الموسوعة
الفقهية الكويتية نَصِيحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّصِيحَةُ فِي اللُّغَةِ: قَوْلٌ فِيهِ دُعَاءٌ إِلَى صَلاَحٍ
وَنَهْيٌ عَنْ فَسَادٍ، وَالْجَمْعُ: نَصَائِحُ، وَهِيَ اسْمٌ مِنْ
مَصْدَرِ الْفِعْل نَصَحَ، يُقَال: نَصَحَ الشَّيْءَ نُصْحًا وَنَصُوحًا
وَنَصَاحَةً: خَلَصَ.
وَنَصَحَتْ تَوْبَتُهُ: خَلَصَتْ مِنْ شَوَائِبِ الْعَزْمِ عَلَى
الرُّجُوعِ، وَنَصَحَ قَلْبُهُ: خَلاَ مِنَ الْغِشِّ، وَنَصَحَ الشَّيْءَ:
أَخْلَصَهُ، وَيُقَال: نَصَحَ فُلاَنًا وَلَهُ وَهُوَ بِاللاَّمِ أَفْصَحُ
-: أَرْشَدَهُ إِلَى مَا فِيهِ صَلاَحُهُ.
وَنَاصَحَ فُلاَنًا: نَصَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآْخَرَ، وَنَاصَحَ فُلاَنٌ
نَفْسَهُ فِي التَّوْبَةِ: أَخْلَصَهَا.
وَانْتَصَحَ فُلاَنٌ: قَبِل النَّصِيحَةَ، وَانْتَصَحَ فُلاَنًا:
اتَّخَذَهُ نَاصِحًا وَاعْتَدَّهُ نَاصِحًا.
وَالنَّصْحُ وَالنُّصْحُ: إِخْلاَصُ الْمَشُورَةِ، وَالنَّصُوحُ:
مُبَالَغَةٌ (1) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ
__________
(1) الْمُعْجَم الْوَسِيط، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَلِسَان الْعَرَبِ.
(40/324)
قَال: " التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ
يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لاَ يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا "
(1) .
وَالنَّصِيحَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: إِخْلاَصُ الرَّأْيِ مِنَ الْغِشِّ
لِلْمَنْصُوحِ، أَوْ هِيَ: الدُّعَاءُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلاَحُ
وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ (2) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيُّ قَوْلَهُ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ
جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَيُقَال:
وَهِيَ مِنْ وَجِيزِ الأَْسْمَاءِ وَمُخْتَصَرِ الْكَلاَمِ، وَلَيْسَ فِي
كَلاَمِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ يُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَةُ
عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَدِيعَةُ:
2 - الْخَدِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْخَدْعِ، يُقَال: خَدَعَهُ
خَدْعًا - وَيُكْسَرُ -: خَتَلَهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَكْرُوهَ مِنْ حَيْثُ
لاَ يَعْلَمُ، كَاخْتَدَعَهُ فَانْخَدَعَ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ -
مُثَلَّثَةٌ - وَكَهُمَزَةٍ: أَيْ تَنْقَضِي بِخُدْعَةِ، وَالْخُدَعَةُ
أَيْضًا: الْكَثِيرُ الْخِدَاعِ، وَالْخُدْعَةُ: مَنْ
__________
(1) أَثَر ابْن مَسْعُود: " التَّوْبَة النَّصُوح أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ.
. . " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ الإِْيمَانِ (5 / 387 - ط دَار
الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) .
(2) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي، وَالتَّعْرِيفَاتِ.
(3) شَرْح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 1 / 396 ط دَارَ الْقَلَم.
(40/324)
يَخْدَعُهُ النَّاسُ كَثِيرًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالْخَدِيعَةِ التَّضَادُّ.
ب - الْغِشُّ:
3 - الْغِشُّ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ - اسْمٌ مِنَ الْغَشِّ - بِفَتْحِهَا -
يُقَال: غَشَّهُ غِشًّا: لَمْ يَنْصَحْهُ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ
الْمَصْلَحَةِ، أَوْ لَمْ يُمَحِّصْهُ النُّصْحُ، أَوْ أَظْهَرَ لَهُ
خِلاَفَ مَا أَضْمَرَهُ، أَوْ هُوَ الْغِل وَالْحِقْدُ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَالْغِشِّ التَّضَادُّ.
ج - التَّوْبِيخُ:
4 - التَّوْبِيخُ مَصْدَرُ وَبَّخَ، يُقَال: وَبَّخْتُهُ تَوْبِيخًا:
لُمْتُهُ، وَعَذَلْتُهُ، وَأَنَّبْتُهُ، وَهَدَّدْتُهُ، وَعَنَّفْتُهُ،
وَقَال الْفَارَابِيُّ: عَيَّرْتُهُ (4) .
وَالتَّوْبِيخُ فِي الاِصْطِلاَحِ: التَّعْيِيرُ وَاللَّوْمُ وَالْعَذَل
(5) .
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط.
(2) الْمُفْرَدَات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ.
(3) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(4) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير.
(5) قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(40/325)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّصِيحَةِ
وَالتَّوْبِيخِ الإِْسْرَارُ وَالإِْعْلاَنُ (1) ، بِمَعْنَى أَنَّ
النَّصِيحَةَ مِنْ شَأْنِهَا الإِْسْرَارُ بِهَا، وَالتَّوْبِيخُ يَكُونُ
عَلاَنِيَةً.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِينَ،
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: يَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا لِخَاصَّةِ
الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ:
عَظَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ النُّصْحِ
فَقَال: الدِّينُ النَّصِيحَةُ (2) ، فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ أَنَّ النُّصْحَ وَاجِبٌ لِكَافَّةِ النَّاسِ بِأَنْ
تَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: النَّصِيحَةُ فَرْضُ عَيْنٍ سَوَاءٌ طُلِبَتَ أَوْ
لَمْ تُطْلَبْ إِذَا ظَنَّ الإِْفَادَةَ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الأَْمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ.
__________
(1) مُخْتَصَر مِنْهَاج الْقَاصِدِينَ ص 99 ط. الْمَكْتَبُ
الإِْسْلاَمِيُّ، وَإِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ 2 / 182 ط دَار الْمَعْرِفَة
- بَيْرُوت.
(2) حَدِيث: " الدِّين النَّصِيحَة " أَخْرَجَهُ مُسْلِم (1 / 74 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيث تَمِيم الدَّارِي.
(3) الشَّرْح الصَّغِير عَلَى أَقْرَبَ الْمَسَالِك إِلَى مَذْهَب
الإِْمَامِ مَالِك، وَحَاشِيَةِ الصَّاوِي ط دَارَ الْمَعَارِف 4 / 741،
وَالذَّرِيعَة إِلَى مَكَارِمَ الشَّرِيعَة ط دَار الصَّحْوَة وَدَار
الْوَفَاء ص 295، وَالزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ ط مُصْطَفَى
الْبَابِيّ الْحَلَبِيّ 1 / 221.
(40/325)
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ
أَنَّ النَّصِيحَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يُجْزَى فِيهِ مَنْ قَامَ بِهِ
وَيَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ (1) .
وَهِيَ لاَزِمَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ أَوِ الطَّاقَةِ إِذَا عَلِمَ
النَّاصِحُ أَنَّهُ يُقْبَل نُصْحُهُ وَيُطَاعُ أَمْرُهُ وَأَمِنَ عَلَى
نَفْسِهِ الْمَكْرُوهَ فَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَذًى فَهُوَ فِي
سَعَةٍ، وَقَال غَيْرُهُمْ: إِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ
وُجُوبُ النُّصْحِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يُفِيدُ فِي الْمَنْصُوحِ (2)
.
وَلاَ يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِالنَّصِيحَةِ عَنِ الْمُسْلِمِ مَادَامَ
صَحِيحَ الْعَقْل، قَال ابْنُ رَجَبٍ: قَدْ تُرْفَعُ الأَْعْمَال كُلُّهَا
عَنِ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ، وَلاَ يُرْفَعُ عَنْهُ النُّصْحُ
لِلَّهِ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَرَضِ بِحَالٍ لاَ يُمْكِنُهُ عَمَلٌ
بِشَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ بِلِسَانٍ وَلاَ غَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ
ثَابِتٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَنْ
يَنْدَمَ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيَنْوِيَ إِنْ صَحَّ أَنْ يَقُومَ بِمَا
افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَإِلاَّ
كَانَ غَيْرَ نَاصِحٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ (3) .
__________
(1) شَرْح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 1 / 399، وَدَلِيل الْفَالِحِينَ 1
/ 459.
(2) الشَّرْح الصَّغِير 4 / 741، وَشَرْح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 1 /
399، وَدَلِيل الْفَالِحِينَ 1 / 460، وَفَيْض الْقَدِير شَرْح الْجَامِع
الصَّغِير للمناوي ط مُصْطَفَى مُحَمَّد 3 / 556.
(3) جَامِع الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ 1 / 220 - 221.
(40/326)
مَكَانَةُ النَّصِيحَةِ فِي الدِّينِ:
6 - رَوَى تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الدِّينُ
النَّصِيحَةُ (1) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَصْرِ الدِّينِ فِي
النَّصِيحَةِ - الَّذِي وَرَدَ بِالْحَدِيثِ - هَل هُوَ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ
أَمْ حَقِيقِيٌّ.
فَقَال بَعْضُهُمْ كَالْمُنَاوِيِّ وَابْنِ عَلاَّنٍ: حَدِيثُ الدِّينُ
النَّصِيحَةُ أَيْ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ كَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَجُّ عَرَفَةُ (2) فَهُوَ مِنَ الْحَصْرِ
الْمَجَازِيِّ لاَ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ أَنَّهُ أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي
مَدْحِ النَّصِيحَةِ حَتَّى جُعِلَتْ كُل الدِّينِ وَإِنْ كَانَ الدِّينُ
مُشْتَمِلاً عَلَى خِصَالٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا (3) .
وَقَال غَيْرُهُمْ كَابْنِ رَجَبٍ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، فَهَذَا يَدُل عَلَى
أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَل خِصَال الإِْسْلاَمِ وَالإِْيمَانِ
وَالإِْحْسَانِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيل، وَسَمَّى ذَلِكَ
كُلَّهُ دِينًا، فَإِنَّ النُّصْحَ لِلَّهِ يَقْتَضِي الْقِيَامَ بِأَدَاءِ
وَاجِبَاتِهِ عَلَى أَكْمَل وُجُوهِهَا، وَهُوَ مَقَامُ الإِْحْسَانِ،
فَلاَ
__________
(1) حَدِيث: " الدِّين النَّصِيحَة ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 5.
(2) حَدِيث: " الْحَجّ عَرَفَة ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (3 / 228 ط
الْحَلَبِيّ) ، وَالْحَاكِم (2 / 278 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) مِنْ حَدِيث
عَبْد الرَّحْمَن بْن يَعْمُرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَال: صَحِيح.
(3) فَيْض الْقَدِير 3 / 555، وَدَلِيل الْفَالِحِينَ 1 / 459.
(40/326)
يَكْمُل النُّصْحُ لِلَّهِ بِدُونِ ذَلِكَ،
وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِدُونِ كَمَال الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ
وَالْمُسْتَحَبَّةِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجْرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: يُحْتَمَل أَنْ يُحْمَل الْحَدِيثُ
عَلَى ظَاهِرِهِ لأَِنَّ كُل عَمَلٍ لَمْ يُرِدْ بِهِ عَامِلُهُ
الإِْخْلاَصَ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ (2) .
مَنْ تَجِبُ لَهُ النَّصِيحَةُ وَمَا تَكُونُ بِهِ:
7 - وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: الدِّينُ النَّصِيحَةُ " قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَال: لِلَّهِ،
وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَعَامَّتِهِمْ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ
كَلاَمًا نَفِيسًا، أَنَا أَضُمُّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، قَالُوا:
أَمَّا النَّصِيحَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَمَعْنَاهَا مُنْصَرِفٌ إِلَى
الإِْيمَانِ بِهِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الإِْلْحَادِ فِي
صِفَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَال وَالْجَلاَل كُلِّهَا،
وَتَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ،
وَالْقِيَامِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَالْحُبِّ فِيهِ،
وَالْبُغْضِ فِيهِ، وَمُوَالاَةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ
__________
(1) جَامِع الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ 1 / 218.
(2) فَتْح الْبَارِّي 1 / 138.
(3) حَدِيث: " الدِّين النَّصِيحَة ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 5.
(40/327)
عَصَاهُ، وَجِهَادِ مَنْ كَفَرَ بِهِ،
وَالاِعْتِرَافِ بِنِعْمَتِهِ، وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا، وَالإِْخْلاَصِ فِي
جَمِيعِ الأُْمُورِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى جَمِيعِ الأَْوْصَافِ
الْمَذْكُورَةِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَالتَّلَطُّفِ بِالنَّاسِ أَوْ
مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ عِلْمُهَا، قَال الْخَطَّابِيُّ: حَقِيقَةُ هَذِهِ
الإِْضَافَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَبْدِ فِي نُصْحِهِ نَفْسَهُ فَاللَّهُ
غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِحِ (1) .
وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَتَكُونُ
بِالإِْيمَانِ بِأَنَّهُ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيلُهُ، لاَ
يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ الْخَلْقِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ
أَحَدٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَعْظِيمُهُ وَتِلاَوَتُهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ،
وَتَحْسِينُهَا وَالْخُشُوعُ عِنْدَهَا، وَإِقَامَةُ حُرُوفِهِ فِي
التِّلاَوَةِ، وَالذَّبُّ عَنْ تَأْوِيل الْمُحَرِّفِينَ وَتَعَرُّضِ
الطَّاغِينَ، وَالتَّصْدِيقُ بِمَا فِيهِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ أَحْكَامِهِ،
وَتَفَهُّمُ عُلُومِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَالاِعْتِبَارُ بِمَوَاعِظِهِ،
وَالتَّفَكُّرُ فِي عَجَائِبِهِ، وَالْعَمَل بِمُحْكَمِهِ وَالتَّسْلِيمُ
لِمُتَشَابِهِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ
وَمَنْسُوخِهِ، وَنَشْرُ عُلُومِهِ، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَا
ذَكَرْنَا مِنْ نَصِيحَتِهِ (2) .
__________
(1) شَرْح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 1 / 397، وَدَلِيل الْفَالِحِينَ
لِطُرُقِ رِيَاض الصَّالِحِينَ 1 / 459، وَفَتْح الْبَارِّي 1 / 138،
وَالشَّرْحِ الصَّغِيرِ 4 / 742، وَالنِّهَايَة فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ
وَالأَْثَر لاِبْنِ الأَْثِيرِ ط دَار الْفِكْرِ - بَيْرُوت.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(40/327)
وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِرَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصْدِيقُهُ عَلَى الرِّسَالَةِ،
وَالإِْيمَانُ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وَطَاعَتُهُ فِي أَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ، وَنُصْرَتُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ
وَمُوَالاَةُ مَنْ وَالاَهُ، وَإِعْظَامُ حَقِّهِ وَتَوْقِيرِهِ،
وَإِحْيَاءُ طَرِيقَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَبَثُّ دَعْوَتِهِ، وَنَشْرُ
شَرِيعَتِهِ، وَنَفْيُ التُّهْمَةِ عَنْهَا، وَاسْتِثَارَةُ عُلُومِهَا،
وَالتَّفَقُّهُ فِي مَعَانِيهَا، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهَا، وَالتَّلَطُّفُ
فِي تَعَلُّمِهَا وَتَعْلِيمِهَا، وَإِعْظَامُهَا وَإِجْلاَلُهَا،
وَالتَّأَدُّبُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الْكَلاَمِ
فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِجْلاَل أَهْلِهَا لاِنْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا،
وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلاَقِهِ وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ، وَمَحَبَّةُ
أَهْل بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي سُنَّتِهِ
أَوْ تَعَرَّضَ لأَِحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَالنَّصِيحَةُ لأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ بِمُعَاوَنَتِهِمْ
عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتِهِمْ فِيهِ، وَأَمْرِهِمْ بِهِ وَتَنْبِيهِهِمْ
وَتَذْكِيرِهِمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَإِعْلاَمِهِمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ
وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكِ الْخُرُوجِ
عَلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِ النَّاسِ لِطَاعَتِهِمْ، قَال
الْخَطَّابِيُّ: وَمِنَ النَّصِيحَةِ لَهُمُ الصَّلاَةُ خَلْفَهُمْ،
وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ، وَأَدَاءُ الصَّدَقَاتِ إِلَيْهِمْ، وَتَرْكُ
الْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ
سُوءُ عِشْرَةٍ، وَأَنْ لاَ يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ
__________
(1) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(40/328)
الْكَاذِبِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُدْعَى
لَهُمْ بِالصَّلاَحِ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُومُ بِأُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ
وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا ثُمَّ قَال: وَقَدْ يُتَأَوَّل ذَلِكَ
عَلَى الأَْئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ وَأَنَّ مِنْ
نَصِيحَتِهِمْ قَبُول مَا رَوَوْهُ وَتَقْلِيدَهُمْ فِي الأَْحْكَامِ
وَإِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِمْ (1) .
وَأَمَّا نَصِيحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ - وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلاَةِ
الأَْمْرِ - فَإِرْشَادُهُمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتِهِمْ
وَدُنْيَاهُمْ، وَكَفِّ الأَْذَى عَنْهُمْ، فَيُعَلِّمُهُمْ مَا
يَجْهَلُونَ مِنْ دِينِهِمْ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْل وَالْفِعْل،
وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدِّ خَلاَّتِهِمْ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ
عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ وَإِخْلاَصٍ، وَالشَّفَقَةِ
عَلَيْهِمْ، وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ، وَرَحْمَةِ صَغِيرِهِمْ،
وَتَخَوُّلِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَتَرْكِ غِشِّهِمْ
وَحَسَدِهِمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ
الْخَيْرِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ،
وَالذَّبِّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
أَحْوَالِهِمْ، بِالْقَوْل وَالْفِعْل، وَحَثِّهِمْ عَلَى التَّخَلُّقِ
وَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّصِيحَةِ، وَتَنْشِيطِ
هِمَمِهِمْ إِلَى الطَّاعَاتِ (2) .
__________
(1) الْمَرَاجِعُ السَّابِقَةُ.
(2) الْمَرَاجِع السَّابِقَة.
(40/328)
الْحَاجَةُ إِلَى النَّصِيحَةِ:
8 - الْمُسْلِمُ بِحَاجَةٍ إِلَى نُصْحِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، قَال
الْغَزَالِيُّ: لأَِنَّهُ يَرَى مِنْهُ مَا لاَ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ،
فَيَسْتَفِيدُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرِفَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ
لَمْ يَسْتَفِدْ، كَمَا يَسْتَفِيدُ بِالْمِرْآةِ الْوُقُوفَ عَلَى عُيُوبِ
صُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَال: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ:
إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَإِنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ
عَنْهُ (2) .
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَسْتَهْدِي ذَلِكَ
مِنْ إِخْوَانِهِ، وَيَقُول: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَى أَخِيهِ
عُيُوبَهُ، وَقَال لِسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَدْ
قَدِمَ عَلَيْهِ: مَا الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي مِمَّا تَكْرَهُ؟
فَاسْتَعْفَى، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَال: بَلَغَنِي أَنَّ لَكَ
حُلَّتَيْنِ تَلْبِسُ إِحْدَاهُمَا بِالنَّهَارِ وَالأُْخْرَى بِاللَّيْل،
وَبَلَغَنِي أَنَّكَ تَجْمَعُ بَيْنَ إِدَامَيْنِ عَلَى مَائِدَةٍ
وَاحِدَةٍ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَمَّا هَذَانِ
فَقَدْ
__________
(1) حَدِيث: " الْمُؤْمِن مِرْآة الْمُؤْمِن. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 /
217 ط حِمْص) وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْكُبْرَى (8 / 167 ط دَائِرَة
الْمَعَارِفِ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَال المناوي فِي فَيْض
الْقَدِير (6 / 252 ط التِّجَارِيَّة الْكُبْرَى) : إِسْنَادُهُ حَسَن.
(2) حَدِيث: " إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآة أَخِيهِ. . . ". أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ (4 / 326 ط الْحَلَبِيّ) ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ شُعْبَة ضَعْف
أَحَد رُوَاته.
(40/329)
كَفَيْتُهُمَا فَهَل بَلَغَكَ غَيْرُهُمَا؟
فَقَال: لاَ (1) .
وَقَدْ قَال الْمُنَاوِيُّ: مَنْ قَبِل النَّصِيحَةَ أَمِنَ الْفَضِيحَةَ
وَمَنْ يَأْبَى فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَقَال الْغَزَالِيُّ:
وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَاذِبِينَ بِبُغْضِهِمْ لِلنَّاصِحِينَ (2)
إِذْ قَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
(3) .
الإِْسْرَارُ بِالنَّصِيحَةِ:
9 - قَال الْعُلَمَاءُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النَّصِيحَةُ فِي سِرٍّ لاَ
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، بِأَنْ يَنْصَحَ النَّاصِحُ لِلْمَنْصُوحِ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلاَ يُطْلِعَ عَلَى عَيْبِهِ أَحَدًا،
لأَِنَّ نَصَائِحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي آذَانِهِمْ، وَمَا كَانَ عَلَى
الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ
شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ
وَزَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ عَلاَنِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى يُعَاتِبُ الْمُؤْمِنَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ تَحْتَ كَنَفِهِ فِي ظِل سَتْرِهِ، فَيُوقِفُهُ عَلَى
ذُنُوبِهِ سِرًّا، وَقَدْ يُدْفَعُ كِتَابُ عَمَلِهِ مَخْتُومًا إِلَى
__________
(1) إِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ لِلْغَزَالِيِّ 2 / 182 - 183.
(2) فَيْض الْقَدِير 3 / 556، وَإِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ 2 / 183.
(3) سُورَة الأَْعْرَاف / 79
(40/329)
الْمَلاَئِكَةِ الَّذِينَ يَحِفُّونَ بِهِ
إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَارَبُوا بَابَ الْجَنَّةِ أَعْطَوْهُ
الْكِتَابَ مَخْتُومًا لِيَقْرَأَهُ، وَأَمَّا أَهْل الْمَقْتِ
فَيُنَادَوْنَ عَلَى رُؤُوسِ الأَْشْهَادِ وَتُسْتَنْطَقُ جَوَارِحُهُمْ
بِفَضَائِحِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ خِزْيًا وَافْتِضَاحًا.
وَقَال ابْنُ رَجَبٍ: كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا نَصِيحَةَ أَحَدٍ
وَعَظُوهُ سِرًّا، بَل إِنَّ بَعْضَ السَّلَفِ إِذَا سَمِعَ مَا يَكْرَهُ
عَنْ أَخِيهِ ذَبَّ عَنْ عِرْضِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ
وَنَصَحَهُ، نَقَل ابْنُ الْحَاجِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَال لِلْفُضَيْل:
إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَبِل جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، فَقَال:
مَا أَخَذَ مِنْهُمْ إِلاَّ دُونَ حَقِّهِ، ثُمَّ خَلاَ بِهِ وَحَدَّثَهُ
فِي ذَلِكَ بِالرِّفْقِ فَقَال: يَا أَبَا عَلِيٍّ إِنْ لَمْ نَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ فَإِنَّا نُحِبُّ الصَّالِحِينَ (1) .
بَل إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّتْرَ وَالنُّصْحَ مِنْ خِلاَل
الْمُؤْمِنِ، قَال الْفُضَيْل: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ،
وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ (2) .
الإِْخْلاَصُ فِي النَّصِيحَةِ:
10 - نَقَل الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: لاَ يَزَال
__________
(1) جَامِع الْعُلُومِ وَالْحِكَم 1 / 225، وَمُخْتَصَر مِنْهَاج
الْقَاصِدِينَ ص 99، وَإِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ 2 / 182، وَإِتْحَاف
السَّادَة الْمُتَّقِينَ بِشَرْحِ إِحْيَاء عُلُوم الدِّينِ 6 / 224 ط دَار
الْفِكْرِ، وَالْمَدْخَل لاِبْنِ الْحَاجِّ 1 / 198 ط الْحَلَبِيّ.
(2) جَامِع الْعُلُومِ وَالْحِكَم 1 / 225.
(40/330)
الرَّجُل يَزْدَادُ فِي صِحَّةِ رَأْيِهِ
مَا نَصَحَ لِمُسْتَشِيرِهِ، فَإِذَا غَشَّهُ سَلَبَهُ اللَّهُ نُصْحَهُ
وَرَأْيَهُ، وَلاَ يَلْتَفِتَنَّ إِلَى مَنْ قَال: إِذَا نَصَحْتَ الرَّجُل
فَلَمْ يَقْبَل مِنْكَ فَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِغِشِّهِ، فَذَلِكَ
قَوْلٌ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ
يُرِيدَ بِغِشِّهِ السُّكُوتَ عَنْهُ، فَقَدْ قِيل: كَثْرَةُ النَّصِيحَةِ
تُورِثُ الظِّنَّةُ.
وَقَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: أَوَّل النُّصْحِ أَنْ يَنْصَحَ
الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ فَمَنْ غَشَّهَا فَقَلَّمَا يَنْصَحُ غَيْرَهُ (1) .
وَفِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ: وَيَنْبَغِي لِمَنِ اسْتَنْصَحَ أَنْ يُخْلِصَ
النَّصِيحَةَ، لأَِنَّهُ مُسْتَشَارٌ يُوَجِّهُ إِلَى مَا فِيهِ رُشْدُ
الْمُسْتَشِيرِ وَخَيْرُهُ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَوَابٍ
فَقَدْ غَشَّهُ فِي مَشُورَتِهِ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَال: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ (2) ، قَال الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ
أَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَل مِنَ الأُْمُورِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ
يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ (3) .
__________
(1) الذَّرِيعَة إِلَى مَكَارِمَ الشَّرِيعَة ص 295.
(2) حَدِيث: " الْمُسْتَثَار مُؤْتَمَن ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (5 /
345 ط حِمْص) وَالتِّرْمِذِيّ (5 / 125 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(3) عَوْن الْمَعْبُودِ شَرْح سُنَنِ أَبِي دَاوُد ط دَار الْفِكْرِ 14 /
36، وَفَيْض الْقَدِير 6 / 268.
(40/330)
عُدَّةُ النَّاصِحِ:
11 - نَقَل الْمَنَاوِيُّ أَنَّ النَّاصِحَ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ كَبِيرٍ
كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَوَّلاً إِلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ
الْعِلْمُ الْعَامُّ الْمُتَضَمِّنُ لأَِحْوَال النَّاسِ، وَعِلْمِ
الزَّمَانِ، وَعِلْمِ الْمَكَانِ، وَعِلْمِ التَّرْجِيحِ إِذَا تَقَابَلَتِ
الأُْمُورُ فَيَفْعَل بِحَسَبِ الأَْرْجَحِ عِنْدَهُ، وَهَذَا يُسَمَّى
عِلْمَ السِّيَاسَةِ، فَإِنَّهُ يَسُوسُ بِذَلِكَ النُّفُوسَ الْجَمُوحَةَ
الشَّارِدَةَ عَنْ طَرِيقِ مَصَالِحِهَا، فَلِذَلِكَ قَالُوا: يَحْتَاجُ
النَّاصِحُ إِلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَفِكْرٍ صَحِيحٍ وَرُؤْيَةٍ حَسَنَةٍ
وَاعْتِدَال مِزَاجٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَأَنٍّ، فَإِنْ لَمْ تُجْمَعْ هَذِهِ
الْخِصَال فَخَطَؤُهُ أَسْرَعُ مِنْ إِصَابَتِهِ فَلاَ يَنْصَحُ (1) .
النَّصِيحَةُ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ:
12 - قَال الْمَنَاوِيُّ: بِالنَّصِيحَةِ يَحْصُل التَّحَابُبُ
وَالاِئْتِلاَفُ، وَبِضِدِّهَا يَكُونُ التَّبَاغُضُ وَالاِخْتِلاَفُ،
وَأَقْصَى مُوجِبَاتِ التَّحَابُبِ أَنْ يَرَى الإِْنْسَانُ لأَِخِيهِ مَا
يَرَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ نَقَل قَوْل الْعُلَمَاءِ: مَا فِي مَكَارِمِ
الأَْخْلاَقِ أَدَقُّ وَلاَ أَخْفَى وَلاَ أَعْظَمُ مِنَ النَّصِيحَةِ (2)
.
وَقَال ابْنُ عُلَيَّةَ فِي قَوْل أَبِي بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ: مَا فَاقَ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ
كَانَ فِي قَلْبِهِ،
__________
(1) فيض القدير 6 / 268
(2) فيض القدير 6 / 268
(40/331)
قَال: الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِهِ الْحُبُّ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، وَالنَّصِيحَةُ فِي خَلْقِهِ.
وَقَال الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: مَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا مَنْ أَدْرَكَ
بِكَثْرَةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا
بِسَخَاءِ الأَْنْفُسِ وَسَلاَمَةِ الصَّدْرِ وَالنُّصْحِ لِلأُْمَّةِ (1)
.
وَقَال الْحَسَنُ: قَال بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ شِئْتُمْ
لأَُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاللَّهِ أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى
اللَّهِ. . . الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ،
وَيُحَبِّبُونَ عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ
بِالنَّصِيحَةِ (2) .
النَّصِيحَةُ لِلْغَائِبِ:
13 - لاَ يُقَصَّرُ حَقُّ الْمُسْلِمِ فِي النُّصْحِ عَلَى حُضُورِهِ، بَل
إِنَّ حَقَّهُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي النُّصْحِ يَمْتَدُّ إِلَى
غِيَابِهِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ
خِصَالٍ. . . وَذَكَرَ مِنْهَا: يَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ (3)
.، قَال ابْنُ رَجَبٍ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ فِي غَيْبِهِ
بِالسُّوءِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَرُدَّ عَنْهُ، وَإِذَا رَأَى مَنْ يُرِيدُ
أَذَاهُ فِي غَيْبِهِ كَفَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النُّصْحَ فِي
الْغَيْبِ يَدُل
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1 / 225
(2) جامع العلوم والحكم 1 / 224
(3) حديث: للمؤمن على المؤمن ست خصال. . . أخرجه الترمذي (5 / 80 - 81 ط
الحلبي) والنسائي (4 / 53 ط التجارية الكبرى) وقال الترمذي: حسن صحيح.
(40/331)
عَلَى صِدْقِ النُّصْحِ (1) .
النُّصْحُ لِلذِّمِّيِّ وَالْكَافِرِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ
أَنْ يَنْصَحَ الْكَافِرَ أَوِ الذِّمِّيَّ لِحَدِيثِ: الدِّينُ
النَّصِيحَةُ؟ قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: لِلَّهِ،
وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،
وَعَامَّتِهِمْ، وَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ يَصِحُّ
إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ، وَلاَ
حُرْمَتُهُ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ " (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: التَّقْيِيدُ بِالْمُسْلِمِ - أَيْ
فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِيهِ فَشَرَطَ
عَلَيَّ وَالنُّصْحُ لِكُل مُسْلِمٍ (3) . لِلأَْغْلَبِ، وَإِلاَّ
فَالنُّصْحُ لِلْكَافِرِ مُعْتَبَرٌ، بِأَنْ يُدْعَى إِلَى الإِْسْلاَمِ،
وَيُشَارَ عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ إِذَا اسْتَشَارَ (4) .
الْمُسْلِمُ يَنْصَحُ حَيًّا وَمَيِّتًا:
15 - مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1 / 224
(2) جامع العلوم والحكم 1 / 225، ومطالب أولي النهى 5 / 24.
(3) حديث جرير: فشرط علي النصح لكل مسلم. أخرجه البخاري (فتح الباري 1 /
139 ط السلفية) ومسلم (1 / 75 عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.
(4) فتح الباري 1 / 139 - 140
(40/332)
النُّصْحِ فِي كُل الظُّرُوفِ
وَالأَْحْوَال، حَتَّى وَهُوَ يَسْتَقْبِل الْمَوْتَ، فَقَدْ أَثْنَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ فَعَل ذَلِكَ،
وَدَعَا لَهُ بِالرَّحْمَةِ (1) ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ
الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ،
وَلَمَّا الْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى وُجِدَ وَهُوَ حَيٌّ، فَقَال
لِمُلْتَمِسِهِ - وَهُوَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا
شَأْنُكَ؟ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لآِتِيَهُ بِخَبَرِكَ، قَال: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ فَأَقْرِئْهُ
مِنِّي السَّلاَمَ؟ . . وَأَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّهُمْ لاَ عُذْرَ لَهُمْ
عِنْدَ اللَّهِ إِنْ قُتِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَحَدٌ مِنْهُمْ حَيٌّ، قُل لِقَوْمِكَ: يَقُول لَكُمْ سَعْدُ
بْنُ الرَّبِيعِ: اللَّهَ اللَّهَ وَمَا عَاهَدْتُمْ عَلَيْهِ رَسُول
اللَّهِ لِمَجِيءِ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ، فَوَاللَّهِ مَا لَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ عُذْرٌ إِنْ خُلِصَ إِلَى نَبِيِّكُمْ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ،
قَال أُبَيٌّ: فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَال: رَحِمَهُ
اللَّهُ، نَصَحَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا (2) .
__________
(1) انظر الفتوحات الربانية على الأذكار النووية لابن علان الصديقي الشافعي
ط المكتبة الإسلامية 6 / 262
(2) حديث: رحمه الله، نصح لله ولرسوله حيا وميتا أخرجه ابن الأثير في أسد
الغابة (2 / 196 - 197 ط دار الفكر) من حديث يحيى بن سعيد مرسلا.
(40/332)
نَضْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النَّضْحِ فِي اللُّغَةِ الْبَل بِالْمَاءِ وَالرَّشِّ،
يُقَال: نَضَحَ الْمَاءَ، وَنَضَحَ الْبَيْتَ بِالْمَاءِ.
وَيُطْلَقُ النَّضْحُ كَذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي يُنْضَحُ بِهِ
الزَّرْعُ أَيْ يُسْقَى بِالنَّاضِحِ وَهُوَ السَّانِيَةُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الْمَرْدَاوِيُّ: نَضَحَ الشَّيْءَ: غَمَرَهُ
بِالْمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ (2) .
وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: النَّضْحُ أَنْ يَغْمُرَ
وَيُكَاثِرَ بِالْمَاءِ مُكَاثَرَةً لاَ يَبْلُغُ جَرَيَانَ الْمَاءِ
وَتَرَدُّدَهُ وَتَقَاطُرَهُ بِخِلاَفِ الْمُكَاثَرَةِ فِي غَيْرِهِ،
فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي بَعْضُ
الْمَاءِ وَيَتَقَاطَرُ مِنَ الْمَحِل وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَصْرُهُ (3)
.
وَفَسَّرَ الْفُقَهَاءُ النَّضْحَ كَذَلِكَ بِالسَّانِيَةِ وَهِيَ الإِْبِل
الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا (4) .
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب
(2) الإنصاف 1 / 323
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 195 ط المطبعة المصرية بالأزهر
(4) فتح الباري 3 / 349 ط السلفية، وعمدة القاري 9 / 72
(40/333)
وَقَال الْعَيْنِيُّ: النَّوَاضِحُ
الإِْبِل الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا وَاحِدُهَا نَاضِحٌ وَالأُْنْثَى
نَاضِحَةٌ (1) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ: النَّضْحُ: السَّقْيُ بِالْجَمَل، وَيُسَمَّى
الْجَمَل الَّذِي يَجُرُّهُ نَاضِحًا (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّضْحِ:
نَضْحُ الْفَرْجِ وَالسَّرَاوِيل بَعْدَ الاِسْتِنْجَاءِ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَأْخُذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ
فَيَنْضَحَ بِهَا فَرْجَهُ وَدَاخِل سَرَاوِيلِهِ أَوْ إِزَارِهِ بَعْدَ
الاِسْتِنْجَاءِ دَفْعًا لِلْوَسْوَاسِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جَاءَنِي
جِبْرِيل فَقَال: يَا مُحَمَّدُ إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْتَضِحْ (3) .
قَال حَنْبَلٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ قُلْتُ: أَتَوَضَّأُ وَاسْتَبْرِئُ
وَأَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَحْدَثْتُ بَعْدَهُ؟ قَال: إِذَا
تَوَضَّأْتَ فَاسْتَبْرِئْ، ثُمَّ خُذْ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَرُشَّهُ عَلَى
فَرْجِكَ وَلاَ تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ (4) .
__________
(1) عمدة القاري 9 / 72، وانظر كشاف القناع 2 / 209
(2) الذخيرة 3 / 83
(3) حديث: جاءني جبريل فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح أخرجه الترمذي (1 /
71 ط الحلبي) وقال: حديث غريب، ثم ذكر أن أحد رواته قال عنه البخاري: منكر
الحديث.
(4) الفتاوى الهندية 1 / 49، والبحر الرائق 1 / 253، والمجموع 2 / 112،
والمغني 1 / 155 - 156
(40/333)
تَطْهِيرُ بَوْل الصَّبِيِّ بِالنَّضْحِ:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِ بَوْل الصَّبِيِّ
وَالصَّبِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ
إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل بَوْل الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ
يَأْكُلاَ الطَّعَامَ، وَلاَ يَكْفِي النَّضْحُ فِيهِمَا (1) . .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ
يُجْزِئُ فِي بَوْل الْغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَأْكُل الطَّعَامَ النَّضْحُ
(2) .
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ فِي النَّضْحِ إِصَابَةَ الْمَاءِ جَمِيعَ
مَوْضِعِ الْبَوْل وَأَنْ يَغْمُرَهُ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْزِل عَنْهُ
(3) .
وَيَرَى النَّخَعِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيَّةُ
فِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ يَكْفِي النَّضْحُ فِي بَوْل الصَّبِيِّ
وَالصَّبِيَّةِ جَمِيعًا (4) .
وَلِمَعْرِفَةِ حُكْمِ بَوْل الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ مِنْ حَيْثُ
الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ (ر:. نَجَاسَةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 212، والاختيار 1 / 32، والتاج والإكليل 1 / 108،
والمجموع 2 / 589، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 195 ط المطبعة المصرية
بالأزهر
(2) المجموع 2 589، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 195، والإنصاف 1 / 323
(3) المجموع 2 / 589
(4) المجموع 2 / 589 - 590، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 195
(40/334)
زَكَاةُ مَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الْعُشْرِ فِيمَا
يُسْقَى مِنَ الزُّرُوعِ بِالْمُؤَنِ كَالدَّوَالِي النَّوَاضِحِ، لِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ
وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ
نِصْفُ الْعُشْرِ (1) . قَال الْقَرَافِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى
الْحَدِيثِ: وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَتَى كَثُرَتِ الْمُؤْنَةُ خَفَّتِ
الزَّكَاةُ رِفْقًا بِالْعِبَادِ، وَمَتَى قَلَّتْ كَثُرَتِ الزَّكَاةُ
لِيَزْدَادَ الشُّكْرُ لِزِيَادَةِ النِّعَمِ، وَنَظِيرُهُ الزَّكَاةُ فِي
الْمَعْدِنِ، وَالْخُمْسُ فِي الرِّكَازِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (زَكَاةٌ ف 115 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث: فيما سقت السماء والعيون. . أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 347 ط
السلفية) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) الذخيرة 3 / 82، والمغني 2 / 698، ونهاية المحتاج 3 / 76، والاختيار 1
/ 113
(40/334)
نُطْفَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّطْفَةُ فِي اللُّغَةِ: مَاءُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، قَال
اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
(1) الآْيَةَ، وَسُمِيَّ هَذَا الْمَاءُ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ، لأَِنَّ
النُّطْفَةَ: الْقَلِيل مِنَ الْمَاءِ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ،
وَالْجَمْعُ نُطَفٌ وَنِطَافٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلنُّطْفَةِ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَلَقَةُ:
2 - الْعَلَقَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنِيُّ يَنْتَقِل بَعْدَ طَوْرِهِ،
فَيَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا مُتَجَمِّدًا، وَهِيَ الْقِطْعَةُ الَّتِي
يَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْوَلَدُ، وَالْعَلَقَةُ طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِ
الْجَنِينِ، يُقَال: عَلَقَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا حَبِلَتْ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ (3) .
__________
(1) سورة الإنسان / 2
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والجامع لأحكام القرآن
للقرطبي 12 / 6 - 7، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 11 / 479
(3) سورة غافر / 67
(40/335)
وَالْعَلَقُ: الدَّمُ الْجَامِدُ وَهُوَ
الدَّمُ الْعَبِيطُ أَيِ الطَّرِيُّ، وَقِيل: الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الإِْنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْعَلَقَةِ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
مِنْ أَطْوَارِ الْجَنِينِ (2) .
ب - الْمُضْغَةُ:
3 - الْمُضْغَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ قَدْرَ مَا
يُمْضَغُ وَلَمْ يَنْضَجْ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ
صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ،
أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ (3) .
وَقَدْ جُعِلَتِ الْمُضْغَةُ اسْمًا لِلْحَالَةِ الَّتِي يَنْتَهِي
إِلَيْهَا الْجَنِينُ بَعْدَ طَوْرِ الْعَلَقَةِ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظَامًا (4) ، فَالْمَنِيُّ يَنْتَقِل بَعْدَ طَوْرِهِ فَيَصِيرُ دَمًا
غَلِيظًا مُتَجَمِّدًا، ثُمَّ يَنْتَقِل طَوْرًا آخَرَ فَيَصِيرُ لَحْمًا
وَهُوَ: الْمُضْغَةُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) سورة العلق / 2
(2) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط، وتفسير
القرطبي 12 / 6 - 7
(3) حديث: ألا وإن في الجسد مضغة. . أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 126 ط
السلفية) ومسلم (3 / 1220 ط عيسى الحلبي) من حديث النعمان بن بشير.
(4) سورة المؤمنون / 14
(40/335)
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا مِنْ أَطْوَارِ الْجَنِينِ (1) .
ج ـ - الْجَنِينُ:
4 - الْجَنِينُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي بَطْنِ
أُمِّهِ، وَجَمْعُهُ أَجِنَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذْ
أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ (2) .
وَسُمِيَّ الْجَنِينُ بِذَلِكَ، لاِسْتِتَارِهِ، فَإِذَا وُلِدَ فَهُوَ
مَنْفُوسٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْجَنِينِ عَنْ مَعْنَاهُ
اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّطْفَةِ وَالْجَنِينِ: أَنَّ النُّطْفَةَ أُولَى
مَرَاحِل الْجَنِينِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّطْفَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنُّطْفَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالنُّطْفَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَلْقَتْ
نُطْفَةً لاَ تَدْرِي هَل هِيَ مِمَّا يُخْلَقُ مِنْهُ الآْدَمِيُّ أَوْ
لاَ - بَعْدَ فُرْقَةِ زَوْجِهَا - لاَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِهَا،
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط، وتفسير
القرطبي 12 / 6،7
(2) سورة النجم / 32
(3) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط، وتفسير
القرطبي 12 / 6 - 7، ومغني المحتاج 4 / 103
(40/336)
لأَِنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا وَلَدٌ،
لاَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَلاَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُسَمَّى
حَمْلاً فَلاَ يَبْرَأُ بِهِ الرَّحِمُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: النُّطْفَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَقِينًا، وَلاَ
يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ إِذَا أَلْقَتْهَا الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ
تَجْتَمِعْ فِي الرَّحِمِ، فَهِيَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي صُلْبِ الرَّجُل
(1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّةٍ ف 22) .
ب - إِسْقَاطُ النُّطْفَةِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِسْقَاطِ النُّطْفَةِ - أَيْ قَبْل
نَفْخِ الرُّوحِ وَالتَّخَلُّقِ - وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى
تَحْرِيمِ إِسْقَاطِ الْجَنِينِ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِجْهَاضٍ ف 3 - 8) .
ج ـ - الْجِنَايَةُ عَلَى النُّطْفَةِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ بِسَبَبِ
جِنَايَةٍ عَلَيْهَا نُطْفَةً لَمْ يُجِبْ عَلَى الْجَانِي شَيْءٌ أَيْ لاَ
غُرَّةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ السَّقْطَ وَلَدٌ، لاَ
بِالْمُشَاهَدَةِ وَلاَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 200، 2 / 604، وتفسير القرطبي 12 / 8، وفتح
الباري 11 / 489، ومغني المحتاج 3 / 389، والمغني لابن قدامة 7 / 475
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 379، وتفسير القرطبي 12 / 20، ومغني المحتاج 4 /
104، والمغني لابن قدامة 7 / 475، 802
(40/336)
نُطْقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّطْقُ فِي اللُّغَةِ: الْكَلاَمُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ النُّطْقِ
مَصْدَرُ الْفِعْل نَطَقَ. يُقَال: نَطَقَ الرَّجُل نَطْقًا وَنُطْقًا:
تَكَلَّمَ، وَنَطَقَ لِسَانُهُ كَذَلِكَ، وَالْمَنْطِقُ أَيْضًا:
الْكَلاَمُ. فَكَلاَمُ كُل شَيْءٍ: مَنْطِقُهُ (1) قَال تَعَالَى حِكَايَةً
عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ (2) أَيْ كَلاَمُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِبَارَةُ:
2 - الْعِبَارَةُ هِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِفِعْل عَبَّرَ، يُقَال: عَبَّرَ
عَمَّا فِي نَفْسِهِ، أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلاَنٍ:
تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَالْعِبَارَةُ: الْكَلاَمُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب
(2) سورة النمل / 16
(3) قواعد الفقه للبركتي
(40/337)
فِي النَّفْسِ مِنْ مَعَانٍ، يُقَال: هُوَ
حَسَنُ الْعِبَارَةِ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّطْقِ وَالْعِبَارَةِ أَنَّ النُّطْقَ أَعَمُّ مِنَ
الْعِبَارَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّطْقِ:
3 - النُّطْقُ مِنْ أَهَمِّ خَصَائِصِ الإِْنْسَانِ وَأَعْظَمِهَا أَثَرًا
فِي حَيَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَتَصَرُّفَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ
زَوَّدَهُ اللَّهُ وَخُصَّ بِهِ دُونَ سَائِرِ الأَْجْنَاسِ فِي الأَْرْضِ
لِيَنْهَضَ بِأَعْبَاءِ الْخِلاَفَةِ فِي الأَْرْضِ، وَنَاطَ الشَّارِعُ
بِالنُّطْقِ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ دِينِ الإِْنْسَانِ وَدُنْيَاهُ
مِنْهَا:
أ - الإِْيمَانُ بِاللَّهِ:
4 - الإِْيمَانُ بِاللَّهِ - وَهُوَ: التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ - وَهُوَ
أَوَّل مَا يَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ - لاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِالنُّطْقِ
بِالشَّهَادَتَيْنِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، لأَِنَّ التَّصْدِيقَ
الْقَلْبِيَّ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لاَ اطِّلاَعَ لَنَا عَلَيْهِ، فَنَاطَ
الشَّارِعُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ - عَلَى الأَْقَل - إِجْرَاءَ
أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا كَالتَّوَارُثِ
وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ
وَالتَّزَاوُجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ وَهُوَ قَادِرٌ
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي
(40/337)
عَلَيْهِ فَلاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُؤْمِنًا نَاجِيًا عِنْدَ اللَّهِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ يَدْخُل
الْجَنَّةَ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ.
أَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ فَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْل
التَّمَكُّنِ مِنَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ
يَدْخُل الْجَنَّةَ بِالإِْجْمَاعِ (1) . .
ب - التَّصَرُّفَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ:
5 - النُّطْقُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ فِي الْجُمْلَةِ، كَالنِّكَاحِ
وَالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ، كَمَا يُشْتَرَطُ
فِي الْحُلُول كَالطَّلاَقِ وَالْفَسْخِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَا
الأَْقَارِيرُ وَالدَّعَاوَى، فَإِنْ أَشَارَ نَاطِقٌ بِعَقْدٍ أَوْ حَلٍّ
لَمْ يُعْتَّدَ بِهِ، وَالإِْشَارَةُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا بَيَانٌ إِلاَّ
أَنَّ الشَّارِعَ تَعَبَّدَ الْقَادِرِينَ عَلَى النُّطْقِ بِالْعِبَارَةِ،
فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَ الشَّارِعُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ
عِبَارَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٍ ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) غاية البيان شرح الزبد للشيخ الرملي ص 5
(2) المنثور للزركشي 1 / 164
(40/338)
ج - إِذْهَابُ النُّطْقِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا جَنَى عَلَى
لِسَانِ إِنْسَانٍ أَوْ رَأْسِهِ فَذَهَبَ نُطْقُهُ كَامِلاً يَجِبُ
عَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.
أَمَّا إِنْ عَجَزَ النُّطْقُ عَجْزًا جُزْئِيًّا بِأَنْ قَدَرَ عَلَى
النُّطْقِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضِهَا، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ
وَخِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (دِيَاتٍ
ف 57) .
(40/338)
نَطِيحَة
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّطِيحَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَطَحَهُ كَمَنَعَهُ وَضَرَبَهُ إِذَا
أَصَابَهُ بِقَرْنِهِ.
