الموسوعة
الفقهية الكويتية نَجْشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النَّجْشِ فِي اللُّغَةِ الاِسْتِثَارَةُ
وَالإِْثَارَةُ، وَالنَّجْشُ - بِسُكُونِ الْجِيمِ - مَصْدَرٌ
وَبِالْفَتْحِ اسْمُ مَصْدَرٍ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي سِلْعَةٍ أَكْثَرَ
مِنْ ثَمَنِهَا وَلَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا بَل لِيَغِرَّ
غَيْرَهُ فَيُوقِعَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ،
وَالْفَاعِل نَاجِشٌ وَنَجَّاشٌ مُبَالَغَةً، وَلاَ تَنَاجَشُوا: لاَ
تَفْعَلُوا ذَلِكَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّوْمُ:
2 - السَّوْمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ سَوْمًا
عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي وَاسْتَامَهَا طَلَبَ
بَيْعَهَا (3) .
__________
(1) مُحِيط الْمُحِيطِ، وَالْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(2) التَّعْرِيفَات للجرجاني، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(40/118)
وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ:
عَرْضُ الْبَائِعِ سِلْعَتَهُ بِثَمَنٍ مَا وَيَطْلُبُهَا مَنْ يَرْغَبُ
فِي شِرَائِهَا بِثَمَنٍ دُونَهُ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ السَّوْمِ وَالنَّجْشِ أَنَّ النَّاجِشَ لاَ
يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الشَّيْءِ وَالْمُسَاوِمَ يَرْغَبُ فِيهِ.
ب - الْمُزَايَدَةُ:
3 - الْمُزَايَدَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّنَافُسُ فِي زِيَادَةِ ثَمَنِ
السِّلْعَةِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْبَيْعِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى السِّلْعَةِ وَيَزِيدَ
النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخَرِ
زَائِدٍ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْمُزَايَدَةِ وَالنَّجْشِ أَنَّ النَّاجِشَ لاَ
يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الشَّيْءِ وَالْمُزَايِدَ يَرْغَبُ فِي الشِّرَاءِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّجْشَ حَرَامٌ وَذَلِكَ
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلَقَّوُا
الرُّكْبَانَ وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ
تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِعْ
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَتَاج الْعَرُوسِ، وَمُعْجَم مَقَايِيس
اللُّغَة، وَالْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ.
(2) الْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة 290، وَفَتْح الْقَدِير 6 / 108،
وَالدُّسُوقِيّ 3 / 159، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 37.
(40/118)
حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تُصَرُّوا الْغَنَمَ
(1) وَلِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّجْشِ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ
السِّلْعَةِ فَالْمَنْعُ اتِّفَاقًا، وَإِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْقِيمَةِ
بَل سَاوَاهَا بِزِيَادَتِهِ أَوْ كَانَتْ زِيَادَتُهُ أَنْقَصَ مِنْهَا
فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى ظَاهِرِ كَلاَمِ الْمَازِرِيِّ، وَجَائِزٌ عَلَى
ظَاهِرِ كَلاَمِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَمَنْدُوبٌ عَلَى كَلاَمِ ابْنِ
الْعَرَبِيِّ، وَعَلَى تَأْوِيل كَلاَمِ الإِْمَامِ وَالْمَازِرِيِّ فَهُوَ
مَمْنُوعٌ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ.
فَإِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ فَسَكَتَ حَتَّى حَصَل الْبَيْعُ
فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهُ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ كَلاَمَ
لِلْمُشْتَرِي وَلاَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالإِْثْمُ عَلَى مَنْ فَعَل
ذَلِكَ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُشْتَرَطُ هُنَا الْعِلْمُ بِخُصُوصِ هَذَا
النَّهْيِ لأَِنَّ النَّجْشَ خَدِيعَةٌ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ تُلْقُوا الرُّكْبَان ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 4 / 361 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1155 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) حَدِيث: " نَهَى عَنِ النَّجْشِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 4 / 355 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1156 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِ
ا.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 68، وَالْعِنَايَة بِهَامِش فَتْح الْقَدِير
5 / 239، وَحَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 3 / 92،
وَالْمُغْنِي 43 / 278، وَحَوَاشِي الشرواني وَابْن قَاسِم 4 / 315.
(40/119)
وَتَحْرِيمُهَا مَعْلُومٌ لِكُل أَحَدٍ (1)
، وَقَدْ أَشَارَ السُّبْكِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحُرْمَةَ
لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ
لِلْحُكْمِ الظَّاهِرِ لِلْقُضَاةِ فَمَا اشْتَهَرَ تَحْرِيمُهُ لاَ
يَحْتَاجُ إِلَى اعْتِرَافِ مُتَعَاطِيهِ بِالْعِلْمِ بِخِلاَفِ الْخَفِيِّ
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ
قَصَّرَ فِي التَّعْلِيمِ (2) .
بَيْعُ النَّجْشِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَيْعَ النَّجْشِ صَحِيحٌ لأَِنَّ
النَّجْشَ فِعْل النَّاجِشِ لاَ الْعَاقِدِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْبَيْعِ
(3) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ النَّجْشِ
لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 128) .
خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي بَيْعِ النَّجْشِ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ بِالثَّمَنِ، لأَِنَّ
الْفَسَادَ فِيهِ فِي مَعْنًى خَارِجٍ زَائِدٍ لاَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ
وَلاَ فِي شَرَائِطِ الصِّحَّةِ (5) .
__________
(1) حَاشِيَة الشرواني وَابْن قَاسِم 4 / 315.
(2) الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 3 / 92.
(3) الْمُغْنِي 4 / 278، الْعِنَايَة بِهَامِش فَتْح الْقَدِير 5 / 239،
وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 4 / 316.
(4) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 68، وَالْمُغْنِي 4 / 278.
(5) فَتْح الْقَدِير 6 / 108 ط دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ.
(40/119)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ عَلِمَ
الْبَائِعُ بِالنَّاجِشِ فَلِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِنْ كَانَ
قَائِمًا وَلَهُ التَّمَسُّكُ بِهِ، فَإِنْ فَاتَ فَالْقِيمَةُ يَوْمَ
الْقَبْضِ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَدَّى ثَمَنَ النَّجْشِ، وَإِنْ لَمْ
يَعْلَمِ الْبَائِعُ فَلاَ كَلاَمَ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ
وَالإِْثْمُ عَلَى مَنْ فَعَل ذَلِكَ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي
لِتَفْرِيطِهِ حَيْثُ لَمْ يَتَأَمَّل وَلَمْ يُرَاجِعْ أَهْل الْخِبْرَةِ،
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لَهُ الْخِيَارُ لِلتَّدْلِيسِ كَالتَّصْرِيَةِ (2)
.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَيْعِ النَّجْشِ
غَبْنٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ
بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ
فَلاَ خِيَارَ لَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ النَّجْشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنَ
الْبَائِعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ (3) .
نُجُومٌ
انْظُرْ: تَنْجِيمٌ
نُحَاسٌ
انْظُرْ: مَعْدِنٌ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 3 / 68.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 37.
(3) الْمُغْنِي 4 / 234 - 235.
(40/120)
نَحْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّحْرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَحَرَ يَنْحَرُ نَحْرًا: أَصَابَ
نَحْرَهُ، وَنَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا: طَعَنَهُ فِي
مَنْحَرِهِ حَيْثُ يَبْدُو الْحُلْقُومُ مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ (1) ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
قَال الْبَرْكَتِيُّ: هُوَ قَطْعُ عُرُوقِ الإِْبِل الْكَائِنَةِ فِي
أَسْفَل عُنُقِهَا عِنْدَ صُدُورِهَا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَقْرُ:
2 - الْعَقْرُ فِي اللُّغَةِ: ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ
بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْعَرَبُ فِي الْقَتْل
وَالإِْهْلاَكِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي النَّحْرِ خَاصَّةً.
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَمُخْتَار الصِّحَاح.
(2) سُورَة الْكَوْثَرِ / 2
(3) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَركَتِي.
(40/120)
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى
الإِْصَابَةِ الْقَاتِلَةِ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ
بَدَنِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّحْرِ وَالْعَقْرِ، أَنَّ الْعَقْرَ أَعَمُّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّحْرِ:
أ - صِفَةُ الذَّكَاةِ بِالنَّحْرِ:
3 - مِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَاةِ النَّحْرُ، وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْحَرَ الْبَعِيرُ
وَيُذْبَحَ مَا سِوَاهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: فَصَل لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ، وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً (2) قَال مُجَاهِدٌ: أُمِرْنَا بِالنَّحْرِ وَأُمِرَ
بَنُو إِسْرَائِيل بِالذَّبْحِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي قَوْمٍ مَاشِيَتُهُمُ الإِْبِل فَسَنَّ
النَّحْرَ، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل مَاشِيَتُهُمْ الْبَقَرُ
فَأُمِرُوا بِالذَّبْحِ (3) ، وَثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ بَدَنَةً وَضَحَّى بِكَبْشَيْنِ
أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ (4) .
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ نَحْرَ الإِْبِل (ر: ذَبَائِح ف 11) .
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 43، وَالشَّرْح
الصَّغِير 1 / 315.
(2) سُورَة الْبَقَرَة / 67
(3) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 5 / 575 ط الرِّيَاض، وَشَرْح مُنْتَهَى
الإِْرَادَاتِ 3 / 419، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 285، وَعَقْد
الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 1 / 588، ط دَار الْعَرَبِ الإِْسْلاَمِيّ.
(4) حَدِيث: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْر
بَدَنَة وَضُحًى بِكَبْشَيْنِ شَطْر مِنْ حَدِيثٍ فِي الْحَجّ أَنَّهُ
لَمَّا دَخَل مَكَّة أَمْرهمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحْر النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْع بَ (فَتْح الْبَارِي 3 / 554 ط
السَّلَفِيَّة) . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ (الْفَتْح 10 /
9) أَنَّهُ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ
فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.
(40/121)
ب - ذَبْحُ مَا يُنْحَرُ أَوْ نَحْرُ مَا
يُذْبَحُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ ذُبِحَ مَا يُنْحَرُ أَوْ نُحِرَ مَا
يُذْبَحُ حَل الْمَذْبُوحُ لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ عَنْ آل
مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً وَاحِدَةً (1) ، وَلأَِنَّهُ
ذَكَاةٌ فِي مَحَل الذَّكَاةِ فَجَازَ أَكْلُهُ كَالْحَيَوَانِ الآْخَرِ
(2) ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْرِرِ
الدَّمَ بِمَا شِئْتَ (3) ، وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ
(4) .
__________
(1) حَدِيث عَائِشَة: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَحْر عَنْ آل مُحَمَّد فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَة. . . ".
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 361 ط حِمْص) وَابْن مَاجَّة (2 / 1047 ط
عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَذَكَره ابْن حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (3 551 - ط
السَّلَفِيَّة) ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَقُوَاهُ بِهِ.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 41، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 288،
وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 541، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 11 / 47
- 48.
(3) حَدِيث: " أُمَرِّرُ الدَّمَ بِمَا شِئْت ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد
(3 / 250 ط حِمْص) وَالنَّسَائِيّ (7 / 225 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى)
وَالْحَاكِم (4 / 240 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) مِنْ حَدِيثِ عُدَيّ بْن
حَاتِم وَقَال الْحَاكِم: صَحِيحٌ عَلَى شَرْط مُسْلِم.
(4) قَوْل أَسْمَاء: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 9 / 640 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1541 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) .
(40/121)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ذُبِحَ مَا
يُنْحَرُ أَوْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ لِلضَّرُورَةِ، لأَِنَّهُ وَقَعَ فِي
مِهْوَاةٍ، أَوْ مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ وَحَل أَكْلُهَا،
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ لَمْ تُؤْكَل (1) .
ج - أَيَّامُ النَّحْرِ:
5 - أَيَّامُ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ هِيَ
يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَلَيْسَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ
أَيَّامِ الذَّبْحِ، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ بِمِنًى فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَيَّامِ الذَّبْحِ فَإِنْ نَحَرَ الْهَدَايَا لَيْلاً يُعِيدُهَا
لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَهُ لَيْلَةَ النَّحْرِ
(2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيَّامُ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ هِيَ يَوْمُ
النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثَةُ، لِحَدِيثِ: كُل أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ (3) .
(ر: أَيَّام التَّشْرِيقِ ف: 4) .
__________
(1) الْمُنْتَقَى شَرْح الْمُوَطَّأ 3 / 107، وَعَقْد الْجَوَاهِر
الثَّمِينَة 1 / 589، وَالْمُدَوَّنَة 2 / 65، وَالْمُقَدَّمَات لاِبْن
رُشْد 1 / 324.
(2) الْمُدَوَّنَة 2 / 73، وَالْمُقْنِع 3 / 535، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ
8 / 106.
(3) حَدِيث: " كُلّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْح ". أَخْرَجَهُ أَحْمَد (4
/ 82 ط الميمنية) وَقَال الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (4 / 25 ط
الْقُدْسِيّ) : رَوَاهُ أَحْمَد والطبراني فِي الأَْوْسَطِ، وَرِجَال
أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ ثِقَات.
(40/122)
د - شَرَائِطُ النَّحْرِ:
6 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ النَّحْرِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ
(ذَبَائِح ف 11، 16، 21 وَمَا بَعْدَهَا) .
هـ - مُسْتَحَبَّاتُ النَّحْرِ:
7 - يُسْتَحَبُّ فِي النَّحْرِ أَنْ تَكُونَ الإِْبِل قَائِمَةً عَلَى
ثَلاَثٍ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَإِنْ أَضْجَعَهَا جَازَ،
وَالأَْوَّل أَفْضَل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُوَجِّهُ النَّاحِرُ مَا يُرِيدُ نَحْرَهُ إِلَى
الْقِبْلَةِ وَيَقِفُ بِجَانِبِ الرِّجْل الْيُمْنَى غَيْرِ الْمَعْقُولَةِ
مُمْسِكًا مِشْفَرَهُ الأَْعْلَى بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيَطْعَنُهُ فِي
لَبَّتِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى مُسَمِّيًا (1)
وَمِمَّا يَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِ إِقَامَةِ الإِْبِل عَلَى ثَلاَثٍ
عِنْدَ النَّحْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
صَوَافَّ (2) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "
مَعْقُولَةً عَلَى ثَلاَثَةٍ " (3) ، وَأَحَادِيثُ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 41، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 111،
وَالْمُقْنِعِ 1 / 470 ط السَّلَفِيَّة، وَالْمُغْنِي 8 / 586، وَأَسْنَى
الْمَطَالِب 1 / 540، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 7، وَالشَّرْح
الصَّغِير 1 / 319. .
(2) سُورَة الْحَجّ / 36
(3) أَثَر ابْن عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السِّنِّ
الْكُبْرَى (5 / 237 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) .
(40/122)
مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ
مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا (1)
.
نِحْلَةٌ
انْظُرْ: هِبَةٌ
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابه كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَة مَعْقُولَة. . " أَخْرَجَهُ
أَبُو دَاوُد (2 / 371 ط حَمَّصَ) وَذَكَرَهُ ابْنُ حَجْرِ
الْعَسْقَلاَنِيِّ فِي فَتْحِ الْبَارِي (3 / 353 ط السَّلَفِيَّة)
وَسَكَتَ عَنْهُ.
(40/123)
نُخَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّخَاعُ لُغَةً عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي دَاخِل الْعُنُقِ يَنْقَادُ فِي
فَقَارِ الصُّلْبِ حَتَّى يَبْلُغَ عَجْبَ الذَّنَبِ (1) وَضَمُّ النُّونِ
لُغَةُ قَوْمٍ مِنَ الْحِجَازِ وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَكْسِرُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُخُّ:
2 - الْمُخُّ لُغَةً يَعْنِي الْعَظْمُ وَالدِّمَاغُ وَشَحْمَةُ الْعَيْنِ
وَفَرَسٌ وَخَالِصُ كُل شَيْءٍ، وَفِي التَّهْذِيبِ نَقِيُّ عِظَامِ
الْقَصَبِ. (4) .
وَفِي الْمِصْبَاحِ: هُوَ الْوَدَكُ الَّذِي فِي الْعَظْمِ.
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ.
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَانْظُرِ الْقَامُوسَ الْمُحِيطَ.
(3) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 288 ط الأَْمِيرِيَّة، وَفَتْح
الْبَارِي 9 / 641 ط السَّلَفِيَّة.
(4) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(40/123)
وَقَدْ يُسَمَّى الدِّمَاغُ مُخًّا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَاعِ وَالْمُخِّ، هِيَ أَنَّ الْمُخَّ أَعَمُّ
مِنَ النُّخَاعِ.
ب - الْفِقْرَةُ:
3 - الْفِقْرَةُ - بِالْكَسْرِ وَتُفْتَحُ - مَا انْتَضَدَ مِنْ عِظَامِ
الصُّلْبِ مِنْ لَدُنِ الْكَاهِل إِلَى الْعَجْبِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَاعِ وَالْفِقْرَةِ أَنَّ الْفِقْرَةَ هِيَ
وِعَاءُ النُّخَاعِ وَحَافِظَتُهُ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّخَاعِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنُّخَاعِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ وَمِنْهَا:
أَوَّلاً: فِي الذَّبَائِحِ:
4 - وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ النَّخْعِ فِي الذَّبْحِ (3) وَذَلِكَ فِي
حَدِيثِ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
تُنْخَعَ الشَّاةُ إِذَا ذُبِحَتْ (4) وَالنَّخْعُ هُوَ بُلُوغُ
السِّكِّينِ فِي
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) عُمْدَة الْقَارِئ 21 / 122 - ط المنيرية
(4) حَدِيث: " نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ تَنْخَعَ الشَّاه إِذَا ذُبِحَتْ ". وَرَدَ بِلَفْظ: " نَهَى رَسُول
اللَّهِ عَلَى عَنِ الذَّبِيحَةِ أَنَّ تَفَرُّس قَبْل أَنْ تَمُوتَ ".
أَخْرَجَهُ ابْن عَدِيٍّ فِي الْكَامِل (4 / 13 وَالْبَيْهَقِيّ فِي
السُّنَنِ (9 / 280 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ
حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ، وَقَدْ فَسَّرَ فِي رِوَايَةِ ابْن عَدِيٍّ
بِقَوْلِهِ فِيهَا: يَعْنِي أَنَّ تَنَخُّع. وَقَال الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا
إِسْنَاد ضَعِيف.
(40/124)
الذَّبْحِ النُّخَاعَ (1) وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّخْعِ فِي الذَّبْحِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ذَبَائِح ف 36، 42) .
ثَانِيًا: فِي الشِّجَاجِ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنْوَاعِ الشِّجَاجِ مَا تَصِل بِهِ
الشَّجَّةُ إِلَى النُّخَاعِ كَالْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَبَيَّنُوا
الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لِكُلٍّ مِنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شِجَاج ف 4 - 11، دِيَات ف 66، 67،
مُنَقِّلَة، هَاشِمَة) .
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 6 / 296 ط دَار الْفِكْرِ.
(40/124)
نُخَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّخَامَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يَخْرُجُ مِنْ صَدْرِ الإِْنْسَانِ
أَوْ خَيْشُومِهِ، مِنَ الْبَلْغَمِ وَالْمَوَادِّ عِنْدَ التَّنَحْنُحِ
(1) .
وَالنُّخَاعَةُ هِيَ النُّخَامَةُ كَمَا قَال الْمُطَرِّزِيُّ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
فَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهَا الْفَضْلَةُ الْغَلِيظَةُ
تَنْزِل مِنَ الدِّمَاغِ أَوْ تَصْعَدُ مِنَ الْبَاطِنِ (2) .
وَنَقَل الْبَعْلِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَطَالِعِ أَنَّ النُّخَامَةَ مَا
يُلْقِيهِ الرَّجُل مِنَ الصَّدْرِ وَهُوَ الْبَلْغَمُ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُخَاطُ:
2 - الْمُخَاطُ: هُوَ السَّائِل مِنَ الأَْنْفِ خَاصَّةً (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ
__________
(1) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي. وَانْظُرِ الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) الْقَلْيُوبِيّ عَلَى شَرْح الْمَحَلِّيّ 2 / 55.
(3) الْمَطْلَع عَلَى أَبْوَاب الْمُقْنِع ص 148.
(4) الْمِصْبَاح الْمُنِير، لِسَان الْعَرَبِ، وَالْقَامُوس الْمُحِيط.
(40/125)
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَامَةِ وَالْمُخَاطِ هِيَ أَنَّ النُّخَامَةَ
أَعَمُّ مِنَ الْمُخَاطِ.
ب - الْقَلْسُ:
3 - الْقَلْسُ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ - مَا يَخْرُجُ مِنَ
الْحَلْقِ مِلْءَ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ وَلَيْسَ بِقَيْءٍ فَإِذَا غَلَبَ
فَهُوَ الْقَيْءُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّخَامَةِ وَالْقَلْسِ أَنَّ النُّخَامَةَ
أَعَمُّ مِنَ الْقَلْسِ مِنْ حَيْثُ مَكَانُ خُرُوجِهَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّخَامَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنُّخَامَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
النُّخَامَةُ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النُّخَامَةَ طَاهِرَةٌ
إِنْ نَزَلَتْ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ خَرَجَتْ مِنَ الصَّدْرِ أَوْ مِنْ
أَقْصَى الْحَلْقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَا صَعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ، فَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا
نَجِسَةٌ (2) .
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ، وَمُخْتَار الصِّحَاح.
(2) ابْن عَابِدِينَ 1 / 94، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 1 / 326، وَشَرحَ
الزُّرْقَانِيّ 1 / 26 وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 9 وَالشَّرْح الصَّغِير
1 / 469، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 1 / 294، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 79.
(40/125)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ،
لأَِنَّهَا تُخْلَقُ مِنَ الْبَدَنِ كَنُخَامَةِ الصَّدْرِ وَالرَّأْسِ
وَلأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ
النُّخَامَةَ - وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ - بِطَرَفِ رِدَائِهِ (1) .
وَلِهَذَا لاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِصُعُودِهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ
الْمَعِدَةِ (2) .
ابْتِلاَعُ النُّخَامَةِ فِي الصَّوْمِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ابْتِلاَعِ النُّخَامَةِ فِي
الصَّوْمِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَفَسَادِ الصَّوْمِ
بِهِ وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (مُصْطَلَحِ صَوْمٍ ف 79) .
التَّنَخُّمُ فِي الْمَسْجِدِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ إِلْقَاءُ
النُّخَامَةِ وَنَحْوِهَا فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى جُدْرَانِهِ
وَعَلَى حَصِيرِهِ، بَل يَجِبُ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنْ كُل قَذِرٍ
وَقَذَارَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجِسًا كَالنُّخَامَةِ وَنَحْوِهَا (3) .
__________
(1) حَدِيث: " أَخَذَ النُّخَامَة. . . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِي 1 / 513 - ط السَّلَفِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ دُونَ قَوْله: وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 94، الاِخْتِيَار 1 / 10، وَجَوَاهِر
الإِْكْلِيل 1 / 9، وَالشَّرْح الصَّغِير 1 / 489 والزرقاني 1 / 26،
وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 125.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 202 وَحَاشِيَة الْجُمَل 1 / 443،
وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 110، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 3 / 393.
(40/126)
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ
وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا (1) .
وَكَتْبُ الْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِ الْبُصَاقِ يَدُل دَلاَلَةً وَاضِحَةً
عَلَى أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنَّهَا تَزُول بِالدَّفْنِ وَتَبْقَى
بِعَدَمِهِ (2) .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَائِطِهِ وَجَبَ إِزَالَتُهَا وَتَطْيِيبُ
مَوْضِعِهَا لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ (3) .
وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى
نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَل حَصَاةً فَحَكَّهَا فَقَال:
إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ قِبَل وَجْهِهِ وَلاَ
عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
الْيُسْرَى (4) وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنِ اضْطُرَّ
إِلَى إِلْقَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ كَانَ إِلْقَاؤُهَا فَوْقَ الْحَصِيرِ
أَهْوَنَ مِنْ إِلْقَائِهَا تَحْتَهُ لأَِنَّ الْحَصِيرَ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ
حَقِيقَةً.
__________
(1) حَدِيث: " الْبُزَاق فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَة وَكَفَّارَتهَا دَفْنهَا
". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 511 - ط السَّلَفِيَّة)
وَمُسْلِم (1 / 390 ط - ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة وَنِيل الأَْوْطَار 2 / 357.
(3) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 3 / 393، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 202.
(4) حَدِيث: " رَأَى نُخَامَة فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ. . . . . ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 509 - ط السَّلَفِيَّة)
وَمُسْلِم (1 / 389 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالسِّيَاقُ
لِلْبُخَارِيِّ.
(40/126)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَصِيرٌ فِيهِ
يَدْفِنُهُ فِي التُّرَابِ وَلاَ يَتْرُكُهُ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَصْقَ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ
مَعَ حَكِّهِ. وَعَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ قَال:
إِنْ كَانَ مُحْصِبًا فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبْصُقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَنْ
يَسَارِهِ، وَتَحْتَ قَدَمِهِ وَيَدْفِنُهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ
عَلَى دَفْنِهِ فَلاَ يَبْصُقُ فِي الْمَسْجِدِ بِحَالٍ: سَوَاءٌ كَانَ
مَعَ نَاسٍ أَوْ وَحْدَهُ (2) .
نَخِيلٌ
انْظُرْ: زَكَاة
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 110، وَانْظُرْ مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 /
202.
(2) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 203.
(40/127)
نَدْبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّدْبُ بِفَتْحِ النُّونِ مَصْدَرٌ لِفِعْل نَدَبَ وَهُوَ فِي
اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ إِلَى الْفِعْل: وَمِنْهُ نَدْبُ الْمَيِّتِ،
بِمَعْنَى: تَعْدِيدُ مَحَاسِنِهِ (1) .
وَالنَّدْبُ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: هُوَ
مَأْمُورٌ لاَ يَلْحَقُ بِتَرْكِهِ ذَمٌّ مِنْ حَيْثُ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ
حَاجَةٍ إِلَى بَدَلٍ، وَقِيل: هُوَ مَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ، وَلاَ
عِقَابَ فِي تَرْكِهِ (2) .
وَقِيل هُوَ: خِطَابٌ بِطَلَبِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ يَنْتَهِضُ فِعْلُهُ
سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَيُسَمَّى مَنْدُوبًا (3) .
2 - وَعَلَى هَذَا: فَالْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالتَّطَوُّعُ
وَالنَّفْل وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ: أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَهُوَ مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَسُمِّيَ مَنْدُوبًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ نَدَبَ إِلَيْهِ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) رَوْضَة النَّاظِر 1 / 112، 131 وَبِهَامِشِهِ نُزْهَة الْخَاطِر ط
مَكْتَبَة الْمَعَارِفِ بِالرِّيَاضِ.
(3) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(40/127)
وَبَيَّنَ ثَوَابَهُ وَفَضِيلَتَهُ، مِنْ
نَدَبَ الْمَيِّتَ: عَدَّدَ مَحَاسِنَهُ.
وَسُمِّيَ مُسْتَحَبًّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ يُحِبُّهُ
وَيُؤْثِرُهُ.
وَسُمِّيَ نَفْلاً مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْفَرْضِ وَيَزِيدُ
بِهِ الثَّوَابُ.
وَسُمِّيَ تَطَوُّعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَاعِلَهُ يَفْعَلُهُ تَبَرُّعًا
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْمَرَ حَتْمًا (1) .
وَقِيل: النَّدْبُ أَيِ الْمَنْدُوبُ: هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْفَرْضِ
وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ (2) .
وَالتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْدُوبِ مِنْ أَحْكَامٍ:
كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ:
3 - اخْتَلَفَ الأُْصُولِيِّونَ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، لأَِنَّ
الأَْمْرَ اسْتِدْعَاءٌ وَطَلَبٌ: وَالْمَنْدُوبُ مُسْتَدْعًى وَمَطْلُوبٌ،
فَيَدْخُل فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ.
وَقَال قَوْمٌ: الْمَنْدُوبُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الأَْمْرِ، وَقَالُوا:
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال:
__________
(1) ابْن عَابِدِينَ 1 / 84، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي، وَشَرْح
الْمَنْهَجِ وَحَاشِيَته لِلشَّيْخِ سُلَيْمَان الْجُمَل 1 / 478،
وَتُحْفَة الْمِنْهَاج لاِبْنِ حَجَر الهيثمي 2 / 219.
(2) قَوَاعِد الْفِقْهِ، وَابْن عَابِدِينَ 1 / 70.
(40/128)
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
، وَالْمَنْدُوبُ لاَ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
نَدْبُ الْمَيِّتِ:
4 - يَحْرُمُ نَدْبُ الْمَيِّتِ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ، وَهِيَ: مَا
اتَّصَفَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنَ الطَّبَائِعِ الْحَسَنَةِ، كَقَوْلِهِمْ:
وَاكَهْفَاهُ، وَاجَبَلاَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) ، لِحَدِيثِ: مَا مِنْ
مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُول: وَاجَبَلاَهُ!
وَاسَيِّدَاهُ! أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، إِلاَّ وُكِل بِهِ مَلَكَانِ
يَلْهَزَانِهِ: أَهَكَذَا كُنْتَ؟ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (نِيَاحَةٌ) .
40
__________
(1) سُورَة النُّور / 63
(2) نُزْهَة الْخَاطِر 1 / 114 - 115، وَالْمُسْتَصْفَى 1 / 75.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 1 / 356، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 3 / 139،
وَكَشَّاف الْقِنَاع 2 / 163.
(4) حَدِيث: " مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُول:
وَاجْبُلاَهُ! وَاسَيِّدَاه. . . . ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 318 ط
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ. وَقَال: حَسَن
غَرِيب.
(40/128)
نَدْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّدْرَةُ فِي اللُّغَةِ: نَدَرَ الشَّيْءُ نُدُورًا - مِنْ بَابِ
قَعَدَ - سَقَطَ أَوْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَذَّ، وَمِنْهُ: نَادِرُ
الْجَبَل، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَيَبْرُزُ، وَنَدَرَ فُلاَنٌ مِنْ
قَوْمِهِ: خَرَجَ، وَنَدَرَ الْعَظْمُ مِنْ مَوْضِعِهِ: زَال، وَالاِسْمُ:
النَّدْرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ، وَالضَّمُّ لُغَةٌ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ
إِلاَّ نَادِرًا.
وَالنَّدْرَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُوجَدُ فِي
الْمَعْدِنِ، وَنَدَرَ فُلاَنٌ فِي عِلْمٍ وَفَضْلٍ: تَقَدَّمَ وَقَل
وُجُودُ نَظِيرِهِ، وَنَدَرَ الْكَلاَمُ نَدَارَةً - بِالْفَتْحِ - فَصُحَ
وَجَادَ.
وَأَنْدَرَ: أَتَى بِنَادِرٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: النَّادِرُ مَا قَل وُجُودُهُ وَإِنْ لَمْ
يُخَالِفِ الْقِيَاسَ، فَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ شَاذٌّ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُطْلَقُ النَّدْرَةُ - بِفَتْحِ النُّونِ
وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ - عَلَى الْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) التَّعْرِيفَات للجرجاني، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(40/129)
الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لاَ
تَحْتَاجُ لِتَصْفِيَةٍ، وَهَذَا تَفْسِيرُ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَالِبُ:
2 - الْغَالِبُ لُغَةً اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغَلَبَةِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ:
الْقَهْرُ، يُقَال: غَلَبَهُ: إِذَا قَهَرَهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ:
الْكَثْرَةُ أَيْضًا، يُقَال: غَلَبَ عَلَى فُلاَنٍ الْكَلاَمُ، أَيْ هُوَ
أَكْثَرُ خِصَالِهِ (2) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَيَيْنِ.
مَعْنَى الْقَهْرِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنِ اشْتَرَى مِنَ الْمَغْنَمِ
فِي بِلاَدِ الرُّومِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ (3) .
وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ، قَال الْمَوَّاقُ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تُخْرَجُ مِنْ غَالَبِ عَيْشِ الْبَلَدِ
(4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّدْرَةِ وَالْغَالِبِ: التَّضَادُّ.
ب - الشَّاذُّ:
3 - الشَّاذُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ شَذَّ يَشِذُّ وَيَشَذُّ شُذُوذًا: إِذَا
انْفَرَدَ عَنْ غَيْرِهِ، وَشَذَّ: نَفَرَ.
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 489.
(2) لِسَان الْعَرَبِ.
(3) الْمُغْنِي 8 / 446.
(4) التَّاج وَالإِْكْلِيل للمواق 2 / 367.
(40/129)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْجُرْجَانِيُّ:
الشَّاذُّ مَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى
قِلَّةِ وُجُودٍ وَكَثْرَتِهِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّادِرَ مَا قَل وُجُودُهُ وَإِنْ لَمْ
يُخَالِفِ الْقِيَاسَ، وَالشَّاذُّ مَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ (1)
.
أَوَّلاً: مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّدْرَةِ (بِمَعْنَى الْقِلَّةِ) مِنْ
أَحْكَامٍ:
تَقْدِيمُ النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ أَحْيَانًا:
4 - قَال الْقَرَافِيُّ: الأَْصْل اعْتِبَارُ الْغَالِبِ وَتَقْدِيمُهُ
عَلَى النَّادِرِ وَهُوَ شَأْنُ الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ كَالْقَصْرِ فِي
السَّفَرِ وَالْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْحَال وَهُوَ الْمَشَقَّةُ
وَكَمَنْعِ شَهَادَةِ الأَْعْدَاءِ وَالْخُصُومِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ
مِنْهُمُ الْحَيْفُ.
5 - وَقَدْ يُلْغِي الشَّارِعُ الْغَالِبَ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ
وَيُقَدِّمُ النَّادِرَ عَلَيْهِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أ - إِذَا
تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، جَازَ
أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ قَبْل الْعَقْدِ وَهُوَ الْغَالِبُ، أَوْ مِنْ
وَطْءٍ بَعْدَهُ وَهُوَ النَّادِرُ، فَإِنَّ غَالِبَ الأَْجِنَّةِ لاَ
تُوضَعُ إِلاَّ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَإِنَّمَا الَّذِي يُوضَعُ فِي
السِّتَّةِ سَقْطٌ فِي الْغَالِبِ، فَأَلْغَى
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالتَّعْرِيفَاتِ للجرجاني.
(40/130)
الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ، وَأَثْبَتَ
حُكْمَ النَّادِرِ، وَجَعَلَهُ مِنَ الْوَطْءِ بَعْدَ الْعَقْدِ لُطْفًا
بِالْعِبَادِ، لِحُصُول السِّتْرِ عَلَيْهِمْ وَصَوْنِ أَعْرَاضِهِمْ (1) .
ب - الْغَالِبُ عَلَى النِّعَال مُصَادَفَةُ النَّجَاسَاتِ لاَسِيَّمَا
نَعْلٌ مَشَى بِهَا سَنَةً، وَجَلَسَ بِهَا فِي مَوَاضِعِ قَضَاءِ
الْحَاجَةِ سَنَةً وَنَحْوَهَا، فَالْغَالِبُ فِيهَا النَّجَاسَةُ،
وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهَا مِنَ النَّجَاسَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَلْغَى
الشَّارِعُ حُكْمَ الْغَالِبِ وَأَثْبَتَ حُكْمَ النَّادِرِ فَجَاءَتِ
السُّنَّةُ بِالصَّلاَةِ فِي النِّعَال، كُل ذَلِكَ رَحْمَةٌ وَتَوْسِعَةٌ
عَلَى الْعِبَادِ (2) .
ج - الْحُصْرُ وَالْبُسُطُ الَّتِي قَدِ اسْوَدَّتْ مِنْ طُول مَا قَدْ
لُبِسَتْ، يَمْشِي عَلَيْهَا الْحُفَاةُ وَالصِّبْيَانُ، وَمَنْ يُصَلِّي
وَمَنْ لاَ يُصَلِّي، الْغَالِبُ مُصَادَفَتُهَا لِلنَّجَاسَةِ.
وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى عَلَى
حَصِيرٍ قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُول مَا لُبِسَ بَعْدَ نَضْحِهِ بِالْمَاءِ
(3) ،. وَالنَّضْحُ لاَ يُزِيل النَّجَاسَةَ بَل يَنْشُرُهَا، فَقَدَّمَ
الشَّرْعُ حُكْمَ النَّادِرِ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ (4) .
__________
(1) الْفُرُوق للقرافي 4 / 104.
(2) الْفُرُوق 4 / 105.
(3) حَدِيث صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
حَصِيرٍ قَدِ اسْوَدَّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 488 ط
السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 457 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ
أَنَس بْن مَالِك.
(4) الْفُرُوق 4 / 106.
(40/130)
د - فِي بَابِ الصَّلاَةِ الْغَالِبُ
مُصَادَفَةُ الْحُفَاةِ النَّجَاسَةَ وَلَوْ فِي الطُّرُقَاتِ وَمَوَاضِعِ
قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَالنَّادِرُ سَلاَمَتُهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ جَوَّزَ
الشَّرْعُ صَلاَةَ الْحَافِي كَمَا جَوَّزَ لَهُ الصَّلاَةَ بِنَعْلِهِ
مِنْ غَيْرِ غَسْل رِجْلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَمْشِي حَافِيًا وَلاَ يَعِيبُ ذَلِكَ فِي
صَلاَتِهِ، لأَِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي بِنَعْلِهِ (1) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَفَاءَ أَخَفُّ فِي
تَحَمُّل النَّجَاسَةِ مِنَ النِّعَال، فَقَدَّمَ الشَّارِعُ حُكْمَ
النَّادِرِ عَلَى الْغَالِبِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ (2) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ وَغَيْرِهَا:
وَنَظَائِرُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلِصَاحِبِ
الشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ فِي شَرْعِهِ مَا شَاءَ وَيَسْتَثْنِي مِنْ
قَوَاعِدِهِ مَا شَاءَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ فَيَنْبَغِي
لِمَنْ قَصَدَ إِثْبَاتَ حُكْمِ الْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ أَنْ يَنْظُرَ
هَل ذَلِكَ الْغَالِبُ مِمَّا أَلْغَاهُ الشَّرْعُ أَمْ لاَ وَحِينَئِذٍ
يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الْغَالِبِ كَيْفَ كَانَ فِي
جَمِيعِ صُوَرِهِ فَخِلاَفُ الإِْجْمَاعِ (3) . 50
__________
(1) حَدِيث صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِنَعْلِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 1 / 494 ط
السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 391 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ
أَنَس بْن مَالِك.
(2) الْفُرُوق 4 / 106.
(3) الْفُرُوق 4 / 107.
(40/131)
إِلْغَاءُ النَّادِرِ وَالْغَالِبِ مَعًا:
6 - قَدْ يُلْغِي الشَّارِعُ النَّادِرَ وَالْغَالِبَ مَعًا رَحْمَةً
بِالْعِبَادِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أ - شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي
الأَْمْوَال إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ جِدًّا: الْغَالِبُ صِدْقُهُمْ
وَالنَّادِرُ كَذِبُهُمْ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّرْعُ صِدْقَهُمْ وَلاَ
قَضَى بِكَذِبِهِمْ، بَل أَهْمَلَهُمْ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ وَرَحْمَةً
بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْل فَقَبِلَهُمْ
مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ.
ب - شَهَادَةُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ فِي
أَحْكَامِ الأَْبْدَانِ: الْغَالِبُ صِدْقُهُنَّ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُنَّ
لاَ سِيَّمَا مَعَ الْعَدَالَةِ، وَقَدْ أَلْغَى صَاحِبُ الشَّرْعِ
صِدْقَهُنَّ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ وَلاَ حَكَمَ بِكَذِبِهِنَّ لُطْفًا
بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) .
ج - حَلِفُ الْمُدَّعِي الطَّالِبِ وَهُوَ مِنْ أَهْل الْخَيْرِ
وَالصَّلاَحِ: الْغَالِبُ صِدْقُهُ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ، وَلَمْ يَقْضِ
الشَّارِعُ بِصِدْقِهِ فَيَحْكُمَ لَهُ بِيَمِينِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ
الْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِ لُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
د - شَهَادَةُ الْعَدْل الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الأَْبْدَانِ: الْغَالِبُ
صِدْقُهُ وَالنَّادِرُ كَذِبُهُ، وَلَمْ يَحْكُمِ الشَّرْعُ بِصِدْقِهِ
لُطْفًا بِالْعِبَادِ وَلُطْفًا بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ،وَلَمْ
يُكَذِّبْهُ.
هـ - حُكْمُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ وَهُوَ عَدْلٌ مُبَرِّزٌ
__________
(1) الْفُرُوق 4 / 109.
(40/131)
مِنْ أَهْل التَّقْوَى وَالْوَرَعِ:
الْغَالِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا حَكَمَ بِالْحَقِّ وَالنَّادِرُ خِلاَفُهُ،
وَقَدْ أَلْغَى الشَّرْعُ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِبُطْلاَنِهِ وَصِحَّتِهِ
مَعًا (1) .
إِلْحَاقُ النَّادِرِ بِالْغَالِبِ:
7 - ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ عُنْوَانَ (النَّادِرُ هَل يَلْحَقُ
بِالْغَالِبِ) وَقَسَّمَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا
يَلْحَقُ قَطْعًا، كَمَنْ خُلِقَتْ بِلاَ بَكَارَةٍ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ
الأَْبْكَارِ قَطْعًا فِي الاِسْتِئْذَانِ.
الثَّانِي: مَا لاَ يَلْحَقُ قَطْعًا كَالإِْصْبَعِ الزَّائِدَةِ لاَ
تَلْحَقُ بِالأَْصْلِيَّةِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ قَطْعًا، وَنِكَاحُ مَنْ
بِالْمَشْرِقِ مَغْرِبِيَّةً لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ.
الثَّالِثُ: مَا يَلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ كَنَقْضِ الْوُضُوءِ
بِخُرُوجِ النَّادِرِ مِنَ الْفَرْجِ.
الرَّابِعُ: مَا لاَ يَلْحَقُ بِهِ عَلَى الأَْصَحِّ كَالأَْشْيَاءِ
الَّتِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لاَ
يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الأَْصَحِّ (2) .
النَّادِرُ إِذَا لَمْ يَدُمْ يَقْتَضِي الْقَضَاءَ:
8 - مَثَّل الزَّرْكَشِيُّ لِذَلِكَ بِالْمَرْبُوطِ عَلَى خَشَبَةٍ
بِأَنَّهُ يُصَلِّي وَيُعِيدُ، وَالْمُشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي
سَفَرِهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ وَاسْتَثْنَى صُورَةَ الصَّلاَةِ فِي حَالَةِ
__________
(1) الْفُرُوق 4 / 109، 110.
(2) الْمَنْثُور فِي الْقَوَاعِدِ لِلزَّرْكَشِيّ 3 / 243، 244.
(40/132)
الْمُسَايَفَةِ (الْحَرْبِ) أَرْكَانُهَا
مُخْتَلَّةٌ وَلاَ قَضَاءَ وَهِيَ عَلَى خِلاَفِ الْقَاعِدَةِ، إِذْ هُوَ
نَادِرٌ لاَ يَدُومُ وَلاَ بَدَل فِيهِ، وَلَكِنَّهُ رُخْصَةٌ مُتَلَقَّاةٌ
(1) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا
(2)
النَّادِرُ إِذَا دَامَ يُعْطَى حُكْمَ الْغَالِبِ:
9 - مَثَّل الزَّرْكَشِيُّ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِالْمُسْتَحَاضَةِ
غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ لاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ مَعَ الْحَدَثِ، لأَِنَّهُ
وَإِنْ كَانَ نَادِرًا إِلاَّ أَنَّهُ يَدُومُ، وَيَجُوزُ الْقَصْرُ فِي
السَّفَرِ وَإِنْ لَمْ تَلْحَقِ الْمُسَافِرَ مَشَقَّةٌ، وَمِنْهُ أَثَرُ
دَمِ الْبَرَاغِيثِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لأَِنَّهُ يَدُومُ (3) .
وَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ:
إِحْدَاهَا: الشُّعُورُ الَّتِي فِي الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُهَا ظَاهِرًا
وَبَاطِنًا وَإِنْ كَثُفَتْ، وَكَثَافَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ نَادِرَةً
إِلاَّ أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ دَامَتْ، وَلَمْ يُلْحِقُوهَا بِالْغَالِبِ
حَتَّى يَكْفِيَ غَسْل الظَّاهِرِ.
الثَّانِيَةُ: فِي الاِسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ مِنَ الاِسْتِحَاضَةِ
قَوْلاَنِ، كَالْمَذْيِ لأَِنَّهَا نَادِرَةٌ، كَذَا قَال النَّوَوِيُّ،
وَاسْتَشْكَل الْخِلاَفَ لأَِنَّهَا تَدُومُ وَالنَّادِرُ إِذَا دَامَ
الْتَحَقَ بِالْغَالِبِ، وَكَانَ يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ.
__________
(1) الْمَنْثُور 3 / 244.
(2) سُورَة الْبَقَرَة / 239
(3) الْمَنْثُور 3 / 244، 245.
(40/132)
الثَّالِثَةُ: دَمُ الْبَوَاسِيرِ نَادِرٌ،
وَإِذَا وَقَعَ دَامَ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ حَتَّى
يَجُوزَ الاِسْتِنْجَاءُ مِنْهُ بِالْحَجَرِ فِي الأَْظْهَرِ.
الرَّابِعَةُ: إِذَا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ آخَرُ لِلإِْنْسَانِ وَنَقَضْنَا
بِالْخَارِجِ مِنْهُ، فَهَل يُجْزِئُ فِيهِ الْحَجَرُ؟ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا لاَ، لأَِنَّهُ نَادِرٌ، وَالاِقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ
خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ فَلاَ يَكُونُ فِي مَعْنَى السَّبِيلَيْنِ، هَذَا
مَعَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ دَامَ (1) .
النَّدْرَةُ فِي السَّلَمِ فِيمَا يُسْلَمُ فِيهِ:
10 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا نَدَرَ وُجُودُهُ
كَلَحْمِ الصَّيْدِ بِمَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ فِيهِ لاِنْتِفَاءِ
الْوُثُوقِ بِتَسْلِيمِهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ السَّلَمُ حَالًّا، وَكَانَ
الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِمَوْضِعٍ
يَنْدُرُ فِيهِ صَحَّ، قَال الرَّمْلِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَال
الشَّبْرَامَلَّسِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الصِّحَّةِ خِلاَفًا
لِصَاحِبِ الاِسْتِقْصَاءِ.
وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ كَذَلِكَ فِيمَا لَوِ اسْتَقْصَى وَصْفَهُ
الْوَاجِبَ ذِكْرُهُ فِي السَّلَمِ عَزَّ وُجُودُهُ كَاللُّؤْلُؤِ
الْكِبَارِ وَالْيَوَاقِيتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ،
لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْحَجْمِ وَالْوَزْنِ
وَالشَّكْل وَالصَّفَاءِ، وَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الأُْمُورِ نَادِرٌ.
__________
(1) الْمَرْجِع السَّابِق.
(40/133)
كَمَا لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي جَارِيَةٍ
وَلَوْ قَلَّتْ صِفَاتُهَا كَزِنْجِيَّةٍ وَأُخْتِهَا أَوْ وَلَدِهَا أَوْ
عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، أَوْ شَاةٍ وَسَخْلَتِهَا لِنُدْرَةِ
اجْتِمَاعِهِمَا مَعَ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ
السَّلَمُ فِي أَوِزَّةٍ وَأَفْرَاخِهَا أَوْ دَجَاجَةٍ كَذَلِكَ وَلَوْ
مَعَ ذِكْرِ الْعَدَدِ - خِلاَفًا لِلأَْذْرَعِيِّ - إِذْ يَعِزُّ وُجُودُ
الأُْمِّ وَأَوْلاَدِهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ
كَاللُّؤْلُؤِ الْكِبَارِ كِبَرًا خَارِجًا عَنِ الْمُعْتَادِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ
عَامَّ الْوُجُودِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ
يُوجَدُ فِي وَقْتِ حُلُولِهِ إِلاَّ نَادِرًا كَالسَّلَمِ فِي الرُّطَبِ
وَالْعِنَبِ إِلَى غَيْرِ وَقْتِهِ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ، لأَِنَّهُ لاَ
يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ غَالِبًا عِنْدَ وُجُوبِهِ (3) .
الْقِرَاضُ فِي نَادِرِ الْوُجُودِ:
11 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِرَبِّ الْقِرَاضِ أَنْ
يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِل شِرَاءَ نَوْعٍ يَنْدُرُ وُجُودُهُ كَالْخَيْل
الْبُلْقِ وَالْيَاقُوتِ الأَْحْمَرِ، وَالْخَزِّ الأَْدْكَنِ، لأَِنَّ
النَّادِرَ قَدْ لاَ يَجِدُهُ، قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ:
__________
(1) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 4 / 198، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 110.
(2) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 3 / 215.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 3 / 303.
(40/133)
أَفْهَمُ كَلاَمَ النَّوَوِيِّ أَنَّ
النَّوْعَ إِذَا لَمْ يَنْدُرُ وُجُودُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَوْ كَانَ
يَنْقَطِعُ كَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لاِنْتِفَاءِ
التَّعْيِينِ، قَال: وَكَذَا إِنْ نَدَرَ وَكَانَ بِمَكَانٍ يُوجَدُ فِيهِ
غَالِبًا، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، لَكِنْ لَوْ نَهَاهُ
أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ صَحَّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل
شِرَاءَ مَا يَتَعَذَّرُ لِقِلَّتِهِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ وَقَعَ وَفَاتَ
الْقِرَاضُ بِالْعَمَل فَإِنَّهُ يُفْسَخُ، وَفِيهِ قِرَاضُ الْمِثْل (2) .
وَأَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا شَرَطَ
رَبُّ الْمَال عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لاَ يَعُمُّ
وُجُودُهُ كَالْيَاقُوتِ الأَْحْمَرِ وَالْخَيْل الْبُلْقِ كَانَ ذَلِكَ
جَائِزًا، لأَِنَّهَا مُضَارَبَةٌ خَاصَّةٌ لاَ تَمْنَعُ الرِّبْحَ
بِالْكُلِّيَّةِ فَصَحَّتْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَتَّجِرَ إِلاَّ
فِي نَوْعٍ يَعُمُّ وُجُودُهُ، وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ
بِنَوْعٍ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهُ فِي سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا كَالْوَكَالَةِ
(3) .
النَّدْرَةُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ:
12 - اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُطَلَّقَةِ إِذَا كَانَتْ
تَعْتَدُّ بِالأَْقْرَاءِ فِي كَمْ مِنَ الأَْيَّامِ تُصَدَّقُ إِذَا
أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ
تُصَدَّقُ فِي
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 311، 312.
(2) الشَّرْح الصَّغِير 3 / 688.
(3) الْمُغْنِي 5 / 68، 69.
(40/134)
أَقَل مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا، وَقَال أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُصَدَّقُ فِي تِسْعَةٍ وَثَلاَثِينَ يَوْمًا،
وَتَخْرِيجُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَل كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي
آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيْضِ، وَحَيْضُهَا أَقَل الْحَيْضِ
ثَلاَثَةً، وَطُهْرُهَا أَقَل الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَثَلاَثُ
مَرَّاتٍ ثَلاَثَةٌ يَكُونُ تِسْعَةً، وَطُهْرَانِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ ثَلاَثِينَ، فَلِهَذَا صَدَقَتْ فِي تِسْعَةٍ
وَثَلاَثِينَ يَوْمًا، لأَِنَّهَا أَمِينَةٌ، فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِمَا
هُوَ مُحْتَمَلٌ يَجِبُ قَبُول خَبَرِهَا.
