الموسوعة
الفقهية الكويتية نسخ
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّسْخُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: النَّقْل: كَنَقْل كِتَابٍ مِنْ كِتَابٍ آخَرَ، تَقُول:
نَسَخْتُ الْكِتَابَ إِذَا نَقَلْتُهُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (1) .، أَيْ نَأْمُرُ
بِنَسْخِهِ وَإِثْبَاتِهِ. وَالثَّانِي: الإِْبْطَال وَالإِْزَالَةُ،
يُقَال: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّل، وَالرِّيحُ الأَْثَرَ أَزَالَتْهُ (2)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: النَّسْخُ هُوَ وُرُودُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ
مُتَرَاخِيًا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُقْتَضِيًا خِلاَفَ حُكْمِهِ، فَهُوَ
تَبْدِيلٌ بِالنَّظَرِ إِلَى عِلْمِنَا، وَبَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ
بِالنَّظَرِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّخْصِيصُ: 2 - التَّخْصِيصُ فِي اللُّغَةِ: الإِْفْرَادُ، وَقِيل:
هُوَ
__________
(1) سورة الجاثية / 29
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
2 / 62 - 64.
(3) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي.
(40/256)
إِخْرَاجُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ،
وَقِيل: تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِالْحُكْمِ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ:
الأَْوَّل أَحْسَنُ؛ لأَِنَّ الصِّيغَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ
أَفْرَادِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، وَمُقْتَضَى الإِْرَادَةِ شُمُول
الْحُكْمِ لِجَمِيعِ الأَْفْرَادِ، فَتُخَصَّصُ بِبَعْضِ الأَْفْرَادِ (1)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
إِخْرَاجُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، إِلاَّ أَنَّ النَّسْخَ إِخْرَاجُهُ
بِرَفْعِ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَالتَّخْصِيصَ إِفْرَادُ
الْحُكْمِ بِبَعْضٍ قَبْل ثُبُوتِ الْحُكْمِ. (2)
ب - الْمُحْكَمُ: 3 - الْمُحْكَمُ هُوَ مَا أُحْكِمَ الْمُرَادُ بِهِ عَنِ
التَّبْدِيل وَالتَّغْيِيرِ: أَيِ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيل
(3) وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالإِْحْكَامِ هُوَ الْمُغَايَرَةُ.
ج ـ - التَّأْوِيل: 4 - التَّأْوِيل فِي اللُّغَةِ: التَّرْجِيحُ، وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى
يَحْتَمِلُهُ. (4)
__________
(1) البحر المحيط 3 / 241.
(2) البحر المحيط 3 / 240، 4 / 68.
(3) التعريفات للجرجاني.
(4) المصدر السابق.
(40/257)
أَقْسَامُ النَّسْخِ: 5 - النَّسْخُ
ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: نَسْخُ الْحُكْمِ دُونَ التِّلاَوَةِ، وَنَسْخُ
التِّلاَوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ التِّلاَوَةِ وَالْحُكْمِ مَعًا.
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وُقُوعُ النَّسْخِ: 6 - النَّسْخُ جَائِزٌ عَقْلاً وَوَاقِعٌ سَمْعًا،
وَلَمْ يُنْكِرْ وُقُوعَهُ إِلاَّ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ
الْمُنْتَمِينَ لِلإِْسْلاَمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلاً
وَمَنَعَهُ شَرْعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَقْلاً وَهُمْ مَحْجُوجُونَ
بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ السَّابِقِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. قَال
ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نُقِل عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ إِنْكَارُ
النَّسْخِ لاَ بِمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لاَ يَرْتَفِعُ، بَل
بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَهِي بِنَصٍّ دَل عَلَى انْتِهَائِهِ، فَلاَ
يَكُونُ نَسْخًا (1) وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
شُرُوطُ وُقُوعِ النَّسْخِ: 7 - يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ النَّسْخِ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ شَرْعِيًّا - أَيْ ثَبَتَ
بِالشَّرْعِ - لاَ عَقْلِيًّا، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَفْعَلُهُ النَّاسُ
بِعَادَةٍ لَهُمْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا ثُمَّ رُفِعَ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا،
بَل ابْتِدَاءَ شَرْعٍ، كَاسْتِبَاحَتِهِمُ الْخَمْرَ قَبْل الإِْسْلاَمِ
عَلَى عَادَةٍ كَانَتْ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى أَنْ حُرِّمَ،
فَهُوَ
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 63، والبحر المحيط للزركشي 4 / 72.
(40/257)
ابْتِدَاءُ شَرْعٍ.
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُنْفَصِلاً عَنِ الْمَنْسُوبِ
مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَالْمُقْتَرِنُ - كَالشُّرُوطِ وَالاِسْتِثْنَاءِ -
لاَ يُسَمَّى نَسْخًا، إِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ.
ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ، فَارْتِفَاعُ
الْحُكْمِ بِمَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ لَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا سُقُوطُ
التَّكْلِيفِ جُمْلَةً. رَابِعًا: أَنْ يَكُونَ الْمَرْفُوعُ مُقَيَّدًا
بِوَقْتٍ يَقْتَضِي دُخُولُهُ زَوَال الْمُغَيَّا بِغَايَةٍ فَلاَ يَكُونُ
نَسْخًا عِنْدَ وُجُودِهَا. خَامِسًا: أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ أَقْوَى
مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ: فَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنْهُ لَمْ
يَنْسَخْهُ؛ لأَِنَّ الضَّعِيفَ لاَ يُزِيل الْقَوِيَّ، وَقَال إِلْكِيَا
الْهَرَّاسِيُّ: وَهَذَا مِمَّا قَضَى بِهِ الْعَقْل بَل دَل الإِْجْمَاعُ
عَلَيْهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْسَخُوا نَصَّ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ.
سَادِسًا: أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى بِالْمَنْسُوخِ غَيْرَ الْمُقْتَضَى
بِالنَّاسِخِ. سَابِعًا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مَشْرُوعًا، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مِمَّا لاَ يَحْتَمِل التَّوْقِيتَ نَسْخًا
مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا، فَلاَ يَدْخُل النَّسْخُ أَصْل التَّوْحِيدِ
بِحَالٍ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
لَمْ يَزَل وَلاَ يَزَال، وَكَذَا مَا عُلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ
يَتَأَبَّدُ وَلاَ
(40/258)
يَتَأَقَّتُ، فَلاَ يَدْخُلُهُ النَّسْخُ
كَشَرِيعَتِنَا هَذِهِ، وَقَالُوا: كُل مَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى
صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ فَلاَ
يَدْخُلُهُ النَّسْخُ. وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّهُ لاَ نَسْخَ فِي
الأَْخْبَارِ، إِذْ لاَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا عَلَى خِلاَفِ مَا أَخْبَرَ
بِهِ الصَّادِقُ (1) وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
جَوَازُ نَسْخِ الأَْثْقَل إِلَى الأَْخَفِّ وَبِالْعَكْسِ: 8 - يَجُوزُ
نَسْخُ الأَْثْقَل إِلَى أَخَفَّ مِنْهُ كَنَسْخِ ثُبُوتِ الْوَاحِدِ
لِعَشَرَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (2) ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(الآْنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ) (3) ، كَمَا يَجُوزُ نَسْخُ الأَْخَفِّ إِلَى أَثْقَل
مِنْهُ كَنَسْخِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالأَْيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ
بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَنَسْخُ الْمِثْل بِمِثْلِهِ ثِقَلاً وَخِفَّةً
كَالْقِبْلَةِ، وَيَجُوزُ النَّسْخُ لاَ إِلَى شَيْءٍ كَصَدَقَةِ
النَّجْوَى. (4)
__________
(1) البحر المحيط 4 / 78 - 79.
(2) سورة الأنفال / 65
(3) سورة الأنفال / 66
(4) الجامع لأحكام القرآن 2 / 65، 275، وفواتح الرحموت 2 / 71.
(40/258)
نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالآْحَادِ: 9 -
قَال الزَّرْكَشِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ
بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِمِثْلِهَا، وَالآْحَادِ
بِالآْحَادِ، وَالآْحَادِ بِالْمُتَوَاتِرَةِ. وَأَمَّا نَسْخُ
الْمُتَوَاتِرِ سُنَّةً أَوْ قُرْآنًا بِالآْحَادِ فَالْكَلاَمُ فِي
الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ (1) يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ
الأُْصُولِيِّ.
نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ: 10 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِنْ كَانَتِ
السُّنَّةُ آحَادًا فَالْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً
فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِهِ (2)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
قِرَاءَةُ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ مَا نُسِخَ وَالصَّلاَةُ بِهِ: 11 - لاَ
خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الصَّلاَةِ بِمَنْسُوخِ الْحُكْمِ
مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَعَ بَقَاءِ تِلاَوَتِهِ، وَحُرْمَةِ قِرَاءَةِ
الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ مَنْسُوخِ الْقُرْآنِ؛
لأَِنَّ مَا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ كَلاَمُ اللَّهِ، وَالْقُرْآنُ
كَمَا يُتْلَى لِحِفْظِ أَحْكَامِهِ لِيَتَيَسَّرَ الْعَمَل بِهِ، يُتْلَى
أَيْضًا لِكَوْنِهِ كَلاَمَ اللَّهِ، فَيُثَابُ عَلَى قِرَاءَتِهِ، أَمَّا
مَا نُسِخَتْ تِلاَوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ
__________
(1) البحر المحيط 4 / 108.
(2) المرجع السابق.
(40/259)
فَلاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ بِقِرَاءَتِهِ
وَلاَ تَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ؛ لأَِنَّ حُكْمَ
تَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلاَةِ بِتِلاَوَتِهِ وَحُرْمَةِ قِرَاءَتِهِ عَلَى
الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ مَقْصُودٌ، وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا يَنْتَهِي بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ، فَيَكُونُ نَسْخُ
التِّلاَوَةِ بَيَانُ مُدَّةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ نَسْخَ
الْحُكْمِ بَيَانُ الْمُدَّةِ فِيهِ. (1)
قَال السَّرَخْسِيُّ: فَإِنَّا بَعْدَ مَا اعْتَقَدْنَا مِنَ الْمَتْلُوِّ
أَنَّهُ قُرْآنٌ وَأَنَّهُ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ نَعْتَقِدُ فِيهِ
أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى
بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، وَلَكِنْ بِانْتِسَاخِ التِّلاَوَةِ يَنْتَهِي
حُكْمُ تَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلاَةِ بِهِ وَحُرْمَةِ قِرَاءَتِهِ عَلَى
الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ. (2)
نَسْر
انْظُرْ: أَطْعِمَة.
نُسُك
انْظُرْ: حَج، عُمْرَة.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 37، وكشاف القناع 1 / 135، وأصول السرخسي 2 / 81.
(2) المصادر السابقة.
(40/259)
نَسْل
التَّعْرِيفُ: 1 - النَّسْل فِي اللُّغَةِ: الْوَلَدُ، وَنَسَل نَسْلاً
مِنْ بَابِ ضَرَبَ: كَثُرَ نَسْلُهُ، وَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ
فَيُقَال: نَسَلَتِ الْوَلَدَ نَسْلاً، أَيْ وَلَدَتْهُ، وَالنَّسْل:
الذُّرِّيَّةُ، وَالْجَمْعُ أَنْسَالٌ. وَتَنَاسَلُوا: تَوَالَدُوا،
وَتَنَاسَلُوا: أَنْسَل بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَنَاسَلُوا: أَيْ وَلَدَ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (1) وَنَسَل نُسُولاً: انْفَصَل عَنْ غَيْرِهِ (2)
وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ النَّسْل عَلَى الْوَلَدِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ
إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، وَيُطْلِقُونَهُ كَذَلِكَ عَلَى الْحَمْل. (3)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسْل مِنْ أَحْكَامٍ: تَتَعَلَّقُ بِالنَّسْل
أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب.
(2) المعجم الوسيط، والكليات 2 / 362، والمفردات في غريب القرآن.
(3) جواهر الإكليل 1 / 136، 2 / 210، وروضة الطالبين 5 / 337، 343، والمغني
5 / 608، وفتح القدير 5 / 452 ط دار إحياء التراث.
(40/260)
أ - أَهَمِّيَّةُ النَّسْل لِبَقَاءِ
النَّوْعِ الإِْنْسَانِيِّ: 2 - النَّسْل مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ
وَأَحَدُ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي تَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، إِذْ
هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ لِبَقَاءِ النَّوْعِ الإِْنْسَانِيِّ. قَال
الشَّاطِبِيُّ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ:
إِنَّ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُحَافَظَةِ
عَلَى الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ ضَرُورِيَّاتٌ، وَهِيَ حِفْظُ
الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالنَّسْل وَالْمَال وَالْعَقْل، ثُمَّ قَال: لَوْ
عُدِمَ النَّسْل لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ بَقَاءٌ. (1)
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِبَقَاءِ الْعَالَمِ
إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَبِالتَّنَاسُل يَكُونُ هَذَا الْبَقَاءُ،
وَهَذَا التَّنَاسُل عَادَةً يَكُونُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ،
وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْوَطْءِ، فَجَعَل الشَّرْعُ
طَرِيقَ ذَلِكَ الْوَطْءِ النِّكَاحَ؛ لأَِنَّ فِي التَّغَالُبِ فَسَادًا،
وَفِي الإِْقْدَامِ بِغَيْرِ مِلْكٍ اشْتِبَاهُ الأَْنْسَابِ وَهُوَ سَبَبٌ
لِضَيَاعِ النَّسْل. (2)
وَقَال الْغَزَالِيُّ: مِنْ فَوَائِدِ النِّكَاحِ الْوَلَدُ، وَهُوَ
الأَْصْل، وَلَهُ وُضِعَ النِّكَاحُ، وَالْمَقْصُودُ إِبْقَاءُ النَّسْل،
وَأَنْ لاَ يَخْلُوَ الْعَالَمُ عَنْ جِنْسِ الإِْنْسِ (3) وَفِي
الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: مِنْ فَوَائِدِ النِّكَاحِ تَنْفِيذُ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 10، 17.
(2) المبسوط 4 / 192، 193.
(3) إحياء علوم الدين 2 / 54.
(40/260)
مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَحَبَّهُ مِنْ بَقَاءِ النَّوْعِ الإِْنْسَانِيِّ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. (1)
ب - الْمُبَاهَاةُ بِكَثْرَةِ النَّسْل: 3 - ذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ وَابْنُ
قُدَامَةَ أَنَّ مِنْ مَصَالِحِ النِّكَاحِ تَكْثِيرُ عِبَادِ اللَّهِ
تَعَالَى وَأُمَّةِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَتَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِهِمْ (2) ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ وَيَنْهَى عَنِ
التَّبَتُّل نَهْيًا شَدِيدًا وَيَقُول: " تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ
الْوَلُودَ، إِنِّي مُكَاثِرٌ الأَْنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) .
وَاعْتَبَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ التَّوَصُّل إِلَى الْوَلَدِ قُرْبَةٌ؛
لأَِنَّ فِيهِ طَلَبَ مَحَبَّةِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي تَكْثِيرِ مَنْ بِهِ مُبَاهَاتُهُ (4) .
ج - الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّسْل: الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّسْل مِنْ
مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَلِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَسَائِل
مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْهَا: مَنْعُ الْعَزْل: 4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
حُكْمِ الْعَزْل عَنِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 22.
(2) المبسوط 4 / 192 - 193، والمغني 6 / 447.
(3) حديث: " تزوجوا الودود الولود. . . " أخرجه الإمام أحمد (3 / 158 ط
الميمنية) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 258 - ط القدسي) رواه أحمد
والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
(4) إحياء علوم الدين 2 / 54
(40/261)
الزَّوْجَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ
مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَجَازَهُ بِإِذْنِ الزَّوْجَةِ وَلَمْ يُجِزْهُ بِدُونِ إِذْنِهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَزل ف 33) .
تَحْرِيمُ الْخِصَاءِ: 5 - مِنْ أَسْبَابِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّسْل
عَدَمُ الْخِصَاءِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَنْهُ وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُول
اللَّهِ أَلاَ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ (1) .، قَال
الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْخِصَاءِ أَنَّهُ خِلاَفُ مَا
أَرَادَهُ الشَّارِعُ مِنْ تَكْثِيرِ النَّسْل لِيَسْتَمِرَّ جِهَادُ
الْكُفَّارِ، وَإِلاَّ لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لأََوْشَكَ تَوَارُدُهُمْ
عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ النَّسْل فَيَقِل الْمُسْلِمُونَ بِانْقِطَاعِهِ
وَيَكْثُرُ الْكُفَّارُ، فَهُوَ خِلاَفُ الْمَقْصُودِ مِنْ بَعْثَةِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) وَلِلتَّفْصِيل
يُنْظَرُ (خِصَاء ف 5) .
مَنْعُ اسْتِعْمَال مَا يَقْطَعُ النَّسْل أَوْ يُقَلِّلُهُ: 6 - صَرَّحَ
الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَتَسَبَّبَ فِي
قَطْعِ مَائِهِ بِحَيْثُ لاَ يَلِدُ أَصْلاً، وَلاَ أَنْ
__________
(1) حديث: " كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . " أخرجه
البخاري (فتح الباري 9 / 117 ط السلفية) ومسلم (2 / 1022 ط عيسى الحلبي) .
(2) الدر المختار 5 / 249، وفتح الباري 9 / 119، وصحيح مسلم بشرح النووي 9
/ 177.
(40/261)
يَسْتَعْمِل مَا يُقَلِّل نَسْلَهُ، وَهَل
الْمَرْأَةُ كَذَلِكَ فِيهِمَا لأَِنَّ قَطْعَ مَائِهَا يُوجِبُ قَطْعَ
نَسْلِهَا أَمْ لاَ؟ قَال فِي الْمِعْيَارِ: إِنَّ الْمَنْصُوصَ
لأَِئِمَّتِنَا الْمَنْعُ مِنَ اسْتِعْمَال مَا يُبْرِدُ الرَّحِمَ أَوْ
يَسْتَخْرِجُ مَا هُوَ دَاخِل الرَّحِمِ مِنَ الْمَنِيِّ (1) وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ الْعَزْل وَتَفْتِيرُ الشَّهْوَةِ، وَيَحْرُمُ
قَطْعُ النَّسْل وَلَوْ بِدَوَاءٍ، كَمَا يَحْرُمُ قَطْعُ الْحَبَل مِنَ
الْمَرْأَةِ (2) وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لِلْمَرْأَةِ سَدَّ فَمِ
رَحِمِهَا، وَلَكِنَّ أَصْل الْمَذْهَبِ حُرْمَةُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ
الزَّوْجِ قِيَاسًا عَلَى عَزْلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا. وَقَال ابْنُ
عَابِدِينَ: نَعَمْ، النَّظَرُ إِلَى فَسَادِ الزَّمَانِ يُفِيدُ
الْجَوَازَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ (3) .
مَنْعُ الإِْجْهَاضِ: 7 - مِنْ وَسَائِل الْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّسْل
عَدَمُ إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ الْحَامِل. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ
عَلَى حُرْمَةِ الإِْجْهَاضِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ؛ لأَِنَّهُ قَتْلٌ
لَهُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجْهَاض ف 4 وَمَا بَعْدَهَا)
.
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 399 - 400، والخرشي 3 / 226.
(2) حاشية القليوبي 3 / 206، 4 / 375.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 379 - 380
(40/262)
عُقُوبَةُ مَنْ يَتَسَبَّبُ فِي قَطْعِ
النَّسْل: 8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنِ اعْتَدَى عَلَى
إِنْسَانٍ فَذَهَبَ بِذَلِكَ إِيلاَدُهُ وَنَسْلُهُ؛ فَفِيهِ الدِّيَةُ
كَامِلَةً؛ لأَِنَّ الإِْيلاَدَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ فَوَّتَهُ
(1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَات ف 62، 44، 38) .
د - ضَمَانُ نَسْل الْحَيَوَانِ الْمَغْصُوبِ: 9 - الأَْصْل أَنَّ مَنْ
غَصَبَ شَيْئًا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ لِصَاحِبِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى
تُؤَدِّيَ (2) ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ يَشْمَل نَسْل الْمَغْصُوبِ، فَمَنْ
غَصَبَ حَيَوَانًا وَوَلَدَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الْوَلَدِ
مَعَ أُمِّهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَمَنْ غَصَبَ شَاةً فَأَنْزَى
عَلَيْهَا فَحْلاً فَالْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ لأَِنَّهُ مِنْ
نَمَائِهَا، أَمَّا إِنْ غَصَبَ فَحْلاً فَأَنْزَاهُ عَلَى شَاتِهِ
فَالْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ؛ لأَِنَّهُ يَتْبَعُ الأُْمَّ وَلاَ
أُجْرَةَ لَهُ لِلنَّهْيِ عَنْ عَسْبِ الْفَحْل. (3)
__________
(1) البدائع 7 / 311 - 312، وجواهر الإكليل 2 / 268، والقليوبي 4 / 142،
وكشاف القناع 6 / 48.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " أخرجه أبو داود (3 / 822 ط حمص)
والترمذي (3 / 557 ط الحلبي) من حديث سمرة - رضي الله عنه، وقال ابن حجر في
التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) : الحسن مختلف في سماعه من سمرة.
(3) المغني 5 / 260، 265، والفواكه الدواني 2 / 245، وروضة الطالبين 5 /
27، وتكملة فتح القدير 8 / 274، وتبيين الحقائق 5 / 232، وحاشية ابن عابدين
5 / 129.
(40/262)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ
تَلَفَ وَلَدُ الْمَغْصُوبِ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ
إِلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ تَعَدَّى أَمْ لاَ، وَذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ عِنْدَ التَّعَدِّي. وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَصب ف 18) .
هـ - نَسْل الْمَرْهُونِ: 10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَسْل
الْمَرْهُونِ هَل يُعْتَبَرُ رَهْنًا تَبَعًا لِلأَْصْل أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَا تَنَاسَل مِنَ الرَّهْنِ يُعْتَبَرُ
رَهْنًا مَعَ الأَْصْل. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَسْل
الْحَيَوَانِ لاَ يَسْرِي عَلَيْهِ الرَّهْنُ (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْن ف 15) .
و مَا يَشْمَل لَفْظُ النَّسْل فِي الْوَقْفِ: 11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِيمَنْ يَشْمَلُهُ لَفْظُ النَّسْل إِذَا قَال الْوَاقِفُ: وَقَفْتُ عَلَى
نَسْلِي. فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي رِوَايَةٍ
ذَكَرَهَا هِلاَلٌ وَرَجَّحَهَا بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، يَدْخُل فِي الْوَقْفِ أَوْلاَدُ
الْوَاقِفِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 335، والدسوقي 3 / 6244 ونهاية المحتاج4 / 280،
والمغني 4 / 430.
(40/263)
وَأَوْلاَدُهُمُ الذُّكُورُ مِنْ وَلَدِهِ
دُونَ أَوْلاَدِ الإِْنَاثِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: فَلاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ
الْبَنَاتِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهَذَا مَا لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ بِدُخُول
أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَبْنَى أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ
عَلَى الْعُرْفِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ رَجَّحَهَا بَعْضُهُمْ وَرِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ
أَحْمَدَ أَنَّ أَوْلاَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي الْوَقْفِ عَلَى
النَّسْل كَأَوْلاَدِ الذُّكُورِ؛ لأَِنَّ الْجَمِيعَ مِنْ نَسْلِهِ
لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
إِلَى قَوْلِهِ وَعِيسَى (1) . وَهُوَ وَلَدُ بِنْتِهِ (2) وَتَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقَفَ) .
ز - السَّلَمُ فِي نَسْل الْحَيَوَانِ: 12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا يَنْدُرُ
اجْتِمَاعُهُ مَعَ الصِّفَاتِ، كَأَمَةٍ وَوَلَدِهَا أَوْ بَهِيمَةٍ
وَوَلَدِهَا، فَإِنَّهُ يَنْدُرُ اجْتِمَاعُهُمَا بِالنَّظَرِ
لِلأَْوْصَافِ الَّتِي يَجِبُ ذِكْرُهَا فِي السَّلَمِ، فَتَكُونُ
الْبَهِيمَةُ بِأَوْصَافٍ مَخْصُوصَةٍ وَوَلَدُهَا
__________
(1) سورة الأنعام / 84، 85
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 3 / 439، والشرح الكبير مع حاشية
الدسوقي 4 / 93، والمهذب 1 / 451، وكشاف القناع 4 / 287.
(40/263)
بِتِلْكَ الأَْوْصَافِ مِمَّا يَنْدُرُ.
وَمِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَكُونَ
الْمُسَلَّمُ فِيهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ، وَأَنْ
يُوجَدَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ حُلُولِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ
يَجُوزُ السَّلَمُ فِي نَسْل حَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ وَقَل، أَيْ كَانَ عَدَدُ
الْحَيَوَانَاتِ الْمُسَلَّمِ فِي نَسْلِهَا قَلِيلاً، فَلاَ يَجُوزُ؛
لِفَقْدِ الشَّرْطَيْنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَيْعِ الأَْجِنَّةِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. (1)
نَسِيئَةٌ
انْظُرْ: (نَسَاءٌ) .
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 211، وحاشية الجمل 3 / 233، ونهاية
المحتاج 4 / 198، وكشاف القناع 3 / 290.
(40/264)
نِسْيَانٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النِّسْيَانُ لُغَةً: بِكَسْرِ النُّونِ ضِدُّ الذِّكْرِ
وَالْحِفْظِ، يُقَال: نَسِيَهُ نِسْيَانًا وَنِسَاوَةً وَنَسَاوَةً،
وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّرْكِ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: (نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ) (1) . أَيْ تَرَكُوا اللَّهَ فَتَرَكَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ
النِّسْيَانُ ضَرْبًا مِنَ التَّرْكِ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، أَوْ
أَنْسَاهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا لأَِنْفُسِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (2) . . وَرَجُلٌ نَسْيَانٌ
بِفَتْحِ النُّونِ: كَثِيرُ النِّسْيَانِ لِلشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) (3) . أَيْ نَأْمُرُكُمْ
بِتَرْكِهَا.
وَقَال الْفَيُّومِيُّ: نَسِيتُ الشَّيْءَ أَنْسَاهُ نِسْيَانًا،
مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ ذُهُولاً
وَغَفْلَةً، وَذَلِكَ خِلاَفُ الذِّكْرِ لَهُ، تَقُول: تَرَكْتُ رَكْعَةً
أَهْمَلْتُهَا ذُهُولاً، وَالثَّانِي: التَّرْكُ مَعَ التَّعَمُّدِ،
__________
(1) سورة التوبة / 67
(2) سورة طه / 126
(3) سورة البقرة / 106
(40/264)
وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلاَ
تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنَكُمْ) (1) . أَيْ لاَ تَقْصِدُوا التَّرْكَ
وَالإِْهْمَال. وَيَأْتِي النِّسْيَانُ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ: قَال ابْنُ
الأَْعْرَابِيِّ: إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا لَسْتُ بِنَاسِيهَا
وَلاَ مُنْسِيهَا أَيْ وَلاَ مُؤَخِّرِهَا (2) وَالنِّسْيَانُ اصْطِلاَحًا:
قَال الرَّاغِبُ: هُوَ تَرْكُ الإِْنْسَانِ ضَبْطَ مَا اسْتَوْدَعَ إِمَّا
لِضَعْفِ قَلْبِهِ، وَإِمَّا عَنْ غَفْلَةٍ، وَإِمَّا عَنْ قَصْدٍ حَتَّى
يَنْحَذِفَ عَنِ الْقَلْبِ ذِكْرُهُ (3) وَعَرَّفَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ
بِأَنَّهُ: عَدَمُ تَذَكُّرِ الشَّيْءِ وَقْتَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ. (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: الْخَطَأُ: 2 - الْخَطَأُ لُغَةً: ضِدُّ
الصَّوَابِ وَضِدُّ الْعَمْدِ أَيْضًا، وَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ: عَدَل
عَنْهُ، وَأَخْطَأَ الرَّامِي الْغَرَضَ: لَمْ يُصِبْهُ. وَاصْطِلاَحًا:
هُوَ مَا لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ فِيهِ قَصْدٌ (5)
__________
(1) سورة البقرة / 237
(2) لسان العرب، والمصباح المنير.
(3) المفردات في غريب القرآن.
(4) الأشباه لابن نجيم ص 302.
(5) لسان العرب، والمصباح المنير، والتعريفات للجرجاني.
