الموسوعة
الفقهية الكويتية نِفَاسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النِّفَاسُ لُغَةً: وِلاَدَةُ الْمَرْأَةِ إِذَا وَضَعَتْ، وَتَنَفُّسُ
الرَّحِمِ بِالْوَلَدِ، فَهِيَ نُفَسَاءُ، وَالنَّفْسُ: الدَّمُ،
وَنُفِسَتِ الْمَرْأَةُ وَنَفِسَتْ - بِالْكَسْرِ - نَفَسًا وَنَفَاسَةً
وَنِفَاسًا وَهِيَ نُفَسَاءُ، وَنَفْسَاءُ، وَنَفَسَاءُ.
وَقَال ثَعْلَبٌ: النُّفَسَاءُ الْوَالِدَةُ وَالْحَامِل وَالْحَائِضُ،
وَالْجَمْعُ مِنْ كُل ذَلِكَ نُفَسَاوَاتٌ وَنِفَاسٌ وَنُفَاسٌ وَنُفَّسٌ
(1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: " أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ نُفِسَتْ
بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ " (2) أَيْ وَضَعَتْ، وَالْمَنْفُوسُ
الْمَوْلُودُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: " مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ
إِلاَّ
__________
(1) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَالْفَتَاوَى
الْهِنْدِيَّةُ 1 / 37، وَالإِْقْنَاعُ 1 / 82، وَكِفَايَةُ الطَّالِبِ
الرَّبَّانِيِّ 1 / 117.
(2) حَدِيثُ: " أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ نُفِسَتْ بِمُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2 / 869 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ)
مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
(41/5)
كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ " (1) . وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْوِلاَدَةِ،
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ:
بِأَنَّهُ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ لأَِجْل الْوِلاَدَةِ عَلَى
جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْعَادَةِ، بَعْدَهَا اتِّفَاقًا، أَوْ مَعَهَا عَلَى
قَوْل الأَْكْثَرِ، لاَ قَبْلَهَا عَلَى الرَّاجِحِ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ دَمٌ تُرْخِيهِ الرَّحِمُ مَعَ
الْوِلاَدَةِ وَقَبْلَهَا بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ مَعَ أَمَارَةٍ
كَوَجَعٍ وَبَعْدَهَا إِلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَيْضُ:
2 - الْحَيْضُ لُغَةً: مَصْدَرُ حَاضَ، يُقَال: حَاضَ السَّيْل إِذَا
فَاضَ، وَحَاضَتِ الْمَرْأَةُ: سَال دَمُهَا (3) .
وَاصْطِلاَحًا عُرِّفَ الْحَيْضُ بِتَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ، فَقَال
الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ دَمٌ يُلْقِيهِ رَحِمُ امْرَأَةٍ مُعْتَادٌ
__________
(1) حَدِيثُ: " مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ. . . ". أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ (فَتْحُ الْبَارِي 3 / 225 ط السَّلَفِيَّةِ) وَمُسْلِمٌ (4
/ 2039 ط الْحَلَبِيِّ) مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(2) فَتْحُ الْقَدِيرِ 1 / 164، وَالإِْقْنَاعُ 1 / 82، وَنِهَايَةُ
الْمُحْتَاجِ 1 / 305، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 108، وَرِسَالَةُ ابْنِ
أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيُّ 1 / 126، وَالدُّسُوقِيُّ 1 / 174،
وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 218.
(3) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ.
(41/5)
حَمْلُهَا، دُونَ وِلاَدَةٍ وَلاَ مَرَضٍ
أَوِ افْتِضَاضٍ وَلاَ زِيَادَةٍ عَلَى الأَْمَدِ، وَقَال غَيْرُهُمْ
نَحْوَ ذَلِكَ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَمٌ
يَخْرُجُ عَلَى جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْعَادَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي
الْحَيْضِ دَمُ جِبِلَّةٍ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى الرَّحِمِ بَعْدَ
الْبُلُوغِ، وَفِي النِّفَاسِ دَمٌ يَخْرُجُ عَقِبَ الْوِلاَدَةِ.
ب - الاِسْتِحَاضَةُ:
3 - الاِسْتِحَاضَةُ لُغَةً: أَنْ يَسْتَمِرَّ بِالْمَرْأَةِ خُرُوجُ
الدَّمِ بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الْمُعْتَادِ، يُقَال: اسْتَحَاضَتِ
الْمَرْأَةُ أَيِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِهَا، فَهِيَ
مُسْتَحَاضَةٌ (2) .
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: دَمٌ يَخْرُجُ مِنَ
الْفَرْجِ عَلَى وَجْهِ الْمَرَضِ (3) ، وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ
بِأَنَّهَا: الدَّمُ الْخَارِجُ - لِعِلَّةٍ - مِنْ عِرْقٍ مِنْ أَدْنَى
الرَّحِمِ يُقَال لَهُ: الْعَاذِل فِي غَيْرِ أَيَّامِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ
أَوْ أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّفَاسِ وَالاِسْتِحَاضَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يَخْرُجُ مِنَ الْمَرْأَةِ، إِلاَّ أَنَّ دَمَ الاِسْتِحَاضَةِ دَمُ
فَسَادٍ، وَدَمَ النِّفَاسِ دَمٌ صَحِيحٌ.
__________
(1) مَوَاهِبُ الْجَلِيل 1 / 364، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 1 / 167 -
168، وَالْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ ص 44.
(2) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ.
(3) الْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ ص 45، وَبِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ 1 / 51.
(4) الإِْقْنَاعُ 2 / 82، 83.
(41/6)
أَثَرُ النِّفَاسِ عَلَى الأَْهْلِيَّةِ:
4 - النِّفَاسُ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ، وَهُوَ لاَ يُسْقِطُ
أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلاَ أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ
وَالْعَقْل وَقُدْرَةِ الْبَدَنِ، إِلاَّ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ
الطَّهَارَةَ مِنْهُ شَرْطٌ لِلصَّلاَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ؛
لِكَوْنِهِ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ، وَلِلصَّوْمِ عَلَى خِلاَفِ
الْقِيَاسِ؛ لِتَأَدِّيهِ مَعَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ (1) .
4 مُدَّةُ النِّفَاسِ
مُدَّةُ النِّفَاسِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل مُدَّةِ النِّفَاسِ وَفِي أَكْثَرِهَا،
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ:
أ - أَقَل مُدَّةِ النِّفَاسِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِدْنَى
النِّفَاسِ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ رَأَتِ الطُّهْرَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ
(2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: فِي اعْتِبَارِ أَقَل النِّفَاسِ فِي انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ خِلاَفٌ، بِأَنْ قَال لَهَا زَوْجُهَا: إِذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ
طَالِقٌ، فَقَالَتْ: نَفِسْتُ ثُمَّ طَهُرْتُ، فَبِكَمْ تَصْدُقُ فِي
النِّفَاسِ؟ فَقَال
__________
(1) التَّلْوِيحُ عَلَى التَّوْضِيحِ 2 / 351، 352.
(2) فَتْحُ الْقَدِيرِ وَالْكِفَايَةُ 1 / 166، وَبَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1
/ 41، وَالْخُرَشِيُّ 1 / 210، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 / 174، 175،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 119، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 218، 219،
وَالْمُغْنِي 1 / 245، 247.
(41/6)
أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ الأَْقَل
بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُ
الأَْقَل بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَال مُحَمَّدٌ: تَصْدُقُ فِيمَا
ادَّعَتْ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً (1) .
وَقَال الْمُزَنِيُّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ -: أَقَل مُدَّةِ النِّفَاسِ
أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ (2) ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ
(3) .
ب - أَقْصَى مُدَّةِ النِّفَاسِ:
6 - لِلْفُقَهَاءِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ -
إِلَى أَنَّ أَقْصَى مُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَهُوَ
غَالِبُ مُدَّةِ النِّفَاسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال أَبُو عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ
النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إِلاَّ أَنْ تَرَى
الطُّهْرَ قَبْل ذَلِكَ فَتَغْتَسِل وَتُصَلِّي، وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ:
وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ النَّاسِ (4) .
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ وَالْكِفَايَةُ 1 / 166، وَبَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1
/ 41.
(2) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 / 174.
(3) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 219، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 119.
(4) فَتْحُ الْقَدِيرِ 1 / 166، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 218،
وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 345، 346.
(41/7)
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعَائِذِ بْنِ عَمْرٍو،
وَأَنَسٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ؛ لِمَا
رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: " كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ
عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا " (1) . وَمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا
سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ تَجْلِسُ
الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتْ؟ قَال: " تَجْلِسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلاَّ
أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْل ذَلِكَ " (2) ، فَإِنْ زَادَ دَمُ النِّفَاسِ
عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَصَادَفَ عَادَةَ الْحَيْضِ فَهُوَ حَيْضٌ،
وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَادَةً فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي
الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَعُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ حَكَاهَا ابْنُ عَقِيلٍ: إِلَى أَنَّ أَقْصَى
مُدَّةِ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ
الأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَال:
__________
(1) حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى
عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . أَخْرَجَهُ
أَبُو دَاوُدَ (1 / 217 ط حِمْصَ) ، وَالتِّرْمِذِيُّ (1 / 256 ط
الْحَلَبِيِّ) ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَقَال: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
(2) حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمْ تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتْ؟ . . . "
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (1 / 223 ط الْفَنِّيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ) ،
وَنَقَل الزَّيْلَعِيُّ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ (1 / 205) عَنِ ابْنِ
الْقَطَّانِ أَنَّهُ أَعَلَّهُ بِجَهَالَةِ الرَّاوِيَةِ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ.
(41/7)
عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَرَى النِّفَاسَ
شَهْرَيْنِ، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ وَجَدَهُ،
وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوُجُودِ (1) .
ابْتِدَاءُ النِّفَاسِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ بَعْدَ
انْفِصَال الْوَلَدِ نِفَاسٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّمِ الْخَارِجِ قَبْل الْوِلاَدَةِ لأَِجْلِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِل
ابْتِدَاءً أَوْ حَال وِلاَدَتِهَا قَبْل خُرُوجِ الْوَلَدِ اسْتِحَاضَةٌ
وَلَيْسَ بِنِفَاسٍ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
الأَْظْهَرِ: إِلَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِل قَبْل
الْوِلاَدَةِ لأَِجْلِهَا حَيْضٌ وَلَيْسَ بِنِفَاسٍ، وَلاَ تُحْسَبُ
مُدَّةُ النِّفَاسِ مِنْهُ، بَل مِنْ خُرُوجِ الْوَلَدِ وَانْفِصَالِهِ (3)
.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ النِّفَاسِ مِنْ خُرُوجِ
بَعْضِ الْوَلَدِ، وَالدَّمُ الَّذِي رَأَتْهُ
__________
(1) الْخُرَشِيُّ مَعَ حَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ 1 / 210، وَرَوْضَةُ
الطَّالِبِينَ 1 / 174، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 119، وَالْمُغْنِي
لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 345.
(2) فَتْحُ الْقَدِيرِ 1 / 164.
(3) الْخُرَشِيُّ مَعَ حَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ 1 / 206، وَرَوْضَةُ
الطَّالِبِينَ 1 / 174، 175، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 119.
(41/8)
قَبْل خُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ
بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَأَقَل بِأَمَارَةٍ كَوَجَعٍ - فَهُوَ نِفَاسٌ
كَالْخَارِجِ مَعَ الْوَلَدِ، وَلاَ يُحْسَبُ مَا قَبْل الْوِلاَدَةِ مِنْ
مُدَّةِ النِّفَاسِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَوْل الأَْكْثَرِ إِلَى أَنَّ مَا خَرَجَ
قَبْل الْوِلاَدَةِ لأَِجْلِهَا هُوَ دَمُ نِفَاسٍ (2) .
أَمَّا الدَّمُ الْخَارِجُ مَعَ الْوَلَدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِيهِ أَيْضًا:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ
أَنَّهُ نِفَاسٌ عَلَى قَوْل الأَْكْثَرِ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ (3) .
انْقِطَاعُ الدَّمِ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ:
انْقِطَاعُ الدَّمِ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ أَيْ قَبْل تَمَامِ
الأَْرْبَعِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ - إِمَّا أَنْ
يَنْقَطِعَ انْقِطَاعًا تَامًّا بِغَيْرِ عَوْدَةٍ، وَإِمَّا أَنْ
يَنْقَطِعَ ثُمَّ يَعُودَ، وَالتَّفْصِيل فِيمَا يَلِي:
الْحَالَةُ الأُْولَى: انْقِطَاعُ الدَّمِ انْقِطَاعًا تَامًّا بِغَيْرِ
عَوْدَةٍ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ إِذَا
__________
(1) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 218، 219، وَالْمُغْنِي 1 / 245 - 247.
(2) شَرْحُ الْخُرَشِيِّ 1 / 209.
(3) رَدُّ الْمُحْتَارِ 1 / 199، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 1 / 174،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 108، وَالإِْقْنَاعُ 1 / 240، وَكَشَّافُ
الْقِنَاعِ 1 / 219.
(41/8)
انْقَطَعَ دَمُهَا قَبْل الأَْرْبَعِينَ
انْقِطَاعًا تَامًّا طَهُرَتْ، وَاغْتَسَلَتْ، وَصَلَّتْ (1) .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ
تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتْ؟ قَال: " تَجْلِسُ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا إِلاَّ أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْل ذَلِكَ " (2) .
كَمَا عَلَّلُوا هَذَا الْحُكْمَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى
الظَّاهِرِ؛ لأَِنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ مَوْهُومٌ، فَلاَ يُتْرَكُ
الْمَعْلُومُ بِالْمَوْهُومِ (3) .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ (4) كَرِهُوا وَطْأَهَا قَبْل الأَْرْبَعِينَ
بَعْدَ التَّطْهِيرِ، قَال أَحْمَدُ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْتِيَهَا
زَوْجُهَا، عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهَا أَتَتْهُ
قَبْل الأَْرْبَعِينَ، فَقَال: لاَ تَقْرَبِينِي، (5) ، وَلأَِنَّهُ لاَ
يُؤْمَنُ عَوْدُ الدَّمِ فِي زَمَنِ الْوَطْءِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ: أَنَّ أَكْثَرَ
الْفُقَهَاءِ لاَ يَكْرَهُ وَطْأَهَا (6) .
__________
(1) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1 / 172، وَالْخُرَشِيُّ 1 / 210، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاجِ 1 / 119، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 219، 220.
(2) حَدِيثُ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ: كَمْ تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتْ؟
سَبَقَ تَخْرِيجُهُ ف 6
(3) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1 / 172.
(4) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 220.
(5) الأَْثَرُ: انْظُرِ: الْمُصَنَّفَ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ 1 / 313،
وَسُنَنَ الدَّارَقُطْنِيِّ 1 / 220.
(6) الاِنْتِصَارُ فِي الْمَسَائِل الْكِبَارِ لأَِبِي الْخَطَّابِ
الْكَلْوَذَانِيِّ 1 / 602 ط الْعُبَيْكَانِ.
(41/9)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أَكْثَرَ دَمِ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا،
فَإِذَا انْقَطَعَ قَبْل تَمَامِ السِّتِّينَ انْقِطَاعًا تَامًّا بِغَيْرِ
عَوْدَةٍ طَهُرَتْ وَاغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: انْقِطَاعُ الدَّمِ ثُمَّ عَوْدَتُهُ فِي مُدَّةِ
النِّفَاسِ:
9 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ
إِذَا انْقَطَعَ دَمُ النِّفَاسِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ تَمَّ
طُهْرُهَا، وَمَا نَزَل بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ حَيْضٌ (2) .
أَمَّا إِذَا نَقَصَتْ مُدَّةُ الاِنْقِطَاعِ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
أَوْ زَادَتْ فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّل
بَيْنَ الأَْرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ لاَ يَفْصِل، سَوَاءٌ كَانَ خَمْسَةَ
عَشَرَ أَوْ أَقَل أَوْ أَكَثَرَ، وَيَجْعَل إِحَاطَةَ الدَّمَيْنِ
بِطَرَفَيْهِ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَعِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَمْسَةَ عَشَرَ تَفْصِل، فَلَوْ رَأَتْ
بَعْدَ الْوِلاَدَةِ يَوْمًا دَمًا، وَثَمَانِيَةً وَثَلاَثِينَ طُهْرًا،
وَيَوْمًا دَمًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الأَْرْبَعُونَ نِفَاسٌ،
وَعِنْدَهُمَا الدَّمُ الأَْوَّل هُوَ النِّفَاسُ (3) .
__________
(1) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 1 / 175، وَالشَّرْحُ الصَّغِيرُ 1 / 314 ط
الْحَلَبِيِّ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 110، 120.
(2) الشَّرْحُ الصَّغِيرُ 1 / 170، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ 1 / 193،
وَالْمُهَذَّبُ مَعَ الْمَجْمُوعِ 1 / 527، 528.
(3) رَدُّ الْمُحْتَارِ 1 / 193، وَتَبْيِينُ الْحَقَائِقِ
لِلْزَّيْلَعِيِّ 1 / 60 ط دَارِ الْكِتَابِ الإِْسْلاَمِيِّ، وَفَتْحُ
الْقَدِيرِ 1 / 166.
(41/9)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
إِذَا انْقَطَعَ دَمُ النِّفَاسِ قَبْل طُهْرٍ تَامٍّ تَلْفِقُ مِنْ
أَيَّامِ الدَّمِ سِتِّينَ يَوْمًا، وَتُلْغِي أَيَّامَ الاِنْقِطَاعِ،
وَتَغْتَسِل كُلَّمَا انْقَطَعَ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُوطَأُ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا إِذَا رَأَتِ
النَّقَاءَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا ثُمَّ عَادَ الدَّمُ فَهُوَ
نِفَاسٌ، كَمَا لَوْ تَخَلَّل بَيْنَهُمَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ
لِوُقُوعِهِ فِي زَمَنِ الإِْمْكَانِ.
وَفِي النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ،
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طُهْرٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ نِفَاسٌ، وَهَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ (2) .
أَمَّا إِذَا لَمْ تَبْلُغْ مُدَّةُ النَّقَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا:
فَإِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ التَّقَطُّعُ سِتِّينَ يَوْمًا، أَوْ لاَ،
فَإِذَا لَمْ يَتَجَاوَزْهَا نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مُدَّةُ
النَّقَاءِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَل الطُّهْرِ بِأَنْ رَأَتْ يَوْمًا
دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً، فَأَزْمِنَةُ الدَّمِ نِفَاسٌ قَطْعًا، وَفِي
النَّقَاءِ الْقَوْلاَنِ - كَالْحَيْضِ (3) .
الأَْوَّل: أَنَّهُ نِفَاسٌ، وَيُسَمَّى قَوْل السَّحْبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقَاءَ طُهْرٌ؛ لأَِنَّ الدَّمَ إِذَا دَل عَلَى
النِّفَاسِ وَجَبَ أَنْ يَدُل النَّقَاءُ عَلَى الطُّهْرِ، وَهُوَ مَا
يُسَمَّى بِقَوْل اللَّقْطِ، وَقَوْل التَّلْفِيقِ (4) .
__________
(1) الْخُرَشِيُّ 1 / 210.
(2) الْمَجْمُوعُ 2 / 528.
(3) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 / 178.
(4) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 119 بِتَصَرُّفٍ.
(41/10)
وَإِنْ جَاوَزَ التَّقَطُّعُ سِتِّينَ
يَوْمًا: فَإِمَّا أَنْ يَبْلُغَ النَّقَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَمْ
لاَ، فَإِنْ بَلَغَ زَمَنُ النَّقَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ
جَاوَزَ الْعَائِدَ فَالْعَائِدُ حَيْضٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَالنَّقَاءُ
قَبْلَهُ طُهْرٌ.
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ النَّقَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهِيَ
مُسْتَحَاضَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى التَّمْيِيزِ،
وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدِأَةً فَهَل تُرَدُّ إِلَى أَقَل النِّفَاسِ أَمْ
غَالِبِهِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً رُدَّتْ إِلَى
الْعَادَةِ، وَفِي الأَْحْوَال كُلِّهَا يُرَاعَى التَّلْفِيقُ، فَإِنْ
سَحَبْنَا فَالدِّمَاءُ فِي أَيَّامِ الْمَرَدِّ مَعَ النَّقَاءِ
الْمُتَخَلِّل نِفَاسٌ، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَلاَ يَخْفَى حُكْمُهُ، وَهَل
يُلَفَّقُ مِنَ الْعَادَةِ أَمْ مِنْ مُدَّةِ الإِْمْكَانِ وَهِيَ
السِّتُّونَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي فَصْل التَّلْفِيقِ (1)
.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ عَوْدَةَ الدَّمِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ فِي
مُدَّةِ الأَْرْبَعِينَ مَشْكُوكٌ فِي كَوْنِهِ دَمَ نِفَاسٍ أَوْ دَمَ
فَسَادٍ؛ لأَِنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ الأَْمَارَتَانِ، كَمَا إِذَا لَمْ
تَرَ الدَّمَ مَعَ الْوِلاَدَةِ ثُمَّ رَأَتْهُ فِي الْمُدَّةِ، أَيْ فِي
الأَْرْبَعِينَ، فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، فَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَتَقْضِي صَوْمَ
الْفَرْضِ، وَلاَ يَأْتِيهَا فِي الْفَرْجِ زَمَنَ هَذَا الدَّمِ (2) .
مُجَاوَزَةُ الدَّمِ أَكْثَرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ:
10 - لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ الدَّمِ الَّذِي يَزِيدُ عَلَى
مُدَّةِ النِّفَاسِ:
__________
(1) الْمَرْجِعُ السَّابِقُ نَفْسُهُ.
(2) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 220.
(41/10)
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ التَّفْرِقَةَ
بَيْنَ الْمُبْتَدِأَةِ بِالْحَبَل، وَبَيْنَ مَنْ لَهَا عَادَةٌ فِي
النِّفَاسِ:
فَأَمَّا الْمُبْتَدِأَةُ بِالْحَبَل - وَهِيَ الَّتِي حَبِلَتْ مِنْ
زَوْجِهَا قَبْل أَنْ تَحِيضَ - إِذَا وَلَدَتْ فَرَأَتِ الدَّمَ زِيَادَةً
عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ؛ لأَِنَّ الأَْرْبَعِينَ
لِلنُّفَسَاءِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ عَلَى
الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ، فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَى
الأَْرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ.
وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ إِذَا رَأَتْ زِيَادَةً
عَلَى عَادَتِهَا: فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَالزِّيَادَةُ
اسْتِحَاضَةٌ؛ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الأَْرْبَعِينَ فَمَا
زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا إِلَى الأَْرْبَعِينَ، فَإِنْ زَادَ عَلَى
الأَْرْبَعِينَ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا، فَتَكُونُ عَادَتُهَا نِفَاسًا،
وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّ دَمَ النِّفَاسِ إِنْ زَادَ
عَنِ السِّتِّينَ يَوْمًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ
لَهَا عَادَةٌ فِي الزِّيَادَةِ، خِلاَفًا لِمَا فِي الإِْرْشَادِ،
فَإِنَّهَا تُعَوِّل عَلَى عَادَتِهِ (2) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ: إِذَا عَبَرَ
دَمُ النُّفَسَاءِ السِّتِّينَ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ
كَالْحَيْضِ إِذَا عَبَرَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فِي الرَّدِّ إِلَى
التَّمْيِيزِ إِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً أَوِ الْعَادَةِ إِنْ كَانَتْ
مُعْتَادَةً غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ، أَوِ الأَْقَل أَوِ الْغَالِبِ إِنْ
__________
(1) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1 / 42، 43.
(2) الْخُرَشِيُّ 1 / 210.
(41/11)
كَانَتْ مُبْتَدِأَةً غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ،
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي - حَكَاهُ الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ،
وَالْمُتَوَلِّي، وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ وَآخَرُونَ مِنَ
الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ - أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ
ثَلاَثَةَ أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا بِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ كَالطَّرِيقِ الأَْوَّل.
وَالثَّانِي: أَنَّ السِّتِّينَ كُلَّهَا نِفَاسٌ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ
اسْتِحَاضَةٌ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي الْمِفْتَاحِ
وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْهُ، قَال
الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيْضِ بِأَنَّ الْحَيْضَ مَحْكُومٌ بِهِ
مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ وَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِل
عَنْهُ إِلَى ظَاهِرٍ آخَرَ، وَالنِّفَاسُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَلاَ يَنْتَقِل
عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الأَْكْثَرِ،
قَال الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْقَائِل يَجْعَل الزَّائِدَ اسْتِحَاضَةً
إِلَى تَمَامِ طُهْرِهَا الْمُعْتَادِ إِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً أَوِ
الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ مُبْتَدِأَةً ثُمَّ مَا بَعْدَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السِّتِّينَ نِفَاسٌ، وَالَّذِي بَعْدَهُ
حَيْضٌ عَلَى الاِتِّصَال بِهِ؛ لأَِنَّهُمَا دَمَانِ مُخْتَلِفَانِ،
فَجَازَ أَنْ يَتَّصِل أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ (1) .
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 2 / 530.
(41/11)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ جَاوَزَ
الدَّمُ الأَْرْبَعِينَ وَصَادَفَ عَادَةَ حَيْضِهَا وَلَمْ يَزِدْ عَنْ
عَادَتِهَا فَالْمُجَاوِزُ حَيْضٌ؛ لأَِنَّهُ فِي عَادَتِهَا أَشْبَهُ مَا
لَوْ لَمْ يَتَّصِل بِنِفَاسٍ، أَوْ زَادَ الدَّمُ عَنِ الْعَادَةِ
وَتَكَرَّرَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يُجَاوِزْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ
فَهُوَ حَيْضٌ؛ لأَِنَّهُ دَمٌ مُتَكَرِّرٌ صَالِحٌ لِلْحَيْضِ، أَشْبَهَ
مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ نِفَاسٌ.
وَإِلاَّ بِأَنْ زَادَ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ، أَوْ جَاوَزَ أَكْثَرَ
الْحَيْضِ وَتَكَرَّرَ أَوَّلاً، أَوْ لَمْ يُصَادِفْ عَادَةَ حَيْضٍ
فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ إِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ
حَيْضًا وَلاَ نِفَاسًا، فَإِنْ تَكَرَّرَ وَصَلَحَ حَيْضًا فَحَيْضٌ،
وَعِنْدَهُمْ لاَ تَدْخُل اسْتِحَاضَةٌ فِي مُدَّةِ نِفَاسٍ، كَمَا لاَ
تَدْخُل فِي مُدَّةِ حَيْضٍ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلأَْقْوَى (1) .
النِّفَاسُ فِي وِلاَدَةِ التَّوْأَمَيْنِ:
11 - التَّوْأَمَانِ: هُمَا الْوَلَدَانِ اللَّذَانِ بَيْنَ وِلاَدَتِهِمَا
أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ تَجَاوَزَ مَا بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَهُمَا حَمْلاَنِ وَنِفَاسَانِ بِلاَ خِلاَفٍ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ بِدَايَةِ النِّفَاسِ فِي
وِلاَدَةِ التَّوْأَمَيْنِ - إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَل مِنْ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ - وَفِي حُكْمِ الدَّمِ النَّازِل بَيْنَهُمَا، وَالدَّمِ
النَّازِل بَعْدَ الثَّانِي، إِلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
__________
(1) شَرْحُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ 1 / 116.
(2) الْمَجْمُوعُ 2 / 526.
(41/12)
12 - الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّ
نِفَاسَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مَا خَرَجَ عَقِبَ الْوَلَدِ الأَْوَّل، وَهُوَ
رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَوَجْهٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِلْقَائِلِينَ بِذَلِكَ
تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: بِنَاءً عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّ نِفَاسَهَا مِنَ الْوَلَدِ الأَْوَّل؛ وَذَلِكَ
لأَِنَّهُمَا تَوْأَمَانِ، وَدَمُ النِّفَاسِ وَهُوَ الْفَاضِل عَنْ
غِذَاءِ الْوَلَدِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ الْمَمْنُوعِ خُرُوجُهُ
بِانْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ بِالْحَبَل، وَبِالْوَلَدِ الأَْوَّل ظَهَرَ
انْفِتَاحُهُ، فَظَهَرَ أَنَّ الْخَارِجَ هُوَ ذَاكَ الَّذِي كَانَ
مَمْنُوعًا، وَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ يَنْتَهِي
بِأَرْبَعِينَ، حَتَّى لَوْ زَادَ اسْتِمْرَارُ الدَّمِ عَلَيْهَا فِي
الْوَلَدِ الْوَاحِدِ حُكِمَ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ
أَنَّ الْخَارِجَ بَعْدَ الثَّانِي بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ غَيْرُ ذَلِكَ،
وَأَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ (1) .
كَمَا بَيَّنُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا عِشْرِينَ فَرَأَتْ
بَعْدَ الأَْوَّل عِشْرِينَ، وَبَعْدَ الثَّانِي أَحَدًا وَعِشْرِينَ،
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: الْعِشْرُونَ الأُْولَى
نِفَاسٌ، وَمَا بَعْدَ الْوَلَدِ الثَّانِي اسْتِحَاضَةٌ.
كَمَا قَالُوا: إِنَّهُ لَوْ وَلَدَتْ ثَلاَثَةَ أَوْلاَدٍ، بَيْنَ
الأَْوَّل وَالثَّانِي أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا بَيْنَ
الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَكِنْ بَيْنَ الأَْوَّل وَالثَّالِثِ أَكْثَرُ
مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْعَل حَمْلاً وَاحِدًا (2)
.
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 1 / 167.
(2) الْبَحْرُ الرَّائِقُ 1 / 231.
(41/12)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَبْدَأُ
النِّفَاسُ مِنَ الأَْوَّل إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَل مِنْ سِتِّينَ
يَوْمًا، فَتَبْنِي بَعْدَ وَضْعِ الثَّانِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ
الأَْوَّل. هَذَا إِذَا لَمْ يَحْصُل لَهَا نَقَاءٌ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، فَإِنْ حَصَل لَهَا نَقَاءٌ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ، فَإِنَّهَا
تَسْتَأْنِفُ لَهُ نِفَاسًا لاِنْقِطَاعِ حُكْمِ النِّفَاسُ بِمُضِيِّ
الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتُّونَ فَأَكْثَرَ فَنِفَاسَانِ.
وَتَقَطُّعُ دَمِ النِّفَاسِ قَبْل طُهْرٍ تَامٍّ كَتَقَطُّعِ دَمِ
الْحَيْضِ، فَتُلَفِّقُ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ سِتِّينَ يَوْمًا وَتُلْغِي
أَيَّامَ الاِنْقِطَاعِ، وَتَغْتَسِل كُلَّمَا انْقَطَعَ، وَتَصُومُ
وَتُصَلِّي وَتُوطَأُ.
وَمَحَل التَّلْفِيقِ مَا لَمْ يَأْتِ الدَّمُ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ
وَإِلاَّ كَانَ حَيْضًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُعْتَبَرُ النِّفَاسُ مِنَ الْوَلَدِ الأَْوَّل؛
لأَِنَّهُ دَمٌ يَعْقُبُ الْوِلاَدَةَ فَاعْتُبِرَتِ الْمُدَّةُ مِنْهُ
كَمَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
أَنَّهُمَا - الدَّمَيْنِ - نِفَاسٌ وَاحِدٌ، ابْتِدَاؤُهُ مِنْ خُرُوجِ
الْوَلَدِ الأَْوَّل، فَإِنْ زَادَ مَجْمُوعُهُمَا عَلَى سِتِّينَ يَوْمًا
فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَإِنْ وَضَعَتِ الثَّانِيَ بَعْدَ مُضِيِّ سِتِّينَ
يَوْمًا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَإِنْ وَضَعَتِ الثَّانِيَ بَعْدَ مُضِيِّ
سِتِّينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ وَضَعَتِ الأَْوَّل، قَال جَمَاعَةٌ: كَانَ
مَا رَأَتْهُ بَعْدَ الثَّانِي دَمَ فَسَادٍ، وَلَيْسَ بِنِفَاسٍ (2) .
__________
(1) حَاشِيَةُ الْخُرَشِيُّ 1 / 210.
(2) الْمَجْمُوعُ 2 / 526.
(41/13)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَلَدَتْ
تَوْأَمَيْنِ فَأَكْثَرَ فَأَوَّل النِّفَاسِ وَآخِرُهُ مِنِ ابْتِدَاءِ
خُرُوجِ بَعْضِ الأَْوَّل فِي الْمَذْهَبِ كَمَا قَال الْمِرْدَاوِيُّ،
لأَِنَّهُ دَمٌ خَرَجَ عَقِبَ الْوِلاَدَةِ، فَكَانَ نِفَاسًا وَاحِدًا
كَحَمْلٍ وَاحِدٍ وَوَضْعِهِ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ
فَأَكْثَرَ فَلاَ نِفَاسَ لِلثَّانِي نَصًّا؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ
تَبَعٌ لِلأَْوَّل، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي آخِرِ النِّفَاسِ كَأَوَّلِهِ،
بَل مَا خَرَجَ مَعَ الْوَلَدِ الثَّانِي بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ مِنَ
الأَْوَّل دَمُ فَسَادٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ حَيْضًا وَلاَ نِفَاسًا
(1) .
13 - الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّ النِّفَاسَ يَبْدَأُ مِنَ الْوَلَدِ
الأَْخِيرِ:
وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَصَحُّ
الأَْوْجُهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ،
فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الأَْخِيرِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا
لأَِنَّهَا بَعْدُ حُبْلَى، وَكَمَا لاَ يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ
الْحَمْل بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْل، لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ
مِنَ الْحُبْلَى؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ، وَلأَِنَّ
النِّفَاسَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ
عَلَى الْكَمَال إِلاَّ بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي، فَكَانَ
الْمَوْجُودُ قَبْل وَضْعِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ،
فَلاَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ
__________
(1) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 220، وَالإِْنْصَافُ 1 / 386.
(2) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1 / 43، وَالْمَجْمُوعُ 2 / 526، وَالْمُغْنِي
1 / 350، وَالإِْنْصَافُ 1 / 386.
(41/13)
عَنْهَا بِالشَّكِّ، كَمَا إِذَا وَلَدَتْ
وَلَدًا وَاحِدًا وَخَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ (1) .
وَأَضَافَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا
عِشْرِينَ، فَرَأَتْ بَعْدَ الأَْوَّل عِشْرِينَ، وَبَعْدَ الثَّانِي
وَاحِدًا وَعِشْرِينَ - أَنَّ الْعِشْرِينَ الأُْولَى تَكُونُ اسْتِحَاضَةً
تَصُومُ وَتُصَلِّي مَعَهَا، وَمَا بَعْدَ الثَّانِي نِفَاسٌ (2) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ: يُعْتَبَرُ
النِّفَاسُ مِنَ الْوَلَدِ الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ مَعَهَا حَمْلٌ
فَالدَّمُ لَيْسَ بِنِفَاسٍ كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ قَبْل الْوِلاَدَةِ،
قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الأَْوْجُهِ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ، وَأَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْبَغَوِيِّ،
وَالرُّويَانِيِّ، وَصَاحِبِ الْعُدَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ
الْخُرَاسَانِيِّينَ.
وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ فِي حُكْمِ الدَّمِ الَّذِي
بَيْنَهُمَا ثَلاَثَةَ طُرُقٍ أَصَحُّهَا - وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ -: فِيهِ الْقَوْلاَنِ فِي دَمِ الْحَامِل
أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ حَيْضٌ. وَالثَّانِي: دَمُ فَسَادٍ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ كَالَّذِي
تَرَاهُ فِي مَبَادِئِ خُرُوجِ الْوَلَدِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ.
وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ؛ لأَِنَّهُ بِخُرُوجِ الأَْوَّل
انْفَتَحَ بَابُ الرَّحِمِ، فَخَرَجَ الْحَيْضُ، بِخِلاَفِ مَا قَبْلَهُ
فَإِنَّهُ مُنْسَدٌّ، وَقَال الرَّافِعِيُّ:
__________
(1) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1 / 43.
(2) الْبَحْرُ الرَّائِقُ 1 / 231.
(41/14)
قَال الأَْكْثَرُونَ: إِنْ قُلْنَا: دَمُ
الْحَامِل حَيْضٌ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلاَّ فَقَوْلاَنِ (1) .
14 - الرَّأْيُ الثَّالِثُ: يَرَى أَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ تَبْدَأُ مِنَ
الأَْوَّل، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْمُدَّةُ مِنَ الثَّانِي، وَهُوَ وَجْهٌ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمُدَّةَ تُعْتَبَرُ مِنَ
الْوَلَدِ الأَْوَّل ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا
نِفَاسَانِ يُعْتَبَرُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، وَلاَ
يُبَالِي بِزِيَادَةِ مَجْمُوعِهِمَا عَلَى سِتِّينَ حَتَّى لَوْ رَأَتْ
بَعْدَ الأَْوَّل يَوْمًا دَمًا، وَبَعْدَ الثَّانِي سِتِّينَ - كَانَا
نِفَاسَيْنِ كَامِلَيْنِ.
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ أَوْلاَدًا فِي بَطْنٍ
وَرَأَتْ عَلَى إِثْرِ كُل وَاحِدٍ سِتِّينَ فَالْجَمِيعُ نِفَاسٌ، وَلِكُل
وَاحِدٍ حُكْمُ نِفَاسٍ مُسْتَقِلٍّ لاَ يَتَعَلَّقُ حُكْمُ بَعْضِهَا
بِبَعْضٍ (2) .
حُكْمُ السَّقْطِ فِي النِّفَاسِ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ: إِلَى أَنَّ السَّقْطَ الَّذِي اسْتَبَانَ
بَعْضُ خَلْقِهِ كَأُصْبُعٍ وَغَيْرِهِ وُلِدَ - تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ
نُفَسَاءَ؛ لأَِنَّهُ بَدْءُ خَلْقِ آدَمِيٍّ، وَتَصِيرُ الأَْمَةُ أُمَّ
وَلَدٍ بِهِ إِنِ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ
بِهِ (3) .
__________
(1) الْمَجْمُوعُ 2 / 526.
(2) الْمَجْمُوعُ 2 / 526 - 527، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 / 176.
(3) فَتْحُ الْقَدِيرِ 1 / 165، ط إِحْيَاءِ التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ -
بَيْرُوتَ، وَالْخُرَشِيُّ 4 / 143، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 / 174،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 389، وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 249.
(41/14)
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ
مِنْ خَلْقِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَلْقَتْ
مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً خَفِيَتْ عَلَى غَيْرِ الْقَوَابِل، وَقَال
الْقَوَابِل: إِنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ - فَالدَّمُ الْمَوْجُودُ
بَعْدَهُ نِفَاسٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَلْقَتْ دَمًا اجْتَمَعَ لاَ يَذُوبُ
بِصَبِّ الْمَاءِ الْحَارِّ عَلَيْهِ، تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَمَا
بَعْدَهُ نِفَاسٌ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ إِنْ
لَمْ يَسْتَبِنْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ فَلاَ نِفَاسَ لَهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَثْبُتُ حُكْمُ النِّفَاسِ بِوَضْعِ مَا
يَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلْقُ الإِْنْسَانِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ،
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَلَوْ وَضَعَتْ عَلَقَةً، أَوْ مُضْغَةً لاَ
تَخْطِيطَ فِيهَا - لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ حُكْمُ النِّفَاسِ، نَصَّ
عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَالْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ
وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ تَمِيمٍ وَالْفَائِقُ.
وَعَنْهُ يَثْبُتُ - أَيْ حُكْمُ النِّفَاسِ - بِمُضْغَةٍ، وَعَنْهُ:
وَعَلَقَةٍ.
وَقِيل: يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ النُّفَسَاءِ إِذَا وَضَعَتْهُ لأَِرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ (3) .
__________
(1) الْخُرَشِيُّ 4 / 143، وَالدُّسُوقِيُّ 2 / 474، وَرَوْضَةُ
الطَّالِبِينَ 1 / 174، وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ.
(2) الْعِنَايَةُ بِهَامِشِ فَتْحِ الْقَدِيرِ 1 / 165.
(3) الإِْنْصَافُ 1 / 383، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 219.
(41/15)
وُجُوبُ الْغُسْل عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِ
النِّفَاسِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ
بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِ النِّفَاسِ، وَدَلِيل وُجُوبِ الْغُسْل مِنْهُ
الإِْجْمَاعُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ
عَلَى وُجُوبِهِ (1) .
17 - وَإِذَا عَرِيَتِ الْوِلاَدَةُ أَوْ خَلَتْ عَنْ دَمٍ، بِأَنْ خَرَجَ
الْوَلَدُ جَافًّا - فَهِيَ طَاهِرٌ لاَ نِفَاسَ لَهَا؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ
هُوَ الدَّمُ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَفِي وُجُوبِ الْغُسْل وَعَدَمِهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَرَى عَدَمَ وُجُوبِ الْغُسْل، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ
الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلاَ هُوَ
فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلاَ يَبْطُل الصَّوْمُ بِالْوِلاَدَةِ
الْعَارِيَةِ عَنْ دَمٍ، وَلاَ يَحْرُمُ الْوَطْءُ.
وَلأَِنَّ الْوُجُوبَ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِالْغُسْل هَاهُنَا،
وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ وَلاَ
مَنِيٍّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، إِلاَّ
أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ نَدْبَ الْغُسْل.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجِبُ الْغُسْل، ذَهَبَ إِلَى هَذَا
الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 1 / 165، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 1 / 130،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 69، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 / 81،
وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 210.
(41/15)
الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا مَظِنَّةٌ
لِلنِّفَاسِ الْمُوجِبِ فَقَامَتْ مَقَامَهُ فِي الإِْيجَابِ كَالْتِقَاءِ
الْخِتَانَيْنِ، وَلأَِنَّهَا يَسْتَبْرِئُ بِهَا الرَّحِمُ فَأَشْبَهَتِ
الْحَيْضَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ
تَرَ دَمًا لاَ تَكُونُ نُفَسَاءَ فِي الصَّحِيحِ، وَلاَ يَلْزَمُهَا
إِلاَّ الْوُضُوءُ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَيَلْزَمُهَا الْغُسْل
احْتِيَاطًا عِنْدَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَدَةَ لاَ تَخْلُو ظَاهِرًا
عَنْ قَلِيل دَمٍ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَلْقَتِ الْحَامِل وَلَدًا
أَوْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً وَلَمْ تَرَ دَمًا وَلاَ بَلَلاً لَزِمَهَا
الْغُسْل عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو عَنْ بَلَلٍ غَالِبًا،
فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَالنَّوْمِ مَعَ الْخَارِجِ، وَتَفْطُرُ بِهِ
الْمَرْأَةُ عَلَى الأَْصَحِّ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ
لاَ تُوجِبُ الْغُسْل بِلاَ نِزَاعٍ (3) .
الْوِلاَدَةُ بِجُرْحٍ فِي الْبَطْنِ:
18 - لَمَّا كَانَ النِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ
عَقِبَ الْوِلاَدَةِ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا
وَلَدَتْ مِنْ سُرَّتِهَا - مَثَلاً - وَسَال مِنْهَا دَمٌ لاَ تَكُونُ
نُفَسَاءَ، بَل هِيَ صَاحِبَةُ جُرْحٍ مَا لَمْ
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 1 / 164، وَمَرَاقِي الْفَلاَحِ مَعَ حَاشِيَةِ
الطَّحْطَاوِيِّ ص 75.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 69، وَالْمَجْمُوعُ 2 / 523، وَالإِْقْنَاعُ
1 / 261، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 / 81.
(3) الإِْنْصَافُ 1 / 242.
(41/16)
يَسِل مِنْ فَرْجِهَا، لَكِنْ يَتَعَلَّقُ
بِالْوَلَدِ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوِلاَدَةِ (1) .
خُرُوجُ بَعْضِ الْوَلَدِ ثُمَّ رُجُوعُهُ:
19 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ
ثُمَّ رَجَعَ لاَ يُجِبُ الْغُسْل وَيَجِبُ الْوُضُوءُ (2) .
مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ عَلَى النُّفَسَاءِ:
20 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ (3) بِأَنَّ حُكْمَ النُّفَسَاءِ حُكْمُ
الْحَائِضِ فِي حِل مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهَا.