لَكِنِ السَّرَخْسِيُّ قَال: لاَ مَعْنَى لِمَا قَال أَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ، لأَِنَّهُ لاَ احْتِمَال لِتَصْدِيقِهَا فِي تِلْكَ
الْمُدَّةِ إِلاَّ بَعْدَ أُمُورٍ كُلُّهَا نَادِرَةٌ، مِنْهَا: أَنْ
يَكُونَ الإِْيقَاعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطُّهْرِ،
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا أَقَل مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَمِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ طُهْرُهَا أَقَل مُدَّةِ الطُّهْرِ، وَمِنْهَا أَنْ لاَ
تُؤَخِّرَ الإِْخْبَارَ عَنْ سَاعَةِ الاِنْقِضَاءِ.
وَالأَْمِينُ إِذَا أَخْبَرَ بِمَا لاَ يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ إِلاَّ
بِأُمُورٍ هِيَ نَادِرَةٌ لاَ يُصَدَّقُ، كَالْوَصِيِّ إِذَا قَال
أَنْفَقْتُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي يَوْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ لاَ يُصَدَّقُ،
وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَفَقَةً فَتُسْرَقَ
ثُمَّ مِثْلَهَا فَتُحْرَقَ ثُمَّ مِثْلَهَا فَتُتْلَفَ، فَلاَ يُصَدَّقُ
لِكَوْنِ هَذِهِ الأُْمُورِ نَادِرَةً فَكَذَلِكَ هُنَا (1) .
__________
(1) الْمَبْسُوط لِلسَّرَخْسِيِّ 3 / 217، 218.
(40/134)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ
الْمَرْأَةُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ يَنْدُرُ انْقِضَاؤُهَا
فِيهَا كَالشَّهْرِ لِجَوَازِ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوَّل لَيْلَةٍ مِنَ
الشَّهْرِ وَهِيَ طَاهِرٌ، فَيَأْتِيهَا الْحَيْضُ وَيَنْقَطِعُ قَبْل
الْفَجْرِ، ثُمَّ يَأْتِيهَا لَيْلَةَ السَّادِسَ عَشَرَ وَيَنْقَطِعُ
قَبْل الْفَجْرِ أَيْضًا، ثُمَّ يَأْتِيهَا آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ
بَعْدَ الْغُرُوبِ، لأَِنَّ الْعِبْرَةَ بِالطُّهْرِ فِي الأَْيَّامِ فَفِي
هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ بُدَّ مِنْ سُؤَال النِّسَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ
شَهِدْنَ لَهَا بِذَلِكَ، أَيْ شَهِدْنَ أَنَّ النِّسَاءَ يَحِضْنَ لِمِثْل
هَذَا، فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْهُ.
أَمَّا إِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ لاَ يُمْكِنُ
انْقِضَاؤُهَا فِيهَا لاَ غَالِبًا وَلاَ نَادِرًا فَلاَ تُصَدَّقُ، وَلاَ
يُسْأَل النِّسَاءُ فِي ذَلِكَ (1) .
ثَانِيًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّدْرَةِ (بِمَعْنَى الْمَعْدِنِ) مِنْ
أَحْكَامٍ:
13 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى وَاجِدِ النَّدْرَةِ الْخُمْسُ
كَالرِّكَازِ، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاجِدُهَا حُرًّا أَمْ عَبْدًا، وَسَوَاءٌ
أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَبِيًّا أَمْ
بَالِغًا، وَسَوَاءٌ بَلَغَتْ نِصَابًا أَمْ لاَ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ
الْقَاسِمِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَيَكُونُ مَصْرِفُهُ مَصَالِحَ
الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يَخْتَصُّ بِالأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يَعْتَبِرُهَا مِنَ الرِّكَازِ، لأَِنَّ
الرِّكَازَ عِنْدَهُ: مَا وُجِدَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَيْهِ 2 / 422، 423.
(40/135)
فِضَّةٍ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ مُخَلَّصًا،
سَوَاءٌ دُفِنَ فِيهَا أَوْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الدَّفْنِ.
وَعِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ رُبْعَ الْعُشْرِ لأَِنَّ
ابْنَ نَافِعٍ يَعْتَبِرُهَا مِنَ الْمَعْدِنِ، لأَِنَّ الرِّكَازَ عِنْدَ
ابْنِ نَافِعٍ مُخْتَصٌّ بِمَا دَفَنَهُ آدَمِيٌّ، وَيَكُونُ مَصْرِفُهَا
مَصْرِفَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الأَْصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ.
وَقَال ابْنُ سُحْنُونٍ: إِنْ قَلَّتِ النَّدْرَةُ عَنِ النِّصَابِ فَلاَ
تُخَمَّسُ.
وَالنَّدْرَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ
تَدْخُل فِي الْمَعْدِنِ أَوِ الرِّكَازِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهِ فِي مُصْطَلَحَيْ (رِكَازٍ ف 10،
مَعْدِنٍ ف 6) .
نَدَمٌ
انْظُرْ: تَوْبَةٌ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَيْهِ 1 / 489، 490.
(40/135)
نَذْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّذْرُ لُغَةً: هُوَ النَّحْبُ، وَهُوَ مَا يَنْذِرُهُ الإِْنْسَانُ
فَيَجْعَلُهُ عَلَى نَفْسِهِ نَحْبًا وَاجِبًا، يُقَال: نَذَرَ عَلَى
نَفْسِهِ لِلَّهِ كَذَا، يَنْذِرُ، وَيَنْذُرُ، نَذْرًا وَنُذُورًا، كَمَا
يُقَال: أُنْذِرُ وَأَنْذِرُ نَذْرًا، إِذَا أَوْجَبْتَ عَلَى نَفْسِكَ
شَيْئًا تَبَرُّعًا، مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1)
.
وَالنَّذْرُ اصْطِلاَحًا: إِلْزَامٌ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ نَفْسَهُ لِلَّهِ
تَعَالَى بِالْقَوْل شَيْئًا غَيْرَ لاَزِمٍ عَلَيْهِ بِأَصْل الشَّرْعِ
(2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَرْضُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الإِْيجَابُ، يُقَال: فَرَضَ
الأَْمْرَ: أَوْجَبَهُ، وَفَرَضَ عَلَيْهِ:
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع عَنْ مَتْن الإِْقْنَاع 6 / 273، وَالشَّرْح
الصَّغِير 2 / 249، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 354، وَالاِخْتِيَار 4 / 76
- 77، وَالْبَدَائِع 5 / 82.
(40/136)
كَتَبَهُ عَلَيْهِ (1) . وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: مَا يُثَابُ الشَّخْصُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى
تَرْكِهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْفَرْضِ: أَنَّ النَّذْرَ أَوْجَبَهُ
الشَّخْصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْفَرْضُ وَجَبَ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ.
ب - التَّطَوُّعُ:
3 - التَّطَوُّعُ فِي اللُّغَةِ: التَّبَرُّعُ، يُقَال تَطَوَّعَ
بِالشَّيْءِ تَبَرَّعَ بِهِ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ طَاعَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالنَّذْرِ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ
الْتِزَامٌ بِالْفِعْل، بِخِلاَفِ التَّطَوُّعِ فَلاَ الْتِزَامَ فِيهِ.
ج - الْيَمِينُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ: الْحَلِفُ. لأَِنَّهُمْ
كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا ضَرَبَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينَهُ عَلَى
يَمِينِ صَاحِبِهِ (5) .
وَالْيَمِينُ اصْطِلاَحًا: تَحْقِيقُ أَمْرٍ غَيْرِ ثَابِتٍ، مَاضِيًا
كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلاً، نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، مُمْكِنًا أَوْ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 1 / 102، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 /
83.
(3) الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(4) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 411.
(5) الْمِصْبَاح الْمُنِير.
(40/136)
مُمْتَنِعًا، مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَال
أَوِ الْجَهْل بِهِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ النَّذْرِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ النَّذْرِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِمَا كَانَ طَاعَةً مِنْهُ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَبِآيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (3) وَمِنْهَا مَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ
الأَْبْرَارِ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيرًا (4) .
وَمَا قَالَهُ جَل شَأْنُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 320.
(2) الْهِدَايَة وَفَتْح الْقَدِير وَالْعِنَايَة 4 / 26 - 27، وَرَدّ
الْمُحْتَارِ 3 / 66 - 67 وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2883، 2888،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج ووالإكليل 3 / 318، وَكِفَايَة الطَّالِب
الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِي عَلَيْهِ 3 / 55، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 3 / 300 - 301، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، 221 - 222،
وَالْمُغْنِي 9 / 1 - 2، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.
(3) سُورَة الْحَجّ / 29
(4) سُورَة الإِْنْسَانِ / 7
(40/137)
وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (1)
وَأَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَبِأَحَادِيثَ مِنْهَا
مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (2) وَمَا
وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ
يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ تَرَى؟ قَال: اذْهَبْ
فَاعْتَكِفْ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَال لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ
(3) .
وَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَيْرُ أُمَّتِي
قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ
إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ
وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ
__________
(1) سُورَة التَّوْبَة / 75 - 77
(2) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ. . "
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 11 / 581 ط السَّلَفِيَّة) .
(3) حَدِيث: " إِنِّي نَذَرْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ. . ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 284 ط السَّلَفِيَّة)
وَمُسْلِم (3 / 1277 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَالرِّوَايَة الأُْولَى
لِمُسْلِم وَالثَّانِيَة لِلْبُخَارِيِّ.
(40/137)
السِّمَنُ (1) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ (الْحَفِيدُ) اتِّفَاقَ
الْفُقَهَاءِ عَلَى لُزُومِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْقُرَبِ، وَقَال
ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ (2) .
حُكْمُ النَّذْرِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ النَّذْرِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى
اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ النَّذْرَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِنْ
كَانَ لِبَعْضِهِمْ تَفْصِيلٌ فِي نَوْعِ النَّذْرِ الَّذِي يُوصَفُ
بِذَلِكَ.
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ مَشْرُوعَةٌ،
وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِقُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ - وَهُوَ
الَّذِي يُوجِبُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا
كَانَ وَمَضَى - مُسْتَحَبٌّ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
إِلَى أَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ.
وَقَال ابْنُ الرِّفْعَةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي نَذْرِ
__________
(1) حَدِيث: " خَيْر أُمَّتِي قَرْنِيّ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. . .
". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 7 / 3 ط السَّلَفِيَّة) .
(2) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422، وَالْمُغْنِي 9 / 1.
(40/138)
التَّبَرُّرِ دُونَ غَيْرِهِ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْمَعْقُول. أَمَّا الْكِتَابُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ
الأَْبْرَارِ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيرًا (2) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ
أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ
يَعْصِهِ (4)
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ يُتَوَسَّل بِهِ إِلَى
الْقُرَبِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا، وَلِلْوَسَائِل حُكْمُ الْمَقَاصِدِ، فَيَكُونُ
النَّذْرُ قُرْبَةً (5) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى بِنَوْعٍ مِنَ الْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ الَّتِي لَهُ
رُخْصَةُ تَرْكِهَا، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ
الْحَمِيدَةِ، وَهِيَ نَيْل الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالسَّعَادَةِ
الْعُظْمَى فِي
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 3 / 66،
وَالْمُقْدِمَاتِ الْمُمَهِّدَاتِ 1 / 404، 405، وَمَوَاهِب الْجَلِيل
وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل عَلَى مُخْتَصَرِ سَيِّدِي خَلِيل 3 / 319، وَزَاد
الْمُحْتَاجِ بِشَرْحِ الْمِنْهَاجِ 4 / 490، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 /
354.
(2) سُورَة الإِْنْسَانِ / 7
(3) سُورَة الْحَجّ / 29
(4) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ. . . "
سَبَقَ تَخْرِيجَهُ (ف 5) .
(5) زَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 491.
(40/138)
دَارِ الْكَرَامَةِ، وَطَبْعُهُ لاَ
يُطَاوِعُهُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، بَل يَمْنَعُهُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ
الْمَضَرَّةِ الْحَاضِرَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، وَلاَ ضَرُورَةَ فِي
التَّرْكِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُخْرِجُهُ عَنْ رُخْصَةِ
التَّرْكِ، وَيُلْحِقُهُ بِالْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ وَذَلِكَ يَحْصُل
بِالنَّذْرِ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّحْصِيل خَوْفًا مِنْ
مَضَرَّةِ التَّرْكِ، فَيَحْصُل مَقْصُودُهُ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ النَّذْرَ مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي
الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي
نَوْعِ النَّذْرِ الَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ.
إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي النَّذْرِ الْمُكَرَّرِ، وَهُوَ
الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَى النَّاذِرِ فِعْلُهُ كَصَوْمِ كُل خَمِيسٍ،
فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ عَلَى النَّاذِرِ فِي أَوْقَاتٍ
قَدْ يَثْقُل عَلَيْهِ فِعْلُهُ فِيهَا، فَيَفْعَلُهُ بِالتَّكْلِيفِ مِنْ
غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ وَخَالِصِ نِيَّةٍ.
وَهُوَ قَوْل الْبَاجِيِّ وَابْنِ شَاسٍ فِي النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ،
لأَِنَّهُ لَمْ تَتَمَحَّضْ فِيهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى، بَل سَلَكَ النَّاذِرُ فِيهِ سَبِيل الْمُعَاوَضَاتِ وَأَبَاحَهُ
ابْنُ رُشْدٍ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ النَّذْرَ مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ
مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ أَنَّ النَّذْرَ يُوجِبُ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2883.
(40/139)
حُصُول غَرَضٍ عَاجِلٍ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَفْعَل ذَلِكَ الْغَرَضَ لأَِجْل النَّذْرِ، فَإِقْدَامُ مَنِ
اعْتَقَدَ ذَلِكَ عَلَى النَّذْرِ مُحَرَّمٌ. وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ فِي
حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ.
وَنَقَل الْقَوْل بِكَرَاهَةِ النَّذْرِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ،
وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الرَّمْلِيُّ
مِنْ فُقَهَائِهِمْ: الأَْصَحُّ اخْتِصَاصُ الْكَرَاهَةِ بِنَذْرِ
اللَّجَاجِ (1) لأَِنَّهُ لاَ يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ
بِهِ مِنَ الْبَخِيل، بِخِلاَفِ نَذْرِ التَّبَرُّرِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ
إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ قُرْبَةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَى طَاعَةٍ، وَالْوَسَائِل
تَأْخُذُ حُكْمَ الْغَايَاتِ، وَلأَِنَّ النَّاذِرَ يُثَابُ عَلَى نَذْرِهِ
ثَوَابَ الْوَاجِبِ.
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النَّذْرَ
مَكْرُوهٌ. قَال الْبُهُوتِيُّ: النَّذْرُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ
مَكْرُوهٌ وَلَوْ عِبَادَةً. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ
مُبَاحٌ (2) .
__________
(1) نَذْر اللَّجَاجِ هُوَ: أَنْ يَمْنَعَ النَّاذِر نَفْسه مِنْ فِعْلٍ
أَوْ يَحُثَّهَا عَلَيْهِ بِتَعْلِيقِ الْتِزَامِ قُرْبَة بِالْفِعْل أَوِ
التَّرْكِ، وَيُقَال فِيهِ: يَمِين اللَّجَاج وَالْغَضَب، وَيَمِين
الْغَلْق، وَنَذَرَ الْغَلْق (رَوْضَة الطَّال وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 /
219) .
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404 - 405، وَمَوَاهِب الْجَلِيل
وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 319 - 320، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى
مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 93 - 94، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 218، وَزَاد
الْمُحْتَاجِ 4 / 490 - 491، وَالْمُغْنِي 9 / 1 وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 /
273، وَالإِْنْصَاف 11 / 117.
(40/139)
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ
بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ، وَقَال: إِنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا،
وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيل (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْهُ: نَهْيُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى
حَقِيقَتِهِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ
لِي هُوَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ أَنَّ
النَّذْرَ يُوجِبُ حُصُول غَرَضٍ مُعَجَّلٍ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَل
ذَلِكَ الْغَرَضَ لأَِجْل النَّذْرِ فَيَكُونُ الإِْقْدَامُ عَلَى
النَّذْرِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مُحَرَّمًا. وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ فِي
حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ (2) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا
لَفَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ، وَعَدَمُ فِعْلِهِمْ
لَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ (3) .
__________
(1) حَدِيث: " نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ النَّذْرِ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 11 / 499
ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1261 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ
لِلْبُخَارِيِّ.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 319 - 320، وَالْمُغْنِي 9 / 1، وَكَشَّاف
الْقِنَاع 6 / 273.
(3) الْمُغْنِي 9 / 1، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.
(40/140)
صِيغَةُ النَّذْرِ:
7 - اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ فِي صِيغَةِ النَّذْرِ أَنْ تَكُونَ
بِاللَّفْظِ مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ التَّعْبِيرُ بِهِ، وَأَنْ
يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرًا بِالاِلْتِزَامِ بِالْمَنْذُورِ،
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ فِي النَّذْرِ هُوَ اللَّفْظُ، إِذْ
هُوَ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ النَّاقِل لِذَلِكَ الْمَنْدُوبِ الْمَنْذُورِ
إِلَى الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ، فَلاَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ النِّيَّةُ
وَحْدَهَا بِدُونِهِ.
وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ الْكِتَابَةُ الْمَقْرُونَةُ بِنِيَّةِ
النَّذْرِ، أَوْ بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ الدَّالَّةِ أَوِ
الْمُشْعِرَةِ بِالْتِزَامِ كَيْفِيَّةِ الْعُقُودِ (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ فَصَرَّحَ فِي
صِيغَتِهِ اللَّفْظِيَّةِ أَوِ الْكِتَابِيَّةِ بِلَفْظِ (النَّذْرِ)
أَنَّهُ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَيَلْزَمُهُ مَا
نَذَرَ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي صِيغَةِ النَّذْرِ إِذَا خَلَتْ مِنْ
لَفْظِ (النَّذْرِ) كَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، وَلَمْ يَقُل
نَذْرًا، وَعَمَّا إِذَا كَانَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ
وَيَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ أَمْ لاَ؟ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ
الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ وَيَلْزَمُ
النَّاذِرَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي صِيغَتِهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ، إِذَا
أَتَى بِصِيغَةٍ تُفِيدُ الْتِزَامَهُ بِذَلِكَ، رُوِيَ
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 66، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 317، وَبِدَايَة
الْمُجْتَهِدِ 1 / 422، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 3 / 293، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.
(40/140)
هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا إِذْ قَال فِي رَجُلٍ قَال: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْكَعْبَةِ
لِلَّهِ. هَذَا نَذَرَ فَلْيَمْشِ، وَقَال بِمِثْل قَوْلِهِ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
التَّيْمِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ (1) .
وَقَال أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ: إِنَّ عَدَمَ ذِكْرِ لَفْظِ
النَّذْرِ فِي الصِّيغَةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي لُزُومِ النَّذْرِ إِذَا كَانَ
الْمَقْصُودُ بِالأَْقَاوِيل الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ النَّذْرِ
النَّذْرَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِلَفْظِ النَّذْرِ (2) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ مَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا وَلَمْ
يَذْكُرْ لَفْظَ النَّذْرِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ " عَلَيَّ " فِي هَذِهِ
الصِّيغَةِ لِلإِْيجَابِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا قَال عَلَيَّ الْمَشْيُ
إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ،
فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ قَال: هُوَ عَلَيَّ نَذْرٌ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ النَّذْرَ لاَ
يَنْعَقِدُ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ فِي صِيغَتِهِ بِلَفْظِ النَّذْرِ وَهُوَ
قَوْلٌ آخَرُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمِ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2862، 2869، 2874، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 /
317 - 318، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 /
333، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 0 22 - 221، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 /
492، وَالْمُغْنِي 9 / 33، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 273.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318 وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422.
(3) الْمُغْنِي 9 / 24.
(40/141)
بْنِ مُحَمَّدٍ (1)
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِالْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ
النَّذْرَ إِخْبَارٌ بِوُجُوبِ شَيْءٍ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَى النَّاذِرِ إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِجِهَةِ الْوُجُوبِ (2) .
أَقْسَامُ النَّذْرِ:
8 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّذْرَ تَقْسِيمَاتٍ عِدَّةً:
فَالْحَنَفِيَّةُ قَسَّمُوا النَّذْرَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: النَّذْرُ الْمُسَمَّى، وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ
النَّاذِرُ بِمَا نَذَرَ مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلاَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نَحْوِهَا. وَهَذَا النَّذْرُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ
أَوْ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ بِأَنْ يُوجِبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ
ابْتِدَاءً، شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ
فِيمَا مَضَى، أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ.
وَقَدْ يَكُونُ نَذْرًا مُقَيَّدًا بِحُصُول شَيْءٍ أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى
شَرْطٍ، بِأَنْ يُوجِبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مُعَلَّقًا عَلَى
شَرْطِ حُصُول شَيْءٍ هُوَ مِنْ فِعْل النَّاذِرِ، وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا،
أَوْ مِنْ فِعْل غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ، أَوْ مِنْ فِعْل اللَّهِ
تَعَالَى.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ، وَهُوَ الَّذِي لاَ نِيَّةَ
لِلنَّاذِرِ فِيهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ النَّاذِرُ مَخْرَجَهُ مِنَ
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 317 - 318، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422،
وَالْمُغْنِي 9 / 33.
(2) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 422.
(40/141)
الأَْعْمَال (1) .
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ النَّذْرَ بِاعْتِبَارِ الإِْطْلاَقِ
وَالتَّقْيِيدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: نَذْرٌ مُطْلَقٌ، وَنَذْرٌ مُقَيَّدٌ،
أَوْ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَبِاعْتِبَارِ مَا لَهُ مَخْرَجٌ مِنَ
الأَْعْمَال وَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا، نَذْرٌ
مُسَمًّى وَنَذْرٌ مُبْهَمٌ بِمَفْهُومِهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّذْرَ بِاعْتِبَارِ
الْغَرَضِ مِنَ النَّذْرِ إِلَى قِسْمَيْنِ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: نَذْرُ التَّبَرُّرِ وَالْقُرْبَةِ، وَهُوَ
يَتَنَوَّعُ بِاعْتِبَارِ إِطْلاَقِهِ أَوْ تَعْلِيقِهِ عَلَى شَرْطٍ إِلَى
نَوْعَيْنِ: النَّوْعُ الأَْوَّل: نَذْرٌ مُطْلَقٌ يَلْتَزِمُ فِيهِ
النَّاذِرُ النَّذْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى شَرْطٍ.
النَّوْعُ الثَّانِي: نَذْرُ الْمُجَازَاةِ، وَهُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ
فِيهِ النَّاذِرُ قُرْبَةً فِي مُقَابِل حُدُوثِ نِعْمَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ
بَلِيَّةٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَهُوَ الَّذِي
يَمْنَعُ النَّاذِرُ فِيهِ نَفْسَهُ مِنْ فِعْلٍ وَيَحُثُّهَا عَلَيْهِ،
بِتَعْلِيقِ الْتِزَامِ قُرْبَةٍ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ، وَيُقَال
فِيهِ: يَمِينُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ،
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 4 / 26 - 27، بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882، 2883،
2887، 2888.
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، 405، وَمَوَاهِب الْجَلِيل
وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 319، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 /
56، 99.
(40/142)
وَيَمِينُ الْغَلَقِ وَنَذْرُ الْغَلَقِ.
كَمَا قَسَّمُوا النَّذْرَ بِاعْتِبَارِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ إِلَى
أَقْسَامٍ ثَلاَثَةٍ: الْقِسْمُ الأَْوَّل: نَذْرُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ
الْتِزَامُ مَا يُعَدُّ طَاعَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالطَّاعَةُ
أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ: النَّوْعُ الأَْوَّل: الْوَاجِبَاتُ، كَالصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانِ وَعَدَمِ شُرْبِ الْخَمْرِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْعِبَادَاتُ الْمَقْصُودَةُ وَهِيَ الَّتِي
شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا، وَعُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ تَكْلِيفُ
الْخَلْقِ بِإِيقَاعِهَا عِبَادَةً كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْحَجِّ وَالاِعْتِكَافِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْقُرُبَاتُ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لِكَوْنِهَا
عِبَادَةً، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالٌ وَأَخْلاَقٌ مُسْتَحْسَنَةٌ، رَغَّبَ
الشَّارِعُ فِيهَا لِعِظَمِ فَائِدَتِهَا، وَقَدْ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ
اللَّهِ تَعَالَى فَيُنَال الثَّوَابُ فِيهَا: كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى
وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ الْتِزَامُ مَا نَهَى
عَنْهُ الشَّارِعُ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوِ الْقَتْل أَوْ تَرْكِ
الصَّلاَةِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَذْرُ الْمُبَاحِ، وَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَمْ
يَرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ مِنْ قِبَل الشَّارِعِ، كَالأَْكْل
(40/142)
وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْقِيَامِ (1)
.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ قَسَّمَ النَّذْرَ إِلَى
سَبْعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ: نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَنَذْرُ
الْوَاجِبِ، وَنَذْرُ الْمُسْتَحِيل، وَمُثِّل لِهَذَا الأَْخِيرِ بِمَنْ
نَذَرَ صَوْمَ أَمْسِ. وَهِيَ فِي مُجْمَلِهَا لاَ تَخْرُجُ عَمَّا
عَرَفْتَ بِهِ قَبْلاً.
وَقَدْ قَسَّمَ الْبُهُوتِيُّ النَّذْرَ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ هِيَ:
نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَالنَّذْرُ الْمُطْلَقُ، وَنَذْرُ
الْمُبَاحِ، وَنَذْرُ الْمَكْرُوهِ - وَقَدْ مَثَّل لَهُ بِنَذْرِ
الطَّلاَقِ أَوْ تَرْكِ السُّنَّةِ - وَنَذْرُ الْمَعْصِيَةِ، وَنَذْرُ
التَّبَرُّرِ (2) .
وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ كُل قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ النَّذْرِ: أ - نَذْرُ
اللَّجَاجِ:
9 - نَذْرُ اللَّجَاجِ هُوَ النَّذْرُ الَّذِي يَمْنَعُ النَّاذِرُ فِيهِ
نَفْسَهُ مِنْ فِعْل شَيْءٍ أَوْ يَحْمِلُهَا عَلَيْهِ، بِتَعْلِيقِ
الْتِزَامِ قُرْبَةٍ بِالْفِعْل أَوِ التَّرْكِ، وَهُوَ كَقَوْل
النَّاذِرِ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلاَنًا، أَوْ لَمْ أَضْرِبْهُ، فَعَلَيَّ
حَجٌّ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ. أَوْ إِنْ لَمْ أَكُنْ صَادِقًا فَعَلَيَّ
صَوْمٌ (3) .
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 293، 298، 300، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 /
220، 224.
(2) الْمُغْنِي 9 / 2 - 6، وَالْكَافِي 4 / 417 - 422، وَكَشَّاف الْقِنَاع
6 / 274 - 276.
(3) شَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 92، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 3 / 294.
(40/143)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ
النَّاذِرَ فِي هَذَا النَّوْعِ.
أ - فَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ
الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ، أَوْ يُكَفِّرُ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِذَا
وُجِدَ الشَّرْطُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - إِذْ رَجَعَ
إِلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُول بِلُزُومِ
الْوَفَاءِ بِهِ - وَمَحَل هَذَا التَّخْيِيرِ إِذَا كَانَ النَّاذِرُ لاَ
يُرِيدُ تَحَقُّقَ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ،
وَهُوَ قَوْل النَّوَوِيِّ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2)
، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ،
وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ
__________
(1) الْهِدَايَة وَالْعِنَايَة وَفَتْح الْقَدِير 4 / 27 - 28، وَالدَّرّ
الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 69، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 294،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 9 21، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 493،
وَالْكَافِي 4 / 417، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(2) حَدِيث: " لاَ نُذُرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتَهُ
كَفَّارَة يَمِين " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 103 ط الْحَلَبِيّ)
وَأَعُلْهُ بِأَنَّ الزُّهْرِيّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي سَلَمَة.
(40/143)
يَمِينٍ (1) ، وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ
هَذَا النَّذْرَ كَالْيَمِينِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَحَقُّقِ الشَّرْطِ
أَنْ يُخَيَّرَ النَّاذِرُ فِيهِ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ، أَوْ
بِالْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَعَل الْحَدِيثُ
كَفَّارَةَ هَذَا النَّذْرِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ
يُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْتِزَامُ قُرْبَةٍ، وَيُشْبِهُ
الْيَمِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَقْصُودَهُ مَقْصُودُ الْيَمِينِ، وَلاَ
سَبِيل إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ مُوجِبِهِمَا، وَلاَ
سَبِيل كَذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِهِمَا، فَتَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ تَخْيِيرَ النَّاذِرِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ النَّذْرِ
بَيْنَ الْوَفَاءِ وَالتَّكْفِيرِ أَجْمَعُ لِلصِّفَتَيْنِ مَعًا، فَإِنِ
اعْتُبِرَ نَذْرًا خَرَجَ النَّاذِرُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِاخْتِيَارِ
الْوَفَاءِ بِهِ، وَإِنِ اعْتُبِرَ يَمِينًا خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ
بِاخْتِيَارِ التَّكْفِيرِ عَنْهُ، فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِكُل
حَالٍ مِنْهُمَا (3) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ مَعْنَى الْيَمِينِ
وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ نَذْرٌ، فَيَتَخَيَّرُ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ نُذُرَ فِي غَضَب، وَكَفَّارَتَهُ كَفَّارَة يَمِين ".
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (7 / 28 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) ، ثُمَّ
ذَكَرَ أَنَّ فِيهِ رَاوِيًا ضَعِيفًا وَأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 493،
وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(3) الْكَافِي 4 / 417.
(40/144)
النَّاذِرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ
وَالتَّكْفِيرِ، وَيَمِيل إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، وَالتَّخْيِيرُ
بَيْنَ الْقَلِيل وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ وَهُوَ
الْمَنْذُورُ - فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ، كَالْعَبْدِ إِذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلاَهُ
بِالْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ
رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ أَدَاءِ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَالنَّذْرُ
وَالْيَمِينُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ لأَِنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ
مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ
لِغَيْرِهِ، وَهُوَ صِيَانَةُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى (1) 11 -
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّاذِرَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا
سُمِّيَ فِي هَذَا النَّذْرِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَقَوْل جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2)
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ (3) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ الأَْبْرَارِ: يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (4) وَوَجْهُ
الدَّلاَلَةِ أَنَّ الآْيَتَيْنِ أَفَادَتَا
__________
(1) الْهِدَايَة وَالْعِنَايَة 4 / 27.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2883، وَالْهِدَايَة وَالْعِنَايَة وَفَتْح
الْقَدِير 4 / 27، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 405، وَشَرْح
الزُّرْقَانِيّ 3 / 92، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 294، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 8 / 219.
(3) سُورَة الْحَجّ / 29
(4) سُورَة الإِْنْسَانِ
(40/144)
وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا
مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ أَوِ النَّذْرِ
الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ، كَمَا أَفَادَتْ إِثْمَ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَبِأَحَادِيثَ مِنْهَا
مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (1) وَمَا
وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال:
نَذَرْتُ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا أَسْلَمْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُوفِيَ
بِنَذْرِي (2) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ أَنَّهَا
أَفَادَتْ وُجُوبَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إِنْ كَانَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَنَذْرُ اللَّجَاجِ مِنْ هَذَا الْقَبِيل، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ
بِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ هُوَ فِعْل
مَا تَنَاوَلَهُ النَّذْرُ وَلَيْسَ الْكَفَّارَةَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل
اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ
الْمُتَصَرِّفُ تَنْجِيزًا كَانَ أَوْ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ،
وَالْمُتَصَرِّفُ أَوْقَعَهُ نَذْرًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ،
وَهُوَ إِيجَابُ الطَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ لاَ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ (3)
.
__________
(1) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ " سَبَقَ
تَخْرِيجَهُ فَقْره (5) .
(2) حَدِيث عُمَر بْن الْخَطَّابِ: " نَذَرَتْ نَذْرًا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ. . . " أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 687 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) وَأَصْله فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِقْرَة - (5) .
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2885.
(40/145)
كَمَا قَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدِ
الْتَزَمَ عِبَادَةً فِي مُقَابَلَةِ شَرْطٍ، فَتَلْزَمُهُ عِنْدَ وُجُودِ
هَذَا الشَّرْطِ (1) .
وَأَضَافُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ،
عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَال عِنْدَ وُجُودِ
الْمَشْرُوطِ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا (2) .
12 - وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّاذِرَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ، فَيَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ هَذَا بِالْكَفَّارَةِ. وَقَدْ رُوِيَ
هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ (4) وَوَجْهُ
__________
(1) زَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 493.
(2) الْهِدَايَة وَفَتْح الْقَدِير 4 / 27، 28.
(3) التَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 316، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلَى
مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 92، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 294، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 8 / 219، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 492، وَالْكَافِي 4 / 417.
(4) سُورَة الْمَائِدَة / 89
(40/145)
الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ أَنَّ نَذْرَ
اللَّجَاجِ بِمَفْهُومِهِ السَّابِقِ يَمِينٌ، لأَِنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَنَذْرُ اللَّجَاجِ كَذَلِكَ،
فَتَجِبُ فِيهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَبِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ،
وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (1) . وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْهُمَا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ أَفَادَا أَنَّ
نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ تُجْزِئُ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ،
وَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرُ أَنْ يَفِيَ بِهِ، وَقَال الرَّمْلِيُّ: حَدِيثُ
عُقْبَةَ يُفِيدُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي النَّذْرِ إِنْ لَمْ يَفِ بِهِ
النَّاذِرُ، وَلاَ كَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ جَزْمًا،
فَتَعَيَّنَ حَمْل النَّذْرِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ فِي الْحَدِيثِ
عَلَى نَذْرِ اللَّجَاجِ (3) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ نَذْرَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ فِي
مَعْنَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ
الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى الاِمْتِنَاعُ عَنِ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي غَضَب. . . " سَبَقَ تَخْرِيجَهُ فَقْره (10)
.
(2) حَدِيث: " كَفَّارَة النَّذْر كَفَّارَة الْيَمِينِ " أَخْرَجَهُ
مُسْلِم (3 / 1265 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(3) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 219
(40/146)
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ تَحْصِيلُهُ
خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا النَّذْرِ،
لأَِنَّ النَّاذِرَ إِنْ قَال: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ،
فَقَدْ قَصَدَ الاِمْتِنَاعَ مِنْ تَحْصِيل الشَّرْطِ، وَإِنْ قَال: إِنْ
لَمْ أَفْعَل كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ فَقَدْ قَصَدَ تَحْصِيل الشَّرْطِ،
وَكُل ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْحِنْثِ، فَكَانَ هَذَا النَّذْرُ فِي مَعْنَى
الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَلَزِمَ النَّاذِرَ كَفَّارَةٌ عِنْدَ
الْحِنْثِ (1)
ب - نَذْرُ الطَّاعَةِ:
13 - يُقْصَدُ بِنَذْرِ الطَّاعَةِ الْتِزَامُ مَا يُعَدُّ طَاعَةً لِلَّهِ
تَعَالَى، سَوَاءٌ شُرِعَتْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ كَالصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا، أَوْ لَمْ تُشْرَعْ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ رَغِبَ فِي تَحْصِيلِهَا، وَقَدْ
يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى
وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ،
وَسَوَاءٌ نَذَرَ هَذَا مُطْلَقًا، أَوْ مُقَيَّدًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى
شَرْطٍ.
أَوَّلاً: نَذْرُ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ:
14 - يُقْصَدُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ: مَا شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ بِالشَّرْعِ،
كَالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالاِعْتِكَافِ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2884.
(40/146)
وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا. فَمَنْ نَذَرَ
أَيًّا مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مُطْلَقًا، أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ
لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ كَمَا نَقَلَهُ
النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ، أَوْ فِي مُقَابِل نِعْمَةٍ
اسْتَجْلَبَهَا، أَوْ نِقْمَةٍ اسْتَدْفَعَهَا (1) .
وَقَدِ اسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ هَذِهِ
الْعِبَادَاتِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (2)
الدَّال عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا.
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ
اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (3)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ قُرْبَةً
لِلَّهِ تَعَالَى كَالصَّلاَةِ أَوِ الصَّدَقَةِ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ
غَيْرِهَا فَإِنَّ نَذْرَهُ هَذَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ،
وَقَدْ أَوْجَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
مَنْ نَذَرَ مِثْل ذَلِكَ أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِهِ، فَدَل هَذَا الْحَدِيثُ
عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ.
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 4 / 26، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 67 - 68، وَبَدَائِع
الصَّنَائِع 6 / 2864 - 2865، وَالْمُقدمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 55،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 301، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 494، 509،
وَالْمُغْنِي 9 / 2، وَالْكَافِي 4 / 422، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 277.
(2) سُورَة الْحَجّ / 29
(3) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيع اللَّهَ. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه
فِقْرَة (5) .
(40/147)
وَقَالُوا: إِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا
عَلَى وُجُوبِ وَفَاءِ النَّاذِرِ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ
الْمَقْصُودَةِ لِذَاتِهَا، سَوَاءٌ الْتَزَمَهَا قُرْبَةً لِلَّهِ
تَعَالَى مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، أَوِ الْتَزَمَهَا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى
عَلَى نِعْمَةٍ حَدَثَتْ أَوْ نِقْمَةٍ ذَهَبَتْ، وَقَدْ حَكَى هَذَا
الإِْجْمَاعَ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ (1)
ثَانِيًا: نَذْرُ الْقُرَبِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ:
15 - يُقْصَدُ بِهَذِهِ الْقُرَبِ: مَا لَمْ يُشْرَعْ عِبَادَةً،
وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالٌ وَأَخْلاَقٌ مُسْتَحْسَنَةٌ رَغَّبَ الشَّارِعُ
فِيهَا لِعِظَمِ فَائِدَتِهَا، وَقَدْ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ
تَعَالَى، وَذَلِكَ مِثْل: بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَتَشْيِيعِ
الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ
أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْتِزَامِهَا بِالنَّذْرِ عَلَى
مَذْهَبَيْنِ: الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ
الْتِزَامُ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الْقُرَبِ بِالنَّذْرِ وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ
بِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ الْتِزَامِ هَذِهِ الْقُرَبِ بِالنَّذْرِ
وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ بِعُمُومِ الآْيَاتِ الدَّالَّةِ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 301، وَالْمُغْنِي 9 / 2.
(40/147)
عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا،
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ
يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ
يَعْصِهِ وَبِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: إِنِّي
نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ
بِنَذْرِكَ (1) فَقَدْ أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إِذَا
كَانَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمَنِ الْتَزَمَ قُرْبَةً مِنَ
الْقُرَبِ السَّابِقَةِ بِالنَّذْرِ فَقَدْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ قَدْ
رَغَّبَ فِي هَذِهِ الْقُرَبِ وَحَضَّ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَالْعَبْدُ
يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ بِمَثَابَةِ
الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ هَذِهِ الْقُرَبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي
الْفُرُوضِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ وَيَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ أَلْزَمَ النَّاذِرُ نَفْسَهُ
أُضْحِيَةً أَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا أَوِ اعْتِكَافًا أَوْ عُمْرَةً، فَإِنَّ
هَذِهِ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ اتِّفَاقًا، وَلَيْسَتْ مِنَ
الْفُرُوضِ (3)
__________
(1) الْحَدِيثَانِ تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُمَا ف 5.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 235، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 509.
(3) الْمُغْنِي 9 / 3.
(40/148)
وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ
أَلْزَمَ نَفْسَهُ قُرْبَةً عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّرِ فَتَلْزَمُهُ
بِالنَّذْرِ، قِيَاسًا عَلَى الْتِزَامِهِ مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ،
وَالَّذِي هُوَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ
الْتِزَامُ أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الْقُرَبِ بِالنَّذْرِ، وَلاَ يَصِحُّ
النَّذْرُ بِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْقُرَبَ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي
الْفُرُوضِ، فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ، إِذِ النَّذْرُ
إِيجَابُ الْعَبْدِ، فَيُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لاَ
وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى الإِْيجَابِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا صَحَّحْنَا
إِيجَابَهُ فِي مِثْل مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْصِيلاً
لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّذْرِ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ
الْقُرَبَ لَيْسَتْ عَلَى أَوْضَاعِ الْعِبَادَاتِ فَلاَ يَصِحُّ
الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ (3)
ج - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ:
16 - نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ: الْتِزَامُ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّارِعُ
كَنَذْرِ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ نَذْرِ الْقَتْل، أَوِ الصَّلاَةِ فِي
__________
(1) الْمَصْدَر السَّابِق.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 4 286 - 2865، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ
الْمُحْتَارِ 3 / 67، وَرَوْضَة الطالِبين 3 / 303، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 8 / 235.
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2865، الاِخْتِيَار 4 / 77، وَالدَّرّ
الْمُخْتَار 3 / 67، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 235.
(40/148)
حَال الْحَدَثِ أَوْ ذَبْحِ الْوَلَدِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ انْعِقَادِ
هَذَا النَّذْرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ. وَقَيَّدَ جُمْهُورُ
الْحَنَفِيَّةِ عَدَمَ انْعِقَادِ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا كَانَ
حَرَامًا لِعَيْنِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ قُرْبَةٍ، فَإِذَا كَانَ
فِيهِ جِهَةُ قُرْبَةٍ: كَنَذْرِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّ النَّذْرَ
بِهِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِصَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ، وَلَوْ
صَامَهُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ قَال بِانْعِقَادِ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ
يَمِينًا، وَأَنَّ النَّاذِرَ يَلْزَمُهُ - وَالْحَال هَذِهِ - أَنْ
يُكَفِّرَ عَنْهُ كَالْحَانِثِ. قَال الطَّحَاوِيُّ: إِذَا أَضَافَ
النَّذْرَ إِلَى الْمَعَاصِي كَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُل فُلاَنًا
كَانَ يَمِينًا، وَلَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَذْرَ
الْمَعْصِيَةِ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَحِل الْوَفَاءُ
بِهِ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ
يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ
يَعْصِهِ (2)
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 4 / 26، وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع
الصَّنَائِع 6 / 2864، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، وَشَرْح
الزُّرْقَانِيّ عَلَى مُخْتَصَر خَلِيل 3 / 93، وَكِفَايَة الطَّالِب
الرَّبَّانِيّ 3 / 55، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 8 / 223، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 494 - 495، وَالْمُغْنِي 9
/ 3، وَالْكَافِي 4 / 419، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(2) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ. . . " تَقَدَّمَ
تَخْرِيجه فِقْرَة (5) .
(40/149)
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ (1) ، وَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ وَفَاءَ
لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ (2) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ
الأَْحَادِيثِ هُوَ أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ
يَلْتَزِمَ الْمَرْءُ بِالنَّذْرِ مَا يُعَدُّ مَعْصِيَةً لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَمَا
أَفَادَتْ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ أَنَّهُ لاَ يَحِل الْوَفَاءُ بِمِثْل
هَذَا النَّذْرِ، فَهَذَا هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ الْوَارِدُ
فِيهَا عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ قُدَامَةَ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ حِل
الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ (3)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْمَعْقُول مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْصِيَةَ
اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَحِل فِي حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا بِطَرِيقِ
النَّذْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ (4) ، وَبِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ هُوَ وُجُوبُ
الْمَنْذُورِ بِهِ، وَوُجُوبُ فِعْل الْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ (5)
17 - وَإِذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ مُجْمِعِينَ عَلَى عَدَمِ حِل الْوَفَاءِ
بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّ النَّاذِرَ إِنْ وَفَّى بِهِ أَثِمَ وَلاَ
__________
(1) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. . . " تَقَدَّمَ
تَخْرِيجه فِقْرَة (10) .
(2) حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ: إِلاَّ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَة.
. . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1263 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(3) الْمُغْنِي 9 / 3.
(4) الْمَصْدَر السَّابِق.
(5) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864.
(40/149)
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ
بِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي
الْوَاجِبِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ
الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً فَلَمْ يَفِ
بِهَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهُوَ قَوْل
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ
لِلشَّافِعِيِّ اخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ
(1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي
مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) وَبِمَا رَوَى
عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: النَّذْرُ نَذْرَانِ
فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ وَفِيهِ
الْوَفَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ
لِلشَّيْطَانِ وَلاَ وَفَاءَ فِيهِ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ
(3)
__________
(1) رَدَّ الْمُحْتَارَ 3 / 68، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1 / 423،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَالْمُغْنِي 9 /، 3، وَالْكَافِي 4 /
419، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 276
(2) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه
فِقْرَة (10) .
(3) حَدِيث: " النَّذْر نَذْرَانِ فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ
اللَّهِ. . . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ (7 / 29 ط التِّجَارِيَّة
الْكُبْرَى) وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (10 / 70 ط دَائِرَة
الْمَعَارِفِ) وَضَعْف النَّسَائِيّ أَحَد رُوَاته.
(40/150)
فَقَدْ أَفَادَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ
أَنَّهُ لاَ يَحِل الْوَفَاءُ بِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل مَعْصِيَةٍ لَزِمَتْهُ
الْكَفَّارَةُ عَنْ يَمِينِهِ هَذَا، فَكَذَلِكَ - قِيَاسًا - إِذَا
نَذَرَهَا (1)
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ، فَمَنْ لَمْ يَفِ
بِنَذْرِهِ إِنْ كَانَ مَعْصِيَةً لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) ،
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ مَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى
بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَال:
لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ
وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (4) وَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 5، وَالْكَافِي 4 / 419.
(2) الْمُغْنِي 9 / 4 - 5، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 276.
(3) حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِرٍ: " نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى
بِبَتّ اللَّه. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 79 ط
السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1264 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ
لِمُسْلِم.
(4) حَدِيث: " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِك شَيْئًا. . .
" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 116 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: هَذَا حَدِيث
حَسَن.
(40/150)
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ
بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهَا (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
مَعْصِيَةً فَلَمْ يَفِ بِهَا فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ
هَذَا عَنْ مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ،
وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَقَطَعَ بِهِ
جُمْهُورُهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَل عَنْهُ،
فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيل نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ
يَسْتَظِل، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِل
وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ (3)
__________
(1) حَدِيث: فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِك شَيْئًا. . .
" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 597 - 598 ط حِمْص) وَالْحَاكِم فِي
الْمُسْتَدْرِكِ (4 / 302 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) وَقَال: صَحِيحٌ عَلَى
شَرْط مُسْلِم.
(2) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 55، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 1
/ 423، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 495،
وَالْمُغْنِي 9 / 4.
(3) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: بَيَّنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ. . . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 11
/ 586 ط السَّلَفِيَّة) .
(40/151)
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَْنْصَارِ
أُسِرَتْ فَانْفَلَتَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَرَكِبَتِ
الْعَضْبَاءَ، وَنَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا
لَتَنْحَرَنَّهَا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ بِئْسَمَا جَزَتْهَا،
نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لاَ
وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (1)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ
الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ، وَنَهَى عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا لَيْسَ طَاعَةً وَلاَ
مَعْصِيَةً مِنَ الْوُقُوفِ وَتَرْكِ الاِسْتِظْلاَل وَتَرْكِ الْكَلاَمِ،
وَلَمْ يَأْمُرِ النَّاذِرَ بِكَفَّارَةٍ. كَمَا لَمْ يَأْمُرْ مَنْ
نَذَرَتْ نَحْرَ الْعَضْبَاءِ بِكَفَّارَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ تَجِبُ
كَفَّارَةٌ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ لأََمَرَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا إِسْرَائِيل وَهَذِهِ
الأَْنْصَارِيَّةَ بِالتَّكْفِيرِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ
نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ (2) وَبِمَا رَوَتْهُ
عَائِشَةُ
__________
(1) حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ " أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَْنْصَارِ
أَسَرَّتْ. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1263 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(2) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْه اللَّهِ ".
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 582 ط حِمْص) وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ (2 /
185 ط الميمنية) .
(40/151)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ
اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (1)
فَقَدْ أَفَادَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
هُنَاكَ نَذْرٌ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ
مِثْل ذَلِكَ فَلاَ يَحِل لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِ
الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةً فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِ
الْمَعْصِيَةِ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامُ طَاعَةٍ، وَهَذَا الْتِزَامُ
مَعْصِيَةٍ، وَلأَِنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فَلاَ يُوجِبُ شَيْئًا
عَقْلاً، كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ (2)
د - نَذْرُ الْمُبَاحِ:
18 - نَذْرُ الْمُبَاحِ: هُوَ نَذْرُ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ مِنْ
قِبَل الشَّارِعِ، كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ
وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالنَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ وَصِحَّةِ
الاِلْتِزَامِ بِالْمُبَاحَاتِ وَحُكْمِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ بِهَا إِنْ
قِيل بِانْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
__________
(1) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ. . "
تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 5) .
(2) الْمُغْنِي 9 / 4، الْكَافِي 4 / 419.
(3) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303.
(40/152)
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ
أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَلاَ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِهِ، وَلاَ يَصِحُّ
الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالأَْوْلَى،
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ هَذَا النَّذْرِ وَعَدَمِ
صِحَّتِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ
قَائِمٍ، فَسَأَل عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نَذَرَ أَنْ
يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِل وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ،
فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ
فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِل وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ (2)
وَبِحَدِيثِ: لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ (3)
، وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَذَرَتِ امْرَأَةٌ أَنْ
تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، فَسُئِل نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ
مَشْيِهَا، مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ (4) .
وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَال: مَا
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 224.
(2) حَدِيث: " مَرّه فَلْيَتَكَلَّمْ وَلِيَسْتَظِل. . . . " تَقَدَّمَ
تَخْرِيجه (ف 17) .
(3) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا يُبْتَغَى بِهِ. . . " تَقَدَّمَ
تَخْرِيجه (ف 17) .
(4) حَدِيث أَنَس: " نَذَرَتِ امْرَأَة أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ
اللَّهِ. . . " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (4 / 111 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال:
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(40/152)
بَال هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ
يَمْشِيَ. قَال: إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ (1) فَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ
أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ نَذْرٌ لاَ يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ،
وَنَذْرُ الْمَشْيِ أَوِ الْوُقُوفِ أَوْ تَرْكِ الاِسْتِظْلاَل أَوِ
الْكَلاَمِ لَيْسَ نَذْرًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يُبْتَغَى
بِهِ وَجْهُهُ سُبْحَانَهُ، وَمِثْل هَذَا النَّذْرِ لاَ يَنْعَقِدُ، وَلاَ
يَصِحُّ الْتِزَامُ هَذِهِ الأُْمُورِ بِالنَّذْرِ، وَلِهَذَا أَمَرَ مَنْ
نَذَرَ الْقِيَامَ بِالْقُعُودِ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ بِالرُّكُوبِ،
وَمَنْ نَذَرَ تَرْكَ الاِسْتِظْلاَل بِأَنْ يَسْتَظِل، وَمَنْ تَرَكَ
الْكَلاَمَ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ، وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدُل عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ النَّذْرِ بِذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ
سَاكِتَةً بِأَنْ تَتَكَلَّمَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُبَاحَ لاَ يُوصَفُ
بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ لاِسْتِوَاءِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَمَا كَانَ
كَذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ (2)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
مُبَاحًا فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
الْوَفَاءُ بِهِ، بَل يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ،
وَإِلَيْهِ
__________
(1) حَدِيث: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى
شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ. . . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِي 4 / 78 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (3 / 1264 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) .
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2864.
(40/153)
ذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (1)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ عَلَى ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ
بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْهَا
جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ
نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ
بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى. فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلاَّ فَلاَ،
فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدِ الْتَزَمَتْ
بِمُقْتَضَى هَذَا النَّذْرِ أَنْ تَضْرِبَ بِالدُّفِّ، وَأَنْ تُغَنِّيَ
بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ رَدَّهُ
اللَّهُ سَالِمًا مِنَ الْغَزْوِ، وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ وَالْغِنَاءُ
عِنْدَ قُدُومِ الْغَائِبِ أَبَاحَهُ الْفُقَهَاءُ (3) ، وَلَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
الْتَزَمَتْهُ بِالنَّذْرِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ
مُنْعَقِدٌ وَصَحِيحٌ، وَأَنَّ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَفِيَ بِهِ إِنْ شَاءَ.