(40/265)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ عَدَمُ إِصَابَةِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ.
أَثَرُ النِّسْيَانِ عَلَى الأَْهْلِيَّةِ: 3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
أَثَرِ النِّسْيَانِ عَلَى الأَْهْلِيَّةِ: فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ
مُكَلَّفٍ حَال النِّسْيَانِ؛ لأَِنَّ الإِْتْيَانَ بِالْفِعْل
الْمُعَيَّنِ عَلَى وَجْهِ الاِمْتِثَال يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ
بِالْفِعْل الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لأَِنَّ الاِمْتِثَال عِبَارَةٌ عَنْ
إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الطَّاعَةِ. وَيَلْزَمُ مِنْ
ذَلِكَ عِلْمُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَوَجُّهِ الأَْمْرِ نَحْوَهُ
وَبِالْفِعْل، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلاً لِعَدَمِ الْفَهْمِ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ
وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ وَضَمَانُ الْمَتْلَفَاتِ
وَنُفُوذُ الطَّلاَقِ وَغَيْرُهَا مِنْ أَحْكَامِ النَّاسِي، فَهِيَ
لَيْسَتْ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ، بَل مِنْ بَابِ رَبْطِ الأَْحْكَامِ
بِالأَْسْبَابِ؛ لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ
الإِْنْسَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا يَسْتَعِدُّ لِقُوَّةِ الْفَهْمِ بَعْدَ
الْحَالَةِ
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . " أخرجه ابن ماجه (1
/ 659 ط عيسى الحلبي) والحاكم في المستدرك (2 / 198 ط دائرة المعارف
العثمانية) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما، واللفظ لابن ماجه، وصحح
الحاكم إسناده ووافقه الذهبي.
(40/265)
الَّتِي امْتَنَعَ تَكْلِيفُهُ مِنْ
أَجْلِهَا بِخِلاَفِ الْبَهِيمَةِ (1) وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ:
نِسْيَانُ الأَْحْكَامِ بِسَبَبِ قُوَّةِ الشَّهَوَاتِ لاَ يُسْقِطُ
التَّكْلِيفَ، كَمَنْ رَأَى امْرَأَةً جَمِيلَةً وَهُوَ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ
النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا نَاسِيًا عَنْ تَحْرِيمِ
النَّظَرِ (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لاَ يُنَافِي الْوُجُوبَ
فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ لاَ يُنَافِي الْعَقْل، وَلاَ
حُكْمَ الْفِعْل، وَلاَ الْقَوْل، وَلَكِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يُجْعَل
عُذْرًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّهُ يَعْدَمُ الْقَصْدَ، إِذِ
الْقَصْدُ إِلَى فِعْلٍ بِعَيْنِهِ لاَ يُقْصَدُ قَبْل الْعِلْمِ بِهِ.
قَال أَبُو الْيُسْرِ: النِّسْيَانُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ؛ لأَِنَّ النَّاسِيَ
يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِسَبَبِ النِّسْيَانِ، فَيَمْنَعُ
وُجُودَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ كَسَائِرِ الأَْعْذَارِ عِنْدَ عَامَّةِ
أَصْحَابِنَا، لَكِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُقُوقِ، فَإِنَّهُ لاَ
يُخِل بِالأَْهْلِيَّةِ، وَإِيجَابُ الْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِي لاَ
يُؤَدِّي إِلَى إِيقَاعِهِ فِي الْحَرَجِ لِيَمْتَنِعَ الْوُجُوبُ بِهِ،
إِذِ الإِْنْسَانُ لاَ يَنْسَى عِبَادَاتٍ مُتَوَالِيَةً
__________
(1) شرح الكوكب المنير 1 / 511 - 512، وانظر شرح مختصر الروضة للطوفي 1 /
188، ونزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر لابن بدران 1 / 139 - 141،
والقواعد والفوائد الأصولية ص 30 وما بعدها، والبحر المحيط 1 / 351 - 352،
والمستصفى 1 / 84، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 3.
(2) البحر المحيط 1 / 351 - 352، والمستصفى 1 / 84، والقواعد للعز بن عبد
السلام 2 / 3.
(40/266)
تَدْخُل فِي حَدِّ التَّكْرَارِ غَالِبًا،
فَصَارَ فِي حُكْمِ النَّوْمِ، وَلِهَذَا قَرَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ نِسْيَانِ الصَّلاَةِ وَالنَّوْمِ
عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا
فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا (1) . وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لاَ
يُجْعَل النِّسْيَانُ عُذْرًا؛ لأَِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ
لِحَقِّهِمْ، جَبْرًا لِلْفَائِتِ، لاَ ابْتِلاَءً، وَحُقُوقُ اللَّهِ
تَعَالَى شُرِعَتِ ابْتِلاَءً لاِسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْخَلْقِ،
وَلَكِنَّهُ ابْتَلاَهُمْ، لأَِنَّهُ إِلَهُنَا وَنَحْنُ عَبِيدُهُ،
وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَمْلُوكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ النِّسْيَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ضَرْبٌ أَصْلِيٌّ،
وَيُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ فِيهِ الإِْنْسَانُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّذَكُّرِ، وَهَذَا الْقِسْمُ يَصْلُحُ
عُذْرًا لِغَلَبَةِ وَجُودِهِ. وَضَرْبٌ غَيْرُ أَصْلِيٍّ أَوْ طَارِئٌ
يَقَعُ الْمَرْءُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ: بِأَنْ لَمْ يُبَاشِرْ سَبَبَ
التَّذَكُّرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ يَصْلُحُ
لِلْعِتَابِ، أَيْ لاَ يَصْلُحُ عُذْرًا لِلتَّقْصِيرِ لِعَدَمِ غَلَبَةِ
وَجُودِهِ.
__________
(1) حديث: " إذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " أخرجه
النسائي (19 / 294 ط التجارية) الكبرى والترمذي (1 / 334 ط التجارية
الكبرى) من حديث أبي قتادة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) فتح الغفار شرح المنار لابن نجيم 2 / 88، وكشف الأسرار 4 / 1397.
(40/266)
قَال الْبَزْدَوِيُّ: إِنَّمَا يَصِيرُ
النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي حَقِّ الشَّرْعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ
غَفْلَةٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ غَفْلَةٍ فَلاَ يَكُونُ عُذْرًا،
كَنِسْيَانِ الْمَرْءِ مَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تِذْكَارِهِ
بِالتَّكْرَارِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ فِيهِ بِتَقْصِيرِهِ فَيَصْلُحُ
سَبَبًا لِلْعِتَابِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ مَنْ نَسِيَ
الْقُرْآنَ بَعْدَمَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّذَكُّرِ
بِالتَّذْكَارِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النِّسْيَانَ فِي الْعِبَادَاتِ لاَ
يُقْدَحُ وَالْجَهْل يُقْدَحُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِمَا
يُقْدِمُ الإِْنْسَانُ عَلَيْهِ وَاجِبًا كَانَ الْجَاهِل فِي الصَّلاَةِ
عَاصِيًا بِتَرْكِ الْعِلْمِ، فَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ التَّرْكَ بَعْدَ
الْعِلْمِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ قَوْل مَالِكٍ: إِنِ
الْجَهْل فِي الصَّلاَةِ كَالْعَمْدِ وَالْجَاهِل كَالْمُتَعَمِّدِ لاَ
كَالنَّاسِي، وَأَمَّا النَّاسِي فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ
وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ
عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لاَ إِثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ،
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ النِّسْيَانَ يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لاَ
حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْل لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ
بِالتَّعَلُّمِ. (2)
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 4 / 1397.
(2) الفروق 2 / 146 - 149.
(40/267)
الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى
النِّسْيَانِ: يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ أَحْكَامٌ فِي الدُّنْيَا
وَفِي الآْخِرَةِ. أَوَّلاً: الْحُكْمُ الأُْخْرَوِيُّ: 4 - اتَّفَقَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مُسْقِطٌ لِلإِْثْمِ مُطْلَقًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا (1) . وَقَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا
اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) . وَلأَِنَّ النِّسْيَانَ مِنْ بَابِ تَرْكِ
الْحَقِيقَةِ بِدَلاَلَةِ مَحَل الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّ عَيْنَ الْخَطَأِ
وَأَخَوَيْهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، فَالْمُرَادُ حُكْمُهَا وَهُوَ نَوْعَانِ:
أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الْمَأْثَمُ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الْفَسَادُ،
وَالْحُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَصَارَ بَعْدَ كَوْنِهِ مَجَازًا
مُشْتَرَكًا لاَ يَعُمُّ، فَإِذَا ثَبَتَ الأُْخْرَوِيُّ إِجْمَاعًا لَمْ
يَثْبُتِ الآْخَرُ. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 286
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . " تقدم تخريجه ف (3) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 302 - 303، والأشباه والنظائر للسيوطي ص
187، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 272 - 273، وشرح مسلم الثبوت 1 /
295، وشرح الكوكب المنير 1 / 511 وما بعدها، وشرح مختصر الروضة 1 / 188 وما
بعدها.
(40/267)
ثَانِيًا: الْحُكْمُ الدُّنْيَوِيُّ: 5 -
إِنْ وَقَعَ النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ، بَل يَجِبُ
تَدَارُكُهُ وَلاَ يَحْصُل الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ
الاِئْتِمَارِ. وَإِنْ وَقَعَ النِّسْيَانُ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ
لَيْسَ مِنْ بَابِ الإِْتْلاَفِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ. أَمَّا إِنْ وَقَعَ
فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِيهِ إِتْلاَفٌ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ،
فَإِنْ وَقَعَ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يُوجِبُ عُقُوبَةً كَانَ
النِّسْيَانُ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِهَا. (1)
أَقْسَامُ النِّسْيَانِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ: قَدْ يَقَعُ
النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَقَدْ يَقَعُ
فِي الْمُعَامَلاَتِ. فَأَمَّا النِّسْيَانُ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ فِي
الْعِبَادَاتِ فَمِنْهُ:
أ - نِسْيَانُ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّل الْوُضُوءِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي
أَوَّل الْوُضُوءِ فَذَكَرَهَا خِلاَل الْوُضُوءِ فَسَمَّى لاَ تَحْصُل
السُّنَّةُ، بِخِلاَفِ نَحْوِهِ فِي الأَْكْل، تَحْصُل السُّنَّةُ فِي
الْبَاقِي لاِسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ
__________
(1) المراجع السابقة.
(40/268)
اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ
أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِسْمِ
اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ (1) . وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ
مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ
يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ (2) . وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ
الْفَضِيلَةِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ فَضَائِل
الْوُضُوءِ، وَاسْتَحْسَنَهَا مَالِكٌ مَرَّةً، وَأَنْكَرَهَا مَرَّةً،
وَالْفَضِيلَةُ لاَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا إِذَا تَرَكَهَا وَلاَ
بِالإِْعَادَةِ، أَمَّا السُّنَّةُ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا إِذَا
تَرَكَهَا. (4)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ
التَّسْمِيَةَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، فَلَوْ نَسِيَهَا فِي الاِبْتِدَاءِ
أَتَى بِهَا مَتَى ذَكَرَهَا قَبْل الْفَرَاغِ كَمَا فِي
__________
(1) حديث: " إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى. . . " أخرجه أبو داود (4
/ 139 ط حمص) والترمذي (4 / 288 ط الحلبي) وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) حديث: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "
أخرجه أبو داود (1 / 75 ط حمص) من حديث أبي هريرة، وذكر له ابن حجر في
التلخيص (1 / 251 - ط العلمية) عدة علل في إسناده، ثم خرج له شواهد أخرى،
وقال: الظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا.
(3) فتح القدير 1 / 19 - 20، وحاشية ابن عابدين 1 / 74، والذخيرة للقرافي 1
/ 282، والمقدمات لابن رشد 1 / 56.
(4) الذخيرة للقرافي 1 / 270، والفواكه الدواني 1 / 158، ومقدمات ابن رشد 1
/ 56.
(40/268)
الطَّعَامِ، فَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا
صَحَّتْ طَهَارَتُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي
دَاوُدَ، فَإِنَّهُ قَال: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ: إِذَا نَسِيَ
التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ؟ قَال: أَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ، وَهَذَا قَوْل إِسْحَاقَ، فَعَلَى هَذَا إِذَا ذَكَرَهَا فِي
أَثْنَاءِ طَهَارَتِهِ أَتَى بِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا
عَفَى عَنْهَا مَعَ السَّهْوِ فِي جُمْلَةِ الْوُضُوءِ فَفِي بَعْضِهَا
أَوْلَى، لِقَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا
اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) ، وَلأَِنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ تَتَغَايَرُ
أَفْعَالُهَا، فَكَانَ فِي وَاجِبَاتِهَا مَا يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ
وَالنِّسْيَانِ كَالصَّلاَةِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى سَائِرِ
الْوَاجِبَاتِ وَالطَّهَارَةِ، لأَِنَّ تِلْكَ تَأَكَّدَ وُجُوبُهَا
بِخِلاَفِ التَّسْمِيَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ - وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ - وَابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ
التَّسْمِيَةَ وَاجِبَةٌ فِي طَهَارَةِ الأَْحْدَاثِ كُلِّهَا، قَال بَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ وَهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ وَالْمَجْدُ وَابْنُ عَبْدُوسٍ
وَصَاحِبُ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَابْنُ عُبَيْدَانَ، وَهُوَ مَا جَزَمَ
بِهِ فِي الْمُنَوَّرِ وَقَدَّمَهُ فِي الْمُحَرَّرِ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ
فَرْضٌ لاَ تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ، لِظَاهِرِ قَوْل الرَّسُول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ، وَلاَ
وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقِيَاسًا لَهَا
عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. (2)
ب - نِسْيَانُ غَسْل عُضْوٍ فِي الْوُضُوءِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَنْ نَسِيَ غَسْل عُضْوٍ هُوَ فَرْضٌ فِي
الْوُضُوءِ أَوْ لُمْعَةٍ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ
تَدَارُكُهُ؛ لأَِنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (وُضُوء.
ج - نِسْيَانُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الْمُتَوَضِّي سُنَّةً
مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوء.
د - تَيَمُّمُ الْجُنُبِ لِلْحَدَثِ الأَْصْغَرِ نَاسِيًا الْجَنَابَةَ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ الأَْصْغَرِ
وَنَسِيَ جَنَابَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي النِّيَّةِ. فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلاَتَهُ بِهَذَا
التَّيَمُّمِ لاَ تُجْزِئُهُ.
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . " تقدم تخريجه ف (3)
.
(2) روضة الطالبين 1 / 57، ومغني المحتاج 1 / 57، والمغني لابن قدامة 1 /
103، 104، والإنصاف 1 / 128 - 129، وكشاف القاع 1 / 91، وكفاية الطالب
الرباني 1 / 146، والفواكه الدواني 1 / 158.
(40/269)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ
صَلاَتَهُ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي النِّيَّةِ
التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ
الْجُنُبُ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ جَازَ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ
(تَيَمم ف 9) .
هـ - التَّيَمُّمُ عِنْدَ نِسْيَانِ الْمَاءِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ تَيَمَّمَ عِنْدَ
نِسْيَانِ الْمَاءِ. فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَمُطَرِّفٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ
فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ لَمْ يُجْزِئْهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
لِلصَّلاَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَاءُ يُبَاعُ وَنَسِيَ ثَمَنَهُ
وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُجْزِئْهُ وَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ
لِلصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ النِّسْيَانَ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِدًا
لِلْمَاءِ، وَشَرْطُ إِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْوِجْدَانِ،
وَلأَِنَّ التَّطَهُّرَ بِالْمَاءِ يَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ فَلَمْ يَسْقُطْ
بِالنِّسْيَانِ كَالْحَدَثِ، وَلِوُجُودِ الْمَاءِ مَعَهُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل
الأَْظْهَرِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 169، والذخيرة للقرافي 1 / 362، والقليوبي وعميرة 1 /
82 - 83، والاختيار 1 / 22، وبدائع الصنائع 1 / 49.
(40/270)
الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ
الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى لَمْ يُعِدِ الصَّلاَةَ
مُطْلَقًا، وَلَوْ أُدْرِجَ الْمَاءُ فِي رَحْلِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ لَمْ
يَقْطَعِ الصَّلاَةَ، وَلَمْ يَقْضِ لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَال
الْمَاءِ؛ لأَِنَّهُ لاَ قُدْرَةَ عَلَيْهِ مَعَ النِّسْيَانِ، وَعَجْزُهُ
بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ وَهُوَ النِّسْيَانُ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَصَل الْعَجْزُ
بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوِ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرِّشَا،
فَالنِّسْيَانُ جِبِلَّةٌ فِي الْبَشَرِ خُصُوصًا إِذَا مَرَّ بِهِ أَمْرٌ
يَشْغَلُهُ عَمَّا وَرَاءَهُ، وَالسَّفَرُ مَحَل الْمَشَقَّاتِ وَمَكَانُ
الْمَخَاوِفِ فَنِسْيَانُ الأَْشْيَاءِ فِيهِ غَيْرُ نَادِرٍ؛ وَلأَِنَّهُ
لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْمَاءُ حَال الصَّلاَةِ فَلاَ يَقْضِي. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ
فِي رَحْلِهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ بِهِ - وَهَذَا يَتَنَاوَل حَال
النِّسْيَانِ وَغَيْرِهِ - وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ مَاءَهُ قَدْ فَنِيَ
فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لاَ
يُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ لاَ يَبْطُل بِالظَّنِّ فَكَانَ الطَّلَبُ
وَاجِبًا بِخِلاَفِ النِّسْيَانِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَاءُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ كَانَ
الْمَاءُ مُعَلَّقًا فِي عُنُقِهِ، فَنَسِيَهُ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ
لاَ يُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ النِّسْيَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نَادِرٌ،
وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُعَلَّقًا عَلَى الإِْكَافِ فَلاَ يَخْلُو
إِمَّا إِنْ كَانَ رَاكِبًا أَوْ سَائِقًا، فَإِنْ كَانَ رَاكِبًا وَكَانَ
الْمَاءُ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 49، والاختيار 1 / 22، والذخيرة للقرافي 1 / 362،
والقليوبي وعميرة 1 / 82 - 83.
(40/270)
مُؤَخَّرَةِ الرَّحْل فَهُوَ عَلَى
الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ،
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْل لاَ يَجُوزُ بِالإِْجْمَاعِ؛
لأَِنَّ نِسْيَانَهُ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا فَالْجَوَابُ عَلَى
الْعَكْسِ وَهُوَ إِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْل لاَ يَجُوزُ
بِالإِْجْمَاعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّهُ يَرَاهُ وَيُبْصِرُهُ
فَكَانَ النِّسْيَانُ نَادِرًا وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْل فَهُوَ
عَلَى الاِخْتِلاَفِ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى
نَاسِيًا لِلْمَاءِ فِي رَحْلِهِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ
يُعِدْ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ. (2)
و نِسْيَانُ صَلاَةٍ مَفْرُوضَةٍ: 11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ
مَنْ نَسِيَ صَلاَةً مَفْرُوضَةً وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِقَوْل
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ
صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا (3)
وَالصَّلاَةُ الْمَتْرُوكَةُ نِسْيَانًا إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً
أَوْ أَكْثَرَ، وَإِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ
مَعْرُوفَةً بِعَيْنِهَا كَالظُّهْرِ مَثَلاً أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ.
وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ: فَإِمَّا أَنْ يُعْرَفَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 49 - 50.
(2) الذخيرة للقرافي 1 / 361، والتاج والإكليل 2 / 8 - 9.
(3) تقدم تخريجه ف 3.
(40/271)
تَرْتِيبُ كُلٍّ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ
لِغَيْرِهَا مِنَ الْفَوَائِتِ أَوْ لاَ يُعْرَفُ. فَإِنْ عُرِفَتِ
الصَّلاَةُ الْمَتْرُوكَةُ وَعُرِفَ تَرْتِيبُهَا بِالنِّسْبَةِ
لِلصَّلاَةِ الْحَاضِرَةِ وَلِلْفَوَائِتِ غَيْرِهَا، قُضِيَتِ
الْمَتْرُوكَةُ بِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ
مُطْلَقًا، إِلاَّ لِعُذْرٍ. وَإِنْ لَمْ تُعْرَفِ الصَّلاَةُ
الْمَتْرُوكَةُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ تَرْتِيبُهَا كَمَا سَبَقَ قُضِيَتْ
عَلَى النَّحْوِ الَّذِي فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاء الْفَوَائِت ف 17 - 25) .
ز - تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ نِسْيَانًا: 12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ
كَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ
بِالْقَضَاءِ يَقْضِي، وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ. وَإِذَا تَرَكَ
وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَضَمِّ
سُورَةٍ عَلَيْهَا، وَرِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِي كُل فِعْلٍ مُكَرَّرٍ فِي
كُل رَكْعَةٍ أَوْ فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ، فَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا
يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا لاَ يُجْبَرُ
بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ لاَ
يَجِبُ السُّجُودُ فِي الْعَمْدِ وَإِنَّمَا تَجِبُ الإِْعَادَةُ جَبْرًا
لِنُقْصَانِهِ.
(40/271)
وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ
الصَّلاَةِ - كَجَهْرِ الإِْمَامِ بِالتَّكْبِيرِ، وَكَالاِسْتِفْتَاحِ -
فَإِنَّ صَلاَتَهُ لاَ تَفْسَدُ؛ لأَِنَّ قِيَامَ الصَّلاَةِ
بِأَرْكَانِهَا، وَقَدْ وُجِدَتْ، وَلاَ يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ.
(1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُصَلِّي إِذَا تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ
الصَّلاَةِ - كَرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ - سَهْوًا، وَطَال بِحَيْثُ لاَ
يَتَدَارَكُهُ - إِمَّا بِالْعُرْفِ وَإِمَّا بِالْخُرُوجِ مِنَ
الْمَسْجِدِ - فَإِنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل، وَأَمَّا مَعَ الْعَمْدِ فَلاَ
يَتَقَيَّدُ الْبُطْلاَنُ بِالطُّول. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي
بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِتَرْكِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ: فَقَال ابْنُ
كِنَانَةَ: تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ -
عَمْدًا أَوْ جَهْلاً - لِتَلاَعُبِهِ، وَقَدْ شَهَرَهُ فِي الْبَيَانِ.
وَقَال مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَشَهَرَهُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: لاَ
تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِ هَذِهِ السُّنَّةِ عَمْدًا أَوْ جَهْلاً،
وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ قَدْ حُوفِظَ عَلَى
أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا، وَلاَ سُجُودَ لِلسَّهْوِ؛ لأَِنَّ السُّجُودَ
إِنَّمَا هُوَ لِلسَّهْوِ. وَكَلاَمُ خَلِيلٍ يَحْتَمِل وَحْدَةَ
السُّنَّةِ، كَمَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَأَمَّا إِنْ
كَثُرَتِ السُّنَنُ الْمَتْرُوكَةُ فَإِنَّهَا تَبْطُل.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 126، وانظر تبيين الحقائق 1 / 193، وبدائع الصنائع
1 / 167.
(40/272)
وَيَحْتَمِل كَلاَمُهُ الْجِنْسَ
فَيَتَنَاوَل السُّنَّةَ وَلَوْ كَثُرَتْ. (1)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا تَرَكَ رُكْنًا مِنْ
أَرْكَانِ الصَّلاَةِ - كَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ - عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ،
وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَمَا بَعْدَ الْمَتْرُوكِ لَغْوٌ، فَإِنْ
تَذَكَّرَ قَبْل بُلُوغِ مِثْلِهِ فَعَلَهُ، وَإِلاَّ تَمَّتْ بِهِ
رَكْعَتُهُ، وَتَدَارَكَ الْبَاقِيَ مِنْ صَلاَتِهِ. وَإِنْ كَانَ
الْمَتْرُوكُ سُنَّةً مِنَ الأَْبْعَاضِ - وَهِيَ الْقُنُوتُ، وَالْقِيَامُ
لَهُ وَالتَّشَهُّدُ الأَْوَّل، وَالْجُلُوسُ لَهُ، وَالصَّلاَةُ عَلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ
الأَْوَّل، وَالصَّلاَةُ عَلَى آل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل وَالآْخِرِ - أَتَى بِسُجُودِ
السَّهْوِ إِذَا تَرَكَهَا سَهْوًا، وَكَذَا إِذَا تَرَكَهَا عَمْدًا فِي
الأَْظْهَرِ. وَأَمَّا سَائِرُ السُّنَنِ غَيْرُ الأَْبْعَاضِ فَلاَ
تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا.
(2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ - كَقِرَاءَةِ
الْفَاتِحَةِ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ - لاَ تَسْقُطُ فِي عَمْدٍ وَلاَ
سَهْوٍ وَلاَ جَهْلٍ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ
عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلاً. وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ
وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ كَالتَّكْبِيرِ لِلاِنْتِقَال، وَالتَّسْبِيحِ
وَالتَّحْمِيدِ عَامِدًا بَطَلَتْ
__________
(1) الخرشي 1 / 334، 335.
(2) مغني المحتاج 1 / 179، 205 - 206، وروضة الطالبين 1 / 223، ونهاية
المحتاج1 / 62 - 66.
(40/272)
صَلاَتُهُ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا
سَاهِيًا أَوْ جَاهِلاً أَتَى بِسَجْدَتَيِ السَّهْوِ. وَأَمَّا السُّنَنُ
- كَالاِسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ - فَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ
بِتَرْكِهَا وَلَوْ عَمْدًا (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة ف 10
- 14، 115 - 124) .
ح - نِسْيَانُ النَّجَاسَةِ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبِهِ: 13 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ
صِحَّةِ الصَّلاَةِ نَاسِيًا فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل (2) وَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ عَنْ بَدَنِ
الْمُصَلِّي وَمَكَانِهِ وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، فَمَنْ
صَلَّى بِهَا فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا قَادِرًا أَعَادَ الصَّلاَةَ أَبَدًا،
وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ عَاجِزًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ أَعَادَ
الصَّلاَةَ فِي الْوَقْتِ نَدْبًا. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِنَجَسٍ لاَ يُعْفَى
عَنْهُ لَمْ يَعْلَمْهُ فِي ابْتِدَاءِ صَلاَتِهِ ثُمَّ عَلِمَ كَوْنَهُ
فِيهَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الْجَدِيدِ؛ لأَِنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرُ
مُعْتَدٍّ بِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَفِي الْقَدِيمِ: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْقَضَاءُ لِعُذْرِهِ بِالنِّسْيَانِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ
__________
(1) المغني 2 / 3، 6، وكشاف القناع 1 / 385 - 391.
(2) الحموي 3 / 293 - 294 ط دار الكتب العلمية، وابن عابدين 1 / 166.
(3) حاشية الدسوقي مع الدردير 1 / 65، 67، 68.
(40/273)
بِهَا، وَلِحَدِيثِ خَلْعِ النَّعْلَيْنِ
فِي الصَّلاَةِ، وَفِيهِ: فَقَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ جِبْرِيل أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا (1) .
وَالرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَأْنِفِ
الصَّلاَةَ، وَاخْتَارَ هَذَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ عَلِمَ بِالنَّجَسِ
ثُمَّ نَسِيَ فَصَلَّى ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَهُ
أَعَادَهَا، أَوْ بَعْدَهُ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَذْهَبِ
الْمَقْطُوعِ بِهِ لِتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ التَّطْهِيرِ لَمَّا عَلِمَ
بِهِ. وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الإِْعَادَةَ فَيَجِبُ إِعَادَةُ كُل صَلاَةٍ
تَيَقَّنَ فِعْلُهَا مَعَ النَّجَاسَةِ، فَإِنِ احْتَمَل حُدُوثُهَا بَعْدَ
الصَّلاَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل فِي كُل حَادِثٍ
تَقْدِيرُ وُجُودِهِ فِي أَقْرَبِ زَمَنٍ، وَالأَْصْل عَدَمُ وُجُودِهِ
قَبْل ذَلِكَ، قَال فِي الأَْنْوَارِ: إِذَا صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ مَثَلاً
نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَالْمَرْجُوُّ مِنْ عَفْوِ
اللَّهِ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ صَلَّى وَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ
نَجَاسَةٌ فِي الصَّلاَةِ وَلَكِنْ جَهِلَهَا أَوْ نَسِيَ لاَ تَصِحُّ
صَلاَتُهُ فَيُعِيدُهَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَفِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ تَصِحُّ صَلاَتُهُ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ
الأَْكْثَرِينَ. (3)
__________
(1) حديث: " إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا " أخرجه أبو داود (1 /
426 ط حمص) والحاكم في المستدرك (1 / 260 - ط إدارة المعارف العثمانية) من
حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) مغني المحتاج 1 / 194، وروضة الطالبين 1 / 282.