وَذَلِكَ لأَِنَّ دَمَ النِّفَاسِ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ، إِنَّمَا امْتَنَعَ
خُرُوجُهُ مُدَّةَ الْحَمْل لِكَوْنِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى غِذَاءِ الْحَمْل.
فَيَحْرُمُ عَلَى النُّفَسَاءِ الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَتَقْضِي الصَّوْمَ
وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ.
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 3) ، وَمُصْطَلَحِ
(قَضَاءُ الْفَوَائِتِ ف 6) .
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالنُّفَسَاءِ،
مِنْهَا:
- حُكْمُ قِرَاءَةِ النُّفَسَاءِ الْقُرْآنَ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ ف 6) .
-
__________
(1) حَاشِيَةُ الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَحِ ص 75.
(2) تُحْفَةُ الْحَبِيبِ 1 / 205.
(3) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 1 / 44، وَالْخُرَشِيُّ 1 / 209، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاجِ 1 / 120، وَالْمُغْنِي 1 / 350، وَنِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ 1 /
339.
(41/16)
- حُكْمُ مَسِّهَا الْمُصْحَفَ - انْظُرْ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ ف 3 - 9) .
- حُكْمُ دُخُولِهَا الْمَسْجِدَ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(مَسْجِدٌ ف 35) .
- حُكْمُ طَوَافِهَا الْبَيْتَ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(طَوَافٌ 22) .
- حُكْمُ قُرْبَانِ النُّفَسَاءِ فِي حَالَةِ النِّفَاسِ - انْطُرْ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غُسْلٌ ف 18 - 19) .
- قَطْعُ النِّفَاسِ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ
الْمُعَيَّنِ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ ف 110)
، وَمُصْطَلَحِ (نَذْرٌ ف 34 - 35) .
- حُكْمُ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ عَلَى النُّفَسَاءِ - انْظُرْ تَفْصِيل
ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَقٌ ف 40) .
- وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ النِّفَاسِ عَنِ الْحَيْضِ فِي مَسَائِل - انْظُرْ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 50) .
(41/17)
نِفَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النِّفَاقُ لُغَةً: مَصْدَرُ نَافَقَ، يُقَال: نَافَقَ الْيَرْبُوعُ
إِذَا دَخَل فِي نَافِقَائِهِ، وَمِنْهُ قِيل: نَافَقَ الرَّجُل: إِذَا
أَظْهَرَ الإِْسْلاَمَ لأَِهْلِهِ وَأَضْمَرَ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ
وَأَتَاهُ مَعَ أَهْلِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنِّفَاقُ اسْمٌ مِنَ الأَْسْمَاءِ
الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّرْعُ، لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً
بِمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ هَذَا قَبْل الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ الَّذِي
يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِسْلاَمَهُ (2) .
عَلَى أَنَّ النِّفَاقَ يُطْلَقُ تَجَوُّزًا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ خَصْلَةً
مِنْ خِصَال النِّفَاقِ الآْتِي ذِكْرُهَا، كَالْكَذِبِ وَإِخْلاَفِ
الْوَعْدِ، أَوْ يُقَال: هَذَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ، وَلَيْسَ اعْتِقَادِيًّا
حَقِيقِيًّا (3) .
__________
(1) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ.
(2) لِسَانُ الْعَرَبِ.
(3) الصَّارِمُ الْمَسْلُول عَلَى شَاتِمِ الرَّسُول لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص
35 - 36. بَيْرُوتُ، الْمَكْتَبُ الإِْسْلاَمِيُّ 1414هـ.
(41/17)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكُفْرُ:
2 - الْكُفْرُ لُغَةً هُوَ: السَّتْرُ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ
(1) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
ب - التَّقِيَّةُ:
3 - التَّقِيَّةُ وَالتُّقَاةُ اسْمَا مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الاِتِّقَاءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال السَّرَخْسِيُّ: التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ
الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلاَفَهُ
(2) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ التَّقِيَّةِ وَالنِّفَاقِ فِيهِمَا
إِظْهَارُ خِلاَفِ مَا يُبْطِنُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَقِيَّةٌ ف 1، 4) .
ج - الرِّيَاءُ:
4 - أَصْل الرِّيَاءِ الرِّئَاءُ، مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي. وَالرِّيَاءُ
شَرْعًا: الْمُرَاءَاةُ، أَيْ أَنْ يَقْصِدَ الإِْنْسَانُ بِأَقْوَالِهِ
أَوْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِيَظُنُّوهُ
مُؤْمِنًا، أَوْ يَسْتَحْسِنُوا فِعْلَهُ (3) .
__________
(1) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمَنْثُورُ 3 / 84.
(2) الْمَبْسُوطُ لِلسَّرَخْسِيِّ 24 / 45 بَيْرُوتُ - دَارُ
الْمَعْرِفَةِ.
(3) فَتْحُ الْبَارِي 10 / 528.
(41/18)
فَالرِّيَاءُ أَمْرٌ يَتَّصِفُ بِهِ
الْمُنَافِقُونَ فِي أَعْمَال الإِْيمَانِ الَّتِي يَتَظَاهَرُونَ بِهَا،
كَمَا قَدْ يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الإِْيمَانِ،
وَلَكِنْ يَعْرِضُ لَهُ الرِّيَاءُ.
أَنْوَاعُ النِّفَاقِ:
5 - قَال ابْنُ رَجَبٍ: النِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: النِّفَاقُ الأَْكْبَرُ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِْنْسَانُ
الإِْيمَانَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الآْخِرِ، وَيُبْطِنُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ. وَهَذَا
هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَل الْقُرْآنُ بِذَمِّ أَهْلِهِ وَتَكْفِيرِهِمْ،
وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الأَْسْفَل مِنَ النَّارِ.
وَالثَّانِي: النِّفَاقُ الأَْصْغَرُ، أَوْ نِفَاقُ الْعَمَل، وَهُوَ أَنْ
يُظْهِرَ الإِْنْسَانُ عَلاَنِيَةً صَالِحَةً، وَيُبْطِنَ مَا يُخَالِفُ
ذَلِكَ (1) .
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ كُل مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدٍ
لِلْكَافِرِينَ يَدْخُل فِيهِ أَهْل النِّفَاقِ الأَْكْبَرِ؛ لأَِنَّ
كُفْرَهُمُ اعْتِقَادِيٌّ حَقِيقِيٌّ، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الإِْيمَانِ
شَيْءٌ. وَحَيْثُ قُرِنَ الْكُفَّارُ بِالْمُنَافِقِينَ فِي وَعِيدٍ،
يُرَادُ بِالْكُفَّارِ مَنْ كَانَ كُفْرُهُمْ مُعْلَنًا ظَاهِرًا،
وَبِالْمُنَافِقِينَ أَهْل الْكُفْرِ الْبَاطِنِ (2) .
__________
(1) جَامِعُ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ لاِبْنِ رَجَبٍ 2 / 343ط الرِّسَالَةِ.
(2) الإِْيمَانُ لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص 48 - 50.
(41/18)
أَمَّا أَهْل النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ -
الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ نِفَاقُ اعْتِقَادٍ - فَلاَ يَدْخُلُونَ فِي وَعِيدِ
الْكَافِرِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ عُصَاةِ أَهْل الْمِلَّةِ. وَقَدْ
يُطْلَقُ اسْمُ النِّفَاقِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَنْ يَرْتَكِبُ
خَصْلَةً مِنْ خِصَال النِّفَاقِ الآْتِي بَيَانُهَا (1) .
اجْتِمَاعُ النِّفَاقِ وَالإِْيمَانِ:
6 - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ:
إِنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَنَقَل عَنْ
حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَال: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ
" فَذَكَرَ مِنْهَا " وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ " (2) ، ثُمَّ
ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " النِّفَاقُ
يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ
نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا، حَتَّى إِذَا اسْتَكْمَل النِّفَاقَ
اسْوَدَّ الْقَلْبُ " (3) ، وَقَال: بَل يَدُل لِذَلِكَ قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
__________
(1) الصَّارِمُ الْمَسْلُول عَلَى شَاتِمِ الرَّسُول لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص
35 - 36.
(2) أَثَرُ حُذَيْفَةَ: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو
نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الأَْوْلِيَاءِ (1 / 276 - السَّعَادَةِ) .
(3) أَثَرُ عَلِيٍّ: " النِّفَاقُ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي
الْقَلْبِ ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ ص
504 نَشْرُ دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ
فِي النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ 1 / 276 ط دَارِ الْفِكْرِ.
(41/19)
لِلإِْيمَانِ (1) } قَال: وَلِلنِّفَاقِ
شُعَبٌ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ شُعَبِ النِّفَاقِ شُعَبٌ مِنَ
الإِْيمَانِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الإِْيمَانِ أَقَل الْقَلِيل لَمْ
يَخْلُدْ فِي النَّارِ. قَال: وَضَعْفُ الإِْيمَانِ هُوَ الَّذِي يُوقِعُ
فِي الْمَعَاصِي، أَمَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الإِْخْلاَصِ
فَإِنَّهُ يُعْصَمُ مِنْهَا (2) .
عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:
7 - حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلإِْسْلاَمِ،
وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَل إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ وُجِدَ
مِنْهُ مُكَفِّرٌ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَتُبْ قَبْل
الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ (3) .
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَال: فَحَيْثُمَا كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ
ظُهُورٌ، وَتُخَافُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ
مِنْ بَقَائِهِ - عَمِلْنَا بِآيَةِ {وَدَعْ أَذَاهُمْ (4) } وَحَيْثُمَا
حَصَل لَنَا الْقُوَّةُ وَالْعِزُّ خُوطِبْنَا بِقَوْلِهِ: {جَاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ (5) } .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَتَوَجَّهُ جَوَازُ
الْقَتْل، وَتَرْكُهُ، لِمُعَارِضٍ (6) .
__________
(1) سُورَةُ آل عِمْرَانَ
(2) الإِْيمَانُ ص 261 - 263.
(3) الدُّسُوقِيُّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 306، وَجَوَاهِرُ
الإِْكْلِيل 1 / 256.
(4) سُورَةُ الأَْحْزَابِ / 48
(5) سُورَةُ التَّحْرِيمِ / 9
(6) الصَّارِمُ الْمَسْلُول ص 365 - 367، وَالْفُرُوعُ 6 / 206.
(41/19)
مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ
الْمُنَافِقِ:
8 - لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ الإِْيمَانَ،
فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ أَمْرٌ بَيِّنٌ
يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْل، وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ (1) .
تَوْبَةُ الْمُنَافِقِ:
9 - الْمُنَافِقُ تُقْبَل تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى، إِنْ تَابَ تَوْبَةً صَادِقَةً مِنْ قَلْبِهِ بِلاَ خِلاَفٍ (2)
، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مِنَ الآْيَاتِ الَّتِي فَتَحَتْ لَهُمْ بَابَ
التَّوْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الأَْسْفَل مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} {إِلاَّ
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (3) } .
أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَحُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ
الْمُظْهِرِ لِلإِْسْلاَمِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ، تَفْصِيلُهُ فِي (زَنْدَقَةٌ
ف 5، وَتَوْبَةٌ ف 12 - 13) .
الْمَعْصِيَةُ لاَ تَدُل عَلَى النِّفَاقِ:
10 - لَيْسَتْ كُل مَعْصِيَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ دَلِيلاً عَلَى وُجُودِ
النِّفَاقِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تَصْدُرُ عَنْ غَلَبَةِ
الشَّهْوَةِ، أَوْ وُجُودِ الشُّبْهَةِ، أَوِ
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 6 / 98، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 4 / 306.
(2) فَتْحُ الْقَدِيرِ 6 / 70.
(3) سُورَةُ النِّسَاءِ آيَةُ: 145، 146.
(41/20)
التَّأَوُّل، أَوِ اسْتِعْجَال الْحُصُول
عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَنْهُ، مَعَ
نَوْعٍ مِنَ الْجَهَالَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةِ عَنْ
مُرَاقَبَتِهِ. وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِفَاعِل تِلْكَ
الْمَعْصِيَةِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَحُبٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، وَدَل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِنُعَيْمَانَ، وَقَدْ
جُلِدَ فِي الْخَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ: " إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ " (2) .
إِجْرَاءُ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:
11 - يُجْرَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةُ،
مَا دَامَ كُفْرُهمْ مَخْفِيًّا غَيْرَ مُعْلَنٍ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ
الإِْسْلاَمَ؛ لأَِنَّ كُفْرَهُمْ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ،
وَيُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّاتِهِمْ (3) .
أَمَّا مَنْ يُعْلَمُ نِفَاقُهُ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَتُجْرَى
عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكَافِرِ الْمُرْتَدِّ، فَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُنَافِقِ:
12 - يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ كَانَ نِفَاقُهُ غَيْرَ
__________
(1) الصَّارِمُ الْمَسْلُول ص 36.
(2) حَدِيثُ: " إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". أَوْرَدَهُ ابْنُ
حَجَرٍ فِي الإِْصَابَةِ (6 / 464 - ط دَارِ الْجِيل) وَعَزَاهُ إِلَى
كِتَابِ الْفُكَاهَةِ وَالْمِزَاحِ لِلزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ مِنْ
حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مُرْسَل
(3) مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ 5 / 122، وَ 6 / 269.
(41/20)
مُعْلَنٍ، بَل هُوَ أَمْرٌ يَسْتَسِرُّ
بِهِ، فَمَنْ صَلَّى خَلْفَهُ ثُمَّ عَلِمَ نِفَاقَهُ، فَفِي وُجُوبِ
إِعَادَةِ الصَّلاَةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ مُطْلَقًا وَلَوْ طَالَتْ إِمَامَتُهُ بِالنَّاسِ.
وَالثَّانِي: لاَ يُعِيدُ فِي حَال الطُّول، لِلْمَشَقَّةِ (1) .
ب - صَلاَةُ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ:
13 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى
الْمُنَافِقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى نَزَل قَوْل اللَّهِ
تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
(2) . فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَسْتَغْفِرُ
لَهُمْ. وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ
الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ
مُنَافِقٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ
حُذَيْفَةُ (3) - لأَِنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَ
الْمُنَافِقِينَ (4) .
__________
(1) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 1 / 325.
(2) سُورَةُ التَّوْبَةِ آيَةُ: 80
(3) أُثِرَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ
حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
فِي الاِسْتِذْكَارِ (1 / 394 - ط دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ) وَلَمْ
يَعْزِهِ إِلَى أَيِّ مَصْدَرٍ.
(4) الإِْيمَانُ لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص 186، وَسِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ 2 /
552 الْقَاهِرَةُ، مُصْطَفَى الْحَلَبِيِّ 1375 هـ، وَمِنْهَاجُ السُّنَّةِ
النَّبَوِيَّةِ 5 / 235 - 237.
(41/21)
فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ لَمْ
يُظْهِرُوا نِفَاقَهُمْ. يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا مَاتُوا، وَيُدْفَنُونَ
فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي
حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ
خُلَفَائِهِ يُدْفَنُ فِيهَا كُل مَنْ أَظْهَرَ الإِْيمَانَ.
ج - الْجِهَادُ:
1 - كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغَازِي، كَمَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ (1) ،
وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، وَتَخَلَّفَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ.
وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ قَتْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ حُذَيْفَةُ
بِأَسْمَاءِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْمُحَاوَلَةِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا اثْنَيْ
عَشَرَ رَجُلاً (2) ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي الظَّاهِرِ تُجْرَى عَلَيْهِمْ
أَحْكَامُ أَهْل الإِْسْلاَمِ (3) .
د - الْحَذَرُ مِنْ دُخُول أَهْل النِّفَاقِ فِي شُئُونِ السِّيَاسَةِ
وَالْحَرْبِ وَالإِْدَارَةِ:
15 - يَجِبُ أَخْذُ الْحَذَرِ مِنْ دُخُول أَهْل النِّفَاقِ فِي شُئُونِ
الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُمْ
__________
(1) حَدِيثُ خُرُوجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي
غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (فَتْحُ الْبَارِي
7 / 432 ط السَّلَفِيَّةِ) وَمُسْلِمٌ (4 / 2130 ط الْحَلَبِيِّ) .
(2) حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا
". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (4 / 2143 ط الْحَلَبِيِّ) .
(3) الإِْيمَانُ ص 185.
(41/21)
يَبْغُونَ لِلإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ
الْمَهَالِكَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا
مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ} {هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَْنَامِل مِنَ الْغَيْظِ قُل
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1)
وَالْبِطَانَةُ: مَنْ يَسْتَبْطِنُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَيَطَّلِعُ
عَلَى دَخَائِل أُمُورِهِمْ.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الإِْمَامِ إِذَا سَارَ
بِالْمُسْلِمِينَ لِلْجِهَادِ أَنْ يَمْنَعَ خُرُوجَ الْمُخَذِّلِينَ عَنِ
الْجِهَادِ، وَالْمُرْجِفِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ بِقُوَّةِ
الْكُفَّارِ وَضَعْفِنَا، وَمَنْ يُكَاتِبُ بِأَخْبَارِنَا، وَمَنْ هُوَ
مَعْرُوفٌ بِنِفَاقٍ أَوْ زَنْدَقَةٍ (2) .
وَأَمَّا الإِْدَارَةُ فَإِنَّ الأَْمَانَةَ وَالْعَدَالَةَ مُشْتَرَطَةٌ
فِي كُل وِلاَيَةٍ، وَلَيْسَ الْمُنَافِقُ مِنْ أَهْلِهَا (3) .
هـ - الْمِيرَاثُ:
16 - يَذْكُرُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزِّنْدِيقَ إِنْ مَاتَ قَبْل
الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ثَبَتَتْ زَنْدَقَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ
تَابَ فِي الْحَيَاةِ وَجَاءَ تَائِبًا قَبْل
__________
(1) سُورَةُ آل عِمْرَانَ آيَةُ: 118، 119
(2) تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الآْيَةِ 118 مِنْ سُورَةِ آل
عِمْرَانَ.
(3) الْفُرُوعُ 6 / 205، وَالأَْحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ لأَِبِي يَعْلَى
الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيِّ ص 45 بَيْرُوتُ، ط دَارِ الْكُتُبِ
الْعِلْمِيَّةِ. الأَْحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ ص 84.
(41/22)
الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ، أَوْ
قُتِل بَعْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ تَوْبَتِهِ لِعَدَمِ
قَبُولِهَا مِنْهُ، يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، أَمَّا إِنِ اطَّلَعَ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَتُبْ وَلَمْ يُنْكِرْهَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى
قُتِل أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ مَالَهُ لاَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، بَل يَكُونُ
لِبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَهَكَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. حَيْثُ قَالُوا: الزِّنْدِيقُ وَهُوَ
الَّذِي كَانَ يُسَمَّى مُنَافِقًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاَ يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ مِنَ
الْكُفَّارِ، وَلاَ يُورَثُ (2) .
__________
(1) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 4 / 306.
(2) كَشَّافُ الْقِنَاعِ عَنْ مَتْنِ الإِْقْنَاعِ 4 / 478.
(41/22)
نَفْخٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النَّفْخِ فِي اللُّغَةِ: إِخْرَاجُ الرِّيحِ، يُقَال:
نَفَخَ بِفَمِهِ نَفْخًا: أَخْرَجَ مِنْهُ الرِّيحَ، وَنَفَخَ فِي
الْبُوقِ: بَعَثَ فِيهِ الرِّيحَ لِيُحْدِثَ صَوْتًا، وَيُقَال: نَفَخَ
النَّارَ بِالْمِنْفَاخِ: هَيَّجَهَا وَأَذْكَاهَا بِرِيحِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّفَسُ:
2 - مِنْ مَعَانِي النَّفَسِ فِي اللُّغَةِ: الرِّيحُ تَدْخُل وَتَخْرُجُ
مِنْ أَنْفَيِ الْحَيِّ وَفَمِهِ حَال التَّنَفُّسِ. وَلاَ يَخْرُجُ
الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمُعْجَمُ الْوَسِيطُ، وَالْمُفْرَدَاتُ فِي
غَرِيبِ الْقُرْآنِ.
(2) الْمُفْرَدَاتُ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ، وَالْمُعْجَمُ الْوَسِيطُ.
(41/23)
وَالصِّلَةُ أَنَّ النَّفَسَ أَعَمُّ مِنَ
النَّفْخِ.
ب - التَّجَشُّؤُ:
3 - التَّجَشُّؤُ لُغَةً: مَصْدَرٌ مِنْ تَجَشَّأَ الإِْنْسَانُ تَجَشُّؤًا
وَهُوَ: تَنَفُّسُ الْمَعِدَةِ عِنْدَ الاِمْتِلاَءِ، وَالاِسْمُ جُشَاءٌ
وِزَانُ غُرَابٍ: وَهُوَ صَوْتٌ مَعَ رِيحٍ يَحْصُل مِنَ الْفَمِ عِنْدَ
حُصُول الشِّبَعِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ النَّفْخِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّفْخِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْخِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - النَّفْخُ فِي الإِْنَاءِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ النَّفْخُ فِي
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ
نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِْنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ " (2) ،
وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي
الشُّرْبِ، فَقَال رَجُلٌ:
__________
(1) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ.
(2) حَدِيثُ: " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُتَنَفَّسَ فِي الإِْنَاءِ ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (4 / 114 - 115 ط
حِمْصَ) ، وَقَال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(41/23)
الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الإِْنَاءِ؟ قَال:
أَهْرِقْهَا. قَال: فَإِنِّي لاَ أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ، قَال: "
فَأَبِنِ الْقَدَحَ إِذَنْ عَنْ فِيكَ " (1) . وَلأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ
النَّفْخِ لِحَمْل أُمَّتِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَأَنَّهُ مِنْ
بَابِ النَّظَافَةِ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ
النَّفْخُ فِي الطَّعَامِ إِلاَّ مَا لَهُ صَوْتٌ مِثْل أُفٍّ وَهُوَ
تَفْسِيرُ النَّهْيِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ النَّفْخُ فِي
الطَّعَامِ لِمَنْ كَانَ وَحْدَهُ.
وَقَال الآْمِدِيُّ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ -: إِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ
النَّفْخُ فِي الطَّعَامِ إِذَا كَانَ حَارًّا، قَال الْمِرْدَاوِيُّ:
وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ كَانَ ثَمَّ حَاجَةٌ إِلَى الأَْكْل حِينَئِذٍ (2)
.
ب - النَّفْخُ فِي الصَّلاَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النَّفْخَ عَمْدًا فِي
الصَّلاَةِ مُبْطِلٌ لَهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ
التَّفَاصِيل:
__________
(1) ، حَدِيثُ: (نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشُّرْبِ. . . " أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ (4 / 304 ط الْحَلَبِيِّ) وَقَال: حَسَنٌ صَحِيحٌ
(2) حَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 6 / 216، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ 5 /
337، وَالْبَزَّازِيَّةُ 6 / 365، وَالشَّرْحُ الصَّغِيرُ 4 / 754، 755،
وَالْمُنْتَقَى 7 / 236، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 250، وَإِحْيَاءُ
عُلُومِ الدِّينِ 2 / 5، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 174، وَالإِْنْصَافُ 8
/ 328.
(41/24)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ
النَّفْخُ مَسْمُوعًا تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ تَبْطُل
بِهِ.
وَالْمَسْمُوعُ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا لَهُ
حُرُوفٌ مُهَجَّأَةٌ مِثْل: " أُفٍّ " " تُفٍّ "، وَغَيْرُ الْمَسْمُوعِ
بِخِلاَفِهِ. وَإِلَيْهِ مَال الْحُلْوَانِيُّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ لِلنَّفْخِ الْمَسْمُوعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ
حُرُوفٌ مُهَجَّأَةٌ، وَإِلَيْهِ مَال جَوْهَرُ زَادَةَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّفْخَ مِنَ الْفَمِ مُبْطِلٌ
لِلصَّلاَةِ إِنْ كَانَ عَامِدًا، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَمْ جَاهِلاً،
وَسَوَاءٌ أَظَهَرَ مِنْهُ حَرْفٌ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ، أَمَّا إِذَا كَانَ
سَاهِيًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ.
أَمَّا النَّفْخُ مِنَ الأَْنْفِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ إِذَا نَفَخَ عِنْدَ
الاِمْتِخَاطِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: إِنَّهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ إِنْ
فَعَلَهُ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ وَظَهَرَ فِيهِ حَرْفَانِ،
فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِالتَّحْرِيمِ بِأَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ فِي
الإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَوْ
لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ حَرْفَانِ، فَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ تَبْطُل بِالنَّفْخِ مُطْلَقًا، ظَهَرَ مِنْهُ
حَرْفَانِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ، جَاهِلاً كَانَ
__________
(1) ابْنُ عَابِدِينَ 1 / 413 ط الأَْمِيرِيَّةِ.
(2) حَاشِيَةُ الْبُنَانِيِّ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ 1 / 238 - 251.
(41/24)
النَّافِخُ أَمْ عَالِمًا؛ لأَِنَّهُ لاَ
يُسَمَّى كَلاَمًا فِي اللُّغَةِ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكَلاَمِ،
وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ هَذِهِ
الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ " (1) ،
وَلأَِنَّهُ لاَ يَبِينُ مِنَ النَّفْخِ حَرْفٌ مُحَقَّقٌ فَأَشْبَهَ
الصَّوْتَ الْغُفْل (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ النَّفْخُ فِي الصَّلاَةِ إِذَا لَمْ
يَظْهَرْ فِيهِ حَرْفَانِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ
الصَّلاَةُ (3) .
ج - نَفْخُ الرُّوحِ:
6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْجَنِينَ مُنْذُ نُفِخَ الرُّوحُ
فِيهِ يُعْتَبَرُ إِنْسَانًا يُحْفَظُ لَهُ حَقُّهُ فِي الإِْرْثِ إِنْ
تُوُفِّيَ مُوَرِّثُهُ، وَتَجِبُ الْغُرَّةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِنْ
لَمْ يَسْتَهِل صَارِخًا بَعْدَ نُزُولِهِ، وَيَحْرُمُ إِجْهَاضُ أُمِّهِ؛
لأَِنَّهُ يَكُونُ جِنَايَةً عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الأَْحْكَامِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (ذِمَّة ف 6، وَغُرَّة ف 6، وَإِجْهَاض ف 3 وَمَا
بَعْدَهَا، وَإِرْث ف 109) .
د - النَّفْخُ فِي الصُّورِ:
7 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ مِمَّا
__________
(1) حَدِيثُ: " إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ
كَلاَمِ النَّاسِ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1 / 381 - 382 ط الْحَلَبِيِّ)
مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ.
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 195، وَتُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ 2 / 140،
وَالْمَجْمُوعُ 4 / 89.
(3) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 1 / 401، وَالإِْنْصَافُ 2 / 138.
(41/25)
يَجِبُ الإِْيمَانُ بِهِ؛ لِوُرُودِهِ فِي
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (1) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ
مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (2) ، وَقَوْلِهِ جَل جَلاَلُهُ: {وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ إِلاَّ
مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (3) . وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي عِلْمِ الْعَقِيدَةِ.
هـ - النَّفْخُ فِي آلاَتِ اللَّهْوِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّفْخِ فِي آلاَتِ اللَّهْوِ
فَأَجَازَهَا بَعْضُهُمْ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ وَمَنَعَهَا آخَرُونَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَعَازِف ف 11) .
__________
(1) لَوَامِعُ الأَْنْوَارِ الْبَهِيَّةِ وَسَوَاطِعُ الأَْسْرَارِ
الأَْثَرِيَّةِ 2 / 161.
(2) سُورَةُ النَّمْل آيَةُ: 87
(3) سُورَةُ الزُّمَرِ آيَةُ: 68
(4) سُورَةُ يس آيَةُ: 51
(41/25)
نَفْرٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - النَّفْرُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ نَفَرَ، وَيَأْتِي بِمَعَانٍ،
يُقَال: نَفَرَ نَفْرًا: هَجَرَ وَطَنَهُ وَضَرَبَ فِي الأَْرْضِ،
وَيُقَال: نَفَرَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى: دَفَعُوا إِلَى مَكَّةَ، وَنَفَرَ
النَّاسُ إِلَى الْعَدُوِّ: أَسْرَعُوا فِي الْخُرُوجِ لِقِتَالِهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
:
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّفْرِ نَفْرُ الْحَاجِّ:
2 - لِلْحَاجِّ نَفْرَانِ يَنْفِرُ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّل
فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (2) .
النَّفْرُ الأَْوَّل:
3 - وَهُوَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
__________
(1) الْمُعْجَمُ الْوَسِيطُ، وَالْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَالْمُفْرَدَاتُ
فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ.
(2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ آيَةُ: 203.
(41/26)
ثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ، أَيِ
الثَّانِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ
الأَْوَّل.
وَذَلِكَ إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ الثَّلاَثَ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ أَيْ
يَرْحَل إِلَى مَكَّةَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَهُ.
وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَنْ يُجَاوِزَ الْحَاجُّ مِنًى قَبْل غُرُوبِ
الشَّمْسِ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُجَاوِزَ حُدُودَ مِنًى قَبْل
فَجْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
فَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ
الْمُبَيَّنِ لِكُل مَذْهَبٍ فَلْيَمْكُثْ وَلْيَبِتْ بِمِنًى، وَقَدْ
وَجَبَ عَلَيْهِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِمِنًى هَذِهِ
اللَّيْلَةَ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْمَبِيتِ بِمِنًى (1) .
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: رَمْيٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا) .
النَّفْرُ الثَّانِي:
4 - وَهُوَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ،
__________
(1) الْقَامُوسُ الْمُحِيطُ لِلْفَيْرُوزَآبَادِي، وَمُخْتَارُ الصِّحَاحِ
لِلرَّازِيِّ، وَالْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَشَرْحُ الرِّسَالَةِ 1 / 482،
وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 1 / 506، وَالْمُغْنِي 3 / 454، وَالْمَسْلَكُ
الْمُتَقَسِّطُ " شَرْحُ اللُّبَابِ " ص 163.
(41/26)
بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ،
وَيُسَمَّى " يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي " (ر: مُصْطَلَحَ: رَمْيٌ ف 3
وَمَا بَعْدَهَا وَحَجٌّ ف 46) .
وَبَعْدَ هَذَا الرَّمْيِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى، وَيَرْحَل
الْحُجَّاجُ جَمِيعُهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَلاَ يُشْرَعُ الْمُكْثُ بِمِنًى
بَعْدَ رَمْيِ هَذَا الْيَوْمِ.
وَيُسْتَحَبُّ فِي النَّفْرِ إِلَى مَكَّةَ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ
الأَْذْكَارِ لِلْمُسَافِرِينَ مِنَ التَّكْبِيرِ، وَالتَّهْلِيل،
وَالتَّمْجِيدِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءِ (1) .
وَإِذَا وَصَل " الْمُحَصَّبَ " يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِل فِيهِ
وَيُصَلِّيَ، ر: مُصْطَلَحَ (حَجٌّ ف 107) .
النَّفْرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ:
5 - وَرَدَ النَّفْرُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ
الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (2) } ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيل اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآْيَةُ (يَعْنِي الآْيَةَ
__________
(1) الْمَرَاجِعُ السَّابِقَةُ.
(2) سُورَةُ التَّوْبَةِ آيَةُ: 122
(3) سُورَةُ التَّوْبَةِ آيَةُ: 41
(41/27)
الأُْولَى) أَصْلٌ فِي وُجُوبِ طَلَبِ
الْعِلْمِ، وَقَوْل مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ يَقْتَضِي نَدْبَ طَلَبِ
الْعِلْمِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ، دُونَ الْوُجُوبِ وَالإِْلْزَامِ،
وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ (1) .
ر: مُصْطَلَحَ: (طَلَبُ الْعِلْمِ ف 6 وَجِهَادٌ ف 7) .
__________
(1) تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ 8 / 293 - 295.
(41/27)
نَفْسٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - مِنْ مَعَانِي النَّفْسِ فِي اللُّغَةِ: الرُّوحُ، يُقَال: خَرَجَتْ
نَفْسُهُ أَيْ رُوحُهُ. وَالدَّمُ، يُقَال: مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً
أَيْ لاَ دَمَ، وَذَاتُ الشَّيْءِ وَعَيْنُهُ، يُقَال: جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ
أَوْ بِنَفْسِهِ، وَالْعَيْنُ، يُقَال: نَفَسْتُهُ بِنَفْسٍ أَيْ
أَصَبْتُهُ بِعَيْنٍ.
وَالنَّفَسُ بِفَتْحَتَيْنِ: نَسِيمُ الْهَوَاءِ، وَالْجَمْعُ أَنْفَاسٌ،
وَالنَّفَسُ: الرِّيحُ الدَّاخِل وَالْخَارِجُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الْفَمِ
وَالأَْنْفِ (1) .
وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: النَّفْسُ مِنَ الْجَوْهَرِ الْبُخَارِيِّ
اللَّطِيفِ الْحَامِل لِقُوَّةِ الْحَيَاةِ وَالْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ
الإِْرَادِيَّةِ، وَسَمَّاهَا الْحَكِيمُ: الرُّوحَ الْحَيَوَانِيَّةَ،
فَهُوَ جَوْهَرٌ مُشْرِقٌ لِلْبَدَنِ، فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَنْقَطِعُ
ضَوْؤُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَبَاطِنِهِ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ
النَّوْمِ فَيَنْقَطِعُ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ دُونَ بَاطِنِهِ، فَثَبَتَ
أَنَّ النَّوْمَ وَالْمَوْتَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ هُوَ
الاِنْقِطَاعُ الْكُلِّيُّ،
__________
(1) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ، وَالْمُعْجَمُ الْوَسِيطُ، وَالْقَامُوسُ
الْمُحِيطُ، وَالْمُفْرَدَاتُ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ لِلأَْصْفَهَانِيِّ.
(41/28)
وَالنَّوْمَ هُوَ الاِنْقِطَاعُ
النَّاقِصُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَادِرَ الْحَكِيمَ دَبَّرَ تَعَلُّقَ
جَوَاهِرِ النَّفْسِ بِالْبَدَنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ.
الأَْوَّل: إِنْ بَلَغَ ضَوْءُ النَّفْسِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ
الْبَدَنِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ فَهُوَ الْيَقَظَةُ.
الثَّانِي: إِنِ انْقَطَعَ ضَوْؤُهَا عَنْ ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ
فَهُوَ النَّوْمُ.
الثَّالِثُ: إِنِ انْقَطَعَ ضَوْءُ النَّفْسِ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ
وَبَاطِنِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ الْمَوْتُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ
مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّفْسِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - النَّفْسُ بِمَعْنَى الدَّمِ:
2 - الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّفْسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
كَوْنِ الشَّيْءِ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ
سَائِلَةٌ.
فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى فِي بَابِ النَّجَاسَةِ
عَمَّا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَيْ مَا لاَ دَمَ لَهُ سَائِلٌ
كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَغَيْرِهِمَا (2) .
__________
(1) التَّعْرِيفَاتُ لِلْجُرْجَانِيِّ.
(2) حَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 1 / 212، وَالْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ ص
38، وَكِفَايَةُ الأَْخْيَارِ 1 / 67 - 79، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 1 /
14، وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 1 / 44 - 45.
(41/28)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ
(نَجَاسَةٌ ف 10، وَعَفْوٌ 11، وَأَطْعِمَةٌ ف 51 - 57) .
ب - النَّفْسُ بِمَعْنَى الرُّوحِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ - بِمَعْنَى الرَّوْحِ - أَحْكَامٌ:
أَوَّلاً: قَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ:
3 - قَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقَسِمُ إِلَى قَتْل عَمْدٍ،
وَشِبْهِ عَمْدٍ، وَخَطَأٍ، وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَبِسَبَبٍ،
وَلِكُل نَوْعٍ أَحْكَامٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
ثَانِيًا: الدِّفَاعُ عَنِ النَّفْسِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّفَاعَ عَنِ النَّفْسِ
الْمَعْصُومَةِ وَحِمَايَتَهَا مِنَ الصِّيَال أَمْرٌ مَشْرُوعٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ دَفْعِ الصَّائِل.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ -
إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ.
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْحْوَال الَّتِي يَجِبُ
فِيهَا دَفْعُ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (صِيَالٌ، فِقْرَةُ 5، 9) .
ثَالِثًا: قَاتِل نَفْسِهِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَاتِل نَفْسِهِ ارْتَكَبَ
كَبِيرَةً مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهَذَا
الذَّنْبِ الْعَظِيمِ
(41/29)
عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى (1) ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُمْ رَحِيمًا} {وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ
نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (2) ، وَلِقَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَتَل نَفْسَهُ
بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا
فَقَتَل نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا
مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَل نَفْسَهُ
فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا
" (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (انْتِحَارٌ ف 8، وَجَنَائِزُ ف 40) .
رَابِعًا: تَوْبَةُ قَاتِل النَّفْسِ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ قَاتِل النَّفْسِ عَمْدًا
بِغَيْرِ حَقٍّ.
__________
(1) الْكَبَائِرُ لِلذَّهَبِيِّ ص 96، وَالزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ
الْكَبَائِرِ لاِبْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ 2 / 75، وَتَفْسِيرُ
الْقُرْطُبِيِّ 2 / 156 - 157، وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 2 / 556 -
559.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ آيَةُ: 29، 30
(3) حَدِيثُ: " مَنْ قَتَل نَفْسَهُ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
(فَتْحُ الْبَارِي 10 / 247 ط السَّلَفِيَّةِ) وَمُسْلِمٌ (1 / 103 - 104 ط
الْحَلَبِيِّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
(41/29)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى
أَنَّ لِلْقَاتِل عَمْدًا ظُلْمًا تَوْبَةً كَسَائِرِ أَصْحَابِ
الْكَبَائِرِ؛ لِلنُّصُوصِ الْخَاصَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ
وَالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ فِي قَبُول تَوْبَةِ كُل النَّاسِ
(1) ، مِنْهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ
أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
فِيهِ مُهَانًا} {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالِحًا
فَأُولَئِكَ يُبَدِّل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا (2) } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (3) } ، فَيُحْمَل مُطْلَقُ
هَذِهِ الآْيَةِ عَلَى مُقَيَّدِ آيَةِ الْفُرْقَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ:
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، إِلاَّ مَنْ تَابَ.
وَلأَِنَّ تَوْبَةَ الْكَافِرِ بِدُخُولِهِ إِلَى الإِْسْلاَمِ تُقْبَل
بِالإِْجْمَاعِ، فَتَوْبَةُ الْقَاتِل أَوْلَى (4) .
__________
(1) حَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 5 / 340، وَتَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ 5 /
332 وَمَا بَعْدَهَا، وَتُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ مَعَ الْحَاشِيَتَيْنِ 8 /
375، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ 4 / 2، وَالزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ
الْكَبَائِرِ 1 / 71، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 504.
(2) سُورَةُ الْفُرْقَانِ آيَةُ: 68، 70.
(3) سُورَةُ النِّسَاءِ آيَةُ: 93.
(4) حَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 5 / 340 - 352، وَتَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ
5 / 332 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 4 / 2، 39، 440،
وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ 4 / 2، 356، وَالْمُغْنِي 7 / 636، وَكَشَّافُ
الْقِنَاعِ 6 / 178، 5 / 504.
(41/30)
7 - وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ
الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَبُول هَذِهِ التَّوْبَةِ وَمَا
يَسْقُطُ بِهَا.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ تَوْبَةُ الْقَاتِل بِالاِسْتِغْفَارِ
وَالنَّدَامَةِ فَقَطْ، بَل تَتَوَقَّفُ عَلَى إِرْضَاءِ أَوْلِيَاءِ
الْمَقْتُول، فَإِنْ كَانَ الْقَتْل عَمْدًا فَلاَ بُدَّ أَنْ
يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْقَصَاصِ مِنْهُ فَإِنْ أَرَادُوا قَتَلُوهُ، وَإِنْ
أَرَادُوا عَفَوْا عَنْهُ، فَإِنْ عَفَوْا عَنْهُ كَفَتْهُ التَّوْبَةُ
وَيَبْرَأُ فِي الدُّنْيَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظُّلْمَ الْمُتَقَدِّمَ لاَ
يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَقْتُول بِهِ، وَأَمَّا
ظُلْمُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيَسْقُطُ
بِهَا، ثُمَّ قَال: وَفِي " مُخْتَارِ الْفَتَاوَى ": الْقَصَاصُ مُخَلِّصٌ
مِنْ حَقِّ الأَْوْلِيَاءِ، وَأَمَّا الْمَقْتُول فَيُخَاصِمُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ تَحْصُل لَهُ بِالْقَصَاصِ فَائِدَةٌ،
فَحَقُّهُ بَاقٍ عَلَى الْقَاتِل (1) .
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْل فِي قَبُول تَوْبَةِ الْقَاتِل
الْعَمْدِ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ (2) .
__________
(1) رَدُّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ 5 / 340، 352.
(2) تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ 5 / 332 وَمَا بَعْدَهَا.
(41/30)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَكْبَرُ
الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ الْقَتْل ظُلْمًا، وَبِالْقَوَدِ أَوِ
الْعَفْوِ لاَ تَبْقَى مُطَالَبَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، مَعَ بَقَاءِ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِتَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ،
وَمُجَرَّدُ التَّمْكِينِ مِنَ الْقَوَدِ لاَ يُفِيدُ إِلاَّ إِنِ انْضَمَّ
إِلَيْهِ نَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْصِيَةِ، وَعَزْمٌ عَلَى عَدَمِ
الْعَوْدِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُول فِي الآْخِرَةِ
بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ
الْمَقْتُول مِنْ حَسَنَاتِ الْقَاتِل بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ.
فَإِنِ اقْتُصَّ لِلْمَقْتُول مِنَ الْقَاتِل أَوْ عَفَى وَلِيُّهُ عَنِ
الْقَصَاصِ فَهَل يُطَالِبُهُ الْمَقْتُول فِي الآْخِرَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
وَأَطْلَقَهُمَا صَاحِبُ الْفُرُوعِ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَتْل يَتَعَلَّقُ بِهِ
ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ الْمَقْتُول، وَحَقُّ
الْوَلِيِّ الْوَارِثِ لِلْمَقْتُول، فَإِذَا سَلَّمَ الْقَاتِل نَفْسَهُ
طَوْعًا وَاخْتِيَارًا إِلَى الْوَلِيِّ نَدَمًا عَلَى مَا فَعَل وَخَوْفًا
مِنَ اللَّهِ وَتَوْبَةً نَصُوحًا سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الأَْوْلِيَاءِ بِالاِسْتِيفَاءِ أَوِ الصُّلْحِ
أَوِ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَقْتُول يُعَوِّضُهُ اللَّهُ
عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ عَبْدِهِ التَّائِبِ وَيُصْلِحُ بَيْنَ
الْقَاتِل التَّائِبِ وَبَيْنَ الْمَقْتُول.
__________
(1) تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ 8 / 375.
(41/31)
وَقَال الْمِرْدَاوِيُّ تَعْقِيبًا عَلَى
ذَلِكَ: وَهُوَ الصَّوَابُ (1) .
وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ
الْجُمْهُورَ فِي قَبُول تَوْبَةِ الْقَاتِل، فَذَهَبَا إِلَى أَنَّ
تَوْبَةَ الْقَاتِل عَمْدًا ظُلْمًا لاَ تُقْبَل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا
فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا (2) } ، فَقَدْ سُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
هَل لِمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَال: لاَ
إِلاَّ النَّارَ، فَقَرَأَ الآْيَةَ السَّابِقَةَ وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَل
فِي هَذَا الشَّأْنِ وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، وَلأَِنَّ لَفْظَ الآْيَةِ
لَفْظُ الْخَبَرِ، وَالأَْخْبَارُ لاَ يَدْخُلُهَا نَسْخٌ وَلاَ تَغْيِيرٌ؛
لأَِنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَكُونُ إِلاَّ صِدْقًا (3) .
__________
(1) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 504، 6 / 178، وَالإِْنْصَافُ 10 / 335.
(2) سُورَةُ النِّسَاءِ آيَةُ: 93
(3) تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ 5 / 332 وَمَا بَعْدَهَا، وَالزَّوَاجِرُ
عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 71، وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 7 /
636، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 504، وَالإِْنْصَافُ 10 / 335.