وَانْتَطَحَتِ الْكِبَاشِي: تَنَاطَحَتْ، وَالنَّطِيحَةُ الَّتِي مَاتَتْ
مِنْهُ بِنَطْحِ الْكِبَاشِ، وَالنَّطِيحُ لِلذَّكَرِ، وَيُقَال نَعْجَةٌ
نَطِيحٌ وَنَطِيحَةٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَيْتَةُ:
2 - الْمَيْتَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الْحَيَوَانُ الَّذِي مَاتَ حَتْفَ
أَنْفِهِ.
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ الْحَيَوَانُ الَّذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ
قُتِل عَلَى هَيْئَةٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والقاموس، وحاشية الشيخ زادة على تفسير البيضاوي 2 / 92
(2) المصباح المنير، وقواعد الفقه للبركتي
(40/339)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّطِيحَةِ
وَالْمَيْتَةِ، هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَكُل نَطِيحَةٍ مَيْتَةٌ،
وَلاَ عَكْسَ.
ب - الْمُنْخَنِقَة:
3 - الْمُنْخَنِقَةُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ الَّتِي خُنِقَتْ أَوِ
اخْتَنَقَتْ بِحَبْلٍ أَوْ شَبَكَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ ذَكَاةٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
وَكُلٌّ مِنَ النَّطِيحَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ مَيْتَةٌ لاَ تَحِل مَعَ
اخْتِلاَفِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ.
ج - الْمَوْقُوذَة:
4 - الْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ بِالْخَشَبِ أَوْ بِالْحَجَرِ
أَوْ غَيْرِهِمَا حَتَّى مَاتَتْ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّطِيحَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ هِيَ أَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا مَيْتَةٌ مَعَ اخْتِلاَفِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ (2) .
د - الْمُتَرَدِّيَةُ:
5 - الْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَرَدَّتْ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَل
أَوْ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ حَتَّى مَاتَتْ.
__________
(1) تفسير القرطبي 6 / 48، ولسان العرب، وحاكمية الشيخ زادة على تفسير
البيضاوي 2 / 92
(2) المراجع السابقة
(40/339)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَيْتَةٌ مَعَ اخْتِلاَفِ
أَسْبَابِ الْمَوْتِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - حُكْمُ النَّطِيحَةِ، أَنَّهَا مَيْتَةٌ نَجِسَةٌ، يَحْرُمُ أَكْلُهَا،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةِ وَمَا أَكَل السَّبُعُ
إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ (2) .
وَاسْتَثْنَى النَّصُّ: مَا أُدْرِكَ بِحَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ وَذُكِّيَ
ذَكَاةً شَرْعِيَّةً: أَيْ إِلاَّ مَا أَدْرَكْتُمْ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ
وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَذَكَّيْتُمْ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً،
وَالذَّكَاةُ الشَّرْعِيَّةُ: قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ
بِمُحَدَّدٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَةٍ) .
نَظَّارَةٌ
انْظُرْ: وَقَفَ
__________
(1) المراجع السابقة
(2) سورة المائدة / 3
(3) تفسير البيضاوي 2 / 92
(40/340)
نَظَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّظَرُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ نَظَرَ، وَمَعْنَاهُ حَسُّ الْعَيْنِ
أَوْ تَأَمُّل الشَّيْءِ بِهَا أَوْ تَقْلِيبُ حَدَقَةِ الْعَيْنِ نَحْوَ
الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ الْحِفْظُ وَالرِّعَايَةُ، يُقَال نَظَرَ الشَّيْءَ:
حَفِظَهُ وَرَعَاهُ، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا تَقْلِيبُ الْبَصِيرَةِ
لإِِدْرَاكِ الشَّيْءِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ
بَعْدَ التَّأَمُّل، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرُوا مَاذَا فِي
السَّمَاوَاتِ (1) ، وَمَعْنَاهُ تَأَمَّلُوا.
وَاسْتِعْمَال النَّظَرِ فِي الْبَصَرِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَفِي
الْبَصِيرَةِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ، وَإِذَا قُلْتَ: نَظَرْتُ
إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِالْعَيْنِ، وَإِذَا قُلْتَ: نَظَرْتُ فِي
الأَْمْرِ احْتَمَل أَنْ يَكُونَ تَفَكُّرًا وَتَدَبُّرًا بِالْقَلْبِ (2)
.
__________
(1) سورة يونس / 101
(2) لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة، والمعجم الوسيط، والكليات 2 / 360
(40/340)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرُّؤْيَةُ:
2 - الرُّؤْيَةُ لُغَةً: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَقَال
ابْنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْمُشَاهَدَةُ بِالْبَصَرِ حَيْثُ كَانَ فِي
الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (2) .
وَالنَّظَرُ أَعَمُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّظَرِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ بِاخْتِلاَفِ حَال
كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُ الرَّجُل إِلَى
عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
__________
(1) القليوبي وعميرة 3 / 207 - 3 / 109
(2) الكليات، ولسان العرب
(3) تبيين الحقائق 6 17، 18، وحاشية الدسوقي 1 / 214، وروضة الطالبين 5 /
366، والإنصاف 8 / 30
(40/341)
قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ (1) ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ
ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ: فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْعَوْرَةِ الَّتِي يَحْرُمُ النَّظَرُ
إِلَيْهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
4 - يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنَ
الأَْجْنَبِيَّةِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى
الظَّنِّ وُقُوعُهَا، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا عَدَا ذَلِكَ
بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَهَذَا الْقَوْل ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقْصِدُ بِالْكَفِّ بَاطِنَهُ
فَقَطْ، وَأَمَّا ظَهْرُهُ فَيُعْتَبَرُ عَوْرَةً لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ
إِلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ ظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ وَبَاطِنِهِمَا، فَلاَ يَحْرُمُ النَّظَرُ
إِلَيْهِمَا بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ، وَلَمْ تُخْشَ
الْفِتْنَةُ بِسَبَبِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّجُل مُسْلِمًا إِذَا كَانَتِ
الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ
الْمُسْلِمَةِ أَنْ تُبْدِيَ لَهُ أَيَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا،
وَيُعْتَبَرُ جَمِيعُ جَسَدِهَا عَوْرَةً
__________
(1) سورة النور / 30
(2) حديث: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا. . . أخرجه البخاري (الفتح
11 / 26) ومسلم (4 / 2046) من حديث أبي هريرة.
(40/341)
بِالنِّسْبَةِ لَهُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا (2) ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ
وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِمَا ظَهَرَ مِنَ
الزِّينَةِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ (3) .، قَال الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا
كَانَ الْغَالِبُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ظُهُورُهُمَا عَادَةً
وَعِبَادَةً وَذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ، فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ
الاِسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا (4) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَسْمَاءَ
بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ،
فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَال: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا
بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا
وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (5) .، وَالْحَدِيثُ فِيهِ
دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ مِنَ الْمَرْأَةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَأَنَّ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ
إِلَيْهِمَا (6) .
__________
(1) المبسوط 10 / 152، والهداية والعناية وتكملة فتح القدير 10 / 28،
وتبيين الحقائق 6 / 17، وحاشية الدسوقي والشرح الكبير 1 / 214، ونهاية
المحتاج 6 / 187، ومغني المحتاج 4 / 209.
(2) سورة النور / 31
(3) نيل الأوطار للشوكاني 6 / 243
(4) تفسير القرطبي 12 / 229
(5) حديث: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض. . . أخرجه أبو داود (4 /
358 ط حمص) وقال: مرسل، فيه خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها.
(6) عون المعبود 11 / 162
(40/342)
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ
قَال: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جُلُوسًا، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، فَخَفَضَ
فِيهَا الْبَصَرَ وَرَفَعَهُ، فَلَمْ يُرِدْهَا، فَقَال رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: أَعِنْدَكَ مِنْ
شَيْءٍ؟ قَال: مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ. قَال: وَلاَ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ،
قَال: وَلاَ خَاتَمٌ، وَلَكِنْ أَشُقُّ بُرْدَتِي هَذِهِ فَأُعْطِيهَا
النِّصْفَ وَآخُذُ النِّصْفَ. قَال: لاَ، هَل مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ
شَيْءٌ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: اذْهَبْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ
مِنَ الْقُرْآنِ (1) . فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَيْهَا يَدُل عَلَيْهِ قَوْل الرَّاوِي:
فَخَفَضَ فِيهَا الْبَصَرَ وَرَفَعَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: فَصَعَّدَ
النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ (2) ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ
النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ (3) .
وَاسْتَدَل السَّرَخْسِيُّ بِمَا وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا قَال عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ: أَلاَ لاَ تُغَالُوا فِي أَصْدِقَةِ
النِّسَاءِ، قَالَتِ امْرَأَةٌ سَعْفَاءُ الْخَدَّيْنِ: أَنْتَ تَقُولُهُ
__________
(1) حديث: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. . . أخرجه البخاري (فتح
الباري 9 / 188 ط السلفية) .
(2) رواية: فصعد النظر إليها وصوبه أخرجها البخاري (الفتح 9 / 78) ومسلم (2
/ 1041) .
(3) المبسوط 10 / 152، والعناية وتكملة فتح القدير 10 / 28، 29
(40/342)
بِرَأْيِكَ أَمْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ مَا تَقُول، قَال اللَّهُ تَعَالَى:
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (1)
فَبَقِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاهِتًا وَقَال: كُل النَّاسِ
أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءُ فِي الْبُيُوتِ (2) . فَذَكَرَ
الرَّاوِي أَنَّهَا كَانَتْ سَعْفَاءَ الْخَدَّيْنِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ
إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُسْفِرَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَاسْتَدَل أَيْضًا
بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً مَدَّتْ
يَدَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ
فَقَبَضَ يَدَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ مَدَدْتُ يَدِي إِلَيْكَ
بِكِتَابٍ فَلَمْ تَأْخُذْهُ، فَقَال: إِنِّي لَمْ أَدْرِ أَيَدُ امْرَأَةٍ
هِيَ أَوْ رَجُلٍ؟ قَالَتْ: بَل يَدُ امْرَأَةٍ، قَال: لَوْ كُنْتِ
امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ وَكَفَّيْهَا
لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، فَلَمْ يَحْرُمِ النَّظَرُ إِلَيْهِمَا كَوَجْهِ
الرَّجُل، وَبِأَنَّ فِي إِظْهَارِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ضَرُورَةً،
لِحَاجَةِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَال أَخْذًا
وَعَطَاءً
__________
(1) سورة النساء / 20
(2) قول عمر رضي الله عنه: كل أحد أفقه من عمر حتى النساء. . أخرجه سعيد بن
منصور (3 / 153 ط علمي بريس) والبيهقي في الكبرى (7 / 233 ط دائرة المعارف)
وقال: منقطع.
(3) حديث: أن امرأة مدت يدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . أخرجه أبو
داود (4 / 396 ط حمص) والنسائي (8 / 142 ط التجارية الكبرى) من حديث عائشة
رضي الله عنها.
(40/343)
وَبَيْعًا وَشِرَاءً، وَلاَ يُمْكِنُهَا
ذَلِكَ عَادَةً إِلاَّ بِكَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَيَحِل لَهَا
ذَلِكَ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي:
5 - يَحْرُمُ نَظَرُ الرَّجُل بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ إِلَى وَجْهِ
الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا كَسَائِرِ
أَعْضَائِهَا سَوَاءٌ أَخَافَ الْفِتْنَةَ مِنَ النَّظَرِ بِاتِّفَاقِ
الشَّافِعِيَّةِ أَمْ لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ، فَقَدْ قَال: لاَ يَأْكُل
الرَّجُل مَعَ مُطَلَّقَتِهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ
يَنْظُرَ إِلَيْهَا، كَيْفَ يَأْكُل مَعَهَا يَنْظُرُ إِلَى كَفِّهَا، لاَ
يَحِل لَهُ ذَلِكَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (3) فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ إِلَى
الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مُبَاحًا لَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ
يَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلأََبَاحَ لَهُمْ أَنْ
يَسْأَلُوهُنَّ مُوَاجَهَةً، قَال الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الآْيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 121، المبسوط 10 / 153، والمغني 7 / 460
(2) مغني المحتاج 4 / 209، والحاوي الكبير 9 / 35، وروضة الطالبين 7 / 21،
والإنصاف 8 / 29، ومطالب أولي النهى 5 / 18، والمغني 7 / 460
(3) سورة الأحزاب / 53
(40/343)
مَسْأَلَتِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِي
حَاجَةٍ تَعْرِضُ، أَوْ مَسْأَلَةٍ يُسْتَفْتِينَ بِهَا، وَيَدْخُل فِي
ذَلِكَ جَمِيعُ النِّسَاءِ بِالْمَعْنَى، وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ أُصُول
الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ، بَدَنَهَا
وَصَوْتَهَا، فَلاَ يَجُوزُ كَشْفُ ذَلِكَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَالشَّهَادَةِ
عَلَيْهَا أَوْ دَاءٍ يَكُونُ بِبَدَنِهَا، أَوْ سُؤَالِهَا عَمَّا
يَعْرِضُ وَتَعَيَّنَ عِنْدَهَا (1) ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ
يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (2) وَقَدْ
بَيَّنَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَجْهَ الاِسْتِدْلاَل بِهَذِهِ الآْيَةِ
وَالآْيَةِ السَّابِقَةِ، فَقَال: قَبْل أَنْ تَنْزِل آيَةُ الْحِجَابِ
كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ بِلاَ جِلْبَابٍ يَرَى الرَّجُل وَجْهَهَا
وَيَدَيْهَا، وَكَانَ إِذْ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ الْوَجْهَ
وَالْكَفَّيْنِ، وَكَانَ حِينَئِذٍ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا،
لأَِنَّهَا يَجُوزُ لَهَا إِظْهَارُهُ، ثُمَّ لَمَّا أَنْزَل اللَّهُ عَزَّ
وَجَل آيَةَ الْحِجَابِ بِقَوْلِهِ: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل
لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ
مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ حُجِبَ النِّسَاءُ عَنِ الرِّجَال (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالأَْخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ تَنْهَى عَنِ النَّظَرِ
الْمُتَعَمَّدِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى النَّظْرَةِ الأُْولَى،
__________
(1) تفسير القرطبي 14 / 227
(2) الأحزاب / 59
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 2 / 110، 111
(40/344)
وَهِيَ نَظَرُ الْفُجَاءَةِ، وَقَدْ
جَاءَتْ عَامَّةً تَشْمَل جَمِيعَ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، وَكُل مَا وَرَدَ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَْخْبَارِ مِنْ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ
أَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ أَوِ
الْحَاجَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول مِنْ جِهَتَيْنِ:
الأُْولَى: أَنَّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى
جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ أَوْ عِنْدَ خَوْفِ حُدُوثِهَا
يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ
وَسَائِرِ الأَْعْضَاءِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ فِي جَمِيعِ
الأَْحْوَال، لأَِنَّ خَوْفَ الْفِتْنَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ
مَوْجُودٌ دَائِمًا، وَبِخَاصَّةٍ إِلَى الْوَجْهِ، لأَِنَّهُ مَجْمَعُ
الْمَحَاسِنِ، وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ
غَيْرِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِنَّ إِبَاحَةَ نَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَى الْمَرْأَةِ
الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَخْطُبَهَا يَدُل عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ
إِرَادَةِ خِطْبَتِهَا، إِذْ لَوْ كَانَ مُبَاحًا عَلَى الإِْطْلاَقِ،
فَمَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ:
6 - يَحْرُمُ النَّظَرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ حَاجَةٍ إِلَى بَدَنِ
الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ غَيْرَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَيُكْرَهُ
النَّظَرُ إِلَيْهِمَا،
__________
(1) المغني 7 / 460، والحاوي الكبير 9 / 35
(2) الحاوي الكبير 9 / 35، ونهاية المحتاج 6 / 187، والمغني 7 / 460
(40/344)
وَيُنْدَبُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُمَا
وَلَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَهَذَا الْقَوْل نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابِ الْفَتَاوَى،
وَعِبَارَةُ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الأَْحْوَطَ عَدَمُ النَّظَرِ
مُطْلَقًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل الْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ:
7 - يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ
مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَهَذَا الْقَوْل
رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَهُ
الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى الذِّرَاعَيْنِ
أَيْضًا عِنْدَ الْغَسْل وَالطَّبْخِ.
وَقِيل: يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى السَّاقَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّظَرُ
عَنْ شَهْوَةٍ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْقَدَمَيْنِ
بِالأَْثَرِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الأَْثَرُ فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلاَّ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَلْبُ وَالْفَتْخَةُ،
وَالْفَتْخَةُ خَاتَمُ إِصْبَعِ الرِّجْل، فَدَل عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ
إِلَى الْقَدَمَيْنِ.
__________
(1) المغني 7 / 460، والإنصاف 8 / 28، وحاشية ابن عابدين 2 / 80، والفتاوى
الهندية 5 / 329، ومجمع الأنهر 2 / 540
(40/345)
وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْقَدَمَيْنِ
عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ كَمَا تُبْتَلَى
بِإِبْدَاءِ وَجْهِهَا فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَال وَبِإِبْدَاءِ
كَفَّيْهَا فِي الأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ، فَإِنَّهَا تُبْتَلَى بِإِبْدَاءِ
قَدَمَيْهَا، وَرُبَّمَا لاَ تَجِدُ الْخُفَّ فِي كُل وَقْتٍ.
وَوَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى
الذِّرَاعِ هُوَ ظُهُورُ ذَلِكَ مِنْهَا عَادَةً عِنْدَ الْقِيَامِ
بِبَعْضِ الأَْعْمَال الَّتِي تَسْتَعْمِل الْمَرْأَةُ فِيهَا ذِرَاعَيْهَا
كَالْغَسْل وَالطَّبْخِ، وَفِي بَعْضِ الأَْخْبَارِ مَا يَدُل عَلَى
إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالُوا: ظَاهِرُ الزِّينَةِ
هُوَ الْكُحْل وَالسِّوَارُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ
وَالْقِرَطَةِ وَالْفَتْخَةِ وَنَحْوِ هَذَا، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ
قَتَادَةَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَثْنَى فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ النَّظَرِ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إِلَى
نِصْفِ الذِّرَاعِ، قَال قَتَادَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُخْرِجَ يَدَهَا إِلاَّ إِلَى
هَهُنَا وَقَبَضَ نِصْفَ الذِّرَاعِ (1) ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا
__________
(1) حديث: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج يدها. . . أخرجه
الطبري في تفسيره (18 93 ط دار المعرفة) من حديث قتادة مرسلا.
(40/345)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِل لَهَا أَنْ
تُظْهِرَ إِلاَّ وَجْهَهَا، وَإِلاَّ مَا دُونَ هَذَا وَقَبَضَ عَلَى
ذِرَاعِ نَفْسِهِ فَتَرَكَ بَيْنَ قَبْضَتِهِ وَبَيْنَ الْكَفِّ مِثْل
قَبْضَةٍ أُخْرَى (1) .، قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي بِحُكْمِ
أَلْفَاظِ الآْيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَلاَّ تُبْدِيَ،
وَأَنْ تَجْتَهِدَ فِي الإِْخْفَاءِ لِكُل مَا هُوَ زِينَةٌ، وَوَقَعَ
الاِسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ بِحُكْمِ ضَرُورَةِ حَرَكَةٍ فِيمَا لاَ
بُدَّ مِنْهُ أَوْ إِصْلاَحِ شَأْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَا ظَهَرَ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي النِّسَاءِ
فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ (2) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ الْعَجُوزِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ بِغَيْرِ
عُذْرٍ إِلَى الْعَجُوزِ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ مَعَ وِجْدَانِهَا،
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ
شَهْوَةٍ وَلاَ قَصْدِ التَّلَذُّذِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا إِذَا
كَانَتْ لاَ تُشْتَهَى وَغَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَةٍ، وَهَذَا هُوَ
__________
(1) حديث: إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها. . . أخرجه الطبري
في تفسيره (18 / 93 ط دار المعرفة) من حديث ابن جريج مرسلا.
(2) تفسير القرطبي 12 / 229، والمبسوط 10 / 153، والفتاوى الهندية 5 / 329،
ومجمع الأنهر 2 / 540، والتاج والإكليل في هامش مواهب الجليل 2 / 181
(40/346)
قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَعَ أَنَّ فُقَهَاءَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ نَصًّا فِي
كُتُبِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَطْلَقُوا عِبَارَاتِهِمْ عِنْدَ كَلاَمِهِمْ
عَنْ حُكْمِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، فَقَالُوا
بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا فِي
رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ، وَقَدْ أَجَازُوا مَسَّ الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ
الَّتِي لاَ تُشْتَهَى، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا
جَائِزٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى، لأَِنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ مِنَ
النَّظَرِ.
وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا جَوَازَ النَّظَرِ
إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ وَكَفَّيْهَا فَيَدْخُل فِيهِ الْعَجُوزُ
وَالشَّابَّةُ. إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ فَرَقَّ بَيْنَهُمَا فِي
الْحُكْمِ، فَقَال بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الأَْجْنَبِيَّةِ
الشَّابَّةِ وَكَفَّيْهَا بِشَرْطِ عَدَمِ الاِسْتِدَامَةِ وَالتَّرْدَادِ
فِيهِ، وَأَمَّا النَّظَرُ إِلَى الْعَجُوزِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ هَذَا
الشَّرْطُ (1) .
وَإِلَى مِثْل ذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
كَالرُّويَانِيِّ وَالأَْذْرُعِيِّ، فَقَالُوا بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى
وَجْهِ الْعَجُوزِ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى وَكَفَّيْهَا، وَهُوَ خِلاَفُ
الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَقَال الرَّمْلِيُّ: إِنَّهُ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ
(2) .
__________
(1) المبسوط 10 / 154، والفتاوى الهندية 5 / 329، ومجمع الأنهر 2 / 540،
وحاشية العدوي على شرح الخرشي 1 / 248، ومواهب الجليل 2 / 181، 183.
(2) مغني المحتاج 3 / 129، ونهاية المحتاج 6 / 188
(40/346)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَجُوزُ
عِنْدَهُمُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الْعَجُوزِ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى
وَكَفَّيْهَا وَالشَّوْهَاءِ وَكَذَلِكَ الْبَرْزَةُ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى
وَالْمَرِيضَةُ الَّتِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهَا.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَظْهَرُ
غَالِبًا مِنَ الْعَجُوزِ (1) ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل:
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ
بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سُمَيْعٍ
عَلِيمٌ (2) ، وَالْقَوَاعِدُ هُنَّ الْعَجَائِزُ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ
عَنِ التَّصَرُّفِ بِسَبَبِ كِبَرِ السِّنِّ، وَقَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ
وَالْمَحِيضِ، وَذَهَبَتْ شَهْوَتُهُنَّ، فَلاَ يَشْتَهِينَ وَلاَ
يُشْتَهَيْنَ، فَأُبِيحَ لَهُنَّ وَضْعُ الْجِلْبَابِ وَالْخِمَارِ،
لاِنْصِرَافِ الأَْنْفُسِ عَنْهُنَّ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِ الرِّجَال
إِلَيْهِنَّ، فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِنَّ، فَجَازَ
النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ وَمُصَافَحَتُهُنَّ لاِنْعِدَامِ خَوْفِ
الْفِتْنَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ لاَ يَكُنَّ مُتَبَرِّجَاتٍ
بِزِينَةٍ، أَيْ مُظْهِرَاتٍ وَلاَ مُتَعَرِّضَاتٍ بِالزِّينَةِ لِيُنْظُرَ
إِلَيْهِنَّ (3) .
__________
(1) المغني 7 / 461، ومطالب أولي النهى 5 / 14
(2) سورة النور / 60
(3) تفسير القرطبي 12 / 309، والمغني 7 / 461، والفتاوى الهندية 5 / 329،
والمبسوط 10 / 154، والهداية وتكملة فتح القدير 10 / 29، ومغني المحتاج 4 /
129، 210، ونهاية المحتاج 6 / 188، وروضة الطالبين 5 / 370، وغذاء الألباب
1 / 99
(40/347)
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ فِي حُكْمِ النَّظَرِ
إِلَيْهِمَا، فَيَحْرُمُ كُلُّهُ، وَلاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ
مِنْ بَدَنِ الْعَجُوزِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُشْتَهَى، وَهَذَا الْقَوْل
هُوَ الأَْرْجَحُ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِعُمُومِ
الأَْدِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ، وَلأَِنَّ الشَّهْوَةَ لاَ تَنْضَبِطُ بِضَابِطٍ (1) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الصَّغِيرَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الصَّغِيرَةِ
بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ، مَهْمَا كَانَ عُمْرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ الْعُضْوُ
الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ
الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ سِوَى الْفَرْجِ
مِنْهَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِ
الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَفِي تَقْدِيرِ
السِّنِّ الَّتِي تَبْلُغُ فِيهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَفِيمَا يَحْرُمُ
النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ ف 10) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ:
10 - ذَوَاتُ مَحَارِمِ الرَّجُل هُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 129، ونهاية المحتاج 6 / 188، وروضة الطالبين 7 / 24
(40/347)
اللَّوَاتِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّوَاجُ
مِنْهُنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل
النَّظَرُ إِلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ مِنْ
ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، سَوَاءٌ
أَكَانَ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ أَمْ بِغَيْرِهَا، وَعَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ
النَّظَرُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنْهُنَّ،
وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الَّتِي يُبَاحُ نَظَرُ
الرِّجَال إِلَيْهَا مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِمْ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ
فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ ف 6) .