(3) الإنصاف 1 / 486، وانظر كشاف القناع 1 / 292.
(40/273)
ط - نِسْيَانُ سُجُودِ السَّهْوِ: 14 -
إِذَا سَهَا الْمُصَلِّي عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ فَانْصَرَفَ مِنَ
الصَّلاَةِ دُونَ سُجُودٍ فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَيْهِ وَيُؤَدِّيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُجُود السَّهْو ف 9) .
ي - زَكَاةُ الْمَال الْمَنْسِيِّ: 15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ
مَال الضِّمَارِ، مِنْ حَيْثُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ إِذَا وَصَل إِلَى
يَدِ مَالِكِهِ بَعْدَ إِيَاسِهِ مِنَ الْحُصُول عَلَيْهِ. وَمِنْ
صُوَرِهِ: الْمَال الْمُودَعُ عِنْدَ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ إِذَا نَسِيَ
شَخْصَهُ سِنِينَ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِلسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ إِذَا
وَصَلَتْ إِلَيْهِ يَدُهُ. الثَّانِي: لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
وَيَسْتَقْبِل مَالِكُهُ حَوْلاً مُسْتَأْنِفًا مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ.
الثَّالِثُ: يُزَكِّيهِ مَالِكُهُ إِذَا قَبَضَهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضِمَار ف 3، 12 وَمَا بَعْدَهَا) .
ك - نِسْيَانُ قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَسِيَ قَضَاءَ رَمَضَانَ
حَتَّى دَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ.
(40/274)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
الْمَذْهَبُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالسُّيُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى
أَنَّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ
آخَرُ، فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ يَصُومُ رَمَضَانَ الْحَاضِرَ ثُمَّ يَقْضِي
الأَْوَّل وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ. وَمِنَ
الأَْعْذَارِ النِّسْيَانُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ. وَقَال
الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْقُطُ
عَنْهُ بِذَلِكَ الإِْثْمُ لاَ الْفِدْيَةُ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ
حَتَّى دَخَل رَمَضَانُ آخَرُ فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ
عَلَى التَّرَاخِي عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَعْنَى التَّرَاخِي أَنَّهُ يَجِبُ
فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي جَمِيعِ
الأَْوْقَاتِ، إِلاَّ الأَْوْقَاتِ الْمُسْتَثْنَاةَ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ
بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ اللَّيْل بِخِلاَفِ الأَْدَاءِ، وَالْفِدْيَةُ
شَرْطُ الْعَجْزِ عَنِ الْقَضَاءِ عَجْزًا لاَ تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ
فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ. (2)
وَقَال الْبُرْزُلِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ
النَّاسِيَ لِقَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ
__________
(1) المجموع 6 / 366، ومغني المحتاج 1 / 441، وروضة الطالبين 2 / 384،
وكفاية الطالب الرباني 1 / 343، والمغني لابن قدامة 3 / 144 - 145،
والإنصاف 3 / 333 - 334.
(2) بدائع الصنائع 2 / 104، 105.
(40/274)
آخَرُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ
عَنْ كُل يَوْمٍ، وَلاَ يُعْذَرُ إِلاَّ بِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى
الصَّوْمِ مِنْ زَمَنِ تَعَيُّنِ وَقْتِهِ إِلَى دُخُول رَمَضَانَ
الثَّانِي. (1)
ل - أَثَرُ النِّسْيَانِ فِي قَطْعِ تَتَابُعِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ
تَتَابُعُهُ: وَفِيهِ مَسَائِل: الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: الأَْكْل
وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ نِسْيَانًا: 17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ الأَْكْل وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ نِسْيَانًا
فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ الْوَاجِبِ التَّتَابُعُ فِيهَا لاَ يَقْطَعُ
التَّتَابُعَ لِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا
اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلْمَشْهُورِ -
وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ، إِلَى
أَنَّهُ يَقْطَعُهُ. (3)
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 450، والشرح الصغير 1 / 721، والخرشي 2 / 263، وكفاية
الطالب الرباني 1 / 343.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . " تقدم تخريجه ف 3
(3) الفتاوى الهندية 1 / 512، وحاشية الدسوقي 2 / 450، والأشباه للسيوطي
188، 190، 191، ومغني المحتاج 3 / 365 وروضة الطالبين 8 / 302، 303،
والإنصاف 9 / 226، وكشاف القناع 5 / 384.
(40/275)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَرْكُ
النِّيَّةِ نِسْيَانًا فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ تَتَابُعُهُ: 18 - ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نِسْيَانَ
النِّيَّةِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ تَتَابُعُهُ
يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَتَرْكِهَا عَمْدًا، وَلاَ يُجْعَل النِّسْيَانُ
عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَكْفِي نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِكُل
صَوْمٍ يَجِبُ تَتَابُعُهُ كَرَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ الَّتِي يَجِبُ
تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِيهَا (2) ، وَقَالُوا: لَوْ بَيَّتَ الْفِطْرَ
نَاسِيًا لِلصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَلَى الْمَشْهُورِ
مِنَ الْمَذْهَبِ خِلاَفًا لاِبْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ حَيْثُ عَذَرَهُ فِي
تَفْرِيقِ الصَّوْمِ بِالنِّسْيَانِ. (3)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَطْءُ الْمُظَاهِرِ نِسْيَانًا: 19 - ذَهَبَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ إِنْ جَامَعَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا
لَيْلاً أَوْ نَهَارًا وَلَوْ نَاسِيًا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ
وَيَسْتَقْبِل الصَّوْمَ. (4)
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 196، وروضة الطالبين 8 / 302، ومغني المحتاج 3 /
365 - 366، والإنصاف 3 / 293، والمغني 3 / 94 - 95.
(2) الشرح الصغير 1 / 617.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 452.
(4) فتح القدير 3 / 239 - 240، وحاشية الدسوقي 2 / 452، والإنصاف 9 / 227،
وكشاف القناع 5 / 384.
(40/275)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ
جَامَعَ الْمُظَاهِرُ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِاللَّيْل
قَبْل التَّكْفِيرِ أَوْ أَثْنَاءَ شَهْرَيْ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ أَثِمَ؛
لأَِنَّهُ جَامَعَ قَبْل التَّكْفِيرِ، وَلاَ يَبْطُل التَّتَابُعُ لأَِنَّ
جِمَاعَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الصَّوْمِ فَلَمْ يَقْطَعِ التَّتَابُعَ
كَالأَْكْل بِاللَّيْل (1) ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ
حَيْثُ قَال: إِذَا جَامَعَ الْمُظَاهِرُ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا
بِالنَّهَارِ نَاسِيًا أَوْ بِاللَّيْل عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا لاَ
يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ التَّتَابُعَ، إِذْ لاَ
يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ. (2)
م - نِسْيَانُ نَذْرِ صَوْمِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ: 20 - قَال الْمَالِكِيَّةُ:
مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ صَامَ الْجُمْعَةَ
كُلَّهَا عَلَى الْمُخْتَارِ، فَإِنْ صَامَ الْيَوْمَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي
نَذَرَهُ، ثُمَّ أَفْطَرَ فِيهِ نَاسِيًا ثُمَّ نَسِيَ أَيَّ يَوْمٍ كَانَ
مِنَ الْجُمْعَةِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ يَنْوِي بِهِ ذَلِكَ
الْيَوْمَ، فَلَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ فَنَوَاهُ لِقَضَائِهِ
ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَذَرَ يَوْمًا عَيَّنَهُ مِنْ أُسْبُوعٍ
ثُمَّ نَسِيَهُ صَامَ آخِرَ الأُْسْبُوعِ وَهُوَ الْجُمْعَةُ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ هُوَ الْيَوْمَ الَّذِي عَيَّنَهُ وَقَعَ صَوْمُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ
__________
(1) المهذب للشيرازي 2 / 118، ومغني المحتاج 3 / 366.
(2) العناية بهامش فتح القدير 3 / 239.
(3) مواهب الجليل 2 / 453.
(40/276)
قَضَاءً عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ
وَفَى بِمَا الْتَزَمَهُ. (1)
ن - نِسْيَانُ مَا أَحْرَمَ الشَّخْصُ بِهِ مِنَ النُّسُكِ: 21 - ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ بِإِحْرَامِهِ شَيْئًا مِنَ
النُّسُكِ وَنَسِيَهُ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ احْتِيَاطًا
لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، وَلاَ يَكُونُ قَارِنًا، فَإِنْ
أُحْصِرَ تَحَلَّل بِدَمٍ وَاحِدٍ وَيَقْضِي حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَإِنْ
جَامَعَ مَضَى فِيهِمَا وَيَقْضِيهِمَا، إِنْ شَاءَ جَمَعَ، وَإِنْ شَاءَ
فَرَّقَ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِشَيْئَيْنِ وَنَسِيَهُمَا لَزِمَهُ فِي
الْقِيَاسِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ وَفِي الاِسْتِحْسَانِ حَجَّةٌ
وَعُمْرَةٌ؛ حَمْلاً لأَِمْرِهِ عَلَى الْمَسْنُونِ وَالْمَعْرُوفِ وَهُوَ
الْقِرَانُ، بِخِلاَفِ مَا قَبْلَهُ إِذْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إِحْرَامَهُ
كَانَ بِشَيْئَيْنِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ إِحْرَامًا وَنَسِيَ
مَا أَحْرَمَ بِهِ أَهُوَ إِفْرَادٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ قِرَانٌ؟
فَقِرَانٌ، بِأَنْ يَعْمَل عَمَلَهُ وَيَهْدِيَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ
أَحْرَمَ أَوَّلاً بِحَجٍّ أَوْ قِرَانٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَإِنْ
كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَقَدْ أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَيْهَا،
وَبَرِئَ مِنَ الْحَجِّ فَقَطْ لاَ مِنَ الْعُمْرَةِ، فَيَأْتِي بِهَا
لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ الأَْوَّل بِإِفْرَادٍ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 360.
(2) فتح القدير 2 / 344.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 27.
(40/276)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا
نَسِيَ الْمُحْرِمُ مَا أَحْرَمَ بِهِ جَعَل نَفْسَهُ قَارِنًا وَعَمِل
أَعْمَال النُّسُكَيْنِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالإِْحْرَامِ يَقِينًا
فَلاَ يَتَحَلَّل إِلاَّ بِيَقِينِ الإِْتْيَانِ بِالْمَشْرُوعِ فِيهِ (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكِ تَمَتُّعٍ
أَوْ إِفْرَادٍ أَوْ قِرَانٍ، أَوْ أَحْرَمَ بِنَذْرٍ وَنَسِيَ مَا
أَحْرَمَ بِهِ، أَوْ نَسِيَ مَا نَذَرَهُ قَبْل طَوَافٍ، صَرَفَهُ
لِلْعُمْرَةِ نَدْبًا؛ لأَِنَّهَا الْيَقِينُ، وَيَجُوزُ صَرْفُ
إِحْرَامِهِ لِغَيْرِ الْعُمْرَةِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ،
وَيَلْزَمُهُ دَمُ مُتْعَةٍ بِشُرُوطِهِ. وَإِنْ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ،
أَوْ نَذَرَهُ بَعْدَ طَوَافٍ وَلاَ هَدْيَ مَعَ النَّاسِي، يَتَعَيَّنُ
صَرْفُهُ إِلَى الْعُمْرَةِ؛ لاِمْتِنَاعِ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَيْهَا
بَعْدَ طَوَافِهَا لِمَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ. وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ
وَطَافَ ثُمَّ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ صَرَفَ إِحْرَامَهُ لِلْحَجِّ
وُجُوبًا، وَأَجْزَأَ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ فَقَطْ
لِصِحَّتِهِ بِكُل حَالٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّل قَبْل تَمَامِ
نُسُكِهِ. (2)
س - نِسْيَانُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ: 22 - ذَهَبَ
الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّل الأَْكْل
أَوِ الشُّرْبِ أَتَى بِهَا؛ حَيْثُ ذَكَرَهَا لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَال:
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 478.
(2) مطالب أولي النهى 2 / 318، 320.
(40/277)
" إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ طَعَامًا
فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ
اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ
وَآخِرَهُ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي (أَكْل ف 11، بَسْمَلَة ف 10) .
ع - نِسْيَانُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ: 23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ
إِلَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الذَّابِحُ الَّذِي تَحِل ذَبِيحَتُهُ
التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَإِنَّ ذَبِيحَتَهُ تَحِل. وَفِي
رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَحْرُمُ. وَالتَّفْصِيل فِي (بَسْمَلَة
ف 8، وَذَبَائِح ف 31) .
ف - تَأْثِيرُ النِّسْيَانِ فِي الشَّهَادَةِ: 24 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ
عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ ثُمَّ قَال:
أَخْطَأْتُ بِنِسْيَانِ مَا يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ، أَوْ أَتَيْتُ بِمَا
لاَ يَجُوزُ لِي: فَإِمَّا أَنْ يَقُول ذَلِكَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ
الْقَاضِي أَوْ بَعْدَمَا قَامَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، وَعَلَى
كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلاً أَوْ غَيْرَهُ،
وَالْمُتَدَارِكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ
وَالتَّغْرِيرِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ لاَ.
__________
(1) حديث: " إذا أكل أحدكم. . . " تقدم تخريجه ف 6
(40/277)
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ رُدَّتْ
شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَالَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ،
فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَوْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ عَدْلاً قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ، مِثْل أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ
الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، مِثْل أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ اسْمِ
الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوِ الإِْشَارَةَ إِلَى أَحَدِهِمَا،
سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. وَتَدَارُكُ
تَرْكِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ قَبْل الْقَضَاءِ إِذْ
مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّاهِدُ بِلَفْظِ: أَشْهَدُ،
وَالْمَشْرُوطُ لاَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ
فِي مَوْضِعِ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ كَمَا إِذَا شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ
قَال: غَلِطْتُ بَل هِيَ خَمْسُمِائَةٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّهَا
تُقْبَل إِذَا قَال فِي الْمَجْلِسِ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ أَوَّلاً عِنْدَ
بَعْضِ الْمَشَايِخِ؛ لأَِنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ
عَلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، وَوَجَبَ قَضَاؤُهُ فَلاَ يَسْقُطُ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: أَوْهَمْتُ، وَبِمَا بَقِيَ أَوْ زَادَ عِنْدَ آخَرِينَ؛
لأَِنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعَدْل فِي الْمَجْلِسِ
كَالْمَقْرُونِ بِأَصْلِهَا، وَإِلَيْهِ مَال السَّرَخْسِيُّ. وَهَذَا
التَّدَارُكُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْل الْقَضَاءِ بِتِلْكَ
الشَّهَادَةِ وَبَعْدَهَا. وَوَجْهُ قَبُولِهِ مِنَ الْعَدْل فِي مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ أَنَّ
(40/278)
الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ،
لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا، إِذْ طَبْعُ
الْبَشَرِ النِّسْيَانُ، وَعَدَالَتُهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ تُوجِبُ
قَبُول قَوْلِهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْدَمَا قَامَ عَنِ
الْمَجْلِسِ فَلاَ يُقْبَل؛ لأَِنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنَ
الْمُدَّعِي بِإِطْمَاعِهِ الشَّاهِدَ بِحُطَامِ الدُّنْيَا وَالنُّقْصَانِ
مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمِثْل ذَلِكَ، فَوَجَبَ الاِحْتِيَاطُ. (1)
الْقِسْمُ الثَّانِي: النِّسْيَانُ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ
فِيهِ إِتْلاَفٌ: النِّسْيَانُ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ
بَابِ الإِْتْلاَفِ لَهُ صُوَرٌ مِنْهَا: أ - وَطْءُ الرَّجُل امْرَأَتَهُ
الْحَائِضَ نِسْيَانًا: 25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَطْءَ
الْحَائِضِ كَبِيرَةٌ إِنْ كَانَ عَامِدًا مُخْتَارًا عَالِمًا
بِالْحُرْمَةِ، لاَ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَتَلْزَمُهُ
التَّوْبَةُ، وَيُنْدَبُ تَصَدُّقُهُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِهِ،
وَمَصْرِفُهُ كَزَكَاةٍ، وَهَل عَلَى الْمَرْأَةِ تَصَدُّقٌ؟ قَال فِي
الضِّيَاءِ: الظَّاهِرُ لاَ (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَطْءُ الْحَائِضِ
فِي الْفَرْجِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ
الْمُخْتَارِ، وَيُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ، بِخِلاَفِ الْجَاهِل وَالنَّاسِي
وَالْمُكْرَهِ (3)
__________
(1) العناية شرح الهداية بهامش فتح القدير 6 / 50.
(2) الدر المختار 1 / 198 ط بولاق.
(3) مغني المحتاج 1 / 110.
(40/278)
لِخَبَرِ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ
أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) .
ب - الْكَلاَمُ فِي الصَّلاَةِ نِسْيَانًا: 26 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلاَمَ فِي الصَّلاَةِ نَاسِيًا لاَ
يُبْطِل الصَّلاَةَ إِنْ كَانَ الْكَلاَمُ يَسِيرًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ،
فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُبْطِل الصَّلاَةَ (2) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
إِلَى أَنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ - وَمِثْلُهَا سُجُودُ السَّهْوِ
وَالتِّلاَوَةِ وَالشُّكْرِ عَلَى الْقَوْل بِهِ - التَّكَلُّمُ وَهُوَ
النُّطْقُ بِحَرْفَيْنِ، أَوْ حَرْفٍ مُفْهِمٍ كَ ـ (عِ، قِ، أَمْرًا)
عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا قَبْل قُعُودِهِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ (3)
لِحَدِيثِ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ
كَلاَمِ النَّاسِ (4) . وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِذَا
تَكَلَّمَ الْمُصَلِّي سَهْوًا فِي صَلاَتِهِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ إِمَامًا
كَانَ الْمُصَلِّي
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ. . . . " تقدم تخرجه ف 3
(2) الفواكه الدواني 1 / 261، والشرح الصغير 1 / 344، ومغني المحتاج 1 /
195.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 412، وتبيين الحقائق 1 / 154.
(4) حديث: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " أخرجه مسلم (1
/ 381 - 382 ط الحلبي) من حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه.
(40/279)
أَوْ غَيْرَهُ، فَرْضًا كَانْتِ الصَّلاَةُ
أَوْ نَفْلاً (1) وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِالتَّكَلُّمِ
نَاسِيًا (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة ف 107) .
ج - الأَْكْل وَالشُّرْبُ فِي الصَّلاَةِ نِسْيَانًا: 27 - ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ
أَكَل أَوْ شَرِبَ يَسِيرًا نَاسِيًا أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ لَمْ تَبْطُل
صَلاَتُهُ (3) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ
فِي الصَّلاَةِ وَلَوْ سِمْسِمَةً، أَوْ وَقَعَ فِي فِيهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ
فَابْتَلَعَهَا وَلَوْ نَاسِيًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَأْكُولٌ دُونَ الْحِمْصَةِ فَابْتَلَعَهَا فَإِنَّهُ
لاَ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلاَةُ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة
ف 113) .
د - الأَْكْل وَالشُّرْبُ أَوِ الْجِمَاعُ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ: 28 -
لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي أَثَرِ النِّسْيَانِ عَلَى مَنْ أَكَل أَوْ
شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا.
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 520.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 46
(3) حاشية الدسوقي 1 / 289، ونهاية المحتاج 2 / 48، وكشاف القناع 1 / 398،
ومطالب أولي النهى 1 / 538.
(4) رد المحتار على الدر المختار 1 / 418.
(40/279)
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا
أَكَل الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ، لِمَا
وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِذَا نَسِيَ فَأَكَل
وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ
(1) ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي
الْوِقَاعِ بِدَلاَلَةِ النَّصِّ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَظِيرٌ
لِلآْخَرِ فِي كَوْن الْكَفِّ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُكْنًا فِي
الصَّوْمِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ
فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي
الْفَرْضِ مُطْلَقًا أَفْطَرَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ غَلَبَةً أَوْ
إِكْرَاهًا، كَانَ الْفَرْضُ أَصْلِيًّا أَوْ نَذْرًا، وَوَجَبَ
الإِْمْسَاكُ مُطْلَقًا أَفْطَرَ عَمْدًا أَوْ لاَ، وَكَذَا الْجِمَاعُ
نَاسِيًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَفِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إِنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ
الإِْمْسَاكُ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
جُمْهُورُهُمْ: إِنْ أَكَل الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ
وَإِنْ كَثُرَ الأَْكْل لِلْحَدِيثِ.
__________
(1) حديث: " إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 4 / 155 ط السلفية) .
(2) فتح القدير 2 / 254، والعناية بهامش فتح القدير 2 / 255.
(3) الدسوقي 1 / 525، 526، وكفاية الطالب الرباني 1 / 347، والقوانين
الفقهية ص 121.
(40/280)
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا كَثُرَ الأَْكْل
أَوِ الشُّرْبُ أَفْطَرَ؛ لأَِنَّ النِّسْيَانَ مَعَ الْكَثْرَةِ نَادِرٌ،
وَلِهَذَا بَطَلَتِ الصَّلاَةُ بِكَثِيرِ الْكَلاَمِ دُونَ قَلِيلِهِ،
وَالْكَثِيرُ كَمَا فِي الأَْنْوَارِ ثَلاَثُ لُقَمٍ. وَالْجِمَاعُ
نَاسِيًا كَالأَْكْل نَاسِيًا فَلاَ يُفْطِرُ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ أَوِ احْتَجَمَ أَوِ
اسْتَعَطَ أَوْ أَدْخَل إِلَى جَوْفِهِ شَيْئًا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ،
أَوْ قَبَّل فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَل،
فَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَلاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِ (2) وَقَالُوا فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِنَّ مَنْ
جَامَعَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فِي الْفَرْجِ، فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ قُبُلاَ كَانَ الْفَرْجُ أَوْ دُبُرًا. وَعَنِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ: لاَ يُكَفِّرُ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ابْنُ
بَطَّةَ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: لَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ
الْكَفَّارَةَ مَاحِيَةٌ، وَمَعَ النِّسْيَانِ لاَ إِثْمَ يَنْمَحِي.
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ كَذَلِكَ: وَلاَ يَقْضِي أَيْضًا، وَاخْتَارَ
هَذَا الْقَوْل الآْجُرِّيُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَالشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَصَاحِبُ الْفَائِقِ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 430، وروضة الطالبين 2 / 360.
(2) المغني 3 / 102، 116، وانظر كشاف القناع 2 / 317، 320، والإنصاف 3 /
304.
(3) الإنصاف 3 / 311.
(40/280)
هـ - الْجِمَاعُ نَاسِيًا فِي
الاِعْتِكَافِ: 29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ
جَامَعَ فِي اعْتِكَافِهِ نَاسِيًا فَإِنَّ اعْتِكَافَهُ يَبْطُل
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ
يَبْطُل بِالْجِمَاعِ مِنْ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرٍ لَهُ، فَمَنْ
جَامَعَ نَاسِيًا لاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ
(اعْتِكَاف ف 27) .
و الْجِمَاعُ فِي الْحَجِّ نَاسِيًا: 30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ
الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ جِنَايَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْجَزَاءُ.
وَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى
أَنَّ الْعَامِدَ وَالْجَاهِل وَالسَّاهِيَ وَالنَّاسِيَ وَالْمُكْرَهَ فِي
ذَلِكَ سَوَاءٌ، لَكِنِ اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْفِدَاءِ
الْمَوْطُوءَةَ كُرْهًا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَطْءُ النَّاسِي لاَ
يُفْسِدُ الإِْحْرَامَ. وَالتَّفْصِيل فِي (إِحْرَام ف 170 وَمَا
بَعْدَهَا، وَكفاره ف 47) .
ز - النِّسْيَانُ فِي الطَّلاَقِ: لِلنِّسْيَانِ فِي الطَّلاَقِ صُوَرٌ:
__________
(1) سورة البقرة / 187
(40/281)
31 - مِنْهَا: مَا لَوْ طَلَّقَ نَاسِيًا
أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَثَلاً أَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا نَاسِيًا
أَنَّهَا زَوْجَتُهُ. فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ طَلاَقَ النَّاسِي وَاقِعٌ. وَقَال
الطُّوفِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الأَْشْبَهُ عَدَمُ وُقُوعِ طَلاَقِ
النَّاسِي؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلاَ عِبَارَةَ لِغَيْرِ
مُكَلَّفٍ. (1)
32 - وَمِنْهَا: لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ عَلَى أَمْرٍ فَفَعَلَهُ
نَاسِيًا: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعَامِدُ وَالنَّاسِي فِي الطَّلاَقِ
سَوَاءٌ، فَإِنْ عَلَّقَ طَلاَقَهُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ فِعْل غَيْرِهِ،
فَحَصَل الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا،
فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهِ؛ لأَِنَّ الْفِعْل شَرْطُ الْوُقُوعِ،
وَالْفِعْل الْحَقِيقِيَّ لاَ يَنْعَدِمُ بِالنِّسْيَانِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَنْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِفِعْل شَيْءٍ
فَفَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً فَفِي وُقُوعِ
الطَّلاَقِ قَوْلاَنِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَالرُّويَانِيُّ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 303، ومغني المحتاج 3 / 288، والأشباه للسيوطي ص
192 - 193، ونزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر 1 / 140، وشرح مختصر
الروضة للطوفي 1 / 190، وكشاف القناع 5 / 315، وانظر شرح الزرقاني 4 / 84،
والشرح الكبير للدردير 2 / 365، وجواهر الإكليل 1 / 339.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 303، وحاشية ابن عابدين 3 / 342، 709.
(40/281)
وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الأَْظْهَرَ فِي
الأَْيْمَانِ لاَ يَحْنَثُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ
يَكُونَ الطَّلاَقُ مِثْلَهُ، وَقَطَعَ الْقَفَّال بِأَنَّهُ يَقَعُ
الطَّلاَقُ، وَالْمَذْهَبُ الأَْوَّل، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ
الشَّافِعِيَّةِ (1) لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ
أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ بِفِعْل غَيْرِهِ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا
مِمَّنْ يُبَالِي بِتَعْلِيقِهِ، بِأَنْ تَقْضِيَ الْعَادَةُ
وَالْمُرُوءَةُ بِأَنَّهُ لاَ يُخَالِفُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ لِنَحْوِ
حَيَاءٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ حُسْنِ خُلُقٍ، قَال فِي التَّوْضِيحِ: فَلَوْ
نَزَل بِهِ عَظِيمُ قَرْيَةٍ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَتَرَحَّل حَتَّى
يُضِيفَهُ وَعَلِمَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِتَعْلِيقِهِ، يَعْنِي وَقَصَدَ
إِعْلاَمَهُ بِهِ فَلاَ يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ: نَاسِيًا لِلتَّعْلِيقِ أَوِ
الْمُعَلَّقِ بِهِ أَوْ مُكْرَهًا، وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدِ
الْحَالِفُ حَثَّهُ أَوْ مَنْعَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي
بِتَعْلِيقِهِ كَالسُّلْطَانِ وَالْحَجِيجِ، أَوْ كَانَ يُبَالِي وَلَمْ
يَعْلَمْ وَتَمَكَّنَ مِنْ إِعْلاَمِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ، فَيَقَعُ
قَطْعًا وَلَوْ نَاسِيًا؛ لأَِنَّ الْحَلِفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ
حِينَئِذٍ غَرَضُ حَثٍّ وَلاَ مَنْعٍ، لأَِنَّهُ مَنُوطٌ بِوُجُودِ صُورَةِ
الْفِعْل.