(41/31)
نِفْطٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - النِّفْطُ لُغَةً - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ -:
الدُّهْنُ، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ الَّذِي تُطْلَى بِهِ الإِْبِل
لِلْجَرَبِ وَالدَّبَرِ وَالْقِرْدَانِ، وَهُوَ دُونَ الْكُحَيْل (1) .
وَالنِّفْطُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ أَحَدُ الأَْجْزَاءِ
الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ
يَوْمَ خَلَقَهَا، وَهُوَ دُهْنٌ يَعْلُو الْمَاءَ سَوَاءٌ كَانَ فِي
الأَْرْضِ أَوْ فِي خَارِجِهَا (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّفْطِ:
أ - زَكَاةُ النِّفْطِ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي مَعْدِنِ
النِّفْطِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَأَمَّا
__________
(1) لِسَانُ الْعَرَبِ.
(2) حَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 2 / 44، 53، وَتَبْيِينُ الْحَقَائِقِ 1 /
296، وَالْعِنَايَةُ بِهَامِشِ فَتْحِ الْقَدِيرِ 2 / 13، وَحَاشِيَةُ
الْجَمَل 3 / 572.
(41/32)
(الْمَعْدِنُ) الْمَائِعُ كَالْقِيرِ
وَالنِّفْطِ وَالْمِلْحِ. . . . فَلاَ شَيْءَ فِيهَا (1) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِنَّمَا يُزَكَّى مَعْدِنُ عَيْنٍ (ذَهَبٌ أَوْ
فِضَّةٌ) لاَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعَادِنِ كَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ (2) ،
وَقَال الدُّسُوقِيُّ مُعَلِّقًا عَلَى عِبَارَةِ الدَّرْدِيرِ: أَدْخَل
بِالْكَافِ الرَّصَاصَ وَالْقَزْدِيرَ وَالْكُحْل وَالْعَقِيقَ
وَالْيَاقُوتَ وَالزُّمُرُّدَ وَالزِّئْبَقَ وَالزِّرْنِيخَ وَالْمَغْرَةَ
وَالْكِبْرِيتَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَادِنَ كُلَّهَا لاَ زَكَاةَ فِيهَا
(3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ
مِنَ الْمَعْدِنِ إِذَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَجَبَتْ فِيهِ
الزَّكَاةُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْجَوَاهِرِ كَالْحَدِيدِ
وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْفَيْرُوزِ وَالْبَلُّورِ وَالْمَرْجَانِ
وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْكُحْل وَغَيْرِهَا فَلاَ
زَكَاةَ فِيهَا، هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
فِي كُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ، وَبِهِ قَطَعَ
جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ فِي الطُّرُقِ كُلِّهَا (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ شَاذٍّ حَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ - وَهُوَ مُفَادُ قَوْلَيْنِ نَقَلَهُمَا الْقَيْصَرِيُّ
عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ - إِلَى أَنَّ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ 1 / 185، وَانْظُرْ حَاشِيَةَ ابْنِ
عَابِدِينَ 2 / 53.
(2) الشَّرْحُ الْكَبِيرُ 1 / 486.
(3) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 1 / 486، وَانْظُرْ شَرْحَ الزُّرْقَانِيِّ 2
/ 169.
(4) الْمَجْمُوعُ 6 / 77.
(41/32)
وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ
بِالنِّفْطِ وَبِكُل مَا خَرَجَ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا
مِنْ غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ (1) } وَلأَِنَّهُ
مَعْدِنٌ فَتَعَلَّقَتِ الزَّكَاةُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالأَْثْمَانِ،
وَلأَِنَّهُ مَالٌ لَوْ غَنِمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ خُمْسُهُ، فَإِذَا
أَخْرَجَهُ مِنْ مَعْدِنٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالذَّهَبِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ قَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ رُبْعُ
الْعُشْرِ، وَصِفَتُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ (2) .
وَقَال بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ الْخَرَاجُ فِي نَفْسِ
عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ إِذَا كَانَتْ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ (3) .
(ر: مَعْدِنٌ ف 6) .
ب - تَمَلُّكُ مَعْدِنِ النِّفْطِ بِالإِْحْيَاءِ وَالإِْقْطَاعِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
مَعَادِنَ النِّفْطِ وَالْقِيرِ وَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ لاَ تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ
إِقْطَاعُهَا لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ (4) ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ
__________
(1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 267
(2) الْمُغْنِي 3 / 24، وَحَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 2 / 53،
وَالْمَجْمُوعُ 6 / 77.
(3) حَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 2 / 53، وَانْظُرْ تَبْيِينَ الْحَقَائِقِ
1 / 296.
(4) حَاشِيَةُ الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ 4 / 214، 215،
وحَاشِيَةُ رَدِّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ 3 / 278 - 279،
وَشَرْحُ الْمَحَلِّيِّ عَلَى الْمِنْهَاجِ 3 / 94 - 95، وَالْمُغْنِي 5 /
571 - 572.
(41/33)
أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ وَفَدَ إِلَى
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْطَعَهُ
الْمِلْحَ فَقَطَعَ لَهُ، فَلَمَّا أَنْ وَلَّى قَال رَجُلٌ مِنَ
الْمَجْلِسِ: أَتَدْرِي مَا قَطَعْتَ لَهُ؟ إِنَّمَا قَطَعْتَ لَهُ
الْمَاءَ الْعَذْبَ، قَال: فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ حُكْمَ الْمَعْدِنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ
مَعْدِنَ عَيْنٍ (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْقَصْدِيرِ
وَالْعَقِيقِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغْرَةِ
وَالْكِبْرِيتِ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ يَقْطَعُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَال لِمَنَافِعِهِمْ لاَ
لِنَفْسِهِ، وَلَوْ وُجِدَ بِأَرْضِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَلاَ يَخْتَصُّ
بِهِ رَبُّ الأَْرْضِ، إِلاَّ أَرْضَ الصُّلْحِ إِذَا وُجِدَ بِهَا
مَعْدِنٌ فَلَهُمْ وَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا
رَجَعَ الأَْمْرُ لِلإِْمَامِ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَإِذَا أَقْطَعَ الإِْمَامُ الْمَعْدِنَ لِشَخْصٍ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ
كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لِبَيْتِ الْمَال، فَلاَ يَأْخُذُ الإِْمَامُ
عَنْهُ إِلاَّ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ. قَال الْبَاجِيُّ: وَإِذَا أَقْطَعَهُ
فَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ انْتِفَاعًا لاَ تَمْلِيكًا، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ
أَقْطَعَهُ لَهُ الإِْمَامُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلاَ يُورَثُ عَمَّنْ
أَقْطَعَهُ لَهُ؛ لأَِنَّ مَا لاَ يُمْلَكُ لاَ يُورَثُ (2) .
__________
(1) حَدِيثُ: أَبْيَضَ بْنِ حَمَّالٍ أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (3 / 446 ط
حِمْصَ) وَالتِّرْمِذِيُّ (3 / 655 ط الْحَلَبِيِّ) وَقَال: حَدِيثُ
أَبْيَضَ غَرِيبٌ.
(2) الشَّرْحُ الصَّغِيرُ وَحَاشِيَةُ الصَّاوِي عَلَيْهِ 1 / 650 - 651،
وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 1 / 486 - 487، وَانْظُرْ عَقْدَ الْجَوَاهِرِ
الثَّمِينَةِ 3 / 24.
(41/33)
نَفَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - النَّفَقَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الْمَصْدَرِ نَفَقَ، يُقَال:
نَفَقَتِ الدَّرَاهِمُ نَفَقًا: نَفِدَتْ، وَجَمْعُ النَّفَقَةِ نِفَاقٌ
مِثْل رَقَبَةٍ وَرِقَابٍ، وَتُجْمَعُ عَلَى نَفَقَاتٍ وَيُقَال: نَفَقَ
الشَّيْءُ نَفَقًا فَنِيَ، وَأَنْفَقْتُهُ: أَفْنَيْتُهُ، وَنَفَقَتِ
السِّلْعَةُ وَالْمَرْأَةُ نِفَاقًا: كَثُرَ طُلاَّبُهَا وَخُطَّابُهَا (1)
.
وَالنَّفَقَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا بِهِ قَوَّامٌ مُعْتَادٌ حَال
الآْدَمِيِّ دُونَ سَرَفٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَطَاءُ:
2 - الْعَطَاءُ لُغَةً: الْمُنَاوَلَةُ وَمَا يُعْطَى، وَهُوَ اسْمُ
مَصْدَرٍ مِنَ الإِْعْطَاءِ، وَجَمْعُهُ أَعْطِيَةٌ (3) .
__________
(1) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ.
(2) حَاشِيَةُ الصَّاوِي عَلَى الشَّرْحِ الصَّغِيرِ 2 / 729 دَارُ
الْمَعَارِفِ.
(3) الْقَامُوسُ الْمُحِيطُ، وَالْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ.
(41/34)
وَاصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِمَا يَفْرِضُهُ
الإِْمَامُ فِي بَيْتِ الْمَال لِلْمُسْتَحِقِّينَ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَطَاءِ وَالنَّفَقَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَكُونُ
بِفَرْضِ الشَّرْعِ، وَالْعَطَاءَ يَكُونُ بِفَرْضِ الإِْمَامِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - النَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لأَِصْنَافٍ بَيَّنَهَا
الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَصْرِهَا وَفِي شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِ
كُلٍّ مِنْهُمْ لَهَا عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي.
أَسْبَابُ النَّفَقَةِ:
تَجِبُ النَّفَقَةُ بِأَحَدِ أَسْبَابٍ ثَلاَثَةٍ هِيَ: النِّكَاحُ،
وَالْقَرَابَةُ، وَالْمِلْكُ.
أَوَّلاً: النِّكَاحُ:
وَيَشْتَمِل عَلَى الْمَسَائِل الآْتِيَةِ:
حُكْمُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى
زَوْجِهَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي بَيَّنُوهَا (2) .
__________
(1) حَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ 5 / 411.
(2) الْهِدَايَةُ بِأَعْلَى فَتْحِ الْقَدِيرِ 3 / 321 ط التِّجَارِيَّةِ،
وَحَاشِيَةُ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ 3 / 572،
وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل 4 / 181 - 182،
وَالْحَاوِي الْكَبِيرُ 15 / 524 وَمَا بَعْدَهَا، وَالإِْنْصَافُ 9 / 376.
(41/34)
وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ نَفَقَةِ
الزَّوْجَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ
اللَّهُ (1) } .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (2) } .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ
وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ
أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (3)
} .
فَهَذِهِ الآْيَاتُ وَاضِحَةُ الدَّلاَلَةِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ
لِلزَّوْجَاتِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
خُطْبَتِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: " فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ،
فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ
فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ
ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " (4) ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الأَْحَادِيثِ الَّتِي بَيَّنَتْ وُجُوبَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى
زَوْجِهَا.
__________
(1) سُورَةُ الطَّلاَقِ / 7
(2) سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 231
(3) سُورَةُ الطَّلاَقِ / 46.
(4) حَدِيثُ: " فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ. . . .) . أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ (2 / 889 - 890 ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ.
(41/35)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدِ اتَّفَقَ
أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ عَلَى
أَزْوَاجِهِنَّ إِذَا مَكَّنَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْهَا وَكَانَتْ
مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ وَلَمْ تَمْتَنِعْ عَنْهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.
يَقُول ابْنُ الْمُنْذِرِ: اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ
نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ إِذَا كَانُوا بَالِغِينَ
إِلاَّ النَّاشِزَ مِنْهُنَّ (1) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الزَّوْجَةَ مَحْبُوسَةُ الْمَنَافِعِ
عَلَى زَوْجِهَا، وَمَمْنُوعَةٌ مِنَ التَّصَرُّفِ لِحَقِّهِ فِي
الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَوَجَبَ لَهَا مُؤْنَتُهَا وَنَفَقَتُهَا، كَمَا
يُلْزَمُ الإِْمَامُ فِي بَيْتِ الْمَال نَفَقَاتِ أَهْل النَّفِيرِ؛
لاِحْتِبَاسِ نُفُوسِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ (2) .
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ جَزَاءَ الاِحْتِبَاسِ، وَمَنْ كَانَ
مَحْبُوسًا لِحَقِّ شَخْصٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ
تَفَرُّغِهِ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، قِيَاسًا عَلَى الْقَاضِي وَالْوَالِي
وَالْعَامِل فِي الصَّدَقَاتِ (3) .
سَبَبُ وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى
زَوْجِهَا، وَهَل تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ أَمْ بِهِ وَبِالتَّمْكِينِ
وَالتَّسْلِيمِ التَّامِّ؟ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
__________
(1) الْمُغْنِي وَالشَّرْحُ 9 / 231.
(2) الْحَاوِي الْكَبِيرُ 15 / 524 وَمَا بَعْدَهَا.
(3) الْبَدَائِعُ 4 / 16، وَالْمُغْنِي 9 / 230، وَتَبْيِينُ الْحَقَائِقِ
3 / 51.
(41/35)
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ سَبَبِ
وُجُوبِهَا هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا
بِالنِّكَاحِ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ
جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ
(2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَلاَ نَفَقَةَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي نِكَاحٍ
فَاسِدٍ؛ لاِنْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ
الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ، وَكَذَا فِي عُدَّتِهِ (3)
.
وَدَلِيل هَؤُلاَءِ عُمُومُ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ (4) } .
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ
دُونَ تَقْيِيدٍ بِوَقْتٍ، فَدَل هَذَا عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهُنَّ
مِنْ حِينِ الْعَقْدِ.
وَكَذَلِكَ عُمُومُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (5) ،
وَهَذَا يُوجِبُ لَهُنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ.
وَلأَِنَّ حَقَّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 4 / 192، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ 2 / 644،
وَالْبَدَائِعُ 4 / 16.
(2) شَرْحُ جَلاَل الدِّينِ الْمَحَلِّيِّ عَلَى مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ 4
/ 77 مَعَ حَاشِيَةِ عُمَيْرَةَ.
(3) رَدُّ الْمُحْتَارِ 2 / 644.
(4) سُورَةُ الطَّلاَقِ / 7
(5) حَدِيثُ: " وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ. . ".
تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ ف 4.
(41/36)
بِسَبَبِ النِّكَاحِ مُؤَثِّرٌ فِي
اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ
الاِكْتِسَابِ بِحَقِّهِ، فَكَانَ نَفْعُ حَبْسِهَا عَائِدًا إِلَيْهِ،
فَكَانَتْ كِفَايَتُهَا عَلَيْهِ (1) .
وَلأَِنَّ مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقِّ شَخْصٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ
عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَفَرُّغِهِ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، كَالْقَاضِي
وَالْوَالِي وَالْعَامِل فِي الصَّدَقَاتِ وَالْمُضَارِبِ إِذَا سَافَرَ
بِمَال الْمُضَارَبَةِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ
إِلاَّ بِالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ.
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ (3) ،
وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (5) ، وَهُوَ
قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ (6) .
قَال صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: قَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِذَا لَمْ
تُزَفَّ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا لاَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَهِيَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (7) .
__________
(1) الْبَدَائِعُ 4 / 16.
(2) تَبْيِينُ الْحَقَائِقِ 3 / 51.
(3) الشَّرْحُ الْكَبِيرُ لِلدَّرْدِيرِ 2 / 508، وَشَرْحُ الْخُرَشِيِّ 4
/ 183، وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل 4 / 182.
(4) الْمُغْنِي 9 / 230.
(5) الْكِفَايَةُ عَلَى الْهِدَايَةِ 4 / 192 - 193.
(6) حَاشِيَةُ عُمَيْرَةَ 477، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 435.
(7) الْكِفَايَةُ عَلَى الْهِدَايَةِ 4 / 192 - 193.
(41/36)
وَقَال صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ:
تَجِبُ النَّفَقَةُ لِمُمَكِّنَةٍ مِنْ نَفْسِهَا مُطِيقَةٍ لِلْوَطْءِ
بِلاَ مَانِعٍ بَعْدَ أَنْ دَعَتْ هِيَ أَوْ مُجْبِرُهَا أَوْ وَكِيلُهَا
لِلدُّخُول، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ حَاكِمٍ، وَبَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ
يَتَجَهَّزُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَادَةً (1) .
وَقَال جَلاَل الدِّينِ الْمَحَلِّيُّ: الْجَدِيدُ أَنَّهَا - أَيِ
النَّفَقَةَ - تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا بِالتَّمْكِينِ لاَ بِالْعَقْدِ
(2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا سَلَّمَتْ
نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ عَلَى الْوَجْهِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا فَلَهَا
عَلَيْهِ جَمِيعُ حَاجَتِهَا مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ
وَمَسْكَنٍ (3) .
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَقَدَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ ابْنَةُ
سِتِّ سِنِينَ (4) وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ دَخَل
بِهَا، فَدَل - عَلَى ذَلِكَ - عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ
بِالتَّمْكِينِ لاَ بِالْعَقْدِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ حَقًّا لَهَا لَمَا
مَنَعَهَا إِيَّاهَا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا لَنُقِل
__________
(1) الشَّرْحُ الْكَبِيرُ لِلدَّرْدِيرِ 2 / 508 - 509.
(2) شَرْحُ جَلاَل الدِّينِ الْمَحَلِّيِّ عَلَى مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ 4
/ 77.
(3) الْمُغْنِي 9 / 230.
(4) حَدِيثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَدَ
عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (فَتْحُ الْبَارِي 9 / 224) وَمُسْلِمٌ (2 / 1038
ط عِيسَى الْحَلَبِيِّ) .
(41/37)
إِلَيْنَا، وَلَمَّا لَمْ يُنْقَل أَنَّهُ
أَنْفَقَ عَلَيْهَا، دَل هَذَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ (1) .
وَلأَِنَّ الْعَقْدَ يُوجِبُ الْمَهْرَ، فَلاَ يُوجِبُ عِوَضَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ (2) .
كَمَا وَأَنَّ النَّفَقَةَ مَجْهُولَةٌ وَالْعَقْدَ لاَ يُوجِبُ مَالاً
مَجْهُولاً، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ
وَحْدَهُ.
وَلأَِنَّهَا تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ الاِسْتِمْتَاعِ فِي عَقْدٍ بِنِكَاحٍ
صَحِيحٍ، فَإِذَا وُجِدَ التَّسْلِيمُ وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ فِي
مُقَابَلَتِهِ كَالْبَائِعِ إِذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ وَجَبَ لَهُ عَلَى
الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ
النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْتَقِرُّ بِالتَّمْكِينِ (4) .
شُرُوطُ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجَةِ النَّفَقَةَ:
6 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - لاِسْتِحْقَاقِ الزَّوْجَةِ النَّفَقَةَ عَلَى
زَوْجِهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَبِيرَةً أَوْ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ،
وَأَنْ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا لِلزَّوْجِ مَتَى طَلَبَهَا إِلاَّ لِمَانِعٍ
شَرْعِيٍّ، وَأَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لاَ فَاسِدًا، فَلَوْ
كَانَتِ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً
__________
(1) حَاشِيَةُ عُمَيْرَةَ 4 / 77، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 435.
(2) الْمَرْجِعَانِ السَّابِقَانِ.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 435.
(4) الْقَلْيُوبِيُّ 4 / 77.
(41/37)
لاَ تُطِيقُ الْوَطْءَ فَلاَ نَفَقَةَ
لَهَا. سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَنْزِل الزَّوْجِ أَوْ لَمْ تَكُنْ حَتَّى
تَصِيرَ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي تُطِيقُ الْجِمَاعَ؛ لأَِنَّ امْتِنَاعَ
الاِسْتِمْتَاعِ إِنَّمَا لِمَعْنًى فِيهَا، وَالاِحْتِبَاسُ الْمُوجِبُ
لِلنَّفَقَةِ هُوَ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى مَقْصُودٍ مُسْتَحَقٍّ
بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لأَِنَّ
الصَّغِيرَةَ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلْجِمَاعِ لاَ تَصْلُحُ لِدَوَاعِيهِ؛
لأَِنَّهَا غَيْرُ مُشْتَهَاةٍ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْجُمْهُورُ فِي الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، بَل
تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الصَّغِيرِ مَتَى تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ الَّتِي
تُوجِبُ النَّفَقَةَ فِي الزَّوْجَةِ (1) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْمَدْخُول بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُول
بِهَا.
أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُول بِهَا فَتَجِبُ النَّفَقَةُ لِمُمْكِنَةٍ مِنْ
نَفْسِهَا مُطِيقَةٍ لِلْوَطْءِ بِلاَ مَانِعٍ بَعْدَ أَنْ دَعَتْ هِيَ
أَوْ مُجْبِرُهَا أَوْ وَكِيلُهَا لِلدُّخُول - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ
حَاكِمٍ - وَبَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَتَجَهَّزُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا
عَادَةً عَلَى الْبَالِغِ لاَ عَلَى صَغِيرٍ، وَلَوْ دَخَل عَلَيْهَا
بَالِغَةً وَافْتَضَّهَا، وَلاَ لِغَيْرِ مُمْكِنَةٍ، أَوْ لَمْ يَحْصُل
مِنْهَا أَوْ مِنْ وَلِيِّهَا دُعَاءٌ،
__________
(1) الْعِنَايَةُ بِهَامِشِ فَتْحِ الْقَدِيرِ 4 / 196، وَالْهِدَايَةُ
بِأَعْلَى فَتْحِ الْقَدِيرِ 4 / 196، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 58،
وَالْحَاوِي الْكَبِيرُ 15 / 30، وَالْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 9
/ 231، 255، وَالإِْنْصَافُ 9 / 378.
(41/38)
أَوْ حَصَل قَبْل مُضِيِّ زَمَنٍ
يَتَجَهَّزُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَلاَ لِغَيْرِ مُطِيقَةٍ، وَلاَ
لِمُطِيقَةٍ بِهَا مَانِعٌ كَرَتْقٍ إِلاَّ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِهَا
عَالِمًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ أَيْ بَالِغًا
السِّيَاقَ، وَهُوَ الأَْخْذُ فِي النَّزْعِ.
وَأَمَّا الْمَدْخُول بِهَا: فَلَمْ يَشْتَرِطُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
يَقُول الدُّسُوقِيُّ: وَالْحَاصِل أَنَّهُ فِي التَّوْضِيحِ جَعَل
السَّلاَمَةَ مِنَ الْمَرَضِ وَبُلُوغَ الزَّوْجِ وَإِطَاقَةَ الزَّوْجَةِ
لِلْوَطْءِ شُرُوطًا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِغَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا
الَّتِي دَعَتْ لِلدُّخُول، فَإِنِ اخْتَل مِنْهَا شَرْطٌ فَلاَ تَجِبُ
النَّفَقَةُ لَهَا، وَأَمَّا الْمَدْخُول بِهَا فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ
مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ.
وَخَالَفَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا الأُْمُورَ
الثَّلاَثَةَ الْمَذْكُورَةَ شُرُوطًا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ
لِلْمَرْأَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولاً بِهَا، أَوْ غَيْرَ
مَدْخُولٍ بِهَا وَدَعَتْ لِلدُّخُول (1) .
مَنْ لاَ نَفَقَةَ لَهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ:
7 - بَعْضُ الزَّوْجَاتِ لاَ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ فِي مَال زَوْجِهَا
عَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ نَفَقَةَ لِكُل امْرَأَةٍ جَاءَتِ
__________
(1) الشَّرْحُ الْكَبِيرُ 2 / 508، وَالزُّرْقَانِيُّ 4 / 244 - 245.
(41/38)
الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِمَعْصِيَةٍ
كَالرِّدَّةِ وَالزِّنَا بِالأُْصُول أَوِ الْفُرُوعِ، أَوْ تَقْبِيل ابْنِ
الزَّوْجِ بِشَهْوَةٍ، وَكَذَا النُّشُوزُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ النَّفَقَةِ: النُّشُوزَ،
وَمَنْعَ الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعِ، وَيَعُدُّونَ الْخُرُوجَ بِغَيْرِ
إِذْنِ الزَّوْجِ نُشُوزًا مَانِعًا مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ
مِنْ مَذْهَبِهِمْ؛ تَغْلِيبًا لِحَقِّ الاِسْتِمْتَاعِ فِي وُجُوبِهَا
عَلَى حَقِّ الْعَقْدِ، وَكَذَا الْعِدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ،
فَالْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ لاَ نَفَقَةَ لَهَا إِذَا كَانَتْ
حَائِلاً، أَمَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلاً فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَ
الْوَلَدُ حَيًّا، فَإِنْ مَاتَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهَا، كَمَا لاَ
نَفَقَةَ لِحَمْل مُلاَعَنَةٍ بِنَفْيِهِ، وَلاَ لِحَمْل أَمَةٍ زَوْجُهَا
حُرٌّ؛ لأَِنَّهُ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ مُوجِبَانِ مِنْ مُوجِبَاتِ
النَّفَقَةِ: الْوِلاَدَةُ وَالْمِلْكُ، فَاسْتَحَقَّ النَّفَقَةَ
بِأَقْوَى الْمُوجِبَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَسَقَطَ الْمُوجِبُ الآْخَرُ.
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: إِذَا اجْتَمَعَ مُوجِبَانِ مِنْ مُوجِبَاتِ
النَّفَقَةِ لِشَخْصٍ أَخَذَ نَفَقَةً وَاحِدَةً بِأَقْوَى الْمُوجِبَيْنِ
(2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِالنُّشُوزِ،
وَالصِّغَرِ، وَبِالْخُرُوجِ لِلْعِبَادَةِ غَيْرِ الْمَفْرُوضَةِ، أَوِ
__________
(1) الْهِدَايَةُ مَعَ فَتْحِ الْقَدِيرِ 4 / 216، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ 3
/ 575، 576.
(2) مَوَاهِبُ الْجَلِيل 4 / 191، وَالشَّرْحُ الْكَبِيرُ لِلدَّرْدِيرِ 2
/ 514 - 515.
(41/39)
الصَّوْمِ، أَوْ الاِعْتِكَافِ بِغَيْرِ
إِذْنٍ وَبِالطَّلاَقِ الْبَائِنِ مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجَةِ لِلنَّفَقَةِ إِنْ
لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا أَوْ تَعْرِضْ عَلَيْهِ، أَوْ
كَانَتْ مِمَّا لاَ يُوطَأُ مِثْلُهَا لِصِغَرٍ لِعَدَمِ وُجُودِ
التَّمْكِينِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ مِنْ جِهَتِهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ
سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِغَيْرِ وَاجِبٍ، أَوِ انْتَقَلَتْ مِنْ
مَنْزِلِهِ لِخُرُوجِهَا مِنْ قَبْضَتِهِ وَطَاعَتِهِ، فَأَشْبَهَتِ
النَّاشِزَ (2) .
تَقْدِيرُ النَّفَقَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِكِفَايَتِهَا، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (3) وَالْمَالِكِيَّةُ (4) وَبِهِ قَال بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ (5) ، وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ
عِنْدَهُمْ (6) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل
__________
(1) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 58 - 59 وَ 63، وَكِفَايَةُ الأَْخْيَارِ 2
/ 147 - 148.
(2) الْمُغْنِي وَالشَّرْحُ الْكَبِيرُ 9 / 256 - 262.
(3) الْبَدَائِعُ 4 / 23، وَالاِخْتِيَارُ 4 / 4.
(4) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 2 / 509، وَبِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ 2 / 59.
(5) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 40، وَنِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ 7 / 188.
(6) الْمُغْنِي 9 / 231، وَالإِْنْصَافُ 9 / 352.
(41/39)
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (1) } . مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ
بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَوْجَبَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ - وَهُوَ
الزَّوْجُ - نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمِقْدَارٍ
مُعَيَّنٍ، فَيَكُونُ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ،
كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ (2) .
وَبِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي
إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، فَقَال: " خُذِي مَا
يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (3) ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِنْدًا بِأَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا
وَوَلَدَهَا مِنْ مَال زَوْجِهَا بِالْمَعْرُوفِ دُونَ أَنْ يُقَدِّرَ
ذَلِكَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الْمُقَدَّرُ عُرْفًا
بِالْكِفَايَةِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ
بِكِفَايَتِهَا لاَ بِالشَّرْعِ.
وَبِمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ
فِي
__________
(1) سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 233
(2) الْبَدَائِعُ 4 / 21، وَالْمُغْنِي 9 / 232، وَنِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ
7 / 188، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 46.
(3) حَدِيثُ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ "
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (فَتْحُ الْبَارِي 9 / 507 ط السَّلَفِيَّةِ) ،
وَمُسْلِمٌ (3 / 1338) وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(41/40)
حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَال: " اتَّقُوا
اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ،
وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ. . . . وَلَهُنَّ
عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " (1) .
فَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَيَّدَ النَّفَقَةَ
الْوَاجِبَةَ عَلَى الأَْزْوَاجِ لِلزَّوْجَاتِ بِالْمَعْرُوفِ،
وَالْمَعْرُوفُ إِنَّمَا هُوَ الْكِفَايَةُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَا
نَقَصَ عَنِ الْكِفَايَةِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالزَّوْجَةِ، فَلاَ يُعَدُّ
مَعْرُوفًا وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ
سَرَفًا وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ؛ لِكَوْنِ السَّرَفِ مَمْقُوتًا، فَكَانَ
الْمَعْرُوفُ هُوَ الْكِفَايَةُ (2) .
وَبِقِيَاسِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ بِجَامِعِ
أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِمِقْدَارٍ مُحَدَّدٍ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى
الْكِفَايَةِ، فَتَكُونُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً
بِحَقِّ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةً عَنِ الْكَسْبِ لِحَقِّهِ، فَكَانَ
وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مُحَدَّدٍ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَالْقَاضِي مِنَ
الْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) حَدِيثُ: " وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ فِقْرَةُ 4.
(2) الْمُغْنِي 9 / 232.
(3) الْبَدَائِعُ 4 / 23.
(41/40)
وَقَدَّرَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِمُدَّيْنِ
إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا، وَبِمُدٍّ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا،
وَبِمُدٍّ وَنِصْفِ الْمُدِّ إِذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا. وَقَال الْقَاضِي:
الْوَاجِبُ رِطْلاَنِ مِنَ الْخُبْزِ فِي كُل يَوْمٍ فِي حَقِّ الْمُوسِرِ
وَالْمُعْسِرِ اعْتِبَارًا بِالْكَفَّارَاتِ (1) .
وَاحْتَجُّوا لأَِصْل التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ
بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (2) } .
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ فَبِقِيَاسِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى
الْكَفَّارَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ
(3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ
عَادَةً أَمْثَال الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَحَال الْبَلَدِ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (4)
.
الْقَوْل الرَّابِعُ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يَفْرِضُهُ الْقَاضِي
وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُقَدِّرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ (5) .
__________
(1) نِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ 7 / 188، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 40،
وَالْمُغْنِي 9 / 232، وَالْمُبْدِعُ 6 / 186.
(2) سُورَةُ الطَّلاَقِ / 7.
(3) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 426، وَتُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ 8 / 302.
(4) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 40، وَالدُّسُوقِيُّ 2 / 509، وَبِدَايَةُ
الْمُجْتَهِدِ 2 / 59.
(5) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 40.
(41/41)
مَا يُرَاعَى فِي النَّفَقَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَا
مُوسِرَيْنِ فَلِلزَّوْجَةِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا
مُعْسِرَيْنِ فَلِلزَّوْجَةِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ (1) .
أَمَّا لَوِ اخْتَلَفَتْ حَالَةُ الزَّوْجَيْنِ يَسَارًا أَوْ إِعْسَارًا،
بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَالزَّوْجَةُ مُعْسِرَةً مَثَلاً، أَوِ
الْعَكْسُ، وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى نَفَقَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُرَاعَى وَيُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي
تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: الْمُعْتَبَرُ حَال الزَّوْجِ يَسَارًا أَوْ
إِعْسَارًا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ (2) ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ (3) . مُسْتَنِدِينَ فِي
ذَلِكَ إِلَى قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (4) } مُوَجِّهِينَ
اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى
الزَّوْجِ الإِْنْفَاقَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ
يَكُونُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَجَبَ عَلَيْهِ
نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ
نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ؛ لأَِنَّهَا هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِحَالِهِ (5) .
__________
(1) الْبَدَائِعُ 4 / 24، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ 2 / 645، وَحَاشِيَةُ
الدُّسُوقِيِّ 2 / 509، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 41، وَالإِْنْصَافُ 9
/ 253.
(2) الْبَدَائِعُ 4 / 24، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ 2 / 645، 3 / 574.
(3) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ 9 / 40.
(4) سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 233
(5) تَكْمِلَةُ الْمَجْمُوعِ 18 / 250.
(41/41)
وَإِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ
ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا
سَيَجْعَل اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (1) } . فَقَدْ أَمَرَ
سُبْحَانَهُ الأَْزْوَاجَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِمْ
وَمِلْكِهِمْ دُونَ اعْتِبَارٍ لِحَال غَيْرِهِمْ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: الْمُعْتَبَرُ حَال الزَّوْجَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (3) مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْل اللَّهِ
عَزَّ وَجَل {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ (4) } مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ إِضَافَةَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَل لِلرِّزْقِ وَالْكُسْوَةِ إِلَى الزَّوْجَاتِ
الْوَالِدَاتِ فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيرِهَا
إِنَّمَا هُوَ حَال الزَّوْجَاتِ دُونَ الأَْزْوَاجِ، وَعَطْفَهُ
سُبْحَانَهُ الْكُسْوَةَ عَلَى الرِّزْقِ لِيُبَيِّنَ تَسَاوِيَهُمَا،
وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْكُسْوَةِ حَالَةَ الزَّوْجَةِ،
فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي الرِّزْقِ حَالَهَا كَذَلِكَ (5) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ: " خُذِي
مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (6) . فَأَسْنَدَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سُورَةُ الطَّلاَقِ / 7.
(2) تَكْمِلَةُ الْمَجْمُوعِ 18 / 250.
(3) رَدُّ الْمُحْتَارِ 3 / 574.
(4) سُورَةُ الْبَقَرَةِ / 233.
(5) فَتْحُ الْبَارِي 9 / 509، وَنَيْل الأَْوْطَارِ 6 / 323.
(6) حَدِيثُ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ". سَبَقَ
تَخْرِيجُهُ فِقْرَةُ 8.
(41/42)
الْكِفَايَةَ إِلَيْهَا، دُونَ اعْتِبَارٍ
لِحَال الزَّوْجِ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيرِ
النَّفَقَةِ مُرَاعَاةُ حَال الزَّوْجَةِ دُونَ حَالَةِ الزَّوْجِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: الْمُعْتَبَرُ حَالُهُمَا مَعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ (1) ، وَهُوَ
الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) ، وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ
(3) مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ
ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (4) } .
وَإِلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ
بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (5) .
مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ الآْيَةَ دَلَّتْ عَلَى اعْتِبَارِ
حَال الزَّوْجِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ دَل عَلَى اعْتِبَارِ حَال
الزَّوْجَةِ، فَكَانَ الْقَوْل بِاعْتِبَارِ حَالِهِمَا فِي تَقْدِيرِ
النَّفَقَةِ أَنْسَبَ؛ إِعْمَالاً لِظَاهِرِهِمَا وَجَمْعًا بَيْنَهُمَا
(6) .
وَلأَِنَّ الْقَوْل بِاعْتِبَارِ حَال الزَّوْجَيْنِ مَعًا فِيهِ
__________
(1) فَتْحُ الْقَدِيرِ 3 / 194 - 195.
(2) الشَّرْحُ الْكَبِيرُ لِلدَّرْدِيرِ 2 / 508 - 509، وَالتَّاجُ
وَالإِْكْلِيل 4 / 183.
(3) الْمُغْنِي 9 / 239، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 460.
(4) سُورَةُ الطَّلاَقِ / 7
(5) حَدِيثُ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ. . " سَبَقَ تَخْرِيجُهُ فِقْرَةُ 8.
(6) فَتْحُ الْبَارِي 9 / 509.
(41/42)
نَظَرٌ؛ لِحَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا،
وَهُوَ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ حَال أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ (1) .
أَنْوَاعُ النَّفَقَةِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ
لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا تَشْمَل الطَّعَامَ وَالْكُسْوَةَ
وَالْمَسْكَنَ، وَكُل مَا لاَ غِنَى لَهَا عَنْهُ، وَنَفَقَةُ الطَّعَامِ
هِيَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كُل بَلَدٍ مِنَ الْخُبْزِ وَالسَّمْنِ
أَوِ الزَّيْتِ وَالتَّمْرِ وَالأُْرْزِ وَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ.
وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا فَصَّلَتْهُ مَذَاهِبُ
الْفُقَهَاءِ، وَالْمُعْتَمَدُ هُوَ مَا أَوْرَدُوهُ فِي حَالاَتِ
تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ الَّذِي سَبَقَ تَفْصِيلُهُ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْكُسْوَةِ لِلزَّوْجَةِ عَلَى
النَّحْوِ الْمُفَصَّل فِي مُصْطَلَحِ (كُسْوَةٌ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا) ،
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ سُكْنَاهَا وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ
(سُكْنَى ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
11 - وَلَيْسَ أَمْرُ النَّفَقَةِ قَاصِرًا عَلَى الأَْنْوَاعِ
الْمَذْكُورَةِ فَقَطْ، بَل يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وُجُوبَ مَا
تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ خَادِمٍ يَقُومُ عَلَى شُؤُونِ
مِثْلِهَا عَادَةً وَثَمَنِ طِيبٍ وَآلاَتِ تَنْظِيفٍ وَكُل مَا هِيَ فِي
حَاجَةٍ إِلَيْهِ مِمَّا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) كَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 460.
(41/43)
أَوَّلاً: عِلاَجُ الزَّوْجَةِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ ثَمَنِ الدَّوَاءِ وَعَدَمِ
وُجُوبِ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الزَّوْجِ (1) مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (2) } .
مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَلْزَمَ
الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَلَيْسَتْ
نَفَقَةُ الْعِلاَجِ دَاخِلَةٌ تَحْتَهَا؛ لأَِنَّهَا مِنَ الأُْمُورِ
الْعَارِضَةِ (3) .
وَلأَِنَّ شِرَاءَ الأَْدْوِيَةِ وَأُجْرَةَ الطَّبِيبِ إِنَّمَا تُرَادُ
لإِِصْلاَحِ الْجِسْمِ، فَلاَ تَلْزَمُ الزَّوْجَ (4) .
ثَانِيًا: آلاَتُ التَّنْظِيفِ وَأَدَوَاتُ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى
زَوْجِهَا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْطِ وَالدُّهْنِ لِرَأْسِهَا
وَالسِّدْرِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا تَغْسِل بِهِ رَأْسَهَا
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ 1 / 549، وَالْبَدَائِعُ 4 / 20،
وَالشَّرْحُ الْكَبِيرُ لِلدَّرْدِيرِ 2 / 511، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 /
431، وَنِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ 7 / 195، وَالْحَاوِي 15 / 19، وَالْمُغْنِي
9 / 235.
(2) سُورَةُ الطَّلاَقِ / 7
(3) الْبَدَائِعُ 4 / 20، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 2 / 511.
(4) الْمُغْنِي 9 / 235، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 463، وَمُغْنِي
الْمُحْتَاجِ 3 / 431.
(41/43)
وَمَا يَعُودُ بِنَظَافَتِهَا مِنْ آلاَتِ
التَّنْظِيفِ (1) .
وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَهَا ثَمَنُ الطِّيبِ إِذَا كَانَ لِلتَّلَذُّذِ
وَالاِسْتِمْتَاعِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لَهُ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا
يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، أَمَّا مَا يُرَادُ بِهِ قَطْعُ الرَّائِحَةِ
الْكَرِيهَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ (2) .
ثَالِثًا: أُجْرَةُ الْخَادِمِ وَنَفَقَتُهُ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ
لاَ تَخْدِمُ نَفْسَهَا لِكَوْنِهَا مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْدَارِ، أَوْ
كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا بِأَنْ كَانَتْ
مِمَّنْ تُخْدَمُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا، أَوْ لِكَوْنِهَا مَرِيضَةً:
فَإِنَّهُ يُلْزَمُ الزَّوْجُ بِأَنْ يُهَيِّئَ لَهَا خَادِمًا
وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مَتَى كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
يَسَارُ الزَّوْجِ، بَل يَرَوْنَ اسْتِوَاءَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ
لِمَنْ لاَ يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ
عَلَى الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ نَفَقَةُ خَادِمٍ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ؛
لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ مِنَ النَّفَقَةِ أَدْنَى
الْكِفَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَى
الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ
__________
(1) الْبَدَائِعُ 4 / 20، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 2 / 511، وَالْمُغْنِي
9 / 235، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 463، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 431.
(2) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ 1 / 549، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل 4 /
182، 183، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 430، 431، وَالْمُغْنِي 9 / 235.
(41/44)
لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ فَلاَ
تَلْزَمُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا خَادِمٌ عُلِمَ أَنَّهَا لاَ
تَرْضَى بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا، فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمٍ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ دَل عَلَى أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِخِدْمَةِ
نَفْسِهَا (1) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خِدْمَة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .
15 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِلْزَامِ الزَّوْجِ بِأَكْثَرَ مِنْ
خَادِمٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَال:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يُلْزَمُ الزَّوْجُ بِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ
وَاحِدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ (2) وَهُوَ قَوْل
ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (3) ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ
(4) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (5) . لأَِنَّ الْخَادِمَ الْوَاحِدَ
لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ
مَعْلُومٌ يُقَدَّرُ بِهِ، فَلاَ يَكُونُ اعْتِبَارُ الْخَادِمَيْنِ
أَوْلَى مِنَ الثَّلاَثَةِ وَالأَْرْبَعَةِ، فَيُقَدَّرُ بِالأَْقَل وَهُوَ
الْوَاحِدُ.
وَلأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ خِدْمَةُ نَفْسِهَا، وَيَحْصُل ذَلِكَ بِوَاحِدٍ،
وَالزِّيَادَةُ تُرَادُ لِحِفْظِ مِلْكِهَا أَوْ لِلتَّجَمُّل وَلَيْسَ
عَلَيْهِ ذَلِكَ (6) .
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ 1 / 549، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 431،
وَالْمُغْنِي 9 / 235، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ 5 / 463، وَالْبَدَائِعُ 4 /
24.
(2) الْبَدَائِعُ 4 / 24.
(3) حَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ 2 / 510.
(4) الْمُهَذَّبُ 2 / 162، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ 3 / 432، 434.
(5) الْمُغْنِي 9 / 237.
(6) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ 4 / 24.
(41/44)
الْقَوْل الثَّانِي: يَلْزَمُ الزَّوْجَ
نَفَقَةُ خَادِمَيْنِ لِزَوْجَتِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ (1) ، وَهُوَ قَوْل
الْمَالِكِيَّةِ (2) ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ (3) .
لأَِنَّ خِدْمَةَ الْمَرْأَةِ لاَ تَقُومُ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ بَل تَقَعُ
الْحَاجَةُ إِلَى خَادِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِلآْخَرِ (4)
.
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ لأَِكْثَرَ مِنْ
خَادِمَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ،
وَبِهَا أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (5) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي خَادِمِ الزَّوْجَةِ:
16 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ خَادِمُ الزَّوْجَةِ امْرَأَةً أَوْ مِمَّنْ يَحِل
لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا مُرَاهِقًا
أَوْ مَحْرَمًا أَوْ مَمْسُوحًا، إِذَا كَانَ لِلْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ،
وَعَلَى هَذَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا وَلَوْ شَيْخًا
لِتَحْرِيمِ النَّظَرِ، لأَِنَّ الْخَادِمَ يُخَالِطُ الْمَخْدُومَ فِي
غَالِبِ أَحْوَالِهِ، فَلاَ يَسْلَمُ مِنَ النَّظَرِ (6) .
__________
(1) البدائع 4 / 24.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 510.
(3) المغني 9 / 273، وكشاف القناع 5 / 464.
(4) البدائع 4 / 24.
(5) البدائع 4 / 24.
(6) الخرشي 4 / 186، ومغني المحتاج 3 / 432، والمغني 9 / 237، وكشاف القناع
5 / 464.