نَظَرُ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال إِلَى الْمَرْأَةِ:
11 - غَيْرُ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال حُكْمُهُمْ فِي النَّظَرِ
إِلَى النِّسَاءِ كَحُكْمِهِمْ فِي النَّظَرِ إِلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِمْ،
وَهُوَ جَوَازُهُ إِلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنْهُنَّ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال
(1) وَالْعَطْفُ بَأَوْ يُفِيدُ التَّسَاوِيَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ
الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالإِْرْبَةُ هِيَ حَاجَةُ
الرِّجَال إِلَى النِّسَاءِ وَمَيْلُهُمْ إِلَيْهِنَّ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَا يَدْخُل وَمَا لاَ يَدْخُل فِي
هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الرِّجَال:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النور / 31
(40/348)
غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ
الْمُتَشَابِهِ، وَلاَ يَكَادُونَ يَبْحَثُونَ فِيمَا يَدْخُل فِيهِ مِنَ
النَّاسِ، وَيَمِيلُونَ إِلَى عَدَمِ إِجْرَاءِ حُكْمِ الاِسْتِثْنَاءِ
الْوَارِدِ فِي الآْيَةِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمَعْنَى،
كَمَا هُوَ الْحَال فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ
غَيْرُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّجَال الَّذِي يَدْخُلُونَ فِي وَصْفِ
غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ قَدْ تَنَاوَلَهُ نَصٌّ مُحْكَمٌ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ، فَيَنْبَغِي الأَْخْذُ بِالْمُحْكَمِ وَتَرْكُ
الْمُتَشَابِهِ.
وَلِذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْخَصِيَّ (1) .، وَالْمَجْبُوبَ (2) .
وَالْمُخَنَّثَ (3) ، وَالْعِنِّينَ كُلُّهُمْ رِجَالٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ
النَّظَرُ إِلَى غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنَ النِّسَاءِ
الأَْجْنَبِيَّاتِ، وَلاَ يُقْطَعُ بِدُخُولِهِمْ أَوْ دُخُول أَحَدِهِمْ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ
بِشُمُول النَّصِّ الْمُحْكَمِ لَهُمْ، فَيُؤْخَذُ بِهِ فِي حَقِّهِمْ.
ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا بِأَدِلَّةٍ تَخُصُّ كُل
وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَ، فَقَالُوا فِي الْخَصِيِّ: إِنَّهُ نُقِل عَنْ
__________
(1) الخصي منزوع الخصيتين
(2) المجبوب من قطع ذكره وخصيتاه
(3) المخنث المتزي بزي النساء والمتشبه بهن في محلية الوطء وتليين الكلام
عن اختيار، أو هو الذي في أعضائه لين وتكسر بأصل الخلقة ولا يشتهي النساء
(40/348)
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَتْ: الْخِصَاءُ مُثْلَةٌ فَلاَ يُبِيحُ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهُ
وَلأَِنَّ الْخَصِيَّ ذَكَرٌ يَشْتَهِي وَقَدْ يُجَامِعُ، وَيَثْبُتُ
نَسَبُ وَلَدِهِ مِنْهُ وَيُعَامَل فِي أَحْكَامِ الشَّهَادَاتِ
وَالْمَوَارِيثِ كَالْفَحْل، وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُ
مِنَ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ مُتَحَقِّقٌ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ،
لأَِنَّهُ قَدْ يُسَاحِقُ فَيُنْزِل، وَالْمُخَنَّثُ إِذَا قُصِدَ بِهِ
الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ فِي الزِّيِّ وَالْكَلاَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَهُوَ فَحْلٌ فَاسِقٌ، فَيَنْبَغِي إِبْعَادُهُ عَنِ النِّسَاءِ، وَإِذَا
قُصِدَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ وَتَكَسُّرٌ بِأَصْل
الْخِلْقَةِ وَلاَ يَشْتَهِي النِّسَاءَ فَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الرِّجَال
مُخَاطَبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ، وَهُوَ ذَكَرٌ مِنْ ذُكُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَعَلُّقُ
هَذَا النَّصِّ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَعَلُّقِ الاِسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ
لأَِنَّ الأَْوَّل مُحْكَمٌ وَالثَّانِيَ مُتَشَابِهٌ، وَمِثْل ذَلِكَ
يُقَال فِي الْعِنِّينِ.
لَكِنَّ الْكَاسَانِيَّ أَشَارَ إِلَى جَوَازِ النَّظَرِ بَيْنَ
الشَّيْخَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ لاَ يَحْتَمِل حُدُوثُ
الشَّهْوَةِ فِيهِمَا، كَمَا أَنَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ الْمُخَنَّثُ
الَّذِي خُلِقَ فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ وَتَكَسُّرٌ، وَحُرِمَ مِنِ
اشْتِهَاءِ النِّسَاءِ، فَهَذَا يُتْرَكُ مَعَ النِّسَاءِ، وَيُبَاحُ
لَهُنَّ إِبْدَاءُ
(40/349)
مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لَهُ، وَيَحِل لَهُ
النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ كَالرَّجُل مَعَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ.
وَكَذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُل
فِي مَعْنَى غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ الْمَجْبُوبُ الَّذِي جَفَّ مَاؤُهُ
وَانْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ لِشَيْخُوخَتِهِ (1) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ
أَيْ غَيْرِ أُولِي الْحَاجَةِ، وَاخْتَلَفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ وَالاِخْتِلاَفُ كُلُّهُ
مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى وَيَجْتَمِعُ فِيمَنْ لاَ فَهْمَ لَهُ وَلاَ
هِمَّةَ يَنْتَبِهُ بِهَا إِلَى أَمْرِ النِّسَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ
حُكْمَ أُولِي الإِْرْبَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ
كَالنَّظَرِ إِلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِمْ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيمَنْ
يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ وَصْفُ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ، فَذَهَبُوا فِي
الأَْصَحِّ مِنْ وَجْهَيْنِ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُل فِيهِ الْمَمْسُوحُ،
وَهُوَ ذَاهِبُ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَيَيْنِ، فَيَجُوزُ نَظَرُهُ إِلَى
الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ سِوَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ،
وَاشْتَرَطُوا أَنْ لاَ يَبْقَى فِيهِ مَيْلٌ إِلَى النِّسَاءِ أَصْلاً،
وَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمَنْظُورُ
إِلَيْهَا مُسْلِمَةً، وَأَنْ يَكُونَ عَدْلاً، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ مِنَ
الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ كَالْفَحْل مِنَ الأَْجْنَبِيَّةِ، لأَِنَّهُ يَحِل
__________
(1) المبسوط 10 / 158، والهداية وتكملة فتح القدير والعناية 10 / 43 وما
بعدها، والدر المختار ورد المحتار 9 / 536، وتبيين الحقائق 6 / 30
(2) تفسير القرطبي 12 / 234
(40/349)
لَهُ نِكَاحُهَا، وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ
الَّذِي ذَهَبَ ذَكَرُهُ وَبَقِيَ أُنْثَيَاهُ، وَالْخَصِيُّ الَّذِي
بَقِيَ ذَكَرُهُ وَذَهَبَتْ أُنْثَيَاهُ، وَالْعِنِّينُ، وَالْمُخَنَّثُ
الْمُشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ وَالشَّيْخُ الْهِمُّ (1) . فَلاَ يَحِل لَهُمُ
النَّظَرُ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، وَهُمْ كَالْفَحْل فِي
ذَلِكَ، كَذَا أَطْلَقَ الأَْكْثَرُونَ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى
اسْتِثْنَاءِ الْخَصِيِّ الَّذِي يَكْبُرُ وَيَهْرَمُ وَتَذْهَبُ
شَهْوَتُهُ، وَكَذَا الْمُخَنَّثُ إِذَا صَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَال،
وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِي الْخَصِيِّ وَالْمُخَنَّثِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا كَالْمَمْسُوحِ، وَالثَّانِي أَنَّهُمَا كَالْفَحْل
الأَْجْنَبِيِّ. وَصَرَّحَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّ الشَّيْخَ
الَّذِي ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ يُعْتَبَرُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْسُوحًا وَلاَ خَصِيًّا وَلاَ مَجْبُوبًا وَلاَ
مُخَنَّثًا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ غَيْرَ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ
الرِّجَال هُمْ كُل مَنْ ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ لِكِبَرٍ أَوْ عُنَّةٍ أَوْ
مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ وَالْخَصِيُّ وَالْمُخَنَّثُ الَّذِي لاَ
شَهْوَةَ لَهُ، وَأَنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِي
النَّظَرِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، فَلَهُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا
يَظْهَرُ غَالِبًا مِنَ النِّسَاءِ لِلْحَاجَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ
وَالرَّقَبَةُ وَالْيَدُ وَالْقَدَمُ وَالسَّاقُ وَالرَّأْسُ، وَهَذَا
الْقَوْل قَطَعَ بِهِ ابْنُ قُدَامَةَ، وَقِيل: لَيْسَ لَهُمُ النَّظَرُ
__________
(1) الشيخ الهم: الشيخ الفاني (المصباح المنير)
(2) روضة الطالبين 7 / 22 - 23، ونهاية المحتاج 6 / 190، ومغني المحتاج3 /
130
(40/350)
إِلاَّ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ،
وَقِيل: لاَ يُبَاحُ لَهُمُ النَّظَرُ مُطْلَقًا كَغَيْرِهِمْ مِنَ
الرِّجَال (1) .
نَظَرُ الصَّغِيرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَظَرِ الصَّغِيرِ إِلَى الْمَرْأَةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي
لَمْ يَظْهَرْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَلاَ يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ
مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُبْدِينَ مَوَاضِعَ
الزِّينَةِ مِنْهُنَّ لَهُ (2) .
وَصَحَّحَ الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ
الأَْطْفَال لاَ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ سَتْرُ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا
أَمَامَهُ، وَحَكَى قَوْلاً آخَرَ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا سَتْرُ مَا سِوَى
الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، لأَِنَّهَا قَدْ تَشْتَهِي هِيَ إِذَا أَبْدَتْ
عَوْرَتَهَا لَهُ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطِّفْل الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ
عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لاَ حِجَابَ مِنْهُ، لَكِنْ فَرَّقَ الإِْمَامُ
فِي نَظَرِ الصَّبِيِّ بَيْنَ ثَلاَثِ دَرَجَاتٍ: الأُْولَى: أَنْ لاَ
يَبْلُغَ أَنْ يَحْكِيَ مَا يَرَى فَهَذَا حُضُورُهُ كَغَيْبَتِهِ،
وَيَجُوزُ التَّكَشُّفُ لَهُ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْلُغَ أَنْ يَحْكِيَ
مَا يَرَى، وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ فِيهِ
__________
(1) المغني 7 / 492، 463، والإنصاف 8 / 21، ومطالب أولي النهى 5 / 14
(2) بدائع الصنائع 5 / 123، والمبسوط 10 / 158، وتبيين الحقائق 6 / 30،
والهداية والعناية 10 / 45، 46
(3) تفسير القرطبي 12 / 237
(40/350)
ثَوَرَانُ شَهْوَةٍ وَتَشَوُّفٍ نَحْوَ
النِّسَاءِ، فَهَذَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَ أَمَامَهُ مَا
يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُبْدِيَهُ أَمَامَ مَحَارِمِهَا، وَالثَّالِثَةُ: أَنْ
يَبْلُغَ أَنْ يَحْكِيَ مَا يَرَى وَيَكُونَ فِيهِ ثَوَرَانُ شَهْوَةٍ
وَتَشَوُّفٍ فَهَذَا كَالْبَالِغِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الطِّفْل غَيْرَ الْمُمَيِّزِ لاَ
يَجِبُ الاِسْتِتَارُ مِنْهُ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَإِنْ
كَانَ غَيْرَ ذِي شَهْوَةٍ فَلَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ
وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ
لاَ شَهْوَةَ لَهُ فَأَشْبَهَ الطِّفْل، لأَِنَّ الْمُحَرِّمَ لِلرُّؤْيَةِ
فِي حَقِّ الْبَالِغِ كَوْنُهُ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ
هُنَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَالْمَحْرَمِ لاَ يَنْظُرُ مِنَ
الأَْجْنَبِيَّةِ سِوَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، وَوَجْهُهَا مَا يُفْهَمُ
مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ (2) ، حَيْثُ جَاءَ عَطْفُهُ عَلَى ذَوِي
الْمَحَارِمِ، فَدَل عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِ ذَوِي الْمَحَارِمِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَا شَهْوَةٍ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كَذِي
الْمَحْرَمِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 22، ومغني المحتاج 3 / 130، وزاد المحتاج 3 / 172،
173
(2) سورة النور / 31
(3) المغني 7 / 458، والإنصاف 8 / 23، ومطالب أولي النهى 5 / 16، والمبدع 7
/ 10
(40/351)
نَظَرُ الْمُرَاهِقِ إِلَى الْمَرْأَةِ:
13 - الْمُرَاهِقُ هُوَ مَنْ قَارَبَ الاِحْتِلاَمَ وَلَمْ يَحْتَلِمْ
بَعْدُ، بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ تَشَوُّفٌ إِلَى النِّسَاءِ، وَالْقُدْرَةُ
عَلَى الْمُوَاقَعَةِ وَالْجِمَاعِ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمُ الْمُرَاهَقَةَ
بِمَا يُقَارِبُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي حُكْمِ نَظَرِهِ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ
كَالرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مِثْل هَذَا الصَّبِيِّ
أُمِرَ بِالاِسْتِئْذَانِ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ (1) فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل
نَظَرُهُ إِلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَبِقَوْلِهِ
تَعَالَى: أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ
النِّسَاءِ (2) ، أَيِ الَّذِينَ لاَ يُمَيِّزُونَ الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِ
الْعَوْرَةِ وَلَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ، وَهُوَ يَدُل
بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ الْعَوْرَةَ وَبَلَغُوا
حَدَّ الشَّهْوَةِ لاَ يَحِل لَهُمْ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَوَاضِعِ
الزِّينَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، وَلاَ يَحِل لَهَا أَنْ
تُبْدِيَ زِينَتَهَا لَهُمْ، وَيَجِبَ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَمْنَعَهُ
مِنَ النَّظَرِ كَمَا يَلْزَمُهُ مَنْعُهُ سَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ (3) .
__________
(1) سورة النور / 58
(2) سورة النور / 31
(3) بدائع الصنائع 5 / 123، والفتاوى الهندية 5 / 330، وتفسير القرطبي 12 /
237، وروضة الطالبين 7 / 21 وما بعدها، ونهاية المحتاج 6 / 191، والإنصاف 8
/ 23، والمبدع 7 / 10.
(40/351)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل
الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمُرَاهِقَ،
فِي النَّظَرِ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ، كَالْبَالِغِ مَعَ ذَوَاتِ
الْمَحَارِمِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَلَغَ
الأَْطْفَال مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا (1) فَأَمَرَ
بِالاِسْتِئْذَانِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ فَدَل عَلَى التَّفْرِيقِ
بَيْنَ الْبَالِغِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ
الأَْطْفَال الْحُلُمَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ
مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَوْ لَمْ يَحِل لَهُمُ النَّظَرُ إِلَى
مَوَاضِعَ زَائِدَةٍ عَمَّا يَحِل لِلْبَالِغِ لَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا
فَرْقٌ (2) ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْحِجَامَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يَحْجُمَهَا، قَال: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَال: كَانَ
أَخَاهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ أَوْ غُلاَمًا لَمْ يَحْتَلِمْ (3) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الْعُضْوِ الْمُنْفَصِل مِنَ الْمَرْأَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَظَرَ الرَّجُل إِلَى
أَيِّ عُضْوٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ،
سَوَاءٌ أَكَانَ انْفِصَالُهُ فِي حَال الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ.
__________
(1) سورة النور / 59
(2) روضة الطالبين 7 / 21 وما بعدها، ونهاية المحتاج 6 / 191، وزاد
المحتاج3 / 172، والإنصاف 8 / 23، والمبدع 7 / 10، ومطالب أولي النهى 5 /
16
(3) حديث: أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . أخرجه
مسلم (4 / 1730 ط عيسى الحلبي) .
(40/352)
كَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَحِل
لَهُ أَنْ يَنْظُرَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِلَى الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ
الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ قَبْل
الاِنْفِصَال.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ
الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يُبَاحُ لَهُ
النَّظَرُ إِلَيْهِ قَبْل انْفِصَالِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْعُضْوِ الْمُبَانِ
مِنَ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ قَبْل
انْفِصَالِهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ انْفِصَالُهُ فِي حَال
الْحَيَاةِ أَمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ أَصْحَابِ هَذَا
الْقَوْل أَنَّ كُل عُضْوٍ لاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ قَبْل
الاِنْفِصَال لاَ يَجُوزُ بَعْدَهُ، فَلاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ
مِنَ الأَْجْنَبِيَّةِ يَدًا وَلاَ ذِرَاعًا وَلاَ شَعْرَ رَأْسٍ وَلاَ
سَاقًا وَإِنْ أُبِينَ ذَلِكَ مِنْهَا حَيَّةً أَوْ مَيِّتَةً، بَل
قَالُوا: لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَظْمِ ذِرَاعٍ أَوْ سَاقٍ
أَوْ قُلاَمَةِ ظُفْرٍ الرِّجْل دُونَ الْيَدِ، وَقَاسُوا الْمُنْفَصِل
عَلَى الْمُتَّصِل، لأَِنَّ حُرْمَةَ الآْدَمِيِّ وَأَجْزَائِهِ لاَ
تُفَارِقُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ وَعُبِّرَ عَنْهُ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَفِي
مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ بِالأَْصَحِّ. وَكَذَلِكَ ذَهَبَ إِلَيْهِ
الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ (1) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 9 / 534، والفتاوى الهندية 5 / 329، ومجمع
الأنهر 2 / 539، ومغني المحتاج 3 / 130، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي
6 / 200، وروضة الطالبين 7 / 26
(40/352)
الثَّانِي: يَحِل النَّظَرُ إِلَى
الْعُضْوِ الْمُبَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ إِذَا أُبِينَ مِنْهَا فِي
حَيَاتِهَا، لأَِنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْجِسْمِ. وَلاَ يَحِل
النَّظَرُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ انْفِصَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَقَالُوا بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى
أَجْزَاءِ الأَْجْنَبِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ
مُتَّصِلَةً أَمْ مُنْفَصِلَةً، وَمَنَعُوا النَّظَرَ فِي الْقُبُورِ
مَخَافَةَ مُصَادَفَةِ مَا لاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَيْهِ (1) .
الثَّالِثُ: يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عُضْوٍ مَبَانٍ مِنَ
الْمَرْأَةِ، لِزَوَال حُرْمَتِهِ بِالاِنْفِصَال، وَهُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، لَكِنِ
احْتَمَل الإِْمَامُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَمَيَّزِ
الْمُبَانُ مِنَ الْمَرْأَةِ بِصُورَتِهِ وَشَكْلِهِ عَمَّا لِلرَّجُل،
كَقُلاَمَةِ الظُّفْرِ وَالشَّعْرِ وَالْجِلْدِ لَمْ يَحْرُمِ النَّظَرُ
إِلَيْهِ، وَإِنْ تَمَيَّزَ حَرُمَ، وَقَدْ ضَعَّفَ النَّوَوِيُّ هَذَا
الْقَوْل، بِأَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِلتَّمْيِيزِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ
جُزْءٌ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ (3) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ عَنْ طَرِيقِ الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ:
15 - نَظَرُ الرَّجُل إِلَى صُورَةِ مَا لاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَى
عَيْنِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ أَشَارَ إِلَى حُكْمِهِ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ، مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، حَيْثُ
__________
(1) بلغة السالك 1 / 194
(2) روضة الطالبين 7 / 26، ومطالب أولي النهى 5 / 19
(3) روضة الطالبين 7 / 26، ونهاية المحتاج 6 / 200، 201.
(40/353)
قَال: لَمْ أَرَ مَا لَوْ نَظَرَ إِلَى
الأَْجْنَبِيَّةِ مِنَ الْمِرْآةِ أَوِ الْمَاءِ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي
حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِأَنَّهَا لاَ تَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ فَرْجٍ مِنْ
مِرْآةٍ أَوْ مَاءٍ لأَِنَّ الْمَرْئِيَّ مِثَالُهُ لاَ عَيْنُهُ،
بِخِلاَفِ مَا لَوْ نَظَرَ مِنْ زُجَاجٍ أَوْ مَاءٍ هِيَ فِيهِ، لأََنَّ
الْبَصَرَ يَنْفُذُ فِي الزُّجَاجِ وَالْمَاءِ فَيَرَى مَا فِيهِ،
وَمُفَادُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ نَظَرُ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنَ
الْمِرْآةِ أَوِ الْمَاءِ، إِلاَّ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ حُرْمَةَ
الْمُصَاهَرَةِ بِالنَّظَرِ وَنَحْوِهِ شُدِّدَ فِي شُرُوطِهَا، لأَِنَّ
الأَْصْل فِيهَا الْحَل، بِخِلاَفِ النَّظَرِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا مُنِعَ
مِنْهُ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ وَالشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا،
وَرَأَيْتُ فِي فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَ فِيهِ
خِلاَفًا بَيْنَهُمْ وَرَجَّحَ الْحُرْمَةَ بِنَحْوِ مَا قُلْنَاهُ (1) ،
وَقَال الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ شَارِحًا لِقَوْل النَّوَوِيِّ
فِي الْمِنْهَاجِ: وَيَحْرُمُ نَظَرُ فَحْلٍ بَالِغٍ إِلَى عَوْرَةِ
حُرَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، خَرَجَ مِثَالُهَا، فَلاَ يَحْرُمُ نَظَرُهُ فِي
نَحْوِ مِرْآةٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ جَمْعٌ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرَهَا. . .
مَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً (2) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى
الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا كَحُكْمِهِ فِي حَيَاتِهَا، فَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِ مَا كَانَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ
إِلَيْهِ حَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 9 / 534
(2) نهاية المحتاج 6 / 187
(40/353)
الْحَيَاةِ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَتْ
ضَرُورَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، لأَِنَّ الْمَوْتَ لاَ تَرْتَفِعُ بِهِ
الْحُرْمَةُ، بَل تَتَأَكَّدُ، وَلأَِنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِحَقِّ
الشَّرْعِ، وَالآْدَمِيُّ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا حَيًّا وَمَيِّتًا (1) .
وَانْظُرْ (تَغْسِيل الْمَيِّتِ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الرَّجُل:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُ الرَّجُل إِلَى
الرَّجُل بِشَهْوَةٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ (2) ، كَمَا اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ مِنَ الرَّجُل إِلَى
عَوْرَتِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَلَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَيَحِل
لَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَاهَا، لِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَنْظُرُ الرَّجُل إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُل
وَلاَ الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلاَ يُفْضِي الرَّجُل
إِلَى الرَّجُل فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلاَ تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى
الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ (3) .
__________
(1) المبسوط 10 / 160، 161، والفتاوى الهندية 5 / 330، بلغة السالك 1 /
194، ونهاية المحتاج 6 / 200، ومغني المحتاج 3 / 130، والمجموع 5 / 139،
وروضة الطالبين 7 / 21 وما بعدها، المغني 2 / 525 وما بعدها
(2) مغني المحتاج 3 / 130، ونهاية المحتاج 6 / 192، والإنصاف 8 / 30،
ومجموع الفتاوى 21 / 249
(3) حديث: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل. . . . أخرجه مسلم (1 / 266 ط عيسى
الحلبي) .
(40/354)
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ
عَوْرَةِ الرَّجُل الَّتِي يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَقَدْ ذَهَبَ
مُعْظَمُهُمْ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الرَّجُل مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ
وَرُكْبَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي دُخُول كُلٍّ مِنَ السُّرَّةِ
وَالرُّكْبَةِ فِي عَوْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْفَخِذُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٍ ف 8) .