__________
(1) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 318،
وَالْمُغْنِي 9 / 5، وَالْكَافِي 4 / 418، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 275.
(2) حَدِيث: " إِنْ كُنْت نَذَرْت فَاضْرِبِي. . . " أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيّ (5 / 620 - 621 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ
غَرِيبٌ.
(3) الْبَحْر الرَّائِق 8 / 215، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 2 / 409،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 2 / 339، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاج 4 / 429، وَالْمُغْنِي 12 / 40، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 211،
وَإِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ 6 / 151، 154.
(40/153)
وَقَالُوا: إِنَّ مِنَ الْمَعْقُول أَنَّ
الْمَرْءَ لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ بَرَّ بِفِعْلِهِ، فَكَذَلِكَ
إِذَا نَذَرَهُ، لأََنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ (1) .
مَا يُوجِبُهُ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمُبَاحِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ لِلْمُبَاحِ إِنْ
لَمْ يَفِ بِهِ، وَفِيمَا إِذَا كَانَتْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أَمْ لاَ
عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا
فَلَمْ يَفِ بِهِ فَلاَ تَلْزَمُهُ كَثْرَةٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ مُخَرَّجٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (2)
.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفِ
بِنَذْرِ الْمُبَاحِ بِالأَْحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى
عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ.
وَقَالُوا: إِنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، فَلَمْ
يُوجِبْ شَيْئًا كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ (3) . وَكَذَلِكَ
فَإِنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ لاَ يُوجِبُ عَلَى النَّاذِرِ فِعْل مَا
نَذَرَهُ فَلاَ يُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً، كَنَذْرِ الْمُسْتَحِيل (4) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ نَذْرَ الْمُبَاحِ نَذْرٌ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ
__________
(1) الْمُغْنِي 5 / 9.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 67، وَكِفَايَة الطَّالِب
الرَّبَّانِيّ 3 / 59، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 8 / 224، وَالْمُغْنِي 9 / 5 وَالْكَافِي 4 / 418.
(3) الْمُغْنِي 9 / 4.
(4) الْمَصْدَر السَّابِق 9 / 5 - 6.
(40/154)
تَعَالَى، فَلاَ يَلْزَمُ فِي تَرْكِ
الْوَفَاءِ بِهِ كَفَّارَةٌ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
مُبَاحًا فَلَمْ يَفِ بِهِ فَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهَذَا
وَجْهٌ مُرَجَّحٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ
بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ
حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَال: لِتَمْشِ وَتَرْكَبْ
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ
شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (3) ،
وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً. فَقَال النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ
أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا
(4) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ
__________
(1) حَاشِيَة الشبراملسي عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ 8 / 224.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 303، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 224،
وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 496، وَالْمُغْنِي 9 / 5 وَالْكَافِي 4 / 418،
وَالإِْنْصَاف 11 / 121.
(3) حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِرٍ: (نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى
بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَة. . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .
(4) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: " جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . . " تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 17) .
(40/154)
النَّاذِرَتَيْنِ فِي هَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ قَدِ الْتَزَمَتَا بِمُبَاحٍ، وَهُوَ الْمَشْيُ إِلَى
بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَمَرَهُمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِهَذَا النَّذْرِ عَلَى
أَنْ تُكَفِّرَا كَفَّارَةَ يَمِينٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ
الثَّانِي. وَذَكَرَ إِحْدَى خِصَال هَذِهِ الْكَفَّارَةِ - وَهُوَ صِيَامُ
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ - فِي الْحَدِيثِ الأَْوَّل.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ فَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ، مَنْ
حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ أَوْ تَرَكَهُ وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ
كَفَّارَةٌ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ مُبَاحًا فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ
تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ (1) .
وَقَالُوا إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفِ بِنَذْرِ
الْمَعْصِيَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ نَذْرَ فِي
مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ (2) وَإِذَا وَجَبَتِ
الْكَفَّارَةُ فِي نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَفِي نَذْرِ الْمُبَاحِ أَوْلَى
بِالْوُجُوبِ (3) .
هـ - نَذْرُ الْوَاجِبِ:
20 - الْوَاجِبُ هُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُذَمُّ تَارِكُهُ، وَهُوَ
يَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارَاتٍ عِدَّةٍ، فَهُوَ يَنْقَسِمُ
بِحَسَبِ أَفْرَادِهِ إِلَى وَاجِبٍ مُعَيَّنٍ وَوَاجِبٍ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 4 - 5.
(2) حَدِيث: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتَهُ. . . . ".
تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 10) .
(3) الْكَافِي 4 / 418.
(40/155)
مُخَيَّرٍ، وَبِحَسَبِ الْوَقْتِ الَّذِي
يُؤَدَّى فِيهِ إِلَى وَاجِبٍ مُوَسَّعٍ فِي وَقْتِهِ وَوَاجِبٍ مُضَيَّقٍ
فِي وَقْتِهِ، وَبِحَسَبِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَى وَاجِبٍ عَلَى
الأَْعْيَانِ وَوَاجِبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَالْوَاجِبُ يُرَادِفُهُ الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا عِنْدُ
الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَرْضُ مَا كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا وَالْوَاجِبُ
هُوَ مَا كَانَ دَلِيلُهُ ظَنِّيًّا (1) .
وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ نَذْرِ الْوَاجِبِ: مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى
الأَْعْيَانِ، أَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ.
أَوَّلاً: نَذْرُ الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ:
21 - نَذْرُ الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ هُوَ نَذْرُ مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ
عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِعْلَهُ أَوْ تَرْكَهُ عَيْنًا بِالنَّصِّ:
كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَعَدَمِ شُرْبِ
الْخَمْرِ وَعَدَمِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ
وَمَا شَابَهَهَا لاَ يَنْعَقِدُ النَّذْرُ بِهَا وَلاَ يَصِحُّ
الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ. سَوَاءٌ
عُلِّقَ ذَلِكَ عَلَى حُصُول نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ، أَوِ
الْتَزَمَهُ النَّاذِرُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ يُعَلِّقُ عَلَيْهِ
النَّذْرَ، وَمِثْل هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْتِزَامُ الْوَاجِبِ
الْمُخَيَّرِ بِالنَّذْرِ، كَأَحَدِ خِصَال الْكَفَّارَةِ (2) .
__________
(1) إِرْشَاد الْفُحُول للشوكاني ص 6.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882،
وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 1 / 463، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 3 / 93،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 300، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 223 - 224
وَالْمُغْنِي 9 / 6، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.
(40/155)
وَقَدِ اسْتُدِل لِعَدَمِ انْعِقَادِ هَذَا
النَّذْرِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الاِلْتِزَامِ بِالْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ
بِالْمَعْقُول.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ فَلاَ
مَعْنَى لاِلْتِزَامِهِ بِالنَّذْرِ، لأَِنَّ إِيجَابَ الْوَاجِبِ لاَ
يُتَصَوَّرُ (1) ، وَقَالُوا: إِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاجِبَةَ لاَ تَأْثِيرَ
لِلنَّذْرِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ الْمُحَرَّمَةِ لاَ
تَأْثِيرَ لِلنَّذْرِ فِيهَا لِوُجُوبِ تَرْكِ ذَلِكَ عَلَى النَّاذِرِ
بِالشَّرْعِ دُونَ النَّذْرِ (2) وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ
وَالْمَنْذُورُ لَزِمَ النَّاذِرَ عَيْنًا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ قَبْل
النَّذْرِ وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لاَزِمٌ كَنَذْرِ الْمُحَال
(3) .
ثَانِيًا: نَذْرُ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ:
22 - الْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ عَلَى
الْمُكَلَّفِينَ، بِحَيْثُ إِذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ مِنْهُمْ
سَقَطَ الإِْثْمُ عَنْ بَاقِيهِمْ، وَإِذَا تَرَكُوا الْقِيَامَ بِهِ
أَثِمُوا جَمِيعًا بِالتَّرْكِ، وَذَلِكَ مِثْل تَجْهِيزِ الْمَوْتَى
وَغَسْلِهِمْ وَرَدِّ السَّلاَمِ وَالْجِهَادِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ
الَّتِي لاَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ،
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 64 / 357.
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404.
(3) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 223 - 224، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 4 / 495،
وَالْمُغْنِي 9 / 6، وَالْكَافِي 4 / 421، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.
(40/156)
وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
(1) .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْتِزَامِ الْوَاجِبِ عَلَى
الْكِفَايَةِ بِالنَّذْرِ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَى النَّاذِرِ أَدَاؤُهُ قَبْل
النَّذْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْتِزَامِ
النَّاذِرِ لَهُ بِالنَّذْرِ إِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ
قَبْل ذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ
الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ بِالنَّذْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِالْمَعْقُول وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى
الْكِفَايَةِ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً،
فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، لأَِنَّ إِيجَابَ الْوَاجِبِ لاَ
يُتَصَوَّرُ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ، وَالطَّاعَةُ الْوَاجِبَةُ لاَ
تَأْثِيرَ لِلنُّذُورِ فِيهَا لِوُجُوبِ فِعْلِهَا بِالشَّرْعِ بِدُونِ
نَذْرٍ، وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ لاَزِمٌ، لِعَدَمِ تَصَوُّرِ
انْعِقَادِهِ أَوِ الْوَفَاءِ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ
__________
(1) الإِْحْكَام فِي أُصُول الأَْحْكَامِ لِلآْمِدِي 1 / 141 - 142، 147.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع
الصَّنَائِع 6 / 2882، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 3 / 463، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 3 / 301.
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2882.
(40/156)
عَلَى الْمُسْتَحِيل (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ
الْتِزَامُ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ بِالنَّذْرِ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ
بِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُول، فَمِنَ السُّنَّةِ
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (3) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ فِيهِ
طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ الْتِزَامٌ بِمَا
فِيهِ طَاعَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ صِحَّةَ
هَذَا النَّذْرِ، وَوُجُوبَ الْوَفَاءِ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَوَجْهُهُ أَنَّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ إِذَا
نَذَرَ الْعَبْدُ أَوْ عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ أَوْ بَايَعَ عَلَيْهِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الإِْمَامَ أَوْ
تَحَالَفَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ وَالْمَوَاثِيقَ
تَقْتَضِي لَهُ وُجُوبًا ثَانِيًا غَيْرُ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ
بِمُجَرَّدِ الأَْمْرِ الأَْوَّل، فَيَكُونُ وَاجِبًا مِنْ وَجْهَيْنِ،
وَيَكُونُ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِتَرْكِ
__________
(1) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404.
(2) الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 404، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 1 /
463، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 301، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 224،
وَزَادَ المحتاج4 / 495.
(3) الْحَدِيث تَقَدَّمَ تَخْرِيجه فِقْرَة (5) .
(40/157)
الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ وَالْوَاجِبِ
بِالنَّذْرِ (1) .
هَذَا، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي النَّذْرِ بَيْنَ الْوَاجِبِ
الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ، بَل بَيَّنُوا حُكْمَ نَذْرِ الْوَاجِبِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيحِ وَالتَّصْحِيحِ.
فَقَال الْمِرْدَاوِيُّ: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، لَكِنَّهُ نَقَل
عَنِ الْمُغْنِي احْتِمَالاً وَنَقَل عَنِ الْكَافِي أَنَّ قِيَاسَ
الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّذْرَ يَنْعَقِدُ فِي الْوَاجِبِ وَتَجِبُ
الْكَفَّارَةُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي وَاجِبٍ، فَيُكَفِّرُ إِنْ
لَمْ يَفْعَل، وَعِنْدَ الأَْكْثَرِ: لاَ يَنْعَقِدُ النَّذْرُ فِي
وَاجِبٍ. لأَِنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ وَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مَا هُوَ
لاَزِمٌ، ثُمَّ نَقَل عَنِ الْمُوَفَّقِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذْهَبِ
أَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ وَمُوجِبُهُ مُوجِبُهَا إِلاَّ فِي لُزُومِ
الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ قُرْبَةً وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهُ (2) .
و نَذْرُ الْمُسْتَحِيل:
23 - نَذْرُ الْمُسْتَحِيل: نَذْرُ مَا يُحِيل الْعَقْل أَوِ الشَّرْعُ
تَحَقُّقَهُ، وَمِثَال الأَْوَّل: نَذْرُ صِيَامِ أَمْسِ، وَمِثَال
الثَّانِي: نَذْرُ صِيَامِ أَيَّامِ الْحَيْضِ، أَوْ صِيَامِ اللَّيْل.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ مِثْل هَذَا
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.
(2) الإِْنْصَاف 11 / 118 - 119، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 274.
(40/157)
النَّذْرِ، وَلاَ يُوجِبُ عَدَمُ
الْوَفَاءِ بِهِ كَفَّارَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ
انْعِقَادُهُ أَوِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لاَ
يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ شَرْعًا، فَأَشْبَهَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْل أَمْرٍ
مُسْتَحِيلٍ، وَإِذَا كَانَ لاَ يَلْزَمُ فِي الْحِنْثِ فِي هَذَا
الْيَمِينِ كَفَّارَةٌ فَبِالأَْوْلَى لاَ يَلْزَمُ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ
بِنَذْرِ الْمُسْتَحِيل كَفَّارَةٌ.
وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْكَافِي قَائِلاً:
وَيُحْتَمَل أَنْ يُوجِبَ الْكَفَّارَةَ كَيَمِينِ الْغَمُوسِ (1) .
ز - النَّذْرُ الْمُبْهَمُ:
24 - النَّذْرُ الْمُبْهَمُ هُوَ النَّذْرُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ
مَخْرَجُهُ مِنَ الأَْعْمَال، وَذَلِكَ كَقَوْل النَّاذِرِ: لِلَّهِ
عَلَيَّ نَذْرٌ، دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ الأَْعْمَال الَّتِي الْتَزَمَهَا
بِهَذَا النَّذْرِ، أَصَوْمٌ هِيَ أَمْ صَلاَةٌ أَمْ حَجٌّ أَمْ غَيْرُهَا
(2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا النَّذْرِ، أَمُنْعَقِدٌ
هُوَ أَمْ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَفِيمَا إِذَا كَانَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ
بِهِ أَوْ لاَ يَلْزَمُ، وَمَا يَجِبُ إِنْ قِيل بِانْعِقَادِهِ
وَصِحَّتِهِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ.
فَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ مُنْعَقِدٌ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 68، وَبَدَائِع
الصَّنَائِع 6 / 2863، وَالْمُغْنِي 9 / 6، وَالْكَافِي 4 / 421، وَكَشَّاف
الْقِنَاع 6 / 274.
(2) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِي عَلَيْهِ 3 /
59.
(40/158)
وَصَحِيحٌ، وَهُوَ كَالْحَلِفِ بِاللَّهِ
وَلاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ بِهِ
عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّهُ تَجِبُ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْل
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَالْقَاسِمِ ابْنِ مُحَمَّدٍ
وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ
وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَال بِهِ جُمْهُورُ
أَصْحَابِهِ.
وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ أَوْجَبْنَا عَلَى
النَّاذِرِ الْوَفَاءَ بِهَذَا النَّذْرِ لَزِمَهُ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ
مِمَّا يَجُوزُ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ وَيُتْرَكُ تَعْيِينُهَا
إِلَيْهِ.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ: أَنَّ النَّاذِرَ
يَتَخَيَّرُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ، وَمِمَّنْ رَأَى
وُجُوبَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُبْهَمًا
الْحَنَابِلَةُ (1) .
الرَّأْيُ الثَّانِي: قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ. وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِيمَا
يَجِبُ بِهَذَا النَّذْرِ. إِذْ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71، وَبَدَائِع
الصَّنَائِع 6 / 2887، 2888، وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 3 / 319، وَكِفَايَة
الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِي 3 / 59، وَشَرْح
الزُّرْقَانِيّ 3 / 92، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات 1 / 406، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 3 / 296، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 10 / 70، وَالْمُغْنِي 9 /
3، وَالْكَافِي 4 / 418.
(40/158)
مُبْهَمًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ،
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِيهِ
فَحُكْمُهُ هُوَ وُجُوبُ مَا نَوَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا
أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ، فَإِنْ نَوَى صَوْمًا أَوْ صَلاَةً أَوْ
حَجًّا أَوْ عُمْرَةً لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَال،
وَفِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلاَ تُجْزِئُ
النَّاذِرَ كَفَّارَةٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى فِيهِ صِيَامًا وَلَمْ
يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ نَوَى
إِطْعَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدَ مَا يُطْعِمُهُ فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُل مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ،
لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ
الْيَمِينِ، لأََنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَمَا نَوَاهُ يَنْصَرِفُ إِلَى خِصَال الْكَفَّارَةِ،
وَلَوْ قَال: عَلَيَّ صَدَقَةٌ فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَوْ قَال:
عَلَيَّ صَوْمٌ لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ، وَلَوْ قَال: عَلَيَّ صَلاَةٌ
لَزِمَهُ رَكْعَتَانِ، لأَِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الأَْمْرُ،
وَالنَّذْرُ مُعْتَبَرٌ بِهِ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ
وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فِيمَا رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (2) وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71، وَبَدَائِع
الصَّنَائِع 6 / 2887 - 2888.
(2) حَدِيث: " كَفَّارَة النَّذْر كَفَّارَة الْيَمِينِ ". تَقَدَّمَ
تَخْرِيجه (ف 12) .
(40/159)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ (1) وَكَذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ
نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ
نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ
نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الرِّوَايَةَ
الثَّانِيَةَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَفَادَتَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ - وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ
مَخْرَجُهُ مِنَ الأَْعْمَال - نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ وَأَنَّ
كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَفَادَتِ الرِّوَايَةُ الأُْولَى مِنْ
حَدِيثِ عُقْبَةَ أَنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ وَمُوجِبُهُ هُوَ مُوجِبُ
الْيَمِينِ، فَإِنْ صَحَّ النَّذْرُ وَأَمْكَنَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ
وَجَبَ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالنَّذْرُ الْمُبْهَمُ لَمْ يُعَيِّنْ
فِيهِ مَا يُوفِي بِهِ فَتَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ
أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ كَفَّارَةٌ، وَقَال
ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةَ:
__________
(1) حَدِيث: " كَفَّارَة النَّذْر إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَة يَمِين "
أَخْرَجَهُ التزمذي (4 / 106 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ
غَرِيبٌ.
(2) حَدِيث: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يَسِمْهُ فَكَفَّارَته كَفَّارَة
يَمِين. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 614 ط حَمَّصَ) وَأَشَارَ ابْن
حَجْرٍ فِي الْفَتْحِ (11 / 587) إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ عَلَى ابْن
عَبَّاسٍ.
(40/159)
لاَ نَعْرِفُ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ
مُخَالِفًا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (1) .
وَالاِتِّجَاهُ الآْخَرُ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ
وَهُوَ نَذْرٌ بَاطِلٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
نَذْرُ التَّصَدُّقِ بِكُل مَا يَمْلِكُ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ
بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ عَلَى سِتَّةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ
بِكُل مَا يَمْلِكُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِهَذَا النَّذْرِ وَلاَ
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ
بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، وَهُوَ قَوْل الْحَكَمِ
بْنِ عُتَيْبَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَثَمَّةَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا النَّذْرَ لَغْوٌ، لأَِنَّهُ لَوْ قَال:
مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ مَالِي فِي سَبِيل اللَّهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ
آتِيًا بِصِيغَةِ الْتِزَامٍ فَلاَ يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ (3) وَاسْتَدَل
هَؤُلاَءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (4) .
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 3.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ وَحَاشِيَة الشبراملسي وَالرَّشِيدِيِّ عَلَيْهِ
8 / 221.
(3) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 297
(4) سُورة الإِْسْرَاء / 26
(40/160)
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (1)
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَمْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالصَّدَقَةِ
وَالإِْنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الإِْسْرَافِ
وَالتَّبْذِيرِ فِيمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ الْمَرْءُ، فَهَذَا يَدُل عَلَى
أَنَّ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ مِنْ مَالٍ غَيْرُ
مَطْلُوبٍ لِلشَّارِعِ، وَالْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ
لَيْسَ نَذْرٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْهَا
مَا رَوَاهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - فِي حَدِيثِ تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ - وَأَنَّهُ قَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً
إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَال رَسُول اللَّهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ
لَكَ، قُلْتُ: أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ (2) .
وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: كُنَّا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْل بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ: أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ، مَا
أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ
__________
(1) سُورَة الأَْنْعَام / 141
(2) حَدِيث: " أَمْسَكَ عَلَيْك بَعْض مَالِك فَهُوَ خَيْرٌ لَك. . . "
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 5 / 386 ط السَّلَفِيَّة)
وَمُسْلِم (4 / 2127 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(40/160)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْهُ مِرَارًا - وَهُوَ يُرَدِّدُ كَلاَمَهُ هَذَا - ثُمَّ
أَخَذَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَذَفَهُ بِهَا، فَلَوْ
أَصَابَتْهُ لأََوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ
فَيَقُول: هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ
الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خُذْ عَنَّا مَالَكَ لاَ حَاجَةَ
لَنَا بِهِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ فَإِنَّ نَذْرَهُ هَذَا
يَمِينٌ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ
وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُوسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
وَعِكْرِمَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَقَتَادَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ
الْيَمِينِ (3) .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ كَحُكْمِ
__________
(1) حَدِيث: (يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُول: هَذِهِ صَدَقَة.
. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 310 ط حَمَّصَ) ، وَأَشَارَ
الْمُنْذِرِي فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ (2 / 254) إِلَى إِعْلاَلِهِ
بِرَاوٍ فِيهِ.
(2) الْمُغْنِي 9 / 7.
(3) الْحَدِيث سَبَقَ تَخْرِيجَهُ (ف 12) .
(40/161)
الْيَمِينِ، فَمَنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ
تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِنْ لَمْ يَفِ
بِنَذْرِهِ كَفَّارَةٌ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
التَّصَدُّقَ بِكُل مَالِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ التَّصَدُّقُ بِثُلُثِ
هَذَا الْمَال. وَقَدْ مَال إِلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ الزُّهْرِيُّ
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ حُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ
جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَى حُسَيْنُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي
لُبَابَةَ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول
اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي وَأُسَاكِنَكَ،
وَإِنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقَال
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجْزِئُ عَنْكَ
الثُّلُثُ (2) ، وَمِمَّا رَوَاهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ
تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ
مِنْ تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ
__________
(1) شَرْح الزُّرْقَانِيّ وَحَاشِيَة الْبُنَانِيّ 3 / 95، وَكِفَايَة
الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدْوَى 3 / 63، 64، وَمَوَاهِب
الْجَلِيل 3 / 321، وَالْمُغْنِي 9 / 7، وَالْكَافِي 4 / 422، وَكَشَّاف
الْقِنَاع 6 / 287.
(2) حَدِيث: " يُجَزِّئُ عَنْك الثُّلْث. . . " أَخْرَجَهُ أَحْمَد (3 /
453 - ط الميمنية) وَابْن حِبَّانَ فِي الصَّحِيحِ (الإِْحْسَان 8 / 164 -
165 ط مُؤَسَّسَة الرِّسَالَة) .
(40/161)
مَالِي كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةً، قَال: لاَ، قُلْتُ:
فَنِصْفُهُ. قَال: لاَ، قُلْتُ: فَثُلُثُهُ؛ قَال: نَعَمْ، قَلْتُ:
فَإِنِّي سَأُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ (1) فَقَدْ أَفَادَ هَذَانِ
الْحَدِيثَانِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ
مَالٍ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ التَّصَدُّقُ بِثُلُثِهِ كَمَا هُوَ مَنْطُوقُ
الْحَدِيثَيْنِ.
الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
التَّصَدُّقَ بِكُل مَا لَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ
كُلِّهِ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: يَتَصَدَّقُ بِهَذَا
الْمَال عَلَى بَنَاتِهِ، وَصَحَّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
أَنَّهُمَا كَانَا يُلْزِمَانِهِ مَا جَعَل عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ
الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَال هَؤُلاَءِ: فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَكَفَّارَتُهُ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِلْزَامُ النَّاذِرِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُل مَا
لَهُ هُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ
نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ
__________
(1) حَدِيث: " سَأُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد (3 / 614 - ط حِمْص)
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 297، وَالْمُغْنِي 9 / 8، وَالْبَدَائِع 6 /
2872 - 2873 ط مَطْبَعَة الإِْمَام.
(40/162)
فَلاَ يَعْصِهِ (1) .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لِلَّهِ
تَعَالَى لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَهُ بِهَذَا النَّذْرِ، وَمَنْ
نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِكُل مَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ، أَلْزَمَ نَفْسَهُ
بِمَا هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ،
وَالتَّصَدُّقُ بِكُل مَالِهِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِ جَمِيعُ
الأَْمْوَال لأَِنَّ الْمَال اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّل كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ
اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ فَيَتَنَاوَل جَمِيعَ الأَْمْوَال كَالْمِلْكِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الْخَامِسُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
التَّصَدُّقَ بِكُل مَالِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ
بِرُبْعِ الْعُشْرِ (أَيْ مِقْدَارِ الزَّكَاةِ) وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثَةٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل رَبِيعَةَ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ قَوْل رَبِيعَةَ هَذَا (3) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
أَبِي حَاضِرٍ قَال: حَلَفَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: مَالِي فِي سَبِيل
اللَّهِ وَجَارِيَتِي حُرَّةٌ إِنْ لَمْ تَفْعَل كَذَا. فَقَال ابْنُ
عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) الْحَدِيث تَقَدَّمَ تَخْرِيجه (ف 5) .
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2873.
(3) الْمُغْنِي 9 / 7.
(40/162)
عَنْهُمَا: أَمَّا الْجَارِيَةُ
فَتُعْتَقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا: مَالِي فِي سَبِيل اللَّهِ فَيُتَصَدَّقُ
بِزَكَاةِ مَالِهَا.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ الْمُطْلَقَ، إِنِ الْتَزَمَ فِيهِ النَّاذِرُ
التَّصَدُّقَ بِكُل مَالِهِ، مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ،
وَلاَ يَجِبُ فِي الشَّرْعِ إِلاَّ التَّصَدُّقُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ
وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ (1) .
الاِتِّجَاهُ السَّادِسُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ قَال:
مَالِي صَدَقَةٌ، لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالأَْمْوَال الَّتِي تَجِبُ
فِيهَا الزَّكَاةُ مِمَّا يَمْلِكُ، أَيْ يَتَصَدَّقُ بِجِنْسِ الأَْمْوَال
الزَّكَوِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ نِصَابَ الزَّكَاةِ، وَلاَ يَدْخُل
فِي هَذِهِ الأَْمْوَال مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السَّكَنِ وَالأَْثَاثِ وَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ
الَّتِي لاَ يُقْصَدُ بِهَا التِّجَارَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهُوَ مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ اسْتِحْسَانٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّذْرَ الَّذِي يُلْزِمُ بِهِ الْمَرْءُ
نَفْسَهُ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ، لأَِنَّ الْوُجُوبَ فِي
الْكُل بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنَ الْعَبْدِ
مُبَاشَرَةً السَّبَبُ الدَّال عَلَى إِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَالإِْيجَابُ الْمُضَافُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَْمْرِ - وَهُوَ
الزَّكَاةُ الْمَأْمُورُ بِهَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 7.
(40/163)
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا (1) وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
مَعْلُومٌ لِلسَّائِل وَالْمَحْرُومِ (2) وَنَحْوِ ذَلِكَ - قَدْ تَعَلَّقَ
بِنَوْعٍ مِنَ الْمَال دُونَ نَوْعٍ، فَكَذَا فِي النَّذْرِ (3) . 50
حُكْمُ نَذْرِ الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا:
أ - نَذْرُ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا: 26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا
يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِنْ نَذَرَ صَلاَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يُحَدِّدْ
عَدَدَ الرَّكَعَاتِ الَّتِي يُصَلِّيهَا فِيهَا وَلَمْ يَنْوِهِ، عَلَى
اتِّجَاهَيْنِ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً
مُطْلَقَةً يُجْزِئُهُ صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَا
عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (4) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ أَقَل صَلاَةٍ وَجَبَتْ بِالشَّرْعِ
مِقْدَارُهَا رَكْعَتَانِ، فَوَجَبَ حَمْل النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ،
لأَِنَّ النَّذْرَ الَّذِي يُوجِبُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ
__________
(1) سُورَة التَّوْبَة / 103
(2) سُورَة الْمَعَارِجِ / 24 - 25
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2873.
(4) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2888، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 320،
وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 57، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 /
306، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4
/ 423، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 279.
(40/163)
مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ،
فَلَزِمَ نَاذِرَ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ هُمَا أَقَل مَا يَقَعُ اسْمُ الصَّلاَةِ
عَلَيْهِ، فَلَزِمَ النَّاذِرَ الإِْتْيَانُ بِهِمَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ
زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ هَذَا الزَّائِدَ لَمْ يُوجِبْهُ شَرْعٌ
وَلاَ لُغَةٌ (2) .
وَأَضَافُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ لاَ تُجْزِئُ فِي
الْفَرْضِ، فَلاَ تُجْزِئُ فِي النَّذْرِ كَالسَّجْدَةِ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
صَلاَةً مُطْلَقَةً أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً.
وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ (4) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ أَقَل الصَّلاَةِ
رَكْعَةٌ، فَإِنَّ الْوِتْرَ صَلاَةٌ مَشْرُوعَةٌ، وَهُوَ رَكْعَةٌ
وَاحِدَةٌ (5) .
ب - نَذْرُ الصِّيَامِ مُطْلَقًا:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِنْ نَذَرَ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2888، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234،
وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 423.
(2) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 57.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 279، وَالْكَافِي 4 / 423.
(4) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 6 / 306، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234،
وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 433.
(5) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 234، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَالْكَافِي 4 /
43.
(40/164)
صِيَامًا مُطْلَقًا وَلَمْ يُحَدِّدْ
عَدَدَ مَا يُصَامُ وَلاَ نَوَاهُ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامًا
يَلْزَمُهُ صِيَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ صَوْمٌ مُفْرَدٌ أَقَل مِنْ
يَوْمٍ، فَيَلْزَمُ مَنْ نَذَرَ صِيَامًا مُطْلَقًا صِيَامُهُ، لأَِنَّهُ
الْيَقِينُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ هُوَ أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي
الصِّيَامِ، وَهُوَ أَقَل مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصِّيَامِ، فَهُوَ
اللاَّزِمُ الْمُتَيَقَّنُ وَلاَ تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ،
لأَِنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا شَرْعٌ وَلاَ لُغَةٌ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ نَذْرَ الصِّيَامِ مُطْلَقًا نَذْرٌ مُبْهَمٌ،
لِعَدَمِ بَيَانِ عَدَدِ مَا يُصَامُ، وَالنَّذْرُ الْمُبْهَمُ يَمِينٌ،
وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ النَّاذِرُ قَدْ نَذَرَ
الصِّيَامَ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 320، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 /
257، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 3 / 305، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 233،
وَالْمُغْنَى 9 / 11، وَالْكَافِي 4 / 324، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 279.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 233، وَالْمُغْنِي 9 / 11، وَكَشَّاف
الْقِنَاع 6 / 279.
(3) كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 3 / 57.
(4) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71، وَبَدَائِع
الصَّنَائِع 6 / 2888.
(40/164)
نِيَّةٌ فِي عَدَدِ مَا يُصَامُ فِي
النَّذْرِ، فَإِنَّ هَذَا الصِّيَامَ يَنْصَرِفُ إِلَى صِيَامِ
الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَأَدْنَى مَا يُوجِبُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ صِيَامٍ هُوَ
صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَكَانَتْ هِيَ
الْوَاجِبَةَ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ (2) .
نَذْرُ صَوْمِ الدَّهْرِ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ الدَّهْرِ لَزِمَهُ
صِيَامُهُ، وَلَمْ يَدْخُل فِي نَذْرِهِ رَمَضَانُ؛ لأَِنَّ صِيَامَ
أَيَّامِهِ لاَ يَقَعُ إِلاَّ لِلْفَرِيضَةِ، كَمَا لاَ يَدْخُل فِي
نَذْرِهِ أَيَّامُ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ، فَلاَ تُصَامُ عَنْ
نَذْرِهِ، وَلاَ يَقْضِي هَذِهِ الأَْيَّامَ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُقْبَل
صَوْمًا، وَلِهَذَا لِلنَّاذِرِ أَنْ يَقْضِيَ مَا أَفْطَرَهُ مِنْ
رَمَضَانَ، وَيَصُومَ الْكَفَّارَاتِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ:
كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل وَالْوِقَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ
وَالْيَمِينِ، مُقَدِّمًا ذَلِكَ عَلَى النَّذْرِ؛ لأَِنَّ هَذَا
الصِّيَامَ وَاجِبٌ بِأَصْل الشَّرْعِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الصِّيَامِ
الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، كَتَقْدِيمِ حَجَّةِ
الإِْسْلاَمِ عَلَى الْمَنْذُورَةِ، فَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ
صِيَامِهِ هَذَا لِعُذْرٍ أَوْ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 6 / 2888.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ 3 / 71.
(40/165)
لِغَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ مَا أَفْطَرَهُ
مِنْهُ؛ لأَِنَّ الزَّمَنَ مُسْتَغْرَقٌ بِالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ، إِلاَّ
أَنَّهُ تَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ لِتَرْكِ الصِّيَامِ بِلاَ عُذْرٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْفِدْيَةِ، فَقَدَّرَهَا
الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَنْ كُل يَوْمٍ
أَفْطَرَهُ، أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُطْعِمُ عَنْ كُل يَوْمٍ
مُدًّا مِنْ طَعَامٍ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ التَّفْرِيطِ فِي صِيَامِ
رَمَضَانَ؛ لأَِنَّهَا كَفَّارَةٌ وَجَبَتْ لِلْفِطْرِ مُتَعَمِّدًا فِي
مَوْضِعٍ لاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ فِيهِ، وَهَذَا كَذَلِكَ.
وَقَال سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا؛ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا مَا لاَ يَجِدُ لَهُ قَضَاءً،
فَأَشْبَهَ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ
لَهُ قَضَاءً، إِذْ قَدْ جَاءَ أَنَّهُ لاَ يَقْضِيهِ بِصِيَامِ الدَّهْرِ
وَإِنْ صَامَهُ.
وَقَدَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُل يَوْمٍ،
سَوَاءٌ الْبُرُّ أَوِ الشَّعِيرُ أَوِ التَّمْرُ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ
أَقْوَاتِ الْبَلَدِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ
حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ لِكُل يَوْمٍ (1) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، والكفاية على الهداية للمرغيناني 2 / 276، ومواهب
الجليل 2 / 433، 449، المجموع 6 / 259، وروضة الطالبين 3 / 318، ونهاية
المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 496، والمغني 3 / 78، 9، وكشاف القناع 6
/ 279.
(40/165)
نَذْرُ صِيَامِ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ:
29 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ
فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصُومَهُ مِنْ بِدَايَةِ شَهْرٍ
هِلاَلِيٍّ أَوْ أَنْ يَصُومَهُ بِالْعَدَدِ، فَإِنْ صَامَهُ مِنْ
بِدَايَةِ شَهْرٍ هِلاَلِيٍّ، وَتَابَعَ فِي صِيَامِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ
نَذْرِهِ وَإِنْ خَرَجَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، وَإِنْ صَامَ بَعْدَ مُضِيِّ
بَعْضِ الشَّهْرِ الْهِلاَلِيِّ، أَوْ صَامَ شَهْرًا بِالْعَدَدِ
أَجْزَأَهُ صِيَامُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا احْتِيَاطًا، وَإِنِ احْتَمَل
لَفْظُ الشَّهْرِ أَنْ يَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ وَذَلِكَ
لأَِنَّ الشَّهْرَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، تَامًّا
كَانَ أَوْ نَاقِصًا، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا،
فَأَيُّهُمَا فَعَل النَّاذِرُ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُهُ إِنْ صَامَ شَهْرًا بِالْعَدَدِ
أَنْ يَصُومَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الشَّهْرَ
الْهِلاَلِيَّ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِ فِي صِفَةِ صِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَعَمَّا
إِذَا كَانَ يُجْزِئُهُ فِيهِ التَّفْرِيقُ، أَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
صِيَامِهِ التَّتَابُعُ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ
شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ - وَلَمْ يَشْتَرِطِ التَّتَابُعَ - فَهُوَ
بِالْخِيَارِ فِي صِيَامِهِ فَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ،
أَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ التَّتَابُعَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ
(40/166)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَوَجْهٌ لِبَعْضِ
أَصْحَابِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّوْمَ لاَ يَنْبَنِي عَلَى التَّتَابُعِ بَل
عَلَى التَّفْرِيقِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ بَيْنَ كُل يَوْمَيْنِ مِنَ
الْوَقْتِ مَا لاَ يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِيهِ، وَهُوَ اللَّيْل، فَكَانَ
لِلصَّائِمِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالتَّتَابُعِ (2) ، كَمَا
اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الشَّهْرَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ،
وَعَلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُ هَذَا
النَّاذِرَ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثِينَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعُ، كَمَا
لَوْ نَذَرَ صِيَامَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا إِلاَّ إِذَا اشْتَرَطَ
التَّتَابُعَ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُتَابِعَ فِي
صِيَامِهِ، اشْتَرَطَ التَّتَابُعَ أَمْ لاَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ
التَّفْرِيقُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (4) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع 6 / 2892 -
2893، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 451، وحاشية الدسوقي 1 / 538 -
540، وروضة الطالبين 3 / 310، ونهاية المحتاج 8 / 225 - 226، والمغني 9 /
27، والكافي 4 / 425.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2893، والمغني 9 / 28.
(3) المغني 9 / 27، والكافي 4 / 425
(4) المغني 9 / 27 - 28، والكافي 4 / 425، وكشاف القناع 6 / 281، والإنصاف
11 / 143.
(40/166)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ
لأَِيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ فَلاَ يُجْزِئُ مَنْ نَذَرَ صِيَامَهُ إِلاَّ
أَنْ يَصُومَهُ مُتَتَابِعًا، وَبِأَنَّ إِطْلاَقَ الشَّهْرِ يَقْتَضِي
التَّتَابُعَ فَلاَ يُصَامُ إِلاَّ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَقِيَاسًا
عَلَى مَا نَوَى التَّتَابُعَ فِي صِيَامِهِ (1) .
نَذْرُ صِيَامِ شَهْرٍ يَبْتَدِئُ مِنْ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَوَافَقَ
قُدُومُهُ غُرَّةَ رَمَضَانَ:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ
يَبْتَدِئُ مِنْ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَوَافَقَ قُدُومُهُ غُرَّةَ
رَمَضَانَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ ذَلِكَ
فَإِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ؛ لإِِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ إِنْ عَلِمَ
أَنَّ الْقَادِمَ غَدًا أَوْ نَحْوَهُ فَيَنْوِي الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل،
وَيُجْزِئُ صِيَامُهُ هَذَا عَنْ رَمَضَانَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ
لِلنَّذْرِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ قِيَاسُ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَعِكْرِمَةَ فِي الصَّرُورَةِ الَّذِي نَذَرَ الْحَجَّ: إِذْ
قَالاَ: يُجْزِئُ حَجُّهُ لَهُمَا جَمِيعًا، أَيْ لِلْفَرْضِ وَالنَّذْرِ،
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل
الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ
__________
(1) الكافي 4 / 425، والمغني 9 / 27، وكشاف القناع 6 / 281.
(40/167)
فِي الصَّرُورَةِ الَّذِي نَذَرَ الْحَجَّ
أَنَّهُ يُجْزِئُ مَا أَدَّاهُ لَهُمَا جَمِيعًا (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ هَذَا النَّاذِرَ أَنْ
يَصُومَ عَنْ فَرْضِهِ وَلاَ يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ عَنِ النَّذْرِ وَلاَ
كَفَّارَةٌ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصِيَامِ رَمَضَانَ
مُتَقَدِّمٌ عَلَى النَّذْرِ فَلَيْسَ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ
وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِهِ
مُخْلِصًا لَهُ، وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي حَال الصِّحَّةِ
وَالإِْقَامَةِ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِهِ، وَلاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ مِنْ
نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا
النَّذْرِ حُكْمٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ (2) ، وَأَنَّ النَّاذِرَ قَدْ قَيَّدَ
صِيَامَهُ بِالْيَوْمِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْقُدُومُ مِنَ الْغَائِبِ فِي
زَمَنٍ قَابِلٍ لِلصَّوْمِ؛ لأَِنَّ يَوْمَ الْقُدُومِ قَدْ شُغِل بِصَوْمٍ
مَفْرُوضٍ فَلاَ يُقْبَل أَنْ يُصَامَ لِغَيْرِهِ (3) وَأَنَّ النَّاذِرَ
قَدْ نَذَرَ صَوْمًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ صَامَ فِيهِ فَوَفَّى
مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
ذَلِكَ فَإِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ وَصِيَامَهُ فِي رَمَضَانَ يُجْزِئُهُ
عَنْ صِيَامِ الْفَرِيضَةِ وَلاَ يُجْزِئُهُ عَنِ الصِّيَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2875، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 539،
ونهاية المحتاج 8 / 216، وزاد المحتاج 4 / 501، والمغني 9 / 20، والكافي 4
/ 427 - 428.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2875.
(3) نهاية المحتاج 8 / 227.
(4) المغني 9 / 20، والكافي 4 /. 428.
(40/167)
الْمَنْذُورِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَ
صِيَامَ النَّذْرِ، وَيُكَفِّرَ لِتَأْخِيرِ صِيَامِهِ عَنِ الْوَقْتِ
الَّذِي عُيِّنَ لَهُ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ قِيَاسُ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ وَعُرْوَةَ فِي الصَّرُورَةِ الَّذِي نَذَرَ الْحَجَّ إِذْ
قَالُوا: يَبْدَأُ بِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ يَحُجُّ لِنَذْرِهِ،
وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِالْقِيَاسِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا النَّذْرَ
صَحِيحٌ؛ لأَِنَّهُ نَذْرٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْكِنُ
الْوَفَاءُ بِهِ غَالِبًا فَانْعَقَدَ مُوجِبًا الصِّيَامَ، كَمَا لَوْ
وَافَقَ شَعْبَانَ، وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ أَنْ يَقْضِيَ النَّذْرَ؛
لأَِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَنْ أَفْطَرَ هَذَا الشَّهْرَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ
يَصُمْهُ عَنْ نَذْرٍ (2) .
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ
أَنْ يَصُومَ يَوْمَ قُدُومِ غَائِبٍ فَصَادَفَ قُدُومُهُ أَوَّل يَوْمِ
رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صِيَامُهُ عَنِ النَّذْرِ وَلاَ عِنِ
الْفَرْضِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِرَمَضَانَ الْحَاضِرِ وَلاَ
قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلنَّذْرِ؛ لأَِنَّ الْمَنْذُورَ مُعَيَّنٌ بِوَقْتٍ،
وَقَدْ فَاتَ (3) .
__________
(1) المغني 9 / 20 - 21، والكافي 4 / 427 - 428، وكشاف القناع 6 / 238.
(2) المغني 9 / 20، والكافي 4 / 428.
(3) مواهب الجليل 2 / 393، وشرح الخرشي على مختصر خليل 2 / 238.
(40/168)
نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ
فَوَافَقَ قُدُومُهُ يَوْمًا يَحْرُمُ صِيَامُهُ:
31 - مَنْ نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَوَافَقَ قُدُومُهُ
يَوْمًا يَحْرُمُ صِيَامُهُ بِأَنْ كَانَ يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ
أَضْحَى، أَوْ كَانَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ صَادَفَ
قُدُومُهُ وَقْتَ حَيْضِ النَّاذِرَةِ أَوْ نِفَاسِهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا النَّاذِرَ لاَ
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، رُوِيَ هَذَا عَنِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِذْ قَال فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ
يَوْمٍ فَوَافَقَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ، وَقَال زُفَرُ: مَنْ نَذَرَ صَوْمَ
يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلاَ
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ نَذَرَتْ
صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ حَاضَتْ فِيهِ: لاَ
يَلْزَمُهَا شَيْءٌ بِهَذَا النَّذْرِ.
وَعَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ بِهَذَا النَّذْرِ هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، وبدائع الصنائع 6 / 2863، 2865، ومواهب الجليل 2 /
452 - 453، وكفاية الطالب الرباني 3 / 55، والمقدمات 1 / 404، وروضة
الطالبين 3 / 314، ونهاية المحتاج 8 / 27، وزاد المحتاج / 501، والمغني 9 /
22، والكافي 4 / 429.
(40/168)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الصِّيَامَ
قَدْ قُيِّدَ بِيَوْمِ غَائِبٍ وَلَمْ يُوجَدِ الْقُدُومُ فِي زَمَانٍ
قَابِلٍ لِلصَّوْمِ فَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ صِيَامٌ، وَلاَ تَلْزَمُهُ
كَفَّارَةٌ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ فَرْعُ وُجُوبِ الصِّيَامِ
عَلَيْهِ (1) ، كَمَا قَالُوا: إِنَّ الْمَنْذُورَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مَعْصِيَةً فِي ذَاتِهِ إِلاَّ أَنَّهُ وَقَعَ مَعْصِيَةً اتِّفَاقًا؛
لِوُقُوعِ الْقُدُومِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ فِي يَوْمٍ
يَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهِ، وَنَذْرُ الْمَعْصِيَةِ لاَ يَحِل لِلنَّاذِرِ
الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ (2) فَكَانَ
هَذَا النَّذْرُ مُعْتَبَرًا بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَلاَ يَلْزَمُ بِهِ
شَيْءٌ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
ذَلِكَ فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَلاَ
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَقَتَادَةَ. وَقَال بِهِ أَبُو
يُوسُفَ فِيمَنْ نَذَرَتْ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ فَقَدِمَ فِي
يَوْمٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 227، وزاد المحتاج 4 / 501.
(2) حديث: " لا وفاء لنذر في معصية " تقدم تخريجه (ف 16)
(3) بدائع الصنائع 6 / 2865، والمغني 9 / 22.
(40/169)
حَاضَتْ فِيهِ، وَمَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ، وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي غَيْرِ
هَذِهِ الأَْيَّامِ الَّتِي نَذَرَ صِيَامَهَا وَلاَ تَلْزَمُهُ
كَفَّارَةٌ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَال بِهَا
بَعْضُ أَصْحَابِهِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ هَذَا النَّاذِرَ قَدْ فَاتَهُ الصَّوْمُ
الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ تَرَكَ
الصِّيَامَ نِسْيَانًا، وَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؛ لأََنَّ الشَّرْعَ
مَنَعَهُ مِنْ صَوْمِهِ فَكَانَ كَالْمُكْرَهِ (2) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الْمَنْذُورَ هُنَا - وَهُوَ الصِّيَامُ عِنْدَ
قُدُومِ غَائِبٍ - مَحْمُولٌ عَلَى الْمَشْرُوعِ، فَإِذَا صَادَفَ يَوْمُ
قُدُومِ الْغَائِبِ يَوْمًا يَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهِ كَانَ إِفْطَارُهُ
فِيهِ لِعُذْرٍ، وَهُوَ مَنْعُ الشَّارِعِ مِنْ صِيَامِهِ، فَكَانَ
بِمَثَابَةِ مَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا لاَ
تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بِفِطْرِهِ فَكَذَلِكَ النَّاذِرُ (3) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ قُدُومِ غَائِبٍ، قَدْ
نَذَرَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ، كَمَا لَوْ وَقَعَ
النَّذْرُ بِالصِّيَامِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْيَّامِ الَّتِي تَصَادَفَ
قُدُومُ الْغَائِبِ فِيهَا (4) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 68، وبدائع الصنائع 6 / 2863 - 2865، وفتح القدير 4 /
26، والمغني 9 / 22، والكافي 4 / 429.
(2) المغني 9 / 22.
(3) الكافي 4 / 429.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2865.
(40/169)
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى
أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَنَذْرُهُ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ،
إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَصُومُ هَذَا الْيَوْمَ وَإِنَّمَا يَصُومُ يَوْمًا
مَكَانَهُ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْل الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ
أَنَّهُ قَال فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَوَّالٍ: إِنَّهُ يُفْطِرُ يَوْمَ
الْفِطْرِ، ثُمَّ يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل أَكْثَرِ
الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ هَذَا النَّاذِرَ قَدِ
الْتَزَمَ بِنَذْرٍ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ غَالِبًا فَكَانَ نَذْرُهُ
مُنْعَقِدًا، كَمَا لَوْ وَافَقَ يَوْمًا لاَ يَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهِ،
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ
الْغَائِبُ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ صَوْمَهُ، إِلاَّ أَنَّ النَّاذِرَ
يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ نَذْرَهُ مُنْعَقِدٌ، وَقَدْ فَاتَهُ
الصِّيَامُ بِالْعُذْرِ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِفَوَاتِهِ كَمَا
لَوْ فَاتَهُ بِمَرَضٍ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَفْطَرَ مَا نَذَرَ صَوْمَهُ،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَلَمْ يَصُمْهُ،
وَعُلِمَ مِنْهُ انْعِقَادُ نَذْرِهِ؛ لأَِنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ
النَّذْرُ
__________
(1) المغني 9 / 21 - 22، والكافي 4 / 429، وكشاف القناع 6 / 280.
(2) المغني 9 / 22.
(40/170)
زَمَنٌ يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّطَوُّعِ،
فَانْعَقَدَ نَذْرُهُ لِصَوْمِهِ، كَمَا لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا تَطَوُّعًا
وَنَذَرَ إِتْمَامَهُ (1) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الصَّوْمَ الَّذِي الْتَزَمَهُ النَّاذِرُ بِالنَّذْرِ
صَوْمٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ كَرَمَضَانَ، كَمَا
تَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لأَِنَّ النَّذْرَ كَالْيَمِينِ،
وَكَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَتِهِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا
النَّذْرَ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّ النَّاذِرَ إِنْ صَامَ هَذَا
الْيَوْمَ الْمُحَرَّمَ صِيَامُهُ، صَحَّ صَوْمُهُ وَأَجْزَأَهُ عَمَّا
نَذَرَ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي صَوْمِ يَوْمَيِ
الْعِيدَيْنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِهَذَا بِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَنْذُورَ إِنْ
تَعَيَّنَ وُقُوعُهُ فِي يَوْمٍ يَحْرُمُ صِيَامُهُ فَهُوَ قُرْبَةٌ مِنْ
حَيْثُ هُوَ صَوْمٌ، وَمَا كَانَ فِيهِ جِهَةُ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ
يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ (4) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ وَفَّى بِمَا نَذَرَهُ
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ مَعْصِيَةً فَفَعَلَهَا (5) .
__________
(1) المغني 9 / 22، وكشاف القناع 6 280.
(2) الكافي 4 / 429.
(3) رد المحتار 3 / 68، وفتح القدير 4 / 26، والمغني / 22.
(4) رد المحتار 3 / 68، وفتح القدير 4 / 26.
(5) المغني 9 / 22.