(41/45)
أَمَّا إِذَا كَانَ لِلْخِدْمَةِ
الظَّاهِرَةِ كَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنَ الأَْسْوَاقِ فَالشَّافِعِيَّةُ
يُجَوِّزُونَ خِدْمَةَ الْكَبِيرِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْخَادِمِ غَيْرَ مُسْلِمٍ،
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خِدْمَة ف 13) .
لُزُومُ قَبُول الزَّوْجَةِ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لَهَا:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لُزُومِ قَبُول الزَّوْجَةِ خِدْمَةَ
الزَّوْجِ لَهَا إِذَا عَرَضَ عَلَيْهَا ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يَلْزَمُهَا قَبُول خِدْمَتِهِ لَهَا، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (1) ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
(2) لأَِنَّهَا تَسْتَحِي مِنْهُ وَتُعَيَّرُ بِهِ، وَفِيهِ غَضَاضَةٌ
عَلَيْهَا لِكَوْنِ زَوْجِهَا خَادِمَهَا.
الْقَوْل الثَّانِي: يَلْزَمُ الزَّوْجَةَ قَبُول خِدْمَةِ الزَّوْجِ
لَهَا، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَوَجْهٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (3) ، وَجَاءَ فِي تَوْجِيهِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَامَ بِخِدْمَتِهَا بِنَفْسِهِ لاَ
يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمٍ أَصْلاً لأََنَّ الْكِفَايَةَ تَحْصُل بِهِ.
إِتْيَانُ الزَّوْجَةِ بِخَادِمِهَا مَعَهَا:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ
بِخَادِمِهَا مَعَهَا لِيَخْدُمَهَا.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 433.
(2) المغني 9 / 238.
(3) بدائع الصنائع 4 / 24، والمغني 9 / 238.
(41/45)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ أَنَّ خَادِمَهَا يَخْدُمُهَا وَيَكُونُ
عِنْدَهَا، وَطَلَبَ الزَّوْجُ أَنْ يَخْدُمَهَا خَادِمُهُ، فَإِنَّهُ
يَقْضِي لَهَا بِخَادِمِهَا، لأَِنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا، وَحِينَئِذٍ
فَيَلْزَمُ الزَّوْجَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ.
وَقَيَّدَهُ ابْنُ شَاسٍ بِمَا إِذَا كَانَ خَادِمُهَا مَأْلُوفًا،
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الدَّرْدِيرِ الْقَضَاءُ بِخَادِمِهَا سَوَاءٌ كَانَ
مَأْلُوفًا أَوْ لاَ، إِلاَّ لِرِيبَةٍ فِي خَادِمِهَا تَضُرُّ بِالزَّوْجِ
فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنْ أَلِفَتْ خَادِمًا
أَخْدَمَهَا الزَّوْجُ إِيَّاهُ، أَوْ جَاءَتْ بِخَادِمٍ مَعَهَا وَأَرَادَ
الزَّوْجُ إِبْدَالَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِتَضَرُّرِهَا
بِقَطْعِ الْمَأْلُوفِ عَلَيْهَا، إِلاَّ أَنْ تَظْهَرَ رِيبَةٌ أَوْ
خِيَانَةٌ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ إِبْدَالُهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ
فَرَضِيَتْ بِخِدْمَتِهِ لَهَا وَنَفَقَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ جَازَ.
وَإِنْ قَال الزَّوْجُ: لاَ أُعْطِيكِ أَجْرَ هَذَا وَلَكِنْ أَنَا آتِيكِ
بِخَادِمٍ سِوَاهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهَا بِمَنْ يَصْلُحُ
لِخِدْمَتِهَا (3) .
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الصَّغِيرَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 511.
(2) مغني المحتاج 3 / 432.
(3) المغني 9 / 238، وكشاف القناع 5 / 463.
(41/46)
الصَّغِيرَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا لَمْ
يُمْكِنْ وَطْؤُهَا. وَلاَ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا عَلَى ثَلاَثَةِ
أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ الصَّغِيرَةِ عَلَى
زَوْجِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَبِهِ قَال
الْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ،
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) وَبِهِ قَال الْحَسَنُ
وَالنَّخَعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ (5) .
وَاسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
حَيْثُ عَقَدَ عَلَيْهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا وَهِيَ
بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ (6) ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا فِي حَال صِغَرِهَا فَلَوْ كَانَ
حَقًّا لَهَا لَدَفَعَهُ إِلَيْهَا، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَنُقِل
إِلَيْنَا، لَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فَدَل هَذَا عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ
الصَّغِيرَةِ النَّفَقَةَ (7) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 546، والبدائع 4 / 19.
(2) مواهب الجليل 4 / 182، وشرح الخرشي 4 / 184.
(3) المهذب 2 / 159، مغني المحتاج 3 / 438.
(4) كشاف القناع 5 / 471، والمغني 9 / 281، الإنصاف 9 / 377.
(5) المغني 9 / 281.
(6) حديث: " عقد على عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع. . " سبق
تخريجه فقرة 5.
(7) مغني المحتاج 3 / 438، والمغني 9 / 282.
(41/46)
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ
بِالتَّمْكِينِ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ وَلاَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي
الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، لِقِيَامِ الْمَانِعِ فِي
نَفْسِهَا مِنَ الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعِ، فَلَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا
لِعَدَمِ قَبُول الْمَحَل لِذَلِكَ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: تَجِبُ لِلصَّغِيرَةِ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا،
وَهَذَا هُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) ، وَبِهِ
قَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (3) ، وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ (4) .
وَاسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى عُمُومِ الآْيَاتِ الْمُوجِبَةِ
لِلنَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ مِثْل قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (5) } ، وَقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ (6) } .
فَقَدْ أَوْجَبَتِ النَّفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ مِنْ
غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ. وَإِلَى عُمُومِ قَوْل
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " (7) .
__________
(1) المغني 9 / 281، وبدائع الصنائع 4 / 19.
(2) مغني المحتاج 3 / 438، والمهذب 2 / 159.
(3) المغني 9 / 281، والإنصاف 9 / 377.
(4) المغني 9 / 281.
(5) سورة البقرة / 233
(6) سورة الطلاق / 7
(7) حديث: " ولهن عليكم رزقهن. . . " سبق تخريجه ف 6.
(41/47)
مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ نَفَقَةَ
الزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ صَغِيرَةٍ
أَوْ كَبِيرَةٍ.
وَإِلَى الْقِيَاسِ عَلَى الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ، بِجَامِعِ أَنَّ
كُلًّا مِنْهُنَّ لاَ تُوطَأُ مَعَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهُنَّ، وَعَدَمِ
اعْتِبَارِ الرَّتْقِ وَالْقَرْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ نَفَقَتِهِنَّ (1)
.
وَلأَِنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهَا فَلَمْ
يَمْنَعْ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَهَا كَالْمَرِيضَةِ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنْ أَمْسَكَهَا الزَّوْجُ لَهَا النَّفَقَةُ،
وَإِنْ رَدَّهَا فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَاسْتَدَل بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَحْتَمِل الْوَطْءَ لَمْ يُوجَدِ
التَّسْلِيمُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ
مِنَ الْقَبُول.
فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ، لأَِنَّهُ حَصَل لَهُ نَوْعُ
مَنْفَعَةٍ وَضَرْبٌ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ
الْقَاصِرِ، وَإِنْ رَدَّهَا فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى يَجِيءَ حَالٌ
يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى جِمَاعِهَا، لاِنْعِدَامِ التَّسْلِيمِ الَّذِي
أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 438.
(2) المغني 9 / 281.
(3) بدائع الصنائع 4 / 19.
(4) المرجع السابق.
(41/47)
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا كَانَتْ
مَرِيضَةً قَبْل الاِنْتِقَال إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَبَذَلَتْ لَهُ
تَسْلِيمَ نَفْسِهَا تَسْلِيمًا كَامِلاً، أَوْ بَذَل هَذَا التَّسْلِيمَ
وَلِيُّ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا،
وَتَسَلَّمَهَا الزَّوْجُ فِعْلاً، أَنَّ النَّفَقَةَ تَكُونُ وَاجِبَةً
لَهَا عَلَيْهِ وَلَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا لِمَرَضِهَا (1) .
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَيْهِ إِذَا زُفَّتْ
إِلَيْهِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ مَرِضَتْ عِنْدَهُ، لأَِنَّ
الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ مُمْكِنٌ وَلاَ تَفْرِيطَ
مِنْ جِهَتِهَا (2) ، وَلأَِنَّ الاِحْتِبَاسَ قَائِمٌ فَإِنَّهُ
يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَيَمَسُّهَا وَتَحْفَظُ الْبَيْتَ، وَالْمَانِعُ
عَارِضٌ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ.
21 - وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرِيضَةِ الْمَدْخُول بِهَا مَرَضًا شَدِيدًا
يَمْنَعُهَا مِنْ الاِنْتِقَال إِلَى مَنْزِل الزَّوْجِيَّةِ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَال
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
__________
(1) البدائع 4 / 19، وحاشية الدسوقي 2 / 508، ومغني المحتاج 3 / 437، وشرح
منتهى الإرادات 3 / 353.
(2) شرح منتهى الإرادات 3 / 353، ومغني المحتاج 3 / 473.
(3) البدائع 4 / 19، والمدونة 2 / 252، ومغني المحتاج 3 / 437، والمغني 9 /
284.
(41/48)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ
الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ وَلاَ تَفْرِيطَ مِنْ جِهَتِهَا وَإِنْ
مُنِعَ مِنَ الْوَطْءِ.
وَلأَِنَّ التَّسْلِيمَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنَ الْوَطْءِ وَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ، فَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ
وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْحَائِضِ
وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ صَوْمَ رَمَضَانَ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ نَفَقَةَ لَهَا قَبْل النُّقْلَةِ فَإِذَا
نُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَبِهِ قَال أَبُو
يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
فَقَدْ جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنْ لاَ
نَفَقَةَ لَهَا قَبْل النُّقْلَةِ، فَإِذَا نُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ
فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدِ التَّسْلِيمُ الَّذِي هُوَ
تَخْلِيَةٌ وَتَمْكِينٌ، وَلَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ
الْمَانِعِ، وَهُوَ الْمَرَضُ، فَلاَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ
كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْوَطْءَ.
وَلأَِنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ - وَهُوَ
التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ مِنَ الْوَطْءِ - لَمَّا لَمْ يُوجَدْ كَانَ
لَهُ أَنْ لاَ يَقْبَل التَّسْلِيمَ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ (3)
.
__________
(1) البدائع 4 / 19.
(2) المرجع السابق، والمدونة 2 / 252.
(3) البدائع 4 / 19.
(41/48)
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الْمَحْبُوسَةِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجَةِ
لِلنَّفَقَةِ إِذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً بِسَبَبِ دَيْنٍ عَلَيْهَا دُونَ
مُمَاطَلَةٍ مِنْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَيْسَ لَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ مَحْبُوسَةً،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ قَدْ بَطَل بِاعْتِرَاضِ حَبْسِ
الدَّيْنِ، لأَِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِحَبْسِهَا بِالدَّيْنِ (2)
.
كَمَا وَقَدْ فَاتَ بِحَبْسِهَا التَّسْلِيمُ الْوَاجِبُ بِالنِّكَاحِ مِنْ
قِبَلِهَا فَصَارَتْ كَالنَّاشِزِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا
وَفِي سُقُوطِهَا.
الْقَوْل الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَبْسِهَا مَا لَمْ تَكُنْ
مُمَاطِلَةً، وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ لَمْ يَكُنْ
بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا فَلاَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا، لأَِنَّهَا حُبِسَتْ
لإِِثْبَاتِ عُسْرِهَا لاَ لِمُمَاطَلَتِهَا (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 545، وفتح القدير 4 / 198، ومغني المحتاج 3 / 437،
وكشاف القناع 4 / 198.
(2) فتح القدير 4 / 198، البدائع 4 / 20.
(3) الشرح الكبير للدردير 2 / 517، وفتح القدير 4 / 198.
(4) الشرح الكبير للدردير 2 / 517.
(41/49)
نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْغَائِبِ:
غِيَابُ الزَّوْجِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ.
أَوَّلاً: نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْغَائِبِ قَبْل الدُّخُول:
23 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِ زَوْجَةِ الْغَائِبِ
النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ بِالنِّكَاحِ قَبْل الدُّخُول بَيْنَ مَا إِذَا
بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَهُ حَال غَيْبَتِهِ وَبَيْنَ بَذْلِهَا لَهُ
نَفْسَهَا قَبْل غَيْبَتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى
أَنَّهُ إِذَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَالزَّوْجُ غَائِبٌ فَإِنَّهُ لاَ
يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ (1) .
لأَِنَّهَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا فِي حَالٍ لاَ يُمْكِنُهُ التَّسَلُّمُ
فِيهِ حَتَّى يُرَاسِلَهُ الْحَاكِمُ، بِأَنْ يَكْتُبَ رِسَالَةً إِلَى
حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لِيَسْتَدْعِيَهُ وَيُعْلِمَهُ
بِرَغْبَةِ زَوْجَتِهِ فِي تَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهَا وَطَلَبِهَا
لِلنَّفَقَةِ، وَيَمْضِي عَلَى ذَلِكَ زَمَنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَقْدُمَ فِي
مِثْلِهِ.
فَإِذَا سَارَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا أَوْ وَكَّل مَنْ يَتَسَلَّمَهَا لَهُ
مِمَّنْ يَحِل لَهُ ذَلِكَ كَمَحْرَمِهَا، فَوَصَل فَتَسَلَّمَهَا
الزَّوْجُ أَوْ نَائِبُهُ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ وُجُودَ
الْبَذْل قَبْل ذَلِكَ كَعَدَمِهِ.
__________
(1) البدائع 4 / 29، ورد المحتار 2 / 665، ومغني المحتاج 3 / 446، والمغني
9 / 286، والمبدع 8 / 202، وكشاف القناع 5 / 471، ومواهب الجليل 4 / 182 -
183.
(41/49)
فَإِنْ لَمْ يَفْعَل مَا سَبَقَ، فَرَضَ
الْحَاكِمُ عَلَيْهِ نَفَقَتَهَا مِنْ حِينِ الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ
فِيهِ الْوُصُول إِلَيْهَا وَتَسَلُّمُهَا فِيهِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ
امْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا لإِِمْكَانِ ذَلِكَ وَبَذْلِهَا نَفْسَهَا
لَهُ، فَلَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَلأَِنَّ
الزَّوْجَ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْحُضُورِ لِتَسَلُّمِهَا يَكُونُ قَدْ
تَرَكَ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ لِحَقِّهِ لاَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ
عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ لِزَوْجَتِهِ.
وَإِذَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ ثُمَّ غَابَ عَنْهَا
بَعْدَ أَنْ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا وَامْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا
فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ،
لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخِطَابِ: إِذَا سَافَرَ
الزَّوْجُ قَبْل الدُّخُول فَطَلَبَتْ زَوْجَتُهُ النَّفَقَةَ فَلَهَا
ذَلِكَ عَلَى مَا رَجَّحَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقِيل: لاَ نَفَقَةَ لَهَا إِذَا كَانَ قَرِيبًا
لأَِنَّهَا لاَ نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَدْعُوَهُ وَهِيَ لَمْ تَدْعُ قَبْل
مَغِيبِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ إِمَّا أَنْ يَبْنِيَ أَوْ أَنْ يُنْفِقَ،
وَقِيل: لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ حِينِ تَدْعُو إِلَى الْبِنَاءِ، وَإِنْ
كَانَ غَائِبًا عَلَى قُرْبٍ فَلَيْسَ عَلَيْهَا انْتِظَارُهُ وَهَذَا
أَقْيَسُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ إِذْ لَمْ يُفَرَّقْ فِيهَا بَيْنَ
قُرْبٍ وَلاَ بُعْدٍ (1) .
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 182 - 183، والتاج والإكليل 4 / 200، وشرح الخرشي 4 /
199.
(41/50)
ثَانِيًا: نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْغَائِبِ
بَعْدَ الدُّخُول:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ
مَا فِي حُكْمِهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ فِي مَالِهِ،
حَاضِرًا كَانَ الْمَال أَوْ غَائِبًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِفَرْضِ
الْقَاضِي لِلنَّفَقَةِ إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ
(1) . لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَال لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (2) وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ
وَكَانَ غَائِبًا.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ:
الأَْوَّل: هُوَ أَنْ يَفْرِضَ الْقَاضِي لِلزَّوْجَةِ نَفَقَةً عَلَى
زَوْجِهَا الْغَائِبِ بِشَرْطِ طَلَبِهَا، لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ
الزَّوْجِ، فَلاَ تُمْنَعُ النَّفَقَةُ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَبِهِ قَال
أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلاً وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ لِحَدِيثِ هِنْدَ
السَّابِقِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ وَلَوْ طَلَبَتْ
وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ لأَِنَّ
__________
(1) شرح الخرشي 4 / 199، والتاج والإكليل 4 / 200، ومغني المحتاج 3 / 436،
وكشاف القناع 5 / 471.
(2) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " سبق تخريجه ف 8.
(41/50)
الْفَرْضَ مِنَ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ
قَضَاءٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَحَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ
عَلَى الْغَائِبِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ،
وَلَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الآْخَرَ، وَهُوَ قَوْل
شُرَيْحٍ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَيْبَة ف 4 وَمَا بَعْدَهَا)
.
25 - فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ فَسَأَلَتِ
الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَفْرِضَ لَهَا
نَفَقَةً عَلَى الْغَائِبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ
عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يَسْمَعُهَا الْقَاضِي وَلاَ يَفْرِضُ لَهَا،
وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ (2) . لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْل
الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُسْمَعُ إِلاَّ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ، وَلاَ خَصْمَ
فَلاَ تُسْمَعُ.
الْقَوْل الثَّانِي: يَسْمَعُ الْقَاضِي بَيِّنَتَهَا وَيَفْرِضُ لَهَا
نَفَقَةً وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ
يَأْمُرُهَا الْقَاضِي بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ فِي وَجْهِهِ، فَإِنْ
فَعَلَتْ نَفَّذَ الْفَرْضَ وَصَحَّتْ الاِسْتِدَانَةُ، وَإِنْ لَمْ
تَفْعَل لَمْ يُنَفِّذْ وَلَمْ يَصِحَّ، وَبِهِ قَال زُفَرُ.
لأَِنَّ الْقَاضِيَ إِنَّمَا يَسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لاَ لإِِثْبَاتِ
النِّكَاحِ عَلَى الْغَائِبِ، بَل لِيَتَوَصَّل
__________
(1) البدائع 4 / 26.
(2) لبدائع 4 / 27.
(41/51)
بِهَا إِلَى فَرْضِ النَّفَقَةِ، إِذْ
يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ، كَشَهَادَةِ
رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى السَّرِقَةِ، فَإِنَّهَا تُقْبَل فِي حَقِّ
الْمَال، وَلاَ تُقْبَل فِي حَقِّ الْقَطْعِ. كَذَا هَاهُنَا تُقْبَل
هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ، لاَ فِي إِثْبَاتِ
النِّكَاحِ.
فَإِذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ اسْتَعَادَ مِنْهَا الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ
أَعَادَتْ نَفَّذَ الْفَرْضَ وَصَحَّتْ الاِسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ وَإِلاَّ
فَلاَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
مَالٌ حَاضِرٌ (1) . فَإِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ: فَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهَا.
فَإِذَا كَانَ الْمَال فِي يَدِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ فَقَدْ
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا
بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي (2) لِحَدِيثِ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ
السَّابِقِ (3) .
وَإِنْ كَانَ الْمَال فِي يَدِ غَيْرِهَا وَهُوَ مِنْ جَنْسِ النَّفَقَةِ
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَخْذِ الزَّوْجَةِ نَفَقَتَهَا مِنْ
مَال زَوْجِهَا الَّذِي بِيَدِ الآْخَرِينَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَال
وَدِيعَةً أَمْ دَيْنًا بِأَمْرِ الْقَاضِي عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) البدائع 4 / 27.
(2) البدائع 4 / 27.
(3) سبق تخريجه ف 8.
(41/51)
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنْ كَانَ صَاحِبُ
الْيَدِ مُقِرًّا بِالْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ، أَوْ كَانَ الْمَدِينُ
مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ، أَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا
بِذَلِكَ فَرَضَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْمَال نَفَقَتَهَا، وَبِهِ قَال أَبُو
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ (1) .
لأَِنَّ صَاحِبَ السَّيِّدِ - وَهُوَ الْمُودَعُ - إِذَا أَقَرَّ
بِالْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ، أَوْ أَقَرَّ الْمَدْيُونُ بِالدَّيْنِ
وَالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّا أَنَّ لَهَا حَقَّ الأَْخْذِ، لأَِنَّ
لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا إِلَى مَال زَوْجِهَا فَتَأْخُذَ
كِفَايَتَهَا مِنْهُ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَلأَِنَّهُ
لَوْ لَمْ يَفْرِضِ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ فِي ذَلِكَ الْمَال
أُضِيرَتْ، فَكَانَ الْوَاجِبُ إِعَانَتَهَا عَلَى أَخْذِ حَقِّهَا
وَاسْتِيفَاءِ نَفَقَتِهَا (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً، وَبِهِ قَال زُفَرُ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ. لأَِنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، إِذِ الْمُودَعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنِ
الزَّوْجِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ فَلاَ يَجُوزُ (3) .
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ
النَّفَقَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ
ثِيَابًا مَنْ جَنْسِ كُسْوَتِهَا.
__________
(1) البدائع 4 / 27
(2) المرجع السابق.
(3) البدائع 4 / 27.
(41/52)
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ
بِأَنْ كَانَتْ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا فَبَيَانُ حُكْمِ ذَلِكَ فِيمَا
يَلِي:
أَوَّلاً: إِنْ كَانَتْ أَمْوَال الْغَائِبِ عَقَارًا:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَفْرِضُ الْقَاضِي
لِلزَّوْجَةِ فِي عَقَارِ الْغَائِبِ نَفَقَةً، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ
إِيجَابُ النَّفَقَةِ فِي عَقَارِ الْغَائِبِ إِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَلاَ
يُبَاعُ الْعَقَارُ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ، لأَِنَّ مَال
الْمَدِينِ إِنَّمَا يُبَاعُ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ وَلَمْ
يَثْبُتِ امْتِنَاعُهُ فَلاَ يُبَاعُ عَلَيْهِ (1) .
ثَانِيًا: إِنْ كَانَ أَمْوَال الْغَائِبِ عُرُوضًا:
27 - أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَمْوَالُهُ عُرُوضًا فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْحَنَفِيَّةُ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ فِيهَا لِلزَّوْجَةِ بِبَيْعِهَا
عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ فِي عُرُوضِ
التِّجَارَةِ وَلاَ تُبَاعُ فِي نَفَقَتِهَا، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ،
لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِيجَابُ النَّفَقَةِ فِيهِ إِلاَّ بِالْبَيْعِ،
وَمَال الْمَدِينِ إِنَّمَا يُبَاعُ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ،
وَالْغَائِبُ لاَ يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ، فَلاَ يُعْلَمُ ظُلْمُهُ، فَلاَ
يُبَاعُ عَلَيْهِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: يَفْرِضُ لِزَوْجَةِ الْغَائِبِ النَّفَقَةَ فِي
مَالِهِ إِنْ كَانَتْ عُرُوضًا بِبَيْعِهِ، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ (3) .
__________
(1) البدائع 4 / 27.
(2) البدائع 4 / 27.
(3) البدائع 4 / 27.
(41/52)
وَاسْتَنَدَا فِي ذَلِكَ: إِلَى مَا
اسْتَنَدَا إِلَيْهِ فِي فَرْضِ نَفَقَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَمْوَالُهُ
عَقَارًا مِنْ حَدِيثِ هِنْدَ.
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَصْلاً فَطَلَبَتْ
مِنَ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ فَعِنْدَنَا لاَ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ
لأَِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَسْمَعُ الْقَاضِي
الْبَيِّنَةَ وَلاَ يَقْضِي بِالنِّكَاحِ وَيُعْطِيهَا النَّفَقَةَ مِنْ
مَال الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ أَمَرَهَا الْقَاضِي
بِالاِسْتِدَانَةِ، فَإِنْ حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَقَرَّ بِالنِّكَاحِ
أَمَرَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَلَّفَهَا
الْقَاضِي إِعَادَةَ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تُعِدْهَا أَمَرَهَا
الْقَاضِي بِرَدِّ مَا أَخَذَتْ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْقُضَاةُ فِي
زَمَانِنَا مِنْ قَبُول الْبَيِّنَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَفَرْضِ
النَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ إِنَّمَا يُنَفَّذُ لاَ لأَِنَّهُ قَوْل
عُلَمَائِنَا الثَّلاَثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا يُنَفَّذُ
لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ إِمَّا مَعَ زُفَرَ أَوْ مَعَ أَبِي يُوسُفَ
كَمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ (1) .
نَفَقَةُ زَوْجَةِ الَّذِي لاَ مَال لَهُ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ
الَّذِي لاَ مَال لَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنْ أَنْفَقَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ
مَالِهَا أَوْ مِنْ مَال غَيْرِهَا بِدُونِ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 214.
(41/53)
قَضَاءٍ مِنَ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ أَوْ
تَرَاضٍ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى مِقْدَارِ النَّفَقَةِ: لاَ تَكُونُ
النَّفَقَةُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ أَصْلاً إِلاَّ إِذَا كَانَتِ
الْمُدَّةُ الَّتِي طَلَبَتِ الْحُكْمَ بِنَفَقَتِهَا أَقَل مِنْ شَهْرٍ،
فَيَسُوغُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لَهَا لِصُعُوبَةِ الاِحْتِرَازِ
عَنْهَا.
لأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَهَا شَبَهَانِ: شَبَهٌ بِالْعِوَضِ وَآخَرُ
بِالصِّلَةِ عَطَاءٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضِ، فَهِيَ لَيْسَتْ عِوَضًا مِنْ كُل
وَجْهٍ وَلَيْسَتْ صِلَةً مِنْ كُل وَجْهٍ.
أَمَّا شَبَهُهَا بِالْعِوَضِ فَلأَِنَّهَا جَزَاءُ احْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ
لِحَقِّ زَوْجِهَا وَقِيَامِهَا بِشُؤُونِ الْبَيْتِ وَرِعَايَةِ
الأَْوْلاَدِ. وَأَمَّا شَبَهُهَا بِالصِّلَةِ فَلِكَوْنِ الْمَنَافِعِ
الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الاِحْتِبَاسِ عَائِدَةً عَلَى كِلاَ الزَّوْجَيْنِ
فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلاَ تَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا عَلَى
الزَّوْجِ.
فَنَظَرًا لِشَبَهِهَا بِالصِّلَةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ
غَيْرِ قَضَاءٍ وَلاَ تَرَاضٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَنَفَقَةِ الأَْقَارِبِ.
وَلِشَبَهِهَا بِالْعِوَضِ تَصِيرُ دَيْنًا بِالْقَضَاءِ بِهَا أَوِ
التَّرَاضِي عَلَيْهَا.
وَإِنْ أَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا بَعْدَ تَرَاضِيهَا مَعَهُ أَوْ بَعْدَ
قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ، وَلَكِنْ قَبْل الإِْذْنِ
بِالاِسْتِدَانَةِ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنَّ النَّفَقَةَ
تَسْقُطُ بِأَدَاءِ الزَّوْجِ إِيَّاهَا لِلزَّوْجَةِ أَوْ
(41/53)
وَكِيلِهَا، أَوْ إِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ
زَوْجَهَا مِنْهَا، أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا.
وَإِنْ أَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَالإِْذْنِ
بِالاِسْتِدَانَةِ، أَوْ بَعْدَ التَّرَاضِي مَعَ زَوْجِهَا وَالإِْذْنِ
لَهَا بِالاِسْتِدَانَةِ - وَاسْتَدَانَتِ الزَّوْجَةُ بِالْفِعْل -
كَانَتِ النَّفَقَةُ دَيْنًا صَحِيحًا ثَابِتًا عَلَى الزَّوْجِ لاَ
يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ إِلَيْهَا فِعْلاً أَوِ الإِْبْرَاءِ
مِنْهَا، وَفَائِدَةُ الإِْذْنِ ثُبُوتُ الْحَقِّ لِلْغَرِيمِ فِي
مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ إِذَا أَحَالَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: تُعْتَبَرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ
بِمُجَرَّدِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا، وَلاَ
يَسْقُطُ هَذَا الدَّيْنُ عَنْهُ مُطْلَقًا إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ
الإِْبْرَاءِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ: سَوَاءٌ أَحَكَمَ بِهَا الْقَاضِي أَمْ
تَرَاضَيَا عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا وَلَمْ يَتَرَاضَيَا
عَلَيْهَا.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (2) وَالشَّافِعِيَّةُ (3)
وَالْحَنَابِلَةُ (4) . مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى: مَا وَرَدَ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ
الأَْجْنَادِ فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ،
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ، إِمَّا
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 28، تبيين الحقائق 3 / 55، 56.
(2) شرح الخرشي 4 / 199.
(3) مغني المحتاج 3 / 442.
(4) المغني 9 / 247.
(41/54)
أَنْ يُفَارِقُوا وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا
بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا
تَرَكَ (1) .
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ يَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ،
فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَالدُّيُونِ
(2) .
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ
فِي مُقَابِل احْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ لِمَنْفَعَةِ الزَّوْجِ وَقِيَامِهَا
عَلَى شُؤُونِ الْبَيْتِ وَمَصَالِحِهِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّفَقَةُ
عِوَضًا فَإِنَّهَا تَكُونُ دَيْنًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ مِنَ
اسْتِحْقَاقِهَا كَمَا فِي كُل أُجْرَةٍ وَعِوَضٍ (3) .
تَنَازُعُ الزَّوْجَيْنِ فِي الإِْنْفَاقِ:
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ إِذَا ادَّعَى
الزَّوْجُ إِعْطَاءَ زَوْجَتِهِ نَفَقَتَهَا أَوْ إِرْسَالَهَا لَهَا
وَأَنْكَرَتْ هِيَ ذَلِكَ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ
الْقَوْل قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا (4) .
__________
(1) أثر عمر رضي الله عنه: كتب إلى أمراء الأجناد فيمن غاب عن نسائه. أخرجه
الشافعي في المسند (2 / 65 بترتيب السندي) وابن أبي شيبة في المصنف (5 /
214 ط الدار السلفية) ، واللفظ لابن أبي شيبة.
(2) مغني المحتاج 3 / 442.
(3) المغني 9 / 247.
(4) البدائع 4 / 29، والمهذب 2 / 164، والمغني مع الشرح 9 / 253.
(41/54)
لأَِنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي قَضَاءَ دَيْنٍ
عَلَيْهِ وَهِيَ تُنْكِرُهُ، فَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا
كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " (1) ، وَلأَِنَّ
الأَْصْل عَدَمُ الْقَبْضِ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا فِي
ذَلِكَ إِلَى الْحَاكِمِ فَلَمْ يَجِدْ لِزَوْجِهَا مَالاً أَبَاحَ لَهَا
الإِْنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهَا، وَأَذِنَ لَهَا فِي الاِقْتِرَاضِ
وَالرُّجُوعِ بِذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا، فَالْقَوْل قَوْلُهَا مَعَ
يَمِينِهَا مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ لاَ مِنْ يَوْمِ سَفَرِ الزَّوْجِ،
وَإِنْ رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعُدُول أَوِ
الْجِيرَانِ فَإِنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا لَمْ تَرْفَعْ أَصْلاً، أَوْ رَفَعَتْ لِعُدُولٍ
أَوْ لِلْجِيرَانِ، أَوْ بِبَعْضِ الْمُدَّةِ وَسَكَتَتْ عَنْ بَعْضِهَا
الآْخَرِ (3) .
نَفَقَةُ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ:
30 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ
لَهَا نَفَقَةٌ مَا دَامَ لَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِمَوْتِهِ، وَيُنْفَقُ
عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ إِلَى حِينِ اتِّضَاحِ
__________
(1) حديث: " اليمين على المدعى عليه " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 213 ط
السلفية) ومسلم (3 / 1336 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) البدائع 4 / 29.
(3) شرح الخرشي 4 / 200 - 201.
(41/55)
أَمْرِهِ، لأَِنَّهَا مَحْكُومٌ لَهَا
بِالزَّوْجِيَّةِ فَتَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ عَلِمَتْ
حَيَاتَهُ وَهِيَ مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا إِلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَفْقُود ف 4 - 10وما بَعْدَهَا) .
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْقَاقِهَا النَّفَقَةَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ إِذَا
رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَطَلَبَتِ الْفُرْقَةَ فَضَرَبَ
لَهَا مُدَّةَ أَرْبَعِ سِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ، وَهُوَ
مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.
قَال الْحَطَّابُ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ، لأَِنَّ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهَا
بِبَيْنُونَتِهَا مِنْ زَوْجِهَا فَهِيَ مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ
الزَّوْجِيَّةِ فَأَشْبَهَ مَا قَبْل الْمُدَّةِ، وَلأَِنَّ امْرَأَةَ
الْغَائِبِ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ تَرَبُّصِهَا فَكَذَلِكَ
امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ نَفَقَةَ لَهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَضَ لَهَا قَبْل ذَلِكَ نَفَقَةً فَيَكُونُ
سَبِيلُهَا فِي النَّفَقَةِ سَبِيل الْمَدْخُول بِهَا وَهُوَ قَوْل
الْمُغِيرَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) الاختيار 3 / 38، وروضة الطالبين 8 / 401، والمغنى 9 / 439، والمبدع 8
/ 229.
(2) المغني 9 / 439، والحطاب 4 / 183، وروضة الطالبين 8 / 402، والمهذب 2 /
166، وكشاف القناع 5 / 424.
(41/55)
فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْفُرْقَةِ
بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى اسْتِحْقَاقِهَا لِلنَّفَقَةِ فِي
مُدَّةِ الْعِدَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ نَفَقَةَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ.
الْقَوْل الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَفْقُود ف 10) .
الْكَفَالَةُ بِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلَبِ الزَّوْجَةِ كَفِيلاً
بِالنَّفَقَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى إِعْطَاءِ الْكَفِيل
بِالنَّفَقَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَبِهِ
قَال الشَّافِعِيَّةُ (2) .
لأَِنَّ النَّفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي الْحَال فَلاَ
يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَمَا أَنَّهُ لاَ
يُجْبَرُ عَلَى التَّكَفُّل بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى
إِعْطَائِهِ عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
الْقَوْل الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ أَخْذُ كَفِيلٍ لَهَا بِالنَّفَقَةِ،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (3) وَالْحَنَابِلَةُ (4)
__________
(1) البدائع 4 / 28.
(2) مغني المحتاج 2 / 200.
(3) شرح الخرشي 4 / 199، ومواهب الجليل 4 / 200.
(4) المغني 9 / 297.
(41/56)
وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) ،
وَذَلِكَ لِضَمَانِ حَقِّ الزَّوْجَةِ (2) .
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ النَّاشِزِ:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ نَفَقَةَ
لَهَا بِنُشُوزِهَا (3) ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَاللاَّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (4) } ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ
فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ
فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ
ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " (5) .
فَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يَنْتَهِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ
نَفَقَةٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نُشُوز ف 7) .
__________
(1) البدائع 4 / 28.
(2) البدائع 4 / 28.
(3) فتح القدير 3 / 335، والبدائع 4 / 19، والمبسوط 5 / 186، والشرح الكبير
للدردير 2 / 524، ومغني المحتاج 3 / 435، وكشاف القناع 5 / 474.
(4) سورة النساء / 34
(5) حديث: " فاتقوا الله في النساء. . . " تقدم تخريجه ف 4.
(41/56)
نَفَقَةُ الْمُعْتَدَّةِ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ وَالْمُعْتَدَّةِ
مِنْ طَلاَقٍ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ
وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ:
أ - الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ طَلاَقًا
رَجْعِيًّا يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ طَعَامٍ وَكُسْوَةٍ وَمَسْكَنٍ
أَيَّامَ عِدَّتِهَا (1) .
لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ
يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ
لاَ تَدْرِي لَعَل اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (2) } . فَقَدْ
نَهَى سُبْحَانَهُ الأَْزْوَاجَ عَنْ إِخْرَاجِ زَوْجَاتِهِمْ أَثْنَاءَ
عِدَّتِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ
اللَّهِ، وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَحْبُوسَةً لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي
ذَلِكَ السَّكَنِ، فَعَلَيْهِ سَائِرُ أَنْوَاعِ النَّفَقَةِ، لأَِنَّ
مِمَّنْ حُبِسَ لِحَقِّ إِنْسَانٍ وَجَبَ عَلَى الْمَحْبُوسِ لَهُ
النَّفَقَةُ كَامِلَةٌ، وَلِقِيَامِ حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ حَيْثُ
يَلْحَقُهَا طَلاَقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلاَؤُهُ (3) .
__________
(1) البدائع 4 / 16، وحاشية الدسوقي 2 / 515، والمغني 9 / 288، ونهاية
المحتاج 7 / 211.
(2) سورة الطلاق / 1
(3) البدائع 4 / 16، والمغني 9 / 290.
(41/57)
ب - الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ:
34 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمَبْتُوتَةِ الْحَامِل وَغَيْرِ
الْحَامِل فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا بِأَنْوَاعِهَا أَثْنَاءَ
الْعِدَّةِ.
فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى مَتَى كَانَتْ
حَامِلاً (1) .
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل {أَسْكِنُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (2) } .
وَلأَِنَّهَا حَامِلٌ بِوَلَدِهِ وَهُوَ يَجِبُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ،
وَلاَ يُمْكِنُ الإِْنْفَاقُ عَلَى الْحَمْل إِلاَّ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى
أُمِّهِ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى تِلْكَ الأُْمِّ،
كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الإِْرْضَاعِ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ
عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي
الْعِدَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ
الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ،
__________
(1) البدائع 4 / 16، وحاشية الدسوقي 2 / 515، والمغني 9 / 288، ونهاية
المحتاج 7 / 211.
(2) سورة الطلاق / 6
(3) المهذب 2 / 164، ونهاية المحتاج 7 / 211، والمغني 9 / 288.
(4) البدائع 4 / 16.
(41/57)
وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِمْ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا اسْتَنَدُوا إِلَيْهِ فِي إِيجَابِهَا
لِلْمُبَانَةِ الْحَامِل.
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ - عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - قَال:
كُنْتُ مَعَ الأَْسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ
الأَْعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ، فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَل لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةً "، ثُمَّ أَخَذَ
الأَْسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًى فَحَصَبَهُ بِهِ فَقَال: وَيْلَكَ!
تُحَدِّثُ بِمِثْل هَذَا؟ قَال عُمَرُ: لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ
وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْل امْرَأَةٍ
لاَ نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى
وَالنَّفَقَةُ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ (2) } .
الْقَوْل الثَّانِي: لَهَا السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ: وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (3) وَالشَّافِعِيَّةُ (4) وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ (5) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 5 / 355، والمغني 9 / 289.
(2) حديث أبي إسحاق - عمرو بن عبد الله - " كنت مع الأسود بن يزيد جالسا. .
" أخرجه مسلم (2 / 1118 - 1119ط عيسى الحلبي) . والآية من سورة الطلاق / 2.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 515، وشرح الخرشي 4 / 192.
(4) المهذب 2 / 164.
(5) المغني 9 / 288.
(41/58)
لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل قَال
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1) } . فَقَدْ
أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ السُّكْنَى لِكُل مُطَلَّقَةٍ، وَمِنْهَا الْبَائِنُ
غَيْرُ الْحَامِل، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَقَدْ خَصَّ بِهَا الْحَامِل
دُونَ الْحَائِل، فَدَل ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لِلْبَائِنِ
غَيْرِ الْحَامِل دُونَ النَّفَقَةِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: لاَ نَفَقَةَ لَهَا وَلاَ سُكْنَى: وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
لِمَا وَرَدَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا
ثَلاَثًا فَلَمْ يَجْعَل لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلاَ سُكْنَى (3) .
ج - الْمُعْتَدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ:
35 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ
وَفَاةٍ إِنْ كَانَتْ حَائِلاً لاَ نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ.
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا لَهَا إِنْ كَانَتْ
حَامِلاً عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ نَفَقَةَ لَهَا مُدَّةَ عِدَّتِهَا، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) وَالْمَالِكِيَّةُ (5)
__________
(1) سورة الطلاق / 6
(2) الإنصاف 9 / 361.
(3) حديث فاطمة بنت قيس سبق تخريجه ف 34.
(4) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 61.
(5) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 515.
(41/58)
وَالشَّافِعِيَّةُ (1) وَبَعْضُ
الْحَنَابِلَةِ (2) لأَِنَّ الْمَال قَدْ صَارَ لِلْوَرَثَةِ، وَنَفَقَةُ
الْحَامِل وَسُكْنَاهَا إِنَّمَا هُوَ لِلْحَمْل أَوْ مِنْ أَجْلِهِ، وَلاَ
يَلْزَمُ ذَلِكَ الْوَرَثَةَ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ مِيرَاثٌ
فَنَفَقَةُ الْحَمْل مَنْ نَصِيبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيرَاثٌ
لَمْ يَلْزَمْ وَارِثَ الْمَيِّتِ الإِْنْفَاقُ عَلَى حَمْل امْرَأَتِهِ
كَمَا لاَ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ (3) .
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابِل التَّمْكِينِ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ،
وَقَدْ زَال التَّمْكِينُ بِالْمَوْتِ، وَلَيْسَ لِلْحَمْل دَخْلٌ فِي
وُجُوبِهَا، فَلاَ تَسْتَحِقُّ بِسَبَبِهِ النَّفَقَةَ (4) .
وَلأَِنَّ الزَّوْجَةَ مَحْبُوسَةٌ مِنْ أَجْل الشَّرْعِ لاَ لِلزَّوْجِ
فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا (5) .
الْقَوْل الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ، وَهَذَا رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ
الإِْمَامِ أَحْمَدَ، لأَِنَّهَا حَامِلٌ فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ
كَالْمُفَارِقَةِ لَهُ فِي حَيَاتِهِ (6) .
كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ
وَفَاةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) المهذب 2 / 165.
(2) المغني 9 / 291.
(3) المغني 9 / 291.
(4) تبيين الحقائق 3 / 61، والمهذب 2 / 165.
(5) تبيين الحقائق 3 / 61.
(6) المغني 9 / 291.
(41/59)
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
(1) وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) إِلَى أَنَّهُ
لاَ سُكْنَى لَهَا مُطْلَقًا حَامِلاً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ،
وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ حَامِلٍ،
وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا كَانَتْ حَامِلاً (3) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى إِيجَابِ السُّكْنَى عَلَى
الزَّوْجِ لاِنْتِهَاءِ الْمُكْنَةِ بِالْوَفَاةِ، وَلاَ سَبِيل
لإِِيجَابِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ لاِنْعِدَامِ الاِحْتِبَاسِ مِنْ
أَجْلِهِمْ.
وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ يَوْمًا بِيَوْمٍ فَلَمْ يَجِبْ فِي عِدَّةِ
الْوَفَاةِ كَالنَّفَقَةِ (4) .
وَلأَِنَّهَا مَحْبُوسَةٌ مِنْ أَجْل الشَّرْعِ لاَ لِلزَّوْجِ فَلاَ
سُكْنَى لَهَا (5) .
الْقَوْل الثَّانِي: لَهَا السُّكْنَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
(6) ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلاً
أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ (7) ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ
كَانَتْ حَامِلاً وَفِي رِوَايَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلاً (8) ،
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3 / 61.
(2) المهذب 2 / 165، ومغني المحتاج 3 / 402.
(3) المغني 9 / 291، والإنصاف 9 / 369.
(4) المهذب 2 / 165.
(5) تبيين الحقائق 3 / 61.
(6) التاج والإكليل 4 / 162.
(7) المهذب 2 / 165، ومغني المحتاج 3 / 402.
(8) المغني 9 / 291، والإنصاف 9 / 369.
(41/59)
نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَوَجَبَ لَهَا السُّكْنَى
كَالْمُطَلَّقَةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 14) .
الْمُعْتَدَّةُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ:
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ نِكَاحٍ
فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لاَ نَفَقَةَ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلاً،
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ السُّكْنَى فَقَالُوا: تَجِبُ
لَهَا (2) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ
النَّفَقَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تَجِبُ النَّفَقَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ (3) ، وَالْحَنَابِلَةُ (4) وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (5) .
لأَِنَّ الْحَمْل يَلْزَمُهُ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَالرَّضَاعِ، وَلاَ
تَصِل النَّفَقَةُ إِلَى الْحَمْل إِلاَّ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا
فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ.
__________
(1) المهذب 2 / 165.
(2) البدائع 4 / 16، ومواهب الجليل 4 / 189، والمهذب 2 / 165، والمغني 9 /
293، والدسوقي 2 / 489، ومغني المحتاج 3 / 401، 441.
(3) مواهب الجليل 4 / 189، والدسوقي 2 / 489.
(4) كشف القناع 5 / 467.
(5) المهذب 2 / 165، ومغني المحتاج 3 / 401، 441.
(41/60)
وَلأَِنَّ الْحَمْل فِي النِّكَاحِ
الْفَاسِدِ كَالْحَمْل فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي لُحُوقِ الْوَلَدِ
بِالزَّوْجِ وَالاِعْتِدَادِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ (&# x662 ;)
وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ (3) .
لأَِنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ (4) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سُكْنَى ف 15) .
الْمُعْتَدَّةُ مِنْ لِعَانٍ:
37 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ
لِعَانٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَهَا النَّفَقَةُ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ، لأَِنَّ الْفُرْقَةَ مُضَافَةٌ إِلَى الزَّوْجِ، وَلأَِنَّ
الْمُلاَعَنَةَ قَدْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ وَذَلِكَ يُوجِبُ لَهَا
النَّفَقَةَ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لاَعَنَهَا بَعْدَ
الدُّخُول فَإِنْ لَمْ يَنْفِ الْحَمْل وَجَبَتِ النَّفَقَةُ (6) .
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 189، والمهذب 2 / 165، والدسوقي 2 / 489.
(2) البدائع 4 / 16.
(3) المهذب 2 / 165، وتحفة المحتاج 8 / 261، وكفاية الأخيار 2 / 82.
(4) المهذب 2 / 165.
(5) الاختيار 4 / 9، وتبيين الحقائق 3 / 12.
(6) مواهب الجليل 4 / 198، والروضة 9 / 66.
(41/60)
الْقَوْل الثَّانِي: لَهَا السُّكْنَى
دُونَ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَتْ حَائِلاً أَوْ حَامِلاً وَنُفِيَ
الْحَمْل، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (2) .
لأَِنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لأَِجْلِهِ، وَلأَِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ
فُرْقَةٍ حَال الْحَيَاةِ فَوَجَبَتْ لَهَا السُّكْنَى كَالْمُطَلَّقَةِ
(3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ عِنْدَهُمْ: إِنَّ السُّكْنَى لاَ
تَجِبُ لِلْمُلاَعَنَةِ (4) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِي الْمُلاَعَنَةِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى أَنْ لاَ بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ وَلاَ قُوتَ، مِنْ أَجْل
أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلاَقٍ وَلاَ مُتَوَفَّى عَنْهَا "
(5) .
وَلأَِنَّهَا لَمْ تُحْصِنْ مَاءَهُ فَلَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ سُكْنَاهَا (6)
.
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 198.
(2) المهذب 2 / 165، والروضة 9 / 66، وحاشية الجمل 4 / 460.
(3) المهذب 4 / 460.
(4) المهذب 2 / 165.
(5) حديث ابن عباس: " قضى في الملاعنة أن لا بيت لها عليه. . . " أخرجه
أحمد (1239، 245 ط الميمنية) وأبو داود (2 / 690 ط حمص) .
(6) روضة الطالبين 9 / 66.
(41/61)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ
الْمُلاَعَنَةَ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ لأَِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْل
وَهُوَ وَلَدُهُ - وَلَوْ نَفَاهُ لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْيِهِ - مَا دَامَ
حَمْلاً، فَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فَلاَ نَفَقَةَ فِي
الْمُسْتَقْبَل لاِنْقِطَاعِ نَسَبِهِ عَنْهُ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْحَمْل يَنْتَفِي بِزَوَال
الْفِرَاشِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا وَلاَ سُكْنَى (1) .
و نَفَقَةُ الْمُخْتَلِعَةِ:
38 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُخْتَلِعَةِ حَامِلاً
وَبَيْنَ كَوْنِهَا غَيْرَ حَامِلٍ.
فَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَهَا مَا دَامَتْ
حَامِلاً (2) .
لِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (3) } ،
وَلأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَائِهِ فَهُوَ مُسْتَمْتِعٌ بِرَحِمِهَا
فَصَارَ كَالاِسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي حَال الزَّوْجِيَّةِ، إِذِ النَّسْل
مَقْصُودٌ بِالنِّكَاحِ كَمَا أَنَّ الْوَطْءَ مَقْصُودٌ بِهِ (4) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 465، 466، والمغني 7 / 608 (طبعة الرياض) .
(2) فتح القدير 4 / 251، وحاشية الدسوقي 2 / 514، ومغني المحتاج 3 / 440،
والمغني 9 / 294.
(3) سورة الطلاق / 6
(4) المغني 9 / 294.
(41/61)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ
لَهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلاً عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ نَفَقَةَ لَهَا وَلَهَا السُّكْنَى، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالشَّافِعِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
لأَِنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ زَالَتْ فَأَشْبَهَتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا
زَوْجُهَا (4) .
الْقَوْل الثَّانِي: تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لَهَا مُطْلَقًا،
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ.
لأَِنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ أَنْ
كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَصْل النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ
الْحَقُّ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ (5) .
اسْتِحْقَاقُ الزَّوْجَةِ النَّفَقَةَ حَال سَفَرِهَا:
39 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا
سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا.
فَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فَإِمَّا أَنْ يُسَافِرَ مَعَهَا أَوْ لاَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نُشُوز ف 6 - 7) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 514، ومواهب الجليل 4 / 189.
(2) مغني المحتاج 3 / 440، وتحفة المحتاج 8 / 259.
(3) المغني 9 / 288، 294.
(4) المرجع السابق.
(5) الهداية وفتح القدير 4 / 212، والبدائع 4 / 16، والاختيار 3 / 156.
(41/62)
سَفَرُ الزَّوْجَةِ لِلْحَجِّ:
40 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا
سَافَرَتْ لأَِدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَالزَّوْجُ مَعَهَا فَإِنَّ لَهَا
النَّفَقَةَ (1) .
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا فِي حَال
عَدَمِ خُرُوجِ الزَّوْجِ مَعَهَا إِلَى الْحَجِّ، مُوَضِّحِينَ الْفَرْقَ
بَيْنَ كَوْنِ السَّفَرِ لِتَأْدِيَةِ الْفَرِيضَةِ أَوْ لِتَأْدِيَةِ
غَيْرِهِ، كَحَجِّ التَّطَوُّعِ أَوِ النَّذْرِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ.
أ - السَّفَرُ لأَِدَاءِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ:
41 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا
لَوْ خَرَجَتْ لِتَأْدِيَةِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ دُونَ سَفَرِ الزَّوْجِ
مَعَهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تَجِبُ لِلزَّوْجَةِ النَّفَقَةُ إِذَا خَرَجَتْ
لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ دُونَ سَفَرِ الزَّوْجِ مَعَهَا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ (3) ، وَهُوَ رِوَايَةُ
أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 4 / 198، والبدائع 4 / 21، وحاشية الدسوقي 2 /
517، وكشاف القناع 5 / 474، وروضة الطالبين 9 / 61، والمغنى 9 / 286 - 287.
(2) الشرح الكبير للدردير 2 / 517، وشرح الخرشي 3 / 195.
(3) والمغني 9 / 286، وكشاف القناع 5 / 473، والمبدع 8 / 203 - 205.
(4) رد المحتار 2 / 648.
(41/62)
لأَِنَّ الزَّوْجَةَ فَعَلَتِ الْوَاجِبَ
عَلَيْهَا بِأَصْل الشَّرْعِ فِي وَقْتِهِ فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا
كَصِيَامِ رَمَضَانَ (1) .
وَلأَِنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قَدْ حَصَل بِالاِنْتِقَال إِلَى
مَنْزِل الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ، وَهَذَا لاَ
يُبْطِل النَّفَقَةَ كَمَا لَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَنْزِل زَوْجِهَا ثُمَّ
لَزِمَهَا صَوْمُ رَمَضَانَ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ مَعَهَا
وَالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَهُوَ قَوْل
الْحَنَفِيَّةِ مَا عَدَا رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّ فَوَاتَ
الاِحْتِبَاسِ لاَ مِنْ قِبَلِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ (4) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ إِحْرَامَ الزَّوْجَةِ
بِحَجِّ فَرْضٍ أَوْ عُمْرَةٍ بِلاَ إِذْنٍ نُشُوزٌ وَلاَ نَفَقَةَ لَهَا
إِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَحْلِيلَهَا وَذَلِكَ حَال إِحْرَامِهَا بِفَرْضٍ
عَلَى قَوْلٍ مَرْجُوحٍ، فَإِنْ مَلَكَ تَحْلِيلَهَا حَال إِحْرَامِهَا
بِفَرْضٍ عَلَى الأَْظْهَرِ فَلاَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا حَتَّى تَخْرُجَ
مِنْ بَيْتِهَا لِلْحَجِّ، فَإِذَا خَرَجَتْ فَمُسَافِرَةٌ لِحَاجَتِهَا،
فَإِنْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا بِإِذْنِهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا فِي
الأَْظْهَرِ، أَوْ
__________
(1) المغني 9 / 286، وكشاف القناع 5 / 474.
(2) البدائع 4 / 20.
(3) رد المحتار 2 / 648.
(4) فتح القدير 4 / 198، ورد المحتار 2 / 648.
(41/63)
مَعَهُ اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ، أَوْ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا (1)
ب - السَّفَرُ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ:
42 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ سَفَرِ الزَّوْجَةِ لِتَأْدِيَةِ
الْحَجِّ غَيْرِ الْفَرْضِ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَبَيْنَ سَفَرِهَا بِغَيْرِ
إِذْنِهِ.
فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ نَفَقَةَ لِلْمَرْأَةِ إِنْ
سَافَرَتْ لِحَجِّ تَطَوُّعٍ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ
الْحَجُّ الْمَنْذُورُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُسَافِرَةِ وَحْدَهَا فَلاَ تَكُونُ لَهَا
نَفَقَةٌ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ إِنْ أَحْرَمَتْ
بِحَجِّ تَطَوُّعٍ وَسَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ نَفَقَةَ لَهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ،
(4) وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (5) ،
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 438 - 439.
(2) الدر المختار 2 / 648 وحاشية الدسوقي 2 / 517، والمهذب 2 / 160،
والمغني 9 / 286.
(3) المغني 9 / 286.
(4) الدر المختار 2 / 648.
(5) المغني 9 / 286، وكشاف القناع 5 / 473، والمبدع 8 / 205.
(41/63)
لأَِنَّهَا غَيْرُ مُمَكَّنَةٍ مِنْ
نَفْسِهَا فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
(1) .
الْقَوْل الثَّانِي: تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلزَّوْجَةِ إِذَا أَحْرَمَتْ
بِحَجِّ التَّطَوُّعِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وَبِهِ قَال الْمَالِكِيَّةُ (2)
وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
لأَِنَّهَا سَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا فَلَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا
كَمَا لَوْ سَافَرَتْ فِي حَاجَةِ زَوْجِهَا (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَحْرَمَتِ الزَّوْجَةُ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ
بِإِذْنٍ مِنْ زَوْجِهَا فَفِي الأَْصَحِّ لَهَا نَفَقَةٌ مَا لَمْ
تَخْرُجْ لأَِنَّهَا فِي قَبْضَتِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِفَوَاتِ الاِسْتِمْتَاعِ
بِهَا.
وَلَوْ خَرَجَتْ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا إِنْ خَرَجَتْ
وَحْدَهَا فَإِنْ خَرَجَ مَعَهَا لَمْ تَسْقُطْ (5) .
امْتِنَاعُ الزَّوْجَةِ مِنَ السَّفَرِ مَعَ الزَّوْجِ:
43 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ أَوْ
عَدَمِ وُجُوبِهَا إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا
وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا غَيْرَ مَخُوفٍ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ
الْمَشَقَّةِ غَيْرِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 474.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 517.
(3) المغني 9 / 286، وكشاف القناع 5 / 473.
(4) المغني مع الشرح الكبير 9 / 286.
(5) مغني المحتاج 3 / 439.
(41/64)
الْمُحْتَمَلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا
عُذْرٌ يَمْنَعُهَا مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ
الشُّرُوطِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ
الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل
الشَّعْبِيِّ وَحَمَّادٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ
لاَ نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ
زَوْجِهَا، وَاعْتَبَرُوا الْمُمْتَنِعَةَ عَنِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا
دُونَ عُذْرٍ نَاشِزَةً.
لأَِنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِتَسْلِيمِهَا
نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ فَتَسْقُطُ بِامْتِنَاعِهَا عَنِ السَّفَرِ
مَعَهُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالْمُرَادُ بِالسُّقُوطِ عَدَمُ الْوُجُوبِ (1) .
وَفِي قَوْلٍ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَلاَ
تُعَدُّ نَاشِزًا إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِهَا مَسَافَةَ الْقَصْرِ أَوْ
أَكْثَرَ مِنْهَا بِدُونِ رِضَاهَا (2) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَهُ
جَبْرُهَا عَلَى السَّفَرِ مَعَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ كَانَتْ نَاشِزًا
وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا.
__________
(1) الدر المختار 2 / 646، 360، 361، والدسوقي 2 / 297، وجواهر الإكليل 1 /
207، ومغني المحتاج 3 / 436، والقليوبي 4 / 74، 77، وكشاف القناع 5 / 472،
ومطالب أولي النهى 5 / 258.
(2) رد المحتار 2 / 648، 361.
(41/64)
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ
أَيْضًا يُتْرَكُ أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي حَسَبَ مَا يَظْهَرُ لَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ السَّفَرِ الْكَيْدَ لِلُزُوجَةِ
وَالإِْضْرَارَ بِهَا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا فِي
هَذَا السَّفَرِ فَلاَ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِالسَّفَرِ مَعَهُ، فَإِنِ
امْتَنَعَتْ مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ وَلاَ
تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا.
وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لَيْسَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِالزَّوْجَةِ وَإِنَّمَا
كَانَ لِغَرَضٍ مِنَ الأَْغْرَاضِ كَالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ
وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَيْهَا أَجَابَهُ الْقَاضِي إِلَى طَلَبِهِ، فَإِنِ
امْتَنَعَتْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهَا
فِي مُدَّةِ الاِمْتِنَاعِ (1) .
نَفَقَةُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ:
44 - إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ كَبِيرَةً - أَيْ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا -
وَالزَّوْجُ صَغِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ
قَادِرًا عَلَيْهِ، وَسَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا لَهُ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا
الصَّغِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ (2) وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) وَبِهِ
__________
(1) العناية شرح الهداية 2 / 474، ورد المحتار 2 / 360، 361.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 546، والهداية مع فتح القدير 4 / 198.
(3) مغني المحتاج 3 / 438، ونهاية المحتاج 7 / 208 ط مصطفى البابي الحلبي -
مصر.
(41/65)
قَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ فِي مُقَابِل الْمَشْهُورِ إِذَا كَانَ مَدْخُولاً بِهَا
عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي التَّوْضِيحِ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا تَسْلِيمًا صَحِيحًا
فَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا (2) .
وَبِأَنَّ الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ الْوَطْءُ
مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ لِمَرَضِهِ أَوْ
غَيْبَتِهِ.
وَلأَِنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ وَالْمَانِعُ مِنْ جِهَتِهِ فَوَجَبَتْ
لَهَا النَّفَقَةُ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا
الصَّغِيرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ دَخَل بِهَا
وَافْتَضَّهَا (4) وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (5)
.
لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا لِسَبَبٍ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ فَلاَ
يَلْزَمُهُ غُرْمُ نَفَقَتِهَا.
__________
(1) المغني 9 / 283 - 284، والدسوقي 2 / 508 والخرشي 4 / 184.
(2) المغني 9 / 284.
(3) مغني المحتاج 3 / 428.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 508، والخرشي 4 / 184.
(5) مغني المحتاج 3 / 438، ونهاية المحتاج 7 / 208.
(41/65)
نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ مُدَّةَ حَبْسِ
الزَّوْجِ فِي دَيْنِ نَفَقَتِهَا:
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ إِنْ
حَبَسَتْ زَوْجَهَا فِي سَدَادِ مَا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ مَعَ
قُدْرَتِهِ عَلَى تَأْدِيَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَبْسِهِ، وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَالْمَالِكِيَّةُ (2) ، وَالْحَنَابِلَةُ (3)
لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لاَ مِنْهَا.
الْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَبْسِهِ وَلَوْ
بِحَقٍّ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ (4) .
لأَِنَّ التَّمْكِينَ الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ قَدِ انْتَفَى بِسَبَبِ
سَجْنِهِ فَلاَ تَجِبُ مَعَهُ النَّفَقَةُ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا لأَِنَّهَا
ظَالِمَةٌ مَانِعَةٌ لَهُ مِنَ التَّمْكِينِ مِنْهَا (5) .
طَلَبُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ عَدَمِ الإِْنْفَاقِ:
أ - إِذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا:
46 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا
__________
(1) بدائع الصناع 4 / 29، وحاشية ابن عابدين 5 / 390.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 517، وجواهر الإكليل 1 / 404.
(3) المغني 9 / 284.
(4) نهاية المحتاج 7 / 205.
(5) مطالب أولي النهى 5 / 634.
(41/66)
كَانَ حَاضِرًا مُوسِرًا وَلَهُ مَالٌ
ظَاهِرٌ فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَسْتَوْفِيَ حَقَّهَا مِنْهُ وَلَيْسَ
لَهَا حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ (1) .
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ
وَرَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ فَلَهَا أَنْ تَبْقَى مَعَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَرْضَ زَوْجَتُهُ
بِالْبَقَاءِ مَعَهُ فِي حَقِّهَا فِي طَلَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَيْسَ لَهَا طَلَبُ التَّفْرِيقِ، وَلَيْسَ
لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ التَّكَسُّبِ كَيْ تُنْفِقَ عَلَى
نَفْسِهَا، وَبِهَذَا قَال ابْنُ شُبْرُمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَغَيْرُهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل
الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمُومِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (3) } ،
مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ
بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ يَسَارُهُ فَتَدْخُل
الزَّوْجَةُ فِي عُمُومِ هَذِهِ الآْيَةِ،
__________
(1) البدائع 4 / 27، وشرح الخرشي 4 / 196، ومغني المحتاج 3 / 442، والمغني
9 / 243.
(2) الدر المختار 2 / 656، ومغني المحتاج 3 / 442، والإنصاف 9 / 383.
(3) سورة البقرة / 280
(41/66)
وَتَكُونُ مَأْمُورَةً بِإِنْظَارِ
الزَّوْجِ، وَلاَ يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالطَّلاَقِ (1) .
وَإِلَى مَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَال: " دَخَل أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ، لَمْ
يُؤْذَنْ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ. قَال: فَأَذِنَ لأَِبِي بَكْرٍ فَدَخَل، ثُمَّ
أَقْبَل عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا، حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا
سَاكِتًا. قَال فَقَال: لأََقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ
بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ
عُنُقَهَا. فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَال: " هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ "، فَقَامَ
أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، فَقَامَ عُمَرُ إِلَى
حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلاَهُمَا يَقُول: تَسْأَلْنَ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ:
وَاللَّهِ لاَ نَسْأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا أَوْ
تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآْيَةُ:
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِزْوَاجِكَ} ، حَتَّى بَلَغَ
{لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} . قَال: فَبَدَأَ
بِعَائِشَةَ فَقَال. " يَا عَائِشَةُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ
عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لاَ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي
أَبَوَيْكِ " قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ ! ! فَتَلاَ
عَلَيْهَا الآْيَةَ قَالَتْ: أَفِيكَ يَا رَسُول اللَّهِ! أَسْتَشِيرُ
أَبَوِيَّ؟ بَل أَخْتَارُ اللَّهَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 330، ونهاية المحتاج 7 / 212.
(41/67)
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآْخِرَةَ،
وَأَسْأَلُكَ أَنْ لاَ تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي
قُلْتُ. قَال: " لاَ تَسْأَلْنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلاَّ
أَخْبَرْتُهَا. إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ
مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا " (1) . فَهَذَا
الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْأَل
زَوْجَهَا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَلاَ يَكُونُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ
بِالطَّلاَقِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَلاَ يُفْسَخُ
النِّكَاحُ بِعَجْزِهِ، قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ فَسْخِهِ بِالدَّيْنِ (2) ،
وَعَلَى الإِْعْسَارِ بِالصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُول (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ طَلَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ زَوْجِهَا لِعَجْزِهِ عَنِ الإِْنْفَاقِ، فَإِنِ امْتَنَعَ
فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (4) وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (5) وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (6) ، وَهَذَا
__________
(1) حديث: " دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . "
أخرجه مسلم (2 / 1104 - 1105 ط عيسى الحلبي) .
(2) المغني 9 / 243.
(3) روضة الطالبين 9 / 72، ونهاية المحتاج 7 / 212.
(4) مواهب الجليل 4 / 196، وشرح الخرشي 4 / 196.
(5) نهاية المحتاج 7 / 212.
(6) المغني 9 / 243، والإنصاف 9 / 384.
(41/67)
التَّفْرِيقُ فَسْخٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَطَلاَقٌ رَجْعِيٌّ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ (1) .
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (2) } فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ
بِإِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ،
وَعَدَمُ إِنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا تَفْوِيتٌ لِلإِْمْسَاكِ
بِالْمَعْرُوفِ، فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي وَهُوَ التَّسْرِيحُ
بِالإِْحْسَانِ (3) .
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ
الأَْجْنَادِ فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ،
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ إِمَّا أَنْ يُفَارِقُوا
وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ
فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا تَرَكَ (4) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ
سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُل لاَ يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، قَال:
يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، قَال أَبُو الزِّنَادِ: قُلْتُ: سَنَةً؟ فَقَال:
سَنَةً (5) .
__________
(1) المغني 9 / 243.
(2) سورة البقرة / 229
(3) المغني 9 / 243، وكشاف القناع 5 / 476.
(4) أثر: " أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد. . . " تقدم تخريجه
ف 28.
(5) أثر: " سعيد بن المسيب أن أبا الزناد سأله. . . " أخرجه الشافعي في
مسنده (2 / 65 بترتيب السندي) .
(41/68)
قَال الشَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنَّهُ
سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَلأَِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الْفَسْخُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْوَطْءِ،
وَالضَّرَرُ فِيهِ أَقَل، فَلأََنْ يَثْبُتَ بِالْعَجْزِ عَنِ النَّفَقَةِ
الَّتِي لاَ يَقُومُ الْبَدَنُ إِلاَّ بِهَا أَوْلَى.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق ف 82 - 86) .
ب - إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِيًّا:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَلَبِ الْمَرْأَةِ التَّفْرِيقَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْغَائِبِ، إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا
وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا مَالاً لِتُنْفِقَ مِنْهُ وَلَمْ يُوَكِّل أَحَدًا
بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطْلُبَ التَّفْرِيقَ لِذَلِكَ،
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَوَجْهٌ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (3) وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ
تَسْتَطِعِ الاِسْتِدَانَةَ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 212، وكشاف القناع 5 / 476.
(2) بداية المجتهد 2 / 44، ومواهب الجليل 4 / 196، وشرح الخرشي 4 / 199.
(3) روضة الطالبين 9 / 72، ومغني المحتاج 3 / 442.
(4) المغني 9 / 243، وكشاف القناع 5 / 423، والمبدع 8 / 233، والإنصاف 9 /
391.
(41/68)
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ:
أَنْ تَثْبُتَ الزَّوْجِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَل بِهَا
أَوْ دُعِيَ إِلَى الدُّخُول بِهَا، وَأَنْ تَكُونَ الْغَيْبَةُ بِحَيْثُ
لاَ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، أَوْ عُلِمَ وَلَمْ يُمْكِنِ الإِْعْذَارُ
إِلَيْهِ، وَأَنْ تَشْهَدَ لَهَا الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهَا لاَ تَعْلَمُ
أَنَّ الزَّوْجَ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلاَ كُسْوَةً وَلاَ شَيْئًا مِنْ
مُؤْنَتِهَا، وَلاَ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ وَصَل إِلَيْهَا فِي
عِلْمِهِمْ إِلَى هَذَا الْحِينِ.
ثُمَّ يَضْرِبُ الْقَاضِي لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَجَلاً حَسَبَ مَا يَرَاهُ:
شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا
انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْدَمْ وَلَمْ يَبْعَثْ بِشَيْءٍ وَلاَ
ظَهْرَ لَهُ مَالٌ وَدَعَتْ إِلَى النَّظَرِ لَهَا، فَإِنَّهَا تَحْلِفُ
بِمَحْضَرِ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ مَا رَجَعَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا
الْمَذْكُورُ مِنْ مَغِيبِهِ الثَّابِتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ إِلَى حِينِ
حَلِفِهَا وَلاَ تَرَكَ لَهَا نَفَقَةً وَلاَ كُسْوَةً وَلاَ وَضَعَتْ
ذَلِكَ عَنْهُ وَلاَ وَصَل إِلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى الآْنَ، فَإِذَا
ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي حَلِفُهَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ، أَوْ أَبَاحَ
لَهَا التَّطْلِيقَ (1) .
مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى: مَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَْجْنَادِ
فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ، إِمَّا أَنْ يُفَارِقُوا وَإِمَّا أَنْ
يَبْعَثُوا
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 196.
(41/69)
بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ
فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا تَرَكَ (1) .
وَلأَِنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ أَوْ
بِالاِسْتِدَانَةِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ بِالْفَسْخِ كَحَال الإِْعْسَارِ
(2) .
وَلأَِنَّ فِي عَدَمِ الإِْنْفَاقِ ضَرَرًا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ
بِالْفَسْخِ فَكَانَ لَهَا حَقُّ طَلَبِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ
التَّفْرِيقِ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (4) .
وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ (5) وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (6) وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (7) . لأَِنَّ
الْفَسْخَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ
إِعْسَارُ الزَّوْجِ لِغَيْبَتِهِ لِعَدَمِ تَبَيُّنِ حَالِهِ (8) .
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 212، والمغني 9 / 243 وأثر عمر تقدم تخريجه ف 28.
(2) كشاف القناع 5 / 423، والمبدع 8 / 133.
(3) كشاف القناع 5 / 423.
(4) رد المحتار 2 / 656.
(5) مواهب الجليل 4 / 196، شرح الخرشي 3 / 199.
(6) نهاية المحتاج 7 / 82، ومغني المحتاج 3 / 442، وروضة الطالبين 9 / 72.
(7) كشاف القناع 5 / 423، والمبدع 8 / 133، والإنصاف 9 / 391.
(8) مواهب الجليل 5 / 423، ومغني المحتاج 3 / 442.
(41/69)
أَمَّا إِذَا ثَبَتَ الإِْعْسَارُ تَوَلَّى
الْحَاكِمُ أَوْ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ أَمْرَ التَّفْرِيقِ بِطَلَبِهَا،
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) ، وَقَوْلٌ
لِلْحَنَابِلَةِ (2) ، لأَِنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا
فَافْتَقَرَتْ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ (3) .
فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ مِنْ سَفَرِهِ وَغَابَ مَالُهُ فَقَدْ فَصَّل
الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ غَائِبًا
مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ وَلاَ
يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ لِلضَّرَرِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا
بِنَحْوِ اسْتِدَانَةٍ، وَإِلاَّ فَلاَ فَسْخَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا
دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ
الْحَضَرِ وَيُؤْمَرُ بِالإِْحْضَارِ عَاجِلاً.
وَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ مَدِينٌ غَائِبٌ مُوسِرٌ وَكَانَ لَهُ مَالٌ دُونَ
مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَفِي حَقِّ طَلَبِ الْفَسْخِ لَهَا وَجْهَانِ،
أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْفَسْخِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدِينٌ حَاضِرٌ وَلَهُ مَالٌ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ
كَانَ لَهَا الْفَسْخُ كَمَا لَوْ كَانَ مَال الزَّوْجِ غَائِبًا (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِعَجْزِ الزَّوْجِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 442.
(2) كشاف القناع 5 / 480، والمغني 9 / 247، والمبدع 8 / 133.
(3) كشاف القناع 5 / 480.
(4) نهاية المحتاج 7 / 213، ومغني المحتاج 3 / 442، وروضة الطالبين 9 / 73.
(41/70)
عَنِ النَّفَقَةِ غَائِبًا كَانَ أَوْ
حَاضِرًا مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا (1) .
التَّبَرُّعُ بِالنَّفَقَةِ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ طَلَبِ الزَّوْجَةِ الْفَسْخَ
وَعَدَمِ قَبُولِهَا النَّفَقَةَ إِذَا تَبَرَّعَ بِهِ أَحَدٌ عَنِ
الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُول النَّفَقَةِ مِنَ
الْمُتَبَرِّعِ وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ ابْنَ الْكَاتِبِ (2) ، وَهُوَ
وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَبِهِ أَفْتَى
الْغَزَالِيُّ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُول النَّفَقَةِ
مِنَ الْمُتَبَرِّعِ وَلَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.
وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ (4) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْكَاتِبِ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ (5) وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ
إِذَا كَانَ الْمُتَبَرِّعُ أَبًا أَوْ جَدًّا لِلزَّوْجِ وَهُوَ فِي
وِلاَيَةِ أَيٍّ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهَا الْقَبُول لِدُخُولِهَا فِي
__________
(1) رد المحتار 2 / 656.
(2) مواهب الجليل 4 / 199.
(3) نهاية المحتاج 7 / 213، ومغني المحتاج 3 / 443، وروضة الطالبين 9 / 73.
(4) كشاف القناع 5 / 477.
(5) مواهب الجليل 4 / 199.
(41/70)
مِلْكِ الزَّوْجِ تَقْدِيرًا وَأَلْحَقَ
بِهِمَا الأَْذْرَعِيُّ وَلَدَ الزَّوْجِ (1) .
لأَِنَّ فِي قَبُولِهَا مِنَ الْمُتَبَرِّعِ مِنَّةً عَلَيْهَا وَإِلْحَاقَ
ضَرَرٍ بِهَا، فَلاَ تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا، كَمَا لاَ يُجْبَرُ رَبُّ
الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُول مِنَ الْمُتَبَرِّعِ سَدَادَ الدَّيْنِ الَّذِي
لِلدَّائِنِ عَلَى غَيْرِهِ.
هَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا دَفَعَ الْمُتَبَرِّعُ النَّفَقَةَ إِلَى
الزَّوْجِ أَوَّلاً ثُمَّ قَامَ الزَّوْجُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهَا.
فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ لَوْ
سَلَّمَ النَّفَقَةَ لِلزَّوْجِ ثُمَّ دَفَعَهَا الزَّوْجُ لَهَا أَوْ
دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَكِيلُهُ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُول مِنْهُ،
لأَِنَّ الْمِنَّةَ حِينَئِذٍ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا (2) .
اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى
الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ تُعْتَبَرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ
الزَّوْجِ إِلاَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَضَاءٌ وَلاَ تَرَاضٍ سَقَطَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ،
وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (3) لأَِنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجْرِي
مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 213، ومغني المحتاج 3 / 443، وروضة الطالبين 9 / 73.
(2) نهاية المحتاج 7 / 213، ومغني المحتاج 3 / 443، وكشاف القناع 5 / 477.
(3) البدائع 4 / 25 - 28.
(41/71)
كَانَتْ تُشْبِهُ الأَْعْوَاضَ لَكِنَّهَا
لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً، لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِوَضًا حَقِيقَةً
لَكَانَتْ عِوَضًا عَنْ نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الاِسْتِمْتَاعُ، أَوْ
كَانَتْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الاِخْتِصَاصُ بِهَا وَلاَ
سَبِيل إِلَى الأَْوَّل، لأَِنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ
فَكَانَ هُوَ بِالاِسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ
بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ
نَفْسِهِ لاَ يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ.
وَلاَ وَجْهَ لِلثَّانِي لأَِنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَدْ قُوبِل بِعِوَضٍ
مَرَّةً فَلاَ يُقَابَل بِعِوَضٍ آخَرَ، فَخَلَتِ النَّفَقَةُ عَنْ
مُعَوَّضٍ، فَلاَ يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَل كَانَتْ صِلَةً،
وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
(1) }
الْقَوْل الثَّانِي: تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ
إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا بَعْدَ أَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلاَ رِضَا الزَّوْجِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ (2) ، وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
(3) } ، مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مُطْلَقًا
دُونَ تَقَيُّدٍ بِزَمَانٍ دُونَ آخَرَ، وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ قَدْ
وَجَبَتْ، وَالأَْصْل أَنَّ مَا وَجَبَ
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) روضة الطالبين 9 / 76.
(3) سورة البقرة / 233.
(41/71)
عَلَى إِنْسَانٍ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ
بِالْوَفَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ (1) .
ثَانِيًا: الْقَرَابَةُ:
تَجِبُ النَّفَقَةُ - فِي الْجُمْلَةِ - بِالْقَرَابَةِ وَذَلِكَ عَلَى
التَّفْصِيل التَّالِي:
الْقَرَابَةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّفَقَةِ وَبَيَانُ دَرَجَاتِهَا:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ
الْقَرَابَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الآْبَاءُ
وَإِنْ عَلَوْا، وَالأَْوْلاَدُ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْحَوَاشِي ذَوُو
الأَْرْحَامِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْعَمِّ وَالأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ
وَالْعَمَّةِ وَالْخَال وَالْخَالَةِ، وَلاَ تَجِبُ لِغَيْرِهِمْ كَابْنِ
الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْخَال وَبِنْتِ الْخَالَةِ، وَلاَ
لِلْمَحْرَمِ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَخًا
مَنَ الرَّضَاعِ، وَيُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمْ فِي الدِّينِ فِيمَا عَدَا
الزَّوْجِيَّةِ وَالْوِلاَدِ فَلاَ تَجِبُ لأَِحَدٍ النَّفَقَةُ مَعَ
اخْتِلاَفِ الدِّينِ إِلاَّ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ وَقَرَابَةِ
الْوِلاَدِ (2) .
أَمَّا الأَْوْلاَدُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (3) } ، وَالْمَوْلُودُ لَهُ
هُوَ
__________
(1) المغني 9 / 230، وبدائع الصنائع 4 / 25 - 28.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 3 / 63 ط دار المعرفة - بيروت.
(3) سورة البقرة / 233
(41/72)
الأَْبُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ رِزْقَ
النِّسَاءِ لأَِجْل الأَْوْلاَدِ، فَلأََنْ تَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ
الأَْوْلاَدِ بِالطَّرِيقِ الأَْوْلَى.
وَأَمَّا الأَْبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (1) } ، فَقَدْ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الأَْبَوَيْنِ
الْكَافِرَيْنِ بِدَلِيل مَا قَبْلَهَا وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ وَلَيْسَ مِنَ الإِْحْسَانِ وَلاَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ
يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا.
وَأَمَّا الأَْجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَكَالأَْبَوَيْنِ وَلِهَذَا
يَقُومَانِ مَقَامَ الأَْبِ وَالأُْمِّ فِي الإِْرْثِ وَغَيْرِهِ،
وَلأَِنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لإِِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ
الإِْحْيَاءَ كَالأَْبَوَيْنِ.
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ فَلأَِنَّ
النَّفَقَةَ تَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ
النِّكَاحِ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْوِلاَدِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ
أَيْضًا فَلأَِنَّ الْمَنْفَيَّ عَلَيْهِ جُزْؤُهُ، وَنَفَقَةُ الْجُزْءِ
لاَ تَمْتَنِعُ بِالْكُفْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ
نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الْحَرْبِيَّيْنِ (2) .
وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَقْرَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ مُفَرِّقِينَ
بَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَائِلِينَ بِخِلاَفِ نَفَقَةِ
الزَّوْجَةِ حَيْثُ تَجِبُ مَعَ الْغِنَى، لأَِنَّهَا تَجِبُ لأَِجْل
الْحَبْسِ الدَّائِمِ كَرِزْقِ الْقَاضِي (3) .
__________
(1) سورة لقمان / 15
(2) تبيين الحقائق 3 / 63.
(3) تبيين الحقائق 3 / 63.
(41/72)
وَفِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ فَإِنَّمَا
تَجِبُ لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ صَغِيرًا أَوْ أُنْثَى وَلَوْ بَالِغَةً
صَحِيحَةً، أَمَّا الذَّكَرُ الْبَالِغُ فَلاَ بُدَّ مِنْ عَجْزِهِ عَنِ
الْكَسْبِ بِخِلاَفِ الأَْبَوَيْنِ فَإِنَّهَا تَجِبُ لَهُمَا مَعَ
الْقُدْرَةِ، لأَِنَّهُمَا يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ
مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا.
وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، لأَِنَّ
التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ،
وَلأَِنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالأَْوْلاَدِ الْمُبَاشِرِينَ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلاَ
يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الدِّينِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ، أَيْ
بَيْنَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَبَيْنَ مَنْ تَجِبُ لَهُ، بَل
يُوجِبُونَهَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَ دَيْنُهُ مَعَ الآْخَرِ،
مَا دَامَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ غَيْرَ
حَرْبِيٍّ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الآْبَاءُ
وَإِنْ عَلَوْا وَالأَْوْلاَدُ وَإِنْ نَزَلُوا (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلآْبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 681 ط بولاق.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 522، 523 ط عيسى الحلبي، ومواهب الجليل 4 / 209 ط
دار الفكر، بيروت.
(3) المهذب للشيرازي 2 / 212 ط عيسى الحلبي، ومغني المحتاج 3 / 446، 447 ط
مصطفى الحلبي.
(41/73)
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
(1) } ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ
حَاجَتِهِمَا، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: " إِنَّ
أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ
كَسْبِكُمْ " (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلأَْوْلاَدِ وَإِنْ نَزَلُوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (3) }
فَإِيجَابُ الأُْجْرَةِ لإِِرْضَاعِ الأَْوْلاَدِ يَقْتَضِي إِيجَابَ
مُؤْنَتِهِمْ.
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ: " خُذِي مَا
يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (4) .
وَالأَْحْفَادُ مُلْحَقُونَ بِالأَْوْلاَدِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ
إِطْلاَقُ مَا تَقَدَّمَ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ اتِّحَادَ الدِّينِ بَل يُوجِبُونَهَا
مَعَ اخْتِلاَفِهِ. وَلَمْ يُوجِبْهَا الشَّافِعِيَّةُ لِغَيْرِهِمَا مِنْ
سَائِرِ الْحَوَاشِي (5) .
__________
(1) سورة لقمان / 15
(2) حديث: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 603) من
حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) سورة الطلاق / 6
(4) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك. . . ". سبق تخريجه ف (8) .
(5) مغني المحتاج 3 / 446، 447.
(41/73)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى
اسْتِحْقَاقِهَا لِلآْبَاءِ وَإِنْ عَلَوْا وَلِلأَْوْلاَدِ وَإِنْ
نَزَلُوا، وَلِمَنْ يَرِثُهُمُ الْمُنْفِقُ دُونَ مِنْ سِوَاهُمْ، سَوَاءٌ
أَكَانَ مِيرَاثُهُ مِنْهُمْ بِفَرْضٍ أَمْ بِتَعْصِيبٍ، وَإِنْ لَمْ
يَرِثُوا مِنْهُ.
وَلاَ نَفَقَةَ عَلَى ذَوِي الأَْرْحَامِ مِنْ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ
(1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الدِّينِ لِوُجُوبِ
النَّفَقَةِ، لأَِنَّهَا مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيل الْبِرِّ وَالصِّلَةِ
لَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ
النَّسَبِ، وَلأَِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ
لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ (2) .
إِنْفَاقُ الْفُرُوعِ عَلَى الأُْصُول:
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْبَوَيْنِ
الْمُبَاشِرَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
(4) } .
__________
(1) الإنصاف للمرداوي 9 / 392، 393، 396، ط دار إحياء التراث العربي -
بيروت، والمغني مع الشرح الكبير 9 / 259.
(2) المغني مع الشرح الكبير 9 / 259، والروض المربع 2 / 362 ط دار الكتب
العلمية.
(3) تبيين الحقائق 3 / 62، وحاشية الدسوقي 2 / 522، ومغني المحتاج 3 / 446،
والإنصاف 9 / 392.
(4) سورة الإسراء / 23.
(41/74)
وَمِنَ الإِْحْسَانِ الإِْنْفَاقُ
عَلَيْهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (1) } ،
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ
إِنَّ لِي مَالاً وَوَالِدًا، وَإِنَّ وَالِدِي يَجْتَاحُ مَالِيَ، فَقَال
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ
لِوَالِدِكِ، إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مَنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ
كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ " (2) . فَإِذَا كَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ يُعَدُّ مِنْ
كَسْبِ الأَْبِ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الأَْبِ تَكُونُ وَاجِبَةً فِيهِ،
لأَِنَّ نَفَقَةَ الإِْنْسَانِ تَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ فِي هَذَا فَقَال:
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لاَ كَسْبَ
لَهُمَا وَلاَ مَال وَاجِبَةٌ فِي مَال الْوَلَدِ (3) .
أَمَّا الأَْجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
__________
(1) سورة لقمان / 15
(2) أخرجه أبو داود (3 / 801 ط حمص) وابن ماجه (2 / 769 ط الحلبي) من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. واللفظ لأبي داود، وصححه البوصيري في مصباح
الزجاجة (2 / 25 ط الجنان) .
(3) مغني المحتاج 3 / 447، والمغني 11 / 373 ط هجر.
(41/74)
الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ
نَفَقَةَ لأَِحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ خَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ
حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِسَائِرِ الأُْصُول وَإِنْ عَلَوْا.
وَقَدِ احْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الأَْدِلَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى
وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ دُونَ سَائِرِ الأُْصُول،
فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ لاَ نَفَقَةَ عَلَى الْوَلَدِ
لِجَدٍّ أَوْ جَدَّةٍ (1) .
أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: إِنَّ الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ
مُلْحَقُونَ بِالأَْبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ
إِطْلاَقُ مَا تَقَدَّمَ، كَمَا أُلْحِقُوا بِهِمَا فِي عَدَمِ الْقَوْدِ
وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلأَِنَّ الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ يَقُومَانِ مَقَامَ الأَْبَوَيْنِ
الْمُبَاشِرَيْنِ فِي الإِْرْثِ وَغَيْرِهِ.
وَلأَِنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي إِحْيَاءِ وَلَدِ الْوَلَدِ،
فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الإِْحْيَاءَ كَالأَْبَوَيْنِ (2) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الإِْنْفَاقِ عَلَى الأُْصُول:
52 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الإِْنْفَاقِ عَلَى الأُْصُول مَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَكُونَ الأَْصْل فَقِيرًا أَوْ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، فَلاَ
يَجِبُ عَلَى الْفَرْعِ نَفَقَةُ أَصْلِهِ إِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَنِيًّا
أَوْ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، لأَِنَّهَا
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 523.
(2) تبيين الحقائق 3 / 63، ومغني المحتاج 3 / 447، والمغني بأعلى الشرح
الكبير 9 / 257.
(41/75)
تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ
وَالْبِرِّ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ كَالْمُوسِرِ مُسْتَغْنٍ عَنِ
الْمُوَاسَاةِ.
وَبِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
قَوْلٍ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ كَمَا قَال
النَّوَوِيُّ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَ الأَْصْل
فَقِيرًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى فَرْعِهِ
كَذَلِكَ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالإِْحْسَانِ إِلَى
الْوَالِدَيْنِ، وَفِي إِلْزَامِ الآْبَاءِ التَّكَسُّبَ مَعَ غِنَى
الأَْبْنَاءِ تَرْكٌ لِلإِْحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِيذَاءٌ لَهُمْ، وَهُوَ
لاَ يَجُوزُ (2) .