نَظَرُ الرَّجُل إِلَى وَجْهِ الأَْمْرَدِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الأَْمْرَدِ
عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَحَاسِنِهِ،
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْمْرَدِ الصَّبِيحِ وَغَيْرِهِ، بَل نَصَّ
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الأَْمْرَدِ
بِشَهْوَةٍ أَشَدُّ إِثْمًا مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ،
لأَِنَّهُ لاَ يَحِل بِحَالٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّظَرُ إِلَى الأَْمْرَدِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلاَ
قَصْدِ التَّلَذُّذِ فَإِمَّا أَنْ يَخَافَ مِنَ النَّظَرِ ثَوَرَانَ
الشَّهْوَةِ، أَوْ يَأْمَنَ مِنْ ثَوَرَانِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَمْرَدَ ف 4) .
__________
(1) المبسوط 10 / 146، 147، والفتاوى الهندية 5 / 327، والدر المختار ورد
المحتار 9 / 526، ومواهب الجليل 2 / 178، 180، والشرح الكبير وحاشية
الدسوقي 1 / 213، والخرشي 1 / 246، ونهاية المحتاج 6 / 191، وروضة الطالبين
7 / 21 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 130، ومطالب أولي النهى 5 / 15،
والإنصاف 8 / 25، والمبدع 7 / 10، وكشاف القناع 1 / 308
(40/354)
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل بِاخْتِلاَفِ
كَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا:
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى
أَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ يَكُونُ حَرَامًا
إِذَا قَصَدَتْ بِهِ التَّلَذُّذَ أَوْ عَلِمَتْ أَوْ غَلَبَ عَلَى
ظَنِّهَا وُقُوعُ الشَّهْوَةِ أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ
احْتِمَال حُدُوثِ الشَّهْوَةِ وَعَدَمِ حُدُوثِهَا مُتَسَاوِيَيْنِ،
لأَِنَّ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَنْ لاَ يَحِل بِزَوْجِيَّةٍ أَوْ
مِلْكِ يَمِينٍ نَوْعُ زِنًا، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ
الأَْصْل لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ
أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا عَمَّا سِوَى الْعَوْرَةِ مِنَ الرَّجُل إِذَا
عَلِمَتْ وُقُوعَ الشَّهْوَةِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا ذَلِكَ أَوْ
شَكَّتْ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّ نَظَرَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ
مَكْرُوهًا وَلَيْسَ مُحَرَّمًا، بِخِلاَفِ الرَّجُل، فَإِنَّ نَظَرَهُ
إِلَى مَا يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَرْأَةِ بِدُونِ
شَهْوَةٍ يَحْرُمُ إِذَا كَانَ مَعَ الشَّهْوَةِ، أَوْ غَلَبَ عَلَى
ظَنِّهِ وُقُوعُهَا، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بِحَسَبِ
هَذَا الْقَوْل أَنَّ الشَّهْوَةَ عَلَى النِّسَاءِ غَالِبَةٌ،
(40/355)
وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ، وَعَلَى
ذَلِكَ فَإِذَا نَظَرَ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ مُشْتَهِيًا وُجِدَتِ
الشَّهْوَةُ فِي الْجَانِبَيْنِ: فِي جَانِبِهِ حَقِيقَةً، لأَِنَّهُ هُوَ
الْمَفْرُوضُ، وَفِي جَانِبِهَا اعْتِبَارًا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ
بِالْفِعْل، لِقِيَامِ الْغَلَبَةِ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا نَظَرَتْ
إِلَيْهِ مُشْتَهِيَةً لَمْ تُوجَدِ الشَّهْوَةُ مِنْ جَانِبِهِ حَقِيقَةً،
لأَِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِعَدَمِ
الْغَلَبَةِ، فَكَانَتِ الشَّهْوَةُ مِنْ جَانِبِهَا فَقَطْ،
وَالْمُتَحَقِّقُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الإِْفْضَاءِ إِلَى الْمُحَرَّمِ
أَقْوَى مِنَ الْمُتَحَقِّقِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لاَ مَحَالَةَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الأَْجْنَبِيِّ بِغَيْرِ
شَهْوَةٍ يَقِينًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحِل لَهَا
النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهُ وَمَا لاَ يَحِل عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الرَّجُل
الأَْجْنَبِيِّ إِلَى مَا سِوَى عَوْرَتِهِ أَيْ إِلَى مَا فَوْقَ
السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ، حَيْثُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنَ الرَّجُل، وَأَمَّا السُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ
وَالْفَخِذُ مِنْهُ فَفِي كَوْنِهَا مِنَ الْعَوْرَةِ خِلاَفٌ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَوْرَةً قَال
بِعَدَمِ جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ
كَذَلِكَ قَال بِالْجَوَازِ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَة ف 8) .
وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
(40/355)
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ أَيْضًا
وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ
وَالْمَعْقُول.
أَمَّا السُّنَّةُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اعْتَدِّي عِنْدَ
ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ (1)
، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: رَأَيْتُ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتُرُنِي وَأَنَا
أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ (2) ، كَمَا
اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ
مِنْ خُطْبَةِ الْعِيدِ أَتَى إِلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ،
فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، قَال ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِِِِِِِِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ
فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِِِهِ (3)
.
وَمِنَ الْمَعْقُول اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النِّسَاءَ لَوْ مُنِعْنَ مِنَ
النَّظَرِ إِلَى الرِّجَال مُطْلَقًا لَوَجَبَ عَلَى الرِّجَال الْحِجَابُ
كَمَا وَجَبَ عَلَى النِّسَاءِ، وَلأَِنَّ مَا لَيْسَ
__________
(1) حَدِيث: (اعْتُدِيَ عِنْدَ ابْنِ أُمٍّ مَكْتُومٍ. . . .) أَخْرَجَهُ
مُسْلِم (2 / 1116 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا.
(2) حَدِيث عَائِشَة: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ. . . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِي 6 / 553 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (2 / 608 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
(3) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَةِ الْعِيدِ. . . أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 2 / 465 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (2 /
602 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) .
(40/356)
بِعَوْرَةٍ يَسْتَوِي فِي حُكْمِ النَّظَرِ
إِلَيْهِ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ مَادَامَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَالثِّيَابِ
وَالدَّوَابِّ، فَكَانَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الرَّجُل مَا
لَيْسَ عَوْرَةً، كَمَا لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ
عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ
النِّسَاءَ كُنَّ يَحْضُرْنَ الصَّلاَةَ مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَقَعَ
نَظَرُهُنَّ إِلَى الرِّجَال، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُنَّ
بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ وَالْمُصَلَّى (1) . .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل
الأَْجْنَبِيِّ حُكْمُهُ كَحُكْمِ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى مَحَارِمِهِ،
فَيَحِل لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الرَّجُل إِلَى مِثْل مَا يَحِل لَهُ
أَنْ يَنْظُرَ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا
عَدَا ذَلِكَ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْل الْحَنَفِيَّةُ فِي مُقَابِل
الصَّحِيحِ (وَهِيَ رِوَايَةُ الأَْصْل لِمُحَمَّدٍ، وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ قَرِيبٌ مِنْ
هَذَا الْقَوْل، وَهُوَ أَنَّهُ يَحِل لَهَا النَّظَرُ إِلَى مَا يَبْدُو
مِنْهُ فِي الْمِهْنَةِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ حُكْمَ النَّظَرِ عِنْدَ اخْتِلاَفِ
__________
(1) الْمَبْسُوط 10 / 480، وَالْهِدَايَة وَشُرُوحهَا 15 / 33 - 35
وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 9 / 533 - 534، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5
/ 327، وَمَجْمَع الأَْنْهُر 2 / 538، 539، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 /
18، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 194، 195، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 21
وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 130، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 3 /
174، 175، وَالْمُبْدِع 7 / 11، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 15، 16،
وَالإِْنْصَاف 8 25.
(40/356)
الْجِنْسِ غِلَظٌ فِي الشَّرْعِ عَنْ
حُكْمِهِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، مِمَّا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل أَغْلَظَ فِي الْحُكْمِ مِنْ نَظَرِ
الرَّجُل إِلَى الرَّجُل، وَإِنْ كَانَتْ عَوْرَتُهُ لاَ تَخْتَلِفُ،
حَتَّى إِنَّهُ لاَ يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّل الرَّجُل بَعْدَ
مَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ كَالرَّجُل فِي
النَّظَرِ إِلَى الرَّجُل لَجَازَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ
(1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل
الأَْجْنَبِيِّ كَحُكْمِ نَظَرِهِ إِلَيْهَا، فَلاَ يَحِل أَنْ تَرَى
مِنْهُ إِلاَّ مَا يَحِل لَهُ أَنْ يَرَى مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْل
الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ
قَدَّمَهَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَالْخُلاَصَةِ
وَالرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَقَطَعَ بِهَا ابْنُ
الْبَنَّا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ جَعَلَهَ هُوَ
الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ
الأَْصْحَابِ وَمَا قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ الْقَوْل الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرَّجُل لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنَ
الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ مِنْ
بَدَنِهَا، وَأَنَّ
__________
(1) الْمَبْسُوط 10 / 148، وَالدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 9 /
533، وَالْخَرَشِيّ 1 / 248، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 2 / 183، وَبِلُغَةِ
السَّالِكِ 1 / 193، وَحَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 1 / 215، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 7 / 21 وَمَا بَعْدَهَا، وَالإِْنْصَاف 8 / 25، وَالْمُبْدِع
7 11.
(40/357)
مُقَابِلَهُ جَوَازُ نَظَرِهِ إِلَى
الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَبِنَاءً عَلَى الْقَوْل
الصَّحِيحِ فِي حُكْمِ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ يَكُونُ
مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْل فِي حُكْمِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل
الأَْجْنَبِيِّ هُوَ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا، لَكِنْ قَال الْجَلاَل
الْبُلْقِينِيُّ: هَذَا لَمْ يَقُل بِهِ أَحَدٌ مِنَ الأَْصْحَابِ،
وَاتَّفَقَتِ الأَْوْجُهُ عَلَى جَوَازِ نَظَرِهَا إِلَى وَجْهِ الرَّجُل
وَكَفَّيْهِ عِنْدَ الأَْمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُل
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ (1) فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى النِّسَاءَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِنَّ كَمَا أَمَرَ الرِّجَال،
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَمَيْمُونَةَ، إِذْ أَقْبَل ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَدَخَل
عَلَيْهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
احْتَجِبَا مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَلَيْسَ هَذَا أَعْمَى
لاَ يُبْصِرُنَا وَلاَ يَعْرِفُنَا؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا
تُبْصِرَانِهِ؟ (2) . فَلَوْ كَانَ نَظَرُ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَال
مُبَاحًا لَمَا أَمَرَهُمَا الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بِالاِحْتِجَابِ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَهُوَ أَعْمَى وَلَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا النَّظَرَ إِلَيْهِ.
__________
(1) سُورَة النُّور / 31
(2) حَدِيث: أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (4 / 361 - 362 ط
حِمْص) وَالتِّرْمِذِيّ (5 / 102 ط الْحَلَبِيّ) وَأَشَارَ ابْن حَجَرٍ فِي
التَّلْخِيصِ (3 / 148) إِلَى إِعْلاَلِهِ بِجَهَالَة رَاوٍ فِيهِ.
(40/357)
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول، وَهُوَ
أَنَّ النِّسَاءَ أَحَدُ نَوْعَيِ الآْدَمِيِّينَ، فَحَرُمَ عَلَيْهِنَّ
النَّظَرُ إِلَى النَّوْعِ الآْخَرِ، قِيَاسًا عَلَى الرِّجَال،
يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمَ لِلنَّظَرِ هُوَ خَوْفُ
الْفِتْنَةِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرِّجَال،
بَل أَشَدُّ شَهْوَةً وَأَسْرَعُ افْتِتَانًا (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى
وَجْهِ الرَّجُل وَكَفَّيْهِ وَقَدَمَيْهِ وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا،
وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَاعْتَبَرَهُ ظَاهِرَ كَلاَمِ
أَحْمَدَ، وَالْقَاضِي (2) .
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَال:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى
مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَال لاَ يَحِل إِذَا كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ
بِقَصْدِ اللَّذَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَحِل لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ
مِنَ الرَّجُل الْمَحْرَمِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ
يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ مَحْرَمِهَا إِلَى مَا سِوَى مَا
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 128 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ
6 / 194، 195، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 21 وَمَا بَعْدَهَا، وَزَاد
الْمُحْتَاجِ 3 / 174، 175، وَالإِْنْصَاف 8 / 25، 26.
(2) الإِْنْصَاف 8 26
(40/358)
بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ تُفَرِّقْ عِبَارَاتُهُمْ فِي حُكْمِ
نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ،
وَأَنَّهُ يَحِل لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ إِلَى مَا سِوَى الْعَوْرَةِ،
أَيْ إِلَى السُّرَّةِ وَمَا فَوْقَهَا، وَمَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَهَذَا
عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الأَْصْل
فَلاَ يَحِل لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلاَّ إِلَى مَا يَحِل لِلرَّجُل أَنْ
يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهَا
أَنْ تَنْظُرَ إِلَى ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَال الْمَرْدَاوِيُّ: يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ
مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إِلَى مَا لاَ يَظْهَرُ غَالِبًا، وَإِلَى
الرَّأْسِ وَالسَّاقَيْنِ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ
الأَْصْحَابِ، وَحُكْمُ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ حُكْمُ الأَْمَةِ
الْمُسْتَامَةِ فِي النَّظَرِ، خِلاَفًا وَمَذْهَبًا، عَلَى الصَّحِيحِ
مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقَطَعَ بِهِ الأَْكْثَرُ.
ثُمَّ قَال الْمَرْدَاوِيُّ: وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى
مَحَارِمِهَا حُكْمُهُمْ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا، قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ
وَغَيْرِهِ (3) .
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 215، وَبِلُغَةِ السَّالِكِ 1 / 194،
وَالْخَرَشِيّ 1 / 248، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 2183، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 7 / 21 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 195،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 214.
(2) الْمَبْسُوط 10 / 148
(3) الإِْنْصَاف 8 / 20
(40/358)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ
إِلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى ذِي مَحْرَمِهَا كَنَظَرِهِ
إِلَيْهَا (1) .
نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ
تَنْظُرَ إِلَى الْمَرْأَةِ مَهْمَا كَانَتْ إِذَا كَانَ هَذَا النَّظَرُ
بِشَهْوَةٍ أَوْ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ
شَهْوَةٍ فَقَدْ فَرَّقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ نَظَرِ
الْمُسْلِمَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَنَظَرِ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ
الْمُسْلِمَةِ، وَفِي نَظَرِ الْمُسْلِمَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَاجِرَةِ
وَالْعَفِيفَةِ:
نَظَرُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ
إِلَى الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يَحِل لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ
تَنْظُرَ مِنَ الْمَرْأَةِ إِلَى مَا يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ
إِلَيْهِ مِنَ الرَّجُل، فَيَحِل لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنَ الْمَرْأَةِ
إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ،
وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ
قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِحَدِيثِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ يَنْظُرُ الرَّجُل إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُل
__________
(1) رَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 21 وَمَا بَعْدَهَا
(40/359)
وَلاَ الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ
الْمَرْأَةِ (1) .، وَذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بَيَّنَ عَوْرَةَ الرَّجُل بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل، فَدَل عَلَى أَنَّ
عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ مِثْلُهُ، لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ،
وَمَا عَدَا الْعَوْرَةَ لاَ يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، فَيَبْقَى النَّظَرُ
إِلَيْهِ جَائِزًا.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى نَظَرِ الرَّجُل إِلَى الرَّجُل
بِجَامِعِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَعَدَمِ الْخَوْفِ مِنَ الشَّهْوَةِ
وَالْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَبِأَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَ لِلنِّسَاءِ
الْمُسْلِمَاتِ تَجْرِيدَ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَمُوتُ لِغُسْلِهَا، وَلَمْ
يَجْعَل ذَلِكَ لِلرِّجَال وَإِنْ كَانُوا مِنْ مَحَارِمِهَا، فَفِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ
كَعَوْرَةِ الرَّجُل فِي حَقِّ الرَّجُل، كَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ
الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الاِنْكِشَافِ فِيمَا بَيْنَ النِّسَاءِ (2)
. الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ يَحِل لَهَا أَنْ
تَنْظُرَ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ
مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ، حَتَّى لاَ يُبَاحَ لَهَا النَّظَرُ إِلَى
__________
(1) حَدِيث: لاَ يَنْظُرُ الرَّجُل إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُل. . . . سَبَقَ
تَخْرِيجه ف 17.
(2) الْمَبْسُوط 10 / 147 تَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 18، وَمَجْمَع
الأَْنْهُر 2 / 538، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 327، الْهِدَايَة
وَشُرُوحهَا 15 / 35 - 37، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 9 / 533، وَمَوَاهِب
الْجَلِيل 2 / 180، وَبِلُغَةِ السَّالِكِ 1 / 192، وَحَاشِيَةِ
الدُّسُوقِيّ 1 / 213، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 128 وَمَا بَعْدَهَا،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 194، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 21 وَمَا
بَعْدَهَا، وَالإِْنْصَاف 8 / 24، وَالْمُبْدِع 7 10، وَمَطَالِب أُولِي
النُّهَى 5 / 15.
(40/359)
ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا، وَهَذَا الْقَوْل
رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
وَالأَْوَّل هُوَ الصَّحِيحُ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِ النِّسَاءِ
عَنْ دُخُول الْحَمَّامَاتِ بِمِئْزَرٍ وَبِغَيْرِ مِئْزَرٍ، فَعَنِ ابْنِ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ
الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَال لَهَا الْحَمَّامَاتُ،
فَلاَ يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَال إِلاَّ بِالأُْزُرِ، وَامْنَعُوهَا
النِّسَاءَ إِلاَّ مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ (2) .
نَظَرُ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَمْكِينِ الْمُسْلِمَةِ
الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ فِي نَظَرِهَا إِلَى
الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ كَالرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ، فَلاَ يَحِل
لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ
بَدَنِهَا سِوَى مَا يَحِل لِلرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ
إِلَيْهِ مِنْهَا، وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ
وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَهُ
الْبَغَوِيُّ وَالْبُلْقِينِيُّ
__________
(1) الْمَرَاجِع السَّابِقَة
(2) حَدِيث: إِنَّهَا سَتَفْتَحُ لَكُمْ أَرْضَ الْعَجَمِ. . . أَخْرَجَهُ
أَبُو دَاوُد (4 / 302 ط حِمْص) وَابْن مَاجَهْ (2 / 1233 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) وَأَوْرَدَهُ الْمُنْذِرِي فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ
(1 / 199) وَذَكَرَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا ضَعِيفًا.
(40/360)
وَالنَّوَوِيُّ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ
هُوَ الأَْصَحُّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ.
وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل يَرَوْنَ أَنَّهُ يَحِل لِلْمَرْأَةِ
الْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا
وَكَفَّيْهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا
سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي
الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ
ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَعَلَى الْقَوْل الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ
يَحِل لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى
شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا
الْقَوْل إِذَا كَانَتِ الْكَافِرَةُ غَيْرَ مَحْرَمٍ لِلْمُسْلِمَةِ (أَيْ
تَنْزِل مَنْزِلَةَ الرَّجُل الْمَحْرَمِ) وَغَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لَهَا،
أَمَّا هُمَا فَيَجُوزُ لَهُمَا النَّظَرُ إِلَيْهَا.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ
نِسَائِهِنَّ (1) فَقَدْ فَسَّرَهَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُنَّ
النِّسَاءُ الْمُسْلِمَاتُ الْحَرَائِرُ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا
وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ قَوْلِهِ
فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ لاَ تُبْدِيهِ
لِيَهُودِيَّةٍ وَلاَ نَصْرَانِيَّةٍ، وَلأَِنَّهُ لَوْ جَازَ
لِلْكَافِرَةِ النَّظَرُ إِلَى الْمُسْلِمَةِ لَمْ يَبْقَ لِلتَّخْصِيصِ
الْوَارِدِ فِي الآْيَةِ بِالإِْضَافَةِ فَائِدَةٌ، فَدَل عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ صِنْفٌ مِنَ
__________
(1) سُورَة النُّور / 31
(40/360)
النِّسَاءِ هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ
الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ وَمَعَهُنَّ نِسَاءُ أَهْل
الْكِتَابِ فَامْنَعْ ذَلِكَ وَحُل دُونَهُ وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّهُ لاَ
يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَنْظُرَ
إِلَى عَوْرَتِهَا إِلاَّ أَهْل مِلَّتِهَا (1) ، أَيْ مَا يُعَرَّى
وَيَنْكَشِفُ مِنْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ
قَال: لاَ تَضَعُ الْمُسْلِمَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ مُشْرِكَةٍ، وَلاَ
تُقَبِّلُهَا، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: أَوْ نِسَائِهِنَّ
فَلَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِنَّ. كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ كَشْفَ
الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَنْ بَدَنِهَا أَمَامَ الْكَافِرَةِ قَدْ
يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَصِفَهَا لِزَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ
دِينَهَا لاَ يَمْنَعُهَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّهَا
تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فَتَنْزَجِرُ عَنْهُ (2) .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُقَبِّل
النَّصْرَانِيَّةُ الْمُسْلِمَةَ أَوْ تَرَى عَوْرَتَهَا وَيَتَأَوَّل
__________
(1) أَثَر عُمَر أَمَّا بَعْدٌ فَإِنَّهُ بَلَّغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ
نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. . . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ
الْكُبْرَى (7 / 95 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) بِرِوَايَتَيْهِ.
(2) الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ 9 / 534، وَالْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّة 5 / 327، وَمَجْمَع الأَْنْهُر 2 / 539، وَحَاشِيَة
الدُّسُوقِيّ وَتَقْرِيرَات الشَّيْخِ عِلِيش 1 / 213، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 7 / 22 وَمَا بَعْدَهَا، 3 / 174، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 /
128 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 194، وَالإِْنْصَاف 8 /
25، وَالْمُبْدِع 7 / 10، وَفَتْح الْقَدِير للشوكاني 4 / 32، وَتَفْسِير
الْقُرْطُبِيّ 12 / 233، وَتَفْسِير ابْن كَثِير 2 / 600، 601، وَأَحْكَام
الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ - تَفْسِير سُورَةِ النُّور (3 / 318
(40/361)
" أَوْ نِسَائِهِنَّ " (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ إِلَى
الْمُسْلِمَةِ كَنَظَرِ الْمُسْلِمَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ، وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدِ
اسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَقَدْ قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
أُرِيدَ بِنِسَائِهِنَّ مَنْ يَصْحَبُهُنَّ مِنَ الْحَرَائِرِ مَسْلَمَةً
كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَالنِّسَاءُ كُلُّهُنَّ فِي حِل نَظَرِ
بِعْضِهِنَّ إِلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ. وَيُسْتَفَادُ مِثْل هَذَا مِنْ قَوْل
السَّرَخْسِيِّ: إِنْ كَانَ مَعَ الرِّجَال امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ
عَلَّمُوهَا الْغُسْل لِتُغَسِّلَهَا، لأَِنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ لاَ
يَخْتَلِفُ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهُوَ وَجْهٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتَبَرَهُ الْغَزَالِيُّ هُوَ الأَْصَحُّ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، جَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ
وَقَدَّمَهُ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَنَصَرَاهُ،
وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْكَافِي، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْل
__________
(1) أَثَر: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تَقْبَل النَّصْرَانِيَّة الْمُسْلِمَة. .
أَخْرَجَهُ الطَّبَرَيْ (18 / 95 ط دَار الْمَعْرِفَة) .
(40/361)
مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ،
حَيْثُ نَقَل عَنْهُ الأَْلُوسِيُّ أَنَّهُ قَال: وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا
كَالْمُسْلِمَةِ، وَالْمُرَادُ بِنِسَائِهِنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ، وَقَوْل
السَّلَفِ مَحْمُولٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَال: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ
جَائِزٌ لِجَمِيعِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالضَّمِيرِ
لِلاِتِّبَاعِ، فَإِنَّهَا آيَةُ الضَّمَائِرِ، إِذْ فِيهَا خَمْسٌ
وَعِشْرُونَ ضَمِيرًا، لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لَهَا نَظِيرٌ.