(40/170)
صِفَةُ صِيَامِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ
مُطْلَقَةٍ (مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ التَّتَابُعِ أَوْ عَدَمُهُ) :
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ صِيَامِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ
سَنَةٍ، وَأَطْلَقَ الصِّيَامَ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَعَمَّا إِذَا
كَانَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ صِيَامُهَا مُتَتَابِعَةً، أَوْ يُجْزِئُهُ
صِيَامُهَا مُفَرَّقَةً عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ
سَنَةٍ مُطْلَقَةٍ فَلاَ يَلْزَمُهُ فِي صِيَامِهَا التَّتَابُعُ،
وَإِنَّمَا هُوَ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَإِنْ
شَاءَ تَابَعَ. . إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَا أَفْطَرَهُ
مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ يَلْزَمُ النَّاذِرَ قَضَاؤُهُ فِي
غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يَصُومُ السَّنَةَ وَيَقْضِي رَمَضَانَ
وَيَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَيَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
وَمَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ
بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَيْسَ
فِيهَا رَمَضَانُ وَلَيْسَ فِيهَا يَوْمَا الْعِيدَيْنِ وَلاَ أَيَّامُ
مِنًى، أَوْ أَيَّامُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَقَضَاهَا فِي غَيْرِ
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَإِلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، فَيَرَوْنَ أَنَّ
لِلنَّاذِرِ إِنِ اخْتَارَ التَّفْرِيقَ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَمِائَةٍ
وَسِتِّينَ يَوْمًا، أَوِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلاَل، وَكُل
شَهْرٍ اسْتَوْعَبَهُ بِالصَّوْمِ فَنَاقِصُهُ كَالْكَامِل، وَإِنِ
انْكَسَرَ
(40/171)
شَهْرٌ أَتَمَّهُ ثَلاَثِينَ، وَإِنِ
اخْتَارَ التَّتَابُعَ صَامَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، وَقَضَى رَمَضَانَ
وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَأَيَّامَ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ، هَذَا هُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَثَمَّةَ وَجْهٌ فِي
الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّاذِرَ لاَ يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إِلاَّ بِصِيَامِ
ثَلاَثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ
الأَْصْحَابِ: أَنَّ النَّاذِرَ إِذَا صَامَ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى
الْمُحَرَّمِ، أَوْ مِنْ شَهْرٍ إِلَى مِثْلِهِ أَجْزَأَهُ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛
لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَامَ سَنَةً، وَمَا عَلَيْهِ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهٌ لِبَعْضِ
أَصْحَابِهِ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ
التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ السَّنَةِ الْمَنْذُورَةِ بِأَنَّ السَّنَةَ
الْمُتَفَرِّقَةَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا سَنَةٌ، فَيَتَنَاوَلُهَا
نَذْرُ النَّاذِرِ، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا
بِالأَْهِلَّةِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَهَا بِالْعَدَدِ، وَإِنَّمَا
لَزِمَهُ صِيَامُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ حَمْل
النَّذْرِ عَلَى سَنَةٍ لَيْسَ فِيهَا رَمَضَانُ، وَلاَ الأَْيَّامُ
الَّتِي لاَ يَجُوزُ صِيَامُهَا فَجُعِل نَذْرُهُ عَلَى مَا يَنْعَقِدُ
فِيهِ النَّذْرُ (2) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 2 / 104، 4 27، وبدائع الصنائع 6 /
2893، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 452، والدسوقي 1 / 539 - 540،
وروضة الطالبين 3 / 311، ونهاية المحتاج 8 / 226، وزاد المحتاج 4 / 499،
والمغني 9 / 25، والكافي 4 / 427.
(2) المغني 9 / 25.
(40/171)
وَقَالُوا: إِنَّ الصَّوْمَ لاَ يَنْبَنِي
عَلَى التَّتَابُعِ بَل عَلَى التَّفْرِيقِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَيْنَ كُل
يَوْمَيْنِ مَا لاَ يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِيهِ، وَهُوَ اللَّيْل، فَكَانَ
لِلصَّائِمِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالتَّتَابُعِ (1) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّاذِرَ لَمْ يَلْتَزِمْ بِالتَّتَابُعِ فِي
نَذْرِهِ صِيَامَ السَّنَةِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ فِي
صِيَامِهَا، فَلَهُ أَنْ يَصُومَ سَنَةً هِلاَلِيَّةً، أَوْ ثَلاَثَمِائَةٍ
وَسِتِّينَ يَوْمًا؛ لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ إِنْ صَامَ أَيًّا
مِنْهُمَا أَنَّهُ صَامَ سَنَةً، وَوَفَّى بِمَا نَذَرَ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
صِيَامَ سَنَةٍ مُطْلَقَةٍ لَزِمَهُ أَنْ يُتَابِعَ فِي صِيَامِهَا، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ هِيَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، وَعَلَى
هَذَا لاَ يَدْخُل فِي صِيَامِ هَذِهِ السَّنَةِ شَهْرُ رَمَضَانَ
وَالْعِيدَانِ.
وَفِي دُخُول أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي أَيَّامِ السَّنَةِ الَّتِي
يَلْزَمُ صِيَامُهَا نَذْرًا رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُ صِيَامُ هَذِهِ الأَْيَّامِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ
جُمْلَةِ السَّنَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَلْزَمُ صِيَامُهَا لِلنَّهْيِ عَنْهَا.
وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ وَفْقًا لِهَذَا الْمَذْهَبِ أَنْ يَصُومَ اثْنَيْ
عَشَرَ شَهْرًا، سِوَى رَمَضَانَ وَالأَْيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْ
صِيَامِهَا، فَإِنِ ابْتَدَأَهَا النَّاذِرُ مِنْ أَوَّل شَهْرٍ أَتَمَّ
أَحَدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2893، والمغني 9 / 28.
(2) نهاية المحتاج 8 / 226، وزاد المحتاج 4 / 499.
(40/172)
عَشَرَ شَهْرًا بِالْهِلاَل إِلاَّ شَهْرَ
شَوَّالٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّهُ بِالْعَدَدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَصُمْ مِنْ
أَوَّلِهِ، وَإِنِ ابْتَدَأَهَا مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ أَتَمَّ ذَلِكَ
الشَّهْرَ بِالْعَدَدِ، وَالْبَاقِي بِالْهِلاَل.
وَيَلْزَمُهُ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال أَنْ يَقْضِيَ شَهْرَ رَمَضَانَ
وَالأَْيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْ صِيَامِهَا (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي
صِيَامِ السَّنَةِ الْمَنْذُورَةِ بِأَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ
تَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَتَابِعَةِ، فَلَزِمَ النَّاذِرَ أَنْ يَصُومَهَا
كَذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ قَدْ عَيَّنَ بِنَذْرِهِ سَنَةً فَانْصَرَفَ إِلَى
سَنَةٍ كَامِلَةٍ (2) .
الْفِطْرُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي صِيَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ
مَنْذُورٍ عَلَى وَجْهِ التَّتَابُعِ:
أ - فِطْرُ النَّاذِرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ:
33 - إِذَا أَفْطَرَ النَّاذِرُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي صِيَامٍ غَيْرِ
مُعَيَّنٍ مَنْذُورٍ عَلَى وَجْهِ التَّتَابُعِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ
الصِّيَامِ بِلاَ كَفَّارَةٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
__________
(1) المغني 9 / 25، والكافي 4 / 427، وكشاف القناع 6 / 279.
(2) المغني 9 / 25، وكشاف القناع 6 / 279.
(3) رد المحتار 3 / 71، وبدائع الصنائع 6 / 2893، وروضة الطالبين 3 / 312،
والمغني 9 / 26، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281 - 282.
(40/172)
وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلاَءِ
مِنْ لُزُومِ اسْتِئْنَافِ الصِّيَامِ بَعْدَ هَذَا الْفِطْرِ الْقِيَاسُ
وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْقِيَاسُ فَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى
نَفْسِهِ صَوْمًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَقَدْ صَحَّ هَذَا
الإِْيجَابُ؛ لأَِنَّ صِفَةَ التَّتَابُعِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ، لِمَا
يَلْحَقُ النَّاذِرَ بِمُرَاعَاتِهَا مِنْ زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ، وَهِيَ
صِفَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا فِي كَفَّارَةِ
الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالإِْفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْيَمِينِ،
فَيَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالنَّذْرِ، فَتَلْزَمُ النَّاذِرَ كَمَا
الْتَزَمَ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاذِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَلَمْ يَأْتِ
بِمَا الْتَزَمَهُ اسْتَقْبَل الصِّيَامَ، كَمَا فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ
الظِّهَارِ وَالْقَتْل (1) .
كَمَا أَنَّ النَّاذِرَ قَدْ تَرَكَ التَّتَابُعَ الْمَنْذُورَ لِغَيْرِ
عُذْرٍ، مَعَ إِمْكَانِ الإِْتْيَانِ بِهِ فَلَزِمَهُ فِعْلُهُ. كَمَا لَوْ
نَذَرَ صَوْمًا مُعَيَّنًا فَصَامَ قَبْلَهُ (2) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَبْنِيَ
عَلَى مَا مَضَى مِنَ الصِّيَامِ قَبْل فِطْرِهِ لَبَطَل التَّتَابُعُ
الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَذَلِكَ لِتَخَلُّل الْفِطْرِ فِيهِ (3)
.
ب - فِطْرُ النَّاذِرِ لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ:
34 - الْعُذْرُ الَّذِي يَقْتَضِي الْفِطْرَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2893.
(2) المغني 9 / 26، والكافي 4 / 426.
(3) كشاف القناع 6 / 281.
(40/173)
الْمَنْذُورِ صِيَامُهَا عَلَى وَجْهِ
التَّتَابُعِ قَدْ يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الصِّيَامِ كَالْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ، أَوْ مُرَخِّصًا فِي الْفِطْرِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ،
أَوْ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لِتَحْرِيمِ
الشَّارِعِ صِيَامَ بَعْضِ الأَْيَّامِ فِيهَا كَيَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ
وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّاذِرَ إِنْ أَفْطَرَ لِسَبَبٍ مِنَ
الأَْسْبَابِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ فِطْرَهُ هَذَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ
فِي الصِّيَامِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ التَّتَابُعُ، وَيَلْزَمُهُ
اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ بَعْدَ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّ النَّاذِرَ إِنَّمَا
يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ، وَقَدِ الْتَزَمَ فِي نَذْرِهِ التَّتَابُعَ فِي
الصِّيَامِ، فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ آتِيًا
بِمَا نَذَرَ فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ لِيَأْتِيَ
بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِطْرَ يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ
وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، لاِسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ
شَرْعًا، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْضِيهَا مُتَوَالِيَةً مُتَّصِلَةً بِمَا
صَامَهُ عَمَلاً بِمَا شَرَطَهُ مِنَ التَّتَابُعِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا عَلَى النَّاذِرِ
الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ.
فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لِعَدَمِ التَّحَرُّزِ
عَنْ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ أَيَّامِ الْفِطْرِ
قَوْلَيْنِ: الْقَوْل الأَْظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجِبُ
__________
(1) رد المحتار 3 / 71، وبدائع الصنائع 6 / 2893.
(40/173)
الْقَضَاءُ لِقَبُول زَمَنِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ لِلصَّوْمِ فِي ذَاتِهِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ، كَمَا لَوْ
أَفْطَرَتِ النَّاذِرَةُ رَمَضَانَ لأَِجْلِهِمَا. وَقَال النَّوَوِيُّ:
بَل الأَْظْهَرُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ عَدَمُ وُجُوبِ
الْقَضَاءِ، وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْقَوْل الأَْخِيرَ جَمَاعَةٌ مِنْ
فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ أَيَّامَ الْحَيْضِ
أَوِ النِّفَاسِ لَمَّا لَمْ تَقْبَل الصَّوْمَ، وَلَوْ لِعُرُوضِ ذَلِكَ
الْمَانِعِ، لَمْ يَشْمَلْهَا النَّذْرُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْفِطْرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ لاَ يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ فِطْرٌ لِعُذْرٍ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
خَيَّرُوا مَنْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؛ لإِِتْيَانِهَا
بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ، أَوِ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ
صِيَامٍ قَبْل فِطْرِهَا، وَتُكَفِّرُ لِمُخَالَفَتِهَا مَا نَذَرَتْهُ،
إِذِ الْكَفَّارَةُ تَلْزَمُ لِتَرْكِهَا الْمَنْذُورَ وَإِنْ كَانَتْ
عَاجِزَةً عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ:
فَعَلَى الأَْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ فِطْرَ
النَّاذِرِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامَ،
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لاَ يَقْطَعُهُ، وَيَبْنِي النَّاذِرُ عَلَى مَا مَضَى
مِنْ صِيَامِهِ.
وَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ أَيَّامِ فِطْرِهِ الْقَوْلاَنِ فِي الْمَسْأَلَةِ
السَّابِقَةِ.
(40/174)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ
النَّاذِرَ إِنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ يَجِبُ مَعَهُ الْفِطْرُ بِأَنْ خَافَ
عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ فِطْرَهُ هَذَا لاَ
يَقْطَعُ التَّتَابُعَ حُكْمًا؛ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ، إِلاَّ
أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصِّيَامَ وَلاَ
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ؛ لإِِتْيَانِهِ بِالْمَنْذُورِ عَلَى
وَجْهِهِ، وَبَيْنَ الْبِنَاءِ عَلَى صِيَامِهِ قَبْل الْفِطْرِ،
وَتَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَفَّارَةٌ لِمُخَالَفَتِهِ فِيمَا
نَذَرَهُ؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ تَلْزَمُ مَنْ تَرَكَ الْمَنْذُورَ.
فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ بِسَبَبٍ يُبِيحُهُ كَالسَّفَرِ: فَعَلَى الْقَوْل
الأَْظْهَرِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا الْفِطْرَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَيَلْزَمُ
النَّاذِرَ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ أَفْطَرَ
بِاخْتِيَارِهِ.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ آخَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ
مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا الْفِطْرَ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ؛
لأَِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ يَقْتَضِي الْفِطْرَ فِي
رَمَضَانَ، فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ الَّذِي يَجِبُ مَعَهُ الْفِطْرُ، إِلاَّ
أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَيَّامِ فِطْرِهِ عَلَى مَذْهَبِ
الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ
ذَلِكَ (1) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 310 - 312، ونهاية المحتاج 8 / 225 - 226، والمغني 9
/ 25 - 26، وكشاف القناع 6 / 282.
(40/174)
الْفِطْرُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي
صِيَامٍ مُعَيَّنٍ مَنْذُورٍ:
35 - مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جُمُعَةٍ مُعَيَّنَةٍ،
ثُمَّ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ
حُكْمَ مَا صَامَهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَا إِذَا كَانَ فِطْرُهُ لِعُذْرٍ
أَوْ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أ - حُكْمُ فِطْرِ النَّاذِرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِي الصِّيَامِ
الْمُعَيَّنِ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ فِطْرِ النَّاذِرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ
فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي خِلاَل الشَّهْرِ
الْمُعَيَّنِ لِلصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّ فِطْرَهُ لاَ يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ
يَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامٍ قَبْل فِطْرِهِ، وَيَقْضِي مَا
أَفْطَرَهُ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي صِيَامِ
الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، قَدْ فَوَّتَ الْبِرَّ
بِاخْتِيَارِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلاَ يَسْتَأْنِفُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع
6 / 2893، وشرح الخرشي 2 / 251، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 428 -
429، 452، وروضة الطالبين 3 11، ونهاية المحتاج 8 255، وزاد المحتاج 4 /
497، والمغني 9 / 29، والكافي 4 / 426.
(40/175)
التَّتَابُعَ كَانَ لِلْوَقْتِ
الْمُعَيَّنِ؛ لاَ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي قَضَاءِ
رَمَضَانَ (1) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ النَّاذِرَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ
بِالنَّذْرِ صِيَامًا مُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ
التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الأَْيَّامِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ نَذَرَ
صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ مَثَلاً كَانَتْ أَيَّامُ الشَّهْرِ
مُتَجَاوِرَةً فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً، فَلاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاءُ
مَا أَفْطَرَهُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، إِذْ لاَ
يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاؤُهُ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ وُجُوبَ التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ الشَّهْرِ
الْمُعَيَّنِ إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ تَعْيِينِ الْوَقْتِ الَّذِي
يُصَامُ فِيهِ، وَلَمْ يَجِبِ التَّتَابُعُ بِالشَّرْطِ، فَلَمْ يُبْطِلْهُ
الْفِطْرُ فِي أَثْنَائِهِ، كَشَهْرِ رَمَضَانَ (3) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ لَوْ
أُلْزِمَ بِاسْتِئْنَافِ الصِّيَامِ لَوَقَعَ أَكْثَرُ الصِّيَامِ فِي
الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنْهُ النَّاذِرُ، وَلَوْ أَتَمَّ صِيَامَهُ
وَقَضَى مَا أَفْطَرَهُ لَكَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّوْمِ فِي
الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَاءِ
الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ لِلصَّوْمِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّ فِطْرَهُ يَقْطَعُ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497.
(2) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع 6 / 2893.
(3) روضة الطالبين 3 / 311، والمغني 9 / 29، والكافي 4 / 426.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2893، والمغني 9 / 29.
(40/175)
التَّتَابُعَ فِي الصِّيَامِ، وَيَلْزَمُهُ
اسْتِئْنَافُ الصِّيَامِ بَعْدَ الْفِطْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ
أَحْمَدَ هِيَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا:
يَلْزَمُ النَّاذِرَ أَنْ يُكَفِّرَ لِتَأْخِيرِ النَّذْرِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْجُمُعَةَ
الْمُعَيَّنَةَ أَوِ الشَّهْرَ الْمُعَيَّنَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ عَلَى
أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ لاَ مُفَرَّقَةٍ، وَالنَّاذِرُ لاَ يَلْزَمُهُ
إِلاَّ مَا نَذَرَ، فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ
فَلاَ يَكُونُ آتِيًا بِمَا نَذَرَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ
الصِّيَامَ لِيَأْتِيَ بِالْمَنْذُورِ عَلَى وَجْهِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ صِيَامَ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ يَجِبُ مُتَتَابِعًا
بِالنَّذْرِ؛ لأَِنَّ النَّاذِرَ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى صِفَةٍ
مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ فَوَّتَهَا بِفِطْرِهِ فَيَبْطُل الصِّيَامُ بِسَبَبِ
فِطْرِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، كَمَا لَوْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ
مُتَتَابِعًا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصِّيَامَ وَيُكَفِّرَ
لِتَأْخِيرِهِ النَّذْرَ (2) .
ب - حُكْمُ فِطْرِ النَّاذِرِ لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ فِي
صِيَامٍ مُعَيَّنٍ
__________
(1) المغني 9 / 28 - 29، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.
(2) المغني 9 / 28 - 29، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.
(40/176)
مَنْذُورٍ فَإِنَّ فِطْرَهُ هَذَا لاَ
يَقْطَعُ التَّتَابُعَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصِّيَامَ
بَعْدَ فِطْرِهِ، وَإِنَّمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى
مِنْ صِيَامٍ قَبْل الْفِطْرِ (1) ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا
يَلْزَمُ النَّاذِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى هَذَا النَّاذِرِ قَضَاءُ
الأَْيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ فِيمَنْ أَفْطَرَ بِسَبَبِ السَّفَرِ
خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلنَّذْرِ.
إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَال بِاسْتِحْبَابِ الْقَضَاءِ،
وَلَيْسَ الْوُجُوبَ.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ
بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، رَجَّحَهُ ابْنُ كَجٍّ،
وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي حَقِّ مَنْ
أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ
__________
(1) فتح القدير 4 / 27، وبدائع الصنائع 6 / 2893، ومواهب الجليل والتاج
والإكليل 2 / 428، وشرح الخرشي 2 / 251، وروضة الطالبين 3 / 310، 311،
ونهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497، والمغني 9 / 25، 29،
والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.
(2) رد المحتار 3 / 71، والمراجع السابقة.
(40/176)
صَوْمًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُوجِبْ
عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ
التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الأَْيَّامِ، فَإِنَّهُ إِنْ نَذَرَ
صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ كَانَتْ أَيَّامُهُ مُتَجَاوِرَةً، فَكَانَتْ
مُتَتَابِعَةً فَلاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ، كَمَا لَوْ
أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ؛ إِذْ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاؤُهُ،
وَإِنْ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ يَجِبُ مُتَتَابِعًا، فَكَذَلِكَ
الْفِطْرُ فِي الصِّيَامِ الْمَعَيَّنِ (1) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الصَّوْمَ الْمَنْذُورَ مَحْمُولٌ عَلَى
الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ، وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِعُذْرٍ لاَ
يَلْزَمُهُ إِلاَّ قَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ، فَكَذَلِكَ هَذَا الصِّيَامُ الْمُعَيَّنُ الْمَنْذُورُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الصِّيَامَ الْمَنْذُورَ
لِعُذْرٍ يَقْتَضِي الْفِطْرَ قَدْ تَرَكَهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، فَلاَ
يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ،
وَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ فَقَطْ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ
النِّفَاسِ يَجِبُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ يَقْبَل الصَّوْمَ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفِطْرُ
لِمَعْنًى فِيهَا، فَوَجَبَ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَتِ الْحَائِضُ
أَوِ النُّفَسَاءُ فِي رَمَضَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2893.
(2) المغني 9 / 29.
(3) الكافي 4 / 426.
(40/177)
لأَِجْلِهِمَا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ
لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ الْمُعَيَّنِ قَضَاءٌ وَلاَ كَفَّارَةٌ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ أَفْطَرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ
أَوْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ
فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي حَقِّ مَنْ أَفْطَرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ،
وَالأَْظْهَرُ فِي مَذْهَبِهِمْ فِي حَقِّ مَنْ أَفْطَرَتْ بِسَبَبِ
الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ أَيَّامَ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ لَمَّا
لَمْ تَقْبَل الصِّيَامَ لِعُرُوضِ ذَلِكَ الْمَانِعِ لَمْ يَشْمَلْهَا
النَّذْرُ فَلاَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالْكَفَّارَةُ فَرْعُ وُجُوبِ
الْقَضَاءِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْيَّامَ الْمُعَيَّنَةَ قَدْ فَاتَتْ
بِفَوَاتِ زَمَنِهَا (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ فِي الصِّيَامِ
الْمُعَيَّنِ الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (4) ،
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّاذِرَ بِتَعْيِينِهِ وَقْتَ الصِّيَامِ
الْمَنْذُورِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497.
(2) مواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 428، 452، وشرح الخرشي 2 / 251،
وروضة الطالبين 3 / 310، 311، ونهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 /
497.
(3) نهاية المحتاج 8 / 225، وزاد المحتاج 4 / 497، وروضة الطالبين 3 / 310،
ومواهب الجليل 2 / 428 - 429.
(4) المغني 9 / 29، والكافي 4 / 426، وكشاف القناع 6 / 281.
(40/177)
قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صِيَامًا
مُتَتَابِعًا، وَذَلِكَ لِتَتَابُعِ الأَْيَّامِ الْمُعَيَّنَةِ
الْمَنْذُورِ صِيَامُهَا، فَإِنْ أَفْطَرَ فِي أَثْنَائِهَا لَزِمَهُ
الْقَضَاءُ لِفِطْرِهِ، وَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ لِتَرْكِهِ صِفَةَ
نَذْرِهِ، فَقَدْ أَلْزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُخْتَ عُقْبَةَ كَفَّارَةً عَنْ نَذْرِهَا الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ حِينَ
عَجَزَتْ عَنِ الْوَفَاءِ بِصِفَةِ نَذْرِهَا (1) ، رَوَى عُقْبَةُ بْنُ
عَامِرٍ أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ
مُخْتَمِرَةٍ فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال: " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا،
فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى: " وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا (2) .
فَقْدُ النَّاذِرِ شُرُوطَ صِحَّةِ الصِّيَامِ خِلاَل الْمُدَّةِ
الْمُعَيَّنِ صِيَامُهَا:
38 - مَنْ نَذَرَ صِيَامًا مُعَيَّنًا وَقْتَ أَنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ
شُرُوطُ الصِّيَامِ، ثُمَّ فَقَدَ هَذِهِ الشُّرُوطَ أَوْ بَعْضَهَا خِلاَل
الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنِ صِيَامُهَا بِالنَّذْرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الصِّيَامِ خِلاَلَهَا بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوِ
النِّفَاسِ أَوْ بِسَبَبِ الْجُنُونِ.
فَإِنْ فَقَدَ النَّاذِرُ شَرْطَ صِحَّةِ الصِّيَامِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ
أَوِ النِّفَاسِ فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ
السَّابِقَةِ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) تقدم تخريجه ف 17.
(40/178)
39 - وَإِنْ فَقَدَ النَّاذِرُ شَرْطَ
صِحَّةِ الصِّيَامِ بِسَبَبِ الْجُنُونِ، فَلِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِي
ذَلِكَ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ الْجُنُونُ
فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَ صِيَامَهَا بِالنَّذْرِ أَوِ
اسْتَغْرَقَهَا جُنُونُهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْل
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَجْنُونَ قَدْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ
التَّكْلِيفِ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الصِّيَامِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ،
كَمَا لَوْ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَجْنُونَ فِي خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ
لِلصِّيَامِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ فِي وَقْتٍ
آخَرَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ؛ لأَِنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُقْضَى فِيهِ لَمْ
يُعَيَّنْ فِيهِ النَّذْرُ، فَإِيقَاعُ الصِّيَامِ فِيهِ إِيقَاعٌ لَهُ فِي
غَيْرِ زَمَانِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ جُنَّ فِي
أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ الَّتِي عَيَّنَ صِيَامَهَا بِالنَّذْرِ فَإِنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي
ثَوْرٍ (4) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 1 / 526، ونهاية المحتاج 8 / 225، والمغني 9 /
29، والكافي 4 / 430، وكشاف القناع 6 / 281.
(2) المغني 9 / 29، والكافي 4 / 430، وكشاف القناع 6 / 271.
(3) الشرح الكبير للدردير 1 / 526.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2894، والمغني 9 / 29.
(40/178)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الْمَجْنُونَ
مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ حَالَةَ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ، فَلَزِمَهُ
قَضَاءُ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ (1) وَقَالُوا
كَذَلِكَ: إِنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَقْتَ أَنْ كَانَ
مُكَلَّفًا، ثُمَّ أَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ فَوَّتَ
الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ، وَيَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ
مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا وَجَبَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إِذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ
(2) .
وَأَضَافُوا بِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عِنْدَ النَّذْرِ هُوَ بِإِيجَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَيُعْتَبَرُ بِالإِْيجَابِ الْمُبْتَدَأُ، وَمَا
أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ ابْتِدَاءً لاَ يَسْقُطُ
عَنْهُمْ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ هَذَا (3) .
نَذْرُ الاِعْتِكَافِ وَمَا يُوجِبُهُ عَلَى النَّاذِرِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ نَذْرِ الاِعْتِكَافِ بِاخْتِلاَفِ الْمَكَانِ أَوِ
الزَّمَانِ الْمُعَيَّنَيْنِ وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ: 40 - مَنْ
نَذَرَ اعْتِكَافًا فِي مَكَانٍ بِعَيْنِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا
عَيَّنَهُ فِي النَّذْرِ مَسْجِدًا مِنَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ (وَهِيَ
الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَا
__________
(1) المغني 9 / 29.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2894.
(3) المصدر السابق.
(40/179)
عَيَّنَهُ فِيهِ غَيْرَ هَذِهِ
الْمَسَاجِدِ، وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ تَعْيِينِ ذَلِكَ، وَعَمَّا إِذَا
كَانَ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي النَّذْرِ أَمْ لاَ.
أ - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
41 - مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلاَ خِلاَفَ
فِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَعَيُّنِ هَذَا الْمَسْجِدِ لِلاِعْتِكَافِ
الْمَنْذُورِ بِحَيْثُ لاَ يُجزِئُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، أَوْ
عَدَمُ تَعَيُّنِهِ لِذَلِكَ، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ
الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيمَا سِوَاهُ، قَال بِهِ
زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَا
عَلَيْهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) ، وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ
النَّبَوِيَّةِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول
اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، والشرح الكبير وحاشية
الدسوقي عليه 1 / 547، والتاج والإكليل 2 / 460، والمجموع 6 / 479، 481،
والمغني 3 / 215.
(40/179)
بِنَذْرِكَ (1) ، فَرَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِالْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَ مِنَ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَلَوْ كَانَ يُجْزِئُ الاِعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ
لَبَيَّنَهُ لَهُ، كَمَا بَيَّنَ لِمَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ
الأَْقْصَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَا نَذَرَهُ فِي مَسْجِدِ
مَكَّةَ؛ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلاً قَامَ
يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ
إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ
الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، قَال: صَل هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ،
فَقَال: صَل هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَال: شَأْنُكَ إِذَنْ (2)
، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي
غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَقَالُوا: إِنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَل
مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهُ بِمَا
دُونَهُ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ
فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ
مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ
__________
(1) حديث: " أوف بنذرك. . . " تقدم تخريجه (ف 5) .
(2) حديث: " إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة. . . " أخرجه أبو داود (3 /
602 ط حمص) ، وصححه ابن دقيق العيد كما في التلخيص لابن حجر (4 / 436 - ط
دار الكتب العلمية)
(3) المجموع 6 / 479، والمغني 3 / 215.
(40/180)
عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (1) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ
بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ
فِي غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ،
وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ،
فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ بِالنَّذْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ
يَتَقَيَّدَ بِمَا قُيِّدَ بِهِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ،
وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ
النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَلاَ يَدْخُل
تَحْتَ النَّذْرِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً، وَلَيْسَ فِي عَيْنِ
الْمَكَانِ الَّذِي يَعْتَكِفُ فِيهِ قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّهُ مَحَلٌّ تُؤَدَّى
فِيهِ الْقُرْبَةُ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً، فَلاَ يَدْخُل
الْمَكَانُ تَحْتَ نَذْرِهِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِهِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ
وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ (4) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَهُ مَا هُوَ
قُرْبَةٌ مُوجِبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 3889
(2) المصدر السابق.
(3) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، والمجموع 6 / 481،
وروضة الطالبين 2 / 398.
(4) المصادر السابقة.
(40/180)
تَخْصِيصِ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ
بِمَكَانٍ، بَل إِنَّمَا عُرْفُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَتَعَدَّى
لُزُومُ أَصْل الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ
بِمَكَانٍ، فَكَانَ مُلْغًى وَبَقِيَ لاَزِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ (1) .
ب - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
42 - مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، إِلاَّ
أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَعَيُّنِ هَذَا الْمَسْجِدِ
لِلاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، أَوْ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ، وَذَلِكَ عَلَى
ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي
مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ
يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَيُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلاَ يُجْزِيهِ الاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ
الأَْقْصَى؛ لأَِنَّهُ دُونَهُمَا فِي الْفَضْل، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ
الْمَسَاجِدِ. قَال بِهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلاَةٌ فِي
مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ
الْمَسَاجِدِ إِلاَّ
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(2) التاج والإكليل 2 / 460، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 547،
والمجموع 6 / 482، والمغني 3 / 215.
(40/181)
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (1) وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ: وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل
مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَرَدَ الشَّرْعُ بِشَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ (3) فَتَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ
كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي
الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ لِلاِعْتِكَافِ،
وَيَجُوزُ لِلنَّاذِرِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِهِ، وَلَوْ
كَانَ دُونَهُ فِي الْفَضْل، ذَهَبَ إِلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ
الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (5)
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ مَسْجِدَ
__________
(1) حديث: وصلاة في مسجدي هذا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 63 ط
السلفية) ، ومسلم (2 / 1012 ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة. . . " أخرجه ابن
ماجة (1 / 451 ط عيسى الحلبي) ، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات
(1 / 250 ط دار الجنان) .
(3) دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 3 / 63 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1014 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ لمسلم
(4) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(5) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، وبدائع الصنائع 6 /
2889، والمجموع 6 / 482، وروضة الطالبين 2 / 398.
(40/181)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لاَ يَجِبُ قَصْدُهُ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ
بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْمَقْصُودَ
مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَدْخُل
فِيهِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً، وَمَوْضِعُ الاِعْتِكَافِ لَيْسَ
قُرْبَةً؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعٌ تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَلِهَذَا فَلاَ
يَدْخُل الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ تَحْتَ النَّذْرِ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ بِهِ
النَّاذِرُ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ فِي النَّذْرِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّذْرَ مُوجِبٌ لِلْقُرْبَةِ وَتَخْصِيصُ
الْعِبَادَةِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَِحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ
بِمَكَانٍ بِالنَّذْرِ مَلْغِيٌّ، وَيَلْزَمُ النَّذْرُ بِالْقُرْبَةِ (3)
.
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ لاِعْتِكَافِهِ
مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ هَذَا
الْمَسْجِدَ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ، وَلاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ
يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ، قَال بِهَذَا
زُفَرُ وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ (4) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِنَ فِي خَيْرِ الْبِقَاعِ، وَقَدْ نَقَلَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَكَّةَ
__________
(1) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(3) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(4) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889، والمغني 3 / 215.
(40/182)
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّهَا
أَفْضَل، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ
فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (1) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الاِعْتِكَافَ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ،
لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَلاَ يَخْرُجُ
عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (2) .
وَأَضَافُوا: بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ
بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ
فِي غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ عَيَّنَهَا الشَّارِعُ لِلْعِبَادَاتِ،
فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ؛ إِذْ
يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهِ (3)
ج - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى:
43 - مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَإِنَّهُ
يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ فِيهِ، وَلَكِنْ ثَمَّةَ خِلاَفٌ فِي تَعَيُّنِهِ
بِالنَّذْرِ لِهَذَا الاِعْتِكَافِ، أَوْ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ، وَذَلِكَ
عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى
لاِعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ تَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ، وَجَازَ لَهُ
__________
(1) المغني 3 / 215.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(3) المصدر السابق.
(40/182)
أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، قَال
بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ
الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ
النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَال: " يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي
نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي
بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَل هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَال: صَل
هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَال: شَأْنُكَ إِذَنْ " (2) ، وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى زَادَ فَقَال: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ
لَوْ صَلَّيْتَ هَهُنَا لأََجْزَأَ عَنْكَ صَلاَةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ
(3) ، فَقَدْ بَيَّنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِمَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَنَّهُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 547، والتاج والإكليل 2 / 460،
والمجموع 6 / 482، والمغني 3 / 215.
(2) حديث: " صل هاهنا ". تقدم تخريجه (ف 41) .
(3) حديث: " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا. . . . ". أخرجه أبو داود
(3 / 603 ط حمص) من حديث عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم
(40/183)
يُجْزِئُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ هَذَا
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَِنَّهُ أَفْضَل مِنَ
الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ
فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ كَذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي
اللَّهُ لأََخْرُجَنَّ فَلأَُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةُ
زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا،
فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتِ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ،
وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُول: صَلاَةٌ فِيهِ أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ
الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ (1) .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي
الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَجْزَأَتْهُ صَلاَتُهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَذْرِهِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ
أَفْضَل مِنْهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ
الأَْقْصَى يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ أَفْضَل.
، وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى أَحَدُ
الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِشَدِّ الرِّحَال
__________
(1) حديث: " صلاة في مسجدي هذا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1014 - ط الحلبي) .
(40/183)
إِلَيْهَا، فَيَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ
كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي
الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ،
وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَلَوْ كَانَ
دُونَهُ فِي الْفَضْل، ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ
فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى لاَ يَجِبُ قَصْدُهُ
بِالشَّرْعِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ (3)
وَبِأَنَّ الْتِزَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ أَمْرٌ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ،
وَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ الْعِبَادَةِ بِمَكَانٍ
مُعَيَّنٍ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَِحَدٍ مِنْ
عِبَادِهِ، فَلاَ يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْل الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِ
النَّاذِرِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَأُلْغِيَ
تَخْصِيصُ النَّذْرِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، وَبَقِيَ لاَزِمًا بِمَا هُوَ
قُرْبَةٌ (4) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْغَايَةَ مِنَ النَّذْرِ هِيَ التَّقَرُّبُ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَدْخُل فِي النَّذْرِ إِلاَّ مَا كَانَ قُرْبَةً
وَلَيْسَ فِي تَخْصِيصِ إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ
قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَهَا لَيْسَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةٌ، فَلاَ
__________
(1) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(2) فتح القدير 2 / 104، والفتاوى الهندية 1 / 214، وبدائع الصنائع 6 /
2889، والمجموع 6 / 482، وروضة الطالبين 2 / 398 - 399.
(3) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(4) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(40/184)
يَدْخُل مَكَانُهَا تَحْتَ النَّذْرِ،
فَلاَ يَتَقَيَّدُ بِهِ (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى
لاِعْتِكَافِهِ تَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ
فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ قَال بِهِ زُفَرُ (2) .
وَاسْتُدِل بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ
مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَ
اللَّهُ أَدَاءَهُ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي
غَيْرِهِ، كَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ، فَمَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ
مُقَيَّدًا بِمَوْضِعٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِذَلِكَ (3)
.
وَقَال: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي
مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ
مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (4) .
د - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي
مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(2) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(4) المصدر السابق.
(40/184)
وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَعَمَّا إِذَا كَانَ
يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ أَوْ لاَ يَتَعَيَّنُ، وَذَلِكَ عَلَى
اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ مَسْجِدًا غَيْرَ
الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ لاِعْتِكَافِهِ، فَإِنَّهُ لاَ
يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ مِنَ
الْمَسَاجِدِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ لَهُمْ
أَنَّهُ يُخَيَّرُ سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال أَوْ لَمْ
يَحْتَجْ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُشَدُّ
الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَْقْصَى (2) فَالْمَسْجِدُ الْمُعَيَّنُ فِي
النَّذْرِ لَوْ كَانَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَلَزِمَ النَّاذِرَ
الْمُضِيُّ إِلَيْهِ وَاحْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ؛ لِقَضَاءِ
نَذْرِهِ فِيهِ، وَقَدْ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ شَدِّ الرِّحَال وَالسَّفَرِ
إِلاَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَيَلْزَمُ عَلَى
هَذَا عَدَمُ تَعَيُّنِ غَيْرِهَا بِالنَّذْرِ، لِلنَّهْيِ عَنْ شَدِّ
الرِّحَال إِلَيْهَا.
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889، ورد المحتار 3 / 71،
ومواهب الجليل والتاج والإكليل 2 / 461، 3 / 344، وكفاية الطالب الرباني
وحاشية العدوي 3 / 73، وشرح الزرقاني على خليل 3 / 105، والمجموع 6 / 479،
481، وروضة الطالبين 2 / 399، والمغني 3 / 214، كشاف القناع 2 / 352.
(2) حديث: " لا تشد الرحال. . . " سبق تخريجه (ف 42) .
(40/185)
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ لِعِبَادَتِهِ مَكَانًا مُعَيَّنًا، فَلاَ
يَتَعَيَّنُ هَذَا الْمَوْضِعُ بِتَعْيِينِ غَيْرِهِ (1) كَمَا أَنَّهُ لاَ
مَزِيَّةَ لِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ عَلَى بَعْضٍ بِاسْتِثْنَاءِ الْمَسَاجِدِ
الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ بَعْضُهَا بِالتَّعْيِينِ
(2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ إِلاَّ مَا كَانَ
قُرْبَةً، وَعَيْنُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ لَيْسَ
قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ، فَلاَ يَدْخُل فِي النَّذْرِ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ
بِهِ النَّذْرُ (3) .
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَهُ
مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجِبٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ
تَخْصِيصِ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ، إِنَّمَا عُرْفُ ذَلِكَ
لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْل الْقُرْبَةِ
بِالْتِزَامِهِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ
مُلْغًى، وَبَقِيَ النَّذْرُ لاَزِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي
مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ
بِالنَّذْرِ، وَلاَ يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ،
وَهَذَا قَوْل زُفَرَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيٌ
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
__________
(1) المغني 3 / 214، والكافي 1 / 368، 369.
(2) المجموع 6 / 479.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(4) رد المحتار 3 / 71، وفتح القدير 4 / 26.
(40/185)
سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى شَدِّ الرِّحَال
أَوْ لَمْ يَحْتَجْ (1) وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ
حَقِيقَتُهُ الاِنْكِفَافُ فِي سَائِرِ الأَْمَاكِنِ وَالتَّقَلُّبِ، كَمَا
أَنَّ الصَّوْمَ انْكِفَافٌ عَنْ أَشْيَاءَ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ،
فَنِسْبَةُ الاِعْتِكَافِ إِلَى الْمَكَانِ كَنِسْبَةِ الصَّوْمِ إِلَى
الزَّمَانِ، وَلَوْ عَيَّنَ النَّاذِرُ يَوْمًا لِصَوْمِهِ تَعَيَّنَ عَلَى
الصَّحِيحِ، فَلْيَتَعَيَّنِ الْمَسْجِدُ بِالتَّعْيِينِ أَيْضًا (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ
بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ
أَدَاءَهُ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ،
كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى
نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ (3) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافًا
فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنْ أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا
مَا عَلَيْهِ، فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (4) .
ثَانِيًا: نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ:
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ عَيَّنَ زَمَانًا
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889، والمجموع 6 / 481، وروضة
الطالبين 2 / 399.
(2) المجموع 6 / 481.
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(4) المصدر السابق.
(40/186)
مُعَيَّنًا لاِعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ،
وَفِيمَا إِذَا كَانَ هَذَا الزَّمَانُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ
لاَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَعَيَّنُ
بِتَعْيِينِهِ، وَيَلْزَمُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، فَلاَ
يَعْتَكِفُ فِي غَيْرِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّقَدُّمُ عَلَى هَذَا
الزَّمَانِ بِالاِعْتِكَافِ أَوِ التَّأَخُّرُ عَنْهُ، قَال بِهَذَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ
عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ إِيجَابُ مَا شُرِعَ فِي الْوَقْتِ
نَفْلاً، وَقَدْ أَوْجَبَ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي
وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْل مَجِيئِهِ، فَإِذَا جَاءَ
الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ لِلاِعْتِكَافِ تَعَيَّنَ لِلنَّذْرِ، وَوَجَبَ
الاِعْتِكَافُ فِيهِ (2) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ
بِالنَّذْرِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عَيَّنَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ زَمَنًا مُعَيَّنًا لِعِبَادَتِهِ فِيهِ
تَعَيَّنَ هَذَا الْوَقْتُ لِلْعِبَادَةِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ
الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنَ اعْتِكَافٍ فِي زَمَانٍ
مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَذَلِكَ لأَِدَائِهِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 104، ورد المحتار 2 / 131، والمقدمات الممهدات 1 / 261،
والمجموع 6 / 482، والكافي 1 / 369، وكشاف القناع 2 / 355.
(2) بدائع الصنائع 6 / 2890.
(3) الكافي 1 / 369.
(40/186)
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ
أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنِ
اعْتَكَفَ فِي غَيْرِ هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُؤَدِّيًا
مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ
الْوَاجِبِ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ زَمَانًا لاِعْتِكَافِهِ
الْمَنْذُورِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ، وَيُجْزِئُ
النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي زَمَانٍ غَيْرِهِ قَبْل هَذَا الزَّمَانِ
الْمُعَيَّنِ أَوْ بَعْدَهُ، قَال بِهَذَا أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهٌ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ وُجُوبَ الاِعْتِكَافِ
ثَابِتٌ قَبْل الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ النَّذْرُ، فَكَانَ
أَدَاؤُهُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ
فَيَجُوزُ، وَالدَّلِيل عَلَى تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ قَبْل الْوَقْتِ
الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ
الإِْمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ؛ لِقَوْل الْحَقِّ سُبْحَانَهُ: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
(3) ؛ وَلأَِنَّ الْعِبَادَةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، إِلاَّ أَنَّ
الشَّرْعَ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ تَرْكَهَا فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ، فَإِذَا
نَذَرَ فَقَدِ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 214، وفتح القدير 2 / 104، ورد المحتار 2 / 131،
والمجموع 6 / 482.
(3) سورة الحج / 77
(40/187)
الرُّخْصَةَ، فَيَعُودُ حُكْمُ
الْعَزِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلْحَال
وَهُوَ النَّذْرُ، وَإِنَّمَا الأَْجَل تَرْفِيهٌ يُتَرَفَّهُ بِهِ فِي
التَّأْخِيرِ، فَإِذَا عَجَّل فَقَدْ أَحْسَنَ فِي إِسْقَاطِ الأَْجَل
فَيَجُوزُ؛ وَهَذَا لأَِنَّ صِيغَةَ النَّذْرِ لِلإِْيجَابِ، وَالأَْصْل
فِي كُل لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي زَمَانٍ اعْتِبَارُهُ فِيهِ فِيمَا
يَقْتَضِيهِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَلاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ وَلاَ
تَغْيِيرُهُ إِلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، إِلاَّ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْ
ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، وَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى إِبْطَال صِيغَةِ النَّذْرِ
وَلاَ إِلَى تَغْيِيرِهَا وَلاَ دَلِيل سِوَى ذِكْرِ الْوَقْتِ، وَهُوَ
مُحْتَمَلٌ، فَقَدْ يُذْكَرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ، كَمَا فِي بَابِ
الصَّلاَةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِصِحَّةِ الأَْدَاءِ كَمَا فِي الْحَجِّ
وَالأُْضْحِيَّةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ كَمَا
فِي وَقْتِ الإِْقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ وَالْحَوْل فِي بَابِ الزَّكَاةِ،
فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلاً، فَلاَ يَجُوزُ
إِبْطَال صِيغَةِ الإِْيجَابِ الْمَوْجُودَةِ لِلْحَال مَعَ الاِحْتِمَال،
فَبَقِيَتِ الصِّيغَةُ مُوجِبَةً، وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلتَّرْفِيهِ
وَالتَّوْسِعَةِ، كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى إِبْطَال الثَّابِتِ بِيَقِينٍ
إِلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2890 - 2891.
(40/187)
ثَالِثًا: وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ
فِي الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فِي الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ:
46 - مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ زَمَانٍ بِعَيْنِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
قَدْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ
نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ
الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ
كُلٍّ مِنْهَا.
أ - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ
مُعَيَّنَةٍ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ
مُعَيَّنَةٍ فِي حُكْمِ هَذَا النَّذْرِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ أَوْ
عَدَمِ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ
لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ صَحَّ نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا، فَيَدْخُل
مُعْتَكَفَهُ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ عُمَرَ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي
__________
(1) زاد المحتاج 1 / 544، والمغني 3 / 187، 214 والكافي 1 / 368.
(40/188)
الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (1) .
وَبِأَنَّ الاِعْتِكَافَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الإِْقَامَةُ، وَكُل
إِقَامَةٍ فِي مَسْجِدٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ
اعْتِكَافٌ وَعُكُوفٌ، فَإِذًا لاَ شَكَّ فِي هَذَا، فَالاِعْتِكَافُ
يَقَعُ عَلَى مَا قَل مِنَ الأَْزْمَانِ أَوْ كَثُرَ، إِذْ لَمْ يَخُصَّ
الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ وَلاَ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ
(2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ
لَيْلَةٍ مُفْرَدَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلاَ
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الاِعْتِكَافِ،
وَالصَّوْمُ الْمُشْتَرَطُ فِيهِ لاَ يَصِحُّ فِي أَقَل مِنْ يَوْمٍ،
أَمَّا اللَّيْل فَلَيْسَ مَحَلًّا لِلصِّيَامِ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنَ
النَّاذِرِ مَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي الاِعْتِكَافِ تَبَعًا، فَلَمْ
يُصَادِفِ النَّذْرُ مَحَلَّهُ (4) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ
مُفْرَدَةٍ لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
__________
(1) حديث: " أوف بنذرك ". سبق تخريجه (ف 5) .
(2) زاد المحتاج 1 / 544، والمغني 3 / 187، 214، والكافي 1 / 368، والمحلي
5 / 179.
(3) الدر المختار 2 / 130، والبحر الرائق 2 / 323، 328، وبدائع الصنائع /
1059.
(4) البحر الرائق 2 / 323، وبدائع الصنائع 3 / 1059.
(40/188)
الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ تَشْتَرِطُ الصَّوْمَ لِصِحَّةِ الاِعْتِكَافِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الاِعْتِكَافِ الصَّوْمَ، وَلاَ
يَجُوزُ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ اعْتِكَافُ لَيْلَةٍ
فَلاَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ إِذِ انْعِقَادُ صَوْمِ النَّهَارِ
إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيْل (2) .
ب - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ
بِعَيْنِهِ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ دُخُول الْمُعْتَكِفِ إِلَى
مُعْتَكَفِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ
وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ
مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَدْخُل إِلَى مُعْتَكَفِهِ قَبْل طُلُوعِ فَجْرِ
يَوْمِ الاِعْتِكَافِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَحُكِيَ قَوْلاً لِمَالِكٍ،
وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيِّ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (3) .
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 458، وبداية المجتهد 1 / 314، والمغني 3 / 187،
والكافي 1 / 368.
(2) بداية المجتهد 1 / 229، 230.
(3) البحر الرائق 2 / 328، وبدائع الصنائع 3 / 1059، والمقدمات الممهدات 1
/ 259، ومواهب الجليل 2 / 459، وبداية المجتهد 1 / 315، وروضة الطالبين 2 /
401، والمغني 3 / 213، والكافي 1 / 370، وكشاف القناع 2 / 354.
(40/189)
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الْيَوْمَ
اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ أَنْ
يَدْخُل الْمَسْجِدَ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَقَعَ اعْتِكَافُهُ
فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْيَوْمِ، فَقَدْ قَال
الْخَلِيل: الْيَوْمُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ
الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا دَخَل اللَّيْل فِي الاِعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ
ضِمْنًا، وَلِهَذَا خَصَصْنَاهُ بِمَا بَيْنَ الأَْيَّامِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْمُعْتَكِفَ لَمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ مَعَ
اعْتِكَافِهِ فَإِنَّ اللَّيْل كُلَّهُ وَقْتٌ لِتَبْيِيتِ الصِّيَامِ،
فَأَيُّ وَقْتٍ نَوَى فِيهِ الْمُعْتَكِفُ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل
أَجْزَأَهُ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ
يَدْخُل إِلَى مُعْتَكَفِهِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ قَبْل
غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ السَّابِقِ لِيَوْمِ الاِعْتِكَافِ، وَيَخْرُجُ
مِنْهُ بِغُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الاِعْتِكَافِ وَلاَ يُجْزِئُهُ الدُّخُول
إِلَى مُعْتَكَفِهِ قَبْل
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 1059.
(2) المغني 3 / 213.
(3) المقدمات الممهدات 1 / 259.
(40/189)
طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الاِعْتِكَافِ
إِلاَّ إِذَا نَوَى اعْتِكَافَ يَوْمٍ بِلاَ لَيْلَةٍ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ يَقَعُ عَلَى اللَّيْل
وَالنَّهَارِ مَعًا، فَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَهُ
أَنْ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ السَّابِقِ
لِيَوْمِ اعْتِكَافِهِ، حَتَّى يَكُونَ آتِيًا بِمَا نَذَرَهُ مِنَ
اعْتِكَافِ الْيَوْمِ الَّذِي عَيَّنَهُ (2) .
ج - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ دُخُول الْمُعْتَكِفِ إِلَى
مُعْتَكَفِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ
بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ
شَهْرٍ، فَإِنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ
السَّابِقِ لِيَوْمِ بِدَايَةِ الاِعْتِكَافِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ
غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ، إِلَى
هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 1 / 259، ومواهب الجليل 2 / 458، 459، وكفاية الطالب
الرباني وحاشية العدوي 2 / 329، وبداية المجتهد 1 / 315، وروضة الطالبين 2
/ 401، والمجموع 6 / 496.
(2) بداية المجتهد 1 / 315.
(3) البحر الرائق 2 / 329، وبدائع الصنائع 3 / 1061، وكفاية الطالب الرباني
وحاشية العدوي 2 / 329، وبداية المجتهد 1 / 314، وروضة الطالبين 2 / 401،
والمغني 3 / 210، والكافي 1 / 369، وكشاف القناع 2 / 355.
(40/190)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّاذِرَ قَدْ
نَذَرَ اعْتِكَافَ الشَّهْرِ، وَأَوَّل الشَّهْرِ هُوَ غُرُوبُ شَمْسِ
الْيَوْمِ السَّابِقِ لَهُ، وَلِهَذَا تَحِل الدُّيُونُ الْمُعَلَّقَةُ
بِهِ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ وَالْعِتَاقُ الْمُعَلَّقَانِ بِهِ، فَوَجَبَ
عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَدْخُل قَبْل الْغُرُوبِ لِيَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ
الشَّهْرِ، فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ اعْتِكَافُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَمَا
لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ
مِنَ اللَّيْل مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ اللَّيَالِيَ كُلَّهَا تَابِعَةٌ لِلأَْيَّامِ
الْمُسْتَقْبَلَةِ، لاَ لِلأَْيَّامِ الْمَاضِيَةِ، إِلاَّ فِي الْحَجِّ
فَإِنَّهَا فِي حُكْمِ الأَْيَّامِ الْمَاضِيَةِ، فَلَيْلَةُ عَرَفَةَ
تَابِعَةٌ لِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَلَيْلَةُ النَّحْرِ تَابِعَةٌ
لِيَوْمِ عَرَفَةَ، وَلَيَالِي أَيَّامِ الأَْضْحَى تَبَعٌ لِنَهَارِ مَا
مَضَى، وَذَلِكَ رِفْقًا بِالنَّاسِ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
اعْتِكَافَ شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ
مِنْ أَوَّل أَيَّامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ
شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ. قَال بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 211، وكشاف القناع 2 / 354.