ب - أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُوسِرًا وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ،
أَوْ قَادِرًا عَلَى التَّكَسُّبِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ
الَّتِي جَزَمَ بِهَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) ،
وَأَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ فَضْلٌ
__________
(1) منح الجليل 2 / 448، وحاشية الدسوقي 2 / 522، ومغني المحتاج 3 / 446 -
446، والإنصاف 9 / 392، والمغني بأعلى الشرح الكبير 9 / 256.
(2) اللباب شرح الكتاب 3 / 104، وحاشية ابن عابدين 2 / 678، وحاشية الدسوقي
2 / 522، ومغني المحتاج 3 / 448.
(3) تبيين الحقائق 3 / 64، وحاشية ابن عابدين 2 / 678، ومغني المحتاج 3 /
448، والإنصاف 9 / 392 والكافي 3 / 374، 375 ومطالب أولي النهى 5 / 644.
(41/75)
عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ
وَامْرَأَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُل مِنْهُ شَيْءٌ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ
النَّفَقَةُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجِبُ عَلَى الْفَرْعِ الْمُعْسِرِ
التَّكَسُّبُ لِيُنْفِقَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الْحَلْوَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ:
إِذَا كَانَ الاِبْنُ فَقِيرًا كَسُوبًا وَكَانَ الأَْبُ كَسُوبًا لاَ
يُجْبَرُ الاِبْنُ عَلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ كَانَ غَنِيًّا
بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ فَلاَ ضَرُورَةَ فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى
الْغَيْرِ (1) .
ج - اتِّحَادُ الدِّينِ بَيْنَ الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ النَّفَقَةَ مُوَاسَاةٌ عَلَى
سَبِيل الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَلَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ،
كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ، وَلأَِنَّهُمَا غَيْرُ
مُتَوَارِثَيْنِ فَلَمْ يَجِبْ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ نَفَقَةٌ
بِالْقَرَابَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: اتِّحَادُ الدِّينِ لَيْسَ شَرْطًا
لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْصْل عَلَى الْفَرْعِ، فَتَجِبُ النَّفَقَةُ
عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال فِي
حَقِّ الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (3) } .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 522، وتبيين الحقائق 3 / 64.
(2) المغني بأعلى الشرح الكبير 9 / 259.
(3) سورة لقمان / 15
(41/76)
وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الإِْحْسَانِ
وَلاَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ الإِْنْسَانُ فِي نِعَمِ اللَّهِ
تَعَالَى وَيَتْرُكَ أَبَوَيْهِ يَمُوتَانِ جُوعًا لِوُجُودِ الْمُوجِبِ
وَهُوَ الْبَعْضِيَّةِ (1) .
مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الأُْصُول:
53 - تَجِبُ نَفَقَةُ الأُْصُول عَلَى الْوَلَدِ، لأَِنَّ لِلأَْبَوَيْنِ
تَأْوِيلاً فِي مَال الْوَلَدِ بِالنَّصِّ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ
إِلَيْهِمَا، فَكَانَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ نَفَقَتِهِمَا عَلَيْهِ.
وَهِيَ عِنْدُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ
بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لأَِنَّ الْمَعْنَى
يَشْمَلُهُمَا (2) .
وَتَجِبُ أَيْضًا عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ نَزَل عَلَى رَأْيِ
الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَلاَ تَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى
وَلَدِ الْوَلَدِ (ر: ف 50) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الأُْصُول إِنْ
تَعَدَّدَتِ الْفُرُوعُ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنِ اتَّحَدَتْ دَرَجَةُ الْقَرَابَةِ
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 683 ط بولاق، وتبيين الحقائق 3 / 63، وشرح منح
الجليل 2 / 448، وحاشية الدسوقي 2 / 522، ومغني المحتاج 3 / 447، وحاشية
الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج 8 / 344، 345، والمغني بأعلى الشرح
الكبير 9 / 259.
(2) فتح القدير 4 / 417 ط دار الفكر.
(41/76)
كَابْنَيْنِ أَوْ بِنْتَيْنِ، كَانَتِ
النَّفَقَةُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسَاوِي، لِلتَّسَاوِي فِي الْقُرْبِ
وَالْجُزْئِيَّةِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْمِيرَاثِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ
كَانَ لَهُ أَخٌ شَقِيقٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى بِنْتِ
الْبِنْتِ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهُ لأَِخِيهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دَرَجَةُ
الْقَرَابَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ وَجَبَتِ
النَّفَقَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ، فَتَكُونُ عَلَى الْبِنْتِ خَاصَّةً وَإِنْ
كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا لِقُرْبِ الْبِنْتِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى
الْحُرِّ الْمُوسِرِ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثَى، وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، صَحِيحًا
أَوْ مَرِيضًا لِلْوَالِدَيْنِ أَيِ الأُْمِّ وَالأَْبِ الْمُبَاشِرَيْنِ،
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ النَّفَقَةَ تُوَزَّعُ عَلَى الأَْوْلاَدِ
الْمُوسِرِينَ بِقَدْرِ يَسَارِ كُلٍّ مِنْهُمْ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنِ اسْتَوَى فَرْعَاهُ فِي قُرْبٍ
وَإِرْثٍ أَوْ عَدَمِهِمَا أَنْفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي
الذُّكُورَةِ وَعَدَمِهَا كَابْنَيْنِ أَوْ بِنْتَيْنِ، أَوِ ابْنٍ
وَبِنْتٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي قَدْرِ الْيَسَارِ، أَوْ أَيْسَرَ
أَحَدُهُمَا بِالْمَال وَالآْخَرِ بِالْكَسْبِ، لأَِنَّ عِلَّةَ إِيجَابِ
النَّفَقَةِ تَشْمَلُهُمَا، فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا أُخِذَ قِسْطُهُ مِنْ
مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ إِنْ
أَمْكَنَ، وَإِلاَّ أَمَرَ
__________
(1) فتح القدير 4 / 419 ط دار الفكر - بيروت.
(2) مواهب الجليل 4 / 209 ط دار الفكر، ومنح الجليل 2 / 448.
(41/77)
الْحَاكِمُ الْحَاضِرَ بِالإِْنْفَاقِ
بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ مَالِهِ إِذَا وَجَدَهُ (1)
وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقُرْبِ، فَالأَْصَحُّ أَقْرَبُهُمَا تَجِبُ
النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثَى، لأَِنَّ الْقُرْبَ أَوْلَى بِالاِعْتِبَارِ (2) .
فَإِنِ اسْتَوَى قُرْبُهُمَا فَبِالإِْرْثِ تُعْتَبَرُ النَّفَقَةُ فِي
الأَْصَحِّ لِقُوَّتِهِ.
وَإِنْ تَسَاوَى الْفَرْعَانِ فِي أَصْل الإِْرْثِ دُونَ غَيْرِهِ كَابْنٍ
وَبِنْتٍ، فَهَل يَسْتَوِيَانِ فِي قَدْرِ الإِْنْفَاقِ أَمْ يُوَزَّعُ
الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ الإِْرْثِ؟ وَجْهَانِ: وَجْهُ
التَّوْزِيعِ: إِشْعَارُ زِيَادَةِ الإِْرْثِ بِزِيَادَةِ قُوَّةِ
الْقُرْبِ، وَوَجْهُ الاِسْتِوَاءِ فِي قَدْرِ الإِْنْفَاقِ
اشْتِرَاكُهُمَا فِي الإِْرْثِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ اتَّحَدَتْ دَرَجَةُ
الْقَرَابَةِ كَابْنٍ وَبِنْتٍ فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلاَثًا
كَالْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ (4)
} .
فَإِنَّهُ رَتَّبَ النَّفَقَةَ عَلَى الإِْرْثِ، فَيَجِبُ أَنْ تَتَرَتَّبَ
فِي الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 450.
(2) مغني المحتاج 3 / 451.
(3) مغني المحتاج 3 / 450، 451.
(4) سورة البقرة / 233
(41/77)
وَإِنِ اخْتَلَفَتْ دَرَجَةُ الْقَرَابَةِ
كَبِنْتٍ وَابْنِ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا كَالْمِيرَاثِ (1) .
إِنْفَاقُ الأُْصُول عَلَى الْفُرُوعِ:
54 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ إِنْفَاقِ الأَْبِ
عَلَى وَلَدِهِ الْمُبَاشِرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (2) . لِقَوْل
اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ (3) } وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ الأَْبُ، فَأَوْجَبَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رِزْقَ النِّسَاءِ لأَِجْل الأَْوْلاَدِ،
فَلأََنْ تَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الأَْوْلاَدِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى (4) .
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ (5) } . فَقَدْ أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أُجْرَةَ
الرَّضَاعِ لِلأَْوْلاَدِ عَلَى آبَائِهِمْ، وَإِيجَابُ الأُْجْرَةِ
لإِِرْضَاعِ الأَْوْلاَدِ يَقْتَضِي إِيجَابَ مُؤْنَتِهِمْ وَالإِْنْفَاقِ
عَلَيْهِمْ (6) .
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِهِنْدَ: " خُذِي
__________
(1) المغني 7 / 591 نشر مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة.
(2) تبيين الحقائق 3 / 62، ومواهب الجليل 4 / 209، وتحفة المحتاج بشرح
المنهاج بهامش شرواني وابن القاسم 8 / 344، والروض المربع 2 / 362 ط دار
الكتب العلمية - بيروت.
(3) سورة البقرة / 233
(4) مغني المحتاج / 362.
(5) سورة الطلاق / 2
(6) مغني المحتاج 3 / 446.
(41/78)
مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ "
(1) . فَقَدْ أَبَاحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لاِمْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ الأَْخْذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا لِتُنْفِقَ
عَلَى نَفْسِهَا وَأَوْلاَدِهَا وَلَوْلاَ أَنَّ الإِْنْفَاقَ عَلَى
الأَْوْلاَدِ وَالزَّوْجَاتِ حَقٌّ وَاجِبٌ لَمَا أَبَاحَ لَهَا رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِحُرْمَةِ مَال
الْمُسْلِمِ.
وَلأَِنَّ وَلَدَ الإِْنْسَانِ بَعْضُهُ وَهُوَ بَعْضُ وَالِدِهِ، فَكَمَا
يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى بَعْضِهِ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ نَفَقَةَ أَوْلاَدِهِ الأَْطْفَال
الَّذِينَ لاَ مَال لَهُمْ (3) .
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ إِنْفَاقِهِ عَلَى أَوْلاَدِ
الأَْوْلاَدِ وَفُرُوعِهِمْ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِسَائِرِ
الْفُرُوعِ، وَإِنْ نَزَلُوا، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَشْمَل الْوَلَدَ
الْمُبَاشِرَ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهُ (4) .
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عِنْدَهُمْ بِالْجُزْئِيَّةِ لاَ
بِالإِْرْثِ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَإِنْ نَزَل بَعْضٌ مِنْ
__________
(1) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك. . . ". سبق تخريجه ف (8) .
(2) المغني 7 / 583.
(3) المرجع السابق.
(4) العناية على الهداية بأسفل شرح فتح القدير 4 / 4140، 411، ومغني
المحتاج 3 / 446، والمغني 7 / 583.
(41/78)
جَدِّهِ، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّفَقَةُ
عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا مِنْهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ النَّفَقَةِ لأَِوْلاَدِ
الأَْوْلاَدِ عَلَى جَدِّهِمْ لِظَاهِرِ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (1) } .
فَهَذَا النَّصُّ يَدُل عَلَى وُجُوبِ الإِْنْفَاقِ عَلَى وَلَدِ
الصُّلْبِ، فَلاَ يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ (2) .
وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ عِنْدَهُمْ تَجِبُ بِالإِْرْثِ لاَ
بِالْجُزْئِيَّةِ.
شُرُوطُ وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ:
55 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ لاَ مَال لَهُمْ وَلاَ
كَسْبَ يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنْ إِنْفَاقِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ.
فَإِنْ كَانُوا مُوسِرِينَ بِمَالٍ أَوْ كَسْبٍ، فَلاَ نَفَقَةَ لَهُمْ،
لأَِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ، وَالْمُوسِرُ مُسْتَغْنٍ
عَنِ الْمُوَاسَاةِ (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا يُنْفِقُهُ الأَْصْل
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 523.
(3) الهداية شرح بداية المبتدى بأعلى شرح فتح القدير 4 / 414، وحاشية
الدسوقي 2 / 522، والمهذب 2 / 166، والمغني 7 / 584.
(41/79)
عَلَيْهِمْ فَاضِلاً عَنْ نَفَقَةِ
نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ أَمْ مِنْ كَسْبِهِ.
فَالَّذِي لاَ يَفْضُل عَنْهُ شَيْءٌ، لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ
عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ فَلأَِهْلِكَ، فَإِنْ فَضَل عَنْ أَهْلِكَ
شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ " (1) .
وَلأَِنَّ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ مُوَاسَاةٌ فَلاَ تَجِبُ عَلَى
الْمُحْتَاجِ كَالزَّكَاةِ (2) .
وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الدِّينِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ
فِي رِوَايَةٍ، فَلاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي عَمُودَيِ النَّسَبِ مَعَ
اخْتِلاَفِ الدِّينِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَهُمْ،
وَلأَِنَّهَا مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيل الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَلَمْ تَجِبْ
مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ، كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ،
وَلأَِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ، فَلَمْ يَجِبْ لأَِحَدِهِمَا عَلَى
الآْخَرِ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ.
وَلاَ تُقَاسُ نَفَقَةُ الأَْوْلاَدِ عِنْدَهُمْ عَلَى نَفَقَةِ
الزَّوْجَاتِ، لأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عِوَضٌ يَجِبُ مَعَ
__________
(1) حديث: " ابدأ بنفسك فتصدق عليها. . . " أخرجه مسلم (2 / 693 ط عيسى
الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) اللباب في شرح الكتاب 3 / 105، وحاشية العدوي على شرح الخرشي 4 / 204 ط
بولاق مصر، ونهاية المحتاج 6 / 265 ط مصطفى الحلبي بمصر، والمغني 7 / 584.
(41/79)
الإِْعْسَارِ، فَلاَ يُنَافِيهَا
اخْتِلاَفُ الدِّينِ كَالصَّدَاقِ وَالأُْجْرَةِ (1) .
خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (2) } ، فَهَذِهِ الآْيَةُ تَدُل عَلَى
أَنَّ الْوِلاَدَةَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ عَلَى
الآْبَاءِ. اتَّحَدَ الدِّينُ أَوِ اخْتَلَفَ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُنْفِقُ وَارِثًا، وَبِهَذَا قَال
الْحَنَابِلَةُ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ
مِثْل ذَلِكَ (3) } مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ بَيْنَ
الْمُتَوَارِثِينَ قَرَابَةٌ تَقْتَضِي كَوْنَ الْوَارِثِ أَحَقَّ بِمَال
الْمَوْرُوثِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِوُجُوبِ
صِلَتِهِ بِالنَّفَقَةِ دُونَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لَمْ
تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ (4) .
تَعَدُّدُ الأُْصُول:
56 - إِذَا تَعَدَّدَتِ الأُْصُول (الأَْبُ وَالأُْمُّ وَالْجَدُّ
وَالْجَدَّةُ) فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ
الْفُرُوعِ تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الأَْبِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا
وَقَادِرًا عَلَى الإِْنْفَاقِ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ (5) } ، فَالآْيَةُ
__________
(1) المغني 7 / 585.
(2) سورة البقرة / 233
(3) سورة البقرة / 233
(4) الإنصاف 9 / 392 وما بعدها.
(5) سورة البقرة / 233
(41/80)
تَدُل عَلَى حَصْرِ النَّفَقَةِ فِي
الأَْبِ دُونَ سِوَاهُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ الأَْبِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ
مَوْجُودًا لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الإِْنْفَاقِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ: يَرَوْنَ أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى الأُْصُول
الْمَوْجُودَةِ، فَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا وَارِثِينَ، فَهُمْ جَمِيعًا
مُطَالَبُونَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى حَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ،
فَإِذَا وُجِدَ جَدٌّ لأَِبٍ مَعَ الأُْمِّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا
بِنِسْبَةِ مِيرَاثِهِمَا، فَيَكُونُ عَلَى الأُْمِّ الثُّلُثُ وَعَلَى
الْجَدِّ الثُّلُثَانِ.
وَلَوْ وُجِدَتْ جَدَّةٌ لأُِمٍّ وَجَدَّةٌ لأَِبٍ فَالنَّفَقَةُ
عَلَيْهِمَا بِالتَّسَاوِي، لأَِنَّ مِيرَاثَهُمَا مُتَسَاوٍ.
وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا غَيْرَ وَارِثِينَ، بِأَنْ كَانُوا مِنْ ذَوِي
الأَْرْحَامِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى أَقْرَبِهِمْ دَرَجَةً، فَإِنِ
اتَّحَدَتْ دَرَجَتُهُمْ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ وَارِثٍ، كَانَتِ
النَّفَقَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، فَإِنِ
اتَّحَدُوا فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى
الْوَارِثِ دُونَ غَيْرِهِ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّ صُورَةَ تَعَدُّدِ الأُْصُول
__________
(1) فتح القدير 4 / 410، وشرح الخرشي 4 / 204، والمهذب 2 / 166، والإنصاف 9
/ 392.
(2) فتح القدير 4 / 421.
(41/80)
الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ
الْفُرُوعِ غَيْرُ وَارِدَةٍ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ
أَنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأُْصُول سِوَى الأَْبِ
(1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الأَْبُ، أَوْ
كَانَ عَاجِزًا، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأُْصُول
الذُّكُورِ دُونَ الإِْنَاثِ، فَمَثَلاً إِذَا وُجِدَ جَدٌّ لأُِمٍّ
وَجَدَّةٌ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ
لأُِمٍّ، وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الأُْصُول وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْنِهِمْ
ذَكَرٌ بِأَنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنَ الإِْنَاثِ، كَانَتِ النَّفَقَةُ
عَلَى الأَْقْرَبِ فِي الدَّرَجَةِ.
فَمَثَلاً إِذَا وُجِدَتْ أُمُّ الأَْبِ وَأُمُّ أَبِ الأَْبِ وَأُمُّ
أُمِّ الأَْبِ، كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى أُمِّ الأَْبِ، لأَِنَّهَا
أَقْرَبُ (2) .
وَأَمَّا عِنْدُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
لِلصَّبِيِّ أَبٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ
وَارِثَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمَا مِنْهُ،
وَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى
قَدْرِ إِرْثِهِمْ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ فَعَلَى
الأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ، لأَِنَّهُمَا يَرِثَانِهِ
كَذَلِكَ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ (3) } وَالأُْمُّ
وَارِثَةٌ، فَكَانَ عَلَيْهِمَا بِالنَّصِّ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 523.
(2) الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج 8 / 352، ومغني المحتاج 3 /
451.
(3) سورة البقرة / 233
(41/81)
وَلأَِنَّ الإِْنْفَاقَ مَعْنًى
يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَخْتَصُّ بِهِ الْجَدُّ دُونَ الأُْمِّ
كَالْوِرَاثَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ جَدَّةً وَأَخًا فَعَلَى الْجَدَّةِ سُدُسُ النَّفَقَةِ
وَالْبَاقِي عَلَى الأَْخِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَبٌ تَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً (1) .
مِقْدَارُ نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ:
57 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفَقَةِ
الأَْقَارِبِ قَدْرُ الْكِفَايَةِ مِنَ الْخُبْزِ وَالأُْدْمِ
وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَالرَّضَاعِ إِنْ كَانَ رَضِيعًا، لأَِنَّهَا
وَجَبَتْ لِلْحَاجَةِ فَتُقَدَّرُ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ.
فَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (2) ، فَقَدَّرَ نَفَقَتَهَا وَنَفَقَةَ
وَلَدِهَا بِالْكِفَايَةِ.
وَإِنِ احْتَاجَ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ إِلَى خَادِمٍ، فَعَلَى الْمُنْفِقِ
إِخْدَامُهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ كِفَايَتِهِ (3) .
__________
(1) المغني 7 / 591،592.
(2) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروفة " سبق تخريجه ف (8) .
(3) البدائع 4 / 38 ط الجمالية بمصر، وحاشية الدسوقي 2 / 523، ومغني
المحتاج 3 / 448، والمغني 7 / 595.
(41/81)
اجْتِمَاعُ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ:
58 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ
لِلنَّفَقَةِ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الأُْصُول
وَالْفُرُوعُ لِمُسْتَحِقِّ النَّفَقَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ
وَابْنٌ: فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الاِبْنِ لاَ عَلَى الأَْبِ - وَإِنِ
اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِرَاثَةِ - لِتَرَجُّحِ الاِبْنِ
بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ مِنْ كَسْبِ الأَْبِ (1) ،
كَمَا يَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ
أَوْلاَدَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ
أَوْلاَدِكُمْ " (2) .
وَلأَِنَّ مَال الاِبْنِ مُضَافٌ إِلَى الأَْبِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ " (3) .
وَلاَ يُشَارِكُ الْوَلَدُ فِي نَفَقَةِ وَالِدِهِ أَحَدٌ مِنَ الأَْبِ
أَوِ الأُْمِّ أَوِ الْجَدِّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الاِبْنُ وَتَفَاوَتُوا
فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ كَمَا لَوْ كَانَ لِمُسْتَحَقِّ النَّفَقَةِ
أَبٌ وَابْنُ ابْنٍ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ، فَتَكُونُ
النَّفَقَةُ عَلَى الأَْبِ، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ دَرَجَةً.
وَإِنْ تَسَاوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ
__________
(1) البدائع 4 / 32.
(2) حديث: " إن أولادكم من أطيب كسبكم. . . " سبق تخريجه ف 15.
(3) حديث: " أنت ومالك لوالدك " سبق تخريجه ف (51) .
(41/82)
عَلَى حَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي
الْمِيرَاثِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ
عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، السُّدُسُ عَلَى الْجَدِّ،
وَالْبَاقِي عَلَى ابْنِ الاِبْنِ كَالْمِيرَاثِ (1) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ لِمُسْتَحِقِّ
النَّفَقَةِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهَا تَجِبُ
عَلَى الْفَرْعِ وَإِنْ بَعُدَ كَأَبٍ وَابْنِ ابْنٍ، لأَِنَّ عُصُوبَتَهُ
أَقْوَى، وَهُوَ أَوْلَى بِالْقِيَامِ بِشَأْنِ أَبِيهِ لِعَظِمِ
حُرْمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى الأَْصْل اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ فِي
وُجُوبِهَا عَلَيْهِ لَهُ فِي الصِّغَرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي
الْعِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْضِيَّةُ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ
لِمُسْتَحَقِّ النَّفَقَةِ أَبٌ وَابْنٌ مِنْ أَهْل الإِْنْفَاقِ كَانَتِ
النَّفَقَةُ عَلَى الأَْبِ وَحْدَهُ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى مَنْ سِوَاهُ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
(3) } ، وَقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (4) } ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ
بِالْمَعْرُوفِ " (5) .
__________
(1) فتح القدير 4 / 419، والبدائع 4 / 33.
(2) مغني المحتاج 3 / 451.
(3) سورة الطلاق / 6
(4) سورة البقرة / 233
(5) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " سبق تخريجه ف (8) .
(41/82)
فَهَذِهِ النُّصُوصُ جَعَلَتِ النَّفَقَةَ
عَلَى الأَْبِ دُونَ غَيْرِهِ (1) ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُ النَّصِّ، وَتَرْكُ
مَا عَدَاهُ.
فَإِذَا لَمْ يُوجَدُ الأَْبُ أُجْبِرَ وَارِثُهُ عَلَى نَفَقَتِهِ
بِقَدْرِ مِيرَاثِِهِ مِنْهُ، فَمَنْ كَانَ لَهُ جَدٌّ لأُِمٍّ وَابْنُ
ابْنٍ كَانْتِ النَّفَقَةُ عَلَى ابْنِ الاِبْنِ لأَِنَّهُ الْوَارِثُ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَدِّ لأُِمٍّ لِعَدَمِ إِرْثِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ
أُمٌّ وَابْنٌ، وَجَبَ عَلَى أُمِّهِ سُدُسُ نَفَقَتِهِ، وَوَجَبَ عَلَى
الاِبْنِ الْبَاقِي، لأَِنَّ مِيرَاثَهُمَا كَذَلِكَ (2) .
وَإِذَا اجْتَمَعَ أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَارِثَانِ، وَكَانَ أَقْرَبُهُمَا
مُعْسِرًا وَالأَْبْعَدُ مُوسِرًا، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْمُوسِرِ
الأَْبْعَدِ، لأَِنَّ الْمُعْسِرَ كَالْمَعْدُومِ، فَمَثَلاً مَنْ كَانَ
لَهُ أُمٌّ فَقِيرَةٌ وَجَدَّةٌ مُوسِرَةٌ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى
الْجَدَّةِ فَقَطْ (3) .
نَفَقَةُ الْحَوَاشِي:
59 - الْحَوَاشِي هُمُ الأَْقَارِبُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ عَمُودَيِ
النَّسَبِ، كَالإِْخْوَةِ وَأَبْنَاءِ الإِْخْوَةِ وَالأَْخْوَال
وَالْخَالاَتِ وَالأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ (4) . وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي نَفَقَةِ الْحَوَاشِي.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ
__________
(1) المغني 7 / 587.
(2) المغني 7 / 589.
(3) المصدر السابق 7593.
(4) المصباح المنير 7 / 593.
(41/83)
لَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ (1) ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (2) } ، وَقَوْلِهِ:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى (3) } .
فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَل حَقَّ ذِي الْقُرْبَى بَعْدَ حَقِّ
الْوَالِدَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ، وَأَمَرَ بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمْ كَمَا
أَمَرَ بِهِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَمِنَ الإِْحْسَانِ إِلَيْهِمُ
الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِمْ.
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِيمَا رَوَاهُ طَارِقٌ
الْمُحَارِبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ
فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُول: " يَدُ الْمُعْطِي
الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول، أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ
وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ " (4) .
وَبِمَا رَوَاهُ كُلَيْبُ بْنُ مَنْفَعَةَ الْحَنَفِيُّ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا
رَسُول اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَال: " أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ
وَأَخَاكَ، وَمَوْلاَكَ الَّذِي يَلِي، ذَاكَ حَقٌّ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 228 ط دار المعرفة بيروت، والمغني 7 / 586.
(2) سورة الإسراء / 36
(3) سورة النساء / 36
(4) حديث: " يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك. . . " أخرجه
النسائي (5 / 61 ط التجارية الكبرى) ، وصححه ابن حبان (الإحسان 8 / 130 -
131 ط مؤسسة الرسالة) .
(41/83)
وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ " (1) .
فَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ
النَّفَقَةَ عَلَى هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ حَقٌّ وَاجِبٌ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنَ الْحَوَاشِي:
فَالْحَنَفِيَّةُ: يُوجِبُونَهَا لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَالْعَمِّ
وَالْعَمَّةِ وَالْخَال وَالْخَالَةِ وَالأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ، وَلاَ
تَجِبُ عِنْدَهُمْ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ وَبِنْتِ
الْعَمِّ، وَلاَ تَجِبُ أَيْضًا لِمَحْرَمٍ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ كَالأَْخِ
مِنَ الرَّضَاعِ (2) مُسْتَدِلِّينَ عَلَى وُجُوبِهَا لِكُل ذِي رَحِمٍ
مَحْرَمٍ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ مِثْل ذَلِكَ) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَيُوجِبُونَهَا لِكُل قَرِيبٍ وَارِثٍ بِفَرْضٍ
أَوْ تَعْصِيبٍ، فَتَجِبُ عِنْدَهُمْ لِلأَْخِ الشَّقِيقِ أَوْ لأَِبٍ أَوْ
لأُِمٍّ، وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ، وَلاَ تَجِبُ لِلْعَمَّةِ وَبِنْتِ
الْعَمِّ وَالْخَال وَالْخَالَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لاَ إِرْثَ لَهُمْ
بِالْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَرَابَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ،
فَهُمْ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُونَ مَالَهُ عِنْدَ عَدَمِ
الْوَارِثِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) حديث " يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك. . . " أخرجه
أبو داود (5 / 531 ط حمص) .
(2) فتح القدير 4 / 420، والبحر الرائق 4 / 228.
(41/84)
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: إِنَّ
النَّفَقَةَ تَلْزَمُ ذَوِي الأَْرْحَامِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ
بِالْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي
الْفُرُوضِ، لأَِنَّهُمْ وَارِثُونَ فِي تِلْكَ الْحَال (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ نَفَقَةَ الْحَوَاشِي
غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلاَ نَفَقَةَ عِنْدَهُمْ لِمَنْ عَدَا الأُْصُول
وَالْفُرُوعَ مِنَ الأَْقَارِبِ كَالإِْخْوَةِ وَالأَْخْوَال
وَالأَْعْمَامِ، وَذَلِكَ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِيجَابِ نَفَقَةِ
الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمَا لاَ يَلْحَقُ بِهِمْ
فِي الْوِلاَدَةِ، فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ (2) .
شُرُوطُ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَوَاشِي عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا:
60 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَوَاشِي عِنْدَ الْقَائِلِينَ
بِهَا الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِي نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ
وَهِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُنْفِقُ عَلَيْهِ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ،
بِسَبَبِ الصِّغَرِ أَوِ الأُْنُوثَةِ أَوِ الزَّمَانَةِ أَوِ الْعَمَى،
لأَِنَّهَا أَمَارَةُ الْحَاجَةِ وَلِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ، فَإِنَّ
الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْمُنْفِقُ وَاجِدًا مَا يُنْفِقُهُ فَاضِلاً عَنْ
نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَخَادِمِهِ.
__________
(1) المغني 7 / 586، والإنصاف 9 / 395.
(2) مواهب الجليل 4 / 209، 210.
(41/84)
ج - اتِّحَادُ الدِّينِ بَيْنَ الْمُنْفِقِ
وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، فَلاَ نَفَقَةَ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ لِعَدَمِ
تَوَارُثِ مُخْتَلِفِي الدِّينِ.
وَيُلاَحَظُ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ هَذَا الشَّرْطَ فِي
نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ عُمُومًا، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ
يَشْتَرِطُونَ هَذَا الشَّرْطَ إِلاَّ فِي نَفَقَةِ الْحَوَاشِي فَقَطْ (1)
.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلاَثَةُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ
بِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَوَاشِي وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
(2) .
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَيْهَا شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُمَا:
الأَْوَّل: قَضَاءُ الْقَاضِي بِهَا، فَلاَ تُسْتَحَقُّ قَبْلَهُ، فَلَوْ
ظَفِرَ أَحَدُهُمْ بِجِنْسِ حَقِّهِ قَبْل الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا،
فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ، لأَِنَّ وُجُوبَهَا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ
الإِْحْيَاءِ لِعَدَمِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ، بَل هِيَ صِلَةٌ مَحْضَةٌ،
فَجَازَ أَنْ يَتَوَقَّفَ وُجُوبُهَا عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، بِخِلاَفِ
نَفَقَةِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ فَهِيَ لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ
الْقَاضِي، لأَِنَّهَا وَجَبَتْ - بِطَرِيقِ الإِْحْيَاءِ، لِمَا فِيهَا
مِنْ دَفْعِ الْهَلاَكِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَ
الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ إِحْيَاءُ
الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي (3) .
__________
(1) الهداية بأعلى فتح الدير 4 / 416.
(2) تبيين الحقائق 3 / 64، والمغني 7 / 584،585.
(3) البدائع 4 / 37.
(41/85)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَرِيبُ
الْمُحْتَاجُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، لأَِنَّ الصِّلَةَ فِي الْقَرَابَةِ
الْقَرِيبَةِ وَاجِبَةٌ دُونَ الْبَعِيدَةِ، وَالْفَاصِل بَيْنَهُمَا أَنْ
يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (1) } ،
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ مِثْل ذَلِكَ " (2) .
اجْتِمَاعُ الأُْصُول وَالْحَوَاشِي:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ
الأُْصُول وَالْحَوَاشِي.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى فَرْضِ النَّفَقَةِ عَلَى
الأَْقَارِبِ مِنْ جِهَةِ الْحَوَاشِي، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ
الأَْصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ النَّفَقَةُ. فَمَذْهَبُ
الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ
كَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالأَْخِ وَالأُْخْتِ، وَالْخَال وَالْخَالَةِ،
وَلاَ تَجِبُ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ وَبِنْتِ
الْعَمِّ، وَلاَ لِمَحْرَمٍ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ كَالأُْمِّ مِنَ الرَّضَاعِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِكُل قَرِيبٍ وَارِثٍ
بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ كَالأَْخِ مِنْ أَيِّ الْجِهَاتِ كَانَ، وَلاَ
تَجِبُ لِمَنْ لاَ يَرِثُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ
ذَوِي الأَْرْحَامِ.
__________
(1) سورة البقرة / 233
(2) الهداية بأعلى فتح القدير 4 / 419، 420.
(41/85)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلأُْصُول وَالْفُرُوعِ، غَيْرَ
أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يُوجِبُونَهَا إِلاَّ لِلآْبَاءِ وَالأَْوْلاَدِ
الْمُبَاشِرِينَ، أَيِ الطَّبَقَةِ الأَْوْلَى مِنَ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ
فَقَطْ (1) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ مَذْهَبَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عِنْدَ
اجْتِمَاعِ الأَْقَارِبِ مِنْ جِهَتَيِ الأُْصُول وَالْحَوَاشِي.
أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
62 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الأَْقَارِبِ مِنْ
جِهَتَيِ الأُْصُول وَالْحَوَاشِي فَالْحَال لاَ يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ وَارِثًا وَالآْخَرُ غَيْرَ
وَارِثٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ وَارِثًا.
أ - فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ وَارِثًا وَالآْخَرُ غَيْرَ
وَارِثٍ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الأُْصُول وَحْدَهُمْ تَرْجِيحًا
لاِعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ.
وَلاَ يُطَالَبُ الأَْقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْحَوَاشِي بِالنَّفَقَةِ
وَلَوْ كَانُوا وَارِثِينَ، لأَِنَّ الْقَرَابَةَ الْجُزْئِيَّةَ أَوْلَى
مِنْ غَيْرِهَا.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ جَدٌّ لأُِمٍّ
وَعَمٍّ شَقِيقٍ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ لأُِمٍّ مَعَ أَنَّهُ
غَيْرُ وَارِثٍ، لأَِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الأُْصُول فَيُقَدَّمُ
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 208، وروضة الطالبين 9 / 83.
(41/86)
تَرْجِيحًا لِلْجُزْئِيَّةِ، وَلاَ يَجِبُ
عَلَى الْعَمِّ الشَّقِيقِ شَيْءٌ مَعَ أَنَّهُ وَارِثٌ، لأَِنَّهُ مِنْ
جِهَةِ الْحَوَاشِي.
وَكَذَلِكَ الْحَال لَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ
جَدٌّ لأَِبٍ، وَأَخٌ شَقِيقٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ لأَِبٍ وَهُوَ
وَارِثٌ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الأَْخِ الشَّقِيقِ تَرْجِيحًا
لِلْجُزْئِيَّةِ.
وَعِنْدَ تَعَدُّدِ الأُْصُول وَالْحَوَاشِي فَالْمُعْتَبَرُ الإِْرْثُ فِي
النَّفَقَةِ، فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ جَدٌّ
لأَِبٍ وَجَدَّةٌ لأَِبٍ وَعَمٌّ شَقِيقٌ وَعَمٌّ لأَِبٍ، فَالنَّفَقَةُ
عَلَى الْجَدِّ لأَِبٍ وَالْجَدَّةِ لأَِبٍ بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ:
السُّدُسُ عَلَى الْجَدَّةِ لأَِبٍ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ لأَِبٍ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْعَمِّ الشَّقِيقِ وَالْعَمِّ لأَِبٍ.
هَذَا هُوَ الْحُكْمُ إِنْ كَانَ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ وَارِثًا وَالآْخَرُ
غَيْرَ وَارِثٍ (1) .
ب - أَمَّا إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ وَارِثًا، فَالْعِبْرَةُ
فِي إِيجَابِ النَّفَقَةِ بِمِقْدَارِ الإِْرْثِ، فَتُوَزَّعُ النَّفَقَةُ
عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ الإِْرْثِ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ أَمٌّ وَعَمٌّ،
فَالنَّفَقَةُ تَجِبُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا
فَعَلَى الأُْمِّ الثُّلُثُ وَعَلَى الْعَمِّ الثُّلُثَانِ لأَِنَّ نَصِيبَ
كُلٍّ فِي الْمِيرَاثِ كَذَلِكَ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا لَوِ
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين 2 / 679 طبعة بولاق.
(41/86)
اجْتَمَعَ مَعَ الْجَدِّ لأَِبٍ أُمٌّ
وَعَاصِبٌ آخَرُ كَالأَْخِ أَوِ الْعَمِّ، فَالنَّفَقَةُ كُلُّهَا عَلَى
الْجَدِّ لأَِبٍ، لأَِنَّهُ يَنْزِل مَنْزِلَةَ الأَْبِ وَيَأْخُذُ
حُكْمَهُ.
وَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ أُمٌّ وَجَدٌّ
لأَِبٍ وَأَخٌ شَقِيقٌ أَوِ ابْنُ أَخٍ أَوْ عُمٌّ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى
الْجَدِّ وَحْدَهُ، لأَِنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُ الأَْخَ وَابْنَهُ
وَالْعَمَّ، لِتَنْزِيلِهِ حِينَئِذٍ مَنْزِلَةَ الأَْبِ، وَحَيْثُ
تَحَقَّقَ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ الأَْبِ صَارَ كَمَا لَوْ كَانَ الأَْبُ
مَوْجُودًا حَقِيقَةً، وَإِذَا كَانَ الأَْبُ مَوْجُودًا حَقِيقَةً لاَ
تُشَارِكُهُ الأُْمُّ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ، فَكَذَا الْحَال إِذَا
كَانَ مَوْجُودًا حُكْمًا، فَتَجِبُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ (1) .
هَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ الْجَدِّ لأَِبٍ وَالأُْمِّ
عَاصِبٌ مِنَ الْحَوَاشِي.
فَلَوْ كَانَ لِلْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ أُمٌّ وَجَدٌّ لأَِبٍ فَقَطْ وَلاَ
أَحَدَ مَعَهُمَا مِنَ الْعَصَبَاتِ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا
وَفْقَ مِيرَاثِهِمَا، لأَِنَّ الْجَدَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ
يَنْزِل مَنْزِلَةَ الأَْبِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَحْدَهُ
وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا أَثْلاَثًا (2) .
ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
63 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الأَْقَارِبِ مِنْ
جِهَتَيِ الأُْصُول وَالْحَوَاشِي فَالْمُعْتَبَرُ
__________
(1) رد المحتار 2 / 625 ط بولاق.
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 679 طبعة بولاق.
(41/87)
الإِْرْثُ، فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ مِنَ
الأَْقَارِبِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ مَنْ هُوَ وَارِثٌ وَآخَرُ غَيْرُ وَارِثٍ
فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَإِذَا تَعَدَّدَ الْوَرَثَةُ، فَالنَّفَقَةُ تَكُونُ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ
أَنْصِبَائِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ أُمُّ أُمٍّ وَأَبُ
أُمٍّ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى أُمِّ الأُْمِّ، لأَِنَّهَا الْوَارِثَةُ وَلاَ
شَيْءَ عَلَى أَبِي الأُْمِّ لِعَدَمِ مِيرَاثِهِ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ شَقِيقٌ وَجَدٌّ لأَِبٍ، فَالنَّفَقَةُ
عَلَى الْجَدِّ لأَِبٍ، لأَِنَّهُ الْوَارِثُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْعَمِّ،
لِعَدَمِ مِيرَاثِهِ.
وَكَذَا الْحُكْمُ إِذَا اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ
أُمٌّ وَجَدٌّ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلاَثًا، فَعَلَى الأُْمِّ
الثُّلُثُ، وَعَلَى الْجَدِّ الثُّلُثَانِ، لأَِنَّهُمَا يَرِثَانِ
كَذَلِكَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ جَدَّةٌ وَأَخٌ، فَعَلَى الْجَدَّةِ
سُدُسُ النَّفَقَةِ، وَعَلَى الأَْخِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، وَهَكَذَا
الْحُكْمُ فِي كُل مَا يُمَاثِل ذَلِكَ (1) .
هَذَا هُوَ الْحُكْمُ إِذَا كَانُوا وَارِثِينَ بِالْفِعْل.
أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ قَرِيبَانِ مُوسِرَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا
مَحْجُوبًا بِقَرِيبٍ فَقِيرٍ، فَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ
كَوْنِهِ مِنْ عَمُودَيِ النَّسَبِ (الأُْصُول وَالْفُرُوعِ) وَبَيْنَ
كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِهِمَا.
__________
(1) الكافي لابن قدامة 3 / 376، 377.
(41/87)
فَإِنْ كَانَ الْمَحْجُوبُ مِنْ عَمُودَيِ
النَّسَبِ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ أَبٌ وَأُمٌّ
وَجَدٌّ، وَكَانَ الأَْبُ مُعْسِرًا، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، وَتَكُونُ
النَّفَقَةُ عَلَى الأُْمِّ وَالْجَدِّ أَثْلاَثًا، الثُّلُثُ عَلَى
الأُْمِّ، وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْجَدِّ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ، فَلاَ نَفَقَةَ عَلَيْهِ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ أَبٌ وَأُمٌّ
وَأَخَوَانِ وَجَدٌّ، وَكَانَ الأَْبُ مُعْسِرًا، فَلاَ شَيْءَ عَلَى
الأَْخَوَيْنِ، لأَِنَّهُمَا مَحْجُوبَانِ بِالأَْبِ، وَلَيْسَا مِنْ
عَمُودَيِ النَّسَبِ، وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الأُْمِّ وَالْجَدِّ
أَثْلاَثًا (1) .
اجْتِمَاعُ الْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي:
64 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ
النَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ، خِلاَفًا
لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذْ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ
عِنْدَ اجْتِمَاعِ الأَْقَارِبِ مِنْ جِهَتَيِ الْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي،
فَالْمُعْتَبَرُ فِي النَّفَقَةِ الْقُرْبُ وَالْجُزْئِيَّةُ دُونَ
الإِْرْثِ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّفَقَةُ تَجِبُ عَلَى الْفُرُوعِ وَلَوْ
كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْحَوَاشِي
وَلَوْ كَانُوا وَارِثِينَ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ
__________
(1) المغني والشرح الكبير 9 / 260، 261.
(41/88)
بِنْتٌ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ، تَكُونُ
النَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ فَقَطْ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الأُْخْتِ مَعَ
أَنَّهَا تَرِثُ النِّصْفَ تَعْصِيبًا، وَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ
يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ أَخٌ مُسْلِمٌ وَابْنٌ نَصْرَانِيٌّ،
فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الاِبْنِ النَّصْرَانِيِّ، وَإِنْ كَانَ
غَيْرَ وَارِثٍ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الأَْخِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ
وَارِثًا، لِتَرَجُّحِ الْقُرْبِ وَالْجُزْئِيَّةِ.
وَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ ابْنُ بِنْتٍ
وَأَخٌ شَقِيقٌ: فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الأَْخِ الشَّقِيقِ، وَإِنْ
كَانَ وَارِثًا، لِتَرَجُّحِ قَرَابَتِهِ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنِ
اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ لإِِدْلاَءِ كُلٍّ مِنْهَا بِوَاسِطَةٍ (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الأَْقَارِبِ مِنْ
جِهَتَيِ الْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ
دُونَ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ تَعَدُّدِهِمْ تُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ
أَنْصِبَائِهِمْ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ ابْنٌ وَأَخٌ
لأُِمٍّ، فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الاِبْنِ، لأَِنَّهُ الْوَارِثُ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَى الأَْخِ لأُِمٍّ، لأَِنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ بِنْتٌ وَأُخْتٌ، أَوْ بِنْتٌ وَأَخٌ، أَوْ بِنْتٌ
وَعَصَبَةٌ، فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ
__________
(1) رد المحتار 2 / 679 ط بولاق.
