فِي نَفْسِهِ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا يُعْفَى
عَنِ الْيَسِيرِ إِذَا أَصَابَ غَيْرَ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ.
وَمِمَّا يُعْفَى عَنْهُ يَسِيرُ سَلَسِ بَوْلٍ بَعْدَ تَمَامِ
التَّحَفُّظِ لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79 - 81، 192، وَالْمَنْثُور فِي
الْقَوَاعِدِ 3 / 266.
(40/117)
وَمِنْهَا دُخَانُ نَجَاسَةٍ وَغُبَارُهَا
وَبُخَارُهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ صِفَةٌ.
وَمِنْهَا قَلِيل مَاءٍ تَنَجَّسَ بِمَعْفُوٍّ عَنْهُ.
وَمِنْهَا النَّجَاسَةُ الَّتِي تُصِيبُ عَيْنَ الإِْنْسَانِ
وَيَتَضَرَّرُ بِغَسْلِهَا.
وَمِنْهَا الْيَسِيرُ مِنْ طِينِ الشَّارِعِ الَّذِي تَحَقَّقَتْ
نَجَاسَتُهُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ (1) .
__________
(1) الْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 725 - 729، وَالْمُغْنِي
1 / 411 - 412 ط دَار الْفِكْرِ، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 /
102 - 103، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 192.
(40/117)
|