(2) البحر الرائق 2 / 329.
(3) بداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 210.
(40/190)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى
الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَل مُعْتَكَفَهُ (1) .
وَقَالُوا: لأَِنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِصِيَامِ شَهْرِ
رَمَضَانَ كُل مَنْ شَهِدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَصِيَامُ هَذَا
الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ مِنْ قَبْل طُلُوعِ فَجْرِ
أَوَّل أَيَّامِهِ، فَكَذَلِكَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ بِالنَّذْرِ
لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ قَبْل طُلُوعِ فَجْرِ أَوَّل أَيَّامِهِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الاِعْتِكَافِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصِيَامٍ (3) ، وَوَقْتُ
الصِّيَامِ يَبْتَدِئُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ
الاِعْتِكَافِ قَبْل شَرْطِهِ (4) .
د - وَقْتُ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ
الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ دُخُول الْمُعْتَكِفِ إِلَى
مُعْتَكَفِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ فِي نَذْرِ اعْتِكَافِ الْعَشْرِ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله كله إذا أراد أن يعتكف. . . " أخرجه مسلم (2 /
831 ط عيسى الحلبي) .
(2) المغني 3 / 211.
(3) حديث: " لا اعتكاف إلا بصيام ". أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 440 ط
دائرة المعارف العثمانية) ، وعنه البيهقي (4 / 317 ط دائرة المعارف
العثمانية) ، وذكر البيهقي أن في إسناده راويا ضعيفا.
(4) المغني 3 / 211.
(40/191)
الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ
عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ
الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَدْخُل مُعْتَكَفَهُ
قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ
رَمَضَانَ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، إِلَى هَذَا
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ
هَؤُلاَءِ - عَدَا الْحَنَفِيَّةِ - أَنْ يَبِيتَ الْمُعْتَكِفُ لَيْلَةَ
الْعِيدِ فِي مُعْتَكَفِهِ، لِيُحْيِىَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ يَخْرُجَ
مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلَى الْمُصَلَّى. وَقَال سَحْنُونٌ وَابْنُ
الْمَاجِشُونِ: إِنْ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ فَسَدَ
اعْتِكَافُهُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَْوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ،
فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ،
وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ،
قَال: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329، وبدائع الصنائع 3 / 1059، وكفاية الطالب الرباني
وحاشية العدوي 2 / 329، وبداية المجتهد 1 / 315، والمجموع 6 / 491، وروضة
الطالبين 2 / 401، ومغني المحتاج 1 / 456، والمغني 3 / 211، والكافي 1 /
369، 376، وكشاف القناع 2 / 354.
(40/191)
فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ (1)
.
وَقَالُوا: إِنَّ الْعَشْرَ - بِغَيْرِ هَاءٍ - هِيَ عَدَدُ اللَّيَالِي،
وَأَوَّل اللَّيَالِي الْعَشْرِ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَلَزِمَ
النَّاذِرَ أَنْ يَكُونَ فِي مُعْتَكَفِهِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ (2) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ
الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَدْخُل
مُعْتَكَفَهُ بَعْدَ صَلاَةِ صُبْحِ يَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ
مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، قَال بِهِ إِسْحَاقُ، وَالأَْوْزَاعِيُّ،
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
(3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعْتَكِفُ فِي كُل رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَل مَكَانَهُ
الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ (4) .
__________
(1) حديث: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط. .
. . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 271 ط السلفية) .
(2) المغني 3 / 211.
(3) بداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 212، والكافي 1 / 369، عون الباري
لحل أدلة صحيح البخاري لصديق بن حسن القنوجي 3 / 510.
(4) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان. . . "
أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 283 - 284 ط السلفية) .
(40/192)
رَابِعًا: حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي
الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي الاِعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ بِحَسَبِ
مَا إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي النَّذْرِ أَوْ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فِيهِ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي اعْتِكَافِ مَنْذُورٍ شُرِطَ فِيهِ
التَّتَابُعُ:
51 - مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، أَوْ نَوَى
التَّتَابُعَ فِي اعْتِكَافِهَا، لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ
التَّتَابُعِ، وَدَخَل اللَّيْل فِي اعْتِكَافِ هَذِهِ الأَْيَّامِ،
وَلَزِمَهُ مَا بَيْنَ الأَْيَّامِ مِنَ اللَّيَالِي، إِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1)
.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي الاِعْتِكَافِ زِيَادَةُ
قُرْبَةٍ، فَلَزِمَ الْمُعْتَكِفَ بِالْتِزَامِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ التَّتَابُعَ وَصْفٌ مَقْصُودٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ
الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْبَاقِي مِنَ الأَْيَّامِ الْمَنْذُورِ
اعْتِكَافُهَا، عَقِبَ الإِْتْيَانِ بِبَعْضِهَا (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ الْيَوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ
إِلاَّ أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ تَدْخُل لِضَرُورَةِ حُصُول
التَّتَابُعِ وَالدَّوَامِ (3) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329، وبدائع الصنائع 3 / 1061، 1062، والتاج والإكليل
2 / 459، وروضة الطالبين 2 / 399، 401، ومغني المحتاج 1 / 455، والمغني 3 /
213، والكافي 1 / 370.
(2) مغني المحتاج 1 / 455.
(3) المغني 3 / 213، والبدائع 3 / 1060.
(40/192)
ب - حُكْمُ التَّتَابُعِ فِي اعْتِكَافٍ
مَنْذُورٍ لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ التَّتَابُعُ:
52 - مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ زَمَانٍ دُونَ اشْتِرَاطِ تَتَابُعٍ فِي
اعْتِكَافِهِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّتَابُعِ فِيهِ عَلَى
مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا النَّاذِرَ
يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي اعْتِكَافِهِ هَذَا الزَّمَانَ، وَإِلَى هَذَا
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ يَحْصُل فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ،
فَإِذَا أَطْلَقَهُ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّتَابُعُ، اقْتَضَى
التَّتَابُعَ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لاَ يُكَلِّمُ زَيْدًا شَهْرًا،
فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَتَابِعًا، وَقِيَاسًا عَلَى مُدَّةِ الإِْيلاَءِ
وَالْعُنَّةِ وَالْعِدَّةِ (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مُتَتَابِعًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ
كَذَلِكَ مُتَتَابِعًا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ بِالنَّذْرِ، وَالإِْطْلاَقُ
فِي الاِعْتِكَافِ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّتَابُعِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ
الاِعْتِكَافَ يَدُومُ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ، فَكَانَ مُتَّصِل
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329، بدائع الصنائع 3 / 1061، 1063، والتاج والإكليل
2 / 459، وروضة الطالبين 2 / 399، ومغني المحتاج 1 / 456، والمغني 3 / 212،
والكافي 1 / 369، وكشاف القناع 2 / 355.
(2) مغني المحتاج 1 / 456، والمغني 3 / 212، وكشاف القناع 2 / 355.
(40/193)
الأَْجْزَاءِ، وَمَا كَانَ مُتَّصِل
الأَْجْزَاءِ لاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ (1)
.
وَأَضَافَ هَؤُلاَءِ: بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ عِبَادَةٌ دَائِمَةٌ،
وَمَبْنَاهَا عَلَى الاِتِّصَال؛ لأَِنَّهَا لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ،
وَاللَّيَالِي قَابِلَةٌ لِلُّبْثِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّتَابُعِ فِيهِ،
وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، إِلاَّ أَنَّ
فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَفِي ذَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ (2) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ هَذَا النَّاذِرَ لاَ
يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي اعْتِكَافِهِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَمَا عَلَيْهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا
يَسْتَحِبُّونَ لِلنَّاذِرِ التَّتَابُعَ فِي اعْتِكَافِهِ هَذَا، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ مَعْنًى يَصِحُّ فِيهِ
التَّفْرِيقُ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ بِمُطْلَقِ النَّذْرِ
كَالصِّيَامِ (4) .
وَبِأَنَّ لَفْظَ النَّذْرِ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ، وَلَمْ
يَنْوِ النَّاذِرُ التَّتَابُعَ فِي الاِعْتِكَافِ، فَيَجْرِي اللَّفْظُ
عَلَى إِطْلاَقِهِ وَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ التَّتَابُعُ فِي
الاِعْتِكَافِ كَمَا فِي الصَّوْمِ (5) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 329.
(2) بدائع الصنائع 3 / 1062، والمغني 3 / 212.
(3) بدائع الصنائع 3 / 1061، وروضة الطالبين 2 / 399، ومغني المحتاج 1 /
456، والمغني 3 / 212، والكافي 1 / 370، والإنصاف 3 / 370.
(4) المغني 3 / 212.
(5) بدائع الصنائع 3 / 1062.
(40/193)
خَامِسًا: حُكْمُ الْتِزَامِ الْمُعْتَكِفِ
بِالصِّيَامِ أَثْنَاءَ اعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ:
53 - مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛
لأَِنَّ الصَّوْمَ صِفَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الاِعْتِكَافِ، فَلَزِمَ
بِالنَّذْرِ، عَمَلاً بِالْتِزَامِهِ، كَالْتِزَامِهِ التَّتَابُعَ فِي
الاِعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
54 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ
مُطْلَقًا، دُونَ الْتِزَامِ الصِّيَامِ مَعَهُ بِالنَّذْرِ، وَعَمَّا
إِذَا كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا، أَمْ أَنَّهُ لاَ
يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ مَعَ اعْتِكَافِهِ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُهُ
الاِعْتِكَافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا
مُطْلَقًا عَنِ اشْتِرَاطِ الصِّيَامِ مَعَهُ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ
صَائِمًا، فَلاَ يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ إِلاَّ بِصَوْمٍ، رُوِيَ هَذَا عَنِ
ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَنَافِعٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَالْمَالِكِيَّةُ، هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي
الْقَدِيمِ (2) .
__________
(1) المبسوط 3 / 116، والمقدمات 1 / 257، ونهاية المحتاج 8 / 235، وزاد
المحتاج 1 / 545، والمغني 3 / 185، والكافي 1 / 368.
(2) بدائع الصنائع 3 / 1059، الدر المختار ورد المحتار 2 / 130، والمبسوط 3
/ 115، ومواهب الجليل 2 / 460، والمقدمات الممهدات 1 / 257، 258، وبداية
المجتهد 1 / 315، والمغاني 3 / 185 - 186، الكافي 1 / 368، ومغني المحتاج 1
/ 453، وروضة الطالبين 2 / 393.
(40/194)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْل وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ (1)
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ الاِعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ
فِي هَذِهِ الآْيَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَكُونُ
إِلاَّ بِصَوْمٍ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ جَعَل عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ
يَعْتَكِفَ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال لَهُ: اعْتَكِفْ وَصُمْ (2) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ
بِصِيَامٍ (3) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالاَ: " مَنِ اعْتَكَفَ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) حديث: " اعتكف وصم ". أخرجه أبو داود (2 / 837 - 838 ط حمص) ، والبيهقي
في السنن (4 / 316 ط دائرة المعارف العثمانية) ، وذكر البيهقي أن في إسناده
راويا ضعيفا.
(3) حديث: " لا اعتكاف إلا بصيام " سبق تخريجه (ف 49) .
(40/194)
فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ " (1) .
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ صِيَامٌ
مَعَ اعْتِكَافِهِ، وَأَنَّ اعْتِكَافَهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ صِيَامٍ، رُوِيَ
هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ
قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ
لُبَابَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ،
وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَ الأَْفْضَل
عِنْدَهُمْ أَنْ يَصُومَ النَّاذِرُ مَعَ اعْتِكَافِهِ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ
الْعِبَادَتَيْنِ وَيَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ
عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ (3) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَبَاهُ
نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
__________
(1) أثر عائشة رضي الله عنها: " من اعتكف فعليه الصيام ". أخرجه البيهقي في
السنن الكبرى (4 / 317 ط دائرة المعارف) وأثر ابن عباس رضي الله عنهم ا "
لا اعتكاف إلا بصوم " أخرجه البيهقي كذلك (4 / 318) .
(2) المقدمات الممهدات 1 / 257، وبداية المجتهد 1 / 315، والمغني 3 / 185 -
186، ومغني المحتاج 1 / 453، وروضة الطالبين 2 / 393.
(3) حديث: " ليس على المعتكف صيام. . . " أخرجه الحاكم في المستدرك (1 /
439 ط دائرة المعارف) ، والبيهقي في السنن الكبرى (4 / 319 ط دائرة المعارف
العثمانية) وصوب البيهقي وقفه على ابن عباس.
(40/195)
فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ كُنْتُ
نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ
بِنَذْرِكَ (1) .
وَأَضَافُوا أَنَّ الاِعْتِكَافَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بِاللَّيْل
وَالنَّهَارِ، وَاللَّيْل لَيْسَ زَمَانًا لِلصِّيَامِ، وَكُل عِبَادَةٍ
صَحَّ بَعْضُهَا بِغَيْرِ صَوْمٍ فَإِنَّ جَمِيعَهَا يَصِحُّ بِغَيْرِهِ
(2) وَقَالُوا أَيْضًا: بِأَنَّ اللَّيْل يَدْخُل عَلَى الْمُعْتَكِفِ
فَيَكُونُ فِيهِ مُعْتَكِفًا وَهُوَ غَيْرُ صَائِمٍ، وَلَوْ كَانَ
الصَّوْمُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الاِعْتِكَافِ لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ
اللَّيْل (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ إِيجَابَ الصَّوْمِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ
حُكْمٌ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي إِيجَابِهِ
نَصٌّ وَلاَ إِجْمَاعٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ (4) .
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ:
55 - مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لَزِمَهُ
الْمَشْيُ إِلَيْهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، قَال هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ،
وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
__________
(1) حديث: " أوف بنذرك ". سبق تخريجه (ف 5) .
(2) الكافي 1 / 368، والمغني 3 / 186.
(3) المقدمات الممهدات 1 / 258.
(4) المغني 3 / 186.
(40/195)
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ،
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَال ابْنُ
قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَال: لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي
هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَْقْصَى (2) كَمَا
اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ قَوْل النَّاذِرِ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ
اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، هُوَ
كِنَايَةٌ عَنِ الْتِزَامِ الإِْحْرَامِ، يَسْتَعْمِلُهُ النَّاذِرُونَ
لاِلْتِزَامِ الإِْحْرَامِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ
يُعْقَل فِيهِ وَجْهُ الْكِنَايَةِ، بِمَنْزِلَةِ قَوْل الْقَائِل: لِلَّهِ
عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ بِثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ، إِذْ هُوَ كِنَايَةُ
الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ، وَالإِْحْرَامُ يَكُونُ بِالْحَجِّ أَوْ
بِالْعُمْرَةِ، فَيَلْزَمُ النَّاذِرَ أَحَدُهُمَا، بِخِلاَفِ سَائِرِ
الأَْلْفَاظِ فَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْتِزَامِ الإِْحْرَامِ بِهَا،
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ، وَلاَ عُرْفَ
هُنَاكَ، فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَاشِيًا؛ لأَِنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2866، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 331 - 332،
وكفاية الطالب الرباني 3 / 67، وروضة الطالبين 3 / 322، ونهاية المحتاج 8
228، وزاد المحتاج 4 / 503، والمغني 9 / 12، والكافي 4 / 423، وكشاف القناع
6 / 282.
(2) حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. . . " سبق تخريجه (ف 42) .
(40/196)
وَفِيهِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ، فَجَازَ
الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، كَصِفَةِ التَّتَابُعِ فِي الصِّيَامِ (1)
وَقَالُوا: إِنَّ النَّاذِرَ قَدِ الْتَزَمَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ
اللَّهِ الْحَرَامِ، وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِلْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُهُ
الْمَشْيُ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا (2) وَاسْتَدَلُّوا
كَذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ
لاَ يُجْزِئُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ،
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَشْيَ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْمَشْيُ فِي
حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ النَّاذِرُ الْمَشْيَ إِلَيْهِ
حُمِل عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ، وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ فِيهِ
لِنَذْرِهِ (3) وَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ
نَذَرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَلْزَمُ النَّاذِرَ الْوَفَاءُ،
لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ
يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ (4)
حُكْمُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ الْمَنْذُورِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ
الْحَرَامِ:
56 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ عَجَزَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2867.
(2) نهاية المحتاج 8 / 229، زاد المحتاج 4 / 503
(3) المغني 9 / 12، والكافي 4 / 423، وكشاف القناع 6 / 282.
(4) حديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " سبق تخريجه (ف 5) .
(40/196)
عَنِ الْمَشْيِ الْمَنْذُورِ إِلَى بَيْتِ
اللَّهِ الْحَرَامِ. وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ
الْمَشْيِ الْمَنْذُورِ فَرَكِبَ وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ
اللَّهِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَهُوَ رَأْيُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- وَأَفْتَى بِهِ عَطَاءٌ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَقَدْ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
عَاجِزًا عَنِ الْمَشْيِ، وَيَذْبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً اسْتِحْسَانًا،
وَقَال مَالِكٌ: مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ مَاشِيًا
فَعَجَزَ فِي مَشْيِهِ فَلْيَرْكَبْ فِيمَا عَجَزَ، فَإِذَا اسْتَرَاحَ
نَزَل وَعَرِفَ أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ مِنَ الأَْرْضِ، ثُمَّ يَعُودُ
ثَانِيَةً فَيَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يَمْشِيَ
عِدَّةَ أَيَّامِ رُكُوبِهِ، إِذْ قَدْ يَرْكَبُ مَوَاضِعَ رُكُوبِهِ
أَوَّلاً، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ ثَانِيَةً إِنْ كَانَ قَوِيًّا
أَنْ يَمْشِيَ الطَّرِيقَ كُلَّهُ، وَلَكِنْ يَمْشِي مَا رَكِبَ فَقَطْ،
وَيُهْرِقُ دَمًا لِتَفْرِيقِ مَشْيِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ رَكِبَ لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ
حَجُّهُ عَنْ نَذْرِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْمُرَادُ
بِالْعُذْرِ أَنْ تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ، كَنَظِيرِهِ فِي
الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَالْعَجْزِ عَنْ صَوْمِ
رَمَضَانَ بِالْمَرَضِ، وَقَيَّدَ الْبُلْقِينِيُّ وُجُوبَ الدَّمِ بِمَا
إِذَا رَكِبَ
(40/197)
بَعْدَ إِحْرَامِهِ مُطْلَقًا أَوْ
قَبْلَهُ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ مَشْيًا، وَإِلاَّ فَلاَ؛ إِذْ
لاَ خَلَل فِي النُّسُكِ يُوجِبُ دَمًا، وَإِنْ رَكِبَ بِلاَ عُذْرٍ
أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَيْهِ دَمٌ مَعَ عِصْيَانِهِ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ
إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا، لِتَرْكَبْ
وَلْتُهْدِ بَدَنَةً " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَنَّهَا لاَ
تُطِيقُ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ
يَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ: " يَمْشِي، فَإِذَا أَعْيَى رَكِبَ وَيُهْدِي
جَزُورًا " (3) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ
الْحَرَامِ إِذَا رَكِبَ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَخَل بِوَاجِبٍ فِي
الإِْحْرَامِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2866 - 2867، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 333
- 334، وكفاية الطالب الرباني 3 / 68 - 69، وبداية المجتهد 1 / 425 ونهاية
المحتاج 8 / 218، 230، وزاد المحتاج 4 / 504، والمغني 9 / 12.
(2) حديث: " إن أختي نذرت أن تمشي إلى بيت الله. . . . " سبق تخريجه (ف 17)
.
(3) أثر علي: فيمن نذر أن يمشي إلى البيت. . . أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
(8 / 450 ط المجلس العلمي) ، والبيهقي في السن الكبرى (10 / 81 ط دائرة
المعارف العثمانية) .
(40/197)
فَلَزِمَهُ هَدْيُهُ كَتَارِكِ
الإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ
الْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ " الْحَفِيدُ " عَنْ بَعْضِ
الْعُلَمَاءِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (3) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ
إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ قَدْ عَجَزَ عَمَّا الْتَزَمَهُ
بِالنَّذْرِ، وَهُوَ الْمَشْيُ، فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ نَذَرَ الصَّلاَةَ قَائِمًا فَصَلَّى
مِنْ قُعُودٍ لِعَجْزِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ مِنْ
شَرْطِ صِحَّةِ النَّذْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ قُرْبَةً
مَقْصُودَةً وَلاَ قُرْبَةَ فِي نَفْسِ الْمَشْيِ (4)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِذَا
رَكِبَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (5)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - " أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ
مُخْتَمِرَةٍ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَسَأَل النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال:
__________
(1) زاد المحتاج 4 / 504، والمغني 9 / 12.
(2) بداية المجتهد 1 / 425، ونهاية المحتاج 8 / 230، وزاد المحتاج 4 / 503،
504.
(3) سورة البقرة / 286.
(4) نهاية المحتاج 8 / 230، وبدائع الصنائع 6 / 2870.
(5) المغني 9 / 12، وكشاف القناع 6 / 283.
(40/198)
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ
أُخْتِكَ شَيْئًا، فَلْتَرْكَبْ وَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ " وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا
" (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: كَفَّارَةُ النَّذْرِ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (2)
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَوْ بُقْعَةٍ مِنْهَا:
57 - مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ إِلَى
بُقْعَةٍ مِنْهَا: كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
أَوْ أَبِي قُبَيْسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَقَعُ
فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا
يَلْزَمُهُ بِهَذَا النَّذْرِ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلاَثَةٍ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ
إِلَى بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى بُقْعَةٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ
يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مَاشِيًا، وَهُوَ الْمَذَهَبُ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ إِلَى
مَوْضِعٍ مِنْهُ، شَبِيهٌ بِمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْبَيْتِ
__________
(1) حديث عقبة بن عامر وحديث ابن عباس سبق تخريجهما (ف 17) .
(2) حديث: " كفارة النذر كفارة اليمين ". سبق تخريجه (ف 12) .
(3) روضة الطالبين 3 / 322، ونهاية المحتاج 8 / 229، والمغني 9 / 15،
والكافي 4 / 423، وكشاف القناع 6 / 282.
(40/198)
الْحَرَامِ؛ لأَِنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ
مَحَلٌّ لِلنُّسُكِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ إِحْرَامُ الْمَكِّيِّ بِالْحَجِّ
مِنْهُ (1) وَأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ جُزْءٍ
مِنْهُ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَيْهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛
لأَِنَّهُ الْتَزَمَ جَعْلَهُ وَصْفًا لِلْعِبَادَةِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ
الصَّلاَةَ قَائِمًا (2) وَأَنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ
أَوْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهُ يُقْصَدُ مِنْهُ فِي الشَّرْعِ الْمَشْيُ
إِلَيْهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَيُحْمَل النَّذْرُ عَلَى الْمَعْهُودِ
الشَّرْعِيِّ، وَيُلْغَى مَا يُخَالِفُهُ (3)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ
مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ مَسْجِدِ
الْخَيْفِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْحَرَمِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ نَذْرُهُ بِلاَ خِلاَفٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَإِنْ
ذَكَرَ الْكَعْبَةَ أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى، صَحَّ
نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا، وَإِنْ ذَكَرَ
الْحَرَمَ أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ وَلَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ
مَاشِيًا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (4) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ نَذْرِ
الْمَشْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَلُزُومِ مَشْيِ النَّاذِرِ إِلَى
__________
(1) المغني 9 / 15، والكافي 4 / 423.
(2) نهاية المحتاج 8 / 229.
(3) كشاف القناع 6 / 292.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2867 - 2868.
(40/199)
ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِمَا
سَبَقَ الاِسْتِدْلاَل بِهِ لِمَذْهَبِهِمْ فِي " نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى
بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ".
وَاسْتُدِل لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ
النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْحَرَمِ
بِأَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لاَ يَجِبَ شَيْءٌ بِإِيجَابِ الْمَشْيِ
الْمُضَافِ إِلَى مَكَانٍ مَا؛ لأَِنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ
مَقْصُودَةٍ؛ إِذْ هُوَ مُجَرَّدُ انْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ،
فَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةً، وَلِهَذَا لاَ يَجِبُ بِسَائِرِ
الأَْلْفَاظِ، إِلاَّ أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَى النَّاذِرِ الإِْحْرَامَ
فِي لَفْظِ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوِ الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ
لِلْعُرْفِ؛ إِذْ جَرَى عُرْفُ النَّاسِ عَلَى اسْتِعْمَال هَذِهِ
الأَْلْفَاظِ كِنَايَةً عَنِ الْتِزَامِ الإِْحْرَامِ، وَلَمْ
يَتَعَارَفُوا عَلَى اسْتِعْمَال غَيْرِهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ، فَيُقَال:
مَشَى إِلَى مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ، وَلاَ يُقَال: مَشَى
إِلَى الْحَرَمِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْكِنَايَةُ يُتَّبَعُ
فِيهَا عَيْنُ اللَّفْظِ لاَ الْمَعْنَى، بِخِلاَفِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ
يُرَاعَى فِيهِ الْمَعْنَى اللاَّزِمُ الْمَشْهُورُ فِي مَحَل
الْحَقِيقَةِ؛ لأَِنَّ الْكِنَايَةَ ثَابِتَةٌ بِالاِصْطِلاَحِ
كَالأَْسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ، فَيُتَّبَعُ فِيهَا الْعُرْفُ
وَاسْتِعْمَال اللَّفْظِ، بِخِلاَفِ الْمَجَازِ (1) وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنْ صِحَّةِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى الْحَرَمِ، وَلُزُومِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2868.
(40/199)
مَشْيِ النَّاذِرِ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ
أَوْ عُمْرَةٍ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْحَرَمِ أَوْ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُوَ بِمَثَابَةِ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى
بَيْتِ اللَّهِ أَوْ مَكَّةَ، لأَِنَّ الْحَرَمَ يَشْتَمِل عَلَى الْبَيْتِ
وَعَلَى مَكَّةَ، فَلَزِمَ النَّاذِرَ الْمَشْيُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ
أَوْ عُمْرَةٍ (1) وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ
عَدَمِ صِحَّةِ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ
مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ
لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلاَفِ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوِ
الْكَعْبَةِ أَوْ بَيْتِ اللَّهِ، حَيْثُ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ أَوِ
الْعُمْرَةُ مَاشِيًا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ
الأَْلْفَاظِ (الْكَعْبَةِ، مَكَّةَ، وَبَيْتِ اللَّهِ) يُسْتَعْمَل عِنْدَ
اسْتِعْمَال الآْخَرِ، فَيُقَال: فُلاَنٌ مَشَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ،
وَإِلَى الْكَعْبَةِ، وَإِلَى مَكَّةَ، وَلاَ يُقَال: مَشَى إِلَى الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ، وَلِهَذَا فَلاَ يَلْزَمُ بِنَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى هَذِهِ
شَيْءٌ (2) وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ
الْمَوَاضِعِ، قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّحَوُّل مِنْ مَكَانٍ
إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ؛ لأَِنَّهُ
لاَ قُرْبَةَ فِي نَفْسِ الْمَشْيِ، وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي
الإِْحْرَامِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَلاَ يَصِحُّ
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(40/200)
النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْحِجْرِ
لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِخِلاَفِ مَنْ
نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْ مِنًى أَوْ عَرَفَةَ،
أَوْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ ذِي طُوًى، أَوِ الْحَرَمِ أَوْ جِبَال الْحَرَمِ
فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ،
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ قَال: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْحِجْرِ أَوْ
إِلَى الْحَطِيمِ أَوْ زَمْزَمَ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ (2) وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ
الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ
الْكَعْبَةِ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ إِلَى ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَحْتَوِي عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ،
وَالْبَيْتُ لاَ يُؤْتَى إِلَيْهِ إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ،
بِخِلاَفِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ: كَمِنًى أَوْ عَرَفَةَ أَوْ
ذِي طُوًى أَوْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ نَحْوِهَا، فَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ
بِالْمَشْيِ إِلَيْهَا شَيْءٌ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِهَا بَيْتٌ يُحَجُّ
إِلَيْهِ أَوْ يُزَارُ (3)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2866.
(2) التاج والإكليل 3 / 332، وشرح الزرقاني على خليل وحاشية البناني 3 /
98.
(3) التاج والإكليل 3 / 332، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 3 / 98.
(40/200)
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى الْمَدِينَةِ
الْمُنَوَّرَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدَيْهِمَا:
58 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَدِينَةِ
الْمُنَوَّرَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوِ الْمَشْيِ إِلَى مَسْجِدَيْهِمَا
عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
شَيْءٌ، وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى
مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى
نَفْسِهِ التَّحَوُّل مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ
بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ لأَِنَّهُ لاَ قُرْبَةَ فِي الْمَشْيِ، وَلاَ
يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَلْغُو نَذْرُ مَشْيٍ وَذَهَابٍ وَمَسِيرٍ
لِلْمَدِينَةِ أَوْ إِيلِيَاءَ فَلاَ يَلْزَمُ ذَهَابُهُ لَهُمَا لاَ
مَاشِيًا وَلاَ رَاكِبًا، وَمَحَل عَدَمِ لُزُومِ الإِْتْيَانِ لاَ
مَاشِيًا وَلاَ رَاكِبًا لِلْبَلَدَيْنِ إِنْ لَمْ يَنْوِ أَوْ يَنْذُرْ
صَلاَةً بِمَسْجِدَيْهِمَا أَوْ يُسَمِّهِمَا - أَيِ الْمَسْجِدَيْنِ لاَ
الْبَلَدَيْنِ - فَإِنْ نَوَى صَلاَةً فِيهِمَا أَوْ سَمَّاهُمَا لَزِمَهُ
الإِْتْيَانُ فَيَرْكَبُ وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ
الْمُنَوَّرَةِ أَوِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُ
بِهَذَا النَّذْرِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَتَاهُ
رَكْعَتَيْنِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ بِالنَّذْرِ الْقُرْبَةُ وَالطَّاعَةُ،
__________
(1) الدر المختار 3 / 67، والبدائع 6 / 2866، ومغني المحتاج 4 / 363.
(2) شرح الزرقاني 3 / 105، والشرح الكبير 2 / 173.
(40/201)
وَتَحْصِيل هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ
بِالصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الْمَسَاجِدَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
إِنَّمَا تُقْصَدُ لِلصَّلاَةِ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَذْرُهُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَوِ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى مِنَ الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ
الَّتِي لاَ تُشَدُّ الرِّحَال إِلاَّ إِلَيْهَا؛ لاِشْتِرَاكِهَا فِي
عِظَمِ الْفَضِيلَةِ وَزِيَادَةِ ثَوَابِ الصَّلاَةِ فِيهَا عَنْ غَيْرِهَا
مِنَ الْمَسَاجِدِ، فَيَلْزَمُ الْمَشْيُ إِلَيْهِمَا بِالنَّذْرِ
كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (1)
نَذْرُ حَجِّ الْبَيْتِ هَذَا الْعَامَ مِمَّنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ
الإِْسْلاَمِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ
مِنْ عَامِهِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ
ثَلاَثَةٍ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
غَيْرُ هَذِهِ الْحَجَّةِ؛ إِذْ تُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ
وَعَنْ نَذْرِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ قَوْل عِكْرِمَةَ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
قَدَّمَهَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا
نَوَى نَذْرَهُ وَفَرِيضَتَهُ (2)
__________
(1) كشاف القناع 6 / 283، والمغني 9 / 16.
(2) الدر المختار ورد المحتار 3 / 68، والدسوقي 2 / 169، وروضة الطالبين 3
/ 322، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 8 / 230، والمغني 9 / 20،
21، والكافي 4 / 428.
(40/201)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال فِي رَجُلٍ
نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ: " يُجْزِئُ لَهُمَا
جَمِيعًا " (1) وَلأَِنَّ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَدْ نَذَرَ عِبَادَةً فِي
وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ أَتَى بِهَا فِيهِ، فَتُجْزِئُ عَنْ نَذْرِهِ
وَعَنْ فَرْضِهِ، كَمَا لَوْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ
(2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ
يَبْدَأَ بِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَحُجَّ لِنَذْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ،
رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا
نَوَى نَذْرَهُ وَفَرِيضَتَهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ نَوَى غَيْرَ الْفَرْضِ فَإِنْ نَوَى
الْفَرْضَ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ (3) وَاسْتَدَل
الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ نَوَى الْفَرْضَ بِنَذْرِهِ فَإِنَّهُ لاَ
يَنْعَقِدُ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ أَوْ صَوْمَ
رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَطْلَقَ؛ إِذْ لاَ يَنْعَقِدُ نُسُكٌ
مُحْتَمَلٌ.
__________
(1) المغني 9 / 21.
(2) المغني 9 / 21.
(3) المغني 9 / 20، 21، والكافي 4 / 428، والمحلي 7 / 267، وأسنى المطالب 1
/ 586، ومغني المحتاج 4 / 365.
(40/202)
وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الْمَنْذُورَ
وَحَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عِبَادَتَانِ تَجِبَانِ بِسَبَبَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَمْ تَسْقُطْ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى، كَمَا لَوْ
نَذَرَ حَجَّتَيْنِ (1)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ
مِنْ عَامِ النَّذْرِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَنَوَى أَدَاءَ
نَذْرِهِ وَفَرِيضَتِهِ، أَجْزَأَهُ لِنَذْرِهِ لاَ لِفَرْضِهِ، وَعَلَيْهِ
قَضَاءُ الْفَرِيضَةِ قَابِلاً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَلَوْ
أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ فَرْضًا وَلاَ نَذْرًا انْصَرَفَ لِلْفَرْضِ كَمَنْ
أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَمْ يَنْوِ فَرْضًا وَلاَ نَفْلاً فَإِنَّهُ
يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ (2)
نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْمَسْجِدِ
الأَْقْصَى: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ الْمَنْذُورِ
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ
فِيمَا يَلِي:
أ - نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: 60 - اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، وَذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلاَثَةٍ:
__________
(1) المغني 9 / 21، ومغني المحتاج 4 / 365، وأسنى المطالب 1 / 586.
(2) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 3 / 70، والدسوقي 2 / 169، ومواهب
الجليل والتاج والإكليل 3 / 335، وشرح الزرقاني على مختصر الخليل 3 / 101.
(40/202)
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ
أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَزِمَهُ
الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِالصَّلاَةِ فِيهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ
يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، قَال بِهِ زُفَرُ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: الصَّلاَةُ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ، وَالصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ
صَلاَةٍ، وَالصَّلاَةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلاَةٍ (2)
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال:
قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةٌ فِي
مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ
الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (3) وَبِأَنَّ النَّاذِرَ قَدْ
أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَدَاءَ الصَّلاَةِ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنْ
أَدَّاهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، وبدائع الصنائع 6 / 2889، ورد المحتار 3 / 71،
وروضة الطالبين 3 / 325، ونهاية المحتاج 8 / 233، وزاد المحتاج 4 / 506،
والمغني 9 / 17، والكافي 4 / 424، والدسوقي 2 / 173.
(2) حديث: " الصلاة في المسجد الحرام بمائة. . " ذكره الهيثمي في مجمع
الزوائد (4 / 7 ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وفي
بعضهم كلام، وهو حديث حسن.
(3) حديث: " صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة. . . " سبق تخريجه (ف 42) .
(40/203)
يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلاَ
يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (1) وَبِأَنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ
مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَ
اللَّهُ أَدَاءَهُ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ فَلاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي
غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ،
وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ،
فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ
مُقَيَّدًا بِذَلِكَ (2) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، فَقَدْ نَذَرَ بِزِيَادَةِ قُرْبَةٍ، فَيَلْزَمُهُ مَا
الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَدَّى الصَّلاَةَ فِي غَيْرِهِ كَانَ آتِيًا بِغَيْرِ
مَا نَذَرَ (3)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ،
وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ
مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُجْزِئُهُ
أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَمَشْهُورُ
مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَل مِنْ مَكَّةَ،
وَثَوَابُ الْعَمَل فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الْعَمَل فِي مَكَّةَ،
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ يُجْزِئُهُ كَذَلِكَ الصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ؛
لأَِنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَفْضَل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْكَعْبَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(2) المصدر السابق.
(3) فتح القدير 4 / 26.
(40/203)
وَعَنِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ مَوْضِعٌ اخْتَارَهُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْضِعٌ
كَهَذَا لاَ بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ
فَإِنَّهُ يُجْزِئُ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ الصَّلاَةُ فِي أَيِّ
مَسْجِدٍ، ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُبْتَغَى مِنَ النَّذْرِ هُوَ
التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ
إِلاَّ مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَلَيْسَتِ الْقُرْبَةُ فِي عَيْنِ الْمَكَانِ،
فَإِنَّمَا هُوَ مَوْضِعٌ تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ
لاَ يَدْخُل تَحْتَ النَّذْرِ، فَلاَ يَتَقَيَّدُ النَّذْرُ بِهِ، فَكَانَ
ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ (4) وَبِأَنَّ الْمَعْرُوفَ
مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْتِزَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ مُوجِبٌ، وَلَمْ
يَثْبُتْ مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ تَخْصِيصِ
__________
(1) مواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 331، 344، 345، وشرح الزرقاني 2 /
105 - 106، وكفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي 3 / 72، وحاشية الدسوقي 2
/ 173.
(2) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 3 / 72.
(3) فتح القدير 4 / 26، وبدائع الصنائع 6 / 2889، ورد المحتار 3 / 71.
(4) بدائع الصنائع 6 / 2889.
(40/204)
الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ بِمَكَانٍ، بَل
إِنَّمَا عُرْفُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَتَعَدَّى لُزُومُ أَصْل
الْقُرْبَةِ بِالْتِزَامِهِ إِلَى لُزُومِ التَّخْصِيصِ بِمَكَانٍ، فَكَانَ
تَخْصِيصُ الْمَكَانِ مُلْغًى، وَبَقِيَ لاَزِمًا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ (1)
ب - نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى: 61 - اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ
الأَْقْصَى، وَفِيمَا إِذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ بِالنَّذْرِ أَوْ لاَ
يَتَعَيَّنُ عَلَى مَذَاهِبَ ثَلاَثَةٍ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ
فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، كَمَا
يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ، وَالْقَوْل الأَْظْهَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ:
أَنَّ مَنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى لِلصَّلاَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ
يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ، وَقَطَعَ الْمَرَاوِزَةُ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ بِالتَّعْيِينِ، وَالأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ
أَنَّ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ
تُجْزِئُ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَيَخْرُجُ
عَنْ نَذْرِهِ بِذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (2)
__________
(1) فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 2 / 71.
(2) مواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 344 - 345، وشرح الزرقاني 3 / 105،
وروضة الطالبين 3 / 325، ونهاية المحتاج 8 / 233، وزاد المحتاج 4 / 506 -
507، والمغني 9 / 17، والكافي 4 / 424.
(40/204)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلاً قَامَ
يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ
أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَال لَهُ رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَل هَهُنَا، فَأَعَادَهَا
عَلَيْهِ، فَقَال: صَل هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَهَا، فَقَال: شَأْنُكَ إِذًا
(1) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ
لَوْ صَلَّيْتَ هَهُنَا لأََجْزَأَ عَنْكَ صَلاَةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ
(2) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أَنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ
لأََخْرُجَنَّ فَلأَُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ ثُمَّ
تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسَلِّمُ عَلَيْهَا،
فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ،
وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقُول: صَلاَةٌ فِيهِ أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ
الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ (3)
__________
(1) حديث: " إني نذرت لله إن فتح الله. . . " سبق تخريجه (ف 41) .
(2) حديث " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا. . . ". تقدم تخريجه (ف 43)
.
(3) حديث: " صلاة فيه أفضل. . . تقدم تخريجه (ف 43)
(40/205)
وَبِأَنَّ مَسْجِدَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
أَفْضَل مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى بِاتِّفَاقٍ (1) ؛ وَذَلِكَ
لأَِفْضَلِيَّةِ الصَّلاَةِ فِيهِمَا عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ
مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ
فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، تُجْزِئُهُ الصَّلاَةُ فِي الْمَسْجِدِ
الأَْقْصَى، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي غَيْرِهِ مِنَ
الْمَسَاجِدِ وَلَوْ كَانَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ دُونَهُ فِي الْفَضْل،
ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ (3)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ
الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَلاَ يُجْزِئُهُ إِلاَّ أَنْ
يُصَلِّيَ فِيهِ، وَلاَ تُجْزِيهِ الصَّلاَةُ فِي غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ
أَكْثَرَ فَضْلاً مِنْهُ كَمَسْجِدِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ، قَال بِهِ
زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (4) وَاسْتَدَل لِلْقَوْل الثَّانِي (وَهُمْ
جُمْهُورُ
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 345.
(2) حديث: " صلاة في مسجدي هذا خير. . . " سبق تخريجه (ف 42) .
(3) بدائع الصنائع 6 / 2889، وفتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(4) المصادر السابقة.
(40/205)
الْحَنَفِيَّةِ) ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ
(وَهُوَ زُفَرُ) ، بِمَا سَبَقَ الاِسْتِدْلاَل بِهِ لِمَا ذَهَبُوا
إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ (وَهِيَ نَذْرُ الصَّلاَةِ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
نَذْرُ الْهَدْيِ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ: 62 - اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ فِي
حُكْمِ مَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ كَالْمَدِينَةِ، أَوِ
الأَْمْصَارِ أَوِ الثُّغُورِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَحُكْمُ الذَّبْحِ بِهَا
عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ
إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرَهَا
لَزِمَهُ الذَّبْحُ وَإِيصَال مَا أَهْدَاهُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي
عَيَّنَهُ فِي النَّذْرِ، وَتَفْرِقَةُ الْهَدْيِ وَلَحْمِ الذَّبِيحَةِ
عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ أَهْلُهُ كُفَّارًا، فَلاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ ذَلِكَ؛
لِعَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ الْمَنْذُورِ إِلَيْهِمْ، أَوْ أَنْ يَكُونَ
بِالْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ بِالنَّذْرِ مَا لاَ يَجُوزُ النَّذْرُ لَهُ:
كَالصَّنَمِ أَوِ الْكَنِيسَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَظِّمُهُ
الْكُفَّارُ أَوْ غَيْرُهُمْ، وَمِمَّا لاَ يَجُوزُ تَعْظِيمُهُ:
كَالْقَبْرِ، أَوِ الْحَجَرِ، أَوِ الشَّجَرِ، قَال بِهِ مَالِكٌ
وَأَشْهَبُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَال:
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 341، وحاشية البناني على شرح الزرقاني 3 / 103، وروضة
الطالبين 3 / 327، ونهاية المحتاج 8 / 232 - 233، وزاد المحتاج 4 / 506،
والمغني 9 / 19، والكافي 4 / 424 - 425، والحاوي الكبير 5 / 488 ط دار
الفكر، والمهذب 1 / 250 ط دار المعرفة.
(40/206)
" نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً
بِبُوَانَةَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَال: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَقَال
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل كَانَ فِيهَا وَثَنٌ
مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: هَل كَانَ
فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالُوا: لاَ، قَال رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ (1) وَبِأَنَّ مَنْ
نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ، قَدْ ضَمَّنَ نَذْرَهُ نَفْعَ
فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، بِإِيصَال اللَّحْمِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ
قُرْبَةٌ فَتَلْزَمُهُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ (2)
وَبِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُفَرِّقَ النَّاذِرُ لَحْمَ
الْهَدْيِ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَذَرَ الذَّبْحَ بِهِ، فَكَأَنَّهُ نَذَرَ
تَفْرِقَةَ اللَّحْمِ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِهِ (3) وَبِأَنَّ نَذْرَ
الْهَدْيِ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ فِيهِ إِطْعَامُ مَسَاكِينِ الْبَلَدِ
الَّذِي يُسَاقُ إِلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِطْعَامُ مَسَاكِينِ أَيِّ بَلَدٍ
طَاعَةٌ (4) يَلْزَمُ النَّاذِرَ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِمَا
__________
(1) حديث ثابت بن الضحاك: " نذر رجل على عهد رسول الله. . . " أخرجه أبو
داود (3 / 607 - ط حمص) ، وصحح إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 439 - ط دار
الكتب العلمية) .
(2) المغني 9 / 19.
(3) الكافي 4 / 425.
(4) حاشية البناني على شرح الزرقاني 3 / 103.
(40/206)
وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ (1) وَبِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ
قَدِ الْتَزَمَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا نَذَرَ، فَيَلْزَمُهُ
الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ (2)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
نَذْرُ الْهَدْيِ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ، وَلاَ يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ
إِلاَّ فِي الْحَرَمِ، وَمَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إِلَى غَيْرِ مَكَّةَ،
فَلاَ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَى الْمَوْضِعِ
الَّذِي عَيَّنَهُ بِنَذْرِهِ أَوْ يُذَكِّيَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ،
إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ (4) وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَةِ: أَنَّ الْمَوْضِعَ
الَّذِي حَل ذَبْحُ الْهَدْيِ فِيهِ، هُوَ الْحَرَمُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ نَفْسَ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ
الْبُقْعَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَهِيَ الْحَرَمُ؛ لأَِنَّ الدَّمَ لاَ
يُرَاقُ فِي الْبَيْتِ (5)
__________
(1) حديث: " من نذر أن يطيع الله. . . . " سبق تخريجه (ف 5) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 233، وزاد المحتاج 4 / 506.
(3) رد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2871، ومواهب الجليل والتاج
والإكليل 3 / 340 - 341، وشرح الزرقاني وحاشية البناني 3 / 103.
(4) سورة الحج / 33.
(5) فتح القدير للشوكاني 3 / 452، وبدائع الصنائع 6 / 2871.
(40/207)
وَقَالُوا: إِنَّ الْهَدْيَ إِنَّمَا
يَكُونُ قُرْبَةً إِذَا كَانَ لِمَكَّةَ، وَسَوْقُ الْهَدْيِ إِلَى
غَيْرِهَا مِنَ الضَّلاَل (1) وَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى مَا
يُهْدَى إِلَى مَكَانِ الْهَدَايَا، وَهُوَ الْحَرَمُ، فَإِذَا كَانَتْ
لِغَيْرِهِ فَإِنَّهَا لاَ تُسَمَّى بِهَذَا الاِسْمِ (2) وَأَضَافُوا
إِنَّ الْتِزَامَ الْهَدْيِ لِغَيْرِ مَكَّةَ مَعْصِيَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ
نَذْرُهَا أَوِ الْوَفَاءُ بِهَا (3) ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ
اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ (4)
نَذْرُ الْهَدْيِ دُونَ تَعْيِينِهِ: 63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
حُكْمِ مَا يَلْزَمُ النَّاذِرَ إِذَا نَذَرَ هَدْيًا دُونَ تَعْيِينِهِ
عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ هَدْيًا
مُطْلَقًا فَلاَ يُجْزِيهِ مِنَ الْهَدْيِ إِلاَّ مَا يُجْزِي فِي
الأُْضْحِيَّةِ (ر: أُضْحِيَّة ف 22 - 38) إِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
شَاةٌ؛ لأَِنَّهَا الأَْقَل، هَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْمَالِكِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَفْضَل الْهَدْيِ
عِنْدَ إِطْلاَقِهِ بَدَنَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ
عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَشَاةٌ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ فِي
الْجَدِيدِ،
__________
(1) مواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 340 - 341.
(2) رد المحتار 3 / 71، وبدائع الصنائع 6 / 2871.
(3) مواهب الجليل 3 / 340.
(4) حديث: " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " سبق تخريجه (ف 5) .
(40/207)
وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُطْلَقَ
مِنَ الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ يُحْمَل عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ،
وَقَدْ صُرِفَ الْمُطْلَقُ إِلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ؛ لأَِنَّهُ
عَلَيْهِ اسْمُ الْهَدْيِ، كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنَّهُ
تَلْزَمُهُ وَالْحَال هَذِهِ صَلاَةٌ شَرْعِيَّةٌ، لاَ لُغَوِيَّةٌ (2)
وَبِأَنَّ الْهَدْيَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا
يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ،
وَإِطْلاَقُ الْهَدْيِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ هُوَ مِنْ قَبِيل
الْمَجَازِ (3)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ النَّاذِرَ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ أَقَل مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسٍ
مَا يُهْدَى، وَيَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِكُل مِنْحَةٍ، حَتَّى
الدَّجَاجَةِ وَالْبَيْضَةِ وَكُل مَا يُتَمَوَّل؛ لِوُقُوعِ اسْمِ
الْهَدْيِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (4)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَقَل مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) البحر الرائق 3 / 75، ورد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2871،
ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 343، وشرح الزرقاني 3 / 104، وروضة
الطالبين 3 / 329، ونهاية المحتاج 8 / 232، والمغني 9 / 18، والكافي 4 /
423.
(2) نهاية المحتاج 8 / 232، والمغني 9 / 18، والكافي 4 / 423.
(3) البحر الرائق 3 / 75.
(4) روضة الطالبين 3 / 329.
(40/208)
وَلَوْ كَانَ دَجَاجَةً أَوْ بَيْضَةً أَوْ
كُل مُتَمَوَّلٍ يُسَمَّى هَدْيًا، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَال فِي شَأْنِ التَّبْكِيرِ فِي
الرَّوَاحِ إِلَى الْجُمُعَةِ: مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً (1) ، فَمَنْ تَقَرَّبَ بِمِثْل ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَهْدَى، فَيُجْزِئُ مِثْل ذَلِكَ فِي
النَّذْرِ الْمُطْلِقِ لِلْهَدْيِ (2)
نَذْرُ طَاعَةٍ لاَ يُطِيقُهَا النَّاذِرُ أَوْ عَجَزَ عَنْهَا بَعْدَ
قُدْرَتِهِ:
64 - مَنْ نَذَرَ طَاعَةً فَلَمْ يُطِقْ أَدَاءَهَا ابْتِدَاءً، أَوْ
عَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا، اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَا نَذَرَهُ، وَمَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا النَّذْرِ
عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لاَ
يُطِيقُ أَبَدًا فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِهَذَا النَّذْرِ، وَكَذَلِكَ
مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي وَقْتٍ مُحَدَّدٍ فَجَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَهُوَ
لاَ يُطِيقُ أَدَاءَ مَا نَذَرَ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ فِي
هَذَا الْوَقْتِ وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (3)
__________
(1) حديث: " من راح في الساعة الرابعة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2
/ 366 ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) روضة الطالبين 3 / 329، والمهذب 1 / 250.
(3) المقدمات الممهدات 1 / 404، ومواهب الجليل 3 / 320.
(40/208)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ
فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا
لاَ يُطِيقُ الْوَفَاءَ بِهِ، أَوْ يَعْجِزُ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ
فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِأَدَاءِ خَلَفِهِ، إِلَى
هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صِيَامًا
فَعَجَزَ عَنْهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عَمَّا نَذَرَهُ مِنْهُ (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْتِزَامَ النَّاذِرِ مَا لاَ يُطِيقُ بِالنَّذْرِ
مَعْصِيَةٌ؛ لأَِنَّ الْوَفَاءَ بِهِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِهْلاَكِ
النَّاذِرِ، وَمِثْل هَذَا لاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ (4) وَبِأَنَّ
الْوَفَاءَ بِعَيْنِ الْمَنْذُورِ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ إِمْكَانِ
الْوَفَاءِ بِهِ، فَأَمَّا عِنْدُ التَّعَذُّرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا، وَذَلِكَ بِأَدَاءِ خَلَفِهِ؛ لأَِنَّ
الْخَلَفَ يَقُومُ مَقَامَ الأَْصْل، كَمَا هُوَ الْحَال فِي اسْتِعْمَال
التُّرَابِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالأَْشْهُرِ عِنْدَ
عَدَمِ الأَْقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ (5)
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) حديث: " من نذر أن يطيع الله. . . " سبق تخريجه (ف 5) .