(41/88)
فِي ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي
الْمَسْأَلَةِ رَدٌّ أَوْ عَوْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَكَذَلِكَ لَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ ابْنٌ
يَهُودِيٌّ وَعَمٌّ مُسْلِمٌ، فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَمِّ
الْمُسْلِمِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الاِبْنِ الْيَهُودِيِّ، لأَِنَّهُ غَيْرُ
وَارِثٍ، لاِخْتِلاَفِ الدِّينِ (1) .
اجْتِمَاعُ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي:
65 - عِنْدَ اجْتِمَاعِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ وَالْحَوَاشِي، يَرَى
الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَكُونُ عَلَى الأُْصُول وَالْفُرُوعِ
دُونَ الْحَوَاشِي، وَيُرَاعَى تَقْدِيمُ الأَْقْرَبِ دَرَجَةً ثُمَّ
الْوَارِثِ، فَيُقَدَّمُ الاِبْنُ عَلَى الأَْبِ، وَالأَْبُ عَلَى الْجَدِّ
وَهَكَذَا.
وَعِنْدَ الاِسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ وَالإِْرْثِ فَعَلَى حَسَبِ
أَنْصِبَائِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الأُْصُول وَالْفُرُوعِ
فَقَطْ، وَيُقَدَّمُ الْفَرْعُ عَلَى الأَْصْل، وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ
يَكُونُ الاِعْتِبَارُ بِقُرْبِ الدَّرَجَةِ، وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ
وَالاِسْتِوَاءِ فِي الْقُرْبِ يَكُونُ الاِعْتِبَارُ بِالْمِيرَاثِ،
وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ تُوَزَّعُ عَلَى حَسَبِ الأَْنْصِبَاءِ فِي
الْمِيرَاثِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ
__________
(1) الكافي لابن قدامة 3 / 374، 375، والمغني والشرح الكبير 9 / 265، 269،
270.
(41/89)
الإِْرْثُ، وَعِنْدَ تَعَدُّدِ الْوَرَثَةِ
تَكُونُ النَّفَقَةُ بِحَسَبِ الأَْنْصِبَاءِ فِي الْمِيرَاثِ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ لِشَخْصٍ يَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ بِنْتٌ وَجَدَّةٌ
لأُِمٍّ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ، فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا،
فَيَجِبُ عَلَى الْبِنْتِ نِصْفُ النَّفَقَةِ، وَعَلَى الْجَدَّةِ لأُِمٍّ
السُّدُسُ، وَعَلَى الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ الثُّلُثُ، لأَِنَّهَا تَرِثُ
الْبَاقِيَ مَعَ الْبِنْتِ، وَهَذَا عَلَى حَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي
الْمِيرَاثِ؛ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ
يُوجِبُونَهَا عَلَى الْبِنْتِ فَقَطْ؛ اعْتِبَارًا بِالْقُرْبِ (1) .
النَّفَقَةُ عِنْدَ إِعْسَارِ بَعْضِ الأَْقَارِبِ:
66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ
بِالنَّفَقَةِ عَلَى الأَْقَارِبِ إِلَى رَأْيَيْنِ:
أ - يَرَى الْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ حَدَّ الْيَسَارِ الْمُوجِبِ لِنَفَقَةِ
الأَْقَارِبِ مُقَدَّرٌ بِمَا يَفْضُل عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ زَوْجَتِهِ فِي
يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ.
فَمَنِ اكْتَسَبَ شَيْئًا فِي يَوْمِهِ وَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ
وَزَوْجَتِهِ وَفَضَل عِنْدَهُ شَيْءٌ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ
لِلْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ (2) .
__________
(1) الكافي لابن قدامة 3 / 376، ومغني المحتاج 3 / 450 - 451، ورد المحتار
2 / 679.
(2) رد المحتار 2 / 676 ط بولاق، والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 522، وروضة
الطالبين 9 / 83، والكافي لابن قدامة 3 / 375، والمغني والشرح الكبير 9 /
259، 270.
(41/89)
ب - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا
مُحَمَّدًا أَنَّ حَدَّ الْيَسَارِ الْمُوجِبِ لِنَفَقَةِ الأَْقَارِبِ
هُوَ يَسَارُ الْفُطْرَةِ: وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ الشَّخْصُ مَا يَحْرُمُ
عَلَيْهِ بِهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ نِصَابٌ - وَلَوْ غَيْرُ نَامٍ -
فَاضِلٌ عَنْ حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ.
فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمِلْكِهِ النِّصَابَ وَجَبَ عَلَيْهِ
الإِْنْفَاقُ عَلَى قَرِيبِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَال فَاضِلاً عَنْ
نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الأَْرْجَحُ وَالْمُفْتَى
بِهِ عِنْدَهُمْ.
وَيَرَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي قَوْلٍ لَهُ: أَنَّ حَدَّ الْيَسَارِ
الْمُوجِبِ لِنَفَقَةِ الأَْقَارِبِ مُقَدَّرٌ بِمَا يَفْضُل عَنْ نَفَقَةِ
نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ شَهْرًا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْغَلَّةِ، عَلَى
تَخْرِيجِ الزَّيْلَعِيِّ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْحِرَفِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِمَا يَفْضُل عَنْ
نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ كُل يَوْمٍ، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
حُقُوقِ الْعِبَادِ الْقُدْرَةُ دُونَ النِّصَابِ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ
عَمَّا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَصْرِفُهَا إِلَى أَقَارِبِهِ، وَهَذَا
أَوْجَهُ (1) .
67 - وَلاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ
بِنَفَقَةِ الْوَلَدِ أَبُوهُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا
(2) .
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 676 ط بولاق، وبدائع الصنائع 3 / 447.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 676 ط بولاق، وحاشية الدسوقي 2 / 522، وروضة
الطالبين.
(41/90)
وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ
تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بَعْدَ الأَْبِ إِذَا أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ
عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ
وَتُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقُرْبِ
وَالْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُرَاعَاةِ الإِْرْثِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ.
وَمَثَّلُوا لَهُ بِأَنْ لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ مُعْسِرٌ وَجَدٌّ وَأُمٌّ:
كَانَتِ النَّفَقَةُ: عَلَى الْجَدِّ الثُّلُثَانِ، وَعَلَى الأُْمِّ
الثُّلُثُ، لأَِنَّ نَصِيبَهُمَا كَذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
يَقُول ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا لَمْ يَفِ كَسْبُ الأَْبِ بِحَاجَةِ
أَوْلاَدِهِ، أَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ لِعَدَمِ تَيَسُّرِ الْكَسْبِ أَنْفَقَ
عَلَيْهِمُ الْقَرِيبُ وَرَجَعَ عَلَى الأَْبِ إِذَا أَيْسَرَ، وَفِي
جَوَامِعِ الْفِقْهِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلأَْبِ مَالٌ وَالْجَدُّ أَوِ
الأُْمُّ أَوِ الْخَال أَوِ الْعَمُّ مُوسِرٌ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ
الصَّغِيرِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الأَْبِ إِذَا أَيْسَرَ، وَكَذَا
يُجْبَرُ الأَْبْعَدُ إِذَا غَابَ الأَْقْرَبُ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ،
وَإِنْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَأُمٌّ مُوسِرَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا
عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (2) ، وَرَوَى
الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عَلَى الْجَدِّ وَحْدَهُ
لِجَعْلِهِ كَالأَْبِ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 411، والكافي 3 / 377، والمغني والشرح الكبير 9 / 270.
(2) فتح القدير 4 / 411.
(41/90)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ
أَعْسَرَ الأَْبُ تَحَمَّلَتْهَا الأُْمُّ وَتَرْجِعُ بِهَا عَلَى الأَْبِ
إِذَا أَيْسَرَ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ (2) } .
مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَى الأَْبِ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الأُْمِّ
وَالْجَدِّ لأَِنَّهُمَا وَارِثَانِ، فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي
تَحَمُّل نَفَقَاتِ مَنْ أُعْسِرَ أَبُوهُ بِنَفَقَتِهِ عَلَى قَدْرِ
اشْتِرَاكِهِمَا فِي مِيرَاثِهِ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَجِبُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الأُْمِّ وَلاَ
عَلَى الْجَدِّ إِنْ أُعْسِرَ الأَْبُ بِالنَّفَقَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْمَالِكِيَّةُ (4) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الأَْبِ ثُمَّ
عَلَى آبَائِهِ وَإِنْ عَلَوْا، ثُمَّ تَنْتَقِل بَعْدَهُمْ إِلَى
الأُْمِّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (5) .
مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَدَّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ
الأَْبِ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، قَال تَعَالَى: {
__________
(1) حاشية رد المحتار 2 / 672 ط بولاق.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) بدائع الصنائع 3 / 442.
(4) مواهب الجليل 4 / 210، 211.
(5) الحاوي الكبير للمارودي 15 / 78.
(41/91)
يَا بَنِي آدَمَ (1) } فَسَمَّانَا
أَبْنَاءَ، وَسَمَّى آدَمَ أَبًا وَهُوَ لَيْسَ مُبَاشِرًا.
وَلأَِنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الأَْبِ فِي الْوِلاَيَةِ، وَيَخْتَصُّ
دُونَ الأُْمِّ بِالتَّعْصِيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي
الْتِزَامِ النَّفَقَةِ.
وَلأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلاَمُ أَبًا وَإِنْ كَانَ جَدًّا بَعِيدًا، قَال تَعَالَى: {مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ (2) } .
وَلِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (3) } .
فَلَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الأُْمِّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الأَْبُ مِنَ
الرِّضَاعِ، وَجَبَ عَلَيْهَا مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ النَّفَقَةِ.
وَلأَِنَّ الْبَعْضِيَّةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ، وَفِي الأَْبِ
مَظْنُونَةٌ، فَلَمَّا تَحَمَّلَتْ بِالْمَظْنُونَةِ كَانَ تَحَمُّلُهَا
بِالْمُسْتَيْقَنَةِ أَوْلَى.
وَلأَِنَّ الْوَلَدَ لَمَّا تَحَمَّل نَفَقَةَ أَبَوَيْهِ، وَجَبَ أَنْ
يَتَحَمَّل أَبَوَاهُ نَفَقَتَهُ (4) .
دَيْنُ نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ:
68 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ تَسْقُطُ
بِمُضِيِّ الزَّمَنِ، إِلاَّ إِذَا اعْتُبِرَ دَيْنًا فِي
__________
(1) سورة الأعراف / 26.
(2) سورة الحج / 78.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) الحاوي الكبير 15 / 78 - 80.
(41/91)
الأَْحْوَال الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا،
لأَِنَّهَا وَجَبَتْ سَدًّا لِلْخَلَّةِ وَكِفَايَةً لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ
حَصَل ذَلِكَ فِي الْمَاضِي بِدُونِهَا، بِخِلاَفِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ
فَسَبَبُ وُجُوبِهَا الاِحْتِبَاسُ وَتَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ، فَلاَ
تَسْقُطُ بِسَدِّ الْخَلَّةِ فِيمَا مَضَى (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا عَلَى الْمُنْفِقِ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ
لاَ تَصِيرُ دَيْنًا إِلاَّ إِذَا أَذِنَ الْقَاضِي لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ
النَّفَقَةُ أَنْ يَسْتَدِينَ، وَاسْتَدَانَ بِالْفِعْل، أَوْ أَمَرَ
الْمُنْفِقُ الْغَائِبُ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّفَقَةُ بِالاِسْتِدَانَةِ.
لأَِنَّ إِذْنَ الْقَاضِي كَأَمْرِ الْغَائِبِ، فَإِنَّهَا تُصْبِحُ
دَيْنًا عَلَى الْمُنْفِقِ، فَلاَ تَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ
الإِْبْرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَدِنْ بِالْفِعْل لاَ تَصِيرُ دَيْنًا،
وَلاَ يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُنْفِقِ فِيمَا مَضَى (2) .
وَكَذَا إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي وَمَضَتْ مُدَّةٌ تُقَدَّرُ بِشَهْرٍ
فَأَكْثَرَ سَقَطَتْ وَلاَ تَصِيرُ دَيْنًا، لأَِنَّ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ
تَجِبُ لِلْحَاجَةِ، فَلاَ تَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ، وَقَدْ حَصَلَتِ
الْكِفَايَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.
هَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي وَلَمْ
__________
(1) رد المحتار 2 / 685، ومواهب الجليل 4 / 211، 212، ومغني المحتاج 3 /
449، والكافي 3 / 380.
(2) الهداية مع فتح القدير 4 / 229، وحاشية ابن عابدين 2 / 685.
(41/92)
يَمْضِ عَلَيْهَا سِوَى مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ،
وَهِيَ مَا دُونَ الشَّهْرِ، فَلاَ تَسْقُطُ وَتَصِيرُ دَيْنًا فِي
الذِّمَّةِ.
وَكَذَا إِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ لِلصَّغِيرِ وَمَضَتْ
مُدَّةٌ، أَوْ إِذَا أَمَرَ الأُْمَّ بِالاِقْتِرَاضِ عَلَى الْوَلَدِ،
وَالْحَال أَنَّ الأَْبَ غَائِبٌ وَتَرَكَهُمْ بِلاَ نَفَقَةٍ، فَلاَ
تَسْقُطُ النَّفَقَةُ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال كُلِّهَا وَتَصِيرُ دَيْنًا
فِي الذِّمَّةِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَصِيرُ دَيْنًا إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِذَا فَرَضَهَا الْحَاكِمُ عَلَى الْوَلَدِ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ فِي الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا قَامَ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ شَخْصٌ لَمْ يَقْصِدْ مِنَ الإِْنْفَاقِ التَّبَرُّعَ،
فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَلاَ
تَسْقُطُ وَتَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، وَبِهَذَا قَال
الْمَالِكِيَّةُ، وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: يَقْضِي لِلْمُنْفِقِ غَيْرِ
الْمُتَبَرِّعِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: لاَ تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ
إِلاَّ إِذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ
غَائِبًا أَوْ مُمْتَنِعًا عَنْهَا بَعْدَ تَوَفُّرِ شُرُوطِهَا. أَوْ
إِذَا أَذِنَ الْقَاضِي لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّفَقَةُ بِالاِقْتِرَاضِ
لِغَيْبَةٍ أَوِ امْتِنَاعٍ وَاقْتَرَضَ بِالْفِعْل.
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 451، وفتح القدير 4 / 229، وحاشية ابن عابدين 2 /
685.
(2) مواهب الجليل والتاج والإكليل 4 / 211 وما بعدها.
(41/92)
أَوْ إِذَا اقْتَرَضَهَا الْمُحْتَاجُ
عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، لِعَدَمِ وُجُودِ
قَاضٍ أَوْ لِعَدَمِ إِذْنِهِ، وَحَصَل الاِقْتِرَاضُ بِالْفِعْل،
وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ
الإِْنْفَاقَ الْوَاجِبَ مُدَّةً لَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهُ، أَطْلَقَهُ
الأَْكْثَرُ - مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَجَزَمَ بِهِ فِي الْفُصُول، وَقَال
الْمَرْدَاوِيُّ: هَذَا الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ
الأَْصْحَابِ.
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ: إِلاَّ إِنْ فَرَضَهَا حَاكِمٌ لأَِنَّهَا تَأَكَّدَتْ
بِفَرْضِهِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، أَوِ اسْتَدَانَ بِإِذْنِهِ، قَال فِي
الْمُحَرَّرِ: وَأَمَّا نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ فَلاَ تَلْزَمُهُ لِمَا مَضَى
وَإِنْ فُرِضَتْ إِلاَّ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ (2)
.
وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - بِأَنَّ مَنْ نَفَى حَمْل زَوْجَتِهِ ثُمَّ
اسْتَلْحَقَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِيمَا مَضَى قَبْل
الاِسْتِلْحَاقِ مُنْذُ الْحَمْل بِهِ، وَتَرْجِعُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ
بِمَا أَنْفَقَتْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أَنْفَقَتْهُ صَارَ دَيْنًا
بِإِذْنِ الْقَاضِي، نَظَرًا لِتَعَدِّي الأَْبِ بِنَفْيِهِ، وَلأَِنَّهَا
إِنَّمَا أَنْفَقَتْ عَلَيْهِ لِظَنِّهَا أَنَّهُ لاَ أَبَ لَهُ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 85، ومغني المحتاج 3 / 449.
(2) كشاف القناع 5 / 484، والإنصاف 9 / 403.
(3) شرح الزرقاني على خليل 4 / 253، ومغني المحتاج 3 / 441، وكشاف القناع 5
/ 405.
(41/93)
فَرْضُ النَّفَقَةِ لِلْقَرِيبِ عَلَى
الْغَائِبِ:
69 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ إِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى
الْغَائِبِ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ مِنَ الأَْقَارِبِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ إِلاَّ
بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَبِهِ قَال الْجُمْهُورُ - الْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فَلَوْ كَانَ الأَْبُ غَائِبًا،
وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لاِبْنِهِ، وَالْجَدُّ حَاضِرٌ،
فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ بِأَمْرِ الْقَاضِي، لِيَرْجِعَ عَلَى
الأَْبِ بِمَا أَنْفَقَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يُوجِبُونَ النَّفَقَةَ عَلَى الْجَدِّ
لِحَصْرِهِمْ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ
الْمُبَاشِرِينَ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهَا،
فَقَالُوا بِوُجُوبِهَا عَلَى الْغَائِبِ بِدُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي
حَقِّ الزَّوْجَةِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَمَنْ فِي
حُكْمِهِمْ، لأَِنَّ نَفَقَةَ هَؤُلاَءِ وَاجِبَةٌ قَبْل الْقَضَاءِ،
فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إِعَانَةً عَلَى حُصُول النَّفَقَةِ
الْوَاجِبَةِ لَهُمْ.
__________
(1) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4 / 211، ومواهب الجليل 4 / 212،
وروضة الطالبين 9 / 87، ومغني المحتاج 3 / 572، والمغني والشرح الكبير 9 /
271.
(41/93)
وَعَدَمُ وُجُوبِهَا لِغَيْرِ هَؤُلاَءِ
مِنْ كُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، إِلاَّ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ (1) .
ثَالِثًا: الْمِلْكُ:
فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَمْلُوكِ إِنْسَانًا أَوْ
حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُمَا.
نَفَقَةُ الرَّقِيقِ:
70 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْرِقَّاءِ
وَكِسْوَتِهِمْ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمْ مَنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ،
وَكِسْوَتُهُمْ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ لأَِمْثَالِهِمْ مَعَ
مُرَاعَاةِ حَالَةِ السَّيِّدِ فِي ذَلِكَ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ:
(رق ف 24 وَمَا بَعْدَهَا) .
نَفَقَةُ الْحَيَوَانِ:
71 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ
عَلَى مَالِكِهِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالْكِفَايَةِ، وَقَيَّدَ
الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ مُحْتَرَمًا.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ
النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا
تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 665 ط بولاق.
(2) حديث: " دخلت امرأة النار في هرة ربطتها. . . " أخرجه البخاري (فتح
الباري 6 / 356 ط السلفية) ومسلم (4 / 2022 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن
عمر، واللفظ للبخاري.
(41/94)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِفَايَةِ فِي نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ وُصُولُهُ
إِلَى أَوَّل الشِّبَعِ وَالرَّيِّ دُونَ غَايَتِهِمَا (1) .
امْتِنَاعُ مَالِكِ الْحَيَوَانِ مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ:
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْبَارِ مَالِكِ الْحَيَوَانِ عَلَى
الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ
يَجْبُرُهُ الْقَاضِي عَلَى الإِْنْفَاقِ عَلَى الْحَيَوَانَاتِ، لأَِنَّ
فِي الإِْجْبَارِ نَوْعَ قَضَاءٍ، وَالْقَضَاءُ يَعْتَمِدُ الْمَقْضِيَّ
لَهُ وَيَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ،
لَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ دِيَانَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَيَكُونُ آثِمًا وَمُعَاقَبًا بِحَبْسِهَا عَنِ الْبَيْعِ مَعَ
عَدَمِ الإِْنْفَاقِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ فِي الْحَيَوَانِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ
وَدَوَابِّهِ مِنْ بَقَرٍ وَإِبِلٍ وَغَنَمٍ وَحَمِيرٍ وَغَيْرِهَا إِنْ
لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَرْعًى، فَإِنْ أَبَى أَوْ عَجَزَ عَنِ الإِْنْفَاقِ
أُخْرِجَ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ هِبَةٍ (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 66، ومواهب الجليل 4 / 207، ومغني المحتاج 3 / 462،
وكشاف القناع 5 / 493، والإنصاف 9 / 414.
(2) فتح القدير 4 / 230 - 231.
(3) الشرح الصغير للدردير 2 / 749 - 750.
(41/94)
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ
الْحَيَوَانِ مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُوْلِهِ.
فَقَرَّرُوا أَنَّ مَالِكَ الْحَيَوَانِ مَأْكُول اللَّحْمِ إِذَا
امْتَنَعَ مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ لَزِمَهُ أَحَدُ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
بَيْعُهُ، أَوْ عَلْفُهُ وَالإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ، أَوْ ذَبْحُهُ؛ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَإِبْقَاءً لِمَلِكِهِ وَعَدَمِ إِضَاعَةِ مَالِهِ.
وَأَمَّا مَالِكُ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ فَيَلْزَمُهُ بَيْعُهُ أَوِ
الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُهُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ
مَأْكُول اللَّحْمِ يَحْرُمُ ذَبْحُهُ.
فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ تَصَرَّفَ الْحَاكِمُ فِيمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً
حَسَبَ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَال نِيَابَةً عَنْهُ مِنْ إِجَارَةِ
الدَّابَّةِ أَوْ بَيْعِهَا، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَجَبَتْ
نَفَقَتُهَا فِي بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ مَال
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأَْمْوَال مَا يُنْفِقُ الْحَاكِمُ مِنْهَا
عَلَيْهَا، وَجَبَ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كِفَايَتُهَا، وَقَال
الأَْذْرُعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُشْبِهُ أَلاَّ يُبَاعَ مَا
أَمْكَنَ إِجَارَتُهُ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ مُقْتَضَى كَلاَمِ
الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ امْتَنَعَ مَالِكُ الْبَهِيمَةِ مِنَ
الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ
كَمَا يُجْبَرُ عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنْ أَبَى
__________
(1) المهذب 2 / 169، وروضة الطالبين 9 / 120، ومغني المحتاج 3 / 462 - 463،
ونهاية المحتاج 7 / 241، 242.
(41/95)
الإِْنْفَاقَ عَلَيْهَا أَوْ عَجَزَ عَنْهُ
أُجْبِرَ عَلَى بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ ذَبْحِ مَأْكُولٍ، لأَِنَّ
بَقَاءَهَا فِي يَدِهِ بِتَرْكِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا ظُلْمٌ،
وَالظُّلْمُ تَجِبُ إِزَالَتُهُ، فَإِنْ أَبَى فَعَل الْحَاكِمُ الأَْصَحَّ
مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ أَوِ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ وَأَنْفَقَ
عَلَيْهَا، كَمَا لَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ، وَيَجِبُ عَلَى
مُقْتَنِي الْكَلْبِ الْمُبَاحِ وَهُوَ كَلْبُ صَيْدٍ وَمَاشِيَةٍ وَزَرْعٍ
أَنْ يُطْعِمَهُ وَيَسْقِيَهُ أَوْ يُرْسِلَهُ، لأَِنَّ عَدَمَ ذَلِكَ
تَعْذِيبٌ لَهُ، وَلاَ يَحِل حَبْسُ شَيْءٍ مِنَ الْبَهَائِمِ لِتَهْلَكَ
جُوعًا أَوْ عَطَشًا (1) .
نَفَقَةُ الْعَارِيَةِ:
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْعَيْنِ
الْمُعَارَةِ زَمَنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّ نَفَقَةَ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ عَلَى
مَالِكِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ،
وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ إِلَى: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى
الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَفُهَا أَكْثَرَ مِنَ
الْكِرَاءِ، فَتَخْرُجُ الْعَارِيَةُ إِلَى الْكِرَاءِ.
__________
(1) كشاف القناع 5 / 594 - 595.
(2) حاشية العدوي وشرح الخرشي 6 / 125، 129، والتاج والإكليل بهامش مواهب
الجليل 5 / 273، ومغني المحتاج 2 / 267، وأسنى المطالب 2 / 329، ومعونة
أولي النهى 5 / 235.
(41/95)
وَلأَِنَّ الإِْنْفَاقَ عَلَى الْعَارِيَةِ
مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ عَلَى مَالِكِهَا (1) .
وَلِقِيَاسِهَا عَلَى الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ
لإِِبْقَائِهَا وَصِيَانَتِهَا عَلَى مَالِكِهَا (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الْحَنَفِيَّةُ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل
الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
(3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الإِْنْفَاقِ
عَلَيْهَا وَبَيْنَ تَرْكِهَا، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى الإِْنْفَاقِ
لأَِنَّهُ لاَ لُزُومَ فِي الْعَارِيَةِ، وَلَكِنْ يُقَال لَهُ: أَنْتَ
أَحَقُّ بِالْمَنَافِعِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَنْفِقْ لِيَحْصُل لَكَ مِلْكُ
الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ شِئْتَ فَخَل يَدَكَ عَنْهَا، أَمَّا أَنَّهُ
يُجْبَرُ عَلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا فَلاَ.
وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: قَال بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 267، وأسنى المطالب 2 / 329.
(2) معونة أولي النهى 5 / 235.
(3) الفتاوى الهندية 4 / 372، وشرح الخرشي 6 / 129، والتاج والإكليل بهامش
مواهب الجليل 5 / 273، ومغني المحتاج 2 / 267، ومعونة أولي النهى 5 / 235.
(4) الفتاوى الهندية 4 / 372، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 88.
(41/96)
الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ النَّفَقَةَ فِي
اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَقِيل أَيْضًا فِي
اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ عَلَى رَبِّهَا، وَأَمَّا فِي الْمُدَّةِ
الطَّوِيلَةِ وَالسَّفَرِ الْبَعِيدِ فَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَنَفَقَةِ
الْعَبْدِ الْمُحْتَرَمِ، وَكَأَنَّهُ أَقْيَسُ (1) .
نَفَقَةُ اللُّقَطَةِ:
74 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الإِْنْفَاقِ عَلَى اللُّقَطَةِ،
وَفِيمَا يَلْزَمُهُ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهَا، وَهَل يُشْتَرَطُ فِيهِ
أَمْرُ الْقَاضِي أَمْ لاَ؟ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ بِأَمْرِ الْقَاضِي
فَإِنَّهُ يَكُونُ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا، وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ
(2) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ لِلْقَاضِي وِلاَيَةً فِي مَال الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ
إِذْ هُوَ نُصِّبَ نَاظِرًا فَصَارَ أَمْرُهُ كَأَمْرِ الْمَالِكِ (3) .
وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي فَيَنْظُرَ مَا
يَأْمُرُ بِهِ.
فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُحْتَمَل الاِنْتِفَاعُ بِهَا بِالإِْجَارَةِ
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الخرشي 6 / 129، والتاج والإكليل بهامش مواهب
الجليل 5 / 273.
(2) البدائع 6 / 203.
(3) تبيين الحقائق 3 / 305.
(41/96)
أَمَرَهُ بِأَنْ يُؤَاجِرَهَا وَيُنْفِقَ
عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا نَظَرًا لِلْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا
لاَ يَحْتَمِل الاِنْتِفَاعَ بِهَا بِطَرِيقِ الإِْجَارَةِ، وَخَشِيَ
أَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا
أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا مَقَامَهَا.
وَإِنْ رَأَى أَنَّ الأَْصْلَحَ أَنْ لاَ يَبِيعَهَا بَل يُنْفِقَ
عَلَيْهَا، أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا شَرِيطَةَ أَنْ لاَ تَزِيدَ
نَفَقَتُهَا عَلَى قِيمَتِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا
حَتَّى إِذَا حَضَرَ أُخِذَ مِنْهُ النَّفَقَةُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنْ أَنْفَقَ مُلْتَقِطُ اللُّقَطَةِ عَلَيْهَا،
خَيَّرَ رَبَّهَا إِذَا جَاءَ بَيْنَ أَنْ يَفُكَّهَا بِمَا أَنْفَقَ
عَلَيْهَا مُلْتَقِطُهَا، أَوْ أَنْ يُسَلِّمَهَا لِمُلْتَقِطِهَا فِي
نَظِيرِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الإِْنْفَاقُ بِإِذْنِ
السُّلْطَانِ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
(2)
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِذَا أَمْسَكَ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ
وَتَبَرَّعَ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ
بِمَا أَنْفَقَ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا أَشْهَدَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (3) .
وَقَالُوا: إِذَا أَرَادَ الْبَيْعَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا،
اسْتَقَل بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ
اسْتِئْذَانُهُ، وَهَل يَجُوزُ بَيْعُ جُزْءٍ مِنْهَا
__________
(1) البدائع 6 / 203، وتبيين الحقائق 3 / 305.
(2) حاشية الدسوقي على شرح الكبير 4 / 123، والمدونة 4 / 367.
(3) روضة الطالبين 5 / 4043.
(41/97)
لِنَفَقَةِ بَاقِيهَا؟ قَال الإِْمَامُ:
نَعَمْ كَمَا تُبَاعُ جَمِيعُهَا، وَحَكَى احْتِمَالاً أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ تَأْكُل نَفْسَهَا وَبِهَذَا
قَطَعَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ، قَال: وَلاَ يَسْتَقْرِضُ عَلَى الْمَال
أَيْضًا، لِهَذَا الْمَعْنَى (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا
يَبْقَى عَامًا أَوْ أَكْثَرَ، وَمَا لاَ يَبْقَى عَامًا (2) .
فَإِنِ الْتَقَطَ مَا يَبْقَى عَامًا، فَالْمُلْتَقِطُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ
ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:
أ - أَنْ يَأْكُل اللُّقَطَةَ فِي الْحَال إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا
الْهَلاَكُ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِصَاحِبِهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ: هِيَ لَكَ أَوْ
لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ (3) .
فَقَدْ جَعَلَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ
فِي الْحَال وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّئْبِ، وَالذِّئْبُ لاَ
يَسْتَأْذِنُ فِي أَكْلِهَا.
وَلأَِنَّ فِي أَكْلِهَا فِي الْحَال إِغْنَاءً عَنِ الإِْنْفَاقِ
عَلَيْهَا وَحِرَاسَةً لِمَالِيَّتِهَا وَدَفْعًا لِغَرَامَةِ عَلَفِهَا،
فَكَانَ أَكْلُهَا أَوْلَى.
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 404.
(2) المغني والشرح الكبير 6 / 364 - 367.
(3) حديث: " هي لك أو لأخيك أو للذئب. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 /
46 ط السلفية) ومسلم (3 / 1348 ط الحلبي) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(41/97)
ب - أَنْ يُمْسِكَهَا عَلَى صَاحِبِهَا
وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ وَلاَ يَمْتَلِكَهَا.
فَإِنْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا
مُحْتَسِبًا النَّفَقَةَ عَلَى مَالِكِهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي
الرُّجُوعِ بِالنَّفَقَةِ رِوَايَتَانِ.
الأُْولَى: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَضَى فِيمَنْ وَجَدَ ضَالَّةً فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا وَجَاءَ رَبُّهَا
بِأَنَّهُ يَغْرَمُ لَهُ مَا أَنْفَقَ، لأَِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهَا
لِحِفْظِهَا، فَكَانَ مِنْ مَال صَاحِبِهَا.
الثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ لأَِنَّهُ أَنْفَقَ
عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، قِيَاسًا
عَلَى مَنْ بَنَى دَارَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ.
ج - أَنْ يَبِيعَهَا وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا وَأَنْ يَتَوَلَّى
ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَكْلُهَا بِغَيْرِ
إِذْنِهِ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَإِنِ الْتَقَطَ مَا لاَ يَبْقَى عَامًا:
فَإِنْ كَانَ لاَ يَبْقَى بِعِلاَجٍ وَلاَ غَيْرِهِ، كَالْبِطِّيخِ
وَالْفَاكِهَةِ الَّتِي لاَ تُجَفَّفُ وَالْخَضْرَوَاتِ فَالْمُلْتَقِطُ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَكْلِهِ وَغَرْمِ قِيمَتِهِ لِمَالِكِهِ وَبَيْنَ
بَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِبْقَاؤُهُ خَشْيَةَ
تَلَفِهِ.
فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَلِفَ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ، لأَِنَّهُ فَرَّطَ
فِي حِفْظِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ كَالْوَدِيعَةِ.
وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ بِالْعِلاَجِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ،
فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ، فَإِنْ
(41/98)
كَانَ الْحَظُّ فِي عِلاَجِهِ
بِالتَّجْفِيفِ أَوْ غَيْرِهِ عَالَجَهُ وَلَيْسَ لَهُ سِوَاهُ، وَلَهُ
أَنْ يَبِيعَ بَعْضَهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى غَرَامَةٍ لِتَجْفِيفِهِ
وَإِبْقَائِهِ، لأَِنَّهُ مَال غَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ مَا فِيهِ الْحَظُّ
لِصَاحِبِهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ،
كَالطَّعَامِ وَالرُّطَبِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ وَلَمْ يُمْكِنْ
تَجْفِيفُهُ: تَعَيَّنَ أَكْلُهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ أَكْلُهُ
أَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ، لأََنَّ الْحَظَّ فِيهِ (1) .
نَفَقَةُ الْوَدِيعَةِ:
75 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَدِيعَةِ إِنَّمَا
تَلْزَمُ الْمُودِعَ، وَهُوَ رَبُّهَا، وَلاَ تَلْزَمُ الْمُودَعَ
لَدَيْهِ؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِحِفْظِهَا وَلاَ تَعُودُ عَلَيْهِ
فَائِدَةٌ مِنْهَا (2) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَدِيعَة) .
نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ:
76 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الرَّهْنِ عَلَى
الرَّاهِنِ.
لأَِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَكُل مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ
الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ لاَ عَلَى
__________
(1) المغني وشرح الكبير 6 / 364 - 367.
(2) رد المحتار 4 / 501، وبداية المجتهد 2 / 340، وروضة الطالبين 6 / 332،
والمغني 6 / 292.
(41/98)
الْمُرْتَهِنِ (1) .
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُغْلَقُ
الرَّهْنُ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (2) .
وَلأََنَّ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ فَكَانَتِ
النَّفَقَةُ عَلَيْهِ.
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ
الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ وَتَبْقِيَتِهِ، أَمَّا مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ
لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ عَلَى
الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ حَبْسَ الْمَرْهُونِ لَهُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْن ف 19، 20) .
نَفَقَاتٌ أُخْرَى:
أ - نَفَقَةُ اللَّقِيطِ:
77 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ تَكُونُ فِي
مَالِهِ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ مَالٌ أَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا فِي
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 68، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 5 / 23،
والمهذب 1 / 314، والمغني 4 / 438.
(2) حديث: " لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه. .) . أخرجه البيهقي في السنن
الكبرى (6 / 39 ط دائرة المعارف) وابن عبد البر في التمهيد (6 / 430 ط
فضالة - المغرب) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر: هذا
الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة، فإنهم
يعللونها.
(3) تبيين الحقائق 6 / 86.
(41/99)
مَالٍ عَامٍ، كَالأَْمْوَال الْمَوْقُوفَةِ
عَلَى اللُّقَطَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تَكُونُ
فِي بَيْتِ الْمَال وَلاَ تَلْزَمُ الْمُلْتَقِطَ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (لَقِيط ف 15، 16) .
ب - نَفَقَةُ الْيَتِيمِ:
78 - إِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَهُ قَرَابَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا النَّفَقَةَ،
فَنَفَقَتُهُ عَلَى قَرَابَتِهِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي نَفَقَةِ
الأَْقَارِبِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ وَلاَ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ
الْمَال. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بَيْت الْمَال ف 12، يَتِيم) .
ج - نَفَقَةُ الْعَاجِزِ الَّذِي لاَ عَائِل لَهُ:
79 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ نَفَقَةَ الْعَاجِزِ
الَّذِي لاَ عَائِل لَهُ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَسْبِ وَلاَ
يَمْلِكُ مَالاً، تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَال، لأَِنَّهُ مُعَدٌّ لِلصَّرْفِ
عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْمُعْدَمِينَ وَمَنْ هُمْ فِي مِثْل حَالِهِ
مِمَّنْ لاَ قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى كَسْبِ كِفَايَتِهِمْ وَلاَ عَائِل
لَهُمْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ.
وَلأَِنَّهُمْ أَجَازُوا دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ
قُدْرَتِهِ عَلَى التَّكَسُّبِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 498، وتبيين الحقائق 3 / 297، وبداية المجتهد 2 /
338، وروضة الطالبين 5 / 421، والمغني 6 / 379.
(41/99)
تَحْقِيقِ كَسْبٍ يَكْفِيهِ، وَاعْتَبَرُوا
الْقُدْرَةَ بِغَيْرِ كَسْبٍ تَكْفِي لِحَاجَتِهِ كَعَدَمِهَا، لأَِنَّهَا
حِينَئِذٍ لاَ تَكْسُو مَنْ عُرْيٍ وَلاَ تُشْبِعُ مَنْ جُوعٍ.
وَلأَِنَّهُ بِحَالِهِ هَذَا يُعَدُّ فَقِيرًا، وَالْفَقِيرُ تَجِبُ
كِفَايَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَهَذِهِ الْكِفَايَةُ تَشْمَل سَائِرَ
مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَأُجْرَةِ خَادِمٍ
وَنَفَقَتِهِ إِنْ كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى خَادِمٍ بِأَنْ كَانَ مُسِنًّا
أَوْ زَمِنًا لاَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِخِدْمَةِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ
لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَى رِعَايَتِهِ وَخِدْمَتِهِ.
وَلأَِنَّ مِيرَاثَهُ يَؤُول إِلَى بَيْتِ الْمَال عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ
وَارِثٍ لَهُ، فَتَجِبُ نَفَقَتُهُ فِيهِ عَمَلاً بِالْقَاعِدَةِ الَّتِي
تَقُول: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، وَلأَِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ تَقْضِي
بِتَأْثِيمِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ وَهُوَ يَعْلَمُ،
وَلأَِنَّ تَرْكَهُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ نَفَقَةٍ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَال
تُعَدُّ سَلْبًا لِحَقِّهِ الَّذِي هُوَ لَهُ فِيهِ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلاَّ وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ " (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 39، ومغني المحتاج 3 / 106 - 107.
(41/100)
نَفْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النَّفْل - بِسُكُونِ الْفَاءِ وَقَدْ تُحَرَّكُ - فِي
اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، وَالنَّفْل وَالنَّافِلَةُ: مَا يَفْعَلُهُ
الإِْنْسَانُ مِمَّا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ
(2) } .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَقَدْ عَرَّفَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ
الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْعِبَادَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلاَ
وَاجِبٍ، فَهِيَ الْعِبَادَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا هُوَ لاَزِمٌ،
فَتَعُمُّ السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ وَالتَّطَوُّعَاتِ
غَيْرَ الْمُؤَقَّتَةِ (3) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: النَّفْل مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، أَيْ يَتْرُكُهُ فِي بَعْضِ
الأَْحْيَانِ وَيَفْعَلُهُ فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، والمغرب.
(2) سورة الإسراء / 79.
(3) غنية المتملي في شرح منية المصلي ص 383.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 312، والشرح الصغير 1 / 401 ط المعارف.
(41/100)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: النَّفْل هُوَ
مَا عَدَا الْفَرَائِضَ - أَيْ مِنَ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا كَالصَّوْمِ
وَالصَّدَقَةِ - وَهُوَ: مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ،
وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْحَسَنِ
وَالْمُرَغَّبِ فِيهِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالتَّطَوُّعِ، فَهِيَ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ لِتَرَادُفِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السُّنَّةُ:
2 - السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ، يُقَال: سُنَّةُ
فُلاَنٍ كَذَا؛ أَيْ طَرِيقَتُهُ وَسِيرَتُهُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ
سَيِّئَةً (2) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ
بِأَنَّهَا الطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ
غَيْرِ إِلْزَامٍ عَلَى سَبِيل الْمُوَاظَبَةِ (3) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَظْهَرَهُ حَالَةَ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ
عَلَيْهِ وَلَمْ يَدُل دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 2 / 100 - 101، ومغني المحتاج 1 /
219، والمجموع 4 / 2، وحاشية القليوبي 1 / 209 - 210، وأسنى المطالب 1 /
200.
(2) المصباح المنير.
(3) غنية المتملي في شرح منية المصلي ص 13.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 312.
(41/101)
وَأَمَّا الصِّلَةُ بَيْنَ النَّفْل
وَالسُّنَّةِ فَقَدْ قَال الشُّرُنْبُلاَلِيُّ: النَّفْل أَعَمُّ، إِذْ كُل
سُنَّةٍ نَافِلَةٌ وَلاَ عَكْسَ (1) .
فَضْل النَّفْل:
3 - تَدُل السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِدَامَةَ النَّوَافِل
بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ تُفْضِي إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى
لِلْعَبْدِ وَصَيْرُورَتِهِ مِنْ جُمْلَةِ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (2) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ
آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ
إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ
إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ
سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ
سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأَُعِيذَنَّهُ (3) .
فَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى
قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ تَقَرَّبِ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَيَشْمَل
ذَلِكَ فِعْل الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكَ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 211.
(2) دليل الفالحين 1 / 295 - 297.
(3) حديث: " إن الله قال: من عادى لي وليا. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 11 / 340 - 341 ط السلفية) .
(41/101)
الْمُحَرَّمَاتِ، لأَِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ
مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ.
وَالثَّانِي: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ بِالنَّوَافِل
(1) .
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ
النَّوَافِل: كَثْرَةُ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَسَمَاعِهِ بِتَفَكُّرٍ
وَتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، قَال خَبَّابُ بْنُ الأَْرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِرَجُلٍ: تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْلَمْ
أَنَّكَ لَسْتَ تَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ
كَلاَمِهِ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي
يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ (3) ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ
مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَْعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟
قَال: " أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (4) .
وَتَدُل الأَْحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ
__________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب 2 / 335 - 336 ط مؤسسة الرسالة.
(2) أثر خباب: تقرب إلى الله ما استطعت. أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في
فضائل القرآن (1 / 261 - ط وزارة الأوقاف المغربية.
(3) جامع العلوم والحكم 2 / 342 - 343 ط مؤسسة الرسالة.
(4) حديث: " أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله. . . ". أخرجه ابن حبان في
الصحيح (3 / 100 ط مؤسسة الرسالة) .
(41/102)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُكْمِل لِلْعَبْدِ
مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ بِفَضْل النَّوَافِل، فَقَدْ قَال أَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ أَوَّل مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ
أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ
انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَال الرَّبُّ عَزَّ وَجَل: انْظُرُوا
هَل لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكْمِل بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ
الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ (1) .
قَال الْعِرَاقِيُّ: يُحْتَمَل أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَهُ مِنَ
السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا مِنَ الْخُشُوعِ
وَالأَْذْكَارِ وَالأَْدْعِيَةِ، وَأَنَّهُ يَحْصُل لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ
فِي الْفَرِيضَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ فِي
التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْتَقَصَ أَيْضًا مِنْ
فُرُوضِهَا وَشُرُوطِهَا، وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَادَ مَا تَرَكَ مِنَ
الْفَرَائِضِ رَأْسًا فَلَمْ يُصَلِّهِ فَيُعَوَّضُ عَنْهُ مِنَ
التَّطَوُّعِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَل مِنَ
التَّطَوُّعَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ.
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ يُكْمِل لَهُ مَا
نَقَصَ مِنْ فَرْضِ الصَّلاَةِ وَأَعْدَادِهَا بِفَضْل
__________
(1) حديث: " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة. . . ". أخرجه أبو داود
(1 / 540 - 541 ط حمص) والترمذي (2 / 270 ط الحلبي) واللفظ له، وقال: حسن
غريب.