وَلَوْ عَلَّقَ بِقُدُومٍ وَهُوَ عَاقِلٌ، فَجُنَّ ثُمَّ قَدِمَ، لَمْ
يَقَعْ كَمَا فِي الْكِفَايَةِ عَنِ الطَّبَرِيِّ، وَحُكْمُ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 192 - 193، ونهاية المحتاج 7 / 34.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . " تقدم تخريجه ف 3
(40/282)
الْيَمِينِ فِيمَا ذُكِرَ كَالطَّلاَقِ،
وَلاَ تَنْحَل بِفِعْل الْجَاهِل وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ (1) وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: إِنْ حَلَفَ لاَ يَفْعَل شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا
حَنَثَ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ لِوُجُودِ شَرْطِهِمَا، وَإِنْ لَمْ
يَقْصِدْهُ كَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قَدِمَ الْحَاجُّ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ
وَالْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا حَقُّ آدَمِيٍّ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ
مَعَ النِّسْيَانِ كَالإِْتْلاَفِ. وَلاَ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ
مَعَ النِّسْيَانِ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ لِدَفْعِ الإِْثْمِ،
وَلاَ إِثْمَ عَلَى النَّاسِي. وَمَنْ يَمْتَنِعُ بِيَمِينِ الْحَالِفِ
إِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَقَصَدَ بِيَمِينِهِ مَنْعَهُ كَأَنْ يَحْلِفَ
عَلَى زَوْجَتِهِ أَوْ نَحْوِهَا لاَ تَدْخُل دَارًا فَدَخَلَتْهَا
نَاسِيَةً، فَعَلَى مَا سَبَقَ يَحْنَثُ فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ
فَقَطْ. وَأَمَّا إِنْ حَلَفَ عَلَى حَقٍّ لاَ يَمْتَنِعُ بِيَمِينِهِ
كَسُلْطَانٍ وَأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَحْنَثُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ
كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا؛
لأَِنَّهُ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ فَحَنِثَ بِوُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. (2)
33 - وَمِنْهَا: مَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ وَكَانَ قَدْ
عَيَّنَهَا ثُمَّ نَسِيَ التَّعْيِينَ.
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 34 - 35، وروضة الطالبين 8 / 192 - 193.
(2) كشاف القناع 5 / 315، ومطالب أولي النهى 5 / 447 - 449.
(40/282)
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال
لِزَوْجَاتِهِ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ مُعَيَّنَةً أَوْ
عَيَّنَهَا وَنَسِيَهَا فَالْجَمِيعُ يُطَلَّقْنَ (1) وَقَال
الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا كَأَنْ خَاطَبَهَا
بِهِ أَوْ نَوَاهَا، عِنْدَ قَوْلِهِ " طَالِقٌ " ثُمَّ جَهِلَهَا بِنَحْوِ
نِسْيَانٍ وَقَّفَ حَتْمًا الأَْمْرَ مِنْ وَطْءٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُمَا
حَتَّى يَتَذَكَّرَ لِحُرْمَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَيْهِ يَقِينًا، وَلاَ
دَخْل لِلاِجْتِهَادِ هُنَا، وَلاَ يُطَالَبُ بِبَيَانٍ لِلْمُطَلَّقَةِ
إِنْ صَدَّقَتَاهُ فِي الْجَهْل بِهَا؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَإِنْ
كَذَّبَتَاهُ وَبَادَرَتْ وَاحِدَةٌ وَادَّعَتْ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ
طُولِبَ بِيَمِينٍ جَازِمَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلاَ يَقْنَعُ
مِنْهُ بِ: نَسِيتُ وَإِنِ احْتَمَل، فَإِنْ نَكَل حَلَفَتْ وَقُضِيَ
لَهَا، فَإِنْ قَالَتِ الأُْخْرَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ، وَلَوِ ادَّعَتْ
كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَعْلَمُ الَّتِي عَنَاهَا
بِالطَّلاَقِ وَسَأَلَتْ تَحْلِيفَهُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ
وَلَمْ تَقُل إِنَّهُ يَعْلَمُ الْمُطَلَّقَةَ فَالْوَجْهُ - كَمَا قَالَهُ
الأَْذْرَعِيُّ - سَمَاعُ دَعْوَاهَا وَتَحْلِيفُهُ عَلَى ذَلِكَ. (2)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: النِّسْيَانُ " فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلاَفٌ: 34 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ
أَثَرَ لِلنِّسْيَانِ عَلَى ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ
مَال غَيْرِهِ نَاسِيًا
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 589 - 590.
(2) نهاية المحتاج 6 / 462 - 463، وانظر روضة الطالبين 8 / 102.
(40/283)
يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّ
حُقُوقَ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ لِحَاجَتِهِمْ، وَلأَِنَّ الضَّمَانَ مِنَ
الْجَوَابِرِ، وَالْجَوَابِرُ لاَ تَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ. وَكَذَلِكَ
الْحُكْمُ إِذَا جَنَى جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَ
النَّفْسِ نَاسِيًا وَهِيَ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ الْمَال فَتَجِبُ الدِّيَةُ
أَوِ الأَْرْشُ (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَتْلَفَ مَال غَيْرِهِ
أَوْ تَسَبَّبَ فِي إِتْلاَفِهِ عُدْوَانًا فَهُوَ ضَامِنٌ، سَوَاءٌ فَعَل
ذَلِكَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. (2)
نَشْل
انْظُرْ: طرار.
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 1356، والمنثور في القواعد 3 / 275، والأشباه للسيوطي
ص 188، 192، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 2، وشرح مختصر الروضة
للطوفي 1 / 199، 190، ونزهة الخاطر شرح روضة الناظر 1 / 139 - 140.
(2) القوانين الفقهية ص 218.
(40/283)
نُشُوزٌ
التَّعْرِيفُ: 1 - النُّشُوزُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّشْزِ، وَهُوَ:
الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، كَالنَّشَازِ وَالنَّشَزِ، يُقَال: نَشَزَ
الشَّيْءُ نَشْزًا وَنُشُوزًا: ارْتَفَعَ، وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ
تَنْشُزُ: عَصَتْ زَوْجَهَا وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ. وَيُقَال: نَشَزَ بِهِ
وَمِنْهُ وَعَلَيْهِ، فَهُوَ نَاشِزٌ، وَهِيَ نَاشِزٌ وَنَاشِزَةٌ،
وَالْجَمْعُ نَوَاشِزُ. قَال أَبُو إِسْحَاقَ: النُّشُوزُ يَكُونُ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ: كَرَاهَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ،
وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ النَّشْزِ وَهُوَ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الأَْرْضِ،
وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ بِزَوْجِهَا عَلَى زَوْجِهَا: ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِ
وَأَبْغَضَتْهُ وَخَرَجَتْ عَنْ طَاعَتِهِ وَفَرَكَتْهُ، قَال اللَّهُ
تَعَالَى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ (1) . نُشُوزُ الْمَرْأَةِ:
اسْتِعْصَاؤُهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَنَشَزَ هُوَ عَلَيْهَا نُشُوزًا
كَذَلِكَ، وَضَرَبَهَا وَجَفَاهَا وَأَضَرَّ بِهَا (2) ، وَفِي التَّنْزِيل
الْعَزِيزِ:
__________
(1) سورة النساء / 34
(2) القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير، ولسان العرب.
(40/284)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا (1) . وَالنُّشُوزُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ
الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ الزَّوْجَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا
بِغَيْرِ حَقٍّ (2) وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ الزَّوْجَةِ عَنِ الطَّاعَةِ
الْوَاجِبَةِ لِلزَّوْجِ (3) وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ
النُّشُوزَ بِمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَلاَ
عَكْسَ، وَصَرَّحَ آخَرُونَ بِأَنَّ النُّشُوزَ كَمَا يَكُونُ مِنَ
الزَّوْجَةِ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجِ. قَال الشَّرْقَاوِيُّ: إِنَّ
النُّشُوزَ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ وَمِنَ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ
يَشْتَهِرْ إِطْلاَقُ النُّشُوزِ فِي حَقِّ الرَّجُل، وَقَال
الْبَهْوَتِيُّ: يُقَال: نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فَهِيَ
نَاشِزَةٌ وَنَاشِزٌ، وَنَشَزَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا: جَفَاهَا وَأَضَرَّ
بِهَا (4)
__________
(1) سورة النساء / 128
(2) الدر المختار ورد المحتار 2 / 646، وقواعد الفقه للبركتي.
(3) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 2 / 343، والشرح الصغير 2 / 511،
وحاشية القليوبي 3 / 299، والمغني 7 / 46.
(4) مواهب الجليل 4 / 15، وحاشية القليوبي 3 / 299، وحاشية الشرقاوي على
شرح التحرير 2 / 280، وكشاف القناع 5 / 209.
(40/284)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: أ -
الطَّاعَةُ: 2 - الطَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْقِيَادُ
وَالْمُوَافَقَةُ، وَفِي التَّهْذِيبِ: طَاعَ لَهُ: إِذَا انْقَادَ لَهُ،
فَإِذَا مَضَى لأَِمْرِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ، فَإِذَا وَافَقَهُ فَقَدْ
طَاوَعَهُ، وَطَاوَعَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا طَوَاعِيَةً (1) وَفِي
الاِصْطِلاَحِ: الطَّاعَةُ هِيَ مُوَافَقَةُ الأَْمْرِ طَوْعًا. قَال
الرَّاغِبُ: أَكْثَرُ مَا تُقَال الطَّاعَةُ فِي الاِئْتِمَارِ لِمَا
أَمَرَ وَالاِرْتِسَامِ فِيمَا رَسَمَ (2) وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّشُوزِ
وَالطَّاعَةِ التَّضَادُّ.
ب - الإِْعْرَاضُ: 3 - مِنْ مَعَانِي الإِْعْرَاضِ فِي اللُّغَةِ:
الصَّدُّ، يُقَال: أَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ: صَدَّ وَوَلَّى، وَفِي
التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِْنْسَانِ أَعْرَضَ
وَنَأَى بِجَانِبِهِ (3) .، وَيُقَال: أَعْرَضْتُ عَنْهُ: أَضْرَبْتُ
وَوَلَّيْتُ عَنْهُ. قَال الرَّاغِبُ: الْعَرْضُ خُصَّ بِالْجَانِبِ،
وَعَرَضَ الشَّيْءُ: بَدَا عَرْضُهُ، وَأَعْرَضَ: أَظْهَرَ عَرْضَهُ أَيْ
نَاحِيَتَهُ، فَإِذَا قِيل: أَعْرَضَ عَنِّي فَمَعْنَاهُ: وَلَّى مُبْدِيًا
عَرْضَهُ.
__________
(1) المعجم الوسيط، ولسان العرب.
(2) قواعد الفقه، والمفردات في غريب القرآن.
(3) سورة الإسراء / 83
(40/285)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) وَالصِّلَةُ بَيْنَ
النُّشُوزِ وَالإِْعْرَاضِ أَنَّ الإِْعْرَاضَ يَكُونُ أَمَارَةً مِنْ
أَمَارَاتِ النُّشُوزِ.
ج - الْبُغْضُ: 4 - الْبُغْضُ هُوَ: الْكُرْهُ وَالْمَقْتُ، يُقَال: بَغَضَ
الشَّيْءَ بُغْضًا: كَرِهَهُ وَمَقَتَهُ، وَأَبْغَضَهُ: كَذَلِكَ، وَبَغُضَ
الشَّيْءُ بُغْضًا، وَبَغِضَ الشَّيْءُ بَغَاضَةً وَبِغْضَةً: صَارَ
مَمْقُوتًا كَرِيهًا، وَبَاغَضَهُ: جَزَاهُ بُغْضًا بِبُغْضٍ.
وَالْبَغْضَاءُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، قَال الْبَرَكَتِيُّ: وَهِيَ فِي
الْقَلْبِ. وَقَال الرَّاغِبُ: الْبُغْضُ نِفَارُ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ
الَّذِي تَرْغَبُ عَنْهُ، وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ (2) وَالصِّلَةُ بَيْنَ
النُّشُوزِ وَالْبُغْضِ هِيَ أَنَّ الْبُغْضَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ
النُّشُوزِ، وَأَمَارَةٌ عَلَيْهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلنُّشُوزِ: 5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى
أَنَّ نُشُوزَ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَرَامٌ، لِمَا وَرَدَ فِي
تَعْظِيمِ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، وانظر
تفسير القرطبي 5 / 403.
(2) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، وقواعد الفقه، والمفردات في غريب
القرآن.
(40/285)
وَوُجُوبِ طَاعَتِهَا لَهُ (1) ، وَمِنْهُ
قَوْل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاِمْرَأَةٍ:
أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: انْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ
مِنْهُ فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ (2) ، وَلِمَا رَوَى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِذَا صَلَّتِ
الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا،
وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيل لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ
أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ (3) ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَِحَدٍ لأََمَرْتُ
الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا (4) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ عَلَى حُرْمَةِ نُشُوزِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 334، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 343، والشرح
الصغير 2 / 511، وشرح التحرير وحاشية الشرقاوي 2 / 285، والمغني 7 / 18،
46، وكشاف القناع 5 / 209، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 1 / 491 - 492،
والجامع لأحكام القرآن 5 / 171.
(2) حديث: " أذات زوج أنت. . . " أخرجه أحمد (6 / 419 ط الميمنية) من حديث
حصين بن محصن، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2 / 672 ط دار ابن
كثير) .
(3) حديث: " إذا صلت المرأة خمسها. . . " أخرجه أحمد (1 / 191 ط الميمنية)
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (2 / 671) : رواه الطبراني ورواة أحمد
رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات.
(4) حديث: " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد. . . " أخرجه الترمذي (3 / 465 ط
الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن غريب.
(40/286)
الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِمَا وَرَدَ
مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ تَنْشُزُ عَلَى زَوْجِهَا، وَمِنْهُ
قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَاتَتِ
الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ
حَتَّى تُصْبِحَ (1) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا دَعَا الرَّجُل امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ
لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ (2)
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّالِحَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
قَانِتَاتٌ أَيْ: مُطِيعَاتٌ لأَِزْوَاجِهِنَّ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ
اللَّهُ (3) .، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، كَمَا أَخْبَرَ
أَنَّهُنَّ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أَيْ: يَحْفَظْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فِي
غَيْبَتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِنَّ وَأَمْوَالِهِمْ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى
وَمَعُونَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ (4)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: فَالصَّالِحَاتُ
قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ هَذَا
__________
(1) حديث: " إذا باتت المرأة هاجرة. . " أخرجه البخاري (9 / 294 ط السلفية)
ومسلم (2 / 1059 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - واللفظ
لمسلم.
(2) حديث: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه. . . . " أخرجه البخاري (9 /
294 ط السلفية) ومسلم (2 / 1060 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري، وزاد في
مسلم: " فبات غضبان عليها ".
(3) سورة النساء / 34
(4) تفسير القرآن العظيم 1 / 491، والجامع لأحكام القرآن 5 / 170.
(40/286)
خَبَرٌ، وَمَقْصُودُ الأَْمْرِ بِطَاعَةِ
الزَّوْجِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهَا فِي حَال
غَيْبَةِ الزَّوْجِ (1) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا
سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا
حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِكَ "، قَال: ثُمَّ قَرَأَ رَسُول اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ. الآْيَةَ (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: عَدُّ النُّشُوزِ كَبِيرَةً هُوَ مَا
صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ، أَيْ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ يُرِدِ الشَّيْخَانِ
بِقَوْلِهِمَا: امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلاَ سَبَبٍ
كَبِيرَةٌ خُصُوصَهُ، بَل نَبَّهَا بِهِ عَلَى سَائِرِ صُوَرِ النُّشُوزِ
(3)
مَا يَكُونُ بِهِ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ: 6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا
يَكُونُ بِهِ عَلَى نُشُوزِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَهُمْ فِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ
لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ النُّشُوزُ، وَالنُّشُوزُ
قَدْ يَكُونُ فِي
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 5 / 170.
(2) حديث: " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك. . . " أخرجه الطبري في
تفسيره (5 / 39 ط المعرفة - بيروت) والحاكم (2 / 161 - 162 ط دائرة
المعارف) واللفظ للطبري، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر 2 / 47.
(40/287)
النِّكَاحِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي
الْعِدَّةِ.
فَأَمَّا النُّشُوزُ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ
الزَّوْجِ بِغَيْرِ حَقٍّ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهِ، بِأَنْ خَرَجَتْ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَغَابَتْ أَوْ سَافَرَتْ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي
مَنْزِلِهِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لأَِنَّهَا
مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ مُنْتَفَعٌ بِهَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا، فَكَانَ
مَعْنَى التَّسْلِيمِ حَاصِلاً.
وَجَاءَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ: وَشَمَل النُّشُوزُ بِخُرُوجِهَا مِنْ
مَنْزِلِهِ الْخُرُوجَ الْحُكْمِيَّ، كَأَنْ كَانَ الْمُنْزِل لَهَا
فَمَنَعَتْهُ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهَا، فَهِيَ كَالْخَارِجَةِ مَا لَمْ
تَكُنْ سَأَلَتْهُ النَّقْلَةَ - بِأَنْ قَالَتْ لَهُ: حَوِّلْنِي إِلَى
مَنْزِلِكَ، أَوِ اكْتَرِ لِي مَنْزِلاً فَإِنِّي مُحْتَاجَةٌ إِلَى
مَنْزِلِي هَذَا آخُذُ كِرَاءَهُ - فَلَهَا النَّفَقَةُ حِينَئِذٍ.
وَلَوْ كَانَ فِي الْمَنْزِل شُبْهَةٌ - كَبَيْتِ السُّلْطَانِ -
فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ فَهِيَ نَاشِزَةٌ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ
فِي زَمَانِنَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ الْغَصْبِ
لأَِنَّ السُّكْنَى فِي الْمَغْصُوبِ حَرَامٌ، وَالاِمْتِنَاعَ عَنِ
الْحَرَامِ وَاجِبٌ، بِخِلاَفِ الاِمْتِنَاعِ عَنِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ
مَنْدُوبٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَقُّ الزَّوْجِ الْوَاجِبُ.
وَلَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِاللَّيْل دُونَ النَّهَارِ، أَوْ عَكْسَهُ،
فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا لِنَقْصِ التَّسْلِيمِ، قَال فِي الْمُجْتَبَى:
وَبِهِ عُرِفَ جَوَابُ وَاقِعَةٍ فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ
مِنَ الْمُحْتَرِفَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِالنَّهَارِ فِي مَصَالِحِهَا
وَبِاللَّيْل عِنْدَهُ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا، قَال فِي
(40/287)
النَّهْرِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَجْهُهُ -
كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ - أَنَّهَا مَعْذُورَةٌ لاِشْتِغَالِهَا
بِمَصَالِحِهَا، بِخِلاَفِ الْمَسْأَلَةِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا
لاَ عُذْرَ لَهَا فَنَقْصُ التَّسْلِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا، وَإِذَا
كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ عَصَتْهُ وَخَرَجَتْ بِلاَ إِذْنٍ
كَانَتْ نَاشِزَةً مَا دَامَتْ خَارِجَةً، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا لَمْ
تَكُنْ نَاشِزَةً (1)
وَالنُّشُوزُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ
مُرَاغَمَةً لِزَوْجِهَا، أَوْ تَخْرُجَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ تَبْذُو عَلَى أَحْمَائِهَا،
فَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ
فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي
عَمْرٍو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلاَثِ
تَطْلِيقَاتٍ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْتَفْتِيهِ فِي خُرُوجِهَا مِنْ
بَيْتِهَا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِل إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ
الأَْعْمَى، فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي خُرُوجِ
الْمُطَلَّقَةِ مِنْ بَيْتِهَا، وَقَال عُرْوَةُ: إِنَّ عَائِشَةَ
أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ (2) ، وَلأَِنَّ
الإِْخْرَاجَ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 22، والاختيار 4 / 5، والدر المختار 2 / 647.
(2) حديث: " أن فاطمة بنت قيس. . . " أخرجه مسلم (2 / 1116 ط عيسى الحلبي)
.
(40/288)
قِبَلِهَا، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا خَرَجَتْ
بِنَفْسِهَا مُرَاغَمَةً لِزَوْجِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِمَّا يَكُونُ بِهِ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ
مَنْعُهَا زَوْجَهَا مِنَ الْوَطْءِ أَوِ الاِسْتِمْتَاعِ - فِي
الْمَشْهُورِ - وَخُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا لِمَحَلٍّ تَعْلَمُ
أَنَّهُ لاَ يَأْذَنُ فِيهِ أَوْ لاَ يُحِبُّ خُرُوجَهَا إِلَيْهِ،
وَعَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ مَنْعِهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ عَنْ رَدِّهَا لِمَحَل
طَاعَتِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهَا ابْتِدَاءً أَوْ عَلَى رَدِّهَا
بِصُلْحِهَا أَوْ بِحَاكِمٍ فَلاَ تَكُونُ نَاشِزًا، وَيَكُونُ النُّشُوزُ
كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى كَالْغُسْل أَوِ الصَّلاَةِ
أَوْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَبِإِغْلاَقِهَا الْبَابَ دُونَهُ، وَبِأَنْ
تَخُونَهُ فِي نَفْسِهَا أَوْ مَالِهِ (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِمَّا يَكُونُ بِهِ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ
خُرُوجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَنْزِل لاَ إِلَى الْقَاضِي
لِطَلَبِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَلاَ إِلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ إِذَا
أَعْسَرَ بِهَا الزَّوْجُ، وَلاَ إِلَى اسْتِفْتَاءٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ
زَوْجُهَا فَقِيهًا وَلَمْ يَسْتَفْتِ لَهَا، وَلاَ إِلَى الطَّحْنِ أَوِ
الْخُبْزِ أَوْ شِرَاءِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، أَوِ الْخَوْفِ مِنَ
انْهِدَامِ الْمَنْزِل، أَوْ جَلاَءِ مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْجِيرَانِ فِي
غَيْبَةِ الزَّوْجِ، أَوِ انْقِضَاءِ إِجَارَةِ الْمَنْزِل أَوْ رُجُوعِ
مُعِيرِهِ،
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 511، وشرح الزرقاني 4 / 60، والشرح الكبير مع حاشية
الدسوقي 2 / 343.
(40/288)
وَكَذَا لَوْ خَرَجَتْ لِحَاجَتِهَا فِي
الْبَلَدِ بِإِذْنِهِ كَأَنْ تَكُونَ بَلاَّنَةً أَوْ مَاشِطَةً أَوْ
دَايَةً تُوَلِّدُ النِّسَاءَ، فَلاَ تُعْتَبَرُ نَاشِزَةً بِذَلِكَ.
وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ نَاشِزَةً كَذَلِكَ بِإِغْلاَقِهَا الْبَابَ فِي
وَجْهِ زَوْجِهَا، وَعَدَمِ فَتْحِهَا الْبَابَ لِيَدْخُل وَكَانَ قَفْلُهُ
مِنْهَا، وَبِمَنْعِهِ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ، وَحَبْسِهَا زَوْجَهَا،
وَدَعْوَاهَا طَلاَقًا، وَكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً عَنْ غَيْرِهِ كَوَطْءِ
شُبْهَةٍ.
وَتَكُونُ نَاشِزَةً بِمَنْعِهَا الزَّوْجَ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا
حَيْثُ لاَ عُذْرَ، لاَ مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ تَدَلُّلاً، وَيَدْخُل فِي
الْمَنْعِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ الَّذِي تَنْشُزُ بِهِ الْمَنْعُ مِنْ
نَحْوِ قُبْلَةٍ - وَإِنْ مَكَّنَتْهُ مِنَ الْجِمَاعِ - حَيْثُ لاَ عُذْرَ
فِي امْتِنَاعِهَا مِنْهُ، فَإِنْ عُذِرَتْ كَأَنْ كَانَ بِهِ صُنَانٌ
مُسْتَحْكِمٌ - مَثَلاً - وَتَأَذَّتْ بِهِ تَأَذِّيًا لاَ يُحْتَمَل لَمْ
تَعُدْ نَاشِزَةً، وَتُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَدُل قَرِينَةٌ
قَوِيَّةٌ عَلَى كَذِبِهَا.
وَقَالُوا: إِنَّ شَتْمَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَإِيذَاءَهَا لَهُ
بِنَحْوِ لِسَانِهَا لاَ يَكُونُ نُشُوزًا، بَل تَأْثَمُ بِهِ
وَتَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ عَلَيْهِ.
وَيَكُونُ النُّشُوزُ كَذَلِكَ إِذَا دَعَا الزَّوْجُ نِسَاءَهُ إِلَى
مَنْزِلِهِ الَّذِي أَعَدَّهُ لإِِتْيَانِهِنَّ فِيهِ، فَتَمْتَنِعُ
(40/289)
إِحْدَاهُنَّ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَعَا
إِحْدَاهُنَّ لِمَنْزِل ضَرَّتِهَا فَلاَ يُعَدُّ امْتِنَاعُهَا نُشُوزًا،
وَمَحَل كَوْنِ امْتِنَاعِهَا نُشُوزًا عِنْدَ دُعَائِهَا لِمَنْزِلِهِ
إِنْ لَمْ تَكُنْ شَرِيفَةً، وَإِلاَّ فَلاَ يُعَدُّ نُشُوزًا حَيْثُ كَانَ
مَنْزِلُهُ فِي بَيْتٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ
فِيهِ عُدَّ ذَلِكَ نُشُوزًا.
وَتُعَدُّ الزَّوْجَةُ نَاشِزَةً إِذَا سَافَرَتْ بِدُونِ زَوْجِهَا بِلاَ
إِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنٍ لِغَيْرِ حَاجَتِهِ بِأَنْ كَانَ لِحَاجَتِهَا،
أَوْ لِحَاجَةِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ لِحَاجَتِهِمَا، أَوْ لاَ لِحَاجَةٍ
كَنُزْهَةٍ.
وَلَوْ سَافَرَتِ الزَّوْجَةُ مَعَ الزَّوْجِ - وَلَوْ بِلاَ إِذْنٍ -
فَلاَ تَكُونُ نَاشِزَةً إِنْ لَمْ يَنْهَهَا، فَإِنْ نَهَاهَا كَانَتْ
نَاشِزَةً، سَوَاءٌ أَقْدَرَ عَلَى رَدِّهَا أَمْ لاَ. نَعَمْ، إِنِ
اسْتَمْتَعَ بِهَا لاَ تَكُونُ بَعْدَ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا نَاشِزَةً؛
لأَِنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِهَا رِضًا بِمُصَاحَبَتِهَا لَهُ.
وَلَوِ ارْتَحَلَتْ لِخَرَابِ الْبَلَدِ وَارْتَحَل أَهْلُهَا،
وَاقْتَصَرَتْ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ لاَ تُعَدُّ نَاشِزَةً.
وَقَالُوا: مِنْ أَمَارَاتِ نُشُوزِ الزَّوْجَةِ قَوْلاً أَنْ تُجِيبَ
زَوْجَهَا بِكَلاَمٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُجِيبُهُ بِكَلاَمٍ
لَيِّنٍ، فَلَوْ كَانَ الْكَلاَمُ الْخَشِنُ عَادَتَهَا لَمْ يَكُنْ
نُشُوزًا إِلاَّ إِنْ زَادَ.
(40/289)
وَمِنْ أَمَارَاتِ نُشُوزِهَا فِعْلاً أَنْ
يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ
كَرَاهَةٍ، وَبِذَلِكَ فَارَقَ السَّبَّ وَالشَّتْمَ لأَِنَّهُ قَدْ
يَكُونُ لِسُوءِ الْخُلُقِ، لَكِنْ لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُهَا عَلَيْهِ
وَلَوْ بِلاَ حَاكِمٍ (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَمَارَاتُ النُّشُوزِ مِثْل أَنْ تَتَثَاقَل أَوْ
تَتَدَافَعَ إِذَا دَعَاهَا لِلاِسْتِمْتَاعِ، وَلاَ تَصِيرُ إِلَيْهِ
إِلاَّ بِتَكَرُّهٍ وَدَمْدَمَةٍ، أَوْ تُجِيبُهُ مُتَبَرِّمَةً
مُتَكَرِّهَةً، وَيَخْتَل أَدَبُهَا فِي حَقِّهِ.
وَيَكُونُ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِأَنْ تَعْصِيَهُ فِيمَا
فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَةٍ، وَتَمْتَنِعَ مِنْ فِرَاشِهِ، أَوْ
تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (2)
أَثَرُ النُّشُوزِ عَلَى النَّفَقَةِ: 7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
سُقُوطِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِنُشُوزِهَا. فَذَهَبَ جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَحَمَّادٌ
وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ النَّاشِزَ لاَ نَفَقَةَ
لَهَا وَلاَ سُكْنَى؛ لأَِنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ
تَمْكِينِهَا لَهُ، بِدَلِيل أَنَّهَا لاَ تَجِبُ قَبْل تَسْلِيمِهَا
إِلَيْهِ، وَإِذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ كَانَ لَهَا مَنْعُهُ
التَّمْكِينَ، فَإِذَا
__________
(1) شَرْحُ الْمِنْهَاجِ وَحَاشِيَةُ الْقَلْيُوبِيِّ 3 / 305، 4 / 78،
وشَرْح التَّحْرِيرِ وَحَاشِيَةُ الشَّرْقَاوَيِّ 2 / 283 - 285.