(3) رد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2885.
(4) رد المحتار 3 / 70، وبدائع الصنائع 6 / 2864.
(5) بدائع الصنائع 6 / 2885.
(40/209)
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ إِلَيْهِ
الشَّافِعِيَّةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا أَوِ
اعْتِكَافًا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَعَجَزَ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرَبِ
فِيهِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ
لِلتَّأْخِيرِ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ نَذَرَ صَدَقَةً
فَأَعْسَرَ بِهَا سَقَطَ عَنْهُ النَّذْرُ مَا دَامَ مُعْسِرًا فَإِذَا
أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ أَدَاؤُهَا، وَإِنْ نَذَرَ حَجًّا فِي
سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَمَنَعَهُ مَرَضٌ أَوْ نَحْوُهُ قَبْل الإِْحْرَامِ،
فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لاَ قَضَاءَ لَوْ كَانَ مَعْضُوبًا
وَقْتَ النَّذْرِ أَوْ طَرَأَ الْعَضْبُ، وَلَمْ يَجِدِ الْمَال حَتَّى
مَضَتِ السَّنَةُ الْمُعَيَّنَةُ، فَإِنْ مَنَعَهُ الْمَرَضُ بَعْدَ
الإِْحْرَامِ فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ وُجُوبُ
الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا امْتَنَعَ الْحَجُّ فِي ذَلِكَ
الْعَامِ بَعْدَ الاِسْتِطَاعَةِ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّوْمَ
وَالصَّلاَةَ يَجِبَانِ شَرْعًا مَعَ الْعَجْزِ، وَالْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ
كَالْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ، فَلاَ أَثَرَ لِعَجْزِ النَّاذِرِ عَنْهُمَا فِي
وُجُوبِهِمَا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا إِنْ عَيَّنَ
وَقْتًا لِلأَْدَاءِ، بِخِلاَفِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ إِلاَّ
عِنْدَ وُجُودِ الاِسْتِطَاعَةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ أَوِ الْحَجَّةُ الْمَنْذُورَةُ، فَمَنِ
اسْتَطَاعَهُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، إِنْ مَنَعَ ذَلِكَ
مَانِعٌ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ؛ لاِسْتِقْرَارِهِ فِي
ذِمَّتِهِ بِتَمَكُّنِهِ هَذَا،
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 322، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه 8 /
231، وزاد المحتاج 4 / 505.
(40/209)
بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ
النَّاذِرُ مِنْ أَدَائِهِ، بِأَنْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْل
تَمَكُّنِهِ مِنَ الأَْدَاءِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، لأَِنَّ الْمَنْذُورَ
نُسُكٌ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ النَّاذِرُ مِنْهُ (1)
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ - وَهُمُ
الْحَنَابِلَةُ - أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَدَاءَ الصِّيَامِ أَوِ الصَّلاَةِ
أَوِ الاِعْتِكَافِ أَوِ الطَّوَافِ أَوْ نَحْوِهَا، فَلَمْ يُطِقْ
أَدَاءَهَا أَوْ عَجَزَ عَنْهُ عَجْزًا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ فَعَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِذَا كَانَ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ مَرْجُوَّ
الزَّوَال، انْتَظَرَ زَوَالَهُ، وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ
بِالنَّذْرِ، وَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنْ
نَذَرَ حَجًّا لَزِمَهُ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مَعْضُوبًا، إِلاَّ أَنَّهُ
يُنِيبُ عَنْهُ فِي حَال الْعَضْبِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَإِنْ أَطَاقَ
الْبَعْضَ أَتَى بِهِ وَكَفَّرَ لِلْبَاقِي.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَذَرَ صِيَامًا فَعَجَزَ عَنْهُ، وَعَمَّا إِذَا
كَانَ يَلْزَمُهُ مَعَ كَفَّارَةِ النَّذْرِ إِطْعَامٌ عَنْ كُل يَوْمٍ
مَنْذُورٍ صِيَامُهُ أَمْ لاَ؟ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ النَّاذِرَ
يَلْزَمُهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُل يَوْمٍ نَذَرَ صِيَامَهُ مِسْكِينًا،
كَمَا هُوَ الْحَال فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَهُوَ مَا
عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلاَمِ
الآْدَمِيِّينَ يُحْمَل عَلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا، وَعَلَى الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ عَنْهُ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ النَّاذِرَ شَيْءٌ غَيْرُ
__________
(1) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 3 / 322، وَنِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ 8 / 231،
وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 4 / 505.
(40/210)
الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهُ نَذْرٌ عَجَزَ
عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ،
كَسَائِرِ النُّذُورِ، وَلأَِنَّ مُوجِبَ النَّذْرِ مُوجِبُ الْيَمِينِ
إِلاَّ مَعَ إِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ قُرْبَةً (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَل
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُخْتٍ لَهُ
نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَقَال لَهُ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ
وَلْتَرْكَبْ وَلْتَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا،
فَلْتَحُجَّ رَاكِبَةً، وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا " (2) وَبِمَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا
لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُةُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا
فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا
لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا
أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بِهِ (3) وَقَالُوا: إِنَّ النَّذْرَ حُكْمُهُ حُكْمُ
الْيَمِينِ، وَمُوجِبُ النَّذْرِ هُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ، إِلاَّ مَعَ
إِمْكَانِ الْوَفَاءِ بِهِ إِذَا كَانَ قُرْبَةً، فَإِنْ كَانَ مَعْجُوزًا
عَنْهُ
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 9 - 11، وَالْكَافِي 4 / 428 - 429، وَكَشَّافُ
الْقِنَاعِ 6 / 282.
(2) حَدِيثُ: " مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 17) .
(3) حَدِيثُ: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ. . . " سَبَقَ
تَخْرِيجُهُ (ف 24) .
(40/210)
فَيَلْزَمُ فِيهِ مَا يَلْزَمُ عِنْدَ
الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ (1)
الْمَوْتُ قَبْل فِعْل الطَّاعَةِ الْمَنْذُورَةِ: مَنْ نَذَرَ طَاعَةً
لِلَّهِ تَعَالَى وَمَاتَ قَبْل فِعْلِهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا
نَذَرَهُ حَجًّا أَوْ صِيَامًا أَوِ اعْتِكَافًا أَوْ صَلاَةً أَوْ
صَدَقَةً، أَوْ غَيْرَهَا، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: أَوَّلاً:
مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَبْل أَدَائِهِ: مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ
وَمَاتَ قَبْل أَدَائِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْل تَمَكُّنِهِ
مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ، أَوْ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ
يُؤَدِّهِ. أ - مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ قَبْل تَمَكُّنِهِ مِنْ
أَدَائِهِ: 65 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ قَبْل
تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ،
بِأَنْ مَاتَ قَبْل حَجِّ النَّاسِ مِنْ سَنَةِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ عَلَى
اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ
يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ حَتَّى
مَاتَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَلاَ يُؤَدَّى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا
أَوْصَى بِهِ، فَإِنْ وَصَّى بِهِ حُجَّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلاَ
تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَوِ الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ
بِمَالِهِ (أَيْ بِمَال
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 10، وَالْكَافِي 4 / 428.
(40/211)
الْوَارِثِ أَوِ الْوَلِيِّ) . قَال بِهِ:
ابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيل،
وَالشَّعْبِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَالشَّافِعِيَّةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْحَجُّ بِالنَّذْرِ قَدْ مَاتَ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ،
فَسَقَطَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ قَبْل
التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ (2) وَبِأَنَّ الْحَجَّ
عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَتَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
كَالصَّلاَةِ (3) وَبِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ
فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الاِخْتِيَارِ، وَذَلِكَ فِي الإِْيصَاءِ دُونَ
الْوِرَاثَةِ، لأَِنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، وَالإِْيصَاءَ تَبَرُّعٌ
ابْتِدَاءً، وَلأَِنَّ الْحَجَّ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ
الأَْفْعَال بِالْمَوْتِ، فَصَارَ الْحَجُّ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ
الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ تَبَرُّعًا،
وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ (4)
__________
(1) الْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 72 - 74، تُحْفَةُ الْفُقَهَاءِ
لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ 1 / 650، وَشَرْحُ مِنَحِ الْجَلِيل 1 / 450 - 451،
وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل 3 / 3، وَالْمَجْمُوعُ 2 /
494، 7 / 109، 8 / 497، وَالْمُغْنِي 3 / 242، الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ 2
/ 271.
(2) الْمَجْمُوعُ 7 / 109.
(3) الْمُغْنِي 3 / 242.
(4) الْعِنَايَةُ عَلَى الْهِدَايَةِ 2 / 84.
(40/211)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ
إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ
حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُحَجُّ بِهِ
عَنْهُ، إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَتَطَوَّعُ بِالْحَجِّ عَنْهُ، سَوَاءٌ
أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ،
وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ (2) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قَال: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَقَال لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا
مَاتَتْ، فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ
كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَاقْضِ
اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ (3) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ
جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى
مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ
لَوْ
__________
(1) الْمُغْنِي 3 / 242، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336، 393.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ / 11.
(3) حَدِيثُ: " أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (11 / 584 ط السَّلَفِيَّةِ)
.
(40/212)
كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ
قَاضِيَتِهِ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ (1)
وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَى هَذَا النَّاذِرِ، حَتَّى
اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ
كَالدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ
الْمَنْذُورَ دَيْنٌ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرِ وَيَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَ مِنْ جَمِيعِ مَا تَرَكَ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (2)
ب - مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الْحَجَّ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهِ وَلَمْ
يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ: 66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ
مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ
عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ،
وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: الْمَذْهَبُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ
أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ
عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، بِأَنْ
يُخْرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ مَا يُؤَدَّى بِهِ ذَلِكَ عَنْهُ، سَوَاءٌ
أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، رُوِيَ
هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
-، وَقَال بِهِ
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى
مَاتَتْ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (4 / 64، ط السَّلَفِيَّةِ.
(2) الْمُغْنِي 3 / 243، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336.
(40/212)
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَطَاوُسٌ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ،
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَيَرَوْنَ
أَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ مَالاً يُحَجُّ مِنْهُ النَّذْرُ،
فَلاَ يَلْزَمُ الْوَارِثَ الْحَجُّ عَنْهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ
أَدَاؤُهُ عَنْهُ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوِ
اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ أَجْزَأَ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَى
الْمَيِّتِ، وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ (2) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الأَْنْصَارِيُّ رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى
أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْل أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ
(3) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: " إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ
تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال:
نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 7 / 109، 112، 114، 116، 8 / 494، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 4
/ 505، وَالْمُغْنِي 3 / 242، 244، 9 / 30، 31، وَالْكَافِي 4 / 430،
وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336، 393.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ / 11.
(3) حَدِيثُ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ 11 / 583 ط
السَّلَفِيَّةِ.
(40/213)
لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ
قَاضِيَتِهِ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ " (1)
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ
رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال:
إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَال
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ كَانَ عَلَيْهَا
دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ
أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي
مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ فَقَال: هَل كَانَ عَلَى
أُمِّكِ دَيْنٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال فَمَا صَنَعْتِ؟ قَالَتْ:
قَضَيْتُهُ عَنْهَا، قَال: فَاللَّهُ خَيْرُ غُرَمَائِكِ، حُجِّي عَنْ
أُمِّكِ " (3) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- أَنَّهُ قَال: " إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ "
(4)
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 65) .
(2) حَدِيثُ: " إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ. . . ". سَبَقَ
تَخْرِيجُهُ (ف 65) .
(3) أَثَرُ: " إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ. . . " أَخْرَجَهُ
ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى (7 / 63 ط الْمُنِيرِيَّةِ) .
(4) حَدِيثُ: " إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلَيُّهُ "
أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (الْمُصَنَّفُ فِي الْجُزْءِ الْمَطْبُوعِ
بِاسْمِ الْجُزْءِ الْمَفْقُودِ ص 65 ط دَارِ عَالَمِ الْكُتُبِ)
وَذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (11 / 584 ط السَّلَفِيَّةِ
وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ) .
(40/213)
وَقَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ الَّذِي
أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ لَزِمَهُ فِي حَال الْحَيَاةِ
وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، فَلَمْ
يَسْقُطْ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (1)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي
ذِمَّةِ النَّاذِرِ دَيْنٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، فَكَانَ مِنْ رَأْسِ
مَال تَرِكَتِهِ، كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ
بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ
وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ،
إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِأَدَائِهِ عَنْهُ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ حُجَّ عَنْهُ
مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَ
بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ، قَال بِهِ الشَّعْبِيُّ،
وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَحُمَيْدٌ الطَّوِيل، وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَعُثْمَانُ
الْبَتِّيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ (3)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُول: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 7 / 109، وَالْمُغْنِي 3 / 243.
(2) الْمَجْمُوعِ 7 / 109.
(3) رَدُّ الْمُحْتَارِ 2 / 119، 239، وَفَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 320،
تُحْفَةُ الْفُقَهَاءِ1 / 650 - 651، وَشَرْحُ الْخِرَشِيِّ 2 / 296،
وَشَرْحُ مِنَحِ الْجَلِيل 1 / 450، وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل وَالتَّاجُ
وَالإِْكْلِيل 3 / 3، وَالْمَجْمُوعُ 7 / 112، 116، وَالْمُنْتَقَى 2 /
270.
(40/214)
أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ،
وَلاَ يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، قَال عَبْدُ اللَّهِ: وَلَوْ كُنْتُ
أَنَا أَفْعَل ذَلِكَ لَتَصَدَّقْتُ وَأَهْدَيْتُ " (1) وَبِأَنَّ الْحَجَّ
عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَتَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
كَالصَّلاَةِ (2) وَبِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ إِجْزَاءِ الْعِبَادَةِ،
لِيَتَحَقَّقَ أَدَاءُ الْمُكَلَّفِ لَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ، فَيَظْهَرُ
اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنِ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةَ، الَّذِي هُوَ
الْمَقْصُودُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَفِعْل الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ
الْمُبْتَلَى بِالأَْمْرِ وَالنَّهْيِ لاَ يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، بَل
إِنَّهُ لَمَّا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلاَ أَمْرٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ
عِصْيَانُهُ، بِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ بِغَيْرِ امْتِثَالٍ
لِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَهَذَا يُقَرِّرُ عَلَيْهِ مُوجِبَ الْعِصْيَانِ،
فَلَيْسَ فِعْل الْوَارِثِ الْفِعْل الْمَأْمُورَ بِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ
بِهِ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ حَال حَيَاتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ
فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هِيَ
الأَْفْعَال، لأَِنَّهَا الَّتِي تُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَالاِمْتِثَال،
وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال كُلُّهَا بِالْمَوْتِ، لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ
طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الإِْيصَاءُ بِالْمَال
الَّذِي هُوَ
__________
(1) أَثَرُ: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ
أَحَدٍ وَلاَ يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. . " عَزَاهُ ابْنُ
التُّرْكُمَانِيِّ فِي الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ (بِهَامِشِ السُّنَنِ
لِلْبَيْهَقِيِّ 4 / 257) إِلَى التَّمْهِيدِ لاِبْنِ جَرِيرٍ
(2) الْمُغْنِي 3 / 242.
(40/214)
مُتَعَلَّقُ الأَْفْعَال تَبَرُّعًا مِنَ
الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ (1)
ثَانِيًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصِّيَامَ قَبْل أَدَائِهِ: 67 - اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ أَوْجَبَهُ عَلَى
نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَاتَ، وَعَمَّا إِذَا كَانَ
يُصَامُ عَنْهُ أَوْ يُطْعَمُ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: الْمَذْهَبُ الأَْوَّل:
يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ فَلاَ
يُصَامُ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَكَانَ كُل يَوْمٍ
مِسْكِينًا، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا أَوْصَى النَّاذِرُ بِهِ،
وَتُخْرَجُ فِدْيَةُ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ إِنْ
كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَلاَ يَلْزَمُ الْوَارِثَ
إِخْرَاجُ الْفِدْيَةِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فَقَطْ، فَإِنْ
تَبَرَّعَ وَلِيُّهُ بِهَا عَنْهُ جَازَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ
النَّاذِرُ لِلصِّيَامِ صَحِيحًا مُقِيمًا عِنْدَ النَّذْرِ، فَإِنْ نَذَرَ
الصِّيَامَ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ وَاسْتَمَرَّ مَرَضُهُ
أَوْ سَفَرُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ
الْمَرِيضَ لَيْسَتْ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْتِزَامِ أَدَاءِ
الصَّوْمِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ لاَ يَلْتَزِمُ
بِالصِّيَامِ حَتَّى يُقِيمَ، فَإِنْ بَرَأَ الْمَرِيضُ يَوْمًا وَاحِدًا،
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85.
(40/215)
أَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ وَلَوْ لِيَوْمٍ
وَاحِدٍ وَلَمْ يَصُمْ أَيٌّ مِنْهُمَا فَقَدْ لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا
أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ،
لأَِنَّهُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوِ الإِْقَامَةِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ
لِلنَّذْرِ، إِذِ الصَّحِيحُ لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ فَمَاتَ بَعْدَ
يَوْمٍ لَزِمَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الشَّهْرِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ مِنَ الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ
بِقَدْرِ مَا صَحَّ وَأَقَامَ مِنْ أَيَّامٍ، لأَِنَّهُ أَدْرَكَ مِنَ
الأَْيَّامِ مَا يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ فِيهِ بِمَا نَذَرَ، وَلاَ
يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا أَدْرَكَ، فَيُخْرِجُ
الْوَلِيُّ الْفِدْيَةَ عَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ إِنْ أَوْصَى النَّاذِرُ
بِذَلِكَ، وَيُجْبَرُ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يَصُومَ مَا
وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مِنْ ثُلُثِ
تَرِكَتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ، إِذَا أَوْصَى أَنْ يُوَفَّى
عَنْهُ، وَالْقَوْل بِالإِْطْعَامِ عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ
مَنْذُورٌ هُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ
أَشْهَرُ قَوْلَيْهِ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، سَوَاءٌ
أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، هَذَا إِذَا كَانَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ
التَّمَكُّنِ مِنَ الصِّيَامِ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَأَمَّا إِذَا
مَاتَ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الصِّيَامِ فَلاَ يُصَامُ وَلاَ يُطْعَمُ
عَنْهُ (1)
__________
(1) رَدُّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ 2 / 118 - 119،
وَالْهِدَايَةُ وَالْعِنَايَةُ وَفَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 357،
وَالْمَبْسُوطُ لِلسَّرَخْسِيِّ 3 / 90 - 91، وَالْفُرُوقُ 3 / 187،
وَالشَّرْحُ الْكَبِيرُ وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَيْهِ 1 / 53، 2 /
18، وَالْحَطَّابُ 6 / 408، وَالْمَجْمُوعُ 8 / 497، وَرَوْضَةُ
الطَّالِبِينَ 3 / 333، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ
الْمُحْتَاجِ 1 / 526، وَعُمْدَةُ الْقَارِي 11 / 59، وَشَرْحُ
النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 8 / 26، وَالْمُنْتَقَى 2 / 62 - 63.
(40/215)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ،
وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُل
يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ (1) وَحَكَى الإِْمَامُ مَالِكٌ
وَالْمَاوَرْدِيُّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَامُ عَنِ
الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ
عَنْهُمْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ
قَال: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ
أَحَدٍ "، بَعْدَ أَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حَدِيثَ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ: أَنَّ امْرَأَةً
سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
صِيَامٍ مَنْذُورٍ مَاتَتْ أُمُّهَا قَبْل أَدَائِهِ، فَأَمَرَهَا أَنْ
تَصُومَ عَنْهَا (2) ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " لاَ تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ
وَأَطْعِمُوا
__________
(1) حَدِيثُ: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ
عَنْ أَحَدٍ. . . " أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (2
/ 175 ط دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) .
(2) حَدِيثُ: " أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِيَامٍ مَنْذُورٍ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(2 / 804 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .
(40/216)
عَنْهُمْ " (1) ، بَعْدَ أَنْ رَوَتْ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَ الصَّوْمِ عَنِ
الْمَيِّتِ وَهُوَ أَنَّهُ قَال: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ
عَنْهُ وَلِيُّهُ (2) ، وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلاَفِ مَرْوِيِّهِ
بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُل عَلَى
إِخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنْ الاِعْتِبَارِ، وَلِهَذَا فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي
الْقِيَاسِ: أَنْ لاَ يَكُونَ حُكْمُ الأَْصْل مَنْسُوخًا، لأَِنَّ
التَّعْدِيَةَ بِالْجَامِعِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ إِبْطَال
اعْتِبَارِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لاَسْتَمَرَّ تَرْتِيبُ
الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ
مِثْل ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) - قَال الإِْمَامُ
مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْمَدِينَةِ، أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ
أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ، أَوْ يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ،
وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ وَأَنَّهُ الأَْمْرُ الَّذِي
اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ آخِرًا (4) وَأَضَافُوا: إِنَّ الصَّوْمَ
عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ،
فَكَذَلِكَ لاَ تَدْخُلُهَا بَعْدَ
__________
(1) أَثَرُ عَائِشَةَ: " لاَ تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وَأَطْعِمُوا
عَنْهُمْ " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (4 / 257 ط
دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ) .
(2) حَدِيثُ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ "
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (الْفَتْحُ 4 / 192 ط السَّلَفِيَّةِ) ،
وَمُسْلِمٌ (2 / 803 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .
(3) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 84.
(4) الْمَصْدَرُ السَّابِقُ.
(40/216)
الْمَوْتِ كَالصَّلاَةِ، وَهَذَا لأَِنَّ
الْمَعْنَى فِي الْعِبَادَةِ كَوْنُهَا شَاقَّةً عَلَى بَدَنِهِ، وَلاَ
يَحْصُل ذَلِكَ بِأَدَاءِ نَائِبِهِ عَنْهُ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ
لِكُل يَوْمٍ مِسْكِينًا، لأَِنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ أَدَاءِ
الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ، فَتَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي حَقِّ
الشَّيْخِ الْفَانِي (1) وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ،
وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ الاِخْتِيَارِ، وَذَلِكَ
فِي الإِْيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لأَِنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ هُوَ
تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، لأَِنَّ الصَّوْمَ فِعْلٌ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ
سَقَطَتِ الأَْفْعَال بِالْمَوْتِ، فَصَارَ الصَّوْمُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي
حَقِّ الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ
تَبَرُّعًا (2)
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مَنْذُورٌ، فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَصُومُهُ عَنْهُ،
سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْل اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،
وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَطَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي
مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ بِصِحَّتِهِ، وَتَابَعَهُ فِي
الْقَوْل بِصِحَّتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ،
إِلاَّ أَنَّ
__________
(1) الْمَبْسُوطِ 3 / 89، وَالْفُرُوقِ 3 / 187، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1
/ 439، وَالْمُغْنِي 3 / 143، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 334،
وَالْمُنْتَقَى 2 / 63.
(2) الْعِنَايَةُ 2 / 84.
(40/217)
النَّوَوِيَّ قَال: إِنَّمَا يُصَامُ عَنِ
النَّاذِرِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الصِّيَامِ وَلَمْ
يَصُمْ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ قَبْل إِمْكَانِ الصِّيَامِ فَلاَ يُصَامُ
وَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ، وَقَال: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ
الْوَارِثَ لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ النَّذْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ
إِذَا كَانَ غَيْرَ مَالِيٍّ، أَوْ كَانَ مَالِيًّا وَلَمْ يَتْرُكِ
الْمَيِّتُ مَالاً يُقْضَى مِنْهُ النَّذْرُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
لِلْوَارِثِ قَضَاؤُهُ عَنْهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى
الْوَلِيِّ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْمَيِّتِ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ تَرِكَةً،
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ لَهُ
وَالْمَعْرُوفِ لِتَفْرَغَ ذِمَّتُهُ مِنْهُ، وَالأَْوْلَى - كَمَا قَال
ابْنُ قُدَامَةَ - أَنْ يَقْضِيَ النَّذْرَ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ
قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَجْزَأَ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ
دَيْنَهُ، فَإِنْ خَلَّفَ تَرِكَةً وَجَبَ صِيَامُ النَّذْرِ عَنْهُ،
كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَصُومَ عَنِ
الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ أَحْوَطُ لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ
الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل وَجَبَ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ تَرِكَتِهِ
إِلَى مَنْ يَصُومُ عَنْهُ عَنْ كُل يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ، لأَِنَّ
ذَلِكَ فِدْيَةٌ، وَيُجْزِئُ صَوْمُ غَيْرِ الْوَلِيِّ سَوَاءٌ أَذِنَ
فِيهِ الْوَلِيُّ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ (1)
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 6 / 370 - 373، 8 / 497، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439،
وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 526، وَالْمُغْنِي 3 / 143، 9 / 30، وَكَشَّافُ
الْقِنَاعِ 2 / 335، وَعُمْدَةُ الْقَارِي 11 / 59، وَشَرْحُ النَّوَوِيِّ
عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 8 / 25، 11 / 97.
(40/217)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ
عَنْهُ وَلِيُّهُ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ
أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال:
أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ
يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ
(1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أَنَّهُ قَال: إِنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ وَهِيَ فِي الْبَحْرِ، إِنْ
نَجَّاهَا اللَّهُ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَأَنْجَاهَا اللَّهُ، وَمَاتَتْ
قَبْل أَنْ تَصُومَ، فَجَاءَتْ ذَاتُ قُرَابَةٍ لَهَا إِمَّا أُخْتُهَا
أَوِ ابْنَتُهَا إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَال: صُومِي عَنْهَا (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ
عَنْهَا؟ فَقَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ عَلَى
أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ
__________
(1) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: " جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ. .
. " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2 / 804 - ط الْحَلَبِيِّ)
(2) حَدِيثُ: " إِنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ وَهِيَ فِي الْبَحْرِ. . . "
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (4 / 256 ط دَائِرَةِ
الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ) .
(40/218)
قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، قَال:
فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ مَاتَ
وَعَلَيْهِ نَذْرٌ صَوْمُ شَهْرٍ، وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ؟
فَقَال: أَمَّا رَمَضَانُ فَيُطْعَمُ عَنْهُ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَيُصَامُ
عَنْهُ " (2) وَبِأَنَّ الصَّوْمَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ
الَّتِي لاَ تَقْبَل النِّيَابَةَ، إِلاَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ
النَّذْرِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُل الْعِبَادَةَ بِحَسَبِ
خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْوَاجِبِ بِأَصْل
الشَّرْعِ، لِكَوْنِ النَّذْرِ لَمْ يَجِبْ بِأَصْل الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا
أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ (3)
ثَالِثًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ قَبْل فِعْلِهِ: 68 -
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ
مَنْذُورٌ لَمْ يَفْعَلْهُ حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ
ثَلاَثَةٍ: الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ. . . "
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2 / 804 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .
(2) أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " سُئِل عَنْ
رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ صَوْمُ شَهْرٍ. . . " أَخْرَجَهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (4 / 257 ط دَارِ الْمَعَارِفِ) .
(3) الْمُغْنِي 3 / 144، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 335.
(40/218)
وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ فَإِنَّ
وَلِيَّهُ يَعْتَكِفُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَال بِهِ
الأَْوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلاَّ أَنَّ اعْتِكَافَ الْوَلِيِّ عَنِ
الْمَيِّتِ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ
فِعْلُهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ لَهُ، وَالأَْوْلَى أَنْ
يَقْضِيَهُ عَنْهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُ الْوَارِثِ
أَجْزَأَ النَّاذِرَ، كَمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنَهُ، إِذِ النَّذْرُ
شَبِيهٌ بِالدَّيْنِ، وَلأَِنَّ مَا يَقْضِيهِ الْوَارِثُ تَبَرُّعٌ
مِنْهُ، وَغَيْرُهُ مِثْلُهُ فِي التَّبَرُّعِ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا
وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ سَعْدَ
بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ
فَتُوُفِّيَتْ قَبْل أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً
بَعْدَهُ (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أُمَّهُ نَذَرَتِ اعْتِكَافًا فَمَاتَتْ وَلَمْ
تَعْتَكِفْ، فَسَأَل إِخْوَتُهُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: "
اعْتَكِفْ عَنْهَا وَصُمْ " (3)
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 6 / 372، 541، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ
الْمُحْتَاجِ 1 / 527، وَالْمُغْنِي 9 / 30، 32، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 /
335، 336.
(2) حَدِيثُ: " أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . . " سَبَقَ تَخَرُّجُهُ (ف 66)
(3) أَثَرُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: " أَنَّ أُمَّهُ
نَذَرَتِ اعْتِكَافًا. . . ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي
الْمُصَنَّفِ (4 / 353 ط الْمَجْلِسِ الْعِلْمِيِّ) .
(40/219)
وَأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الصِّيَامُ عَنِ
الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ
الاِعْتِكَافُ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الصِّيَامِ
وَالاِعْتِكَافِ كَفٌّ وَمَنْعٌ (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ يُطْعَمُ عَنْهُ، وَلاَ يُعْتَكَفُ
عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ
يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إِنْ أَوْصَى
النَّاذِرُ بِذَلِكَ، وَيُجْبَرُ الْوَارِثُ عَلَى إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلاَ
يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْوَارِثُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ إِيجَابُ الاِعْتِكَافِ
عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ فِي حَال الصِّحَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ، وَلَمْ
يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْمَرِيضَ لَيْسَ
لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ الاِعْتِكَافِ، وَإِنْ صَحَّ
يَوْمًا ثُمَّ مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ عَنْ جَمِيعِ الأَْيَّامِ الَّتِي
نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِيهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ،
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُطْعَمُ عَنْهُ بِعَدَدِ مَا صَحَّ مِنْ
أَيَّامٍ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 527،
وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336.
(40/219)
فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَيُطْعِمُ الْوَلِيُّ وَفْقًا
لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ اعْتِكَافِ يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ مُدًّا (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الاِعْتِكَافَ فَرْعٌ عَنِ الصَّوْمِ، وَلَمَّا
كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْمَيِّتِ بِالنَّذْرِ تُجْزِئُ
فِيهِ الْفِدْيَةُ، فَكَذَلِكَ الاِعْتِكَافُ يُجْزِئُ فِيهِ ذَلِكَ إِذَا
أَوْصَى بِهِ (2) . وَبِأَنَّ الاِعْتِكَافَ عِبَادَةٌ، وَكُل مَا كَانَ
كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ الاِخْتِيَارِ، وَهَذَا يَظْهَرُ فِي
الإِْيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، لأَِنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، وَلأَِنَّ
الاِعْتِكَافَ عَنِ الْمَيِّتِ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، لأَِنَّهُ فِعْلٌ
مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال كُلُّهَا بِمَوْتِ مَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَصَارَ الاِعْتِكَافُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ
الدُّنْيَا، فَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ عَنْهُ
تَبَرُّعًا، فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ (3)
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ
اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ، فَلاَ يُعْتَكَفُ عَنْهُ، وَلاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ،
وَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الاِعْتِكَافُ بِالْفِدْيَةِ،
وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِ
الشَّافِعِيِّ فِي
__________
(1) الدُّرُّ الْمُخْتَارُ 2 / 119، وَالْمَبْسُوطُ 3 / 123 - 124،
وَالْمَجْمُوعُ 6 / 372، 541، وَالْمُنْتَقَى 3 / 230.
(2) الْمَبْسُوطُ 3 / 123 - 124.
(3) الْعِنَايَةُ 2 / 84.
(40/220)
الأُْمِّ وَغَيْرِهِ (1) وَاسْتَدَلُّوا
بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّارِعِ مَا يُفِيدُ جَوَازَ الاِعْتِكَافِ
عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ مَنْذُورٌ، وَلاَ تُجْزِئُهُ
الْفِدْيَةُ عَنْ هَذَا الاِعْتِكَافِ، لِعَدَمِ وُرُودِ مَا يَدُل عَلَى
إِجْزَاءِ الْفِدْيَةِ عَنْهُ (2)
رَابِعًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ قَبْل أَدَائِهَا: 69 - اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلاَةٌ مَنْذُورَةٌ، لَمْ
يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ، وَذَلِكَ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ
الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلاَةٌ
مَنْذُورَةٌ فَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَوْ غَيْرِهِ فِعْلُهَا عَنْهُ،
وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْفِدْيَةِ، بِاسْتِثْنَاءِ رَكْعَتَيِ
الطَّوَافِ، فَإِنَّهُمَا تُصَلَّيَانِ عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُحَجُّ
أَوْ يُعْتَمَرُ عَنْهُ إِنْ قِيل بِجَوَازِ النِّيَابَةِ عَنْهُ فِيهِمَا،
إِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ تُنَفَّذُ عِنْدَهُمْ وَصِيَّتُهُ
بِالاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ،
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ حَكَى الْعَيْنِيُّ إِجْمَاعَ
الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَنَقَل
الْقَاضِي عِيَاضٌ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 6 / 372، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ
الْمُحْتَاجِ 1 / 257.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ الْمُحْتَاجِ 1 / 527.
(40/220)
عَنِ الْمَيِّتِ، وَقَال الْقَرَافِيُّ:
حُكِيَ فِي الصَّلاَةِ الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَنِ
الْمَيِّتِ، وَنَقَل ابْنُ بَطَّالٍ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ
لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَرْضًا وَلاَ سُنَّةً، لاَ عَنْ حَيٍّ
وَلاَ عَنْ مَيِّتٍ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ
يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ " (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ
أَنَّهُ قَال: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلاَ مِنَ
التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ
يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ أَوْ يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ (3) وَبِأَنَّ الصَّلاَةَ
عِبَادَةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ، فَلاَ
تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ (4) وَبِأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ
بَدَل لَهَا بِحَالٍ، فَلاَ يَقُومُ فِيهَا فِعْل النَّائِبِ مَقَامَ فِعْل
الْمَنُوبِ عَنْهُ (5)
__________
(1) الْهِدَايَةُ وَالْعِنَايَةُ وَفَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85، وَرَدُّ
الْمُحْتَارِ 2 / 118، وَالْفُرُوقُ 3 / 187، وَتَهْذِيبُ الْفُرُوقِ
لاِبْنِ الشَّاطِّ 3 / 219، وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل 2 / 543، 544،
وَالْمَجْمُوعُ 6 / 372، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 439، وَزَادُ
الْمُحْتَاجِ 1 / 527، وَالْمُغْنِي 9 / 30 - 31، وَالْكَافِي 4 / 430،
وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336، وَعُمْدَةُ الْقَارِي 11 / 60، 23 / 210.
(2) أَثَرُ: " لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ
(ف 67) .
(3) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 84.
(4) الْمُهَذَّبُ مَعَ شَرْحِهِ الْمَجْمُوعِ 6 / 367، وَالْكَافِي 4 /
430.
(5) الْمُغْنِي 9 / 30.
(40/221)
وَبِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ
الشَّرْعِيَّةِ الاِبْتِلاَءُ وَالْمَشَقَّةُ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي
الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ
بِالأَْفْعَال الْمَخْصُوصَةِ، وَبِفِعْل النَّائِبِ لاَ تَتَحَقَّقُ
الْمَشَقَّةُ عَلَى نَفْسِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَجُزِ
النِّيَابَةُ فِيهَا مُطْلَقًا (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ صَلاَةٌ مَنْذُورَةٌ أَدَّاهَا وَلِيُّهُ عَنْهُ، رُوِيَ هَذَا
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَال بِهِ
الأَْوْزَاعِيُّ وَعَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنِ
الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَذَهَبَ
بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَارِثَ يُصَلِّي عَنِ
الْمَيِّتِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا
فَاتَهُ مِنْ صَلاَةٍ نَذَرَ أَدَاءَهَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَاتَ،
وَذَلِكَ صِلَةٌ لَهُ وَإِبْرَاءٌ لِذِمَّتِهِ مِنْهَا (2) وَاسْتَدَلُّوا
بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ
__________
(1) الْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 65.
(2) مَوَاهِبُ الْجَلِيل 2 / 543، وَإِعَانَةُ الطَّالِبِينَ 2 / 244،
وَالْمُغْنِي 9 / 30، وَالْكَافِي 4 / 430، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 336،
وَعُمْدَةُ الْقَارِي 23 / 210، وَشَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ
مُسْلِمٍ 1 / 90.
(40/221)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْل أَنْ تَقْضِيَهُ،
فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
يَقْضِيهِ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ (1) وَاسْتَدَلُّوا
كَذَلِكَ بِالأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجِّ عَنِ
الْمَيِّتِ، وَالصِّيَامِ عَنْهُ وَنَحْوِهَا، إِذْ جَاءَ فِيهَا قَوْل
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْضُوا اللَّهَ
فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ (2) ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي
أَوْجَبَهَا النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَيْهِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْل أَدَائِهِ، فَيُجْزِئُهُ قَضَاءُ وَلِيِّهِ
عَنْهُ ذَلِكَ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّهُ
أَمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءَ،
فَقَال: صَلِّي عَنْهَا " (3) وَأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَضَاءُ الصَّوْمِ
وَالْحَجِّ عَنِ الْمَيِّتِ بِالنَّصِّ، فَيَجُوزُ قَضَاءُ الصَّلاَةِ
عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهَا
عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَلأَِنَّ كُلًّا مِنْهَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى
الْمَيِّتِ، فَيُقْضَى عَنْهُ كَبَقِيَّةِ دُيُونِهِ وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ
(4)
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 66) .
(2) حَدِيثُ: " فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " سَبَقَ
تَخْرِيجُهُ (ف 65) .
(3) أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّهُ أَمَرَ
امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءَ فَقَال:
صَلِّي عَنْهَا ". ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابِ مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ نَذْرٌ (فَتْحُ الْبَارِي 11 / 583 ط السَّلَفِيَّةِ) وَلَمْ
يَعْزُهُ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى أَيِّ مَصْدَرٍ.
(4) الْكَافِي 4 / 430.
(40/222)
خَامِسًا: مَوْتُ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ
قَبْل أَدَائِهَا: 70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ
صَدَقَةً وَمَاتَ قَبْل أَدَائِهَا، عَلَى اتِّجَاهَيْنِ: الاِتِّجَاهُ
الأَْوَّل: يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَدَقَةً وَمَاتَ قَبْل
أَدَائِهَا أَدَّاهَا وَلِيُّهُ عَنْهُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى
بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (1) ، وَقَالُوا: إِنَّ أَدَاءَ الْوَلِيِّ هَذَا
النَّذْرَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى سَبِيل الصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ،
وَتَبْرِئَةً لِذِمَّةِ الْمَيِّتِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا
أَوْ دَيْنٍ (2) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
أَنَّ رَجُلاً قَال لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ
تَصَدَّقَتْ، فَهَل لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ
(3) وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 411، وَالْمُغْنِي 9 / 30 - 31، وَالْكَافِي
4 / 430، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 2 / 335، وَشَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى
صَحِيحِ مُسْلِمٍ 11 / 84، 96.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ / 11
(3) حَدِيثُ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ
تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (3 / 254، ط
السَّلَفِيَّةِ) وَمُسْلِمٌ (2 / 696، ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .
(40/222)
أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَوْصَى أَنْ
يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ، فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ خَمْسِينَ
رَقَبَةً، فَأَرَادَ ابْنُهُ عَمْرٌو أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ الْخَمْسِينَ
الْبَاقِيَةَ فَقَال: حَتَّى أَسْأَل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَوْصَى بِعِتْقِ
مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ، وَبَقِيَتْ
عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً، أَفَأُعْتِقُ عَنْهُ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا
فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ
بَلَغَهُ ذَلِكَ (1) وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا
نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اقْضِهِ عَنْهَا. فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ (2)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَرَى مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ مَنْذُورَةٌ، فَلاَ تُؤَدَّى عَنْهُ إِلاَّ إِذَا
أَوْصَى بِذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ تُؤَدَّى مِنْهَا، فَإِنْ
أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا كَانَتْ وَصِيَّةً وَأُخْرِجَتْ مِنْ ثُلُثِ
تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنْ لَمْ يُوصِ
بِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ
أَدَاؤُهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ أَوْ مِنْ تَرِكَةِ
__________
(1) حَدِيثُ " أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ.
. . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (3 / 302 - ط حِمْصَ) .
(2) حَدِيثُ: " أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ (ف 66) .
(40/223)
الْمَيِّتِ، إِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (1) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ
مِنَ التَّكَالِيفِ الاِبْتِلاَءُ وَالْمَشَقَّةُ، وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي
الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ بِتَنْقِيصِ الْمَال الْمَحْبُوبِ لِلنَّفْسِ
بِإِيصَالِهِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَهَذَا الْمَال مُتَعَلِّقٌ بِفِعْل
الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَقَدْ سَقَطَتِ الأَْفْعَال كُلُّهَا بِالْمَوْتِ،
لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ
الإِْيصَاءُ بِالْمَال الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُهَا تَبَرُّعًا مِنَ
الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً، فَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ (2)
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85، وَالْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 64، 65،
وَتُحْفَةُ الْفُقَهَاءِ 1 / 482، وَالْمُنْتَقَى 2 / 62، 63.
(2) فَتْحُ الْقَدِيرِ 2 / 85، وَالْبَحْرُ الرَّائِقُ 3 / 65.
(40/223)
نَرْدٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّرْدُ فِي اللُّغَةِ: لُعْبَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ
مُعَرَّبٌ، وَضَعَهُ أَرْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ، وَلِهَذَا يُقَال:
النَّرْدَشِيرُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: أ - الشِّطْرَنْجُ: 2 - فِي اللُّغَةِ:
الشِّطْرَنْجُ مُعَرَّبٌ بِالْفَتْحِ، وَقِيل: بِالْكَسْرِ، وَهُوَ
الْمُخْتَارُ وَهُوَ فَارِسِيٌّ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
لُعْبَةٌ، غَيْرَ أَنَّ النَّرْدَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْحَزْرِ
وَالتَّخْمِينِ وَالشِّطْرَنْجَ يَعْتَمِدُ عَلَى الْفِكْرِ وَالتَّدْبِيرِ
(3)
__________
(1) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَالْقَامُوسُ الْمُحِيطُ، وَحَاشِيَةُ ابْنِ
عَابِدِينَ 5 / 252 - 253.
(2) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 4 / 428.
(3) تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ 10 / 215، 216.
(40/224)
حُكْمُ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ: 3 -
اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ -
الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
وَرَأْيٌ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ (1) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ
يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ (2) وَلِقَوْلِهِ: مَنْ لَعِبَ
بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (3) وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلأَِنَّهُ إِنْ قَامَرَ
بِهِ فَالْمَيْسِرُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ فَهُوَ
عَبَثٌ وَلَهْوٌ (4) قَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ،
وَمُلاَعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ (5) وَعَلَّل
الشَّافِعِيَّةُ التَّحْرِيمَ بِأَنَّ مُعْتَمَدَهُ الْحَزْرُ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ عَلَيْهِ 5 / 252 و 253،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 4 / 167، وَعَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة فِي
مَذْهَب عَالَمِ الْمَدِينَةِ لاِبْن شاس 3 / 535 ط الأُْولَى، دَار
الْغَرْبِ الإِْسْلاَمِيّ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 428، وَتُحْفَة
الْمُحْتَاج وَحَاشِيَته للشرواني 10 / 216، وَرَوَّضَ الطَّالِبُ 4 / 343
- وَالْمُغْنِي 9 / 170، 171.
(2) حَدِيث: " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ شَيِّر فَكَأَنَّمَا. . . "
أَخْرَجَهُ مُسْلِم (4 / 1770 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثٍ
بُرَيْدَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) حَدِيث: " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُوله "
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 / 230 ط حِمْص) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى
الأَْشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(4) تَكْمِلَة فَتْحِ الْقَدِير 10 / 64، وَتَبْيِينِ الْحَقَائِقِ للزيلعي
6 / 30
(5) حَدِيث: " لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَث. . . " أَخْرَجَهُ
أَبُو دَاوُد (3 / 29 ط حِمْص) وَالنَّسَائِيّ (6 / 223 ط التِّجَارِيَّة
الْكُبْرَى) مِنْ حَدِيثِ عُقْبَة بْن عَامِر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(40/224)
وَالتَّخْمِينُ الْمُؤَدِّي إِلَى غَايَةٍ
مِنَ السَّفَاهَةِ وَالْحُمْقِ.
قَال الرَّافِعِيُّ: وَيُقَاسُ عَلَى الشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ كُل مَا
فِي مَعْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّهْوِ: فَكُل مَا مُعْتَمَدُهُ
الْحِسَابُ كَالْمِنْقَلَةِ: حُفَرٌ أَوْ خُطُوطٌ يُنْقَل مِنْهَا
وَإِلَيْهَا حُصِيَ بِالْحِسَابِ، لاَ يَحْرُمُ، وَكُل مَا مُعْتَمَدُهُ
التَّخْمِينُ يَحْرُمُ، النَّرْدُ وَنَحْوُهُ، وَالنَّرْدُ مَوْضُوعُهُ مَا
يُخْرِجُهُ الْكَعْبَانِ: أَيِ الْحَصَى فَهُوَ كَالأَْزْلاَمِ وَمُقَابِل
الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ (1)
نِزَاعٌ
انْظُرْ: دَعْوَى.
__________
(1) تُحْفَة الْمُحْتَاج 10 / 216، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 428،
وَرَوَّضَ الطَّالِبُ 4 / 343.
(40/225)
نُزُولٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النُّزُول لُغَةً: مَصْدَرُ نَزَل، يُقَال: نَزَل
نُزُولاً هَبَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَيُقَال: نَزَل فُلاَنٌ عَنِ
الأَْمْرِ وَالْحَقِّ: تَرَكَهُ، وَبِالْمَكَانِ وَفِيهِ: حَل، وَعَلَى
الْقَوْمِ حَل ضَيْفًا، وَيُقَال نَزَل بِهِ مَكْرُوهٌ أَصَابَهُ،
وَالْحَاجُّ: أَتَى مِنًى، وَعَلَى إِرَادَةِ زَمِيلِهِ وَافَقَهُ فِي
الرَّأْيِ (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّزُول: نُزُول خَطِيبِ الْجُمُعَةِ
بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتِهِ: 2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ
نُزُول الْخَطِيبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.
__________
(1) الْمُعْجَم الْوَسِيط.
(2) حَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 3 / 628، 4 / 26 ط دَارَ
إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ، وَالْمُحَرِّرِ 2 / 173 ط دَار
الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ، وَالاِخْتِيَار 5 / 92، 93 ط دَار الْمَعْرِفَة،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 410، 412 ط دَار الْفِكْرِ، كَشَّاف الْقِنَاع 4
/ 424، 425 ط عَالَم الْكُتُبِ.
(40/225)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا نَزَل
الْخَطِيبُ أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلاَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَضَى الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ اسْتَغْفَرَ
اللَّهَ ثُمَّ نَزَل فَصَلَّى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ مِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنَّ
الإِْمَامَ يَأْخُذُ فِي النُّزُول بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ خُطْبَتِهِ
وَيَأْخُذُ الْمُؤَذِّنُ فِي الإِْقَامَةِ، وَيَبْتَدِرُ الإِْمَامُ
لِيَبْلُغَ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِ الْمُقِيمِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنَ الْخُطْبَةِ نَزَل
عِنْدَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، وَيَنْزِل مُسْرِعًا
مُبَالَغَةً فِي الْمُوَالاَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَالصَّلاَةِ،
وَالإِْسْرَاعُ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ تَقْبُحُ (1)
نُزُول وَفْدِ الْكَافِرِينَ فِي الْمَسْجِدِ: 3 - قَال النَّوَوِيُّ:
إِذَا قَدِمَ وَفْدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَالأَْوْلَى أَنْ يُنْزِلَهُمُ
الإِْمَامُ فِي دَارٍ مُهَيَّأَةٍ لِذَلِكَ أَوْ فِي فُضُول مَسَاكِنِ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَلَهُ إِنْزَالُهُمْ فِي
الْمَسْجِدِ (2) وَاحْتَجَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِجَوَازِ ذَلِكَ بِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ وَفْدُ ثَقِيفٍ أَنْزَلَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ قَبْل
إِسْلاَمِهِمْ " (3) ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَدْ كَانَ
__________
(1) الاِخْتِيَار 1 / 85، وَالْمُدَوَّنَة 1 / 150 / 151، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 2 / 32، وَكَشَّاف الْقِنَاع 2 / 38.
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 10 / 311.
(3) حَدِيث: " أَنَّ وَفْد ثَقِيف لِمَا قَدَّمُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . . " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3
/ 420 ط حِمْص) عَنِ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي العاص.
وَقَال الْمُنْذِرِي فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ (4 / 244 ط دَار
الْمَعْرِفَة) قَدْ قِيل إِنَّ الْحَسَن الْبَصْرِيّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
عُثْمَان بْن أَبِي العاص
(40/226)
أَبُو سُفْيَانَ يَدْخُل مَسْجِدَ
الْمَدِينَةِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ (1)
نُزُول الرَّاكِبِ لِسُجُودِ التِّلاَوَةِ: 4 - الْمُسَافِرُ الَّذِي
يَسْجُدُ لِلتِّلاَوَةِ فِي صَلاَتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُجْزِئُهُ
الإِْيمَاءُ لِلسُّجُودِ تَبَعًا لِلصَّلاَةِ وَلاَ يَلْزَمُهُ النُّزُول،
أَمَّا الْمُسَافِرُ الَّذِي يُرِيدُ السُّجُودَ لِلتِّلاَوَةِ عَلَى
الرَّاحِلَةِ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُومِئُ بِالسُّجُودِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ الإِْيمَاءُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودِ التِّلاَوَةِ فِقْرَة 17) .
نُزُول الْخَطِيبِ لِسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ: 5 - أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ نُزُول الْخَطِيبِ عَنِ الْمِنْبَرِ لِسُجُودِ
التِّلاَوَةِ وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الْكُلْفَةِ. وَأَوْجَبَهُ
الْحَنَفِيَّةُ لِوُجُوبِ سُجُودِ التِّلاَوَةِ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 8 / 532 ط الرِّيَاض.
(40/226)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ
السُّجُودِ، وَلِذَا لاَ يَجُوزُ النُّزُول عِنْدَهُمْ لِلسُّجُودِ مَعَ
اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَرَاهَةِ السُّجُودِ أَوْ حُرْمَتِهِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودِ التِّلاَوَةِ ف 21) .
نُزُول الْمَنِيِّ بِشَهْوَةٍ فِي حَقِّ الصَّائِمِ: 6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ إِنْزَال الْمَنِيِّ مُبْطِلٌ
لِلصَّوْمِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَوْم ف 41 -
44، وَاسْتِمْنَاء ف 8 - 10) .
(40/227)
نَسَاءٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّسَاءُ فِي اللُّغَةِ التَّأْخِيرُ، يُقَال: نَسَأَ
اللَّهُ أَجَلَهُ - مِنْ بَابِ نَفَعَ - وَنَسَأَ اللَّهُ فِي أَجْلِهِ،
أَنْسَأَهُ وَأَنْسَأَ فِيهِ: إِذَا أَخَّرَهُ (1) وَلاَ يَخْرُجُ
الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: النَّقْدُ: 2 - النَّقْدُ فِي اللُّغَةِ:
تَمْيِيزُ الدَّرَاهِمِ وَإِخْرَاجُ الزَّيْفِ مِنْهَا، وَقَبْضُ
الدَّرَاهِمِ وَأَخْذُهَا، وَإِعْطَاؤُهَا، وَهُوَ خِلاَفُ النَّسَاءِ،
يُقَال: نَقَدْتُ لَهُ الدَّرَاهِمَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ: أَعْطَيْتُهُ
حَالاً فَانْتَقَدَهَا: أَيْ قَبَضَهَا (3)
وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ
لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 2 / 501 ط. دَارُ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 21.