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِأَنَّ نِسَاءَ أَهْل الْكِتَابِ
كُنَّ يَدْخُلْنَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يَكُنَّ يَتَحَجَّبْنَ وَلاَ أُمِرْنَ بِحِجَابٍ
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى نَظَرِ الرَّجُل الْكَافِرِ
لِلرَّجُل الْمُسْلِمِ بِجَامِعِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَكَمَا لَمْ
يُفَرَّقْ فِي حُكْمِ النَّظَرِ بَيْنَ الرِّجَال بِاخْتِلاَفِ الدِّينِ،
فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَلأَِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي
مُنِعَ بِهِ الرِّجَال مِنَ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ غَيْرُ مَوْجُودٍ
فِي النَّظَرِ بَيْنَ النِّسَاءِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الدِّينُ أَمِ
اخْتَلَفَ، وَلأَِنَّ هَذَا الْقَوْل أَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَيَرْفَعُ
حَرَجًا عَنْهُمْ، إِذْ لاَ يَكَادُ يُمْكِنُ احْتِجَابُ الْمُسْلِمَاتِ
عَنِ الذِّمِّيَّاتِ (1) .
__________
(1) الْعِنَايَة عَلَى الْهِدَايَةِ 10 / 47، 48، وَالْمَبْسُوط 10 / 161،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 21 وَمَا بَعْدَهَا، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 3 /
121 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 214، وَنِهَايَة
الْمُحْتَاجِ 6 / 194، وَالإِْنْصَاف 8 24، وَالْمُبْدِع 7 10، وَمَطَالِب
أُولِي النُّهَى 5 / 15، وَالْمُغْنِي 6 / 562، 563، وَتَفَاسِير
الأَْلُوسِي 18 / 143، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 3 /
326.
(40/362)
الْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تُمَكِّنَ الْكَافِرَةَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا
يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَحَارِمُهَا، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ،
وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِالأَْشْبَهِ
وَالرَّمْلِيُّ وَالْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ بِالْمُعْتَمِدِ، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
نَظَرُ الْفَاجِرَةِ إِلَى الْعَفِيفَةِ:
24 - نَصَّ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي
لِلْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهَا الْمَرْأَةُ
الْفَاجِرَةُ، لأَِنَّهَا تَصِفُهَا عِنْدَ الرِّجَال، فَلاَ تَضَعُ
جِلْبَابَهَا وَلاَ خِمَارَهَا أَمَامَهَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَةَ مَعَ الْعَفِيفَةِ
كَالْكَافِرَةِ مَعَ الْمُسْلِمَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْمُسْلِمَةَ
الْعَفِيفَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَمْكِينُ الْفَاسِقَةِ مِنَ النَّظَرِ
إِلَى بَدَنِهَا، وَتَابَعَهُ آخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
كَالزَّرْكَشِيِّ، لَكِنَّ
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ وَتَقْرِيرَات الشَّيْخِ عِلِيش عَلَيْهَا 1 /
213، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 7 / 21 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاج 3 / 128 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 194،
وَالإِْنْصَاف 8 / 24، وَالْمُبْدِع 7 / 10 - 11.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 327.
(40/362)
بَعْضَهُمْ قَصَرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى
نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْفَاسِقَاتِ هُنَّ الْمُسَاحِقَاتِ، أَوْ مَنْ
كَانَ عِنْدَهُنَّ مَيْلٌ إِلَى النِّسَاءِ، وَعَمَّمَهُ آخَرُونَ عَلَى
كُل فَاسِقَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ فِسْقُهَا بِسَبَبِ تَعَاطِي السِّحَاقِ
أَمْ بِسَبَبِ الزِّنَا أَمْ بِسَبَبِ الْقِيَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
لَكِنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ يَرَوْنَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَغَيْرُهُ، لأَِنَّ
الْفَاسِقَةَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْفِسْقُ لاَ يُخْرِجُهَا عَنِ
الإِْيمَانِ.
وَدَلِيل أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
هُوَ قِيَاسُ الْفَاجِرَةِ عَلَى الْكَافِرَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِ كُلٍّ
مِنْهُمَا مَظِنَّةُ نَقْل مَا تَرَاهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ
الْعَفِيفَةِ إِلَى زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَال، فَيَحْرُمُ
نَظَرُهَا وَيَحْرُمُ تَمْكِينُهَا مِنَ النَّظَرِ كَالرَّجُل (1) .
النَّظَرُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِكُلٍّ مِنَ
الزَّوْجَيْنِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ صَاحِبِهِ بِدُونِ كَرَاهَةٍ
سِوَى الْفَرْجِ وَالدُّبُرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ أَمْ
بِغَيْرِهَا، مَادَامَتِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 327 وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 9 /
534، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 128 وَمَا بَعْدَهَا، وَحَاشِيَة
السُّيُوطِيّ عَلَى الرَّوْضَةِ (مُنْتَقَى الْيَنْبُوع 5 / 371،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ وَحَاشِيَة الشبراملسي 6 / 195.
(40/363)
بَيْنَهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ
نَظَرِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا إِلَى فَرْجِ الآْخَرِ أَوْ دُبُرِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى إِبَاحَةِ
ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَحِل لِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ
الآْخَرِ، وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيُّ عُضْوٍ، وَاسْتَدَلُّوا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ (1) فَاسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنَ الأَْمْرِ بِحِفْظِ
الْفُرُوجِ، الزَّوْجَاتِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ
الاِسْتِمْتَاعُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي دُخُول الْمَسِّ
وَالْوَطْءِ فِي هَذَا الاِسْتِثْنَاءِ، فَكَذَلِكَ النَّظَرُ مِنْ بَابِ
أَوْلَى (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا
نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ
زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ (3) ، وَفِيهِ دَلاَلَةٌ
__________
(1) سُورَة الْمُؤْمِنُونَ / 5، 6
(2) الْهِدَايَة وَتَكْمِلَة الْفَتْحِ 10 / 37، 38 وَحَاشِيَة ابْن
عَابِدِينَ 9 / 526، وَالْمَبْسُوط 10 / 148، 149، الْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّة 5 / 327، وَمَجْمَع الأَْنْهُر 2 / 539، وَتَبْيِين
الْحَقَائِقِ 6 / 18، 19، وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 308، وَالإِْنْصَاف 8 /
32، وَالْمُبْدِع 7 / 12، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 17.
(3) حَدِيث: احْفَظْ عَوْرَتك إِلاَّ مِنْ زَوْجَتك. . أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُد (4 / 304 ط حِمْص) وَالتِّرْمِذِيّ (5 / 97 - 98 ط الْحَلَبِيّ)
وَقَال التِّرْمِذِيّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(40/363)
عَلَى إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَةِ
الزَّوْجَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ لاَ
يَنْظُرَ أَحَدُهُمَا إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا نَظَرْتُ أَوْ مَا
رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَطُّ (1) .
وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ حِل النَّظَرِ إِلَى
الْفَرْجِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِ الْمُظَاهَرِ
مِنْهَا، وَقَالاَ: يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَى الشَّعْرِ وَالظَّهْرِ
وَالصَّدْرِ مِنْهَا، وَتَرَدَّدَ صَاحِبُ الدُّرِّ فِي حِل النَّظَرِ
إِلَى فَرْجِ الْحَائِضِ مَعَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ قُرْبَانِهَا فِيمَا
تَحْتَ الإِْزَارِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ النَّظَرِ إِلَى
الْفَرْجِ حَال الْحَيْضِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي نَظَرِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى فَرْجِ
صَاحِبِهِ إِلَى مِثْل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، فَيَحِل بِدُونِ كَرَاهَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ
النَّظَرِ إِلَى الدُّبُرِ، فَقَال الأَْقْفَهَسِيُّ: لاَ يَجُوزُ
النَّظَرُ إِلَيْهِ لأَِنَّهُ يَحْرُمُ التَّمَتُّعُ بِهِ، فَيَحْرُمُ
النَّظَرُ إِلَيْهِ (3) .
__________
(1) حَدِيث عَائِشَة: مَا نَظَرْت أَوْ مَا رَأَيْت. . . أَخْرَجَهُ ابْن
مَاجَهْ (1 / 217) وَضَعْف إِسْنَادِهِ الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ
الزُّجَاجَةِ (1 / 144 - ط دَارٍ الْجِنَان) لِجَهَالَةِ الرَّاوِي عَنْ
عَائِشَة.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 9 / 326 - 327، الإِْنْصَاف 8 / 33،
وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 17
(3) مَوَاهِب الْجَلِيل 3 / 405، وَبِلُغَةِ السَّالِكِ 2 / 217، 218،
وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 215، وَالْبَيَانِ وَالتَّحْصِيل 5 / 79، 80.
(40/364)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ
يُكْرَهُ لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ الآْخَرِ،
وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ النَّظَرُ إِلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ
(1) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا
قَالَتْ: مَا نَظَرْتُ إِلَى فَرْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَطُّ أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ جَوَازِ النَّظَرِ مَعَ
الْكَرَاهَةِ إِلَى فَرْجِ الزَّوْجَةِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِ الزَّوْجَةِ
الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَطْءِ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ، فَهَذِهِ لاَ يَحِل
النَّظَرُ مِنْهَا إِلاَّ إِلَى مَا عَدَا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا
وَرُكْبَتِهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى إِبَاحَةِ النَّظَرِ
إِلَى الدُّبُرِ وَالتَّلَذُّذِ بِهِ بِمَا سِوَى الإِْيلاَجِ، وَذَهَبَ
الدَّارِمِيُّ مِنْهُمْ إِلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الدُّبُرِ، أَيْ
إِلَى حَلْقَتِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَال الْحَيَاةِ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ لاَ يَحِل لَهَا النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ
زَوْجِهَا إِذَا مَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ بِخِلاَفِ الْعَكْسِ لأَِنَّهُ
يَمْلِكُ التَّمَتُّعَ بِهَا بِخِلاَفِ الْعَكْسِ نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ
الْخَطِيبُ عَنِ الزَّرْكَشِيِّ وَاسْتَظْهَرَهُ، وَنُقِل عَنْ بَعْضِ
الْمُتَأَخِّرِينَ التَّوَقُّفُ فِيهِ (2) .
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 215، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 3 / 176،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 199 - 200، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ مَعَ
مُنْتَقَى الْيَنْبُوع لِلسُّيُوطِيِّ 5 / 373، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى
5 / 17، وَالْمُبْدِع 7 / 12 - 13.
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 215، وَزَاد الْمُحْتَاجِ 3 / 176،
وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 199، 200، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ مَعَ
مُنْتَقَى الْيَنْبُوع لِلسُّيُوطِيِّ 5 / 372، 373، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج
3 / 128 وَمَا بَعْدَهَا، وَالإِْنْصَاف 8 / 32، وَالْمُبْدِع 7 / 12، 13،
وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 17.
(40/364)
نَظَرُ الإِْنْسَانِ إِلَى عَوْرَةِ
نَفْسِهِ:
26 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ نَظَرِ
الشَّخْصِ إِلَى فَرْجِ نَفْسِهِ بِلاَ حَاجَةٍ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
وَنَظَرُهُ إِلَى بَاطِنِهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً (1) .، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا
وَرَدَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ
أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ (2) .
نَظَرُ الْخُنْثَى:
27 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُعَامَل فِي
نَظَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَفِي نَظَرِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ بِالأَْحْوَطِ،
فَيُعْتَبَرُ مَعَ النِّسَاءِ رَجُلاً أَوْ مُرَاهِقًا، وَيَعْتَبَرُ مَعَ
الرِّجَال امْرَأَةً أَوْ مُرَاهِقَةً، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ،
وَمُسْتَنَدُهُمْ وُجُوبُ الأَْخْذِ بِالأَْحْوَطِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ
سَبَبِ الْحَظْرِ وَسَبَبِ الإِْبَاحَةِ، وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي
الْخُنْثَى الْمُشْكِل لِتَسَاوِي احْتِمَال كَوْنِهِ ذَكَرًا مَعَ
احْتِمَال كَوْنِهِ أُنْثَى.
__________
(1) الرَّوْضَة 5 / 372 وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 135
(2) حَدِيث: احْفَظْ عَوْرَتك إِلاَّ مَنْ زَوَّجَتْك أَوْ مَا مَلَكَتْ
يَمِينَك سَبَقَ تَخْرِيجَهُ ف 25.
(40/365)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ يُقَابِل
الأَْصَحَّ، وَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ فِيهِ حُكْمُ الصِّغَرِ،
فَيُعَامَل بِمَا كَانَ يُعَامَل بِهِ فِي الصِّغَرِ، وَلِلْحَنَابِلَةِ
قَوْلاَنِ آخَرَانِ فِي حُكْمِ الْخُنْثَى:
الأَْوَّل: أَنَّهُ كَالرَّجُل.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا تَشَبَّهَ بِذَكَرٍ عُومِل كَالرَّجُل، وَإِنْ
تَشَبَّهَ بِأُنْثَى عُومِل كَالْمَرْأَةِ (1) .
التَّرْخِيصُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَالاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَا لاَ يَجُوزُ
النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي الأَْصْل يُبَاحُ فِي مَوْضِعَيْنِ:
الأَْوَّل: إِذَا وَقَعَ عَلَى سَبِيل الْفَجْأَةِ.
الثَّانِي: إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ أَوْ حَاجَةٌ، وَفِيمَا
يَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ:
نَظَرُ الْفُجَاءَةِ:
29 - الْفُجَاءَةُ بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ، وَكَذَلِكَ الْفَجْأَةُ وِزَانُ
تَمْرَةٍ، هِيَ الْبَغْتَةُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ (2) ، وَيُقْصَدُ
بِنَظَرِ الْفَجْأَةِ النَّظَرُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنَ النَّاظِرِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ هَذَا النَّظَرَ مَعْفُوٌّ
عَنْهُ وَلاَ إِثْمَ فِيهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
__________
(1) مَجْمَع الأَْنْهُر 2 / 729، 730، وَمَغْنَى الْمُحْتَاج 3 / 132،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 374 - 375، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 195،
وَكَشَّاف الْقِنَاع 1 / 309، الإِْنْصَاف 8 / 27، وَمَطَالِب أُولِي
النُّهَى 5 / 17.
(2) الْمِصْبَاح، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط.
(40/365)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال:
سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي (1) ، فَدَل عَلَى
أَنَّ الإِْثْمَ فِي اسْتِدَامَةِ النَّظَرِ بَعْدَ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ،
وَلَيْسَ فِي النَّظْرَةِ الأُْولَى غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ أَيُّ إِثْمٍ،
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيُّ لاَ
تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُْولَى وَلَيْسَتْ لَكَ
الآْخِرَةُ (2) . فَدَل عَلَى أَنَّ النَّظْرَةَ الأُْولَى إِذَا كَانَتْ
مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لاَ إِثْمَ فِيهَا (3) .
نَظَرُ الْحَاجَةِ:
30 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ عَلَى إِبَاحَةِ
النَّظَرِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى مَا يَحْرُمُ النَّظَرُ
إِلَيْهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلاَفٌ فِي
تَحْدِيدِ الْحَاجَاتِ الْمُبِيحَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحِل
النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَشُرُوطِ الإِْبَاحَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ
مِنَ
__________
(1) حَدِيث: سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عَنْ نَظَر الْفُجَاءَة. . . أَخْرَجَهُ مُسْلِم (3 / 1699 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) .
(2) حَدِيث: يَا عَلِيّ لاَ تَتْبَعُ النَّظْرَة النَّظْرَة فَإِنَّ لَك
الأُْولَى. . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2 / 610 ط حِمْص وَالتِّرْمِذِيّ (5
/ 101 ط الْحَلَبِيّ) ، وَقَال التِّرْمِذِيّ: حَسَن غَرِيب.
(3) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 12 / 223 ط دَار الْكُتُبِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالْمُرَقَّاةِ 6 / 379، 282، وَالْبَيَان وَالتَّحْصِيل 4 / 305،
وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 18، وَالإِْنْصَاف 8 / 27، وَفَتْح
الْقَدِير للشوكاني 4 / 31.
(40/366)
الْحَاجَاتِ الْمُبِيحَةِ لِلنَّظَرِ:
الْخِطْبَةَ وَالتَّدَاوِيَ وَالْقَضَاءَ وَالشَّهَادَةَ وَالْمُعَامَلَةَ
وَالتَّعْلِيمَ وَغَيْرَهَا.
أَوَّلاً - النَّظَرُ لِلْخِطْبَةِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَى
الْمَخْطُوبَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا النَّظَرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ النَّظَرُ لِلأَْمْرِ بِهِ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ التَّعْلِيل بِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ
بَيْنَهُمَا.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يُبَاحَ لِمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ
امْرَأَةٍ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِجَابَتُهُ نَظَرَهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خُطْبَة ف 26 - 32) .
ثَانِيًا - النَّظَرُ لِلْعِلاَجِ وَمَا يَلْتَحِقُ بِهِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ لِلْعِلاَجِ وَمَا فِي
مَعْنَاهُ، مَهْمَا كَانَ النَّاظِرُ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ، رَجُلاً
أَوِ امْرَأَةً، وَمَهْمَا كَانَ مَحَل النَّظَرِ عَوْرَةً أَوْ غَيْرَهَا،
وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أ - أَنْ تُوجَدَ حَاجَةٌ مَاسَّةٌ لِلْعِلاَجِ وَنَحْوِهِ، كَمَرَضٍ أَوْ
أَلَمٍ أَوْ هُزَالٍ فَاحِشٍ يُعْتَبَرُ أَمَارَةً عَلَى وُجُودِ مَرَضٍ،
وَأَلْحَقُوا بِذَلِكَ حَاجَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا الْخِتَانُ لِلرِّجَال
وَالنِّسَاءِ، لأَِنَّهُ سَنَةٌ فِي حَقِّ
(40/366)
الرِّجَال وَمَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ
النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ
أُمَّ سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الْحِجَامَةِ، فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ
أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يُحْجِمَهَا (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوِلاَدَةُ
تُعْتَبَرُ حَاجَةً مُبِيحَةً لِنَظَرِ الْقَابِلَةِ إِلَى مَوْضِعِ
الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ، لأَِنَّهُ لاَبُدَ مِنْهُ
لاِسْتِقْبَال الْمَوْلُودِ، وَبِدُونِهِ يُخْشَى عَلَى الْوَلَدِ، وَمِنْ
ذَلِكَ أَيْضًا إِعْطَاءُ الْحُقْنَةِ لِلْعِلاَجِ، فَإِنَّهَا نَوْعٌ مِنَ
الْمُدَاوَاةِ، فَيُبَاحُ النَّظَرُ إِلَى مَوْضِعِ الْحَقْنِ، وَلَكِنَّ
الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْحَقْنُ لِعِلاَجِ مَرَضٍ،
وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ،
فَنَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ الاِحْتِقَانِ
إِذَا كَانَتِ الْغَايَةُ مِنْهُ مُجَرَّدَ التَّقَوِّي عَلَى الْجِمَاعِ،
خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَمِنَ الْحَاجَاتِ الْمُلْحَقَةِ بِهَذَا الْبَابِ الْقِيَامُ عَلَى
خِدْمَةِ مَرِيضٍ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ كَأَقْطَعِ الْيَدَيْنِ، فَيُبَاحُ
النَّظَرُ لِمُسَاعَدَتِهِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ
كَالْوُضُوءِ وَالاِسْتِنْجَاءِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَمِنْهَا أَيْضًا
الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ بَكَارَةِ امْرَأَةٍ أَوْ ثُيُوبَتِهَا أَوْ
بُلُوغِ رَجُلٍ، فَإِنَّ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَمَّا حَكَّمَ
__________
(1) حَدِيث: أَمَرَ أَبَا طِيبَةٍ أَنْ يُحْجِمَ أَمْ سَلَمَة. . . سَبَقَ
تَخْرِيجه ف 13.
(40/367)
سَعْدًا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاحْتِيجَ
لِمَعْرِفَةِ الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ أَمَرَ بِالْكَشْفِ عَنْ
مُؤْتَزَرِهِمْ، قَال عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ: عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَكَانَ مَنْ
أَنْبَتَ قُتِل، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خَلَّى سَبِيلَهُ وَكُنْتُ مِمَّنْ
لَمْ يَنْبِتْ فَخَلَّى سَبِيلِي (1) ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلاَمٍ سَرَقَ، فَقَال: انْظُرُوا إِلَى
مُؤْتَزَرِهِ، فَلَمْ يَجِدُوهُ أَنْبَتَ الشَّعْرَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ (2)
،.، وَمِنْهَا ضَرُورَةُ إِنْقَاذِ إِنْسَانٍ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ
هَدْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لِلْمُنْقِذِ النَّظَرُ إِلَى
الْمُضْطَرِّ فِي حُدُودِ الضَّرُورَةِ (3) .
ب - أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ
__________
(1) حَدِيث عَطِيَّةٍ الْقُرَظِيّ: عَرَضْنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . . . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (4 /
145) وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) أَثَر عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ: أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلاَمٍ سَرَقَ. . .
أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق فِي الْمُصَنَّفِ (7 / 338، 10 / 178 ط
الْمَجْلِس الْعِلْمِيّ) .
(3) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 9 / 532 - 533، بَدَائِع الصَّنَائِع 5 /
124، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 330، وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 /
17، وَالْهِدَايَة مَعَ تَكْمِلَةِ الْفَتْحِ 10 / 30 / 31، وَالْمَبْسُوط
10 / 156، وَالْفَوَاكِه الدَّوَانِي 2 / 367، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 /
133، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 197، وَالْحَاوِي الْكَبِير 9 / 35،
وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 375، 2 وَالْمُبَاع 9 / 9، 10، وَمَطَالِب
أُولِي النُّهَى 5 / 15، 2 وَكَشَّاف الْقِنَاع / 308 1، 5 / 13،
وَالإِْنْصَاف 8 / 22، وَتَفْسِير الرَّازِيّ 6 / 354 (الْمَطْبَعَة
الْخَيْرِيَّة) .
(40/367)
فَمَا لَزِمَ لِدَفْعِهَا جَازَ، وَمَا
زَادَ عَنْ قَدْرِ الضَّرُورَةِ بَقِيَ عَلَى أَصْل التَّحْرِيمِ،
وَلِذَلِكَ اشْتَرَطُوا فِي نَظَرِ الطَّبِيبِ أَنْ لاَ يَعْدُوَ مَوَاضِعَ
الْمَرَضِ وَمَا يَلْزَمُ لِمَعْرِفَتِهِ، وَالْخَاتِنُ لاَ يَنْظُرُ
إِلاَّ إِلَى مَوْضِعِ الْخِتَانِ، وَفِي الْحُقْنَةِ لاَ يُنْظَرُ إِلاَّ
إِلَى مَوْضِعِ الْحَقْنِ، وَفِي الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ يُقْتَصَرُ فِي
إِبَاحَةِ النَّظَرِ عَلَى مَوْضِعِهِمَا، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ
لِتَحْدِيدِ الْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ وَالْبُلُوغِ لاَ يَحِل النَّظَرُ
إِلاَّ إِلَى الْمَوَاضِعِ اللاَّزِمَةِ لِهَذَا الْغَرَضِ.
وَاشْتَرَطَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ
لِلنَّظَرِ أَنْ تَكُونَ مُلاَئِمَةً مِنْ حَيْثُ قُوَّتُهَا
وَتَأَكُّدُهَا لِغِلَظِ الْعَوْرَةِ وَخِفَّتِهَا، فَإِذَا كَانَ
النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ اعْتُبِرَ أَصْل الْحَاجَةِ أَوْ
أَدْنَى حَاجَةٍ، وَفِيمَا عَدَاهُمَا سِوَى السَّوْأَتَيْنِ يُعْتَبَرُ
تَأَكُّدُ الْحَاجَةِ، وَفِي السَّوْأَتَيْنِ اعْتَبَرُوا الْحَاجَةَ
الشَّدِيدَةَ أَوِ الضَّرُورَةَ (1) .
ج - عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ يُشْتَرَطُ لإِِبَاحَةِ النَّظَرِ
لِلْعِلاَجِ أَنْ لاَ تَكُونَ خَلْوَةً بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ؛
لأَِنَّ الْحَاجَةَ تُسَوِّغُ النَّظَرَ، وَلاَ تُسَوِّغُ الْخَلْوَةَ،
فَتَبْقَى
__________
(1) الْبَدَائِع 5 / 124، وَمَجْمَع الأَْنْهُر 2 / 532، 2 وَالْهِدَايَة
مَعَ تَكْمِلَةِ الْفَتْحِ 10 / 30، 31، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 197،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 133، وَالْحَاوِي 9 / 35، وَالْمُبْدِع 7 / 9،
وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 15.
(40/368)
مُحَرَّمَةً، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ
وُجُودُ مَانِعٍ لِلْخَلْوَةِ مِنْ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ خِيفَ
الْهَلاَكُ قَبْل حُضُورِهِ (1) .
د - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِحِل النَّظَرِ بَيْنَ الرَّجُل
وَالْمَرْأَةِ لِلْعِلاَجِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنْ يَتَعَذَّرَ دَفْعُ
الْحَاجَةِ بِاللُّجُوءِ إِلَى الْجِنْسِ الْمُشَابِهِ، فَلاَ يُعَالِجُ
الرَّجُل الْمَرْأَةَ مَعَ وُجُودِ امْرَأَةٍ أُخْرَى تَسْتَطِيعُ
الْقِيَامَ بِذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَدْفَعُ الْحَاجَةَ،
وَكَذَلِكَ لاَ تُعَالِجُ الْمَرْأَةُ الرَّجُل مَعَ وُجُودِ رَجُلٍ
يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِالْعِلاَجِ الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ نَظَرَ
الإِْنْسَانِ إِلَى جِنْسِهِ أَخَفُّ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ،
فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمُعَالِجُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَوْ وُجِدَ
وَكَانَ لاَ يُحْسِنُ الْعِلاَجَ جَازَ نَظَرُ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ
وَعَكْسُهُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا الشَّرْطَ،
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي النَّظَرِ لِلْعِلاَجِ وَنَحْوِهِ أَنْ لاَ
يُمْكِنَ تَعْلِيمُ شَخْصٍ مُجَانِسٍ لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ الشَّيْءَ
الْمَطْلُوبَ مِنْ مُعَالَجَةٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ
يَجُزِ النَّظَرُ، وَقَصَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى حَالَةِ
النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ لِلْعِلاَجِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ
وَجَبَ سَتْرُ كُل عُضْوٍ سِوَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ، ثُمَّ يَنْظُرُ
وَيَغُضُّ
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 133، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 197، 3 /
175، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 375، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 15.
(40/368)
بَصَرَهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مَا
اسْتَطَاعَ (1) .
هـ - اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِحِل النَّظَرِ بِقَصْدِ
الْعِلاَجِ وَنَحْوِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْمُعَالِجُ ذِمِّيًّا إِذَا
وُجِدَ مُسْلِمٌ يَقُومُ مَقَامَهُ (2) ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ
ذَهَبُوا إِلَى تَقْدِيمِ الْمُجَانِسِ لِلْمَرِيضِ فِي النَّظَرِ
لِلْعِلاَجِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، عَلَى غَيْرِ الْمُجَانِسِ وَإِنْ
كَانَ مُسْلِمًا، فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ لِعِلاَجِ الْمَرْأَةِ إِلاَّ
كَافِرَةٌ وَمُسْلِمٌ تُقَدَّمُ الْكَافِرَةُ، لأَِنَّ نَظَرَهَا
وَمَسَّهَا أَخَفُّ مِنَ الرَّجُل، وَقَدْ رَتَّبَ الْبُلْقِينِيُّ ذَلِكَ
فَقَال: إِنْ كَانَتِ الْمَرِيضَةُ امْرَأَةً مَسْلِمَةً فَيُعْتَبَرُ
وُجُودُ امْرَأَةٍ مَسْلِمَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ فَصَبِيٌّ مُسْلِمٌ
غَيْرُ مُرَاهِقٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَصَبِيٌّ كَافِرٌ غَيْرُ مُرَاهِقٍ،
فَإِنْ تَعَذَّرَ فَامْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ فَمَحْرَمُهَا
الْمُسْلِمُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَمَحْرَمُهَا الْكَافِرُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ
فَأَجْنَبِيٌّ مُسْلِمٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَأَجْنَبِيٌّ كَافِرٌ، لَكِنْ
رَأَى الرَّمْلِيُّ وَالْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ أَنَّ الْمُتَّجَهَ
تَأْخِيرُ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ عَنِ الْمَحْرَمِ بِقِسْمَيْهِ.، كَمَا
رَجَّحَ الرَّمْلِيُّ تَقْدِيمَ الْمَمْسُوحِ فِي الْمُعَالَجَةِ عَلَى
الْمُرَاهِقِ وَالأُْنْثَى
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 5 / 330، وَمَجْمَع الأَْنْهُر 2 / 538،
وَالْهِدَايَة مَعَ تَكْمِلَةِ الْفَتْحِ 10 / 31، وَالْمَبْسُوط 10 / 156،
مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 133، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 197، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 5 / 375.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 133، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 197،
وَالْمُبْدِعِ 7 / 9، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 15.
(40/369)
وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَالدِّينِ،
وَاعْتَبَرَ وُجُودَ مَنْ لاَ يَرْضَى بِالْمُعَالَجَةِ إِلاَّ بِأَكْثَرَ
مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ كَالْعَدَمِ، وَاحْتُمِل أَنَّهُ لِوُجُودِ كَافِرٍ
يَرْضَى بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْل وَمُسْلِمٍ لاَ يَرْضَى إِلاَّ بِهَا
فَالْمُسْلِمُ كَالْعَدَمِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ بِسُقُوطِ حَضَانَةِ
الأُْمِّ إِذَا طَلَبَتْ أُجْرَةَ الْمِثْل وَوَجَدَ الأَْبُ مَنْ يَرْضَى
بِدُونِهَا، وَقَدَّمَ بَعْضُهُمُ الأَْمْهَرَ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ
الْجِنْسِ وَالدِّينِ فَلَوْ وُجِدَ كَافِرٌ أَعْرَفُ بِالدَّاءِ
وَالدَّوَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ (1) .
وَ - اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَالِجُ أَمِينًا غَيْرَ
مُتَّهَمٍ فِي خُلُقِهِ وَدِينِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُجُودُ الأَْمِينِ
جَازَ الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَاشْتَرَطَ
بَعْضُهُمْ فِي مُعَالَجَةِ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ وَجَوَازِ نَظَرِهِ
إِلَيْهَا أَنْ يَأْمَنَ الاِفْتِتَانَ بِهَا إِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ،
فَإِنْ تَعَيَّنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَالِجَهَا وَيَكُفَّ نَفْسَهُ مَا
أَمْكَنَ (2) .
ثَالِثًا: النَّظَرُ لِلْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحِل لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ
بِغَرَضِ الْقَضَاءِ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ
عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعُ الشَّهْوَةِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ
يَقْصِدَهَا عِنْدَ النَّظَرِ، وَأَمَّا النَّظَرُ إِلَى الْكَفَّيْنِ
__________
(1) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ مَعَ حَاشِيَة الشبراملسي 6 / 197، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاج 3 / 133.
(2) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ مَعَ حَاشِيَة الشبراملسي 6 / 197، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاج 3 / 133، وَالْحَاوِي الْكَبِير 9 / 35.
(40/369)
فَيَحْرُمُ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ
غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعُ الشَّهْوَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهَا
وَأَمِنَ الشَّهْوَةَ فَهُوَ جَائِزٌ.
وَالشَّاهِدُ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حُكْمُهُ فِي النَّظَرِ
كَالْقَاضِي، وَأَمَّا النَّظَرُ لِتَحَمُّلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ
فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: - وَهُوَ الأَْصَحُّ - أَنَّهُ يَحْرُمُ إِنْ غَلَبَ عَلَى
ظَنِّهِ الشَّهْوَةُ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرُورَةَ عِنْدِ التَّحَمُّل، فَقَدْ
يُوجَدُ مَنْ يَتَحَمَّل الشَّهَادَةَ وَلاَ يَشْتَهِي، بِخِلاَفِ حَالَةِ
الأَْدَاءِ، حَيْثُ الْتَزَمَ هَذِهِ الأَْمَانَةَ بِالتَّحَمُّل، وَهُوَ
مُتَعَيَّنٌ لأَِدَائِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ وَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ
الشَّهْوَةَ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ لاَ
قَضَاءَ الشَّهْوَةِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ هَذَا الشَّرْطُ جَازَ لَهُ أَنْ
يَنْظُرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلِشُهُودِ الزِّنَى مَثَلاً أَنْ
يَنْظُرُوا إِلَى مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ بِقَصْدِ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ،
وَأَمَّا إِذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ فَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهَمْ فِي جَوَازِ
النَّظَرِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ، فَالْخِلاَفُ
عِنْدَهُمْ فِي حُكْمِ نَظَرِ الشَّاهِدِ تَحَمُّلاً عِنْدَ خَوْفِ
الشَّهْوَةِ وَلَيْسَ عِنْدَ أَمْنِهَا (1) .
__________
(1) الْمَبْسُوط 10 / 154، 155، وَمَجْمَع الأَْنْهُر 2 / 540،
وَالْهِدَايَة وَتَكْمِلَة الْفَتْحِ 10 / 30 - 33، وَالْبَدَائِع 5 / 122،
وَتَبْيِين الْحَقَائِقِ 6 / 17، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ 5 / 329،
330
(40/370)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ
النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ بِقَصْدِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَإِلَيْهِ
وَإِلَى غَيْرِهِ بِقَصْدِ تَحَمُّلِهَا، وَاشْتَرَطُوا لِذَلِكَ عَدَمَ
قَصْدِ اللَّذَّةِ عِنْدَ النَّظَرِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ مِنَ
الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ حَاجَةُ الْحُكْمِ،
وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ
إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا أَوْ لَهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَقَطْ
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا دُعِيَتْ لِلشَّهَادَةِ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ
بِقَدْرِ الْحَاجَةِ أَيْضًا، وَلاَ يَحِل النَّظَرُ إِلَى غَيْرِ مَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ، وَلاَ يَحِل إِطَالَةُ
النَّظَرِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمَقْصُودِ، فَإِنِ اكْتَفَى بِنَظْرَةٍ
وَاحِدَةٍ لَمْ تَجُزِ الثَّانِيَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِلتَّحَقُّقِ،
بَل ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ
بِالنَّظَرِ إِلَى بَعْضِ الْوَجْهِ لَمْ يَجُزِ الاِسْتِيعَابُ، وَأَنَّهُ
إِنْ تَحَقَّقَ مِنْ فَوْقِ النِّقَابِ لَمْ يَجُزِ النَّظَرُ إِلَى مَا
تَحْتَهُ، لأَِنَّ مَا جَازَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَمَا
زَادَ ظَل عَلَى أَصْل الْحَظْرِ.
كَذَلِكَ أَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ -
لِلشَّاهِدِ عِنْدَ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ النَّظَرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ
إِلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَتَوَسَّعُوا فِي ذَلِكَ
اعْتِنَاءً بِالشَّهَادَةِ إِحْيَاءً لِلْحُقُوقِ، فَنَصُّوا عَلَى جَوَازِ
النَّظَرِ لِلرِّجَال خَاصَّةً إِلَى فَرْجِ الزَّانِيَيْنِ لِتَحَمُّل
شَهَادَةِ الزِّنَى، وَعَلَى جَوَازِ النَّظَرِ لِلرِّجَال
__________
(1) الْفَوَاكِه الدَّوَانِي 2 / 366، وَالْبَيَان وَالتَّحْصِيل 4 / 305،
وَالذَّخِيرَة 4 / 191.
(40/370)
وَالنِّسَاءِ إِلَى الْفَرْجِ لِتَحَمُّل
الشَّهَادَةِ بِوِلاَدَةٍ أَوْ عَبَالَةٍ (كِبَرِ الذَّكَرِ، أَوِ
الْتِحَامِ إِفْضَاءٍ، وَإِلَى الثَّدْيِ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ
بِالرَّضَاعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي جَوَازِ النَّظَرِ لِتَحَمُّل
الشَّهَادَةِ، عَدَمَ وُجُودِ الْمُجَانِسِ أَوِ الْمَحَارِمِ، كَمَا
فَعَلُوا فِي النَّظَرِ لِلْعِلاَجِ، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا عِنْدَ
عَدَمِ تَعَيُّنِ الشَّاهِدِ أَنْ لاَ تُخْشَى الْفِتْنَةُ وَالشَّهْوَةُ،
فَإِنْ خُشِيَتِ الْفِتْنَةُ أَوِ الشَّهْوَةُ لَمْ يَجُزِ النَّظَرُ
إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ، وَقَال السُّبْكِيُّ: وَمَعَ ذَلِكَ يَأْثَمُ
بِالشَّهْوَةِ وَإِنْ أُثِيبَ عَلَى التَّحَمُّل، لأَِنَّهُ فِعْلٌ ذُو
وَجْهَيْنِ. وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَأَحَل النَّظَرَ لِلشَّهَادَةِ
بِشَهْوَةٍ وَبِدُونِهَا، وَاسْتَدَل بِأَنَّ الشَّهْوَةَ أَمْرٌ طَبْعِيٌ
لاَ يَنْفَكُّ عَنِ النَّظَرِ فَلاَ يُكَلَّفُ الشَّاهِدُ بِإِزَالَتِهَا،
وَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا كَمَا لاَ يُؤَاخَذُ الزَّوْجُ بِمَيْل قَلْبِهِ
إِلَى بَعْضِ نِسْوَتِهِ، وَالأَْوْجَهُ عِنْدَ الرَّمْلِيِّ حَمْل
التَّأْثِيمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ بِالاِخْتِيَارِ
وَعَدَمِهِ عَلَى مَا كَانَ بِدُونِ اخْتِيَارٍ، وَفِي مُقَابِل الصَّحِيحِ
ذَهَبَ الإِْصْطَخْرِيُّ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ لِتَحَمُّل
الشَّهَادَةِ فِي كُل مَا تَقَدَّمَ، وَقِيل: يَجُوزُ فِي الزِّنَى دُونَ
غَيْرِهِ، وَقِيل عَكْسُهُ (1) .
__________
(1) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ وَحَاشِيَة الشبراملسي 6 / 198، وَرَوْضَة
الطَّالِبِينَ 5 / 376، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 148.
(40/371)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
لِلشَّاهِدِ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا تَحَمُّلاً
وَأَدَاءً عِنْدَ طَلَبِ الشَّهَادَةِ مِنْهُ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ
وَاقِعَةً عَلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا، قَال أَحْمَدُ: لاَ
يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا،
وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ النَّظَرَ إِلَى الْكَفَّيْنِ لِلشَّهَادَةِ،
وَذَكَرَ ابْنُ رَزِينٍ أَنَّ الشَّاهِدَ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَظْهَرُ
غَالِبًا، وَاخْتَارَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى أَنَّ الشَّاهِدَ
لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إِلَى غَيْرِ الْوَجْهِ، لأَِنَّ الشَّهَادَةَ لاَ
دَخْل لَهَا فِي الْكَفَّيْنِ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنِ الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ (1) .
رَابِعًا: النَّظَرُ لِلْمُعَامَلَةِ:
34 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ
لِلْمُعَامَلَةِ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّلَذُّذُ أَوْ غَلَبَ عَلَى
الظَّنِّ وُقُوعُ الشَّهْوَةِ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ
اللَّذَّةُ وَلاَ خِيفَتْ مِنْهُ الْفِتْنَةُ أَوِ الشَّهْوَةُ، فَيَجُوزُ
إِلَى مَا سِوَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ،
وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ فِي الْحُكْمِ الأَْصْلِيِّ
لِلنَّظَرِ، وَهُوَ جَوَازُهُ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَاقْتَصَرَ
عَلَى مَا سِوَى الْعَوْرَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى جَوَازِ
نَظَرِ الرَّجُل إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنَ الْمَرْأَةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعَامُل بَيْنَ الرِّجَال
وَالنِّسَاءِ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ لاَ تَسْتَلْزِمُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى
غَيْرِ مَا سِوَى الْعَوْرَةِ.
__________
(1) مَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 14، 15، وَالإِْنْصَاف 8 / 22،
وَالْمُبْدِع 7 / 9.
(40/371)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمُ نَظَرِ الرَّجُل
مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ
الأَْجْنَبِيَّةِ حَتَّى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ
أَجَازُوا لِلرَّجُل النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ لِلْمُعَامَلَةِ
مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَنَحْوِهِمَا، لِيَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ،
وَيُطَالِبَ بِالثَّمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى
غَيْرِ الْوَجْهِ، لِلاِكْتِفَاءِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ
الْحَاجَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْمُعَامَلَةِ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ
أَنْ تَنْظُرَ إِلَى وَجْهِ الرَّجُل لِلْمُعَامَلَةِ أَيْضًا لِتَحَقُّقِ
الْحَاجَةِ فِي حَقِّهَا كَالرَّجُل، وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنَ
الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ تُعَامِلُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ رَزِينٍ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُبْتَاعِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا
يَظْهَرُ غَالِبًا مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَبِيعُهُ أَوْ تَشْتَرِي
مِنْهُ (1) .
خَامِسًا: النَّظَرُ لِلتَّعْلِيمِ:
35 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ تَعْلِيمِ الْمَرْأَةِ مِنَ
الْحَاجَاتِ الَّتِي يُبَاحُ مِنْ أَجْلِهَا النَّظَرُ بِقَدْرِ
الْحَاجَةِ، وَقَوْلُهُمْ بِأَنَّ أَصْل الْحَاجَةِ أَوْ أَدْنَى حَاجَةٍ
كَافٍ لإِِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ يَدُل عَلَى
إِبَاحَةِ
__________
(1) نِهَايَة الْمُحْتَاجِ 6 / 198، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 128،
وَالْحَاوِي الْكَبِير 9 / 36، وَالْمُبْدِع 7 / 9، وَالإِْنْصَاف 8 / 22،
وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 5 / 14
(40/372)
ذَلِكَ لأَِجْل التَّعْلِيمِ، وَقَصَرَ
بَعْضُهُمُ الْجَوَازَ عَلَى مَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ
كَالْفَاتِحَةِ وَمَا يَتَعَيَّنُ تَعْلِيمُهُ مِنَ الصَّنَائِعِ
الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، بِشَرْطِ التَّعَذُّرِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
وَعَدَمِ وُجُودِ الْمُجَانِسِ وَعَدَمِ الْخَلْوَةِ. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ
ذَلِكَ تَعْلِيمَ الزَّوْجِ لِمُطَلَّقَتِهِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنَ
الزَّوْجَيْنِ تَعَلَّقَتْ آمَالُهُ بِالآْخَرِ، فَصَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا
طَمْعَةٌ فِي صَاحِبِهِ فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ (1) .
__________
(1) مُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 128 وَمَا بَعْدَهَا، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ
6 / 199، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 5 / 21 وَمَا بَعْدَهَا
(40/372)
نُعَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّعَاسُ فِي اللُّغَةِ: أَوَّل النَّوْمِ أَوِ النَّوْمُ الْقَلِيل،
يُقَال: نَعَسَ نَعْسًا وَنَعَسًا وَنُعَاسًا: فَتَرَتْ حَوَاسُّهُ
فَقَارَبَ النَّوْمَ فَهُوَ نَاعِسٌ، وَنَعْسَانُ قَلِيلَةٌ، وَمِنْهُ
قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ (1)
.
وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: حَقِيقَةُ النُّعَاسِ السِّنَةُ مِنْ غَيْرِ
نَوْمٍ، وَمِنْ عَلاَمَاتِ النُّعَاسِ: سَمَاعُ كَلاَمِ الْحَاضِرِينَ
وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّوْمُ:
2 - النَّوْمُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ ضِدُّ الْيَقَظَةِ فَتْرَةُ رَاحَةٍ
لِلْبَدَنِ وَالْعَقْل تَغِيبُ خِلاَلَهَا الإِْرَادَةُ وَالْوَعْيُ
__________
(1) الأَْنْفَال / 11
(2) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط
(3) الْمُفْرَدَات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 2 / 56
(40/373)
جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا، وَتَتَوَقَّفُ
الْوَظَائِفُ الْبَدَنِيَّةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ، تَتَعَطَّل مَعَهَا الْقُوَى
بِسَبَبِ تَرَقِّي الْبُخَارَاتِ إِلَى الدِّمَاغِ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ قَال زَكَرِيَّا
الأَْنْصَارِيُّ: إِنَّ النَّوْمَ فِيهِ غَلَبَةٌ عَلَى الْعَقْل بِسُقُوطِ
الْحَوَاسِّ، وَالنُّعَاسَ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فِيهِ فُتُورُ
الْحَوَاسِّ (2) .
ب - الإِْغْمَاءُ:
3 - الإِْغْمَاءُ فِي اللُّغَةِ: فَقْدُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ لِعَارِضٍ
(3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: آفَةٌ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ تُعَطِّل
الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْمُحَرِّكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا مَعَ بَقَاءِ
الْعَقْل مَغْلُوبًا (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّعَاسِ وَالإِْغْمَاءِ: أَنَّ الإِْغْمَاءَ
يُعَطِّل الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ وَالْمُحَرِّكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا؟
وَأَمَّا النُّعَاسُ فَإِنَّهُ لاَ يُعَطِّل الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ
وَالْمُحَرِّكَةَ عَنْ أَفْعَالِهَا يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ كَلاَمِ
النَّاسِ.
__________
(1) الْمُعْجَم الْوَسِيط، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ،
وَالْمُفْرِدَاتِ لِلرَّاغِبِ، وَالتَّعْرِيفَات للجرجاني.
(2) أَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 56، وَحَاشِيَة الشَّرْقَاوِي 1 / 70
(3) الْمُعْجَم الْوَسِيط
(4) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 297، 2 / 422، وَمَرَاقِي الْفَلاَح
بِحَاشِيَةٍ الطحطاوي ص 50، التَّقْرِير وَالتَّحْبِير 2 / 179.
(40/373)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ
بِالنُّعَاسِ:
أَثَرُ النُّعَاسِ فِي الْوُضُوءِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يُنْقَضُ
بِالنُّعَاسِ وَلَوْ شَكَّ هَل نَامَ أَوْ نَعَسَ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ
لأَِنَّ الأَْصْل الطَّهَارَةُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَقَال
زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: لَوْ رَأَى رُؤْيَا وَشَكَّ أَنَامَ أَمْ لاَ
فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لأَِنَّ الرُّؤْيَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِنَوْمٍ (1)
.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: النُّعَاسُ فِي حَالَةِ الاِضْطِجَاعِ لاَ يَخْلُو
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَقِيلاً أَوْ خَفِيفًا، فَإِنْ كَانَ ثَقِيلاً فَهُوَ
حَدَثٌ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا لاَ يَكُونُ حَدَثًا، وَالْفَاصِل بَيْنَ
الْخَفِيفِ وَالثَّقِيل أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَسْمَعُ مَا قِيل عِنْدَهُ
فَهُوَ خَفِيفٌ، وَإِنْ كَانَ يَخْفَى عَلَيْهِ عَامَّةُ مَا قِيل عِنْدَهُ
فَهُوَ ثَقِيلٌ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْمُنِيرِ: يُغْتَفَرُ
النُّعَاسُ الْخَفِيفُ، وَالأَْوْلَى لأَِئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ تَجْدِيدُ
الْوُضُوءِ (3) .
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 1 / 302، وَشَرْح الْجُمَل 1 / 69، وَالأُْمِّ 1
/ 14، 18، وَأَسْنَى الْمَطَالِب 1 / 56، وَالْمُغْنِي 1 / 176، وَشَرْح
صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 2 / 64 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 12، وَابْن عَابِدِينَ 1 / 97.
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 1 / 295
(40/374)
النُّعَاسُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ:
5 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ نَعَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
أَنْ يَتَحَوَّل عَنْ مَوْضِعِهِ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
فَلْيَتَحَوَّل مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ (1) . وَلأَِنَّ تَحَوُّلَهُ عَنْ
مَجْلِسِهِ يَصْرِفُ عَنْهُ النَّوْمَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: أُحِبُّ لِلرَّجُل إِذَا نَعَسَ فِي الْمَسْجِدِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَوَجَدَ مَجْلِسًا غَيْرَهُ - وَلاَ يَتَخَطَّى فِيهِ
أَحَدًا - أَنْ يَتَحَوَّل عَنْهُ لِيَحْدُثَ لَهُ الْقِيَامُ وَاعْتِسَافُ
الْمَجْلِسِ مَا يُذْعِرُ عَنْهُ النَّوْمَ وَإِنْ ثَبَتَ وَتَحَفَّظَ مِنَ
النُّعَاسِ بِوَجْهٍ يَرَاهُ يَنْفِي النُّعَاسَ عَنْهُ فَلاَ أَكْرَهُ
ذَلِكَ لَهُ وَلاَ أُحِبُّ إِنْ رَأَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنَ النُّعَاسِ
إِذَا تَحَفَّظَ أَنْ يَتَحَوَّل وَأَحْسَبُ مَنْ أَمَرَهُ بِالتَّحَوُّل
إِنَّمَا أَمَرَهُ حِينَ غَلَبَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ فَظَنَّ أَنْ لَنْ
يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ إِلاَّ بِإِحْدَاثِ تَحَوُّلٍ وَإِنْ ثَبَتَ فِي
مَجْلِسِهِ نَاعِسًا كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذْ
لَمْ يَرْقُدُ زَائِلاً عَنْ حَدِّ الاِسْتِوَاءِ (3) .