(2) المغني 7 / 46، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209.
(40/290)
مَنَعَتْهُ التَّمْكِينَ كَانَ لَهُ
مَنْعُهَا مِنَ النَّفَقَةِ كَمَا قَبْل الدُّخُول.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَسْقُطُ
بِالنُّشُوزِ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِأَنَّ نُشُوزَهَا لاَ يُسْقِطُ
مَهْرَهَا فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهَا (1)
وَلِلْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ بِالنُّشُوزِ
تَفْصِيلٌ: قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ نَفَقَةَ لِلْنَاشِزَةِ لِفَوَاتِ
التَّسْلِيمِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ النُّشُوزُ. وَالنُّشُوزُ
عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: نُشُوزٌ فِي النِّكَاحِ وَنُشُوزٌ فِي الْعِدَّةِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَتَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ النَّفَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لاَ الْمُسْتَدَانَةُ
فِي الأَْصَحِّ، أَيْ إِذَا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَشْهُرٍ
مَفْرُوضَةٌ ثُمَّ نَشَزَتْ سَقَطَتْ تِلْكَ الأَْشْهُرُ الْمَاضِيَةُ،
بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَمَرَهَا بِالاِسْتِدَانَةِ فَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ
فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَسُقُوطُ الْمَفْرُوضَةِ
مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ، أَمَّا الْمُسْتَدَانَةُ فَذَكَرَ فِي
الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي
سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ،
__________
(1) الْبَدَائِع 4 / 22، وَالاِخْتِيَار 4 / 5، وَالدَّرّ الْمُخْتَار
وَرَدّ الْمُحْتَارِ 2 / 647، والزرقاني 4 / 250 - 251، وَالْحَطَّاب 4 /
187 - 188، وَمُغنِّي الْمُحْتَاج 3 / 436، وَالمغني 7 / 611 - 612،
وَالْقُرْطُبِيّ 5 / 174، وَالإِْجْمَاع لاِبْن الْمُنْذِر ص 97.
(40/290)
وَالأَْصَحُّ مِنْهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ،
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهَا لَوْ عَادَتْ إِلَى بَيْتِهِ لاَ يَعُودُ مَا
سَقَطَ، وَهَل يَبْطُل الْفَرْضُ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهِ بَعْدَ
الْعَوْدِ إِلَى بَيْتِهِ أَمْ لاَ؟ الظَّاهِرُ عَدَمُ بُطْلاَنِهِ،
لأَِنَّ كَلاَمَهُمْ فِي سُقُوطِ الْمَفْرُوضِ لاَ الْفَرْضِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ النَّاشِزِ لاَ تَسْقُطُ
إِذَا كَانَتْ حَامِلاً؛ لأَِنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ لِلْحَمْل، وَكَذَا
إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً رَجْعِيًّا وَخَرَجَتْ بِلاَ إِذْنٍ، لأَِنَّهُ
لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ النَّاشِزِ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ
الْحَالَتَيْنِ:
فَقَال بَعْضُهُمْ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ: إِنْ مَنَعَتِ
الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا الْوَطْءَ أَوْ الاِسْتِمْتَاعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ
تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَنَعَتْهُ فِيهِ مِنْ
ذَلِكَ.
وَقَالُوا: تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا أَيْضًا إِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ
مِنْ مَحَل طَاعَتِهِ ظَالِمَةً بِلاَ إِذْنٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
رَدِّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ حَاكِمٍ يُنْصِفُ، وَكَانَ
خُرُوجُهَا إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهَا
ابْتِدَاءً، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهَا وَلَمْ يَفْعَل لَمْ تَسْقُطْ
نَفَقَتُهَا.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَسْقُطُ
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 2 / 647
(40/291)
بِالنُّشُوزِ بَعْدَ التَّمْكِينِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَوْلِهِمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِنُشُوزٍ - أَيْ خُرُوجٍ -
عَنْ طَاعَةِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ أَوْ قَدَرَ
عَلَى تَسَلُّمِهَا، وَلَوْ بِمَنْعِ لَمْسٍ أَوْ نَظَرٍ بِنَحْوِ
تَغْطِيَةِ وَجْهٍ لِغَيْرِ دَلاَلٍ بِلاَ عُذْرٍ، وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ كُل
يَوْمٍ بِالنُّشُوزِ بِلاَ عُذْرٍ فِي كُلِّهِ، وَكَذَا فِي بَعْضِهِ فِي
الأَْصَحِّ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكِسْوَةُ
الْفَصْل كَنَفَقَةِ الْيَوْمِ، وَلاَ تَعُودُ بِعَوْدِهَا لِلطَّاعَةِ فِي
بَقِيَّةِ الْيَوْمِ أَوِ اللَّيْلَةِ أَوِ الْفَصْل مَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ
بِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَنُشُوزُ الْمَجْنُونَةِ وَالْمُرَاهِقَةِ كَالْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ،
وَإِنْ كَانَ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِمَا.
وَلَوْ صَرَفَ الزَّوْجُ لاِمْرَأَتِهِ الْمُؤَنَ غَيْرَ عَالِمٍ
بِالنُّشُوزِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ فَلَهُ الاِسْتِرْدَادُ، وَلَوْ
تَصَرَّفَتْ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ.
وَقَال الأَْنْصَارِيُّ فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ الْيَوْمِ كُلِّهِ
بِالنُّشُوزِ فِي بَعْضِهِ: وَإِنَّمَا سَقَطَتِ النَّفَقَةُ لَهَا
لأَِنَّهَا لاَ تَتَجَزَّأُ، بِدَلِيل أَنَّهَا تُسَلَّمُ دَفْعَةً
وَاحِدَةً وَلاَ تُفَرَّقُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً (2) .
__________
(1) عَقْد الْجَوَاهِر الثَّمِينَة 2 / 309، وَشَرْح الزُّرْقَانِيّ 4 /
250 - 251، وَالدُّسُوقِيّ 2 / 514، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 511، 740،
وَالْحَطَّاب مَعَ التَّاجِ وَالإِْكْلِيل 4 / 187 - 188.
(2) شَرْح الْمِنْهَاجِ وَحَاشِيَتَا الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 4 / 54،
78، 79، ومغني الْمُحْتَاج 3 / 402، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 433.
(40/291)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النَّاشِزُ لاَ
نَفَقَةَ لَهَا وَلاَ سُكْنَى؛ لأَِنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي
مُقَابَلَةِ تَمْكِينِهَا، بِدَلِيل أَنَّهَا لاَ تَجِبُ قَبْل
تَسْلِيمِهَا إِلَى الزَّوْجِ، فَإِذَا مَنَعَهَا النَّفَقَةَ كَانَ لَهَا
مَنْعُهُ مِنَ التَّمْكِينِ، فَإِذَا مَنَعَتْهُ التَّمْكِينَ كَانَ لَهُ
مَنْعُهَا مِنَ النَّفَقَةِ كَمَا قَبْل الدُّخُول، وَإِذَا كَانَ لَهُ
مِنْهَا وَلَدٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ
فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِمَعْصِيَتِهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ
يُعْطِيَهَا إِيَّاهَا إِذَا كَانَتْ هِيَ الْحَاضِنَةَ لَهُ أَوِ
الْمُرْضِعَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ إِرْضَاعِهَا يَلْزَمُهُ
تَسْلِيمُهُ إِلَيْهَا، لأَِنَّهُ أَجْرٌ مَلَكَتْهُ عَلَيْهِ
بِالإِْرْضَاعِ، لاَ فِي مُقَابَلَةِ الاِسْتِمْتَاعِ، وَلاَ يَزُول
بِزَوَالِهِ (1) .
عَوْدَةُ النَّفَقَةِ بِتَرْكِ النُّشُوزِ:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ بِالنُّشُوزِ
إِلَى أَنَّ النَّاشِزَ إِذَا رَجَعَتْ عَنْ نُشُوزِهَا وَعَادَتْ إِلَى
زَوْجِهَا، عَادَتْ نَفَقَتُهَا لِزَوَال الْمُسْقِطِ لَهَا. وَلَهُمْ فِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: النَّاشِزُ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا حَتَّى تَعُودَ
إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِ وَلَوْ بَعْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ، فَلَوْ عَادَتْ
إِلَى بَيْتِهِ بَعْدَمَا سَافَرَ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا نَاشِزَةً،
فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، فَتَكْتُبُ إِلَيْهِ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا،
أَوْ تَرْفَعُ أَمْرَهَا لِلْقَاضِي لِيَفْرِضَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةً،
أَمَّا لَوْ أَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِدُونِ ذَلِكَ فَلاَ رُجُوعَ
لَهَا،
__________
(1) المغني 7 / 611 - 612.
(40/292)
لأَِنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَصِيرُ دَيْنًا
إِلاَّ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا، فَتَسْقُطُ بِالْمُضِيِّ بِدُونِ
قَضَاءٍ وَلاَ تَرَاضٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ سُكْنَى لِلْمُعْتَدَّةِ النَّاشِزَةِ،
سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْل طَلاَقِهَا - كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي
وَغَيْرُهُ - أَمْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْمُتَوَلِّي - فَإِنْ عَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ عَادَ حَقُّ السُّكْنَى -
كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي - وَقِيل: إِنْ نَشَزَتْ عَلَى الزَّوْجِ
وَهِيَ فِي بَيْتِهِ فَلَهَا السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ، وَإِنْ خَرَجَتْ
وَاسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ مِنْ كُل وَجْهٍ فَلاَ سُكْنَى لَهَا، وَيَرْجِعُ
بِأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ فِي مُدَّةِ النُّشُوزِ وَإِنْ كَانَ لِزَوْجِهَا،
وَلَهُ إِخْرَاجُهَا إِذَا نَشَزَتْ، وَيَجِبُ عَوْدُهَا إِذَا عَادَتْ.
وَلَوْ نَشَزَتْ فَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَغَابَ،
ثُمَّ عَادَتْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ فَأَطَاعَتْهُ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا
زَمَنَ الطَّاعَةِ فِي الأَْصَحِّ لاِنْتِفَاءِ التَّسْلِيمِ
وَالتَّسَلُّمِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: تَجِبُ لِعَوْدِهَا إِلَى
الطَّاعَةِ، فَإِنْ رَفَعَتِ الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ كَتَبَ إِلَى
حَاكِمِ بَلَدِهِ يُعْلِمُهُ بِالْحَال، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ أَوْ
وَكِيلُهُ وَاسْتَأْنَفَ تَسَلُّمَ الزَّوْجَةِ عَادَتِ النَّفَقَةُ،
وَإِنْ مَضَى زَمَنُ إِمْكَانِ الْعَوْدِ وَلَمْ يُوجَدْ عَادَتْ أَيْضًا.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لَوْ حَصَلَتْ غَيْبَةُ الزَّوْجِ قَبْل النُّشُوزِ.
__________
(1) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 2 / 647.
(40/292)
وَلَوْ نَشَزَتْ فِي الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ
خُرُوجٍ فَغَابَ، ثُمَّ أَطَاعَتْ، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ بِمُجَرَّدِ
إِطَاعَتِهَا - كَمُرْتَدَّةٍ أَسْلَمَتْ - لأَِنَّهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ
يَدِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا سَقَطَتْ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ لِنُشُوزِهَا
فَعَادَتْ عَنِ النُّشُوزِ وَالزَّوْجُ حَاضِرٌ عَادَتْ نَفَقَتُهَا،
لِزَوَال الْمُسْقِطِ لَهَا وَوُجُودِ التَّمْكِينِ الْمُقْتَضِي لَهَا،
وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ تَعُدْ نَفَقَتُهَا حَتَّى يَعُودَ
التَّسْلِيمُ بِحُضُورِهِ، أَوْ حُضُورِ وَكِيلِهِ، أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ
بِالْوُجُوبِ إِذَا مَضَى زَمَنُ الإِْمْكَانِ.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّفَقَةَ سَقَطَتْ فِي النُّشُوزِ بِخُرُوجِهَا عَنْ
يَدِهِ، أَوْ مَنْعِهَا لَهُ مِنَ التَّمْكِينِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا،
وَلاَ يَزُول ذَلِكَ إِلاَّ بِعَوْدِهَا إِلَى بَيْتِهِ وَتَمْكِينِهِ
مِنْهَا، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ بَذَلَتْ
تَسْلِيمَ نَفْسِهَا قَبْل دُخُولِهِ بِهَا فِي حَال غَيْبَتِهِ لَمْ
تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ بِمُجَرَّدِ الْبَذْل، كَذَا هُنَا (2)
أَثَرُ النُّشُوزِ فِي مُدَّةِ الإِْيلاَءِ:
9 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ مَانَعُ الْوَطْءِ
فِي الزَّوْجَةِ الْمُوْلَى مِنْهَا وَهُوَ حِسِّيٌّ، كَصِغَرٍ وَمَرَضٍ
يَمْنَعُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْوَطْءَ، مَنْعَ ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ،
__________
(1) شَرْح الْمِنْهَاجِ وَحَاشِيَتَا الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 4 / 54،
78، 79، ومغني المحتاج3 / 402، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 3 / 433
(2) المغني 7 / 611 - 612.
(40/293)
فَإِذَا زَال اسْتُؤْنِفَتْ، وَإِنْ حَدَثَ
مَانِعٌ لِوَطْءٍ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ - كَنُشُوزِهَا فِيهَا
- قَطَعَهَا لاِمْتِنَاعِ الْوَطْءِ مَعَهُ، فَإِذَا زَال الْحَادِثُ
اسْتُؤْنِفَتِ الْمُدَّةُ، إِذِ الْمُطَالَبَةُ مَشْرُوطَةٌ بِالإِْضْرَارِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ، وَقِيل: تُبْنَى عَلَى
مَا مَضَى وَرَجَّحَهُ الإِْمَامُ وَالْغَزَالِيُّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْعُذْرُ الْمَانِعُ مِنْ وَطْئِهَا
مِنْ جِهَتِهَا، كَصِغَرِهَا وَمَرَضِهَا وَحَبْسِهَا، وَصِيَامِهَا
وَاعْتِكَافِهَا الْفَرْضَيْنِ، وَإِحْرَامِهَا وَنِفَاسِهَا وَغَيْبَتِهَا
وَنُشُوزِهَا وَجُنُونِهَا وَنَحْوِهِ كَالإِْغْمَاءِ عَلَيْهَا، وَكَانَ
ذَلِكَ الْعُذْرُ مَوْجُودًا حَال الإِْيلاَءِ، فَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ
مِنْ حِينِ زَوَالِهِ، لأَِنَّ الْمُدَّةَ تُضْرَبُ لاِمْتِنَاعِهِ مِنْ
وَطْئِهَا، وَالْمَنْعُ هُنَا مَنْ قِبَلِهَا، وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ
طَارِئًا فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ اسْتُؤْنِفَتِ الأَْرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
مِنْ وَقْتِ زَوَالِهِ، وَلَمْ تُبْنَ عَلَى مَاضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (2) ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا
مُتَوَالِيَةٌ، فَإِذَا انْقَطَعَتْ وَجَبَ اسْتِئْنَافُهَا كَمُدَّةِ
الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنَ
الْمُدَّةِ الَّتِي حَلَفَ لاَ يَطَؤُهَا فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ، بَل أَرْبَعَةٌ فَأَقَل، سَقَطَ حُكْمُ الإِْيلاَءِ، كَمَا لَوْ
حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 349، والقليوبي وَعَمِيرَة 4 / 12.
(2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 226
(40/293)
ابْتِدَاءً، وَلاَ تُبْنَى عَلَى مَا مَضَى
إِذَا حَدَثَ عُذْرٌ مِمَّا سَبَقَ، كَمُدَّةِ الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ
الْكَفَّارَةِ إِذَا انْقَطَعَ التَّتَابُعُ يَسْتَأْنِفُهُمَا (1) .
أَثَرُ النُّشُوزِ فِي الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ نُشُوزَ الزَّوْجَةِ يُسْقِطُ
حَقَّهَا فِي الْقَسْمِ لَهَا مَعَ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، لأَِنَّهَا
بِنُشُوزِهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ، فَإِنْ عَادَتْ
إِلَى الْمُطَاوَعَةِ اسْتَأْنَفَ الزَّوْجُ الْقَسْمَ لَهَا مَعَ بَاقِي
زَوْجَاتِهِ، وَلَمْ يَقْضِ لَهَا مَبِيتَهُ عِنْدَ ضَرَّتِهَا لِسُقُوطِ
حَقِّهَا إِذْ ذَاكَ (2) .
إِعْطَاءُ النَّاشِزَةِ مِنَ الزَّكَاةِ:
11 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ
النَّاشِزَةَ عَلَى زَوْجِهَا لاَ تُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ، لأَِنَّهَا
لَيْسَتْ فَقِيرَةً لِقُدْرَتِهَا عَلَى الطَّاعَةِ حَالاً وَالرُّجُوعِ
عَنِ النُّشُوزِ، فَتَكُونُ عِنْدَئِذٍ مَكْفِيَّةً بِنَفَقَةِ الزَّوْجِ
فَلاَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا فَقِيرَةٌ، لأَِنَّهَا بِاكْتِفَائِهَا
بِالنَّفَقَةِ مِنَ الزَّوْجِ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ، كَالْمُكْتَسِبِ كُل
يَوْمٍ قَدْرَ كِفَايَتِهِ.
وَالثَّانِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا مِنَ
الزَّكَاةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا لاَ مَال لَهَا وَلاَ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 363.
(2) رَدّ الْمُحْتَارِ 2 / 400، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 342،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 373، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 204.
(40/294)
كَسْبَ، وَيُمْنَعُ تَشْبِيهُهَا
بِالْمُكْتَسِبِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ تَأْدِيبِ النَّاشِزَةِ وَوِلاَيَةُ تَأْدِيبِهَا:
12 - تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ مَشْرُوعٌ (2) بِقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَل: الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ
وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (3) ،
نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ، نَشَزَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ فَلَطَمَهَا، فَجَاءَ
بِهَا أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَال: " أَفْرَشْتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَهَا، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتَصِّي مِنْهُ، وَانْصَرَفَتْ مَعَ
أَبِيهَا لِتَقْتَصَّ مِنْهُ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ارْجِعُوا، هَذَا جِبْرِيل أَتَانِي، وَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الآْيَةَ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَدْنَا أَمْرًا
وَأَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَ اللَّهُ خَيْرٌ، وَرَفَعَ
الْقِصَاصَ (4) .
__________
(1) شَرْح الْمَحَلِّيّ وَحَاشِيَتَا الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة 3 / 196،
ومغني الْمُحْتَاج 3 / 108.
(2) تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ 5 / 168 - 169، وَالزَّوَاجِر عَنِ
اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 42.
(3) سُورَةُ النِّسَاءِ / 34
(4) حَدِيثُ نُزُول آيَة: الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء فِي سَعْد
بْن الرَّبِيع. أَوْرَدَهُ الْوَاحِدِي فِي أَسْبَابِ النُّزُول (ص 151 ط
مُؤَسَّسَة الرَّيَّان) عَنْ مُقَاتِلٍ بِدُونِ إِسْنَاد، وَأَخْرَجَهُ
ابْن جَرِير فِي تَفْسِيرِهِ (8 / 291 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) مِنْ
حَدِيثِ الْحَسَن الْبَصْرِيّ مُرْسَلاً كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " إِنَّ
رَجُلاً لَطَمَ امْرَأَة ".
(40/294)
فَالْحَقُّ فِي تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ إِنْ
نَشَزَتْ لِلأَْزْوَاجِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُمْ فِي
ذَلِكَ بَيَانٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وِلاَيَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ إِذَا لَمْ
تُطِعْهُ - أَيِ الزَّوْجَةُ - فِيمَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ بِأَنْ كَانَتْ
نَاشِزَةً، فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا عُلِمَ أَنَّ النُّشُوزَ مِنَ الزَّوْجَةِ
فَإِنَّ الْمُتَوَلِّي لِزَجْرِهَا هُوَ الزَّوْجُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ
نُشُوزُهَا الإِْمَامَ، أَوْ بَلَغَهُ وَرَجَا إِصْلاَحَهَا عَلَى يَدِ
زَوْجِهَا، وَإِلاَّ فَإِنَّ الإِْمَامَ يَتَوَلَّى زَجْرَهَا (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: وَلَّى اللَّهُ تَعَالَى الأَْزْوَاجَ ذَلِكَ دُونَ
الأَْئِمَّةِ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ دُونَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلاَ
بَيِّنَاتٍ ائْتِمَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلأَْزْوَاجِ عَلَى
النِّسَاءِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: جَازَ لِلزَّوْجِ ضَرْبُ النَّاشِزَةِ، وَلَمْ
يَجِبِ الرَّفْعُ لِلْحَاكِمِ لِمَشَقَّتِهِ، وَلأَِنَّ الْقَصْدَ رَدُّهَا
إِلَى الطَّاعَةِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً (4) ، وَخَصَّصَ الزَّرْكَشِيُّ
ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَإِنْ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 4 / 15، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 343.
(3) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 173.
(4) سُورَةُ النِّسَاءِ / 34
(40/295)
كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ تَعَيَّنَ
الرَّفْعُ لِلْحَاكِمِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الزَّوْجُ الَّذِي لَهُ حَقُّ تَأْدِيبِ
امْرَأَتِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا عُلِمَ مَنْعُهُ حَقَّهَا حَتَّى
يُؤَدِّيَهُ وَحَتَّى يُحْسِنَ عِشْرَتَهَا، لأَِنَّهُ يَكُونُ ظَالِمًا
بِطَلَبِهِ حَقَّهُ مَعَ مَنْعِهَا حَقَّهَا (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَأْدِيب ف 3،4،7، 8، وَزَوْج ف 7) .
مَا يَكُونُ بِهِ التَّأْدِيبُ لِلنُّشُوزِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ امْرَأَتِهِ
لِنُشُوزِهَا، وَعَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْدِيبَ يَكُونُ بِالْوَعْظِ
وَالْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ وَالضَّرْبِ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل:
وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (3) .
وَلَهُمْ بَعْدَ هَذَا الإِْجْمَال تَفْصِيلٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْوَعْظِ
وَالْهَجْرِ فِي الْمَضْجَعِ وَالضَّرْبِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الْوَعْظُ:
14 - الْوَعْظُ هُوَ: التَّذْكِيرُ بِمَا يُلَيِّنُ الْقَلْبَ لِقَبُول
الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ
__________
(1) حَاشِيَة الْجُمَل عَلَى شَرْح التَّحْرِير 4 / 289.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 210.
(3) سُورَةُ النِّسَاءِ / 34
(40/295)
الْمُتَرَتِّبَيْنِ عَلَى طَاعَتِهِ
وَمُخَالَفَتِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ وَعْظِ الرَّجُل
امْرَأَتُهُ إِنْ نَشَزَتْ، أَوْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ نُشُوزِهَا،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَعْظَ - فِي الْحَالاَتِ الَّتِي
يُشْرَعُ فِيهَا - مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الزَّوْجَ يَعِظُ
امْرَأَتَهُ إِنْ نَشَزَتْ فِعْلاً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَعِظُهَا إِذَا
ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ نُشُوزِهَا.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: يَعِظُهَا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ، بِأَنْ يَقُول
لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ،
وَلاَ تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَعِظُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَيُذَكِّرُهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ حُسْنِ
الصُّحْبَةِ وَجَمِيل الْعِشْرَةِ لِلزَّوْجِ وَالاِعْتِرَافِ
بِالدَّرَجَةِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا، وَيُحَذِّرُهَا عِقَابَ الدُّنْيَا
بِالضَّرْبِ وَسُقُوطِ الْمُؤَنِ، وَعِقَابَ الآْخِرَةِ بِالْعَذَابِ،
وَيَقُول لَهَا: اتَّقِ اللَّهَ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ لِي عَلَيْكِ،
وَيُبَيِّنُ لَهَا أَنَّ النُّشُوزَ يُسْقِطُ الْقَسْمَ، فَلَعَلَّهَا
تُبْدِي عُذْرًا أَوْ تَتُوبُ عَمَّا وَقَعَ مِنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ،
وَيُنْدَبُ أَنْ يَذْكُرَ لَهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا
(40/296)
لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى
تُصْبِحَ (1) ، وَقَوْلُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ: لَوْ
كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَِحَدٍ لأََمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ
تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا (2) ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: أَيُّمَا امْرَأَةٍ عَبَسَتْ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا إِلاَّ
قَامَتْ مِنْ قَبْرِهَا مُسْوَدَّةَ الْوَجْهِ وَلاَ تَنْظُرُ إِلَى
الْجَنَّةِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبَرَّهَا وَيَسْتَمِيل قَلْبَهَا بِشَيْءٍ، فَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ، إِنْ
أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا
وَفِيهَا عِوَجٌ (3) .
وَقَالُوا: إِنْ رَجَعَتْ بِالْوَعْظِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالأَْدَبِ حَرُمَ
مَا بَعْدَ الْوَعْظِ مِنَ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ (4) .
__________
(1) حَدِيثٌ: " إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً. . . " تَقَدَّمَ
تَخْرِيجه ف (5) .
(2) حَدِيث: " لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ. . . " تَقَدَّمَ
تَخْرِيجه ف (5) .
(3) حَدِيث: " الْمَرْأَة كَالضِّلْعِ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِّي 9 / 252 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (2 / 1090 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(4) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى شَرْح
الدردير 2 / 343، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 171، وَالأُْمّ 5 / 112،
ومغني الْمُحْتَاج 3 / 259، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 3 / 305، وَحَاشِيَة
الشَّرْقَاوَيَّ عَلَى شَرْح التَّحْرِير 2 / 285، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 /
209.
(40/296)
ب - الْهَجْرُ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ الرَّجُل بِهِ
امْرَأَتَهُ إِذَا نَشَزَتِ الْهَجْرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْهَجْرُ الْمَشْرُوعُ، وَفِي
غَايَتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَعَظَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ،
فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَتَرَكَتِ النُّشُوزَ وَإِلاَّ
هَجَرَهَا، وَقِيل: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلاً وَالاِعْتِزَال
عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ
هَجَرَهَا، لَعَل نَفْسَهَا لاَ تَحْتَمِل الْهَجْرَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ، قِيل: يَهْجُرُهَا بِأَنْ
لاَ يُجَامِعَهَا وَلاَ يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَقِيل: يَهْجُرُهَا
بِأَنْ لاَ يُكَلِّمَهَا فِي حَال مُضَاجَعَتِهِ إِيَّاهَا، لاَ أَنْ
يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا، لأَِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ
بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا، فَلاَ
يُؤَدِّبُهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَيُبْطِل حَقَّهُ، وَقِيل:
يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي
حَقِّهَا وَقَسْمِهَا، لأَِنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَال
الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ فِي حَال
التَّضْيِيعِ، وَقِيل: يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا وَجِمَاعِهَا
لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا وَحَاجَتِهَا لاَ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ
إِلَيْهَا، لأَِنَّ
__________
(1) سُورَةُ النِّسَاءِ / 34
(40/297)
هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لاَ أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ
عَنِ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَال حَاجَتِهِ إِلَيْهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْهَجْرُ أَنْ يَتْرُكَ مَضْجَعَهَا، أَيْ
يَتَجَنَّبَهَا فِي الْمَضْجَعِ فَلاَ يَنَامُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ،
لَعَلَّهَا أَنْ تَرْجِعَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ،
وَهَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ وَحَسَّنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَغَايَةُ الْهَجْرِ الْمُسْتَحْسَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ شَهْرٌ، وَلاَ
يَبْلُغُ بِهِ الأَْرْبَعَةَ الأَْشْهُرِ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ أَجَلاً
عُذْرًا لِلْمُولِي (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ وَعَظَهَا زَوْجُهَا،
ثُمَّ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ لأَِنَّ لَهُ أَثَرًا ظَاهِرًا فِي
تَأْدِيبِ النِّسَاءِ، أَمَّا الْهُجْرَانُ فِي الْكَلاَمِ فَلاَ يَجُوزُ
فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لِحَدِيثِ: لاَ يَحِل لِلْمُؤْمِنٍ أَنْ
يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (3) إِلاَّ إِنْ قَصَدَ
رَدَّهَا أَوْ إِصْلاَحَ دِينِهَا، إِذِ الْهَجْرُ - وَلَوْ دَائِمًا
وَلِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ - جَائِزٌ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَفِسْقٍ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334.