(3) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(40/227)
عَنْهُمَا فِي شَأْنِ جَمَلِهِ: قَال:
فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ (1) ، أَيْ أَعْطَانِيهِ نَقْدًا مُعَجَّلاً.
وَالنَّقْدُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عِبَارَةٌ عَنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
وَأَيْضًا: لِخِلاَفِ النَّسِيئَةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَاءِ وَالنَّقْدِ: التَّضَادُّ (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّسَاءِ: النَّسَاءُ فِي الْعُقُودِ: 3
- لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل عَقْدٍ يَحْرُمُ فِيهِ
التَّفَاضُل فِي الْبَدَلَيْنِ يَحْرُمُ فِيهِ النَّسَاءُ، وَيَحْرُمُ
التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَيْنًا بِعَيْنٍ " (3) وَقَوْلِهِ: يَدًا بِيَدٍ
(4) وَلأَِنَّ تَحْرِيمَ النَّسَاءِ آكَدُ. فَإِذَا حَرُمَ التَّفَاضُل
فَالنَّسَاءُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ
فَالتَّفَاضُل فِيهِ جَائِزٌ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ تَجُوزُ النَّسِيئَةُ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ التَّفَاضُل فِي الْجِنْسَيْنِ إِلاَّ
__________
(1) حَدِيث جَابِر: " فَنَقَدَنِي ثَمَنه " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 5 / 314 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (3 / 1221 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) .
(2) لِسَان الْعَرَبِ، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) حَدِيث: " عَيْنًا بِعَيْن ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1210 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - ضِمْن حَدِيث طَوِيل.
(4) حَدِيث: " يَدًا بِيَد ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1213 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكَرَة نفيع بْن الْحَارِث - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
(40/228)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُ
قَال: مَا يَتَقَارَبُ الاِنْتِفَاعُ بِهِمَا لاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل
فِيهِمَا، وَيَرُدُّهُ قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ،
وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا
الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (1) فَأَمَّا
النَّسَاءُ: فَكُل جِنْسَيْنِ يَجْرِي فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ
وَاحِدَةٍ كَالْمَكِيل بِالْمَكِيل وَالْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ - عِنْدَ
مَنْ يُعَلِّل بِهِ - فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ
نَسَاءً بِلاَ خِلاَفٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ
شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) ، وَفِي لَفْظٍ: لاَ بَأْسَ
بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا: يَدًا
بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةٌ فَلاَ، وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ
بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا نَسِيئَةٌ
فَلاَ (3) ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنًا وَالآْخَرُ
مُثَمَّنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ النَّسَاءُ
__________
(1) حَدِيث: " بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا
بِيَد. . . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (3 / 532 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ
حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ، وَأَصْله فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (3 /
1211) .
(2) حَدِيث: " فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ
شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَد " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1211 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
(3) حَدِيث: " لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ. . . ".
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 646 ط حِمْص) " مِنْ حَدِيثِ عِبَادَة بْن
الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(40/228)
بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ (1) لأَِنَّ
الشَّارِعَ أَرْخَصَ فِي السَّلَمِ، وَالأَْصْل فِي رَأْسِ الْمَال
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَلَوْ حَرَّمَ النَّسَاءَ فِي السَّلَمِ
لاَنْسَدَّ بَابُ السَّلَمِ فِي الْمَوْزُونَاتِ (2) وَالتَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ (رِبَا ف 26 وَمَا بَعْدَهَا) .
بَيْعُ الشَّرِيكِ وَالْوَكِيل وَالْمُضَارِبِ نَسَاءً: 4 - ذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ يَجِبُ
عَلَيْهِ الاِحْتِيَاطُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ فِي مَال الْغَيْرِ:
كَالْوَكِيل وَالْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِيكِ فِي مَال
التِّجَارَةِ الْبَيْعُ نَسَاءً بِلاَ إِذْنٍ مِنْ مَالِكِ رَأْسِ مَال
الْقِرَاضِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَفِي الْمُوَكَّل بِالتَّوْكِيل فِي
الْبَيْعِ، وَالشَّرِيكِ فِي مَال التِّجَارَةِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ
جَازَ.
وَيَجِبُ أَنْ لاَ يُبَالَغَ فِي الأَْجَل فَإِنْ قُدِّرَ لَهُ مُدَّةٌ فِي
الأَْجَل اتَّبَعَ، فَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ فِي الْمُدَّةِ: فَإِنْ كَانَ
هُنَاكَ عُرْفٌ حُمِل عَلَيْهِ، وَإِلاَّ رَاعَى الْمَصْلَحَةَ. وَإِنْ
أَذِنَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْشْهَادُ فِي
__________
(1) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 4 / 11 - 12، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 22
- 24، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 3 / 411، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 4 / 87 -
88، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص / 166 ط: دَارَ الْقَلَم.
(2) الْمُغْنِي 4 / 12، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 3 / 410.
(40/229)
الْبَيْعِ نَسَاءً، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ نَسَاءً مِنْ ثِقَةٍ مَلِيءٍ.
وَإِنْ أَطْلَقَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَال لِمَنْ ذَكَرَ فَلاَ يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل،
لأَِنَّ مُقْتَضَى الإِْطْلاَقِ الْحُلُول، لأَِنَّهُ الْمُعْتَادُ
غَالِبًا (1) وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَكِيل
وَبَيْنَ عَامِل الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَقَالُوا:
إِذَا أَطْلَقَ الإِْذْنَ بِلاَ قَيْدٍ بِالنَّسَاءِ أَوِ النَّقْدِ فَلاَ
يَجُوزُ لِلْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ نَسَاءً، وَفِي جَوَازِ بَيْعِ عَامِل
الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ نَسَاءً رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَيْسَ
لَهُمَا ذَلِكَ لأَِنَّهُمَا نَائِبَانِ فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ
لَهُمَا الْبَيْعُ نَسَاءً بِغَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ فِيهِ كَالْوَكِيل،
لأَِنَّ النَّائِبَ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ
الْحَظِّ وَالاِحْتِيَاطِ، وَفِي الْبَيْعِ نَسَاءً تَغْرِيرٌ بِالْمَال،
وَقَرِينَةُ الْحَال تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْكَلاَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ
قَال لَهُ: بِعْ حَالاً.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِعَامِل الْمُضَارَبَةِ
وَالشَّرِيكِ فِي التِّجَارَةِ الْبَيْعُ نَسَاءً، لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي
الْمُضَارَبَةِ وَالتِّجَارَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى التِّجَارَةِ
الْمُعْتَادَةِ وَهَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلأَِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ
الرِّبْحَ، وَالرِّبْحُ فِي النَّسَاءِ أَكْثَرُ.
__________
(1) تُحْفَة الْمُحْتَاج 6 / 93، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 224، 214، 315،
وَالْمَحَلِّيّ شَرْح الْمِنْهَاجِ 2 / 56، 335، 341، وَالْمُغْنِي 5 / 39
- 40 وَمَا بَعْدَهَا.
(40/229)
وَيُفَارِقُ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ
فَإِنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الرِّبْحِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ
تَحْصِيل الثَّمَنِ فَحَسْبُ، فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ
خَطَرٍ كَانَ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْبَيْعِ
تَدُل عَلَى أَنَّ حَاجَةَ الْمُوَكِّل إِلَى الثَّمَنِ نَاجِزَةٌ فَلَمْ
يَجُزْ تَأْخِيرُهُ بِخِلاَفِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ قَال لَهُ: اعْمَل
بِرَأْيِكَ فَلَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً، لأَِنَّ الإِْذْنَ فِي عُمُومِ
لَفْظِهِ وَقَرِينَةِ حَالِهِ تَدُل عَلَى رِضَائِهِ بِرَأْيِهِ فِي
صِفَاتِ الْبَيْعِ وَفِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْهَا (1)
فَإِذَا قُلْنَا: لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَمَهْمَا
فَاتَ مِنَ الثَّمَنِ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِلاَّ أَنْ يُفَرِّطَ
بِبَيْعِ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ أَوْ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ، فَيَلْزَمُهُ
ضَمَانُ الثَّمَنِ الَّذِي انْكَسَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ قُلْنَا:
لَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ فَعَل مَا
لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الأَْجْنَبِيِّ (2) أَمَّا
الْوَكِيل: إِنْ عَيَّنَ الشِّرَاءَ لَهُ بِنَقْدٍ أَوْ حَالاً لَمْ تَجُزْ
مُخَالَفَتُهُ، وَإِنْ أَطْلَقَ حُمِل عَلَى الْحُلُول، لأَِنَّ الأَْصْل
فِي الْبَيْعِ الْحُلُول، وَيُخَالِفُ الْمُضَارَبَةَ بِوَجْهَيْنِ:
أَوَّلاً: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحُ لاَ دَفْعُ
الْحَاجَةِ بِالثَّمَنِ فِي الْحَال، وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِي
الْوَكَالَةِ دَفْعَ حَاجَةٍ نَاجِزَةٍ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ.
__________
(1) الْمُغْنِي 5 / 39 - 40.
(2) الْمُغْنِي 5 / 40.
(40/230)
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ
فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ فَيَعُودُ ضَرَرُ التَّأْخِيرِ فِي
التَّقَاضِي عَلَيْهِ، وَالْوَكَالَةُ بِخِلاَفِهِ فَلاَ يَرْضَى بِهِ
الْمُوَكِّل، وَلأَِنَّ الضَّرَرَ فِي تَوَى الثَّمَنِ عَلَى الْمُضَارِبِ،
لأَِنَّهُ يُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ، لِكَوْنِ الرِّبْحِ وِقَايَةً لِرَأْسِ
الْمَال، وَفِي الْوَكَالَةِ يَعُودُ عَلَى الْمُوَكِّل فَانْقَطَعَ
الإِْلْحَاقُ. كَانَ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهَا
نَقْدًا بِدُونِ ثَمَنِهَا نَسِيئَةً لَمْ يُنَفَّذْ بَيْعُهُ لأَِنَّهُ
مُخَالِفٌ لِمُوَكِّلِهِ، لأَِنَّهُ رَضِيَ بِثَمَنِ النَّسِيئَةِ دُونَ
النَّقْدِ (1) وَإِنْ بَاعَهَا نَقْدًا بِمَا تُسَاوِي نَسِيئَةً، أَوْ
عَيَّنَ لَهُ ثَمَنَهَا فَبَاعَهَا بِهِ نَقْدًا قَال الْقَاضِي: يَصِحُّ
الْبَيْعُ لأَِنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهَا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهَا
بِأَكْثَرَ مِنْهَا.
وَيُحْتَمَل أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي
النَّسِيئَةِ صَحَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَرَضٌ كَأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ
مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِحِفْظِهِ فِي الْحَال أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ
التَّلَفِ أَوِ الْمُتَغَلِّبِينَ أَوْ يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ إِلَى
وَقْتِ الْحُلُول فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، لأَِنَّ حُكْمَ
الْحُلُول لاَ يَتَنَاوَل الْمَسْكُوتَ عَنْهُ إِلاَّ إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ
فِي الْمَصْلَحَةِ كَالْمَنْطُوقِ أَوْ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ
فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ أَوِ الْمُمَاثَلَةِ (2) وَمَتَى
كَانَ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ غَرَضٌ مُخْتَصٌّ بِهِ
__________
(1) الْمُغْنِي 5 / 134 - 135.
(2) الْمُغْنِي 5 / 134 - 135.
(40/230)
لَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ وَلاَ ثُبُوتُ
الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِعَامِل الْقِرَاضِ وَالشَّرِيكِ فِي
التِّجَارَةِ وَلِلْوَكِيل فِي الْبَيْعِ الْبَيْعُ نَسَاءً عِنْدَ
الإِْطْلاَقِ، إِذَا كَانَتِ النَّسِيئَةُ لأَِجَلٍ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ
النَّاسِ، لأَِنَّ مُطْلَقَ الْوَكَالَةِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ
وَالتَّصَرُّفَاتِ لِدَفْعِ الْحَاجَاتِ، فَيَتَقَيَّدُ الْوَكِيل
الْمُطْلَقُ بِمَوَاقِعِهَا، وَالْمُتَعَارَفُ الْبَيْعُ حَالاً أَوْ
بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ (2) ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ
يَجُوزُ لِلْوَكِيل تَأْجِيل الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ
لِلْعَامِل فِي الْقِرَاضِ تَأْجِيلُهُ وَلَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ لأَِنَّهُ
يَمْلِكُ الإِْقَالَةَ بِخِلاَفِ الْوَكِيل فِي الْبَيْعِ (3)
نِسَاءٌ
انْظُرِ: امْرَأَةً.
__________
(1) الْمَصْدَر السَّابِق.
(2) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 4 / 270، 5 / 68 - 69، وَحَاشِيَة ابْن
عَابِدِينَ 3 / 345.
(3) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 5 / 68.
(40/231)
نَسَبٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّسَبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ نَسَبَ، يُقَال:
نَسَبْتُهُ إِلَى أَبِيهِ نَسَبًا: عَزَوْتُهُ إِلَيْهِ، وَانْتَسَبَ
إِلَيْهِ: اعْتَزَى. وَالاِسْمُ: النِّسْبَةُ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ تُضَمُّ.
قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: يَكُونُ النَّسَبُ مِنْ قِبَل الأَْبِ وَمِنْ
قِبَل الأُْمِّ (1) وَالنَّسَبُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: الْقَرَابَةُ
وَهِيَ الاِتِّصَال بَيْنَ إِنْسَانَيْنِ بِالاِشْتِرَاكِ فِي وِلاَدَةٍ
قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ (2) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ الاِنْتِسَابُ
لأَِبٍ مُعَيَّنٍ (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: أ - الْعَصَبَةُ: 2 - الْعَصَبَةُ فِي
اللُّغَةِ: الْقَرَابَةُ الذُّكُورُ الَّذِينَ
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالصِّحَاح.
(2) نَيْل الْمَآرِب بِشَرْحِ دَلِيل الطَّالِبِ 2 / 55، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاج 3 / 4، وَالتَّفْرِيع 2 / 338، وَهِدَايَة الرَّاغِبِ 422.
(3) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 100.
(40/231)
يُدْلُونَ بِالذُّكُورِ، وَهُوَ جَمْعُ
عَاصِبٍ (1) وَالْعَصَبَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ هُمُ:
الذُّكُورُ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَآبَائِهِ وَأَوْلاَدِهِمْ (2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْعَصَبَةِ أَنَّ النَّسَبَ أَعَمُّ.
ب - الْوَلاَءُ: 3 - الْوَلاَءُ فِي اللُّغَةِ: النُّصْرَةُ، لَكِنَّهُ
خُصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلاَءِ الْعِتْقِ (3) وَالْوَلاَءُ فِي
الاِصْطِلاَحِ هُوَ: ثُبُوتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِالْعِتْقِ أَوْ تَعَاطِي
أَسْبَابِهِ (4) وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ
لِلإِْرْثِ.
ج - الرَّحِمُ: 4 - الرَّحِمُ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ تَكْوِينِ الْوَلَدِ
ثُمَّ سُمِّيَتِ الْقَرَابَةُ وَالْوَصْلَةُ مِنْ جِهَةِ الْوَلاَءِ
رَحِمًا، فَالرَّحِمُ خِلاَفُ الأَْجْنَبِيِّ (5) وَالرَّحِمُ اصْطِلاَحًا:
كُل قَرِيبٍ، وَفِي عُرْفِ الْفَرْضِيِّينَ: كُل قَرِيبٍ لَيْسَ ذَا فَرْضٍ
مُقَدَّرٍ وَلاَ عَصَبَةٍ (6) وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلإِْرْثِ.
__________
(1) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(2) الْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 7 / 19، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 /
23.
(3) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالصِّحَاح.
(4) نَيْل الْمَآرِب 2 / 55، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 4، وَنِيل
الأَْوْطَار 6 / 70.
(5) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَمُخْتَار الصِّحَاح.
(6) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 / 486، 504، وَالْعَذْب الْفَائِض 2 / 15.
(40/232)
د - الْمُصَاهَرَةُ: 5 - قَال
الْجَوْهَرِيُّ: الأَْصْهَارُ أَهْل بَيْتِ الْمَرْأَةِ، وَقَال: وَمِنَ
الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَل الصِّهْرَ مِنَ الأَْحْمَاءِ وَالأَْخْتَانِ
جَمِيعًا، يُقَال: صَاهَرْتُ إِلَيْهِمْ: إِذَا تَزَوَّجْتَ فِيهِمْ،
وَأَصْهَرْتُ بِهِمْ: إِذَا اتَّصَلْتَ بِهِمْ وَتَحَرَّمْتَ بِجِوَارٍ
أَوْ نَسَبٍ أَوْ تَزَوُّجٍ (1) وَاصْطِلاَحًا تُطْلَقُ الْمُصَاهَرَةُ
عَلَى قَرَابَةِ النِّكَاحِ (2)
فَقَرَابَةُ الزَّوْجَةِ هُمُ الأَْخْتَانُ، وَقَرَابَةُ الزَّوْجِ هُمُ
الأَْحْمَاءُ، وَالأَْصْهَارُ يَقَعُ عَامًّا لِذَلِكَ كُلِّهِ (3)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْمُصَاهَرَةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ
بِالْمُصَاهَرَةِ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ.
هـ - الرَّضَاعُ: 6 - الرَّضَاعُ فِي اللُّغَةِ: مَصُّ الثَّدْيِ (4)
وَاصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِحُصُول لَبَنِ الْمَرْأَةِ أَوْ مَا حَصَل مِنْ
لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ (5) وَالصِّلَةُ بَيْنَ
النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ بَعْضُ أَحْكَامِ
النَّسَبِ.
__________
(1) الصِّحَاح، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 4، 246، وَالتَّفْرِيع لاِبْن الْجَلاَّب 2 /
44، 338.
(3) تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ 13 / 60.
(4) الْقَامُوس الْمُحِيط.
(5) ابْن عَابِدِينَ 2 / 403، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 7 / 162.
(40/232)
و - الْقُعْدُدُ: 7 - الْقُعْدُدُ فِي
اللُّغَةِ: هُوَ الْقَرِيبُ مِنَ الآْبَاءِ إِلَى الْجَدِّ الأَْكْبَرِ.
يُقَال: فُلاَنٌ سَوَاءٌ مَعَ فُلاَنٍ فِي الْقُعْدُدِ مِنْ فُلاَنٍ، أَيْ
فِي الْقُرْبِ مِنْ أَدْنَى جَدٍّ، وَيُقَال: فُلاَنٌ أَقْعَدُ مِنْ
فُلاَنٍ أَيْ: أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: يَرِثُ الْوَلاَءَ
الأَْقْعَدُ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ صَاحِبِ الْوَلاَءِ (1) وَيَجْرِي
ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ كَالشَّهَادَةِ لأَِحَدٍ بِأَنَّهُ
عَاصِبٌ لِمَيِّتٍ فَيَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ قُرْبَهُ مِنَ
الْمَيِّتِ فِي الْجَدِّ الَّذِي يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِيهِ ابْنُ عَمٍّ
بِدَرَجَةٍ أَوْ دَرَجَتَيْنِ (2) وَيَقُول الْفُقَهَاءُ فِي عَفْوِ
وَلِيِّ الدَّمِ: عَفْوُ بَعْضِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ
مَا لَمْ يَكُنِ الَّذِي عَفَا أَبْعَدَ فِي الْقُعْدُدِ (3) ،
وَيَقُولُونَ فِي الْمِيرَاثِ بِالْوَلاَءِ: إِنَّ الْوَلاَءَ لِلأَْقْعَدِ
مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ صَاحِبِ الْوَلاَءِ (4) وَالصِّلَةُ بَيْنَ
النَّسَبِ وَالْقُعْدُدِ أَنَّ النَّسَبَ أَعَمُّ مِنَ الْقُعْدُدِ.
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمُوَطَّأ 2 / 514، وَشَرْح السجلماسي عَلَى
نُظُمِ الْعَمَل الْفَاسِيّ 2 / 114 طَبْع حَجَر فِي فَاسَ 1291
(2) الْمُدَوَّنَة 8 / 89، وَالْكِفَايَة 2 / 182.
(3) شَرْح التاودي 1 / 408.
(4) شَرْح السجلماسي عَلَى نُظُمِ الْعَمَل الْفَاسِيّ 2 / 114.
(40/233)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالنَّسَبِ: حُكْمُ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ: 8 - النَّسَبُ مَبْنِيٌّ
عَلَى الاِحْتِيَاطِ فَيَحْرُمُ عَلَى الإِْنْسَانِ أَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِ
وَلَدٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ
نَفْيُ وَلَدٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْهُ، لِحَدِيثِ: أَيُّمَا رَجُلٍ
جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ
وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(1) ، وَلِعَظِيمِ التَّغْلِيظِ عَلَى فَاعِل ذَلِكَ وَقَبِيحِ مَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ كَانَا مِنَ الْكَبَائِرِ (2)
حُقُوقُ النَّسَبِ: 9 - فِي النَّسَبِ عِدَّةُ حُقُوقٍ، فَفِيهِ حَقٌّ
لِلْوَلَدِ (3) حَتَّى يَجِدَ أَبًا يَرْعَاهُ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ،
وَفِيهِ حَقٌّ لِلأُْمِّ، لأَِنَّهَا تُعَيَّرُ بِوَلَدٍ لاَ أَبَ لَهُ (4)
كَمَا أَنَّ فِيهِ حَقَّ الأَْبِ أَيْضًا (5) ، وَكَذَلِكَ فِيهِ حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ
__________
(1) حَدِيث: " أَيّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد (2 / 695 - 696 ط حِمْص) ، وَالنَّسَائِيّ (6 / 179 - 180 ط
التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لأَِبِي دَاوُد وَأَشَارَ الْمُنْذِرِي فِي
مُخْتَصَرِ السُّنَنِ (3 / 182) إِلَى إِعْلاَلِهِ بِجَهَالَة رَاوٍ فِيهِ.
(2) الْمَجْمُوع 1 / 32، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 7 / 106 ط الْمَكْتَبَة
الإِْسْلاَمِيَّة، وَابْن عَابِدِينَ 2 / 592.
(3) حَاشِيَة الْجُمَل 5 / 436، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 393.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 616.
(5) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 342، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 270
(40/233)
فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل
(1) وَالنَّسَبُ لاَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ
بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْوَصِيَّةِ (2)
أَسْبَابُ النَّسَبِ: 10 - لِلنَّسَبِ سَبَبَانِ هُمَا: النِّكَاحُ
وَالاِسْتِيلاَدُ.
السَّبَبُ الأَْوَّل: النِّكَاحُ: 11 - يَنْقَسِمُ النِّكَاحُ إِلَى
صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ وَيَلْحَقُ بِهِمَا الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ.
فَأَمَّا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْمَرْأَةُ
الْمُتَزَوِّجَةُ زَوَاجًا صَحِيحًا لِقَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (3) ،
وَالْمُرَادُ بِالْفِرَاشِ: الزَّوْجِيَّةُ وَمَا فِي حُكْمِهَا،
وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يُتَصَوَّرَ الْحَمْل مِنَ الزَّوْجِ عَادَةً، وَذَلِكَ بِبُلُوغِ
الذَّكَرِ تِسْعَ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاثْنَتَيْ عَشْرَ سَنَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَعَشْرَ
__________
(1) شَرْح الْمَحَلِّيّ 4 / 322، 323.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 4 / 173.
(3) حَدِيث: " الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر ". أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 5 / 371 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (2 /
1080 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا.
(40/234)
سِنِينَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) (ر:
بُلُوغ ف 21) . وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالزَّوْجِ إِنْ
كَانَ طِفْلاً دُونَ التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ بِالاِتِّفَاقِ، كَمَا لاَ
يَلْحَقُ بِالْمَجْبُوبِ وَهُوَ مَقْطُوعُ الذَّكَرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ إِذَا
كَانَ يُنْزِل وَإِلاَّ فَلاَ (2) (ر: جُب ف 9) . أَمَّا مَسْلُول
الْخُصْيَتَيْنِ إِذَا بَقِيَ ذَكَرُهُ فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ عَلَى
الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال مَالِكٌ:
أَرَى أَنْ يُسْأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، عَنِ الْخَصِيِّ
وَالْمَجْبُوبِ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ
وَإِلاَّ فَلاَ (3)
ب - أَنْ تَلِدَهُ الزَّوْجَةُ خِلاَل مُدَّةِ الْحَمْل: وَأَقَلُّهَا
سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَقْصَاهَا خَمْسُ سَنَوَاتٍ، عَلَى التَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ: (حَمْل ف 7) .
ج - إِمْكَانُ تَلاَقِي الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ طَلَّقَ
الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوْ جَرَى عَقْدُ
الزَّوَاجِ وَكَانَ الزَّوْجَانِ مُتَبَاعِدَيْنِ أَحَدُهُمَا
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 4 / 465، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 /
61، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 1546، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 460،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 8 / 357، وَالْمُغْنِي 7 / 427، وَنِيل الْمَآرِب
2 / 269.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(3) الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 4 / 50، وَالْمُغْنِي 7 / 480،
وَالْمُدَوَّنَة 2 / 445.
(40/234)
بِالْمَشْرِقِ وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ
لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1)
جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: إِذَا ادَّعَتِ الْوَلَدَ زَوْجَةٌ
مَغْرِبِيَّةٌ مَثَلاً عَلَى زَوْجٍ لَهَا مَشْرِقِيٍّ مَثَلاً وَكُلٌّ
مِنْهُمَا بِبَلَدِهِ لَمْ يَغِبْ عَنْهَا غَيْبَةً يُمْكِنُهُ الْوُصُول
فِيهَا لِلآْخَرِ عَادَةً فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِلاَ لِعَانٍ لاِسْتِحَالَةِ
كَوْنِهِ مِنْهُ عَادَةً (2) وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَل: الْوَلَدُ
لاَحِقٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِالزَّوْجِ مُطْلَقًا مَتَى أَمْكَنَ
كَوْنُهُ مِنْهُ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي الْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ فِيهِ
(3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: الزَّوْجَةُ تَكُونُ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ
الْخَلْوَةِ بِهَا حَتَّى إِذَا وَلَدَتْ لِلإِْمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ
بِهَا، لَحِقَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَطْءِ، لأَِنَّ مَقْصُودَ
النِّكَاحِ الاِسْتِمْتَاعُ وَالْوَلَدُ فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالإِْمْكَانِ
مِنَ الْخَلْوَةِ (4) وَقَالُوا كَذَلِكَ: لَوْ طَلَّقَ الرَّجُل
زَوْجَتَهُ وَمَضَتْ ثَلاَثَةُ أَقْرَاءٍ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ
أَنْ يَكُونَ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 460، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 396، 3 /
373، وَالْمُغْنِي 7 / 430، وَنِيل الْمَآرِب 2 / 269.
(2) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 381، وَالدُّسُوقِيّ 2 / 460.
(3) حَاشِيَة الْجُمَل 5 / 436.
(4) الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 4 / 61، ط دَار الْفِكْرِ بَيْرُوت،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 413.
(40/335)
مِنْهُ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ لِقُوَّةِ
فِرَاشِ النِّكَاحِ (1)
وَجَاءَ فِي نَيْل الْمَآرِبِ: وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ مِنَ
الزَّوْجِ مِثْل مَا لَوْ أَتَتْ بِهِ لِدُونِ نِصْفِ سَنَةٍ مُنْذُ
تَزَوَّجَهَا وَعَاشَ، أَوْ أَتَتْ بِهِ لأََكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ
مُنْذُ أَبَانَهَا، أَوْ فَارَقَهَا حَامِلاً فَوَضَعَتْ ثُمَّ وَضَعَتْ
آخَرَ بَعْدَ نِصْفِ سَنَةٍ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهَا
زَمَنَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ،
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَمَاعَةِ حَاكِمٌ أَوْ لاَ،
ثُمَّ أَبَانَهَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ مَاتَ الزَّوْجُ بِالْمَجْلِسِ أَوْ
كَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ مَسَافَةٌ لاَ يَقْطَعُهَا
فِي الْمَدَّةِ الَّتِي وَلَدَتْ فِيهَا، كَمَشْرِقِيٍّ تَزَوَّجَ
مَغْرِبِيَّةً ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ
يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، لأَِنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ
وَمُدَّةِ الْحَمْل، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَكْمُل لَهُ عَشْرٌ مِنَ
السِّنِينَ، أَوْ قُطِعَ ذَكَرُهُ مِنْ أُنْثَيَيْهِ لَمْ يَلْحَقْهُ، أَيْ
لَمْ يَلْحَقِ الْوَلَدُ الزَّوْجَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل كُلِّهَا (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَلْحَقُهُ، لأَِنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ
عِنْدَهُمْ كَافٍ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَلْتَقِيَا (3)
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: اكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِقِيَامِ
الْفِرَاشِ بِلاَ دُخُولٍ كَتَزَوُّجِ الْمَغْرِبِيِّ بِمَشْرِقِيَّةٍ
بَيْنَهُمَا سَنَةٌ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا (4)
__________
(1) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(2) نَيْل الْمَآرِب 2 / 269.
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 1546، وَابْن عَابِدِينَ 3 / 630.
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 630.
(40/335)
النِّكَاحُ الْفَاسِدُ: 12 - اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
إِذَا اتَّصَل بِهِ دُخُولٌ حَقِيقِيٌّ، لأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ فِي
إِثْبَاتِهِ إِحْيَاءً لِلْوَلَدِ (1)
بَدْءُ اعْتِبَارِ مُدَّةِ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ: 13 -
نَصَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ النَّسَبِ
تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ كَمَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ،
لأَِنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُؤْخَذُ مِنَ الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ
الدُّخُول وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، لأَِنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ
بِدَاعٍ إِلَيْهِ وَالإِْقَامَةُ بِاعْتِبَارِهِ، أَيْ إِقَامَةُ
النِّكَاحِ مَقَامَ الْوَطْءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّكَاحَ دَاعٍ إِلَى
الْوَطْءِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِدَاعٍ إِلَيْهِ فَلاَ يُقَامُ
مَقَامَهُ (2)
الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ: 14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ
الْوَطْءَ بِشُبْهَةٍ يُثْبِتُ النَّسَبَ، لأَِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هُنَا
إِنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ ظَنِّ الْوَاطِئِ، بِخِلاَفِ الزِّنَا فَلاَ
ظَنَّ فِيهِ.
فَإِذَا وَطِئَ امْرَأَةً لاَ زَوْجَ لَهَا بِشُبْهَةِ مِنْهُ كَأَنْ
__________
(1) الْهِدَايَة 2 / 470، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 1553 وَمَا
بَعْدَهَا، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 633، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2
/ 278، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 457، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 42،
وَالْمُغْنِي وَالشَّرْح الْكَبِير 7 / 345.
(2) الْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 3 / 245 نَشْر دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ.
(40/236)
ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ، أَوْ أَمَتَهُ
فَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ
الْوَطْءِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَوَجَدَ مِنْهَا شُبْهَةً
أَيْضًا أَمْ لاَ (1)
وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَعَزَاهُ إِلَى
أَبِي بَكْرٍ مِنْهُمْ - إِنَّهُ لاَ يَلْحَقُ بِهِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ
يَلْحَقُ إِلاَّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَاسِدٍ، أَوْ مِلْكٍ أَوْ
شُبْهَةِ مِلْكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ
لاَ يَسْتَنِدُ إِلَى عَقْدٍ، فَلَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ فِيهِ كَالزِّنَا.
وَقَال أَحْمَدُ: كُل مَنْ دَرَأْتُ عَنْهُ الْحَدَّ فِي وَطْءٍ أَلْحَقْتُ
الْوَلَدَ بِهِ، وَلأَِنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ الْوَاطِئُ حِلَّهُ فَلَحِقَ
بِهِ النَّسَبُ كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَفَارَقَ وَطْءَ
الزِّنَا فَإِنَّهُ لاَ يَعْتَقِدُ الْحِل فِيهِ، وَإِنْ وَطِئَ ذَاتَ
زَوْجٍ بِشُبْهَةٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ زَوْجُهَا،
فَاعْتَزَلَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى أَتَتْ بِوَلَدٍ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، لَحِقَ الْوَاطِئَ
وَانْتَفَى عَنِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ.
وَعَلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ يَلْحَقُ الزَّوْجَ، لأَِنَّ الْوَلَدَ
لِلْفِرَاشِ (2)
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 607، والقليوبي 4 / 350،
وَالشَّرْقَاوَيَّ 2 / 219، 328، 329، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 490،
وَالْمُغْنِي 7 / 431، 432.
(2) الْمُغْنِي 7 / 431، 432.
(40/236)
الاِشْتِرَاكُ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ: 15 -
الاِشْتِرَاكُ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ يُثْبِتُ النَّسَبَ، بِأَنْ وَطِئَا
امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ، كَأَنْ وَجَدَهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فِي فِرَاشِهِ
فَظَنَّهَا زَوْجَتَهُ، أَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ وَطَلَّقَ فَوَطِئَهَا
آخَرُ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُمْكِنُ أَنْ
يَكُونَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَائِفِ،
وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِتَعَذُّرِ إِلْحَاقِهِ بِهِمَا
وَنَفْيِهِ عَنْهُمَا (1)
ثُبُوتُ النَّسَبِ بِاسْتِدْخَال الْمَنِيِّ: 16 - قَال الْمَالِكِيَّةُ:
إِذَا حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَنِيٍّ دَخَل فَرْجَهَا مِنْ غَيْرِ
جِمَاعٍ كَحَمَّامٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيَلْحَقُ الْوَلَدُ بِزَوْجِهَا إِنْ
كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ وَأَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِهِ بِأَنْ مَضَى مِنْ
يَوْمِ تَزَوُّجِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ كَانَتْ وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ
يَلْحَقْهُ (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: اسْتِدْخَال الْمَرْأَةِ مَنِيَّ
الرَّجُل يُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ
النَّسَبِ (3)
ثُبُوتُ النَّسَبِ بِالزِّنَا أَوْ عَدَمُهُ: 17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالزِّنَا مُطْلَقًا، فَلَمْ
يُثْبِتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ
أَحَدٌ مِنْ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 489، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 4 / 431.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 630.
(3) الرَّوْضَة 8 / 365، والقليوبي وَعَمِيرَة 3 / 243.
(40/237)
أَهْل الْعِلْمِ بِالزِّنَا نَسَبًا،
وَقَال الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (1) ، وَالْعَاهِرُ الزَّانِي،
وَلأَِنَّ الزَّانِيَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْفِعْل آثِمٌ بِهِ (2)
السَّبَبُ الثَّانِي: الاِسْتِيلاَدُ: 18 - الاِسْتِيلاَدُ فِي اللُّغَةِ:
طَلَبُ الْوَلَدِ، وَاصْطِلاَحًا: هُوَ تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ
وَلَدٍ، يُقَال: فُلاَنٌ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ إِنْ صَيَّرَهَا أُمَّ
وَلَدِهِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الاِسْتِيلاَدِ ثُبُوتُ النَّسَبِ إِذَا
أَقَرَّ السَّيِّدُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ اشْتَرَطُوا إِقْرَارَهُ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيلاَد ف 8) .
أَدِلَّةُ ثُبُوتِ النَّسَبِ: أ - الْفِرَاشُ: 19 - الْفِرَاشُ فِي
اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَطْءِ وَهُوَ مَا افْتُرِشَ، كَمَا يُطْلَقُ
عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، وَتُسَمَّى الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لأَِنَّ
الرَّجُل يَفْتَرِشُهَا (3) ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
أَيْ لِمَالِكِ الْفِرَاشِ.
__________
(1) حَدِيث: " الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر " سَبَقَ
تَخْرِيجَهُ (ف 11) .
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 633، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 283،
314، وَالأُْمّ 5 / 166، 7 / 346، وَالشَّرْقَاوَيَّ عَلَى التَّحْرِيرِ 2
/ 328، 329، والقليوبى وَعَمِيرَة 3 / 243، وَالْمُغْنِي 7 / 345.
(3) مَتْن اللُّغَة، وَالْمَغْرِبِ للمطرزي، وَالنِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ
الْحَدِيثِ وَالأَْثَرِ.
(40/237)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُسْتَعْمَل كَلِمَةُ
الْفِرَاشِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، كَمَا تُسْتَعْمَل
بِمَعْنَى كَوْنِ الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنَةً لِلْوِلاَدَةِ لِشَخْصٍ
وَاحِدٍ، يَقُول الزَّيْلَعِيُّ: مَعْنَى الْفِرَاشِ أَنْ تَتَعَيَّنَ
الْمَرْأَةُ لِلْوِلاَدَةِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ (1) ، وَقَدْ فَسَّرَهُ
الْكَرْخِيُّ بِأَنَّهُ الْعَقْدُ (2) وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ
مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْفِرَاشِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (3) وَحَدِيثُ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلاَمٍ، فَقَال سَعْدٌ: هَذَا
يَا رَسُول اللَّهِ: ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ
إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَال عَبْدُ بْنُ
زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُول اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي،
فَنَظَرَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى
شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَال: هُوَ لَكَ يَا
عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي
مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ
(4)
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ شُرِحَ كَنْز الدَّقَائِق 3 / 43،
وَالتَّعْرِيفَات للجرجاني.
(2) حَاشِيَة الشلبي بِهَامِش الزيلعي 3 / 39.
(3) حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ: " الْوَلَد لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ
الْحَجَر " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتَحَ الْبَارِي 12 / 127) ،
وَمُسْلِم (2 / 1081 - ط الْحَلَبِيّ) .
(4) حَدِيث: " اخْتَصَمَ سَعْد بْن أَبَى وَقَّاص. . . " أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 4 / 411 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (2 /
1080 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا.
(40/238)
وَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
عُمَرَ قَال: " مَا بَال رِجَالٍ يَطَئُونَ وَئْدَهُمْ ثُمَّ
يَعْزِلُونَهُنَّ، لاَ تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنْ
قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلاَّ أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَاعْزِلُوا بَعْدَ
ذَلِكَ أَوِ اتْرُكُوا " (1) فَهَذَا الْحُكْمُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ
النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ، وَفِي أَنَّ الشَّبَهَ إِذَا عَارَضَ الْفِرَاشَ
قُدِّمَ عَلَيْهِ الْفِرَاشُ (2) وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَصِيرُ
بِهِ الزَّوْجَةُ فِرَاشًا. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ
الزَّوْجَةَ تَكُونُ فِرَاشًا بِعَقْدِ الزَّوَاجِ مَعَ إِمْكَانِ
الدُّخُول الْحَقِيقِيِّ بِهَا أَيِ الْوَطْءِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
بِأَنْ نَكَحَ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّةَ مَثَلاً وَلَمْ يُفَارِقْ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَطَنَهُ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَلْحَقْهُ الْوَلَدُ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ كَوْنِهِ
مِنْهُ (3)
__________
(1) أَثَر عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَا بَال رِجَالٍ يَطَئُونَ
وئدهم ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ. . . " أَخْرَجَهُ الإِْمَامُ مَالِك فِي
الْمُوَطَّأِ (2 / 742 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ، وَعَبْد الرَّزَّاق فِي
الْمُصَنَّفِ (7 / 132 ط الْمَجْلِس الْعِلْمِيّ) وَاللَّفْظ لِمَالِك.
(2) زَاد الْمَعَاد لاِبْن الْقَيِّمِ 5 / 410 ط مُؤَسَّسَة الرِّسَالَة
1987 م.
(3) الشَّرْح الصَّغِير 3 / 540، 541، والقليوبي وَعَمِيرَة 4 / 107،
وَالْمُغْنِي 3 / 429، وَصَحِيح مُسْلِم بِشَرْحِ النَّوَوِيّ 10 / 38،
وَفَتْحِ الْبَارِي 12 / 34، وَزَادَ الْمَعَاد 5 / 410.
(40/238)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ
الْفِرَاشَ فِي الزَّوْجَةِ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا،
وَلاَ يُشْتَرَطُ إِمْكَانُ الدُّخُول مَادَامَ الدُّخُول مُتَصَوَّرًا
عَقْلاً. وَيَقُولُونَ: إِنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَاءِ
مَادَامَ التَّصَوُّرُ الْعَقْلِيُّ حَاصِلاً، فَمَتَى أَتَتِ الزَّوْجَةُ
بِوَلَدٍ لأَِدْنَى مُدَّةِ الْحَمْل مِنْ حِينِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ
نَسَبُهُ مِنَ الزَّوْجِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمَشْرِقِيُّ
بِمَغْرِبِيَّةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ لَمْ
يُوجَدِ الدُّخُول حَقِيقَةً، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَيْ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَلَمْ
يَذْكُرْ فِيهِ اشْتِرَاطَ الْوَطْءِ وَلاَ ذَكَرَهُ، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ
فِي الزَّوْجَةِ كَالْوَطْءِ (1)
ب - الْقِيَافَةُ: 20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ
بِالْقِيَافَةِ إِلَى رَأْيَيْنِ: الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ
بِالْقِيَافَةِ، وَأَجَازُوا الاِعْتِمَادَ عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِهِ
عِنْدَ التَّنَازُعِ وَعَدَمِ تَوَفُّرِ الدَّلِيل الأَْقْوَى مِنْهَا،
أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ الأَْقْوَى مِنْهَا. الثَّانِي: ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْل الْقَائِفِ.
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 1546، 1547، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 5 /
630، وَفَتْح الْقَدِير 3 / 301، وَالْبِنَايَة 4 / 818.
(40/239)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(قِيَافَة ف 6) .
ب - الدِّعْوَةُ (1) : 21 - لَمْ يَأْخُذْ بِدِعْوَةِ النَّسَبِ دَلِيلاً
فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ الْمُتَعَلِّقِ بِأُمَّهَاتِ الأَْوْلاَدِ غَيْرُ
الْحَنَفِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَدَّعِيَ السَّيِّدُ أَنَّ
مَا وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ مِنْهُ، فَلِكَيْ تَصِيرَ الْمُسْتَوْلَدَةُ
فِرَاشًا لِسَيِّدِهَا لاَ بُدَّ أَنْ يَسْتَلْحِقَ وَلَدَهَا وَلاَ
يَكْفِي أَنْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّ الأَْمَةَ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالإِْقْرَارِ بِالْوَطْءِ، وَيَثْبُتُ
النَّسَبُ بِذَلِكَ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى الاِدِّعَاءِ (2)
د - الْحَمْل: 22 - يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْحَبَل الظَّاهِرِ (3) ،
وَذَلِكَ إِذَا وُلِدَ الْحَمْل خِلاَل مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَهَذِهِ
الْمُدَّةُ لَهَا حَدٌّ أَدْنَى وَحَدٌّ أَقْصَى، أَمَّا الْحَدُّ
الأَْدْنَى لِمُدَّةِ الْحَمْل فَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ بِاتِّفَاقِ
الْفُقَهَاءِ (4)
__________
(1) الدِّعْوَة - بِكَسْرِ الدَّال - ادِّعَاء الْوَلَدِ الدَّعِيّ غَيْر
أَبِيهِ (لِسَان الْعَرَبِ وَالْمَغْرِبِ) .
(2) الْبَدَائِع 4 / 125، وَالْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ 2 / 981،
والقليوبي 4 / 62، وَالْمُغْنِي 9 / 528، 584.
(3) ابْن عَابِدِينَ 2 / 534.
(4) الْهِدَايَة 2 / 36، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 623،
وَالاِخْتِيَار 3 / 179، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 3 / 211، وَبِدَايَة
الْمُجْتَهِدِ 2 / 352، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 312، 313، والقليوبي 4
/ 42، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 373، وَالْمُغْنِي 7 / 477، 408.
(40/239)
أَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْل فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ
الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ
أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْل أَرْبَعُ سِنِينَ (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ أَقْصَى
مُدَّةِ الْحَمْل سَنَتَانِ (2) وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ
أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْل خَمْسُ سِنِينَ، وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ: إِنَّ أَقْصَى الْحَمْل تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ الْمُدَّةُ
الْمُعْتَادَةُ (3) وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حَمْل ف 6 وَمَا
بَعْدَهَا) .
هـ - الْبَيِّنَةُ: 23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لاَ
يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ، وَلاَ بِشَهَادَةِ
امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ (4) وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ
بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
__________
(1) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 2 / 372، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 380،
وَالْخَرَشِيّ 1 / 143، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 2 / 141، 142، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاج 3 / 373، 380، وَالْمُغْنِي 7 / 477، 483.
(2) الْهِدَايَة 2 / 36، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 623،
وَالاِخْتِيَار 3 / 179، وَالْمُغْنِي 7 / 447 - 480.
(3) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 312، 313، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ 2 / 252،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 460.
(4) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 304، وَالْجُمَل 5 / 394، وَبِدَايَة
الْمُجْتَهِدِ 2 / 360.
(40/240)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ
لاَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ
بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ (1) ، لأَِنَّ النَّسَبَ لَيْسَ بِمَالٍ
وَلاَ يُقْصَدُ بِهِ الْمَال وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال، فَلَمْ
يَكُنْ لِلنِّسَاءِ فِي شَهَادَتِهِ مَدْخَلٌ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ
رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (2) وَالتَّفْصِيل فِي (شَهَادَةِ
ف 19) .
وَ - الإِْقْرَارُ: 24 - الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ وَاجِبٌ عَلَى
الصَّادِقِ، حَرَامٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
ثُبُوتِ النَّسَبِ بِالإِْقْرَارِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ
التَّفَاصِيل. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْقْرَارَ
بِالنَّسَبِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: إِقْرَارُ الرَّجُل بِوَارِثٍ.
وَالثَّانِي: إِقْرَارُ الْوَارِثِ بِوَارِثِهِ. وَيَتَعَلَّقُ بِكُل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَانِ حُكْمُ النَّسَبِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ.
أَمَّا الإِْقْرَارُ بِوَارِثٍ فَلِصِحَّتِهِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ
شَرَائِطُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمَل الثُّبُوتِ،
لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ، فَإِذَا
__________
(1) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 304، وَالْجُمَل 5 / 394، وَنِيل الْمَآرِب 2
/ 483، 484.
(2) فَتْح الْقَدِير 6 / 7.
(40/240)
اسْتَحَال كَوْنُهُ فَالإِْخْبَارُ عَنْ
كَائِنٍ يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا، وَبَيَانُهُ: أَنَّ مَنْ أَقَرَّ
بِغُلاَمٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَمِثْلُهُ لاَ يَلِدُ مِثْلَهُ لاَ يَصِحُّ
إِقْرَارُهُ، لأَِنَّهُ يَسْتَحِيل أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ فَكَانَ
كَذِبًا فِي إِقْرَارِهِ بِيَقِينٍ. وَمِنْهَا: أَلاَّ يَكُونَ الْمُقَرُّ
بِنَسَبِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ،
لأَِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ لاَ يُحْتَمَل ثُبُوتُهُ
لَهُ بَعْدَهُ.
وَمِنْهَا: تَصْدِيقُ الْمُقِرِّ بِنَسَبِهِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ
نَفْسِهِ، لأَِنَّ إِقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ إِبْطَال يَدِهِ فَلاَ تَبْطُل
إِلاَّ بِرِضَاهُ. وَلاَ يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ
إِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ، حَتَّى يَصِحَّ مِنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ
جَمِيعًا؛ لأَِنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِعَيْنِهِ بَل لِتَعَلُّقِ
حَقِّ الْغَيْرِ أَوِ التُّهْمَةِ فَكُل ذَلِكَ مُنْعَدِمٌ. أَمَّا
التَّعَلُّقُ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ، لأَِنَّهُ لاَ يُعْرَفُ التَّعَلُّقُ
فِي مَجْهُول النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى التُّهْمَةِ، لأَِنَّ
الإِْرْثَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ النَّسَبِ، فَإِنَّ لِحِرْمَانِ الإِْرْثِ
أَسْبَابًا لاَ تَقْدَحُ فِي النَّسَبِ مِنَ الْقَتْل وَالرِّقِّ
وَاخْتِلاَفِ الدِّينِ وَالدَّارِ.
وَمِنْهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ حَمْل النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ،
سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُقِرُّ بِنَسَبِهِ أَوْ صَدَّقَهُ، لأَِنَّ
إِقْرَارَ الإِْنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ لاَ عَلَى غَيْرِهِ
لأَِنَّهُ عَلَى غَيْرِهِ شَهَادَةٌ أَوْ دَعْوَى، وَالدَّعْوَى
الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ
(40/241)
بِحُجَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ فِيمَا
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال وَهُوَ مِنْ بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ
مَقْبُولَةٍ، وَالإِْقْرَارُ الَّذِي فِيهِ حَمْل نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى
غَيْرِهِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لاَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ دَعْوَى
أَوْ شَهَادَةً، وَكُل ذَلِكَ لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِحُجَّةٍ.
وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إِقْرَارُ الرَّجُل بِخَمْسَةِ نَفَرٍ:
الْوَالِدَيْنِ، وَالْوَلَدِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالْمَوْلَى. وَيَجُوزُ
إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ
وَالْمَوْلَى، وَلاَ يَجُوزُ بِالْوَلَدِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي
الإِْقْرَارِ بِهَؤُلاَءِ حَمْل نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ، أَمَّا
الإِْقْرَارُ بِالْوَلاَءِ فَظَاهِرٌ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْل نَسَبٍ
إِلَى أَحَدٍ، وَكَذَا الإِْقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ لَيْسَ فِيهِ حَمْل
نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّصْدِيقِ،
ثُمَّ إِنْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ فِي حَال حَيَاةِ الْمُقِرِّ جَازَ بِلاَ
خِلاَفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنْ
كَانَ الإِْقْرَارُ مِنَ الزَّوْجِ يَصِحُّ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ
صَدَّقَتْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِإِجْمَاعِ
الْحَنَفِيَّةِ، بِأَنْ أَقَرَّ الرَّجُل بِالزَّوْجِيَّةِ فَمَاتَ ثُمَّ
صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ لأَِنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ
وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ فِي الْعِدَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلاً
لِلتَّصْدِيقِ، وَإِنْ كَانَ الإِْقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنَ
الْمَرْأَةِ فَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِهَا لاَ يَصِحُّ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ النِّكَاحَ لِلْحَال عَدِمَ حَقِيقَتَهُ فَلاَ
يَكُونُ
(40/241)
مَحَلًّا لِلتَّصْدِيقِ، إِلاَّ أَنَّهُ
أُعْطِيَ حُكْمَ الْبَقَاءِ لاِسْتِيفَاءِ أَحْكَامٍ كَانَتْ ثَابِتَةً
قَبْل الْمَوْتِ، وَالْمِيرَاثُ حُكْمٌ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ
الْمَوْتِ فَكَانَ زَائِلاً فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَلاَ يَحْتَمِل
التَّصْدِيقَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ، لأَِنَّ
النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ،
كَمَا إِذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ
بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَأَمَّا الإِْقْرَارُ بِالْوَلَدِ فَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْل نَسَبِ
غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَل عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ إِقْرَارًا عَلَى
نَفْسِهِ لاَ عَلَى غَيْرِهِ فَيُقْبَل، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنَ
التَّصْدِيقِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي حَال
حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، لأَِنَّ النَّسَبَ لاَ يَبْطُل
بِالْمَوْتِ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا.