__________
(1) حَدِيث: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ. . . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (2 /
404 ط الْحَلَبِيّ) وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 2 / 353
(3) الأُْمّ 1 / 198.
(40/374)
نَعَامٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
(40/375)
نَعْيٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّعْيُ وَالنُّعْيَانُ لُغَةً: خَبَرُ الْمَوْتِ، أَوْ نِدَاءُ
الدَّاعِي، أَوِ الدُّعَاءُ بِمَوْتِ الْمَيِّتِ وَالإِْشْعَارُ بِهِ،
النَّاعِي: الَّذِي يَأْتِي بِخَبَرِ الْمَوْتِ، أَوْ بِإِذَاعَةِ مَوْتِ
الشَّخْصِ أَوْ يَنْدُبُهُ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قُتِل مِنْهُمْ شَرِيفٌ
أَوْ مَاتَ بَعَثُوا رَاكِبًا إِلَى قَبَائِلِهِمْ يَنْعَاهُ إِلَيْهِمْ
(1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
(ر: جَنَائِز ف 4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّدْبُ:
2 - النَّدْبُ مِنْ مَعَانِي النَّدْبِ فِي اللُّغَةِ: الْبُكَاءُ
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ لاِبْن مَنْظُور، وَالصِّحَاحِ لِلْجَوْهَرِيِّ،
مَادَّة (نَعِي) .
(2) الْمَجْمُوع شَرْح الْمُهَذَّبِ لِلنَّوَوِيِّ 5 / 219، وَفَتْح
الْبَارِي 3 / 452 - 453، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 155، وَالشَّرْح
الصَّغِير 1 / 570، وَغَايَة الْمُنْتَهَى 1 / 228.
(40/375)
مَعَ تَعْدِيدِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ
بِلَفْظِ النِّدَاءِ، كَوَاسَيِّدَاهُ، وَاجَبَلاَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّعْيِ أَنَّ النَّدْبَ قَدْ يَقْتَرِنُ
بِالنَّعْيِ، وَقَدْ يَحْصُل بَعْدَهُ، فَلَيْسَ هُنَاكَ تَلاَزُمٌ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْخْبَارِ بِالْمَوْتِ.
ب - النَّوْحُ:
3 - النَّوْحُ لُغَةً: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ مَعَ رَنَّةٍ، وَعَنْ
أُمِّ عَطِيَّةَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَلاَّ نَنُوحَ (2) .، وَعَنْ
أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّوْحِ وَالنَّعْيِ أَنَّ النَّعْيَ الْمُطْلَقَ
الإِْعْلاَمُ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ بُكَاءٌ أَمْ لاَ، أَمَّا النَّوْحُ
فَهُوَ
__________
(1) الصِّحَاح، وَالْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ
(2) حَدِيث: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْبَيْعَةِ ألا نَنُوحَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ
(فَتْح الْبَارِي 3 / 176 ط السَّلَفِيَّة وَمُسْلِم (2 / 645 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ
(3) حَدِيث: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
النَّائِحَة وَالْمُسْتَمِعَة. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (3 / 493 ط حِمْص
وَأَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ (3 / 65 ط الميمنية، وَقَال الْخَطَابِيّ فِي
مَعَالِمِ السُّنَنِ بِهَامِش سُنَن أَبِي دَاوُ
(40/376)
الإِْعْلاَمُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبُكَاءِ،
وَقَدْ يَحْصُل بَعْدَ الإِْخْبَارِ بِالْمَوْتِ (1) .
صِيغَةُ النَّعْيِ:
4 - لَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ صِيغَةً مُحَدَّدَةً لِلنَّعْيِ، بَعْدَ
اسْتِبْعَادِ مَا كَانَ مُبَاهَاةً وَمُفَاخَرَةً وَلَكِنَّهُمْ نَصُّوا
عَلَى اخْتِيَارِ مَا فِيهِ تَذَلُّلٌ وَاسْتِرْحَامٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ (2) :
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِنَحْوِ: مَاتَ الْفَقِيرُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَشْهَدُ
لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤْذِنُ
بِالْجِنَازَةِ، فَيَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ فَيَقُول: عَبْدُ اللَّهِ دُعِيَ
فَأَجَابَ، أَوْ أَمَةُ اللَّهِ دُعِيَتْ فَأَجَابَتْ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلنَّعْيِ:
5 - اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ النَّعْيِ، حَتَّى فِي
الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ، مَا بَيْنَ الاِسْتِحْبَابِ وَالإِْبَاحَةِ
وَالْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ، وَلِذَا اخْتَارَ بَعْضُ
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، مَادَّة (نُوح) ، وَاللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان فِيمَا
اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ 188.
(2) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 1 / 629
(3) أَثَر أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤْذِنُ
بِالْجِنَازَةِ. . . أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة فِي الْمُصَنَّفِ (3 /
276 ط الدَّار السَّلَفِيَّة) .
(40/376)
الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ أَقْوَالَهُمْ
لَيْسَتْ مِنْ قَبِيل الْخِلاَفِ فِي الأَْمْرِ إِذْ لَمْ تَتَوَارَدْ
عَلَى الصُّورَةِ الْمُطْلَقَةِ لِلنَّعْيِ.
قَال الْمُبَارَكْفُورِيُّ نَقْلاً عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ:
يُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ الأَْحَادِيثِ ثَلاَثُ حَالاَتٍ:
1 - إِعْلاَمُ الأَْهْل وَالأَْصْحَابِ وَأَهْل الصَّلاَحِ، فَهَذَا
سُنَّةٌ.
2 - دَعْوَةُ الْحَفْل لِلْمُفَاخَرَةِ بِالْكَثْرَةِ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ.
3 - الإِْعْلاَمُ بِنَوْعٍ آخَرَ، كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا
مُحَرَّمٌ.
وَقَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: النَّعْيُ لَيْسَ
مَمْنُوعًا كُلُّهُ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَمَّا كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ
يَصْنَعُونَهُ وَلَمْ يُنْقَل رَأْيٌ فِقْهِيٌّ بِوُجُوبِ النَّعْيِ،
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ مُفْلِحٍ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ حَتَّى لِلْقَرِيبِ،
فَقَال: وَلاَ يَلْزَمُ إِعْلاَمُ قَرِيبٍ (1) .
النَّعْيُ الْمُسْتَحَبُّ:
6 - النَّعْيُ الْمُسْتَحَبُّ أَوِ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ
تَعْبِيرِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - هُوَ عَلَى مَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ
بِهِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُتَّجَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
وَهُوَ
__________
(1) الْفُرُوع 2 / 192 وَفَتْح الْبَارِي 3 / 116 وَتُحْفَة الأَْحْوَذِيّ
4 / 59، جَامِع التِّرْمِذِيّ بِشَرْحِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ 4 / 206.
(40/377)
قَوْل النَّخَعِيِّ وَابْنُ سِيرِينَ - مَا
كَانَ فِيهِ إِعْلاَمُ الْجِيرَانِ وَالأَْصْدِقَاءِ.
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْلَمَ
جِيرَانُهُ وَأَصْدِقَاؤُهُ حَتَّى يُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلاَةِ
عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ النَّخَعِيِّ: لاَ بَأْسَ إِذَا مَاتَ
الرَّجُل أَنْ يُؤْذَنَ صَدِيقُهُ وَأَصْحَابُهُ، إِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ
يُطَافَ فِي الْمَجْلِسِ فَيُقَال: أَنْعِي فُلاَنًا لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ
فِعْل أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ بِاخْتِصَارٍ عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ.
قَال النَّوَوِيُّ، فِي شَرْحِ حَدِيثِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، وَكَبَّرَ
أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ (1) . فِيهِ اسْتِحْبَابُ الإِْعْلاَمِ
بِالْمَيِّتِ، لاَ عَلَى صُورَةِ نَعْيِ الْجَاهِلِيَّةِ، بَل مُجَرَّدُ
إِعْلاَمِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَتَشْيِيعِهِ وَقَضَاءِ حَقِّهِ فِي
ذَلِكَ، وَالَّذِي جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ النَّعْيِ لَيْسَ الْمُرَادُ
بِهِ هَذَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَعْيُ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُشْتَمِل
عَلَى ذِكْرِ الْمَفَاخِرِ وَغَيْرِهَا.
__________
(1) حَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 3 / 202 ط السَّلَفِيَّة)
وَمُسْلِم (2 / 656 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم.
(40/377)
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيَتَوَجَّهُ
اسْتِحْبَابُهُ، لإِِعْلاَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَصْحَابَهُ بِالنَّجَاشِيِّ، وَقَوْلِهِ عَنِ الَّذِي يُقِمُّ
الْمَسْجِدَ، أَيْ يَكْنُسُهُ: أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ،
دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ أَيْ أَعْلَمْتُونِي، قَال ابْنُ سِيرِينَ: لاَ
أَعْلَمُ بَأْسًا أَنْ يُؤْذِنَ الرَّجُل بِالْمَوْتِ صَدِيقَهُ
وَحَمِيمَهُ (1) .
وَحَدِيثُ الَّذِي يُقِمُّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ
مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُ فِي إِيذَانِ أَصْحَابِ الْمَنْعِيِّ وَأَقَارِبِهِ
هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ أَسْوَدَ
(رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً كَانَ يُقِمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ وَلَمْ
يَعْلَمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَوْتِهِ،
فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَال: مَا فَعَل ذَلِكَ الإِْنْسَانُ؟ قَالُوا:
مَاتَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي؟ فَقَالُوا:
إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ (قَال الرَّاوِي) : فَحَقَّرُوا
شَأْنَهُ قَال: فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى
عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 157، وَشَرْح صَحِيح مُسْلِم
لِلنَّوَوِيِّ 7 / 21، وَفَتْح الْبَارِي 3 / 453، وَالْفُرُوع لاِبْن
مُفْلِح 2 / 192، وَالْمَجْمُوع شَرْح الْمُهَذَّبِ لِلنَّوَوِيِّ 5 / 216،
وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 239، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 11 / 741.
(2) حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ أُسَوِّدَ كَانَ
يَقُمِ الْمَسْجِدُ. . . . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 3 /
205 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (2 / 659 ط عِيسَى الْحَلَبِيّ) ،
وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ
(40/378)
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْحَاوِي
لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتَحَبَّ النَّعْيَ
لِلْغَرِيبِ الَّذِي إِذَا لَمْ يُؤْذَنُ بِهِ لاَ يَعْلَمُهُ النَّاسُ (1)
.
وَالْوَجْهُ فِي الاِسْتِحْبَابِ عِنْدَ ابْنِ قُدَامَةَ أَنَّ فِي
كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ أَجْرًا لَهُمْ وَنَفْعًا
لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَحْصُل لِكُل مُصَلٍّ مِنْهُمْ قِيرَاطٌ مِنَ
الأَْجْرِ، وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَال: مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ
شُفِّعُوا فِيهِ (2) .
وَقَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ: مَا مِنْ رَجُلٍ
مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ
يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ (3) .
وَيَشْمَل حُكْمُ الاِسْتِحْبَابِ، النِّدَاءَ فِي الأَْسْوَاقِ عَلَى مَا
نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: إِنْ كَانَ
الْمَنْعِيُّ عَالِمًا أَوْ زَاهِدًا فَقَدِ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ النِّدَاءَ فِي الأَْسْوَاقِ لِجِنَازَتِهِ وَهُوَ
__________
(1) الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ 5 / 216
(2) حَدِيث: مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ أُمَّة. . . . أَخْرَجَهُ
مُسْلِم (2 / 654 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -.
(3) حَدِيث: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى
جِنَازَتِهِ. . . أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 655 - ط الْحَلَبِيّ) مِنْ
حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(40/378)
الأَْصَحُّ، وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ عَلَى
هَيْئَةِ التَّفْخِيمِ (1) .
النَّعْيُ الْمُبَاحُ:
7 - النَّعْيُ الْمُبَاحُ هُوَ مَا اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى الإِْعْلاَمِ
بِالْمَوْتِ بِصُورَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ، قَال الْحَافِظُ
ابْنُ حَجَرٍ: مَحْضُ الإِْعْلاَمِ بِذَلِكَ لاَ يُكْرَهُ، فَإِنْ زَادَ
عَلَى ذَلِكَ فَلاَ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ بَأْسَ بِإِعْلاَمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا
بِمَوْتِهِ لِيَقْضُوا حَقَّهُ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُنَادَى
عَلَيْهِ فِي الأَْزِقَّةِ وَالأَْسْوَاقِ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ نَعْيَ
الْجَاهِلِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ
مَعَهُ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِهِ وَتَفْخِيمٌ بَل يَقُول: الْعَبْدُ الْفَقِيرُ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ الْفُلاَنِيُّ. . . فَإِنَّ
نَعْيَ الْجَاهِلِيَّةِ مَا كَانَ فِيهِ قَصْدُ الدَّوَرَانِ مَعَ
الضَّجِيجِ وَالنِّيَاحَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ
فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ مِنَّا مَنْ
ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ
(2) .، كَمَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ.
__________
(1) فَتْح الْبَارِي 3 / 452، وَالْمُغني لاِبْن قُدَامَة 2 / 433،
وَالشَّرْح الْكَبِير عَلَى الْمُقْنِعِ 2 / 432، وَحَاشِيَة ابْن
عَابِدِينَ 2 / 239.
(2) حَدِيث: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُود وَشَقَّ الْجُيُوبَ
وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح
الْبَارِي 3 / 166 ط السَّلَفِيَّة) وَمُسْلِم (1 / 99 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(40/379)
وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ:
وَكَرِهَ بَعْضُهُمُ النِّدَاءَ فِي الأَْسْوَاقِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ
لاَ بَأْسَ بِهِ، كَمَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ.
وَحَصَرَ الْحَنَابِلَةُ النَّعْيَ الْمُبَاحَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ
نِدَاءٌ، قَال الرَّحِيبَانِيُّ: لاَ بَأْسَ بِإِعْلاَمِ أَقَارِبِهِ
وَإِخْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ، لإِِعْلاَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِالنَّجَاشِيِّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي
مَاتَ فِيهِ، وَفِيهِ كَثْرَةُ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَيَحْصُل لَهُمْ
ثَوَابٌ وَنَفْعٌ لِلْمَيِّتِ (1) .
قَال ابْنُ الْمُرَابِطِ - مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ - مُبَيِّنًا
الْحِكْمَةَ فِي الإِْبَاحَةِ: مُرَادُهُ أَنَّ النَّعْيَ الَّذِي هُوَ
إِعْلاَمُ النَّاسِ بِمَوْتِ قَرِيبِهِمْ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ
إِدْخَال الْكَرْبِ وَالْمَصَائِبِ عَلَى أَهْلِهِ، لَكِنَّ فِي تِلْكَ
الْمَفْسَدَةِ مَصَالِحَ جَمَّةً لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَةِ
ذَلِكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ لِشُهُودِ جِنَازَتِهِ وَتَهْيِئَةِ أَمْرِهِ
وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالاِسْتِغْفَارِ وَتَنْفِيذِ
وَصَايَاهُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ.
وَقَدِ اسْتَدَل النَّوَوِيُّ لِلإِْبَاحَةِ بِالأَْحَادِيثِ الَّتِي
اسْتَدَل بِهَا الْقَائِلُونَ بِالاِسْتِحْبَابِ ثُمَّ قَال: الصَّحِيحُ
الَّذِي تَقْتَضِيهِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 157، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 /
279، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 1 / 847، وَالْمَجْمُوع شَرْح
الْمُهَذَّبِ 5 / 216، وَفَتْح الْبَارِي 3 / 453.
(40/379)
الإِْعْلاَمَ بِمَوْتِهِ لِمَنْ يَعْلَمُ
لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَل إِنْ قُصِدَ بِهِ الإِْخْبَارُ لِكَثْرَةِ
الْمُصَلِّينَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذِكْرُ الْمَآثِرِ
وَالْمَفَاخِرِ وَالتَّطْوَافُ بَيْنَ النَّاسِ يَذْكُرُهُ بِهَذِهِ
الأَْشْيَاءِ، وَهَذَا نَعْيُ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَقَدْ
صَحَّتِ الأَْحَادِيثُ بِالإِْعْلاَمِ فَلاَ يَجُوزُ إِلْغَاؤُهَا (1) .
النَّعْيُ الْمَكْرُوهُ:
8 - لِلنَّعْيِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صُورَتَانِ:
الأُْولَى: أَنَّهُ مَا كَانَ لِغَيْرِ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ أَوْ جَارٍ
أَوْ مَنْ يُرْجَى إِجَابَةُ دُعَائِهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مَا كَانَ بِنِدَاءٍ، وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ
الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
قَال فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: كُرِهَ صِيَاحٌ بِمَسْجِدٍ، أَوْ
بِبَابِهِ، بِأَنْ يُقَال: فُلاَنٌ قَدْ مَاتَ فَاسْعَوْا إِلَى
جِنَازَتِهِ مَثَلاً، إِلاَّ الإِْعْلاَمَ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ أَيْ مِنْ
غَيْرِ صِيَاحٍ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلاَ يُسْتَحَبُّ النَّعْيُ، وَهُوَ النِّدَاءُ
بِمَوْتِهِ بَل يُكْرَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَال: لاَ
يُعْجِبُنِي، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: يُكْرَهُ إِعْلاَمُ غَيْرِ
قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ. وَنَقَل حَنْبَلٌ عَنْهُ: أَوْ جَارٍ، وَعَنْهُ:
أَوْ أَهْل دِينٍ.
وَنَقَل النَّوَوِيُّ الْكَرَاهَةَ فِي نَعْيِ الْمَيِّتِ وَالنِّدَاءِ
عَلَيْهِ لِلصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) الْمَجْمُوع 5 / 216
(40/380)
مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ
وَالْبَغَوِيُّ (1) .
النَّعْيُ الْمُحَرَّمُ:
9 - النَّعْيُ الْمُحَرَّمُ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ - هُوَ
مَا اشْتَمَل عَلَى النَّحِيبِ وَالْبُكَاءِ بِصَوْتٍ عَالٍ، وَتَعْدَادِ
مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ وَمَزَايَاهُ عَلَى سَبِيل الْمُبَاهَاةِ،
وَإِظْهَارِ الْجَزَعِ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مِنْ هَدْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- تَرْكُ النَّعْيِ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ عَمَل
الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَال: إِذَا مِتُّ فَلاَ تُؤْذِنُوا بِي، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ
نَعْيًا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ (2) .
وَقَال الرُّحَيْبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: النَّعْيُ الْمَعْرُوفُ
الَّذِي تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ بِدْعَةٌ أَيْ مَا كَانَ بِالنَّحِيبِ
وَالنَّدْبِ وَالْجَزَعِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ
بِأَنَّ السُّخْطَ عَلَى مَوْتِ الْمَنْعِيِّ يُشْبِهُ التَّظَلُّمَ مِنَ
الظَّالِمِ، وَحُكْمُ الْمَوْتِ عَلَى الْعِبَادِ عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ
__________
(1) الْفُرُوع 2 / 192، وَمَطَالِب أُولِي النُّهَى 1 / 841، وَالشَّرْح
الصَّغِير 1 / 70،، وَفَتْح الْبَارِي 2 / 453، وَالْمَجْمُوع 5 / 216
(2) حَدِيث: إِذَا مُتّ فَلاَ تُؤَذِّنُوا. . . . أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ (3 / 313 ط الْحَلَبِيّ) وَابْن مَاجَهْ (1 / 474 ط عِيسَى
الْحَلَبِيّ) وَاللَّفْظ لِلتِّرْمِذِيَ، وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(40/380)
تَعَالَى لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ
فِي خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ، لأَِنَّهُمْ مِلْكُهُ (1) .
وَمِمَّا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ مَا كَانَ عَلَى صُورَةِ
النَّعْيِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَفِي صِفَتِهِ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ
مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَال: قُلْتُ
لإِِبْرَاهِيمَ: أَكَانُوا يَكْرَهُونَ النَّعْيَ؟ قَال نَعَمْ قَال ابْنُ
عَوْنٍ: كَانُوا إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُل رَكِبَ رَجُلٌ دَابَّةً ثُمَّ
صَاحَ فِي النَّاسِ: أَنْعِي فُلاَنًا (2) .
__________
(1) مَطَالِب أُولِي النُّهَى للرحيباني 1 / 842 - 925 نَقْلاً عَنِ
الْفُصُول، وَزَادَ الْمَعَاد لاِبْن الْقَيِّمِ 1 / 528، وَفَتْح
الْبَارِي 3 / 93، وَالْمَجْمُوع شَرْح الْمُهَذَّبِ لِلنَّوَوِيِّ 5 / 215
- 216.
(2) الصِّحَاح لِلْجَوْهَرِيِّ، وَالنِّهَايَةَ لاِبْنِ الأَْثِيرِ مَادَّة
(نَعْي) ، وَفَتْح الْبَارِي 3 / 453.
(40/381)
نَفَاذٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّفَاذُ لُغَةً: مِنْ نَفَذَ السَّهْمُ نُفُوذًا مِنْ بَابِ قَعَدَ:
خَرَقَ الرَّمْيَةَ وَخَرَجَ مِنْهَا، وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ
وَالتَّضْعِيفِ. وَنَفَذَ الأَْمْرُ نُفُوذًا وَنَفَاذًا: مَضَى،
وَأَمْرُهُ نَافِذٌ أَيْ مَاضٍ مُطَاعٌ.
وَالنَّفَاذُ: جَوَازُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ وَالْخُلُوصُ مِنْهُ
كَالنُّفُوذِ، وَأَنْفَذَ الأَْمْرَ: قَضَاهُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: تَرَتُّبُ أَثَرِ التَّصَرُّفِ الصَّحِيحِ فِي الْحَال (2)
.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْجَازَةُ:
2 - الإِْجَازَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ جَازَ الْمَكَانَ يَجُوزُهُ جَوْزًا
وَجَوَزًا: سَارَ فِيهِ وَأَجَازَهُ - بِالأَْلِفِ - قَطَعَهُ، وَأَجَازَهُ
أَنْفَذَهُ (3) . .
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْقَامُوس الْمُحِيط
(2) دُرَر الْحُكَّام شَرْح مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ العدلية 1 / 95
(3) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ
(40/381)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّفَاذِ وَالإِْجَازَةِ أَنَّ كِلَيْهِمَا
بِمَعْنَى الإِْمْضَاءِ وَالرِّضَا غَيْرَ أَنَّ الإِْجَازَةَ تَرِدُ عَلَى
الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ دُونَ النَّافِذِ وَالْبَاطِل.
ب - الصِّحَّةُ:
3 - الصِّحَّةُ: فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ وَاسْمٌ لِمَا يُقَابِلُهُ
الْمَرَضُ.
وَاصْطِلاَحًا: حَالَةٌ أَوْ مَلَكَةٌ بِهَا تَصْدُرُ الأَْفْعَال عَنْ
مَوْضِعِهَا سَلِيمَةً، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْفِعْل مُسْقِطًا
لِلْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ ثَمَرَاتِهِ
الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَبِإِزَائِهِ
الْبُطْلاَنُ (1) . .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّفَاذِ وَالصِّحَّةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
الْمُطْلَقُ، فَكُل نَافِذٍ صَحِيحٌ وَلاَ عَكْسُ.
أَحْكَامُ النَّفَاذِ:
4 - التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُرَتِّبُ الشَّارِعُ عَلَيْهَا آثَارًا،
مِنْهَا النَّافِذُ وَمِنْهَا غَيْرُ النَّافِذِ.
فَمِنْ صُوَرِ غَيْرِ النَّافِذِ: تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ،
وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَالسَّفِيهِ، وَالْوَكِيل فِي غَيْرِ مَا
__________
(1) الْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَلِسَان الْعَرَبِ،
وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي.
(40/382)
وُكِّل بِهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الرَّاهِنِ
الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَبَيْعُ
الْمُؤَجِّرِ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ،
وَبَيْعُ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ الْمُشَاعَةَ بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (عَقْد مَوْقُوف ف 6 - 24) .
وَمِنْ صُوَرِ غَيْرِ النَّافِذِ أَيْضًا قَضَاءُ الْقَاضِي وَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ هَل يُنَفَّذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَوْ
يُنَفَّذُ ظَاهِرًا فَقَطْ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاء ف 85) .
آثَارُ النَّفَاذِ:
5 - يَتَرَتَّبُ عَلَى نَفَاذِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا صِحَّتُهُ
وَإِفَادَتُهُ الْحُكْمَ فِي الْحَال، وَأَمَّا الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى
أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ
الإِْجَازَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ بَاطِلٌ وَلاَ يَصِحُّ
بِالإِْجَازَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد مَوْقُوف ف 5) .
(40/382)
|