(2) مَوَاهِب الْجَلِيل 4 / 15، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة
الدُّسُوقِيّ 2 / 343، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 171 - 172، وَالشَّرْح
الصَّغِير 2 / 511
(3) حَدِيث: " لاَ يَحِل لِلْمُؤْمِنِ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِّي 10 / 492) وَمُسْلِم (4 / 1984 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ)
مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم.
(40/297)
وَابْتِدَاعٍ وَإِيذَاءٍ وَزَجْرٍ
وَإِصْلاَحٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْهَجْرِ أَنْ يَهْجُرَ فِرَاشَهَا فَلاَ يُضَاجِعَهَا
فِيهِ، وَقِيل: هُوَ تَرْكُ الْوَطْءِ، وَقِيل: هُوَ أَنْ يَقُول لَهَا
هُجْرًا أَيْ إِغْلاَظًا فِي الْقَوْل.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لاَ غَايَةَ لَهُ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا، لأَِنَّهُ لِحَاجَةِ صَلاَحِهَا، فَمَتَى لَمْ تَصْلُحْ
تُهْجَرْ وَإِنْ بَلَغَ سِنِينَ وَمَتَى صَلَحَتْ فَلاَ هَجْرَ (1) كَمَا
قَال اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَظْهَرَتِ الْمَرْأَةُ النُّشُوزَ هَجَرَهَا
زَوْجُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ
تُضَاجِعُهَا فِي فِرَاشِكَ، وَقَدْ هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَلَمْ يَدْخُل عَلَيْهِنَّ شَهْرًا (3) ،
وَهَجْرُهَا فِي الْكَلاَمِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ لاَ فَوْقَهَا (4)
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ
وَلِلتَّفْصِيل (ر: هَجْر.
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 259، والقليوبي 3 / 306، وَالزَّوَاجِر 2 /
43.
(2) سُورَة النِّسَاءِ / 34
(3) حَدِيث: " هَجَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نِسَاءَهُ. . . " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِّي 9 / 279) ،
وَمُسْلِم (2 / 1113 مِنْ حَدِيثِ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
(4) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209.
(40/298)
ج - الضَّرْبُ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُؤَدِّبُ بِهِ الرَّجُل
زَوْجَتَهُ عِنْدَ نُشُوزِهَا الضَّرْبَ (1) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّرْبِ وَمَا يَلْزَمُ
تَوَافُرُهُ لِمُبَاشَرَتِهِ.
فَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَرْبِ التَّأْدِيبِ الْمَشْرُوعِ إِنْ
نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ: أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُدْمٍ وَلاَ
مُبَرِّحٍ وَلاَ شَائِنٍ وَلاَ مُخَوِّفٍ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَكْسِرُ
عَظْمًا وَلاَ يَشِينُ جَارِحَةً كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوِهَا، لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْهُ الصَّلاَحُ لاَ غَيْرَ.
وَقَالُوا: الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ هُوَ مَا يَعْظُمُ أَلَمُهُ عُرْفًا،
أَوْ مَا يُخْشَى مِنْهُ تَلَفُ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، أَوْ مَا يُورِثُ
شَيْئًا فَاحِشًا، أَوِ الشَّدِيدُ، أَوِ الْمُؤَثِّرُ الشَّاقُّ، قَال
بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُ مِنْ بَرِحَ الْخَفَاءُ إِذَا ظَهَرَ، وَفِي
الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ
اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ
عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ
فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ (3) .
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334، وَالشَّرْح الْكَبِير 2 / 343،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 383، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ / 34
(3) حَدِيث: " اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاء. . . " أَخْرَجَهُ مُسْلِم
(2 / 889 - 890 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ جَابِر بْن عَبْد
اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
(40/298)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
عَلَى أَنَّ النَّاشِزَةَ إِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتَدَعِ النُّشُوزَ إِلاَّ
بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَوِ الْخَوْفِ لَمْ يَجُزْ لِزَوْجِهَا
تَعْزِيرُهَا لاَ بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَلاَ بِغَيْرِهِ، قَال
الدَّرْدِيرُ: لاَ يَجُوزُ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا
لاَ تَتْرُكُ النُّشُوزَ إِلاَّ بِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فَلَهَا التَّطْلِيقُ
عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي هَيْئَةِ
الضَّرْبِ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ الَّتِي
تَحَقَّقَ نُشُوزَهَا عَلَى الْوَجْهِ وَالْمَهَالِكِ، قَال ابْنُ حَجَرٍ
الْهَيْتَمِيُّ: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ، فَعَنْ
مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا
رَسُول اللَّهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَال: أَنْ
تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ
اكْتَسَبْتَ وَلاَ تَضْرِبَ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحَ، وَلاَ تَهْجُرَ
إِلاَّ فِي الْبَيْتِ (2) ،
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 172،
وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 343، وَمَوَاهِب
الْجَلِيل 4 / 15 - 16، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 383، ومغني
الْمُحْتَاج 3 / 260، وَحَاشِيَة الشَّرْقَاوَيَّ عَلَى شَرْح التَّحْرِير
2 / 286، وَالزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 43، وَكَشَّاف
الْقِنَاع 5 / 209.
(2) حَدِيث مُعَاوِيَة الْقُشَيْرِيّ: " مَا حَقَّ زَوْجَة أَحَدِنَا. . .
. " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 606 ط حِمْص) وَأَحْمَد (5 / 3 ط
الميمنية) ، وَالْحَاكِم (2 / 188) وَاللَّفْظ لأَِبِي دَاوُد، وَصَحَّحَهُ
الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.
(40/299)
وَقَال الْهَيْتَمِيُّ: لاَ تَضْرِبْ
إِلاَّ فِي الْبَيْتِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى بَدَنِهَا، وَلاَ يُوَالِيِهِ
فِي مَوْضِعٍ لِئَلاَّ يَعْظُمَ ضَرَرُهُ، وَقَالُوا: لاَ يَبْلُغُ ضَرْبُ
حُرَّةٍ أَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا عِشْرِينَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجْتَنِبُ الْوَجْهَ تَكْرِمَةً لَهُ، وَالْبَطْنَ
وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ خَشْيَةَ الْقَتْل، وَالْمَوَاضِعَ
الْمُسْتَحْسَنَةَ لِئَلاَّ يُشَوِّهَهَا، وَيَكُونُ الضَّرْبُ عَشَرَةَ
أَسْوَاطٍ فَأَقَل (2) .
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ
عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْوْجُهِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَهُمْ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ
زَوْجَتَهُ إِنْ نَشَزَتْ بِضَرْبِهَا بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا ضَرْبًا غَيْرَ
مُبَرِّحٍ وَلاَ مُدْمٍ وَلاَ شَائِنٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ:
يُؤَدِّبُهَا بِضَرْبِهَا بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ أَوْ بِمِنْدِيلٍ
مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ، لاَ بِسَوْطٍ وَلاَ بِعَصًا وَلاَ بِخَشَبٍ،
لأَِنَّ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 368، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 383،
ومغني الْمُحْتَاج 3 / 360، وَالزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2
/ 43.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209 - 210.
(3) حَدِيث: " لاَ يَجْلِدُ أَحَد فَوْقَ عَشْرَة أَسْوَاط. . . "
أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 1333 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي
بُرْدَة الأَْنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(40/299)
الْمَقْصُودَ التَّأْدِيبُ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ - إِنْ
جَازَ لَهُ الضَّرْبُ لِتَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ لِنُشُوزِهَا - فَالأَْوْلَى
لَهُ الْعَفْوُ لأَِنَّ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَصْلَحَتِهِ، قَال
الشَّافِعِيَّةُ: تَرْكُ الضَّرْبِ بِالْكُلِّيَّةِ أَفْضَل، وَقَال
الْحَنَابِلَةُ: الأَْوْلَى تَرْكُ ضَرْبِهَا إِبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ (2)
.
وَفِي ضَرْبِ الْمَرْأَةِ لِلنُّشُوزِ قَال الْمَالِكِيَّةُ: لَمْ يَأْمُرِ
اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِهِ بِالضَّرْبِ صَرَاحَةً
إِلاَّ هُنَا - أَيِ الضَّرْبِ لِلتَّعْزِيرِ عَلَى النُّشُوزِ - وَفِي
الْحُدُودِ الْعِظَامِ، فَسَاوَى مَعْصِيَتَهُنَّ بِأَزْوَاجِهِنَّ
بِمَعْصِيَةِ الْكَبَائِرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَضْرِبُ الْمُسْتَحِقُّ
فِيهِ مَنْ مَنَعَهُ حَقَّهُ غَيْرَ هَذَا، وَالرَّقِيقُ يَمْتَنِعُ مِنْ
حَقِّ سَيِّدِهِ (3) .
هَل يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ النُّشُوزِ حَتَّى يُشْرَعَ الضَّرْبُ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَكْرَارِ نُشُوزِ الْمَرْأَةِ
لِضَرْبِهَا:
__________
(1) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 173، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 383،
وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209 - 210
(2) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 368، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 383،
وَحَاشِيَة الشَّرْقَاوَيَّ عَلَى شَرْح التَّحْرِير 2 / 286،
وَالزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 43، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5
/ 210.
(3) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 173، وَحَاشِيَة الشَّرْقَاوَيَّ عَلَى
شَرْح التَّحْرِير 2 / 286، ومغني المحتاج 3 / 260.
(40/300)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّ الضَّرْبَ لِتَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ مَشْرُوعٌ
بِتَحَقُّقِ نُشُوزِهَا وَلَوْ لأَِوَّل مَرَّةٍ دُونَ أَنْ يَتَكَرَّرَ
النُّشُوزُ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ (1) فَتَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ، فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ، وَالْخَوْفُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا (2)
وَالأَْوْلَى بَقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ صَرَّحَتْ
بِنُشُوزِهَا فَكَانَ لِزَوْجِهَا ضَرْبُهَا كَمَا لَوْ أَصَرَّتْ،
وَلأَِنَّ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي لاَ تَخْتَلِفُ بِالتَّكْرَارِ
وَعَدَمِهِ كَالْحُدُودِ.
وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ
مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ تَحَقَّقَ نُشُوزُ الزَّوْجَةِ وَلَمْ
يَتَكَرَّرْ وَلَمْ يَظْهَرْ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ ضَرْبُهَا،
لأَِنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَأَكَّدْ بِالتَّكْرَارِ، وَلأَِنَّ
الْمَقْصُودَ زَجْرُهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَمَا
هَذَا سَبِيلُهُ يُبْدَأُ فِيهِ بِالأَْسْهَل (3) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ ضَرْبِ
__________
(1) سُورَةُ النِّسَاءِ / 34
(2) سُورَة الْبَقَرَةِ / 182
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ
الدُّسُوقِيّ 2 / 343، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 369، ومغني المحتاج 2 /
259 - 260، وَشَرْح الْمِنْهَاجِ مَعَ الْقَلْيُوبِيّ 3 / 305، وَشَرْح
الْمَنْهَجِ مَعَ الْجُمَل 4 / 289، وَشَرْح الْتَّحَرِير مَعَ
الشَّرْقَاوَيَّ 2 / 285، وَالمغني 7 / 46.
(40/300)
النَّاشِزَةِ أَنْ يَعْلَمَ الزَّوْجُ أَوْ
يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ الضَّرْبَ يُفِيدُ فِي
تَأْدِيبِهَا وَرَدْعِهَا عَنِ النُّشُوزِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
أَنَّهُ لاَ يُفِيدُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ضَرْبُهَا وَيَحْرُمُ لأَِنَّهُ
عُقُوبَةٌ مُسْتَغْنًى عَنْهَا (1) .
وَقَيَّدَ الزَّرْكَشِيُّ ضَرْبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ النَّاشِزَةَ
بِنَفْسِهِ لِكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ وَتَأْدِيبِهَا بِمَا إِذَا لَمْ
يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، وَإِلاَّ فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ إِلَى
الْقَاضِي لِتَأْدِيبِهَا (2) .
الضَّمَانُ بِضَرْبِ التَّأْدِيبِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ لِنُشُوزِهَا -
بِالْقُيُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ - هُوَ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ
يُقْصَدُ مِنْهُ الصَّلاَحُ لاَ غَيْرَ، فَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ أَوْ
هَلاَكٍ وَجَبَ الْغُرْمُ وَالضَّمَانُ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
ضَرْبُ إِتْلاَفٍ لاَ إِصْلاَحٍ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ مَا تَلِفَ
بِالضَّرْبِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، لأَِنَّ ضَرْبَ
التَّأْدِيبِ مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ النَّاشِزَةَ إِنْ
تَلِفَتْ
__________
(1) مَوَاهِب الْجَلِيل 4 / 15، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 383، ومغني
المحتاج 3 / 260.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 384، ومغني المحتاج 3 / 260.
(40/301)
مِنْ ضَرْبِ زَوْجِهَا الْمَشْرُوعِ
لِلتَّأْدِيبِ عَلَى نُشُوزِهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ لأَِنَّهُ
مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا (1) .
التَّرْتِيبُ فِي التَّأْدِيبِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْتِزَامِ الزَّوْجِ التَّرْتِيبَ فِي
تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ،
وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَيْضًا رَأْيٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَأْدِيبَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ
لِنُشُوزِهَا يَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي الآْيَةِ،
فَيَبْدَأُ بِالْوَعْظِ ثُمَّ الْهَجْرِ ثُمَّ الضَّرْبِ، وَلَهُمْ فِي
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ وِلاَيَةُ تَأْدِيبِ امْرَأَتِهِ
لِنُشُوزِهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعِظُهَا أَوَّلاً عَلَى
الرِّفْقِ وَاللِّينِ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَإِلاَّ
هَجَرَهَا، وَقِيل: يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلاً وَالاِعْتِزَال
عَنْهَا وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلاَّ
هَجَرَهَا لَعَل نَفْسَهَا لاَ تَحْتَمِل الْهَجْرَ، فَإِنْ تَرَكَتِ
النُّشُوزَ وَإِلاَّ ضَرَبَهَا، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ وَإِلاَّ رَفَعَ
__________
(1) تَبْيِينُ الْحَقَائِقِ 3 / 211، وَفَتْح الْقَدِير 4 / 218،
وَالْبَحْر الرَّائِق 5 / 53، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 172،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 4 / 15، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 368، وَحَاشِيَة
الشَّرْقَاوَيَّ عَلَى شَرْح التَّحْرِير 2 / 286، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 /
210.
(40/301)
إِلَى الْقَاضِي.
وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ
نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ (1) فَظَاهِرُ الآْيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْوَاوِ
الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى
سَبِيل التَّرْتِيبِ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِل ذَلِكَ.
وَقَالُوا: وَسَبِيل هَذَا سَبِيل الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنِ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ: أَنَّ الآْمِرَ يَبْدَأُ
بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي
الْقَوْل، فَإِنْ قَبِلَتْ وَإِلاَّ غَلَّظَ الْقَوْل بِهِ، فَإِنْ
قَبِلَتْ وَإِلاَّ بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَعِظُ الزَّوْجُ مَنْ نَشَزَتْ، ثُمَّ إِذَا لَمْ
يُفِدِ الْوَعْظُ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ، ثُمَّ إِذَا لَمْ يُفِدِ
الْهَجْرُ جَازَ لَهُ ضَرْبُهَا، وَلاَ يَنْتَقِل لِحَالَةٍ حَتَّى يَظُنَّ
أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لاَ تُفِيدُ، وَيَفْعَل مَا عَدَا الضَّرْبَ
وَلَوْ لَمْ يَظُنَّ إِفَادَتَهُ - بِأَنْ شَكَّ فِيهِ لَعَلَّهُ يُفِيدُ -
لاَ إِنْ عَلِمَ عَدَمَ الإِْفَادَةِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ فَلاَ يَجُوزُ
إِلاَّ إِذَا ظَنَّ إِفَادَتَهُ لِشِدَّتِهِ، قَال الدُّسُوقِيُّ:
وَالْحَاصِل أَنَّ الزَّوْجَ يَعِظُ زَوْجَتَهُ إِنْ جَزَمَ بِالإِْفَادَةِ
أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا، فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا
هَجَرَهَا إِنْ جَزَمَ بِالإِْفَادَةِ أَوْ ظَنَّهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا،
فَإِنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهَا ضَرَبَهَا إِنْ جَزَمَ بِالإِْفَادَةِ
أَوْ ظَنَّهَا،
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 34
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334.
(40/302)
لاَ إِنْ شَكَّ فِيهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الزَّوْجَةِ
أَمَارَاتُ النُّشُوزِ وَعَظَهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الطَّاعَةِ
وَالأَْدَبِ حَرُمَ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ لِزَوَال مُبِيحِهِمَا، وَإِنْ
أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَهَجَرَهَا فِي
الْكَلاَمِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ فَوْقَهَا، فَإِنْ أَصَرَّتْ وَلَمْ
تَرْتَدِعْ بِالْهَجْرِ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا بَعْدَ الْهَجْرِ فِي
الْفِرَاشِ وَتَرْكِهَا مِنَ الْكَلاَمِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ
لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَ زَوْجَتَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ طُرُقِ
التَّأْدِيبِ الْوَارِدَةِ فِي الآْيَةِ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ.
قَال النَّوَوِيُّ: مَرَاتِبُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ ثَلاَثٌ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا أَمَارَاتُ النُّشُوزِ قَوْلاً أَوْ
فِعْلاً، بِأَنْ تُجِيبَهُ بِكَلاَمٍ خَشِنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَيِّنًا،
أَوْ يَجِدَ مِنْهَا إِعْرَاضًا وَعُبُوسًا بَعْدَ طَلاَقَةٍ وَلُطْفٍ،
فَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، يَعِظُهَا وَلاَ يَضْرِبُهَا وَلاَ
يَهْجُرُهَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَحَقَّقَ نُشُوزُهَا، لَكِنْ لاَ يَتَكَرَّرُ، وَلاَ
يَظْهَرُ إِصْرَارُهَا عَلَيْهِ، فَيَعِظُهَا وَيَهْجُرُهَا، وَفِي جَوَازِ
الضَّرْبِ قَوْلاَنِ، رَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ
الْمَنْعَ، وَرَجَّحَ صَاحِبَا الْمُهَذَّبِ وَالشَّامِل الْجَوَازَ.
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 343.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209.
(40/302)
قَال النَّوَوِيُّ: رَجَّحَ الرَّافِعِيُّ
فِي " الْمُحَرَّرِ " الْمَنْعَ، وَالْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ
الْجَوَازُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَكَرَّرَ وَتُصِرَّ عَلَيْهِ، فَلَهُ الْهِجْرَانُ
وَالضَّرْبُ بِلاَ خِلاَفٍ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي
الْمَرَاتِبِ الثَّلاَثِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ ابْنُ كَجٍّ قَوْلاً فِي
جَوَازِ الْهِجْرَانِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، لِظَاهِرِ
الآْيَةِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِي حَالَةِ ظُهُورِ النُّشُوزِ،
ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: لَهُ الْوَعْظُ وَالْهِجْرَانُ وَالضَّرْبُ، وَالثَّانِي:
يَتَخَيَّرُ بَيْنَهَا وَلاَ يَجْمَعُ. وَالثَّالِثُ: يَعِظُهَا، فَإِنْ
لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ضَرَبَهَا (1) .
اخْتِلاَفُ الزَّوْجَيْنِ فِي النُّشُوزِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْهُمَا عِنْدَ
اخْتِلاَفِهِمَا فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ.
فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّجُل
وَامْرَأَتُهُ فِي وُقُوعِ النُّشُوزِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، فَادَّعَاهُ
الرَّجُل وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَالْقَوْل لَهَا فِي عَدَمِ
النُّشُوزِ بِيَمِينِهَا حَيْثُ لاَ بَيِّنَةَ لَهُ وَكَانَتْ فِي
بَيْتِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا ظَاهِرٌ لَوْ كَانَ
الاِخْتِلاَفُ فِي نُشُوزٍ فِي الْحَال، أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهَا
سُقُوطَ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي شَهْرٍ مَاضٍ - مَثَلاً -
لِنُشُوزِهَا فِيهِ
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 368 - 369، وَالمغني 7 / 46، وَالإِْنْصَاف
8 / 377.
(40/303)
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْل لَهَا أَيْضًا
لإِِنْكَارِهَا مُوجِبَ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا، وَلَوِ ادَّعَتْ أَنَّ
خُرُوجَهَا إِلَى بَيْتِ أَهْلِهَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَنْكَرَ، أَوْ
ثَبَتَ نُشُوزُهَا ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ - مَثَلاً -
أَذِنَ لَهَا بِالْمُكْثِ هُنَاكَ هَل يَكُونُ الْقَوْل لَهَا أَمْ لاَ؟
لَمْ أَرَهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي لِتَحَقُّقِ الْمُسْقِطِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ مَنْعَ الْوَطْءِ أَوْ
الاِسْتِمْتَاعِ لِعُذْرٍ وَأَكْذَبَهَا الزَّوْجُ أَثْبَتَتْهُ
بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ
الرِّجَال، وَأَمَّا مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال فَلاَ يَثْبُتُ
إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ كَخُرُوجِهَا بِلاَ إِذْنٍ، وَلاَ يُقْبَل قَوْل
الزَّوْجِ: هِيَ تَمْنَعُنِي مِنْ وَطْئِهَا حَيْثُ قَالَتْ: لَمْ
أَمْنَعْهُ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى
إِسْقَاطِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ.
وَقَالُوا: إِنْ ضَرَبَهَا، فَادَّعَتِ الْعَدَاءَ وَادَّعَى الأَْدَبَ
فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ، وَحِينَئِذٍ يُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ
الْعَدَاءِ مَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مَعْرُوفًا بِالصَّلاَحِ، وَإِلاَّ
قُبِل قَوْلُهُ (2) .
وَقَال صَاحِبُ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ ضَرَبَهَا
وَادَّعَى أَنَّهُ بِسَبَبِ نُشُوزٍ وَادَّعَتْ عَدَمَهُ، فَفِيهِ
احْتِمَالاَنِ فِي الْمَطْلَبِ قَال: وَالَّذِي يَقْوَى فِي
__________
(1) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 2 / 646 - 647.
(2) شَرْح الزُّرْقَانِيّ 4 / 251، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 343،
وَمَوَاهِب الْجَلِيل 4 / 15.
(40/303)
ظَنِّي أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ، لأَِنَّ
الشَّرْعَ جَعَلَهُ وَلِيًّا فِي ذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ يُرْجَعُ إِلَيْهِ
فِي مِثْل ذَلِكَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهَا
فَلاَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَعْلَمْ جَرَاءَتَهُ وَتَعَدِّيَهُ، وَإِلاَّ
لَمْ يُصَدَّقْ وَصُدِّقَتْ هِيَ، وَقَيَّدَ الشَّرْقَاوِيُّ تَصْدِيقَهُ
بِيَمِينِهِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ: إِنِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي
نُشُوزِهَا بَعْدَ الاِعْتِرَافِ بِالتَّسْلِيمِ فَالْقَوْل قَوْلُهَا،
لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ ذَلِكَ (2) .
نُشُوزُ الزَّوْجِ أَوْ إِعْرَاضُهُ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ خَافَتْ مِنْ
زَوْجِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا لِرَغْبَتِهِ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ
بِهَا أَوْ كِبَرٍ أَوْ دَمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ
تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا تَسْتَرْضِيَهُ بِذَلِكَ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ
إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا (3) وَلِمَا وَرَدَ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي هَذِهِ الآْيَةِ
قَالَتِ: " الرَّجُل تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ
مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُول: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي
حِلٍّ،
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 260، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 384،
وَالشَّرْقَاوَيَّ 2 / 286، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 455.
(2) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 475.
(3) سورة النساء / 128
(40/304)
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي ذَلِكَ ".
قَال الْحَنَفِيَّةُ: هَذِهِ الآْيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ
بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ جَمَاعَةٌ، وَعَلَى وُجُوبِ
الْكَوْنِ عِنْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَعْبَ بْنَ سُورٍ قَضَى بِأَنَّ لَهَا يَوْمًا
مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِحَضْرَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَاسْتَحْسَنَهُ وَوَلاَّهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ
تَتْرُكَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ
نِسَائِهِ، وَعُمُومُ الآْيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ اصْطِلاَحِهِمَا عَلَى
تَرْكِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهَا
بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهَا إِسْقَاطُ
مَا وَجَبَ مِنَ النَّفَقَةِ لِلْمَاضِي، فَأَمَّا الْمُسْتَقْبَل فَلاَ
تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَتْ مِنَ الْوَطْءِ
لَمْ يَصِحَّ إِبْرَاؤُهَا وَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهَا
مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِطِيبِ نَفْسِهَا بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ
بِالنَّفَقَةِ وَبِالْكَوْنِ عِنْدَهَا، فَأَمَّا أَنْ تُسْقِطَ ذَلِكَ فِي
الْمُسْتَقْبَل بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ فَلاَ، وَلاَ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ
يُعْطِيَهَا عِوَضًا عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ أَوِ الْوَطْءِ،
لأَِنَّ ذَلِكَ أَكْل مَالٍ بِالْبَاطِل، أَوْ ذَلِكَ حَقٌّ لاَ يَجُوزُ
أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ
الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ (1) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 2 / 283.
(40/304)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: قَال عُلَمَاؤُنَا: أَنْوَاعُ الصُّلْحِ كُلُّهَا
مُبَاحَةٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بِأَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ
تَصْبِرَ هِيَ، أَوْ تُعْطِيَ هِيَ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ الزَّوْجُ، أَوْ
عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ وَيَتَمَسَّكَ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ يَقَعَ الصُّلْحُ
عَلَى الصَّبْرِ وَالأَْثَرَةِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، فَهَذَا كُلُّهُ
مُبَاحٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ الرَّجُل لاَ يَتَعَدَّى عَلَى
امْرَأَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا لَكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ
نَحْوِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُسَنُّ لَهَا
اسْتِعْطَافُهُ بِمَا يُحِبُّ، كَأَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِتَرْكِ بَعْضِ
حَقِّهَا، كَمَا تَرَكَتْ سَوْدَةُ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا لَمَّا خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ إِذَا كَرِهَتْ صُحْبَتَهُ
لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَسْتَعْطِفَهَا بِمَا تُحِبُّ مِنْ زِيَادَةِ
النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ خَافَتِ امْرَأَةٌ نُشُوزَ زَوْجِهَا
وَإِعْرَاضَهُ عَنْهَا لِكِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَرَضٍ أَوْ دَمَامَةٍ،
فَوَضَعَتْ عَنْهُ بَعْضَ حُقُوقِهَا أَوْ كُل حُقُوقِهَا، تَسْتَرْضِيهِ
بِذَلِكَ جَازَ، لأَِنَّهُ حَقُّهَا وَقَدْ رَضِيَتْ
__________
(1) الْقُرْطُبِيُّ 5 / 403 - 405.
(2) حَاشِيَة الشَّرْقَاوَيَّ عَلَى شَرْح التَّحْرِير 2 / 286، وَمُغْنِي
المحتاج3 / 261.
(40/305)
بِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ
فِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَلاَ رُجُوعَ لَهَا فِي الْمَاضِي، وَإِنْ
شَرَطَا مَالاً يُنَافِي نِكَاحًا لَزِمَ وَإِلاَّ فَلاَ، فَلَوْ صَالَحَتِ
الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِهَا أَوْ
قَسْمِهَا، أَوْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ فَلَهَا
ذَلِكَ، قَال أَحْمَدُ فِي الرَّجُل يَغِيبُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَيَقُول
لَهَا: إِنْ رَضِيتِ عَلَى هَذَا وَإِلاَّ فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَتَقُول:
قَدْ رَضِيتُ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ (1) .
تَعَدِّي الزَّوْجِ:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ تَعَدَّى عَلَى
زَوْجَتِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ أَوِ الْقَاضِيَ يَكُفُّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَنَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ
أَنْ يُعَزِّرَ الزَّوْجَ، وَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ فِي مَنْزِل الزَّوْجِ
وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا، فَشَكَتْ إِلَى الْقَاضِي أَنَّ
الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا، سَأَل الْقَاضِي جِيرَانَهَا، فَإِنْ
أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ - وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ - فَالْقَاضِي
يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا، وَيَأْمُرُ
جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَالْجِيرَانُ
قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى جِيرَانٍ
صَالِحِينَ، فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِيَ بِخِلاَفِ مَا قَالَتْ
أَقَرَّهَا هُنَاكَ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 211، والمغني 7 / 48.