وَكَذَلِكَ الإِْقْرَارُ بِالْوَالِدَيْنِ لَيْسَ فِيهِ حَمْل نَسَبِ
غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ إِقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ لاَ عَلَى
غَيْرِهِ فَيُقْبَل، وَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِهَؤُلاَءِ لِمَا
ذَكَرْنَا، إِلاَّ الْوَلَدَ لأَِنَّ فِيهِ حَمْل نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى
غَيْرِهِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجِ، فَلاَ يُقْبَل إِلاَّ
إِذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ تَشْهَدُ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلاَدَةِ
بِخِلاَفِ الرَّجُل لأَِنَّ فِيهِ حَمْل نَسَبِ الْوَلَدِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلاَ يَجُوزُ الإِْقْرَارُ بِغَيْرِ هَؤُلاَءِ مِنَ الْعَمِّ وَالأَْخِ،
لأَِنَّ فِيهِ حَمْل نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الأَْبُ
وَالْجَدُّ. وَكَذَلِكَ الإِْقْرَارُ بِوَارِثٍ فِي حَقِّ حُكْمِ
الْمِيرَاثِ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلإِْقْرَارِ بِهِ فِي حَقِّ
(40/242)
ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا
إِلاَّ شَرْطَ حَمْل النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّ الإِْقْرَارَ
بِنَسَبٍ يَحْمِلُهُ الْمُقِرُّ عَلَى غَيْرِهِ لاَ يَصِحُّ فِي حَقِّ
ثُبُوتِ النَّسَبِ أَصْلاً، وَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ لَكِنْ
بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ أَصْلاً وَيَكُونَ مِيرَاثُهُ لَهُ،
لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِل وَاجِبُ التَّصْحِيحِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ
لَمْ يُمْكِنْ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِفَقْدِ شَرْطِ الصِّحَّةِ
أَمْكَنَ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ وَارِثٌ قَرِيبًا
كَانَ أَوْ بَعِيدًا لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ أَصْلاً وَلاَ شَيْءَ لَهُ
فِي الْمِيرَاثِ، بِأَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ
فَمِيرَاثُهُ لِعَمَّتِهِ أَوْ لِخَالَتِهِ وَلاَ شَيْءَ لِلْمُقِرِّ لَهُ
لأَِنَّهُمَا وَارِثَانِ بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَقُّهُمَا ثَابِتًا
بِيَقِينٍ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ بِالصَّرْفِ إِلَى غَيْرِهِمَا.
25 - وَأَمَّا الإِْقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلاَمُ فِيهِ فِي
مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالثَّانِي فِي
حَقِّ الْمِيرَاثِ. أَمَّا الأَْوَّل فَالأَْمْرُ فِيهِ لاَ يَخْلُو مِنْ
أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا
فَأَقَرَّ بِأَخٍ هَل يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْمَيِّتِ؟ ذَهَبَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ
وَارِثٍ وَاحِدٍ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِالأُْخُوَّةِ إِقْرَارٌ عَلَى
غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْل نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى
(40/242)
غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ
الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ
يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ، لأَِنَّ إِقْرَارَ الْوَاحِدِ
مَقْبُولٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولاً فِي حَقِّ النَّسَبِ
كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ
رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ
بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّ
الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِدِ بِوَارِثٍ يَصِحُّ
وَيَصْدُقُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الاِبْنُ الْمَعْرُوفُ
بِأَخٍ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنَ
الْمِيرَاثِ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِالأُْخُوَّةِ إِقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ:
النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَال، وَالإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ إِقْرَارٌ
عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لأَِنَّهُ دَعْوَى فِي
الْحَقِيقَةِ أَوْ شَهَادَةٌ، وَالإِْقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَال
إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِثْل هَذَا جَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ الإِْقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولاً بِجِهَةٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ
بِجِهَةٍ أُخْرَى.
وَلَوْ أَقَرَّ الاِبْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي
يَدِهِ، لأَِنَّ إِقْرَارَهُ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا
مَعَ الأَْخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا
زَوْجَةُ أَبِيهِ فَلَهَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ
هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ مَا فِي يَدِهِ، وَالأَْصْل أَنَّ
الْمُقِرَّ فِيمَا فِي يَدِهِ يُعَامَل مُعَامَلَةَ مَا لَوْ ثَبَتَ
النَّسَبُ.
(40/243)
وَلَوْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِابْنِ
ابْنٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ، لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ
ابْنَهُ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ وَالْمَال بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
اسْتِحْسَانًا، لأَِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إِنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ
مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَل إِقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ،
وَفِي بُطْلاَنِ وِرَاثَتِهِ بُطْلاَنُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ،
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمَال
كُلُّهُ لَهُ مَا لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ، لأَِنَّهُمَا
تَصَادَقَا عَلَى إِثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَاخْتَلَفَا فِي
وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ، فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَيَقِفُ
الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيل (1) 26 - وَالْمَالِكِيَّةُ
يُسَمُّونَ الإِْقْرَارَ بِالنَّسَبِ بِالاِسْتِلْحَاقِ فَقَالُوا:
إِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ الأَْبُ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا أَقَرَّ
رَجُلٌ بِابْنٍ جَازَ إِقْرَارُهُ وَلَحِقَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ
كَبِيرًا، أَنْكَرَ الاِبْنُ أَوْ أَقَرَّ. وَإِنَّمَا يَسْتَلْحِقُ
الأَْبَ مَجْهُول النَّسَبِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: مَنِ ادَّعَى
وَلَدًا لاَ يُعْرَفُ كَذِبُهُ فِيهِ لَحِقَ بِهِ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ
الْعَقْل أَوِ الْحِسُّ أَوِ الْعَادَةُ أَوِ الشَّرْعُ صَغِيرًا كَانَ
الْمُسْتَلْحَقُ أَوْ كَبِيرًا، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا. وَفِي
الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ نَفَى وَلَدًا بِلِعَانٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ عَنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ضُرِبَ الْحَدَّ وَلَحِقَ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع للكاساني 7 / 228 وَمَا بَعْدَهَا، دَار
الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ بَيْرُوت، وَابْن عَابِدِينَ 4 / 464، 465.
(40/243)
بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَلاَ
يُقْبَل قَوْلُهُ، لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي مِيرَاثِهِ وَيُحَدُّ وَلاَ
يَرِثُهُ. 27 - وَإِذَا اسْتَلْحَقَ مَيِّتًا وَرِثَ الْمُسْتَلْحِقُ -
بِالْكَسْرِ - الْمُسْتَلْحَقَ - بِالْفَتْحِ - إِنْ وَرِثَهُ أَيِ
الْمُسْتَلْحَقَ - بِالْفَتْحِ - ابْنٌ، قَال الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ
هَذَا الشَّرْطَ إِنَّمَا هُوَ فِي إِرْثِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا نَسَبُهُ
فَلاَحِقٌ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِثْهُ ابْنٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا
صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ. وَإِنِ اسْتَلْحَقَ
شَخْصٌ شَخْصًا وَارِثًا غَيْرَ وَلَدٍ لِمُسْتَلْحِقِهِ - بِالْكَسْرِ -
كَأَخٍ وَعَمٍّ وَأَبٍ وَأُمٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ لَهُ، وَلاَ
يَرِثُ الْمُسْتَلْحَقُ - بِالْفَتْحِ - الْمُسْتَلْحِقَ - بِالْكَسْرِ -
إِنْ وُجِدَ وَارِثٌ لِلْمُسْتَلْحِقِ - بِالْكَسْرِ -، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
هُنَاكَ وَارِثٌ فَفِي إِرْثِهِ خِلاَفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ لاَ إِرْثَ بِإِقْرَارٍ، وَقَال ابْنُ
رُشْدٍ: مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ الإِْرْثُ بِالإِْقْرَارِ، وَعَزَاهُ
الْبَاجِيُّ لِمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ.
وَخَصَّ الْخِلاَفَ فِي إِرْثِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنَ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ بِمَا
إِذَا لَمْ يَطُل الإِْقْرَارُ بِالْوَارِثِ، وَأَمَّا مَعَ الطُّول فَلاَ
خِلاَفَ عِنْدَهُ فِي الإِْرْثِ بِهِ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى صِدْقِهِ، قَال
اللَّخْمِيُّ، إِنْ قَال: هَذَا أَخِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو
نَسَبٍ ثَابِتٍ يَرِثُهُ فَقِيل: الْمَال لِبَيْتِ الْمَال، وَقِيل:
الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى وَهَذَا أَحْسَنُ، لأَِنَّ لَهُ
(40/244)
بِذَلِكَ شُبْهَةٌ.
وَلَوْ كَانَ الإِْقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ وَطَالَتِ الْمُدَّةُ وَهُمَا
عَلَى ذَلِكَ يَقُول كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ: أَخِي، أَوْ يَقُول:
هَذَا عَمِّي، وَيَقُول الآْخَرُ: ابْنُ أَخِي، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ
السُّنُونَ وَلاَ أَحَدَ يَدَّعِي بُطْلاَنَ ذَلِكَ لَكَانَ حَوْزًا.
وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلاَنِ مِنْ وَرَثَةِ مَيِّتٍ - كَابْنَيْنِ أَوْ
أَخَوَيْنِ أَوْ عَمَّيْنِ - بِثَالِثٍ مُسَاوٍ لَهُمَا فِي
الاِسْتِحْقَاقِ كَابْنٍ أَوْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ ثَبَتَ النَّسَبُ
وَالْمِيرَاثُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَوْ
أَقَرَّ غَيْرُ عَدْلَيْنِ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَهُوَ كَذَلِكَ
إِجْمَاعًا.
وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ وَاحِدٌ يَحْلِفُ الْمُقَرُّ بِهِ مَعَهُ أَيِ
الْعَدْل الْمُقِرُّ، وَيَرِثُ الْمَيِّتُ مَعَ الْمُقِرِّ، وَالْحَال لاَ
نَسَبَ ثَابِتٌ لَهُ بِإِقْرَارِ الْعَدْل وَحَلِفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ
الْمُقِرُّ عَدْلاً فَحِصَّةُ الشَّخْصِ الْمُقِرِّ بِوَارِثٍ كَالْمَال
الْمَتْرُوكِ أَيْ كَأَنَّهَا جَمِيعُ التَّرِكَةِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى
الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا وَلَدَيْنِ أَقَرَّ
أَحَدُهُمَا بِثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ أَخُوهُ فَحِصَّةُ الْمُقِرِّ النِّصْفُ
فَيُقَدَّرُ أَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ وَيُقْسَمُ عَلَى الثَّلاَثَةِ
فَيَنُوبُ الْمُقَرُّ بِهِ ثُلُثَهُ فَيَأْخُذُهُ وَثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ،
وَإِنْ قَال أَحَدُ عَاصِبِي مَيِّتٍ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ: هَذَا أَخِي
وَأَنْكَرَهُ أَخُوهُ ثُمَّ أَضْرَبَ الْمُقِرُّ عَنْ إِقْرَارِهِ لِهَذَا
الثَّالِثِ وَقَال لِشَخْصٍ آخَرَ رَابِعٍ: بَل هَذَا أَخِي، فَلِلْمُقَرِّ
بِهِ الأَْوَّل نِصْفُ
(40/244)
إِرْثِ أَبِ الْمُقِرِّ لاِعْتِرَافِهِ
لَهُ بِهِ، وَإِضْرَابُهُ عَنْهُ لاَ يُسْقِطُهُ لأَِنَّهُ يَعُدُّ
نَدَمًا، وَلِلْمُقَرِّ بِهِ الثَّانِي نِصْفُ مَا بَقِيَ بِيَدِ
الْمُقِرِّ لاِعْتِرَافِهِ لَهُ بِهِ (1)
28 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ
أَقَرَّ مُكَلَّفٌ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُول النَّسَبِ
بِأَنْ قَال: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَهُوَ يُحْتَمَل أَنْ يُولَدَ لِمِثْل
الْمُقِرِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَكْبَرَ مِنْهُ بِعَشْرِ سِنِينَ
فَأَكْثَرَ كَمَا نَصَّ الْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يُنَازِعْهُ مُنَازِعٌ
ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّخْصَ لاَ يَلْحَقُ
بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ.
وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ أَوِ الْمَجْنُونُ الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا
وَرِثَهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ، لأَِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ
الْحَيَاةِ الإِْقْرَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي مُقَابِل
الأَْصَحِّ لاَ، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ كَبِيرًا عَاقِلاً لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ
مِنَ الْمُقِرِّ حَتَّى يُصَدِّقَهُ، لأَِنَّ لَهُ قَوْلاً صَحِيحًا
فَاعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ، وَلأَِنَّ لَهُ
حَقًّا فِي نَسَبِهِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ إِلاَّ
بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَّفَهُ، فَإِنْ حَلَفَ
سَقَطَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ نَكَل حَلَفَ الْمُدَّعِي وَثَبَتَ نَسَبُهُ،
وَلَوْ سَكَتَ
__________
(1) جَوَاهِر الإِْكْلِيل 2 / 138 وَمَا بَعْدَهَا، وَحَاشِيَة
الدُّسُوقِيّ 3 / 413 وَمَا بَعْدَهَا.
(40/245)
عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ لَمْ
يَثْبُتْ نَسَبُهُ كَمَا قَال الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَضِيَّةُ اعْتِبَارِ
التَّصْدِيقِ.
وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ الْعَاقِل الْمُقَرُّ بِهِ مَيِّتًا ثَبَتَ
إِرْثُهُ وَنَسَبُهُ، لأَِنَّهُ لاَ قَوْل لَهُ أَشْبَهَ الصَّغِيرَ نَصَّ
عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ، لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ.
وَعَلَى الأَْوَّل يَرِثُ الْمَيِّتَ الْمُسْتَلْحِقُ وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى
التُّهْمَةِ.
وَإِنِ ادَّعَى نَسَبَ مُكَلَّفٍ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى
مَاتَ الْمُقِرُّ ثُمَّ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، لأَِنَّ بِتَصْدِيقِهِ
حَصَل اتِّفَاقُهُمَا عَلَى التَّوَارُثِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا.
وَإِنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا أَثْبَتَ نَسَبَهُ فَلَوْ بَلَغَ وَكَذَّبَهُ
لَمْ يَبْطُل نَسَبُهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ
النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ فَلاَ يَنْدَفِعُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَفِي
مُقَابِل الأَْصَحِّ يَبْطُل لأَِنَّ الْحُكْمَ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ
أَهْلٍ لِلإِْنْكَارِ وَقَدْ صَارَ أَهْلاً لَهُ وَأَنْكَرَ.
وَيَجْرِي الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا اسْتَلْحَقَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ
وَأَنْكَرَ.
وَلَوِ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ بَالِغًا ثَبَتَ نَسَبُهُ لِمَنْ صَدَّقَهُ
مِنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى
الْقَائِفِ (1)
__________
(1) شَرْح الْمَحَلِّيّ 3 / 14، 15، وَحَاشِيَة الْجُمَل 5 / 394، وَنِيل
الْمَآرِب 2 / 100، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 5 / 109، 110، وَتُحْفَة
الْمُحْتَاج 5 / 401، وَالْمُغْنِي 5 / 199، 200، 7 / 394، 395، وَكَشَّاف
الْقِنَاع 6 / 460.
(40/245)
29 - وَمَنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَهُ أُمٌّ
فَجَاءَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ تَدَّعِي زَوْجِيَّتَهُ لَمْ تَثْبُتِ
الزَّوْجِيَّةُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ الرَّجُل إِذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ
لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ، لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ
يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ.
وَكَذَا لَوِ ادَّعَتْ أُخْتُهُ الْبُنُوَّةَ، ذَكَرَهُ فِي التَّبْصِرَةِ،
قَال فِي الاِخْتِيَارَاتِ: وَمَنْ أَنْكَرَ زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ ثُمَّ
أَقَرَّ بِهَا كَانَ لَهَا طَلَبُهُ بِحَقِّهَا (1)
30 - وَإِنْ قَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بِلاَدِ الرُّومِ وَمَعَهَا طِفْلٌ،
فَأَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مَعَ إِمْكَانِهِ وَلاَ مُنَازِعَ،
لَحِقَهُ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الإِْمْكَانِ وَعَدَمِ الْمُنَازِعِ،
وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ لإِِثْبَاتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَلَدَتِ امْرَأَةُ
رَجُلٍ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ
غَيْبَتِهِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلرَّجُل قُدُومٌ
إِلَيْهَا وَلاَ عُرِفَ لَهَا خُرُوجٌ مِنْ بَلَدِهَا (2)
31 - وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَوْ
جَدِّهِ لَمْ يُقْبَل لأَِنَّ إِقْرَارَ الإِْنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ
غَيْرُ مَقْبُولٍ.
وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُهُ بِنَسَبِ الأَْخِ أَوِ الْعَمِّ بَعْدَ
مَوْتِهِمَا، وَالْمُقِرُّ هُوَ الْوَارِثُ وَحْدَهُ صَحَّ إِقْرَارُهُ
وَثَبَتَ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 460، وَالْمُغْنِي 5 / 199، 200.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 460، وَالْمُغْنِي 5 / 199، 200.
(40/246)
النَّسَبُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (1) ، وَلأَِنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ
مَقَامَ مُورِثِهِ فِي حُقُوقِهِ وَهَذَا مِنْهَا (2)
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ نَفَاهُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ فَيَجُوزُ إِلْحَاقُهُ بِهِ بَعْدَ نَفْيِهِ إِيَّاهُ
كَمَا لَوِ اسْتَلْحَقَهُ هُوَ بَعْدَ أَنْ نَفَاهُ بِلِعَانٍ أَوْ
غَيْرِهِ، وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ نَفَاهُ قَبْل مَوْتِهِ،
لأَِنَّ فِي إِلْحَاقِ مَنْ نَفَاهُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلْحَاقَ عَارٍ
بِنَسَبِهِ (3)
32 - وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ
وَارِثًا حَائِزًا لِتَرِكَةِ الْمُلْحَقِ بِهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ
أَكْثَرَ، كَابْنَيْنِ أَقَرَّا بِثَالِثٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيَرِثُ
مَعَهُمَا، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ
أَحَدُ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الآْخَرُ أَنَّ
الْمُسْتَلْحِقَ لاَ يَرِثُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلاَ
يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ يَرِثُ
بِأَنْ يُشَارِكَ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَعَلَى الأَْوَّل عَدَمُ
الْمُشَارَكَةِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، أَمَّا فِي الْبَاطِنِ إِذَا كَانَ
الْمُقِرُّ صَادِقًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا يَرِثُهُ فِي
الأَْصَحِّ بِثُلُثِهِ، وَقِيل: بِنِصْفِهِ.
__________
(1) حَدِيث عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " الْوَلَد لِلْفِرَاشِ
وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر ". سَبَقَ تَخْرِيجه (ف 11) .
(2) شَرْح الْمَحَلِّيّ 3 / 15، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 461.
(3) شَرْح الْمَحَلِّيّ 3 / 15، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 461.
(40/246)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ
الْبَالِغَ مِنَ الْوَرَثَةِ لاَ يَنْفَرِدُ بِالإِْقْرَارِ، بَل
يَنْتَظِرُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ، وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ يَنْفَرِدُ بِهِ
وَيُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الْحَال، لأَِنَّهُ خَطِيرٌ لاَ
يُجَاوِزُ فِيهِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ
الْوَارِثَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الآْخَرُ وَمَاتَ
وَلَمْ يَرِثْهُ إِلاَّ الْمُقِرُّ ثَبَتَ النَّسَبُ، لأَِنَّ جَمِيعَ
الْمِيرَاثِ صَارَ لَهُ.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَثْبُتُ نَظَرًا إِلَى إِنْكَارِ
الْمُورِثِ الأَْصْل.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٌ بِأُخُوَّةِ
مَجْهُولٍ فَأَنْكَرَ الْمَجْهُول نَسَبَ الْمُقِرِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ
إِنْكَارُهُ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا نَسَبُ الْمَجْهُول، وَالثَّانِي:
يُؤَثِّرُ الإِْنْكَارُ فَيَحْتَاجُ الْمُقِرُّ إِلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى
نَسَبِهِ، وَالثَّالِثُ: لاَ يَثْبُتُ نَسَبُ الْمَجْهُول لِزَعْمِهِ أَنَّ
الْمُقِرَّ لَيْسَ بِوَارِثٍ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَارِثُ الظَّاهِرُ
يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحِقُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ
النَّسَبُ لِلاِبْنِ وَلاَ إِرْثَ لَهُ.
وَالثَّانِي: لاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا، لأَِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ
لَثَبَتَ الإِْرْثُ، وَلَوْ وَرِثَ الاِبْنُ لَحَجَبَ الأَْخَ فَيَخْرُجُ
عَنْ أَهْلِيَّةِ الإِْقْرَارِ، فَيَنْتَفِي نَسَبُ الاِبْنِ
وَالْمِيرَاثُ.
وَالثَّالِثُ: يَثْبُتَانِ، وَلاَ يَخْرُجُ الأَْخُ بِالْحَجْبِ
(40/247)
عَنْ أَهْلِيَّةِ الإِْقْرَارِ، فَإِنَّ
الْمُعْتَبَرَ كَوْنُ الْمُقِرِّ حَائِزًا لِلتَّرِكَةِ لَوْلاَ
إِقْرَارُهُ (1)
33 - وَإِنْ أَقَرَّ بِأَبٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ مَوْلًى
أَعْتَقَهُ قَبْل إِقْرَارِهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلَوْ أَسْقَطَ بِهِ
وَارِثًا مَعْرُوفًا، لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْوَارِثِ فِي الْحَال،
وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الإِْرْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشُرُوطٍ:
أَوَّلُهَا: خُلُوُّهُ مِنْ مُسْقِطٍ، إِذَا أَمْكَنَ صِدْقُ الْمُقِرِّ
بِأَنْ لاَ يُكَذِّبَهُ فِيهِ ظَاهِرُ حَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
صِدْقُهُ كَإِقْرَارِ الإِْنْسَانِ بِمَنْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَكْبَرَ
مِنْهُ لَمْ يُقْبَل.
وَثَانِيهَا: أَنْ لاَ يَدْفَعَ بِإِقْرَارِهِ نَسَبًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ
دَفَعَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقِرُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ وَإِلاَّ
لَمْ يُقْبَل، أَوْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ مَيِّتًا، إِلاَّ الْوَلَدَ
الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ فَلاَ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهُمَا لِمَا مَرَّ،
فَإِنْ كَبِرَا وَعَقَلاَ وَأَنْكَرَا النَّسَبَ لَمْ يُسْمَعْ
إِنْكَارُهُمَا لأَِنَّهُ نَسَبٌ حُكِمَ بِثُبُوتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ
بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَلَوْ طَلَبَا إِحْلاَفَ
الْمُقِرِّ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، لأَِنَّ الأَْبَ لَوْ عَادَ فَجَحَدَ
النَّسَبَ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ لأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ بِخِلاَفِ
الْمَال.
وَيَكْفِي فِي تَصْدِيقِ وَالِدٍ بِوَلَدِهِ وَعَكْسِهِ كَتَصْدِيقِ وَلَدٍ
بِوَالِدِهِ، سُكُوتُهُ إِذَا أَقَرَّ بِهِ، لأَِنَّهُ
__________
(1) شَرْح الْمَحَلِّيّ 3 / 16 - 17.
(40/247)
يَغْلِبُ فِي ذَلِكَ ظَنُّ التَّصْدِيقِ،
وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا أَيِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ
وَعَكْسِهِ تَكْرَارُ التَّصْدِيقِ، فَيَشْهَدُ الشَّاهِدُ بِنَسَبِهِمَا
بِدُونِ تَكْرَارِ التَّصْدِيقِ وَمَعَ السُّكُوتِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ سَكَتَ عَنِ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ
لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ، وَفَارِقُ السُّكُوتِ فِي الأَْمْوَال
بِالاِحْتِيَاطِ فِي النَّسَبِ. نَعَمْ إِنْ مَاتَ قَبْل إِمْكَانِ
التَّصْدِيقِ ثَبَتَ النَّسَبُ (1)
34 - وَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ مَنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ
هَؤُلاَءِ الأَْرْبَعَةِ وَهُمُ: الأَْبُ وَالاِبْنُ وَالزَّوْجُ
وَالْمَوْلَى، وَكَجَدٍّ يُقِرُّ بِابْنِ ابْنِهِ وَعَكْسِهِ، وَكَأَخٍ
يُقِرُّ بِأَخٍ، وَالْعَمِّ يُقِرُّ بِابْنِ أَخٍ، لأَِنَّهُ يَحْمِل عَلَى
غَيْرِهِ نَسَبًا فَلَمْ يُقْبَل، إِلاَّ وَرَثَةً أَقَرُّوا لِمَنْ لَوْ
أَقَرَّ بِهِ مُورِثُهُمْ ثَبَتَ نَسَبُهُ فَيَصِحُّ لِقِيَامِهِمْ
مَقَامَهُ.
وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ
صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُنْكِرُ وَالْمُقِرُّ وَحْدَهُ
وَارِثٌ لِلْمُنْكِرِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْهُمَا
لاِنْحِصَارِ الإِْرْثِ فِيهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ
بَنِي عَمٍّ وَعَنِ الأَْخِ الْمُقَرِّ بِهِ وَرِثَهُ الأَْخُ الْمُقَرُّ
بِهِ دُونَ بَنِي الْعَمِّ، لأَِنَّ الأَْخَ يَحْجُبُهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ
نَسَبُهُ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 461، والقليوبي وَعَمِيرَة 3 / 15، وَنِيل
الْمَآرِب بِشَرْحِ دَلِيل الطَّالِبِ 2 / 100، وَشَرْح مُنْتَهَى
الإِْرَادَاتِ 3 / 624 ط عَالَم الْكُتُبِ.
(40/248)
بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ (1) وَلَوْ
أَقَرَّتْ زَوْجَةٌ بِوَلَدٍ لَحِقَهَا لإِِقْرَارِهَا دُونَ زَوْجِهَا
لِعَدَمِ إِقْرَارِهِ بِهِ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَإِنَّهُ
لاَ يَلْحَقُ بِامْرَأَتِهِ (2)
ثُبُوتُ نَسَبِ الشَّخْصِ بِإِقْرَارِهِ:
35 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: نَسَبُ الشَّخْصِ لاَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ،
وَقِيل: يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، لِقَوْلِهِمْ فِي الْقَضَاءِ عَلَى
الْغَائِبِ فِيمَا إِذَا شَهِدَ شُهُودُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسَمَّى
فِيهِ لاَ عَلَى عَيْنِهِ، فَاعْتَرَفَ الْمُحْضَرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ
وَنَسَبُهُ أَوْ أَنْكَرَ وَنَكَل، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ
تَوَجَّهَ لَهُ الْحُكْمُ، وَلأَِنَّ مَا عَلَيْهِ الْعَمَل أَنَّ
الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يُسْأَل عَنِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، وَيُجْعَل ذَلِكَ
حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلأَِنَّ النَّاسَ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى أَنْسَابِهِمْ،
وَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ رُجِعَ إِلَيْهِ فِيمَا عَلَيْهِ لاَ فِيمَا
لَهُ. (3)
إِقْرَارُ السَّفِيهِ بِالنَّسَبِ:
36 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ السَّفِيهُ بِنَسَبٍ
صَحَّ إِقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَأُخِذَ بِهِ فِي الْحَال. قَال ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَهُوَ إِجْمَاعُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ
مُتَّهَمٍ فِي نَفْسِهِ وَالْحَجْرُ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ.
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 461، 462.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 463.
(3) أسنى المطالب 4 / 367.
(40/248)
وَيُنْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْتَلْحَقِ
مِنْ بَيْتِ الْمَال. (1)
الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالنَّسَبِ:
37 - الإِْقْرَارُ الصَّحِيحُ بِالْبُنُوَّةِ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ
فِيهِ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ إِلْغَاءُ كَلاَمِ الْمُكَلَّفِ بِلاَ مُقْتَضٍ
(2) وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي (إِقْرَار ف 67) .
نَسَبُ اللَّقِيطِ: 38 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ
الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ رَجُلاً مُسْلِمًا حُرًّا
لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ
تَتَحَقَّقَ فِيهِ شُرُوطُ الاِسْتِلْحَاقِ؛ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ مَحْضُ
نَفْعٍ لِلطِّفْل لاِتِّصَال نَسَبِهِ، وَلاَ مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ
فِيهِ، فَقُبِل كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا
وَرَاءَ ذَلِكَ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيط ف 11
- 14) .
ز - الْقُرْعَةُ: 39 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى عَدَمِ
اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ فِي إِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَالتَّفْصِيل فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 61، وحاشية ابن عابدين 5 / 93 والشرقاوي على
التحرير 2 / 138، وجواهر الإكليل 2 / 98، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 /
401.
(2) بدائع الصنائع 7 / 232، وجواهر الإكليل 2 / 139، والشرقاوي على التحرير
2 / 140، والمغني 5 / 206.
(40/249)
مُصْطَلَحِ (قُرْعَة ف 19) .
ح - السَّمَاعُ: 40 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ
يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ لِلضَّرُورَةِ. قَال ابْنُ
الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ فَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لاَسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ
الشَّهَادَةِ بِهِ؛ إِذْ لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا
بِغَيْرِهِ، وَلاَ تَمْكُنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ
الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلاَ أُمَّهُ وَلاَ أَحَدًا
مِنْ أَقَارِبِهِ (1)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِقَبُول الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ أَنْ
يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا، جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ:
الشَّهَادَةُ بِالشُّهْرَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ بِطَرِيقَتَيْنِ:
الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمِيَّةُ. فَالْحَقِيقَةُ: أَنْ تُشْتَهَرَ
وَتُسْمَعَ مِنْ قَوْمٍ كَثِيرٍ لاَ يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى
الْكَذِبِ، وَلاَ تُشْتَرَطُ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 375، والفتاوى الهندية 3 / 458، وبدائع الصنائع 6
/ 266، 267، ومواهب الجليل 6 / 194، وبلغة السالك 2 / 362 وما بعدها،
والقوانين الفقهية لابن جزي 205، وتبصرة الحكام 1 / 349، والكافي لابن عبد
البر 2 / 903 - 906، وتهذيب الفروق 4 / 101، 102، وجواهر الإكليل 2 / 242،
243، والتاودي مع التسولي على تحفة ابن العاصم 1 / 132 وما بعدها، وروضة
الطالبين 11 / 266، وما بعدها، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 24.
(40/249)
هَذِهِ الْعَدَالَةُ، وَلاَ لَفْظُ
الشَّهَادَةِ بَل يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ.
وَالْحُكْمِيَّةُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ رَجُلاَنِ أَوْ رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ عُدُولٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ كَذَا فِي الْخُلاَصَةِ،
هَذَا إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْهَادِ هَذَا الرَّجُل،
فَإِنَّهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ إِذَا
لَقِيَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى نَسَبِهِ وَعَرَفَا
حَالَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ أَقَامَ هَذَا الرَّجُل عِنْدَهُ
شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى نَسَبِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً نَزَل بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمٍ وَهُمْ لاَ
يَعْرِفُونَهُ وَقَال: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، قَال مُحَمَّدٌ: لاَ
يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَوْا مِنْ أَهْل
بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَيَشْهَدَانِ عِنْدَهُمْ عَلَى نَسَبِهِ،
قَال الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا
فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: وَلاَ يَشْهَدُ أَحَدٌ بِمَا لَمْ
يُعَايِنْهُ بِالإِْجْمَال إِلاَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْهَا النَّسَبُ، فَلَهُ
الشَّهَادَةُ بِهِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ مَنْ يَثِقُ الشَّاهِدُ بِهِ مِنْ
خَبَرِ جَمَاعَةٍ لاَ يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِلاَ
شَرْطِ عَدَالَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. (2)
41 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ
وَأَصْحَابِهِ جَائِزَةٌ فِي النَّسَبِ الْمَشْهُورِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 458.
(2) ابن عابدين 4 / 375.
(40/250)
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يَثْبُتُ
بِذَلِكَ نَسَبٌ، إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَال، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
أَمْرًا مُشْتَهَرًا مِثْل نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ. (1)
42 - وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الاِسْتِفَاضَةَ أَيْضًا؛ لأَِنَّ
النَّسَبَ أَمْرٌ لاَ مَدْخَل لِلرُّؤْيَةِ فِيهِ، وَغَايَةُ الْمُمْكِنِ
رُؤْيَةُ الْوِلاَدَةِ عَلَى الْفِرَاشِ، لَكِنَّ النَّسَبَ إِلَى
الأَْجْدَادِ الْمُتَوَفَّيْنَ وَالْقَبَائِل الْقَدِيمَةِ لاَ تَتَحَقَّقُ
فِيهِ الرُّؤْيَةُ، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اعْتِمَادِ الاِسْتِفَاضَةِ،
وَلَوْ مِنَ الأُْمِّ قِيَاسًا عَلَى الأَْبِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ
بِالتَّسَامُعِ - وَهُوَ الاِسْتِفَاضَةُ - النَّسَبُ، وَقَال: يَجُوزُ
أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ أَنَّ هَذَا الرَّجُل ابْنُ فُلاَنٍ، أَوْ
هَذِهِ الْمَرْأَةَ - إِذَا عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا - بِنْتُ فُلاَنٍ، أَوْ
أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا. وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنَ الأُْمِّ
بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا عَلَى الأَْصَحِّ، وَقِيل: قَطْعًا كَالأَْبِ،
وَوَجْهُ الْمَنْعِ إِمْكَانُ رُؤْيَةِ الْوِلاَدَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ فِي صِفَةِ التَّسَامُعِ
أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ بِنَسَبِهِ،
فَيُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُل أَوِ الْقَبِيلَةِ، وَالنَّاسُ
يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، وَهَل يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ التَّكْرَارُ
وَامْتِدَادُ مُدَّةِ السَّمَاعِ؟ قَال كَثِيرُونَ: نَعَمْ، وَبِهَذَا
أَجَابَ الصَّيْمَرِيُّ، وَقَال آخَرُونَ:
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 194.
(40/250)
لاَ، بَل لَوْ سَمِعَ انْتِسَابَ الشَّخْصِ
وَحَضَرَ جَمَاعَةً لاَ يَرْتَابُ فِي صِدْقِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِنَسَبِهِ
دُفْعَةً وَاحِدَةً، جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَرَأَى ابْنُ كَجٍّ
الْقَطْعَ بِهَذَا، وَبِهِ أَجَابَ الْبَغَوِيُّ فِي انْتِسَابِهِ.
وَيُعْتَبَرُ مَعَ انْتِسَابِ الشَّخْصِ وَنِسْبَةِ النَّاسِ أَلاَّ
يُعَارِضَهُمَا مَا يُورِثُ تُهْمَةً وَرِيبَةً، فَلَوْ كَانَ الْمَنْسُوبُ
إِلَيْهِ حَيًّا وَأَنْكَرَ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ
مَجْنُونًا جَازَتْ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا لَوْ كَانَ مَيِّتًا. وَلَوْ
طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ النَّسَبِ، هَل يُمْنَعُ جَوَازُ
الشَّهَادَةِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، لاِخْتِلاَفِ الظَّنِّ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الاِسْتِفَاضَةِ أَوْجُهٌ:
الأَْوَّل: وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ
جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ بِخَبَرِهِمْ
وَيُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ، وَهُوَ أَشْبَهُ
بِكَلاَمِ الشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِي: يَكْفِي عَدْلاَنِ، اخْتَارَهُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو
حَاتِمٍ، وَمَال إِلَيْهِ الإِْمَامُ.
وَالثَّالِثُ: يَكْفِي خَبَرُ وَاحِدٍ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبُ إِلَيْهِ،
حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ. فَعَلَى الأُْولَى يَنْبَغِي أَلاَّ
يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ وَلاَ الْحُرِّيَّةُ وَلاَ الذُّكُورَةُ.
(40/251)
وَلَوْ سَمِعَ رَجُلاً لآِخَرَ: هَذَا
ابْنِي وَصَدَّقَهُ الآْخَرُ أَوْ قَال: أَنَا ابْنُ فُلاَنٍ، وَصَدَّقَهُ
فُلاَنٌ، قَال كَثِيرٌ مِنَ الأَْصْحَابِ: يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ
عَلَى النَّسَبِ، وَكَذَا لَوِ اسْتَلْحَقَ صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا
وَسَكَتَ؛ لأَِنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ كَالإِْقْرَارِ، وَفِي
الْمُهَذَّبِ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ يَشْهَدُ عِنْدَ السُّكُوتِ إِلاَّ إِذَا
تَكَرَّرَ عِنْدَهُ الإِْقْرَارُ وَالسُّكُوتُ، وَالَّذِي أَجَابَ بِهِ
الْغَزَالِيُّ: أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ
بِذَلِكَ، بَل يَشْهَدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى الإِْقْرَارِ، وَهَذَا
قِيَاسٌ ظَاهِرٌ. (1)
43 - وَيُوَافِقُ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ كَذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِ
الْعَدَدِ أَوِ الاِسْتِفَاضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَبِ. جَاءَ فِي
الْمُغْنِي: وَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الأَْخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ
مَعْرِفَتُهُ فِي قَلْبِهِ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ
بِالاِسْتِفَاضَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ
بِهَا فِي النَّسَبِ وَالْوِلاَدَةِ.
وَكَلاَمُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَلاَّ يَشْهَدَ
بِالاِسْتِفَاضَةِ حَتَّى تَكْثُرَ بِهِ الأَْخْبَارُ وَيَسْمَعَهُ مِنْ
عَدَدٍ كَثِيرٍ يَحْصُل بِهِ الْعِلْمُ، يَقُول الْخِرَقِيُّ: فِيمَا
تَظَاهَرَتْ بِهِ الأَْخْبَارُ وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقَلْبِ،
يَعْنِي حَصَل الْعِلْمُ بِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 266 وما بعدها.
(40/251)
فِي " الْمُجَرَّدِ " أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ
يَسْمَعَ مِنَ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إِلَى
خَبَرِهِمَا؛ لأَِنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ بِقَوْل اثْنَيْنِ، وَهَذَا
قَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْل
الأَْوَّل هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الاِسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّهَا
مَأْخُوذَةٌ مِنْ فَيْضِ الْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ، وَلأَِنَّهُ لَوِ اكْتَفَى
فِيهِ بِقَوْل اثْنَيْنِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي
الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ
السَّمَاعِ، وَإِذَا سَمِعَ رَجُلاً يَقُول لِصَبِيٍّ: هَذَا ابْنِي، جَازَ
لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ مُقِرٌّ بِنَسَبِهِ، وَإِنْ سَمِعَ
الصَّبِيَّ يَقُول: هَذَا أَبِي، وَالرَّجُل يَسْمَعُهُ فَسَكَتَ جَازَ
أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا؛ لأَِنَّ سُكُوتَ الأَْبِ إِقْرَارٌ لَهُ،
وَالإِْقْرَارُ يُثْبِتُ النَّسَبَ فَجَازَتِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا
أُقِيمَ السُّكُوتُ هَهُنَا مَقَامَ الإِْقْرَارِ؛ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ
عَلَى الاِنْتِسَابِ الْبَاطِل جَائِزٌ بِخِلاَفِ سَائِرِ الدَّعَاوِي،
وَلأَِنَّ النَّسَبَ يَغْلِبُ فِيهِ الإِْثْبَاتُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ
يَلْحَقُ بِالإِْمْكَانِ فِي النِّكَاحِ؟ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ
أَنَّهُ يُحْتَمَل أَلاَّ يَشْهَدَ مَعَ السُّكُوتِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ؛
لأَِنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ حَقِيقِيٍّ، وَإِنَّمَا أُقِيمَ
مَقَامَهُ، فَاعْتُبِرَتْ تَقْوِيَتُهُ بِالتَّكْرَارِ، كَمَا اعْتُبِرَتْ
تَقْوِيَةُ الْيَدِ فِي الْعَقَارِ بِالاِسْتِمْرَارِ. (1)
ط - حُكْمُ الْقَاضِي: 44 - يُعَدُّ حُكْمُ الْقَاضِي بِالنَّسَبِ دَلِيلاً
مُسْتَقِلًّا؛
__________
(1) المغني 12 / 23 وما بعدها.
(40/252)
لأَِنَّ الْحُكْمَ قَدْ لاَ يُذْكَرُ فِيهِ
مُسْتَنَدُ الْحُكْمِ، وَالأَْكْثَرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَقْدَحُ فِي
حُكْمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَصْلُهُ قَوْل سُحْنُونٍ:
يُقْبَل قَوْل الْقَاضِي فِيمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ مَجْلِسُ حُكْمِهِ،
وَلأَِنَّ مُسْتَنَدَهُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي اعْتِبَارِهِ
مُسْتَنَدًا، فَإِذَا حَكَمَ بِمُقْتَضَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلاَفُ فِيهِ،
وَكَانَ الْحُكْمُ طَرِيقَ الثُّبُوتِ.
وَفِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ يَكْثُرُ التَّنْبِيهُ فِي نَوَازِل
النَّسَبِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالإِْرْثِ لِمُدَّعِي النَّسَبِ
فِي الأَْحْوَال الْمُخْتَلَفِ فِيهَا يُمْضَى، فَإِذَا وَقَعَ
الاِسْتِظْهَارُ بِحُكْمِ قَاضٍ بِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدٍ غَيْرِهِ
مَذْكُورٍ فِيهِ مُسْتَنَدُ الْحَاكِمِ لَمْ يَسَعِ الْقَاضِي -
الْمُسْتَظْهَرُ لَدَيْهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ - إِلاَّ أَنْ يَقُول: ثَبَتَ
ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَاضِي فُلاَنٍ.
قَال الْجَزِيرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا انْصَرَمَتِ الآْجَال
وَعَجَزَ الطَّالِبُ عَجَّزَهُ الْقَاضِي وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ، وَيَصِحُّ
التَّعْجِيزُ فِي كُل شَيْءٍ يُدْعَى فِيهِ إِلاَّ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ:
الدِّمَاءَ، وَالأَْحْبَاسَ، وَالْعِتْقَ، وَالطَّلاَقَ، وَالنَّسَبَ،
وَبِهِ قَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ. (1)
وَضَابِطُهُ كُل حَقٍّ لَيْسَ لِمُدَّعِيهِ إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ،
وَمِنْهَا دَعْوَى نَسَبٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَأْتِ
بِهَا بَعْدَ التَّلَوُّمِ، فَلاَ يُعَجَّزُ، فَمَتَى أَقَامَهَا
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 132، 133 ط دار الفكر.
(40/252)
حُكِمَ عَلَى مُقْتَضَاهَا (1) وَفَصَّل
الدُّسُوقِيُّ فَقَال: فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَجِّزَ طَالِبَ
إِثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ أَوِ ادَّعَى أَنَّ
لَهُ بَيِّنَةً، وَطَلَبَ الإِْمْهَال لَهَا وَأُنْظِرَ فَلَمْ يَأْتِ
بِهَا، فَإِنْ عَجَّزَهُ كَانَ حُكْمُهُ بِالتَّعْجِيزِ غَيْرَ مَاضٍ،
فَإِذَا قَال مُدَّعِي النَّسَبِ: لِي بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، وَأُمْهِل
لِلإِْتْيَانِ بِهَا فَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ، حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعَدَمِ
ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلاَ يَحْكُمُ بِتَعْجِيزِ ذَلِكَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ
حَكَمَ بِعَجْزِهِ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ مَاضٍ، وَأَمَّا طَالِبُ نَفْيِ
النَّسَبِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ بِتَعْجِيزِهِ فِي النَّسَبِ،
فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِمُدَّعِي النَّسَبِ فَقَال الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ: عِنْدِي بَيِّنَةٌ تَجْرَحُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، فَإِذَا
أُمْهِل وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ حَكَمَ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ
وَتَعْجِيزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا عَجَّزَهُ فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ
مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا قَال الْجِيزِيُّ وَارْتَضَاهُ
الْبُنَانِيُّ، وَقَال عَلِيٌّ الأَْجْهُورِيُّ: إِنَّ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ كَالْمُدَّعِي فِي النَّسَبِ لَيْسَ لِلْقَاضِي تَعْجِيزُهُ
أَصْلاً فِيهَا. (2)
وَحُكْمُ الْقَاضِي بِثُبُوتِ النَّسَبِ يَنْفُذُ عَلَى الْمَحْكُومِ
عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَدْخُل فِي الْخُصُومَةِ؛ لأَِنَّ
الْحُكْمَ عَلَى الْحَاضِرِ حُكْمٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسَائِل مِنْهَا
النَّسَبُ. (3)
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 228.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 150، وانظر شرح الزرقاني 7 / 141 - 142، والتبصرة 1
/ 114 - 115.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 337.
(40/253)
وَالْمُرَادُ بِالْغَائِبِ: مَنْ لَمْ
يُخَاصِمْ فِي النَّازِلَةِ الْمَقْضِيِّ فِيهَا أَصْلاً، أَوْ لَمْ
يَحْضُرْ عِنْدَ صُدُورِ الْحُكْمِ مِنَ الْقَاضِي، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ
مَنْ ثَبَتَتْ غَيْبَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا وَقْتَ
إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَسَوَاءٌ
كَانَ غَائِبًا عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ عَنِ الْبَلَدِ، وَأَمَّا إِذَا
أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَائِبٌ؛
لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ فِي الْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ
فِي الإِْقْرَارِ عِنْدَ الْقَاضِي. (1)
ي - ثُبُوتُ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ: 45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ بِدَعْوَى الْحِسْبَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ
الشَّهَادَةَ عَلَى النَّسَبِ لاَ تُقْبَل مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَوَجْهُ
ذَلِكَ أَنَّ النَّسَبَ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، وَحَقُّهُ لاَ تُقْبَل فِيهِ
شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ (2) وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا
كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ لاَ تُقْبَل مَا لَمْ يُنَصِّبِ الْقَاضِي
خَصْمًا عَنِ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ
النِّيَابَةِ شَرْعًا؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إِحْيَاءِ
حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْقَاضِي نُصِبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ
ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 335.
(2) بدائع الصنائع 4 / 111، وشرح المحلي على المنهاج 4 / 322، 323، وأسنى
المطالب 4 / 367، وحاشية الجمل 5 / 386، والمغني 9 / 215، 238.
(3) بدائع الصنائع 4 / 111.
(40/253)
أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ
صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُل، فَإِنَّهَا تُقْبَل مِنْ غَيْرِ
دَعْوَى (1) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ
تُقْبَل شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهَا
النَّسَبُ؛ لأَِنَّ فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى. (2)
التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ: 46 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي نَسَبٍ لأَِبٍ؛ لِخَطَرِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ بِهَا وَهُوَ
الآْدَمِيُّ، لَكِنَّهُ إِنْ حَكَمَ فِي نَسَبٍ مَضَى حُكْمُهُ إِنْ كَانَ
صَوَابًا، فَلاَ يَنْقُضُهُ الإِْمَامُ وَلاَ الْقَاضِي (3) قَال أَصْبَغُ:
وَلاَ يَنْبَغِي التَّحْكِيمُ فِي النَّسَبِ لأَِنَّهُ لِلإِْمَامِ، زَادَ
فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَصْبَغَ: فَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي ذَلِكَ نَفَذَ
حُكْمُهُ. (4)
التَّحْلِيفُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ: 47 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ:
أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّهُ لاَ
تَحْلِيفَ فِي نَسَبٍ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَى مَجْهُولٍ أَنَّهُ ابْنُهُ
وَبِالْعَكْسِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُسْتَحْلَفُ فِي
النَّسَبِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 110.
(2) القليوبي على المحلي 4 / 322، 323، وأسنى المطالب 4 / 367، وحاشية
الجمل 5 / 386.
(3) جواهر الإكليل 2 / 223.
(4) مواهب الجليل 6 / 112 ط دار الفكر.
(40/254)
وَقِيل: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ
يَنْظُرَ فِي حَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ رَآهُ مُتَعَنِّتًا
يُحَلِّفُهُ وَيَأْخُذُهُ بِقَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا لاَ
يُحَلِّفُهُ أَخْذًا بِقَوْلِهِ. (1)
آثَارُ النَّسَبِ: تَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ آثَارٌ مِنْهَا: أ
- النَّفَقَةُ: 48 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النَّسَبَ سَبَبٌ
مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي
مُصْطَلَحِ (نَفَقَة) .
ب - سُقُوطُ الْقِصَاصِ: 49 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ
لاَ يُقْتَل وَالِدٌ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا. وَالتَّفْصِيل فِي (قِصَاص ف
17) .
ج - ثُبُوتُ الْوِلاَيَةِ: 50 - ثُبُوتُ النَّسَبِ سَبَبٌ لِلْوِلاَيَةِ
فِي أُمُورٍ مِنْهَا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَالْوِلاَيَةِ
عَلَى الْمَال وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي (قِصَاص ف 26
وَمَا بَعْدَهَا، صغر ف 21، نِكَاح، وِلاَيَة) .
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 425، وتكملة فتح القدير 8 / 181،
ومواهب الجليل 6 / 133، والإنصاف 12 / 111.
(40/254)
د - الْمِيرَاثُ: 51 - اتَّفَقَ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الإِْرْثِ فِي
الْجُمْلَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي (إِرْث ف 14) .
هـ - تَحْرِيمُ النِّكَاحِ: 52 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
النَّسَبَ فِي الْجُمْلَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (مُحَرَّمَات النِّكَاحِ ف 3 - 8) .
اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ: 53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
اعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ: فَذَهَبَ
بَعْضُهُمْ إِلَى اعْتِبَارِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ
اعْتِبَارِهِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَاءَة ف 8) .
انْتِفَاءُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ: 54 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى
أَنَّهُ إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَ الْقَذْفُ
بِنَفْيِ الْوَلَدِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَفْيُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ
الزَّوْجِ وَأُلْحِقَ بِأُمِّهِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لِعَان
ف 25 وَمَا بَعْدَهَا) .
عَدَمُ قَبُول النَّسَبِ لِلإِْسْقَاطِ: 55 - النَّسَبُ حَقُّ الصَّغِيرِ،
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ
(40/255)
فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ
إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، فَمَنْ أَقَرَّ بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ
فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَوْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ
إِمْكَانِ النَّفْيِ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلاَ يَصِحُّ لَهُ
إِسْقَاطُهُ بَعْدَ ذَلِكَ (1) وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا
زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا
وَجَحَدَ الرَّجُل فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ
بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لاَ حَقُّهَا. (2)
التَّصَادُقُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ: 56 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا
نَفَى نَسَبَ وَلَدِ حُرَّةٍ فَصَدَّقَتْهُ لاَ يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ؛
لِتَعَذُّرِ اللِّعَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ؛ حَيْثُ تَشْهَدُ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَقَدْ قَالَتْ إِنَّهُ صَادِقٌ،
وَإِذَا تَعَذَّرَ قَطْعُ النَّسَبِ لأَِنَّهُ حُكْمُهُ وَيَكُونُ
ابْنَهُمَا لاَ يُصَدَّقَانِ عَلَى نَفْيِهِ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ قَدْ
ثَبَتَ وَالنَّسَبُ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ لاَ يَنْقَطِعُ إِلاَّ
بِاللِّعَانِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلاَ يُعْتَبَرُ تَصَادُقُهُمَا عَلَى
النَّفْيِ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ يُثْبِتُ حَقًّا لِلْوَلَدِ، وَفِي
تَصَادُقِهِمَا عَلَى النَّفْيِ إِبْطَال حَقِّ الْوَلَدِ، وَهَذَا لاَ
يَجُوزُ. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 446، والكافي لابن عبد البر 2 / 616، ونهاية
المحتاج 7 / 116، والمغني 7 / 424، وشرح منتهى الإرادات 3 / 211.
(2) بدائع الصنائع 6 / 49.
(3) بدائع الصنائع 3 / 246.
(40/255)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ:
لَوْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ قَبْل الْبِنَاءِ أَوْ
بَعْدُ فَلاَ بُدَّ مِنْ لِعَانٍ مِنَ الزَّوْجِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ،
فَإِنْ لَمْ يُلاَعِنْ لَحِقَ بِهِ وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ قَذَفَ
غَيْرَ عَفِيفَةٍ، وَتُحَدُّ هِيَ عَلَى كُل حَالٍ، إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ
بِالْوَلَدِ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَنْتَفِيَ حِينَئِذٍ
بِغَيْرِ لِعَانٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَنْتَفِي مِنْهُ. وَنَقَل صَاحِبُ
التَّاجِ وَالإِْكْلِيل عَنِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ إِذَا تَصَادَقَ
الزَّوْجَانِ عَلَى نَفْيِ الْحَمْل نُفِيَ بِغَيْرِ لِعَانٍ وَحُدَّتِ
الزَّوْجَةُ، وَقَالَهُ مَالِكٌ، وَقَال أَكْثَرُ الرُّوَاةِ: لاَ يُنْفَى
إِلاَّ بِلِعَانٍ، وَقَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا. (1)
__________
(1) الشرح الكبير 2 / 460، والشرح الصغير 2 / 660، والتاج والإكليل 4 /
133.
(40/256)
|