(40/305)
وَلَمْ يُحَوِّلْهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَعَدَّى الزَّوْجُ عَلَى الزَّوْجَةِ
لِغَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ بِضَرْبٍ أَوْ سَبٍّ وَنَحْوِهِ، وَثَبَتَ
بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ زَجَرَهُ الْحَاكِمُ بِوَعْظٍ فَتَهْدِيدٍ،
فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِالْوَعْظِ ضَرَبَهُ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ فِي
زَجْرِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَهَذَا إِذَا اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ
مَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَعَظَهُ فَقَطْ دُونَ ضَرْبٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَنَعَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ حَقًّا لَهَا
كَقَسْمٍ وَنَفَقَةٍ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي تَوْفِيَتَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ
لِعَجْزِهَا عَنْهُ، بِخِلاَفِ نُشُوزِهَا فَإِنَّ لِلزَّوْجِ إِجْبَارَهَا
عَلَى إِفَاءِ حَقِّهِ لِقَدْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ
مُكَلَّفًا أَوْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أُلْزِمَ وَلَيُّهُ
تَوْفِيَتَهُ.
فَإِنْ أَسَاءَ خُلُقَهُ وَآذَاهَا بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ بِلاَ سَبَبٍ
نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلاَ يُعَزِّرُهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَيْهِ وَطَلَبَتْ
تَعْزِيرَهُ مِنَ الْقَاضِي عَزَّرَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ لِتَعَدِّيهِ
عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَزِّرْهُ فِي الْمَرَّةِ الأُْولَى وَإِنْ
كَانَ الْقِيَاسُ جَوَازَهُ إِذَا طَلَبَتْهُ قَال السُّبْكِيُّ: لَعَل
ذَلِكَ لأَِنَّ إِسَاءَةَ الْخُلُقِ تَكْثُرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ،
وَالتَّعْزِيرُ عَلَيْهَا يُورِثُ وَحْشَةً بَيْنَهُمَا، فَيَقْتَصِرُ
أَوَّلاً عَلَى النَّهْيِ لَعَل الْحَال يَلْتَئِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ
عَادَ عَزَّرَهُ وَأَسْكَنَهُ بِجَنْبِ ثِقَةٍ يَمْنَعُ الزَّوْجَ مِنَ
التَّعَدِّي
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 4 / 23.
(2) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 343.
(40/306)
عَلَيْهَا.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: وَيُحَال بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعُودَ إِلَى
الْعَدْل، وَلاَ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِي الْعَدْل، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ
قَوْلُهَا وَشَهَادَةُ الْقَرَائِنِ.
وَفَصَّل الإِْمَامُ فَقَال: إِنْ ظَنَّ الْحَاكِمُ تَعَدِّيَهُ وَلَمْ
يَثْبُتْ عِنْدَهُ لَمْ يَحُل بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَحَقَّقَهُ أَوْ ثَبَتَ
عِنْدَهُ وَخَافَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا - لِكَوْنِهِ
جَسُورًا - حَال بَيْنَهُمَا حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ عَدْلٌ، إِذْ لَوْ
لَمْ يَحُل بَيْنَهُمَا وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّعْزِيرِ لَرُبَّمَا بَلَغَ
مِنْهَا مَبْلَغًا لاَ يُسْتَدْرَكُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ
الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ نُشُوزٌ،
وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجُل أَسْكَنَهُمَا إِلَى جَنْبِ ثِقَةٍ
يَمْنَعُهُ مِنَ الإِْضْرَارِ بِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيْهَا (2) .
تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الآْخَرِ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنَ
الزَّوْجَيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ تَعَدَّى عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَمْرَهُمَا
يُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي فَيَنْظُرُهُ، وَيَأْمُرُ فِيهِ بِمَا يَمْنَعُ
الاِعْتِدَاءَ وَيَزْجُرُ الْمُتَعَدِّي، وَإِلاَّ نَصَّبَ حَكَمَيْنِ
لِلنَّظَرِ فِي الشِّقَاقِ وَمُحَاوَلَةِ الإِْصْلاَحِ بَيْنَهُمَا،
وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 260 - 261.
(2) المغني 7 / 48، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 210.
(40/306)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ
الزَّوْجَانِ وَادَّعَى الزَّوْجُ النُّشُوزَ، وَادَّعَتْ هِيَ عَلَيْهِ
ظُلْمَهُ وَتَقْصِيرَهُ فِي حُقُوقِهَا، حِينَئِذٍ يَبْعَثُ الْحَاكِمُ
حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا لِيَتَوَلَّيَا النَّظَرَ
فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيَرُدَّا إِلَى الْحَاكِمِ مَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ
مِنْ أَمْرِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ الْحَكَمَانِ لِيَعِظَا الظَّالِمَ
مِنْهُمَا وَيُنْكِرَا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وَإِعْلاَمَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ
لِيَأْخُذَ هُوَ عَلَى يَدِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ تَعَدِّي كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
عَلَى صَاحِبِهِ - عِنْدَ الْحَاكِمِ - وَعَظَهُمَا ثُمَّ ضَرَبَهُمَا
بِاجْتِهَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ذَلِكَ فَالْوَعْظُ فَقَطْ،
وَسَكَّنَهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ،
فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَوَّل الأَْمْرِ فَإِنَّهُمْ يُوصَوْنَ
عَلَى النَّظَرِ فِي حَالِهِمَا لِيُعْلَمَ مَنْ عِنْدَهُ ظُلْمٌ
مِنْهُمَا، وَإِنْ أُشْكِل الأَْمْرُ بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمَيْنِ مِنْ
أَهْلِهِمَا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ قَال كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: إِنَّ
صَاحِبَهُ مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ وَأَشْكَل الأَْمْرُ بَيْنَهُمَا، تَعَرَّفَ
الْقَاضِي الْحَال الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُمَا بِثِقَةٍ وَاحِدٍ
يُخْبِرُهُمَا وَيَكُونُ جَارًا لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ
أَسْكَنَهُمَا فِي جَنْبِ ثِقَةٍ يَتَعَرَّفُ حَالَهُمَا ثُمَّ يُنْهِي
إِلَيْهِ مَا يَعْرِفُهُ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُمَا مَنَعَ
الظَّالِمَ مِنْ عَوْدِهِ لِظُلْمِهِ،
__________
(1) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2190، 193.
(2) الشَّرْح الْكَبِير للدردير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 343 - 344.
(40/307)
وَطَرِيقِهُ فِي الزَّوْجِ مَا سَلَفَ فِي
" تَعَدِّي الزَّوْجِ " وَفِي الزَّوْجَةِ بِالزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ
كَغَيْرِهَا.
وَاكْتُفِيَ هُنَا بِثِقَةِ وَاحِدٍ تَنْزِيلاً لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ
الرِّوَايَةِ، لِمَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مِنَ الْعُسْرِ،
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
فِي الثِّقَةِ أَنْ يَكُونَ عَدْل شَهَادَةٍ بَل يَكْفِي عَدْل
الرِّوَايَةِ، وَلِهَذَا قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ
كَلاَمِهِمِ اعْتِبَارُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ بِخَبَرِهِ، لأَِنَّهُ
مِنْ بَابِ الْخَبَرِ لاَ الشَّهَادَةِ.
وَقَالُوا: إِنِ اشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بِأَنِ اسْتَمَرَّ
الْخِلاَفُ وَالْعَدَاوَةُ، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ، وَفَحُشَ
ذَلِكَ، بَعَثَ الْقَاضِي حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا
(1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ شِقَاقٌ نَظَرَ
الْحَاكِمُ، فَإِنْ بَانَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَدٍّ، أَوِ
ادَّعَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الآْخَرَ ظَلَمَهُ، أَسْكَنَهُمَا
إِلَى جَانِبِ مِنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا وَيُلْزِمُهُمَا الإِْنْصَافُ،
فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ ذَلِكَ وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا، وَخِيفَ
الشِّقَاقُ عَلَيْهِمَا وَالْعِصْيَانُ، بَعَثَ الْحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (2) .
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 61.
(2) المغني 7 / 48.
(40/307)
التَّحْكِيمُ عِنْدَ الشِّقَاقِ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ خِلاَفُ
الزَّوْجَيْنِ، وَأَشْكَل أَمْرُهُمَا، وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الإِْسَاءَةُ
مِنْهُمَا، وَخِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا إِلَى حَدٍّ يُؤَدِّي إِلَى مَا
حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ التَّحْكِيمَ
بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَشْرُوعًا (1) بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا
مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (2) .
وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّحْكِيمِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَال
بِهَا الْفُقَهَاءُ، اتِّبَاعًا لِلْحُكْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الآْيَةُ
السَّابِقَةُ، وَعَمَلاً بِهِ.
وَقَدْ بَسَطَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
فِي مَسَائِل، مِنْهَا:
أ - الْحَال الَّتِي يُبْعَثُ عِنْدَهَا الْحَكَمَانِ:
25 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ نَشَزَتْ وَلَمْ
يُجْدِ فِي تَأْدِيبِهَا وَكَفِّهَا عَنِ النُّشُوزِ الضَّرْبُ أَوْ مَا
يَسْبِقُهُ مِنْ وَسَائِل التَّأْدِيبِ وَالرَّدْعِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ
يَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إِلَيْهِمَا
الْحَكَمَيْنِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَشْكَل الأَْمْرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ،
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 4 / 16، وَالأُْمّ
5 / 194، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 211، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ
2 / 190، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 178.
(2) سُورَة النِّسَاء / 35
(40/308)
وَلَمْ يُدْرَ مِمَّنِ الإِْسَاءَةُ
مِنْهُمَا، وَاسْتَمَرَّ الإِْشْكَال بَعْدَ إِسْكَانِهَا بَيْنَ قَوْمٍ
صَالِحِينَ، أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمُ ابْتِدَاءً، أَوْ لَمْ يُمْكِنِ
السُّكْنَى بَيْنَهُمْ، أَوْ إِذَا اشْتَدَّ الْخِلاَفُ وَالشِّقَاقُ
وَالْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا، وَدَامَ التَّسَابُّ وَالتَّضَارُبُ وَفَحُشَ
ذَلِكَ، وَتَمَادَى الشَّرُّ بَيْنَهُمَا وَخَشَى أَنْ يُخْرِجَهُمَا إِلَى
الْعِصْيَانِ بَعَثَ الْقَاضِي الْحَكَمَيْنِ (1) .
ب - الْخِطَابُ بِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَحُكْمُهُ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ بِبَعْثِ
الْحَكَمَيْنِ فِي قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا
(2) لِلْحُكَّامِ وَالأُْمَرَاءِ، لأَِنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ
بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَيَمْنَعُونَ مِنَ التَّعَدِّي وَالظُّلْمِ.
وَقِيل: الْخِطَابُ لِلأَْوْلِيَاءِ، وَقِيل: لِلزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ
لِلأَْوْلِيَاءِ وَلِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمَيْنِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ
الرَّجُل وَامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِ مَنْ عَيَّنَهُمَا
الْقَاضِي لِذَلِكَ (3) .
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 /
190، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 175، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ
حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 344، ومغني المحتاج 3 / 261، وَالمغني 7 / 48،
وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 211.
(2) سُورَة النِّسَاء / 35
(3) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 190، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5
/ 175، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ الدُّسُوقِيّ 2 / 344، ومغني المحتاج 3 /
261، وَالمغني 7 / 48.
(40/308)
وَنَصَّ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْثَ الْحَكَمَيْنِ
وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ آيَةَ بَعْثِ
الْحَكَمَيْنِ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، فَالْعَمَل بِهَا وَاجِبٌ،
وَلأَِنَّهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الظِّلاَمَاتِ، وَهُوَ مِنَ الْفُرُوضِ
الْعَامَّةِ عَلَى الْقَاضِي، " قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ:
صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ،
وَقَال الأَْذْرُعِيُّ: ظَاهِرُ نَصِّ الأُْمِّ الْوُجُوبُ.
وَنَصُّ الأُْمِّ هُوَ: قَال الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا ارْتَفَعَ
الزَّوْجَانِ الْمَخُوفُ شِقَاقُهُمَا إِلَى الْحَاكِمِ فَحَقَّ عَلَيْهِ
أَنْ يَبْعَثَ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (1) .
ج - كَوْنُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْل الزَّوْجَيْنِ:
27 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ كَوْنَ
الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْل الزَّوْجَيْنِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ،
لَكِنَّهُ الأَْوْلَى لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَلأَِنَّهُمَا أَشْفَقُ وَأَعْلَمُ
بِالْحَال، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِمَا، لأَِنَّ
الْقَرَابَةَ لاَ تُشْتَرَطُ فِي الْحَاكِمِ وَلاَ فِي الْوَكِيل، فَكَانَ
الأَْمْرُ بِذَلِكَ إِرْشَادًا وَاسْتِحْبَابًا (2) .
__________
(1) جَوَاهِر اللَّيْل 1 / 328، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 385، ومغني
المحتاج 3 / 261، وَالأُْمّ 5 / 194.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 261، وَالمغني 7 / 50، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5
/ 211.
(40/309)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ
الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْل الزَّوْجَيْنِ - حَكَمٌ مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمٌ
مِنْ أَهْلِهَا - إِنْ أَمْكَنَ، لأَِنَّ الأَْقَارِبَ أَعْرَفُ
بِبَوَاطِنِ الأُْمُورِ، وَأَقْعَدُ بِأَحْوَال الزَّوْجَيْنِ، وَأَطْيَبُ
لِلإِْصْلاَحِ، وَنُفُوسُ الزَّوْجَيْنِ أَسْكَنُ إِلَيْهِمَا،
فَيُبْرِزَانِ لَهُمَا مَا فِي ضَمَائِرِهِمَا مِنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ
وَإِرَادَةِ الْفُرْقَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَلاَ يَجُوزُ بَعْثُ
أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ إِمْكَانِ الأَْهْلَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَهُمَا مَعَ
الإِْمْكَانِ فَالظَّاهِرُ نَقْضُ حُكْمِهِمَا، لأَِنَّ ظَاهِرَ الآْيَةِ
أَنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مَعَ الْوِجْدَانِ وَاجِبٌ شَرْطٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُمَا مَعًا مِنَ الأَْهْل، بَل وَاحِدٌ فَقَطْ
مِنْ أَهْل أَحَدِهِمَا وَالآْخَرُ أَجْنَبِيٌّ فَقَال اللَّخْمِيُّ:
يُضَمُّ لأَِهْل أَحَدِهِمَا أَجْنَبِيٌّ، وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ:
يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُمَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَتَرْكُ الْقَرِيبِ
لأَِحَدِهِمَا، قَال الدُّسُوقِيُّ: لِئَلاَّ يَمِيل الْقَرِيبُ
لِقَرِيبِهِ.
وَنَدَبَ كَوْنَهُمَا جَارَيْنِ فِي بَعْثِ الأَْهْلَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ
وَالأَْجْنَبِيَّيْنِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِهِمَا مَنْ
يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُرْسِل مِنْ غَيْرِهِمَا (1) .
وَقَال الْجَصَّاصُ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَكُونَ
أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهَا وَالآْخِرُ مِنْ أَهْلِهِ لِئَلاَّ
__________
(1) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 175، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة
الدُّسُوقِيّ 2 / 344.
(40/309)
تَسْبِقَ الظِّنَّةُ إِذَا كَانَا
أَجْنَبِيَّيْنِ بِالْمَيْل إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا
مِنْ قِبَلِهِ وَالآْخَرُ مَنْ قِبَلِهَا زَالَتِ الظِّنَّةُ، وَتَكَلَّمَ
كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّنْ هُوَ مِنْ قِبَلِهِ (1) .
د - شُرُوطُ الْحَكَمَيْنِ:
28 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ
الْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِأَحْكَامِ النُّشُوزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي
اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ،
وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْحَكَمَيْنِ الذُّكُورَةُ وَالرُّشْدُ
وَالْعَدَالَةُ وَالْفِقْهُ بِمَا حَكَمَا فِيهِ، وَبَطَل حُكْمُ غَيْرِ
الْعَدْل - وَهُوَ الْفَاسِقُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ - بِإِبْقَاءٍ
أَوْ بِطَلاَقٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ فِي خُلْعٍ، وَبَطَل حُكْمُ
سَفِيهٍ - وَهُوَ الْمُبَذِّرُ فِي الشَّهَوَاتِ وَلَوْ مُبَاحَةً عَلَى
الْمَذْهَبِ - وَحُكْمُ امْرَأَةٍ، وَحُكْمُ غَيْرِ فَقِيهٍ بِأَحْكَامِ
النُّشُوزِ مَا لَمْ يُشَاوِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ، فَإِنْ
حَكَمَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْحَكَمَيْنِ التَّكْلِيفُ
وَالإِْسْلاَمُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالاِهْتِدَاءُ إِلَى
الْمَقْصُودِ بِمَا بُعِثَا لَهُ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
__________
(1) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 1 / 190.
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 344.
(40/310)
الأَْظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ
أَنَّهُمَا وَكِيلاَنِ، وَمُقَابِلُهُ وَهُوَ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ،
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ فِيهِمَا ذَلِكَ مِنَ الْقَوْل بِأَنَّهُمَا
وَكِيلاَنِ لِتَعَلُّقِ وَكَالَتِهِمَا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ كَمَا فِي
أَمِينِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الذُّكُورَةُ عَلَى الأَْظْهَرِ فِي
الْمَذْهَبِ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَتُنْدَبُ وَتُشْتَرَطُ عَلَى
الْقَوْل الثَّانِي (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحَكَمَانِ لاَ يَكُونَانِ إِلاَّ عَاقِلَيْنِ
بَالِغَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، لأَِنَّ هَذِهِ مِنْ شُرُوطِ
الْعَدَالَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُمَا حَاكِمَانِ أَوْ وَكِيلاَنِ، لأَِنَّ
الْوَكِيل إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَظَرِ الْحَاكِمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ
يَكُونَ إِلاَّ عَدْلاً كَمَا لَوْ نُصِّبَ وَكِيلاً لِصَبِيٍّ أَوْ
مُفْلِسٍ، وَيَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ لأَِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الرَّأْيِ
وَالنَّظَرِ، قَال الْقَاضِي: وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُمَا حُرَّيْنِ لأَِنَّ
الْعَبْدَ عِنْدَهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فَتَكُونُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ
شُرُوطِ الْعَدَالَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى أَنْ يُقَال
إِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ تُعْتَبَرِ الْحُرِّيَّةُ لأَِنَّ تَوْكِيل
الْعَبْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَا حَكَمَيْنِ اعْتُبِرَتِ الْحُرِّيَّةُ
لأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَيُعْتَبَرُ أَنْ
يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ لأَِنَّهُمَا
يَتَصَرَّفَانِ فِي ذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ عِلْمُهُمَا بِهِ (2) .
هـ - صِفَةُ الْحَكَمَيْنِ وَصَلاَحِيَّتُهُمَا:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 261، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 3 / 307.
(2) المغني 7 / 49 - 50.
(40/310)
وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلاَنِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ،
لاَ يُبْعَثَانِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا وَلاَ يَمْلِكَانِ
التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّهُمَا
حَاكِمَانِ يَفْعَلاَنِ مَا يَرَيَانِ أَنَّهُ الْمَصْلَحَةُ، وَكَّلَهُمَا
الزَّوْجَانِ أَوْ لَمْ يُوكِّلاَهُمَا (2) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ تَفْصِيلٌ:
30 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلاَنِ لِلزَّوْجَيْنِ،
أَحَدُهُمَا وَكَيْل الْمَرْأَةِ وَالآْخَرُ وَكِيل الزَّوْجِ، كَذَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ
وَامْرَأَتُهُ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
مَعَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ
أَهْلِهَا، ثُمَّ قَال لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟
عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ
رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ:
رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ، قَال الرَّجُل: أَمَّا
الْفُرْقَةُ فَلاَ، فَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
__________
(1) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 190، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6
/ 385، وَالإِْنْصَاف 8 / 380.
(2) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 344، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 6 / 385، وَالإِْنْصَاف 8 / 381.
(40/311)
عَنْهُ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لاَ
يَنْقَلِبُ حَتَّى يُقِرَّ بِمِثْل الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ، فَأَخْبَرَ
عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ قَوْل الْحَكَمَيْنِ
إِنَّمَا يَكُونُ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ.
وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُفَرِّقَا إِلاَّ أَنْ يَرْضَى
الزَّوْجَانِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ
أَقَرَّ بِالإِْسَاءَةِ إِلَيْهَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ
يُجْبِرْهُ الْحَاكِمُ عَلَى طَلاَقِهَا قَبْل تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِالنُّشُوزِ لَمْ يُجْبِرْهَا
الْحَاكِمُ عَلَى خُلْعٍ وَلاَ عَلَى رَدِّ مَهْرِهَا، فَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ حُكْمُهُمَا قَبْل بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ
بَعْثِهِمَا لاَ يَجُوزُ إِيقَاعُ الطَّلاَقِ مِنْ جِهَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ
رِضَا الزَّوْجِ وَتَوْكِيلِهِ وَلاَ إِخْرَاجِ الْمَهْرِ عَنْ مِلْكِهَا
مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، فَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ خُلْعُهُمَا إِلاَّ بِرِضَا
الزَّوْجَيْنِ، وَلأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فَكَيْفَ
يَمْلِكُهُ الْحَكَمَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا وَكِيلاَنِ لَهُمَا فِي
الْخُلْعِ أَوْ فِي التَّفْرِيقِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْحَكَمَيْنِ لاَ يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ
بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ بِالتَّوْكِيل، وَلاَ يَكُونَانِ حَكَمَيْنِ إِلاَّ
بِذَلِكَ، ثُمَّ مَا حَكَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ،
وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَخْلَعَا بِغَيْرِ رِضَاهُ
وَيُخْرِجَا الْمَال عَنْ مِلْكِهَا وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: وَلاَ
يَحِل لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ
يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (1)
__________
(1) سُورَة الْبَقَرَة / 229
(40/311)
وَقَال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (1) ، فَمَنَعَ كُل أَحَدٍ أَنْ
يَأْكُل مَال غَيْرِهِ إِلاَّ بِرِضَاهُ، وَقَال عَزَّ وَجَل: وَلاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ (2) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْحَاكِمَ
وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَخْذَ مَال أَحَدٍ
وَدَفْعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لاَ
يَمْلِكُ أَخْذَ مَالِهَا وَدَفْعَهُ إِلَى زَوْجِهَا، وَلاَ يَمْلِكُ
إِقَاعَ طَلاَقٍ عَلَى الزَّوْجِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهِ وَلاَ رِضَاهُ (3)
31 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلْحَكَمَيْنِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ، وَتَفْرِيقُهُمَا جَائِزٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ،
وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوَكِّلاَهُمَا، وَيَكُونُ
طَلاَقًا بَائِنًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خُلْعًا بِأَنْ كَانَ بِلاَ عِوَضٍ،
وَيُنَفَّذُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ بِهِ بَعْدَ إِيقَاعِهِ -
وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلِلزَّوْجَيْنِ الَّذَيْنِ أَقَامَا الْحَكَمَيْنِ
بِدُونِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ الرُّجُوعُ - وَيُنَفَّذُ حُكْمُ
الْحَاكِمَيْنِ إِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْحَاكِمُ، أَوْ خَالَفَ حُكْمَ
قَاضِي الْبَلَدِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مُقَامَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ
أَمْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ، لأَِنَّ طَرِيقَهُمَا الْحُكْمُ لاَ
الشَّهَادَةُ وَلاَ الْوَكَالَةُ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 34
(2) سُورَة الْبَقَرَة / 188
(3) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 190 - 191 - 192.
(40/312)
قَال: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (1) ، وَهَذَا نَصٌّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
بِأَنَّهُمَا قَاضِيَانِ لاَ وَكِيلاَنِ وَلاَ شَاهِدَانِ، وَلِلْوَكِيل
اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَعْنًى، وَلِلْحَكَمِ اسْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ
وَمَعْنًى، فَإِذَا بَيَّنَ اللَّهُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلاَ يَنْبَغِي
أَنْ يُرَكَّبَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ - الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي
اسْتِدْلاَل الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَال لِلْحَكَمَيْنِ: " أَتَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟
عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا فَرَّقْتُمَا " فَلَوْ
كَانَا وَكِيلَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ لَمْ يَقُل لَهُمَا: أَتَدْرِيَانِ
مَا عَلَيْكُمَا؟ إِنَّمَا كَانَ يَقُول: أَتَدْرِيَانِ بِمَا
وُكِّلْتُمَا؟ .
وَلاَ يَلْزَمُ طَلاَقٌ أَوْقَعَهُ الْحَكَمَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ،
وَلاَ يَجُوزُ لَهُمَا إِيقَاعُ الأَْكْثَرِ ابْتِدَاءً لأَِنَّهُ خَارِجٌ
عَنْ مَعْنَى الإِْصْلاَحِ الَّذِي بُعِثَا لَهُ فَلِلزَّوْجِ رَدُّ
الزَّائِدِ، قَال الآْبِيُّ: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلاَ يُفَرِّقَانِ
بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَهِيَ بَائِنَةٌ فَإِنْ حَكَمَا بِهِ سَقَطَ.
وَإِنْ طَلَّقَ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ وَاحِدَةً وَطَلَّقَ الآْخَرُ
اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا لَزِمَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لاِتِّفَاقِ
الْحَكَمَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ.
وَإِنْ طَلَّقَ الْحَكَمَانِ، وَاخْتَلَفَا فِي كَوْنِ الطَّلاَقِ
بِالْمَال لِلزَّوْجِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ كَوْنِهِ بِلاَ مَالٍ، بِأَنْ
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 35
(40/312)
قَال أَحَدُهُمَا: طَلَّقْتُهَا بِمَالٍ،
وَقَال الآْخَرُ: طَلَّقْتُهَا بِلاَ مَالٍ، أَوْ قَال أَحَدُهُمَا:
طَلَّقْنَاهَا مَعًا بِمَالٍ وَقَال الآْخَرُ: بِلاَ مَالٍ، فَإِنْ لَمْ
تَلْتَزِمِ الزَّوْجَةُ الْمَال فَلاَ طَلاَقَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ،
وَيَعُودُ الْحَال كَمَا كَانَ، وَإِنِ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ وَبَانَتْ
مِنْهُ.
وَيَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - أَنْ يَأْتِيَا
لِلْحَاكِمِ الَّذِي أَرْسَلَهُمَا فَيُخْبِرَاهُ بِمَا فَعَلاَهُ
لِيَحْتَاطَ عِلْمُهُ بِالْقَضِيَّةِ، فَإِذَا أَخْبَرَاهُ وَجَبَ
إِمْضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَقُّبٍ وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، بِأَنْ
يَقُول: حَكَمْتُ بِمَا حَكَمْتُمَا بِهِ.
وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجَانِ حَكَمَيْنِ بِدُونِ رَفْعٍ إِلَى الْحَاكِمِ،
جَازَ لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ يَرْجِعَا عَنِ التَّحْكِيمِ وَيَعْزِلاَ
الْحَكَمَيْنِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبَا الْكَشْفَ عَنْ حَال الزَّوْجَيْنِ
وَيَعْزِمَا عَلَى الْحُكْمِ بِالطَّلاَقِ، أَمَّا إِنِ اسْتَوْعَبَاهُ
وَعَزَمَا عَلَى ذَلِكَ فَلاَ عِبْرَةَ بِرُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمَا
عَنِ التَّحْكِيمِ، وَيَلْزَمُهُمَا مَا حَكَمَا بِهِ، سَوَاءٌ رَجَعَ
أَحَدُهُمَا أَوْ رَجَعَا مَعًا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ رَضِيَا بِالْبَقَاءِ
عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَوَّازِيَّةِ، وَقَال ابْنُ
يُونُسَ: يَنْبَغِي إِذَا رَضِيَا مَعًا بِالْبَقَاءِ أَنْ لاَ يُفَرِّقَ
بَيْنَهُمَا.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: مَفْهُومُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا
مُوَجَّهَيْنِ مِنَ الْحَاكِمِ فَلَيْسَ - أَيْ لِلزَّوْجَيْنِ -
الإِْقْلاَعُ عَنِ التَّحْكِيمِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبِ الْحَكَمَانِ
(40/313)
الْكَشْفَ عَنْ حَال الزَّوْجَيْنِ (1) .
32 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْحَكَمَانِ وَكِيلاَنِ عَنِ الزَّوْجَيْنِ
فِي الأَْظْهَرِ لأَِنَّ الْحَال قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ،
وَالْبُضْعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَال حَقُّ الزَّوْجَةِ، وَهُمَا
رَشِيدَانِ فَلاَ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي حَقِّهِمَا، وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ
لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْوِلاَيَةِ إِلاَّ فِي الْمَوْلَى وَهُوَ خَارِجٌ
عَنِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ بِبَعْثِ
الْحَكَمَيْنِ، فَيُوَكِّل الزَّوْجُ إِنْ شَاءَ حَكَمَهُ بِطَلاَقٍ
وَقَبُول عِوَضِ خُلْعٍ، وَتُوَكِّل الزَّوْجَةُ إِنْ شَاءَتْ حَكَمَهَا
بِبَذْل عِوَضٍ لِلْخُلْعِ وَقَبُول طَلاَقٍ بِهِ، وَيُفَرِّقُ
الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا إِنْ رَأَيَاهُ صَوَابًا.
وَلاَ يَجُوزُ لِوَكِيلٍ فِي طَلاَقٍ أَنْ يُخَالِعَ، لأَِنَّ ذَلِكَ إِنْ
أَفَادَهُ مَالاً فَوَّتَ عَلَيْهِ الرُّجْعَةَ، كَمَا لاَ يَجُوزُ
لِوَكِيلٍ فِي خُلْعٍ أَنْ يُطَلِّقَ مَجَّانًا.
وَإِنِ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْحَكَمَيْنِ بَعَثَ الْقَاضِي اثْنَيْنِ
غَيْرَهُمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ عَجِزَا أَيْضًا
أَدَّبَ الْقَاضِي الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَأَخَذَ حَقَّ الآْخَرِ مِنْهُ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ
__________
(1) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 176 - 177، وَجَوَاهِر الإِْكْلِيل 1 / 329
- 335، وَالشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 344، 345، 346،
347.
(40/313)
حَاكِمَانِ مُوَلَّيَانِ مِنَ الْحَاكِمِ
قَال الْخَطِيبُ: وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
سَمَّاهُمَا فِي الآْيَةِ حَكَمَيْنِ، وَالْوَكِيل مَأْذُونٌ لَيْسَ
بِحَكَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْل، لاَ يُشْتَرَطُ رِضَا الزَّوْجَيْنِ
بِبَعْثِهِمَا، وَيَحْكُمَانِ بِمَا يَرَيَاهُ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ
وَالتَّفْرِيقِ، وَإِذَا رَأَى حَكَمُ الزَّوْجِ الطَّلاَقَ اسْتَقَل بِهِ
وَلاَ يَزِيدُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَإِنْ رَأَى الْخُلْعَ وَوَافَقَهُ
حَكَمُهَا تَخَالَعَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ (1) .
33 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي
الْحَكَمَيْنِ:
فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُمَا وَكِيلاَنِ
لِلزَّوْجَيْنِ، لاَ يُرْسَلاَنِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا وَتَوْكِيلِهِمَا،
وَلاَ يَمْلِكَانِ التَّفْرِيقَ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، لأَِنَّ الْبُضْعَ
حَقُّهُ وَالْمَال حَقُّهَا، وَهُمَا رَشِيدَانِ فَلاَ يَجُوزُ
لِغَيْرِهِمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِوَكَالَةٍ مِنْهُمَا أَوْ
وِلاَيَةٍ عَلَيْهِمَا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحُ مِنَ
الْمَذْهَبِ كَمَا قَال الْمُرْدَاوِيُّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمَا حَاكِمَانِ، وَلَهُمَا أَنْ
يَفْعَلاَ مَا يَرَيَانِ مِنْ جَمْعٍ وَتَفْرِيقٍ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ
عِوَضٍ، وَلاَ يَحْتَاجَانِ إِلَى تَوْكِيل الزَّوْجَيْنِ وَلاَ
رِضَاهُمَا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا حَكَمًا
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 261، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 385،
وَشَرْح الْمُحَلَّى وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 3 / 157.
(40/314)
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا
فَسَمَّاهُمَا حَكَمَيْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ
قَال: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا فَخَاطَبَ الْحَكَمَيْنِ بِذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قُلْنَا: هُمَا وَكِيلاَنِ فَلاَ يَفْعَلاَنِ
شَيْئًا حَتَّى يَأْذَنَ الرَّجُل لِوَكِيلِهِ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ طَلاَقٍ
أَوْ صُلْحٍ، وَتَأْذَنُ الْمَرْأَةُ لِوَكِيلِهَا فِي الْخُلْعِ
وَالصُّلْحِ عَلَى مَا يَرَاهُ، وَلاَ يَصْلُحُ الإِْبْرَاءُ مِنَ
الْحَكَمَيْنِ لأَِنَّهُمَا لَمْ يُوَكَّلاَ فِيهِ إِلاَّ فِي الْخُلْعِ
خَاصَّةً مِنْ وَكِيل الْمَرْأَةِ فَقَطْ فَتَصِحُّ بَرَاءَتُهُ عَنْهَا،
لأَِنَّ الْخُلْعَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِعِوَضٍ، فَتَوْكِيلُهَا فِيهِ
إِذْنٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَمِنْهَا الإِْبْرَاءُ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ فَإِنَّهُمَا يُمْضِيَانِ مَا
يَرَيَانِهِ مِنْ طَلاَقٍ وَخُلْعٍ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا
رَضِيَاهُ أَوْ أَبَيَاهُ (1) .
و إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ بَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ فِي حَال الشِّقَاقِ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلزَّوْجَيْنِ إِقَامَةُ حَكَمٍ وَاحِدٍ مِنْ
غَيْرِ رَفْعٍ لِلْحَاكِمِ يَكُونُ عَدْلاً رَشِيدًا ذَكَرًا فَقِيهًا
بِمَا بُعِثَ لَهُ، وَيَفْعَل ذَلِكَ الْحَكَمُ مَا يَفْعَلُهُ
الْحَكَمَانِ مِنَ الإِْصْلاَحِ أَوِ التَّطْلِيقِ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ
بِمَالٍ.
__________
(1) الإِْنْصَاف 8 / 380، 381، وَالمغني 7 / 49، 50، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5
/ 211.
(40/314)
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ إِقَامَةِ
الْوَلِيَّيْنِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَحْجُورَيْنِ حَكَمًا وَاحِدًا
عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالرُّشْدِ
وَالذُّكُورَةِ وَالْفِقْهِ، وَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُمَا، فَقَال
اللَّخْمِيُّ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَال الْبَاجِيُّ: لاَ يَجُوزُ،
وَالأَْظْهَرُ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - الْقَوْل بِالْجَوَازِ،
وَعَلَى الْقَوْل بِمَنْعِ إِقَامَةِ حَكَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَوْ
أُقِيمَ وَحَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الرَّمْلِيُّ: لاَ يَكْفِي حَكَمٌ وَاحِدٌ،
بَل لاَ بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ يَنْظُرَانِ فِي أَمْرِهِمَا بَعْدَ
اخْتِلاَءِ حَكَمِ كُلٍّ بِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُ.
وَقَال الْخَطِيبُ: اقْتَضَى كَلاَمُ الْمُصَنِّفِ - النَّوَوِيِّ - عَدَمَ
الاِكْتِفَاءِ بِحَكَمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الأَْصَحُّ، لِظَاهِرِ الآْيَةِ،
وَلأَِنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَتَّهِمُهُ وَلاَ يُفْشِي إِلَيْهِ
سِرَّهُ (2) .
ز - مَا يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُصْلِحَا
بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا اسْتَطَاعَا، فَإِنْ أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ
رَفَعَا الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ فَرَّقَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ،
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُبْعَثُ الْحَكَمَانِ إِلَى الزَّوْجَيْنِ
__________
(1) الشَّرْح الْكَبِير وَالدُّسُوقِيّ 2 / 346، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 4 /
18.
(2) مُغْنِي المحتاج3 / 261، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 385.
(40/315)
لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ
أَعْيَاهُمَا الصُّلْحُ وَعَظَا الظَّالِمَ مِنْهُمَا، وَأَنْكَرَا
عَلَيْهِ ظُلْمَهُ، وَأَعْلَمَا الْحَاكِمَ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ عَلَى
يَدِهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ فِي أَوَّل الأَْمْرِ
أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِكُل وَجْهٍ أَمْكَنَهُمَا لأَِجْل
الأُْلْفَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْلُوَ كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِقَرِيبِهِ وَيَسْأَلَهُ عَمَّا كَرِهَ مِنْ صَاحِبِهِ،
وَيَقُول لَهُ: إِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فِي صَاحِبِكَ رَدَدْنَاهُ لِمَا
تَخْتَارُ مَعَهُ.
فَإِنْ تَعَذَّرَ الإِْصْلاَحُ نَظَرَ الْحَكَمَانِ: فَإِنْ تَبَيَّنَ
أَنَّ الإِْسَاءَةَ مِنَ الزَّوْجِ طَلَّقَا عَلَيْهِ بِلاَ خُلْعٍ، أَيْ
بِلاَ مَالٍ يَأْخُذَانِهُ مِنْهَا لَهُ لِظُلْمِهِ.
وَإِنْ كَانَتِ الإِْسَاءَةُ مِنْهَا ائْتَمَنَاهُ عَلَيْهَا وَأَقَرَّاهَا
عِنْدَهُ - إِنْ رَأَيَاهُ صَلاَحًا - وَأَمَرَاهُ بِالصَّبْرِ وَحُسْنِ
الْمُعَاشَرَةِ، أَوْ خَالَعَا لَهُ بِنَظَرِهِمَا فِي قَدْرِ الْمُخَالَعِ
بِهِ وَلَوْ زَادَ عَلَى الصَّدَاقِ، إِنْ أَحَبَّ الزَّوْجُ الْفِرَاقَ
أَوْ عَلِمَا أَنَّهَا لاَ تَسْتَقِيمُ مَعَهُ.
وَإِنْ كَانَتِ الإِْسَاءَةُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَهَل
يَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الإِْصْلاَحِ
الطَّلاَقُ بِلاَ خُلْعٍ إِنْ لَمْ تَرْضَ الزَّوْجَةُ بِالْمَقَامِ
مَعَهُ، أَوْ لَهُمَا أَنْ يُخَالِعَا بِالنَّظَرِ عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ
مِنْهَا لَهُ؟ قَال خَلِيلٌ: وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ - أَيْ عَلَى
الْخُلْعِ
__________
(1) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 193.
(40/315)
بِالنَّظَرِ وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ مِنْ
شُرَّاحِ الْمُدَوَّنَةِ - وَقَال الشَّبْرَخِيتِيُّ: إِنَّ الأَْوَّل -
وَهُوَ الطَّلاَقُ بِلاَ خُلْعٍ - هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الأَْكْثَرُ.
وَقَال الآْبِيُّ نَقْلاً عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ: فِي كَيْفِيَّةِ
التَّفْرِقَةِ عِبَارَاتٌ، قَال الْبَاجِيُّ: وَإِنْ كَانَتِ الإِْسَاءَةُ
مِنَ الزَّوْجَيْنِ فَرَّقَ الْحَكَمَانِ عَلَى بَعْضِ الصَّدَاقِ فَلاَ
يَسْتَوْعِبَاهُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ، رَوَاهُ
مُحَمَّدٌ عَنْ أَشْهَبَ، قَال مُحَمَّدٌ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (1) ، وَقَال
ابْنُ فَتْحُونٍ: إِنْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى الصُّلْحِ فَرَّقَا بِشَيْءٍ
مِنَ الزَّوْجَةِ لَهُ، أَوْ إِسْقَاطِهِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى
الْمُتَارَكَةِ دُونَ أَخْذٍ وَإِسْقَاطٍ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ
لَهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَبِعَهُ الْمُتَيْطِيُّ.
وَعَلَى الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَأْتِيَا الْحَاكِمَ فَيُخْبِرَاهُ بِمَا
حَكَمَا بِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَنْظُرُ الْحَكَمَانِ فِي أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ
بَعْدَ اخْتِلاَءِ حَكَمِهِ بِهِ وَحَكَمِهَا بِهَا وَمَعْرِفَةِ مَا
عِنْدَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلاَ يُخْفِي حَكَمٌ عَنْ حَكَمٍ شَيْئًا إِذَا
اجْتَمَعَا، وَيُصْلِحَانِ بَيْنَهُمَا أَوْ يُفَرِّقَانِ بِطَلْقَةٍ إِنْ
عَسُرَ الإِْصْلاَحُ، وَيَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ
يَحْتَاطَ، فَلَوْ قَال الزَّوْجُ لِوَكِيلِهِ: خُذْ
__________
(1) سُورَة الْبَقَرَة / 229
(2) الشَّرْح الْكَبِير وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 345 - 346، وَجَوَاهِر
الإِْكْلِيل 1 / 329.
(40/316)
مَالِي مِنْهَا وَطَلِّقْهَا، أَوْ
طَلِّقْهَا عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَالِي مِنْهَا اشْتَرَطَ تَقْدِيمَ أَخْذِ
الْمَال عَلَى الطَّلاَقِ، وَكَذَا لَوْ قَال: خُذْ مَالِي مِنْهَا
وَطَلِّقْهَا - كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ تَصْحِيحِ
الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّهُ - لأَِنَّ الْوَكِيل يَلْزَمُهُ الاِحْتِيَاطُ
فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنْ
قَال: طَلِّقْهَا ثُمَّ خُذْ مَالِي مِنْهَا جَازَ تَقْدِيمُ أَخْذِ
الْمَال لأَِنَّهُ زِيَادَةُ خَيْرٍ، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَكَالتَّوْكِيل
مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فِيمَا ذُكِرَ التَّوْكِيل مِنْ جَانِبِ
الزَّوْجَةِ، كَأَنْ قَالَتْ: خُذْ مَالِي مِنْهُ ثُمَّ اخْتَلِعْنِي (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَنْوِيَا
الإِْصْلاَحَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا
يُوَفِّقُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا (2) وَأَنْ يُلَطِّفَا الْقَوْل، وَأَنْ
يُنْصِفَا، وَيُرَغِّبَا، وَيُخَوِّفَا، وَلاَ يَخُصَّا بِذَلِكَ
أَحَدَهُمَا دُونَ الآْخَرِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا
(3) .
ح - غِيَابُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنُونُهُ:
36 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَابَ
الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّحْكِيمِ لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ
الْحَكَمَيْنِ، وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 261 - 262، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 385،
وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 3 / 107.
(2) سُورَة النِّسَاء / 35
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 211.
(40/316)
نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَذَلِكَ فِي
الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ:
قَال الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى الْقَوْل الأَْظْهَرِ بِأَنَّ الْحَكَمَيْنِ
وَكِيلاَنِ إِنْ أُغْمِيَ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ جُنَّ وَلَوْ
بَعْدَ اسْتِعْلاَمِ الْحَكَمَيْنِ رَأْيَهُ لَمْ يُنَفَّذْ أَمْرُهُمَا،
لأَِنَّ الْوَكِيل يَنْعَزِل بِالإِْغْمَاءِ وَالْجُنُونِ، وَإِنْ أُغْمِيَ
عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ جُنَّ قَبْل الْبَعْثِ لَمْ يَجُزْ بَعْثُ
الْحَكَمَيْنِ، وَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ
نُفِّذَ أَمْرُهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ الْوُكَلاَءِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ
يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْولَى -
بِاعْتِبَارِهِمَا وَكِيلَيْنِ، وَهِيَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ كَمَا
سَبَقَ - وَيَنْقَطِعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي
تَعْتَبِرُهُمَا حَاكِمَيْنِ، وَقِيل: لاَ يَنْقَطِعُ نَظَرُهُمَا عَلَى
الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِاعْتِبَارِهِمَا حَاكِمَيْنِ.
وَلَوْ جُنَّ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا عَلَى
الرِّوَايَةِ الأُْولَى، وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى الثَّانِيَةِ، لأَِنَّ
الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَى الْمَجْنُونِ، قَال الْمُرْدَاوِيُّ: هَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ،
وَأَضَافَ قَوْلَهُ: وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 261، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 385.
(40/317)
فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ نَظَرَهُمَا
يَنْقَطِعُ أَيْضًا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لأَِنَّهُ لاَ
يَتَحَقَّقُ مَعَهُ بَقَاءُ الشِّقَاقِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ
بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ جَازَ لِلْحَكَمَيْنِ إِمْضَاءُ رَأْيِهِمَا إِنْ
قُلْنَا إِنَّهُمَا وَكِيلاَنِ لأَِنَّ الْوَكَالَةَ لاَ تَبْطُل
بِالْغَيْبَةِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُمَا
إِمْضَاءُ الْحُكْمِ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَحْكُومٌ
لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ
يَكُونَا قَدْ وَكَّلاَهُمَا فَيَفْعَلاَنِ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْكِيل
لاَ بِالْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَكَّل جَازَ لِوَكِيلِهِ
فِعْل مَا وَكَّلَهُ فِيهِ مَعَ غَيْبَتِهِ.
وَإِنْ جُنَّ أَحَدُهُمَا بَطَل حُكْمُ وَكِيلِهِ، لأَِنَّ الْوَكَالَةَ
تَبْطُل بِجُنُونِ الْمُوَكِّل وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ
الْحُكْمُ، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ بَقَاءَ الشِّقَاقِ وَحُضُورَ
الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْجُنُونِ (1) .
ط - امْتِنَاعُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ تَوْكِيل الْحَكَمَيْنِ:
37 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلاَنِ عَنِ
الزَّوْجَيْنِ، فَلاَ يُرْسَل الْحَكَمَانِ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ
وَتَوْكِيلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الزَّوْجَانِ
__________
(1) الإِْنْصَاف 8 / 381، وَالمغني 7 / 50.
(40/317)
بِبَعْثِهِمَا أَوِ امْتَنَعَا مِنْ
تَوْكِيلِهِمَا لَمْ يُجْبَرَا عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لاَ يَزَال الْحَاكِمُ
يَبْحَثُ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَنِ الظَّالِمُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
فَيَرْدَعُهُ وَيُسْتَوْفِي مِنْهُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ إِقَامَةً
لِلْعَدْل وَالإِْنْصَافِ (1) .
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 262، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 211،
وَالإِْنْصَاف 8 / 380.
(40/318)
نِصَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النِّصَابِ فِي اللُّغَةِ: الأَْصْل، وَنِصَابُ
الزَّكَاةِ: الْقَدْرُ الْمُعْتَبَرُ - مِنَ الْمَال - لِوُجُوبِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْبَرَكَتِيُّ: النِّصَابُ شَرْعًا مَا لاَ
تَجِبُ فِيمَا دُونَهُ زَكَاةٌ مِنْ مَالٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمِقْدَارُ:
2 - الْمِقْدَارُ فِي اللُّغَةِ: الْمِثْل. يُقَال: مِقْدَارُ الشَّيْءِ
مِثْلُهُ فِي الْعَدَدِ أَوِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْمِسَاحَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُعْرَفُ بِهِ الشَّيْءُ مِنْ مَعْدُودٍ أَوْ
مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِقْدَارِ وَالنِّصَابِ أَنَّ الْمِقْدَارَ أَعَمُّ
مِنَ النِّصَابِ.
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(3) الْمُعْجَم الْوَسِيط، وَقَوَاعِدُ الْفِقْهِ لِلْبَرْكَتِيِّ.
(40/318)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالنِّصَابِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - النِّصَابُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
3 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ كَوْنَهَا فِي
جَمَاعَةٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُؤَدِّهَا إِلاَّ جَمَاعَةً وَعَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّصَابِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ صَلاَةُ
الْجُمُعَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة الْجُمُعَةِ ف 20 - 21) .
ب - النِّصَابُ فِي الزَّكَاةِ:
4 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَال شُرُوطًا
مِنْهَا: أَنْ يَبْلُغَ الْمَال النِّصَابَ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي
لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَقَل مِنْهُ.
وَالنِّصَابُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَجْنَاسِ الأَْمْوَال
الزَّكَوِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 31، 43، وَمَا بَعْدَهَا) .
ج - النِّصَابُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ:
5 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِلْقَطْعِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ - ضِمْنَ
مَا يَشْتَرِطُونَ - أَنْ يَبْلُغَ الْمَال الْمَسْرُوقُ
(40/319)
نِصَابًا، فَلاَ قَطْعَ فِيمَا دُونَهُ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مِقْدَارِ هَذَا النِّصَابِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَرِقَة ف 32 وَمَا بَعْدَهَا) .
نَصَارَى
انْظُرْ: أَهْل الْكِتَابِ
نُصْرَةٌ
انْظُرْ: عَاقِلَةٌ
(40/319)
نَصِيبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّصِيبُ لُغَةً: الْحِصَّةُ وَالْحَظُّ مِنْ كُل شَيْءٍ،
وَالْجَمْعُ أَنْصِبَاءٌ وَأَنْصِبَةٌ وَنُصُبٌ، وَالنَّصْبُ لُغَةً فِي
النَّصِيبِ، وَأَنْصَبَهُ: جَعَل لَهُ نَصِيبًا، وَهُمْ يَتَنَاصَبُونَهُ:
أَيْ يَقْتَسِمُونَهُ (1) .
وَالنَّصِيبُ اصْطِلاَحًا: لاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى
اللُّغَوِيِّ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَظِّ مِنْ كُل شَيْءٍ،
وَالْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَرْضُ:
2 - الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ مِنْ مَعَانِيهِ: الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ
وَالْوُجُوبُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ - فِي بَابِ الْمَوَارِيثِ - هُوَ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ
شَرْعًا لِلْوَارِثِ (3) .
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 2.
(40/320)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ نَصِيبٍ وَفَرْضٍ
هِيَ أَنَّ كُل نَصِيبٍ فَرْضٌ وَلَيْسَ كُل فَرْضٍ نَصِيبًا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّصِيبِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّصِيبِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: النَّصِيبُ فِي الْمِيرَاثِ:
3 - حَدَّدَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ الأَْنْصِبَةَ الْمُقَدَّرَةَ شَرْعًا
لِكُل وَارِثٍ، وَالَّتِي لاَ تَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ سِتَّةٍ وَهِيَ:
النِّصْفُ، وَالرُّبْعُ، وَالثُّمْنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ
وَالسُّدْسُ.
وَهَذِهِ الأَْنْصِبَةُ السِّتَّةُ تَضَمَّنَتْهَا ثَلاَثُ آيَاتٍ مِنْ
سُورَةِ النِّسَاءِ وَهُنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ
نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ
وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَِبَوَيْهِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا
(40/320)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ
الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ
وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ
فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ
مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (1) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ
فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ
كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ
الأُْنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُل
شَيْءٍ عَلِيمٌ (2) وَالتَّفْصِيل فِي بَيَانِ أَصْحَابِ هَذِهِ
الأَْنْصِبَةِ وَشُرُوطِ تَوْرِيثِهِمْ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 25 - 44) .
ثَانِيًا: النَّصِيبُ فِي الشَّرِكَةِ:
لِلنَّصِيبِ فِي الشَّرِكَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 11، 12
(2) سُورَة النِّسَاء / 176
(40/321)
التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَصَرُّفِ الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ
مِنَ الشَّرِكَةِ كَبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ لِشَرِيكِهِ أَوْ
لِغَيْرِ شَرِيكِهِ عَلَى أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَة
ف 4 - 7) .
ضَمَانُ نَصِيبِ الشَّرِيكِ:
5 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ يَدَ الشَّرِيكِ يَدُ
أَمَانَةٍ فَلاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، فَإِذَا
تَعَدَّى ضَمِنَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَة الْعَقْدِ ف 85، تَجْهِيل ف 2 وَمَا
بَعْدَهَا، ضَمَان ف 7 - 11، تَعَدِّي ف 11) .
ثَالِثًا: النَّصِيبُ فِي الْقِسْمَةِ:
لِلنَّصِيبِ فِي الْقِسْمَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
تَوْزِيعُ أُجْرَةِ الْقِسْمَةِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِ الْمُتَقَاسِمِينَ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ أُجْرَةِ
الْقِسْمَةِ: هَل تُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ أَوْ تُقَسَّمُ
بِمِقْدَارِ نَصِيبِ كَل مُتَقَاسِمٍ؟ .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة ف 35 - 36) .
(40/321)
النَّصِيبُ فِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ: 7 -
الْعَقَارُ مَحَل الْقِسْمَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ
أَوْ فِي مَحَالٍّ مُتَعَدِّدَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ
فَإِمَّا أَنْ تَتَشَابَهَ الأَْجْزَاءُ بِلاَ أَدْنَى تَفَاوُتٍ أَمْ لاَ.
وَنَصِيبُ كُل مُنْقَسِمٍ مُتَنَوِّعٌ عَلَى حَسَبِ مَحَل الْعَقَارِ فِي
الصُّوَرِ الثَّلاَثِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (قِسْمَة ف 42) .
تَعْيِينُ النَّصِيبِ فِي الْقِسْمَةِ:
8 - إِذَا عَيَّنَ الْقَاسِمُ لِكُل وَاحِدٍ نَصِيبَهُ أَصْبَحَتِ
الْقِسْمَةُ تَامَّةً وَيَلْزَمُ كُل وَاحِدٍ بِالنَّصِيبِ الَّذِي
أُفْرِزَ لَهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة ف 51) .
مِلْكُ النَّصِيبِ فِي الْقِسْمَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُتَقَاسِمَ بَعْدَ تَمَامِ
الْقِسْمَةِ يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِمِلْكِ نَصِيبِهِ وَالتَّصَرُّفِ
فِيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة. ف 52 وَمَا بَعْدَهَا) .
انْتِفَاعُ الشَّرِيكِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فِي الْمُهَايَأَةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ
الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ
(40/322)
عِنْدَهُ لِقَاءَ انْتِفَاعِ صَاحِبِهِ
بِنَصِيبِهِ أَوْ حِصَّتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قِسْمَة ف 58، 59، وَمُهَايَأَة) .
رَابِعًا: النَّصِيبُ فِي الشُّفْعَةِ:
لِلنَّصِيبِ فِي الشُّفْعَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
تَمَلُّكُ الشَّفِيعِ النَّصِيبَ (الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ) :
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَمَلَّكُ بِهِ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ
الْمَشْفُوعَ فِيهِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، هَل يَتَمَلَّكُهُ
بِالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِدَفْعِ
الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي أَوْ رِضَاهُ بِالتَّأْجِيل أَوِ الإِْشْهَادِ
بِالأَْخْذِ؟ .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 44 - 47) .
بِنَاءُ الْمُشْتَرِي فِي النَّصِيبِ (الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ) :
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي
الأَْرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ.
هَل يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ
مَقْلُوعًا، وَبَيْنَ أَنْ يَجْبُرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهَا
لِيَأْخُذَ الأَْرْضَ فَارِغَةً، أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ
بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ
(40/322)
الشُّفْعَةُ.
أَوْ يَقْلَعُ الشَّفِيعُ مَا بَنَاهُ الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَهُ أَوْ
زَرَعَهُ مَجَّانًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 48) .
اسْتِحْقَاقُ النَّصِيبِ (الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ) :
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ النَّصِيبَ
(الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ) ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ
مُسْتَحَقٌّ لِلْغَيْرِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى
الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي
فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، سَوَاءٌ اسْتَحَقَّ قَبْل تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ
بَعْدَهُ، وَإِنْ أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي
يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 49) .
تَبِعَةُ هَلاَكِ النَّصِيبِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَبِعَةِ هَلاَكِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ
كُلًّا أَوْ بَعْضًا بِسَبَبٍ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شُفْعَة ف 50) .
(40/323)
خَامِسًا: عِتْقُ النَّصِيبِ فِي الْعَبْدِ
الْمُشْتَرِكِ:
15 - إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرِكِ مَعَ غَيْرِهِ
فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ تَبَعًا لِكَوْنِ الْمُعْتِقِ
مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا. فَإِذَا كَانَ مُوسِرًا: فَذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ
إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيهِ
لِشَرِيكِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ نَصِيبُهُ فَقَطْ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَشَرِيكُهُ
بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ
قِيمَةَ نَصِيبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَبْعِيض ف 40، عِتْق ف 16) .
(40/323)
|