(41/102)
التَّطَوُّعِ، وَيُحْتَمَل مَا نَقَصَهُ
مِنَ الْخُشُوعِ، وَالأَْوَّل عِنْدِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - ثُمَّ الزَّكَاةُ مِثْل
ذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَْعْمَال عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ (1) ، وَلَيْسَ
فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ فَرْضٌ أَوْ فَضْلٌ فَكَمَا يَكْمُل فَرْضُ
الزَّكَاةِ بِفَضْلِهَا كَذَلِكَ الصَّلاَةُ، وَفَضْل اللَّهِ أَوْسَعُ
وَوَعْدُهُ أَنْفَذُ وَعَزْمُهُ أَعَمُّ (2) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْل:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَل مِنَ
النَّفْل (3) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ
أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ (4) . وَقَال إِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: قَال الأَْئِمَّةُ: خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيجَابِ أَشْيَاءَ لِتَعْظِيمِ
ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَ الْفَرَائِضِ يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ
الْمَنْدُوبَاتِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ (5) .
__________
(1) حديث: " ثم الزكاة مثل ذلك ". أخرجه أبو داود (1 / 541 ط حمص) من حديث
تميم الداري.
(2) تحفة الأحوذي شرح الترمذي 2 / 462 - 464.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 157 ط دار الكتب العلمية، والأشباه
والنظائر للسيوطي ص 145، والفروق للقرافي 2 / 122.
(4) حديث: " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي. . . ". تقدم تخريجه ف (4) .
(5) الأشباه للسيوطي ص 145.
(41/103)
وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَفْضَل الأَْعْمَال أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ
اللَّهُ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَصِدْقُ النِّيَّةِ فِيمَا
عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، وَقَال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
خُطْبَتِهِ: أَفْضَل الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ
الْمَحَارِمِ (1) .
5 - وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْل أَفْضَلِيَّةِ الْفَرْضِ عَلَى
النَّفْل أُمُورًا، وَذَكَرُوا صُوَرًا لِلنَّوَافِل الَّتِي فَضَّلَهَا
الشَّرْعُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ (2) مِنْهَا:
أ - إِبْرَاءُ الْمُعْسِرِ فَإِنَّهُ أَفْضَل مِنْ إِنْظَارِهِ،
وَإِنْظَارُهُ وَاجِبٌ، وَإِبْرَاؤُهُ مُسْتَحَبٌّ.
هَذِهِ الصُّورَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيمٍ وَابْنُ السُّبْكِيِّ
وَالْقَرَافِيُّ (3) .
ب - ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ، وَالرَّدُّ وَاجِبٌ
وَالاِبْتِدَاءُ أَفْضَل (4) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ (5) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم 2 / 336.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 157، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 145،
والفروق للقرافي 2 / 127 - 128.
(3) المراجع السابقة.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 157، والأشباه للسيوطي ص 145.
(5) حديث: " وخيرهما الذي يبدأ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 492
ط السلفية) ومسلم (4 / 1984 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي أيوب الأنصاري.
(41/103)
ج - الْوُضُوءُ قَبْل الْوَقْتِ مَنْدُوبٌ،
وَهُوَ أَفْضَل مِنَ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْفَرْضُ.
وَذَكَرَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الأَْذَانَ سُنَّةٌ، وَهُوَ عَلَى مَا
رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ أَفْضَل مِنَ الإِْمَامَةِ وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ
أَوْ عَيْنٍ (2) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الصُّوَرَ الآْتِيَةَ:
أ - صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ
صَلاَةً، أَيْ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثُوبَةً مِثْل مَثُوبَةِ صَلاَةِ
الْمُنْفَرِدِ، وَهَذِهِ السَّبْعُ وَالْعِشْرُونَ مَثُوبَةً هِيَ
مُضَافَةٌ لِوَصْفِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ خَاصَّةً، أَلاَ تَرَى أَنَّ مَنْ
صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ، مَعَ أَنَّ
الإِْعَادَةَ فِي جَمَاعَةٍ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَصَارَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ
الْمَنْدُوبُ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْ ثَوَابِ الصَّلاَةِ الْوَاجِبَةِ،
وَهُوَ مَنْدُوبٌ فَضُل وَاجِبًا، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَتَهُ
عِنْدَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ.
ب - الصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ بِأَلْفِ مَثُوبَةٍ
مَعَ أَنَّ الصَّلاَةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُل الْمَنْدُوبُ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 156، والأشباه للسيوطي ص 147.
(2) الأشباه للسيوطي ص 146.
(41/104)
الَّذِي هُوَ الصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ
أَصْل الصَّلاَةِ.
ج - الصَّلاَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنْ مِائَةِ أَلْفِ
صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الصَّلاَةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ،
فَقَدْ فَضُل الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْل الصَّلاَةِ مِنْ
حَيْثُ هِيَ صَلاَةٌ.
د - الصَّلاَةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلاَةٍ، مَعَ
أَنَّ الصَّلاَةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَقَدْ فَضُل الْمَنْدُوبُ
الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْل الصَّلاَةِ.
هـ - رُوِيَ أَنَّ صَلاَةً بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلاَةً
بِغَيْرِ سِوَاكٍ، مَعَ أَنَّ وَصْفَ السِّوَاكِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لَيْسَ
بِوَاجِبٍ، فَقَدْ فَضُل الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ أَصْل
الصَّلاَةِ.
و الْخُشُوعُ فِي الصَّلاَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لاَ يَأْثَمُ تَارِكُهُ.
فَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ
قَال: " بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَال: "
مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ. قَال: فَلاَ
تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ،
فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (1) . وَفِي
__________
(1) حديث أبي قتادة رضي الله عنه: " بينما نحن نصلي. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 2 / 116 ط السلفية) .
(41/104)
حَدِيثٍ آخَرَ: وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا
(1) .
قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّمَا أَمَرَ بِعَدَمِ الإِْفْرَاطِ فِي
السَّعْيِ، لأَِنَّهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى الصَّلاَةِ عَقِيبَ شِدَّةِ
السَّعْيِ يَكُونُ عِنْدَهُ انْبِهَارٌ وَقَلَقٌ يَمْنَعُهُ مِنَ
الْخُشُوعِ اللاَّئِقِ بِالصَّلاَةِ، فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
وَالسَّلاَمُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَاجْتِنَابِ مَا يُؤَدِّي إِلَى
فَوَاتِ الْخُشُوعِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَاتُ،
وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ وَصْفِ
الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ مَعَ أَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ، فَقَدْ
فَضُل الْمَنْدُوبُ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَهِيَ عَلَى خِلاَفِ
الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهَا الَّتِي شَهِدَ
لَهَا الْحَدِيثُ (2) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ
عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا
يَزَال عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ (3) .
لُزُومُ النَّفْل بِالشُّرُوعِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى لُزُومِ إِتْمَامِ حَجِّ النَّفْل
وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا (4) .
__________
(1) حديث: " وما فاتكم فاقضوا ". أخرجه أحمد (2 / 270) من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
(2) الفروق للقرافي 2 / 128 - 130.
(3) حديث: " وما تقرب إلي عبدي. . . ". تقدم تخريجه ف (4) .
(4) قمر الأقمار بهامش كشف الأسرار شرح المنار 1 / 298 ط بولاق، ومنحة
الخالق بهامش البحر الرائق / 2 61، ومواهب الجليل 2 / 90، والآيات البينات
على شرح جمع الجوامع 1 / 188 - 189، والمغني 3 / 153، ومغني المحتاج 1 /
448، 523.
(41/105)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى
الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ، وَشَرَعَ فِي الصَّدَقَةِ بِهِ، فَأَخْرَجَ
بَعْضَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّدَقَةُ بِبَاقِيهِ (1) .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ إِتْمَامِ النَّفْل مِنَ الصَّلاَةِ
وَالصَّوْمِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَنْ شَرَعَ فِي
صَلاَةِ النَّفْل أَوْ فِي صَوْمِ النَّفْل يُؤَاخَذُ بِالْمُضِيِّ فِيهِ،
وَلَوْ لَمْ يَمْضِ يُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ (2) ، لأَِنَّ الْمُؤَدَّى
مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ صَارَ مُسَلَّمًا
بِالأَْدَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ
التَّحَرُّزُ عَنْ إِبْطَالِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ،
وَهَذَا التَّحَرُّزُ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالإِْتْمَامِ فِيمَا لاَ
يَحْتَمِل الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي عِبَادَةً، فَيَجِبُ الإِْتْمَامُ
لِهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ نَفْلاً، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا
أَفْسَدَهُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي فِيمَا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ
بِمَنْزِلَةِ الْمَنْذُورِ، فَالْمَنْذُورُ فِي الأَْصْل مَشْرُوعٌ
نَفْلاً، وَلِهَذَا لاَ يَكُونُ مُسْتَدَامًا كَالنَّوَافِل، إِلاَّ
أَنَّهُ
__________
(1) المغني 3 / 185، ومواهب الجليل 2 / 90.
(2) منحة الخالق بهامش البحر الرائق 2 / 61، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي
2 / 570 نشر دار الكتاب العربي، ومواهب الجليل 2 / 90.
(41/105)
لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ بِالنَّذْرِ
يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوعِ نَفْلاً، فَإِذَا وَجَبَ الاِبْتِدَاءُ
لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ فَلأََنْ يَجِبَ الإِْتْمَامُ لِمُرَاعَاةِ مَا
وُجِدَ مِنْهُ الاِبْتِدَاءُ ابْتِدَاءً كَانَ أَوْلَى، وَهُوَ نَظِيرُ
الْحَجِّ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ مِنْهُ نَفْلاً يَصِيرُ وَاجِبَ الأَْدَاءِ
لِمُرَاعَاةِ التَّسْمِيَةِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَكَذَلِكَ الإِْتْمَامُ
بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الأَْدَاءِ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الصَّلاَةِ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهَا
تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، فَإِنَّ الأَْثْرَمَ قَال: قُلْتُ لأَِبِي عَبْدِ
اللَّهِ: الرَّجُل يُصْبِحُ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا فَيَكُونُ بِالْخِيَارِ،
وَالرَّجُل يَدْخُل فِي الصَّلاَةِ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا؟ فَقَال:
الصَّلاَةُ أَشَدُّ؛ أَمَّا الصَّلاَةُ فَلاَ يَقْطَعُهَا، قِيل لَهُ:
فَإِنْ قَطَعَهَا قَضَاهَا؟ قَال: فَإِنْ قَضَاهَا فَلَيْسَ فِيهِ
اخْتِلاَفٌ، وَمَال أَبُو إِسْحَاقَ الْجَوْزَجَانِيُّ إِلَى هَذَا
الْقَوْل، وَقَال: الصَّلاَةُ ذَاتُ إِحْرَامٍ وَإِحْلاَلٍ فَلَزِمَتْ
بِالشُّرُوعِ فِيهَا (2) .
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا افْتَتَحَ التَّنَفُّل
بِالصَّلاَةِ حَالَةَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَالاِنْتِصَافِ ثُمَّ
أَفْسَدَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ
أَفْسَدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنِ الصَّلاَةِ فِي
__________
(1) أصول السرخسي 1 / 115 - 116 ط دار الكتب العلمية - بيروت 1993م.
(2) المغني 3 / 153.
(41/106)
هَذِهِ الأَْوْقَاتِ، وَالصَّلاَةُ
إِنَّمَا هِيَ أَرْكَانٌ مِثْل الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ،
فَابْتِدَاءُ الاِفْتِتَاحِ لَيْسَ بِصَلاَةٍ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ
الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ لأَِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي صَوْمِ يَوْمِ
النَّحْرِ، وَابْتِدَاءُ الصَّوْمِ صَوْمٌ، لأَِنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ هُوَ
إِلاَّ الإِْمْسَاكَ، فَوُجِدَ الْفِعْل الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ
لاَ يَثْبُتَ حُكْمُهُ وَلاَ يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَلَبَّسَ
بِنَفْلٍ - غَيْرَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ - فَلَهُ قَطْعُهُ وَلاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَوْمِ النَّفْل:
الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ
شَاءَ أَفْطَرَ (2) وَقَال: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْل
الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَيْرِهِمْ. .
وَقَاسُوا الصَّلاَةَ عَلَى الصَّوْمِ وَقَالُوا: يُقَاسُ بِذَلِكَ
بَقِيَّةُ النَّوَافِل غَيْرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَاعْتِكَافٍ
وَطَوَافٍ وَوُضُوءٍ وَقِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
أَوْ يَوْمَهَا، وَالتَّسْبِيحَاتِ عَقِبَ الصَّلاَةِ، وَلِئَلاَّ
يُغَيِّرَ الشُّرُوعُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ (3) .
__________
(1) الفروق للكرابيسي 1 / 44.
(2) حديث: " الصائم المتطوع. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 109 ط الحلبي)
(3) مغني المحتاج 1 / 448، والمغني لابن قدامة 3 / 153.
(41/106)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ
يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنَ النَّفْل غَيْرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِلاَ
عُذْرٍ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (1)
} ، وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَ إِتْمَامَهُ (2) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: لَيْسَ لَنَا نَفْلٌ مُطْلَقٌ يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ
إِلاَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَفْل صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ ثُمَّ أَفْسَدَهُ،
فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ قَضَاؤُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرَعَ فِي النَّفْل
إِتْمَامُهُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ اسْتُحِبَّ قَضَاؤُهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ
الْخِلاَفِ وَعَمَلاً بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ الْمُخَالِفُونَ (3) .
تَنَفُّل مَنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ مَنْ جِنْسِهِ قَبْل أَدَائِهِ:
7 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنَفُّل بِالصَّلاَةِ
لِمَنْ عَلَيْهِ الْفَوَائِتُ، وَأَمَّا التَّنَفُّل بِالصَّوْمِ قَبْل
قَضَاءِ رَمَضَانَ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (4) .
وَقَالُوا: مَنْ نَوَى الْحَجَّ وَعَيَّنَهُ نَفْلاً فَيَقَعُ نَفْلاً
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَّ لِلْفَرْضِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى الْحَجَّ عَنِ
الْغَيْرِ أَوِ النَّذْرِ كَانَ عَمَّا نَوَى وَإِنْ لَمْ
__________
(1) سورة محمد / 33.
(2) مغني المحتاج 1 / 448.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 402، والمغني 3 / 151 - 153.
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 117
(41/107)
يَحُجَّ لِلْفَرْضِ، لأَِنَّ الْفَرْضَ لاَ
يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْل، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ
الْمَنْقُول الصَّرِيحُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ
عَنِ الثَّانِي وُقُوعُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ كَأَنَّهُ قَاسَهُ
عَلَى الصِّيَامِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ التَّنَفُّل لِمَنْ عَلَيْهِ
فَوَائِتُ مِنَ الصَّلاَةِ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِمَّا عَلَيْهِ،
لاِسْتِدْعَائِهِ التَّأْخِيرِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ
السُّنَنَ كَوَتْرٍ وَعِيدٍ وَالشَّفْعِ الْمُتَّصِل بِالْوَتْرِ
وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (2) .
وَقَالُوا: يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ لِمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ
وَاجِبٌ كَالْمَنْذُورِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَذَلِكَ لِمَا
يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ وَعَدَمِ فَوْرِيَّتِهِ (3) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ نَوَى وَقْتَ إِحْرَامِهِ لِلْحَجِّ النَّفْل
وَقَعَ نَفْلاً وَالْفَرْضُ بَاقٍ عَلَيْهِ (4) .
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ نَقْلاً عَنِ الْجُرْجَانِيِّ: يُكْرَهُ
لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ (5) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: لَيْسَ لَهُ التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 161.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 263، والشرح الصغير 14 / 366.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 518.
(4) الشرح الكبير للدردير 2 / 5.
(5) مغني المحتاج 1 / 445.
(41/107)
قَبْل أَدَاءِ الْفَرْضِ، فَلَوْ فَعَل
انْصَرَفَ إِلَى الْفَرْضِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: لاَ يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ
فَائِتَةٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ أَنْ يَصْرِفَ زَمَنًا لِغَيْرِ قَضَائِهَا
كَالتَّطَوُّعِ، قَال الشَّرَوَانِيُّ: وَيَصِحُّ التَّطَوُّعُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ مَعَ الإِْثْمِ خِلاَفًا لِلزَّرْكَشِيِّ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ كَرَاهَةَ التَّنَفُّل قَبْل قَضَاءِ الصَّلاَةِ
الْمَكْتُوبَةِ الْفَائِتَةِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْحُكْمِ
رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ حَيْثُ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ قَضَائِهِمَا قَبْل
الْفَرِيضَةِ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي
جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ مِمَّنْ عَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ، فَنَقَل
عَنْهُ حَنْبَلٌ أَنَّهُ قَال: لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ
وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنَ الْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، يَبْدَأُ
بِالْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ، يَعْنِي بَعْدَ
الْفَرْضِ.
وَاسْتَدَل بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَامَ
تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، فَإِنَّهُ لاَ
يُتَقَبَّل مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ (4) .
__________
(1) المنثور في القواعد 3 / 278.
(2) تحفة المحتاج مع الحواشي 1 / 440.
(3) المغني 1 / 614.
(4) حديث أبي هريرة: " من صام تطوعا. . . ". أخرجه أحمد في المسند (2 /
352) .
(41/108)
ثُمَّ قَال: وَلأَِنَّهُ عِبَادَةٌ يَدْخُل
فِي جُبْرَانِهَا الْمَال فَلَمْ يَصِحَّ التَّطَوُّعُ بِهَا قَبْل أَدَاءِ
فَرْضِهَا كَالْحَجِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّطَوُّعُ، لأَِنَّهَا
عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ مُوَسَّعٍ فَجَازَ التَّطَوُّعُ فِي
وَقْتِهَا قَبْل فِعْلِهَا، كَالصَّلاَةِ يُتَطَوَّعُ فِي أَوَّل وَقْتِهَا
(1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ
مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ؛
لأَِنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ فَوَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ
كَالْمُطْلَقِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ مَنْذُورَةٌ
وَقَعَتْ عَنِ الْمَنْذُورَةِ لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ فَهِيَ كَحَجَّةِ
الإِْسْلاَمِ.
وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ فِيمَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّهَا أَحَدُ النُّسُكَيْنِ
فَأَشْبَهَتِ الآْخَرَ، وَالنَّائِبُ كَالْمَنُوبِ عَنْهُ فِي هَذَا،
فَمَتَى أَحْرَمَ النَّائِبُ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ
حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ وَقَعَتْ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ
النَّائِبَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنُوبِ عَنْهُ (2) .
نَفْل الصَّلاَةِ:
8 - الصَّلاَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: فَرْضٌ وَنَفْلٌ.
فَالْفَرْضُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَسَبَقَ
__________
(1) المغني 3 / 145 - 146.
(2) المغني 3 / 246.
(41/108)
تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ
(الصَّلَوَات الْخَمْس الْمَفْرُوضَة) .
وَأَمَّا النَّوَافِل فَتَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنَةٍ وَمُطْلَقَةٍ:
أ - النَّوَافِل الْمُعَيَّنَةُ:
9 - النَّوَافِل الْمُعَيَّنَةُ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ أَوْ بِوَقْتٍ.
فَأَمَّا النَّوَافِل الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ،
فَهِيَ: الْكُسُوفَانِ، وَالاِسْتِسْقَاءُ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ،
وَرَكْعَتَا الإِْحْرَامِ، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ
الْوُضُوءِ، وَصَلاَةُ الاِسْتِخَارَةِ، وَصَلاَةُ الْحَاجَةِ.
وَأَمَّا النَّوَافِل الْمُعَيَّنَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ
فَهِيَ: الْعِيدَانِ وَالتَّرَاوِيحُ، وَالْوَتْرُ، وَالضُّحَى، وَصَلاَةُ
الأَْوَّابِينَ، وَصَلاَةُ التَّهَجُّدِ، وَالسُّنَنُ الرَّوَاتِبُ (1) .
وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ: إِحْيَاءُ الْعَشْرِ الأَْخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ،
وَإِحْيَاءُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّل
لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةِ
الْقَدْرِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ الاِجْتِمَاعُ عَلَى إِحْيَاءِ لَيْلَةٍ
مِنْ هَذِهِ اللَّيَالِي فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا.
وَقَال إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ: إِنَّ كُلًّا مِنْ صَلاَةِ الرَّغَائِبِ
لَيْلَةَ أَوَّل جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَصَلاَةِ
__________
(1) المغني 1 / 466، وروضة الطالبين 1 / 337.
(2) مراقي الفلاح ص 218 - 219.
(41/109)
الْبَرَاءَةِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ، وَصَلاَةِ الْقَدْرِ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَمَضَانَ بِالْجَمَاعَةِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ (1) .
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ النَّوَافِل فِي
الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَفِي (إِحْيَاء اللَّيْل ف 6) .
وَأَمَّا حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِل فَيُنْظَرُ فِي (صَلاَة
الْجَمَاعَةِ ف 8) .
ب - النَّوَافِل الْمُطْلَقَةُ:
10 - هِيَ النَّوَافِل الَّتِي لاَ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ وَلاَ وَقْتٍ
وَلاَ حَصْرٍ لأَِعْدَادِهَا (2) .
عَدَدُ رَكَعَاتِ النَّوَافِل الْمُطْلَقَةِ:
11 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الأَْفْضَل فِي
صَلاَةِ النَّفْل فِي اللَّيْل وَالنَّهَارِ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى (3) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا شَرَعَ فِي نَفْلٍ وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا
فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَةٍ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ
رَكْعَتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَوْ صَلَّى عَدَدًا لاَ يَعْلَمُهُ ثُمَّ
سَلَّمَ صَحَّ، وَلَوْ نَوَى رَكْعَةً أَوْ عَدَدًا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا
فَلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا نَوَى عَدَدًا
__________
(1) غنية المتملي شرح منية المصلي ص 432 - 433.
(2) روضة الطالبين 1 / 335.
(3) روضة الطالبين 1 / 336، والإنصاف 2 / 186.
(41/109)
فَلَهُ أَنْ يَزِيدَ وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ،
فَمَنْ أَحْرَمَ بِرَكْعَةٍ فَلَهُ جَعْلُهَا عَشْرًا، أَوْ بِعَشْرٍ
فَلَهُ جَعْلُهَا وَاحِدَةً بِشَرْطِ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ قَبْل
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ قَبْل تَغَيُّرِ
النِّيَّةِ عَمْدًا بَطُلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ نَهَارًا
فَلاَ بَأْسَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ يُصَلِّي قَبْل الظُّهْرِ أَرْبَعًا إِذَا
زَالَتِ الشَّمْسُ لاَ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ (2) وَكَوْنُ
الأَْرْبَعِ بِتَشَهُّدَيْنِ أَوْلَى مِنْ سَرْدِهَا لأَِنَّهُ أَكْثَرُ
عَمَلاً، وَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ نَهَارًا، أَوْ زَادَ
عَلَى اثْنَتَيْنِ لَيْلاً، وَلَوْ جَاوَزَ ثَمَانِيًا نَهَارًا أَوْ
لَيْلاً بِسَلاَمٍ وَاحِدٍ صَحَّ ذَلِكَ وَكُرِهَ.
وَقَالُوا: يَصِحُّ التَّنَفُّل بِرَكْعَةٍ وَنَحْوِهَا، كَثَلاَثٍ
وَخَمْسٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلاَةُ خَيْرُ
مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ اسْتَقَل وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ (3) ، وَعَنْ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَل الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَةً
وَاحِدَةً، ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَحِقَهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا أَمِيرَ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 335.
(2) حديث: " كان يصلي قبل الظهر. . . ". أخرجه ابن ماجة (1 / 365 - 366 ط
عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " الصلاة خير موضوع. . . ". أخرجه أحمد (5 / 265 ط الميمنية) من
حديث أبي أمامة، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 159 ط القدسي) وقال:
مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.
(41/110)
الْمُؤْمِنِينَ مَا رَكَعْتَ إِلاَّ
رَكْعَةً وَاحِدَةً. قَال: هُوَ التَّطَوُّعُ فَمَنْ شَاءَ زَادَ وَمَنْ
شَاءَ نَقَصَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ فِي النَّوَافِل بِاللَّيْل
وَالنَّهَارِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُل
رَكْعَتَيْنِ (2) فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل نَقْلاً عَنِ
التَّلْقِينِ وَالاِخْتِيَارِ فِي النَّفْل مَثْنَى مَثْنَى.
وَفِي كِتَابِ الصَّلاَةِ الأَْوَّل مِنَ الْمُدَوَّنَةِ فِي بَابِ
النَّافِلَةِ مَا نَصُّهُ: وَصَلاَةُ النَّافِلَةِ فِي اللَّيْل
وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى قَال ابْنُ نَاجِي: هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ
بِاتِّفَاقٍ، وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: السُّنَّةُ فِي صَلاَةِ النَّافِلَةِ
أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَرَفَةَ
التَّنَفُّل بِأَرْبَعٍ، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ
ابْتِدَاءً (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الأَْفْضَل فِي نَوَافِل اللَّيْل وَالنَّهَارِ
رِبَاعٌ (4) لِمَا وَرَدَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
سُئِلَتْ: كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُول اللَّهِ فِي
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 573 - 574، وانظر الإنصاف 1 / 186 - 187. وأثر
عمر: هو التطوع: فمن شاء. . . أخرجه البيهقي في الكبرى (3 / 24 ط دائرة
المعارف) .
(2) القوانين الفقهية ص 87 ط دار الكتاب العربي.
(3) مواهب الجليل 2 / 126.
(4) مراقي الفلاح ص 214 - 215، وانظر تبيين الحقائق 1 / 172.
(41/110)
رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ
فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ
تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ
تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا (1) ،
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا
لاَ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ بِسَلاَمٍ (2)
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الأَْفْضَل فِي النَّهَارِ كَمَا قَال
الإِْمَامُ أَرْبَعٌ وَأَرْبَعٌ، وَفِي اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى، قَال فِي
الدِّرَايَةِ وَفِي الْعُيُونِ: وَبِقَوْلِهِمَا يُفْتَى اتِّبَاعًا
لِلْحَدِيثِ (3) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:
صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى (4) .
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعٍ
بِتَسْلِيمَةٍ فِي نَفْل النَّهَارِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ثَمَانٍ
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 4 / 251 ط السلفية) ومسلم (1 / 509 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى. . . ". أخرجه أبو يعلى في
المسند (7 / 330 - ط دار المأمون) من حديث عائشة.
(3) مراقي الفلاح ص 214 - 215، وانظر تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 172.
(4) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 478 ط
السلفية) ومسلم (1 / 519 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(41/111)
لَيْلاً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ،
لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.
قَال حَسَنٌ الشُّرُنْبُلاَلِيُّ: هَذَا اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ،
وَفِي الْمِعْرَاجِ: وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ
وَصْل الْعِبَادَةِ، وَكَذَا صَحَّحَ السَّرَخْسِيُّ عَدَمَ كَرَاهَةِ
الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا (1) .
وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الرُّبَاعِيَّاتِ الْمُؤَكَّدَةِ
وَالرُّبَاعِيَّاتِ الْمَنْدُوبَةِ إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ
إِذَا قَامَ لِلشَّفْعِ الثَّانِي مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ لاَ
يَأْتِي فِي ابْتِدَاءِ الثَّالِثَةِ بِدُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ؛
لأَِنَّهَا لِتَأَكُّدِهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ، بِخِلاَفِ
الرُّبَاعِيَّاتِ الْمَنْدُوبَةِ فَيَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ وَيُصَلِّي
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ كُل
شَفْعٍ مِنْهَا.
وَقَالُوا: إِذَا صَلَّى نَافِلَةً أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَأَرْبَعٍ
فَأَتَمَّهَا وَلَمْ يَجْلِسْ إِلاَّ فِي آخِرِهَا فَالْقِيَاسُ
فَسَادُهَا، وَبِهِ قَال زُفَرُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَفِي الاِسْتِحْسَانِ: لاَ تَفْسُدُ لأَِنَّهَا صَارَتْ صَلاَةً وَاحِدَةً
مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ، وَفِيهَا الْفَرْضُ الْجُلُوسُ آخِرُهَا،
وَيُجْبَرُ تَرْكُ الْقُعُودِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ سَاهِيًا
بِالسُّجُودِ، وَيَجِبُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ بِتَذَكُّرِهِ بَعْدَ
الْقِيَامِ مَا لَمْ يَسْجُدْ (2) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 214.
(2) مراقي الفلاح ص 214.
(41/111)
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ التَّنَفُّل
بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ طُول الْقِيَامِ وَبَيْنَ كَثْرَةِ الرَّكَعَاتِ فِي
النَّافِلَةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ
الصَّلاَةِ أَفْضَل مِنَ الْقَلِيل مَعَ الاِسْتِوَاءِ فِي الطُّول.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ طُول الْقِيَامِ وَبَيْنَ
كَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعَ اسْتِوَاءِ الزَّمَانِ (2) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ تَطْوِيل
الْقِيَامِ أَفْضَل مِنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: أَفْضَل الصَّلاَةِ طُول الْقُنُوتِ (3) أَيِ
الْقِيَامِ، وَلأَِنَّ الْقِرَاءَةَ تَكْثُرُ بِطُول الْقِيَامِ،
وَبِكَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَكْثُرُ التَّسْبِيحُ،
وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَل مِنْهُ، وَلأَِنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ، فَكَانَ
اجْتِمَاعُ أَجْزَائِهِ أَوْلَى وَأَفْضَل مِنِ اجْتِمَاعِ رُكْنٍ
وَسُنَّةٍ (4) .
__________
(1) البحر الرائق 2 / 61.
(2) الذخيرة للقرافي 2 / 407.
(3) حديث: " أفضل الصلاة طول القنوت ". أخرجه مسلم (1 / 520 ط عيسى الحلبي)
من حديث جابر بن عبد الله.
(4) البدائع 1 / 295، وتبيين الحقائق 1 / 173، وحاشية الدسوقي 1 / 319،
والذخيرة للقرافي 2 / 408، والمجموع 4 / 45 و 3 / 267 وما بعدها، ومطالب
أولي النهى 1 / 574.
(41/112)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، مَعَ اخْتِلاَفِ الرِّوَايَةِ
عَنْهُ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - أَيْ كَثْرَةَ
الرَّكَعَاتِ - أَفْضَل مِنْ طُول الْقِيَامِ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ
وَهُوَ سَاجِدٌ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَكَعَ رَكْعَةً أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً رُفِعَ
بِهَا دَرَجَةً وَحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ (4) .
وَقَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَمَّا فِي النَّهَارِ فَتَكْثِيرُ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَل، وَأَمَّا بِاللَّيْل فَتَطْوِيل
الْقِيَامِ أَفْضَل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُل جُزْءٌ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 574، وحاشية الدسوقي 1 / 319، والذخيرة 2 / 408،
والمجموع 3 / 268 - 269.
(2) حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ". أخرجه مسلم (1 / 350 ط
عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) حديث: " عليك بكثرة السجود لله ". أخرجه مسلم (1 / 353 ط عيسى الحلبي)
من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(4) حديث: " من ركع ركعة أو سجد سجدة رفع بها درجة. . . ". أخرجه أحمد (5 /
147 ط الميمنية) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 248 ط المقدسي) وقال:
أخرجه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(41/112)
بِاللَّيْل يَأْتِي عَلَيْهِ، فَتَكْثِيرُ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَل لأَِنَّهُ يَقْرَأُ جُزْءَهُ وَيَرْبَحُ
كَثْرَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، قَال التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا قَال
إِسْحَاقُ هَذَا لأَِنَّهُمْ وَصَفُوا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْل بِطُول الْقِيَامِ وَلَمْ يُوصَفْ مِنْ
تَطْوِيلِهِ بِالنَّهَارِ مَا وُصِفَ بِاللَّيْل (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ اللَّيْل
بِقِرَاءَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَالأَْفْضَل أَنْ يُكْثِرَ عَدَدَ
الرَّكَعَاتِ، وَإِلاَّ فَطُول الْقِيَامِ أَفْضَل؛ لأَِنَّ الْقِيَامَ فِي
الأَْوَّل لاَ يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ (2) .
الْفَصْل بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ:
13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ
الْفَصْل بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ (3) لِقَوْل مُعَاوِيَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ لاَ تُوصَل صَلاَةٌ بِصَلاَةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ
أَوْ نَخْرُجَ (4) .
قَال الْبَيْهَقِيُّ - فِيمَا نَقَل عَنْهُ النَّوَوِيُّ - أَشَارَ
الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ
__________
(1) المجموع 3 / 269 - 270.
(2) البحر الرائق 2 / 59، والبدائع 1 / 295.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 550، والمجموع 4 / 29.
(4) حديث: " أمرنا أن لا توصل صلاة. . . " أخرجه مسلم (2 / 601 ط عيسى
الحلبي) .
(41/113)
بِالاِضْطِجَاعِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ
الْفَجْرِ - الْفَصْل بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ، فَيَحْصُل
بِالاِضْطِجَاعِ وَالتَّحَدُّثِ أَوِ التَّحَوُّل مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ
أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَعَيَّنُ الاِضْطِجَاعُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّ الإِْمَامِ
وَالْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ وَصْل السُّنَّةِ بِالْمَكْتُوبَةِ مِنْ
غَيْرِ تَأْخِيرٍ، إِلاَّ أَنَّ الاِسْتِحْبَابَ فِي حَقِّ الإِْمَامِ
أَشَدُّ حَتَّى لاَ يُؤَدِّيَ تَأْخِيرُهُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلاَّ مِقْدَارَ
مَا يَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ،
تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَل وَالإِْكْرَامِ (2) .
بِخِلاَفِ الْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ (3) .
وَقَالُوا: إِذَا تَمَّتْ صَلاَةُ الإِْمَامِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ
انْحَرَفَ عَنْ يَسَارِهِ وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِنْ
شَاءَ ذَهَبَ إِلَى حَوَائِجِهِ وَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَل النَّاسَ
بِوَجْهِهِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي
أَتَمَّهَا تَطَوُّعٌ كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، قَال فِي الْخُلاَصَةِ:
وَفِي الصَّلاَةِ الَّتِي لاَ تَطَوُّعَ بَعْدَهَا كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ
يُكْرَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا فِي مَكَانِهِ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ تَطَوُّعٌ يَقُومُ إِلَى التَّطَوُّعِ
بِلاَ فَصْلٍ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا يَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ
__________
(1) المجموع 4 / 29.
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار.
. . ". أخرجه مسلم (1 / 414 ط عيسى الحلبي) .
(3) غنية المتملي شرح منية المصلي ص 344.
(41/113)
وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا
الْجَلاَل وَالإِْكْرَامِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ السُّنَّةِ عَنْ حَال
أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ الْقَدْرِ لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلاَّ مِقْدَارَ مَا
يَقُول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا
ذَا الْجَلاَل وَالإِْكْرَامِ.
وَقَالُوا: إِذَا قَامَ الإِْمَامُ إِلَى التَّطَوُّعِ لاَ يَتَطَوَّعُ فِي
مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، بَل يَتَقَدَّمُ أَوْ
يَتَأَخَّرُ أَوْ يَنْحَرِفُ يَمِينًا أَوْ شَمَالاً، أَوْ يَذْهَبُ إِلَى
بَيْتِهِ فَيَتَطَوَّعُ ثَمَّةَ.
وَأَضَافُوا: لَوْ تَكَلَّمَ الإِْمَامُ بَعْدَ الْفَرْضِ لاَ تَسْقُطُ
السُّنَّةُ لَكِنَّ ثَوَابَهَا أَقَل.
وَقِيل فِي الْكَلاَمِ أَنَّهُ يُسْقِطُ السُّنَّةَ.
قَال الْحَلَبِيُّ: وَالأَْوَّل أَوْلَى.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ وَالْمُنْفَرِدَ إِنْ لَبِثَا فِي
مَكَانِهِمَا الَّذِي صَلَّيَا فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ جَازَ، وَإِنْ قَامَا
إِلَى التَّطَوُّعِ فِي مَكَانِهِمَا ذَلِكَ جَازَ أَيْضًا، وَالأَْحْسَنُ
أَنْ يَتَطَوَّعَا فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرَ مَكَانِ الْمَكْتُوبَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَفْصِل بَيْنَ
الْفَرِيضَةِ وَالنَّفْل بِالذِّكْرِ الْوَارِدِ (2) .
__________
(1) غنية المتملي شرح منية المصلي ص 340 - 344، وانظر مراقي الفلاح ص 170
وما بعدها، والفتاوى الهندية 1 / 77، وحاشية ابن عابدين 1 / 356.
(2) الدسوقي 1 / 312، والفواكه الدواني 1 / 228، 230، والخرشي 2 / 3.
(41/114)
النَّافِلَةُ مِنَ الصَّدَقَاتِ:
14 - صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ (1)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (2) } وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فِي
آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا.
وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْل
تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ
الطَّيِّبُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا
لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْل
الْجَبَل (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَدُّقِ قَبْل أَدَاءِ
الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَقَبْل الإِْنْفَاقِ
عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الأَْقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ.
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ صَدَقَتُهُ بِمَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى الإِْضَافَةِ أَوْ
مَا
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 82
(2) سورة البقرة / 245.
(3) حديث: " من تصدق بعدل تمرة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 415
ط السلفية) .
(41/114)
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِدَيْنٍ لاَ يَرْجُو
لَهُ وَفَاءً؛ لِخَبَرِ كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ
يَقُوتُ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول، وَلأَِنَّ كِفَايَتَهُمْ فَرْضٌ وَهُوَ
مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْل.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَقَة ف 23) .
وَقَال ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ: الصَّدَقَةُ مِنْهَا مَا نَفْعُهُ
مُتَعَدٍّ كَالإِْصْلاَحِ، وَإِعَانَةِ الرَّجُل عَلَى دَابَّتِهِ
يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا، وَالْكَلِمَةِ
الطَّيِّبَةِ، وَيَدْخُل فِيهَا السَّلاَمُ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ،
وَإِزَالَةُ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَفْنُ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ،
وَإِعَانَةُ ذِي الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ وَإِسْمَاعُ الأَْصَمِّ،
وَالْبَصَرُ لِلْمَنْقُوصِ بَصَرُهُ، وَهِدَايَةُ الأَْعْمَى أَوْ غَيْرِهِ
الطَّرِيقَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ:
وَبَيَانُكَ عَنِ الأَْرْتَمِ صَدَقَةٌ (1) يَعْنِي مَنْ لاَ يُطِيقُ
الْكَلاَمَ إِمَّا لآِفَةٍ فِي لِسَانِهِ أَوْ لِعُجْمَةٍ فِي لُغَتِهِ،
فَيُبَيِّنُ عَنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ.
وَمِنْهُ مَا هُوَ قَاصِرُ النَّفْعِ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ
وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيل، وَالْمَشْيِ إِلَى الصَّلاَةِ، وَالْجُلُوسِ
فِي الْمَسَاجِدِ لاِنْتِظَارِ الصَّلاَةِ أَوْ لاِسْتِمَاعِ الذِّكْرِ،
وَالتَّوَاضُعِ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَشْيِ
__________
(1) حديث: " بيانك عن الأرتم. . . ". أخرجه أحمد (5 / 154 ط الميمنية) .
(41/115)
وَالْهَدْيِ، وَالتَّبَذُّل فِي
الْمِهْنَةِ وَاكْتِسَابِ الْحَلاَل وَالتَّحَرِّي فِيهِ (1) .
صِيَامُ النَّافِلَةِ:
15 - صِيَامُ النَّافِلَةِ مِنْ أَفْضَل الأَْعْمَال (2) وَيَتَأَكَّدُ
اسْتِحْبَابُهُ فِي الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ، وَفَوَاضِل الأَْيَّامِ
بَعْضُهَا يُوجَدُ فِي كُل سَنَةٍ وَبَعْضُهَا يُوجَدُ فِي كُل شَهْرٍ
وَبَعْضُهَا فِي كُل أُسْبُوعٍ.
أَمَّا فِي السَّنَةِ بَعْدَ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَيَوْمُ عَرَفَةَ
وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرُ الأُْوَل مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَالْعَشْرُ الأُْوَل مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَجَمِيعُ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ
مَظَانُّ الصَّوْمِ وَهِيَ أَوْقَاتٌ فَاضِلَةٌ.
وَأَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ فِي الشَّهْرِ فَأَوَّل الشَّهْرِ وَأَوْسَطُهُ
وَآخِرُهُ، وَوَسَطُهُ الأَْيَّامُ الْبِيضُ وَهِيَ الثَّالِثُ عَشَرَ
وَالرَّابِعُ عَشَرَ وَالْخَامِسُ عَشَرَ.
وَأَمَّا فِي الأُْسْبُوعِ فَالاِثْنَيْنُ وَالْخَمِيسُ وَالْجُمُعَةُ،
قَال الْغَزَالِيُّ: فَهَذِهِ هِيَ الأَْيَّامُ الْفَاضِلَةُ فَيُسْتَحَبُّ
فِيهَا الصِّيَامُ وَتَكْثُرُ الْخَيْرَاتُ لِتُضَاعَفَ أُجُورُهَا
بِبَرَكَةِ هَذِهِ الأَْوْقَاتِ (3) .
وَإِذَا ظَهَرَتْ أَوْقَاتُ الْفَضِيلَةِ فَالْكَمَال فِي أَنْ يَفْهَمَ
الإِْنْسَانُ مَعْنَى الصِّيَامِ وَأَنَّ مَقْصُودَهُ تَصْفِيَةُ الْقَلْبِ
وَتَفْرِيغُ الْهَمِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل.
__________
(1) جامع العلوم والحكم 2 / 86، 91 ط مؤسسة الرسالة.
(2) الذخيرة للقرافي 2 / 528.
(3) إحياء علوم الدين 1 / 237 ط دار المعرفة.
(41/115)
وَالْفَقِيهُ بِدَقَائِقِ الْبَاطِنِ
يَنْظُرُ إِلَى أَحْوَالِهِ، فَقَدْ يَقْتَضِي حَالُهُ دَوَامَ الصَّوْمِ
وَقَدْ يَقْتَضِي دَوَامَ الْفِطْرِ وَقَدْ يَقْتَضِي مَزْجَ الإِْفْطَارِ
بِالصَّوْمِ، وَإِذَا فَهِمَ الْمَعْنَى وَتَحَقَّقَ حَدَّهُ فِي سُلُوكِ
طَرِيقِ الآْخِرَةِ بِمُرَاقَبَةِ الْقَلْبِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ صَلاَحُ
قَلْبِهِ، وَذَلِكَ لاَ يُوجَدُ تَرْتِيبًا مُسْتَمِرًّا، وَلِذَلِكَ
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُول:
لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُول: لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَل صِيَامَ
شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ (1) ، وَعَنْ أَنَسٍ: كَانَ لاَ تَشَاءُ
تَرَاهُ مِنَ اللَّيْل مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ، وَلاَ نَائِمًا
إِلاَّ رَأَيْتَهُ (2) ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَنْكَشِفُ لَهُ
بِنُورِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الأَْوْقَاتِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَنْوَاعِ صِيَامِ النَّافِلَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ
صِيَامُهُ مِنَ الأَْيَّامِ وَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِالْمَوْضُوعِ (ر: صَوْمُ التَّطَوُّعِ مِنْ ف 7 - 17) .
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا
يفطر. . . " أخرجه مسلم (2 / 810 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " كان لا تشاء تراه في الليل مصليًا. . . ". أخرجه البخاري
(الفتح 4 / 215 ط السلفية) .
(3) إحياء علوم الدين 1 / 238.
(41/116)
حَجُّ النَّفْل:
16 - حَجُّ النَّفْل مِنْ أَفْضَل الأَْعْمَال (1) ، فَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَل أَفْضَل؟ فَقَال: " إِيمَانٌ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيل: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: الْجِهَادُ فِي سَبِيل
اللَّهِ، قِيل: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: حَجٌّ مَبْرُورٌ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُول
اللَّهِ أَلاَ نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَال: " لاَ، لَكِنَّ
أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ حَجٌّ مَبْرُورٌ " قَالَتْ عَائِشَةُ:
فَلاَ أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ حَجِّ النَّفْل
وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَال الْبِرِّ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: بِنَاءُ
الرِّبَاطِ أَفْضَل مِنْ حَجِّ النَّفْل.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَحَجِّ النَّفْل:
__________
(1) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 1 / 8 ط دار البشائر،
وانظر فتح الباري 3 / 446 ط دار الريان للتراث.
(2) حديث: " أي العمل أفضل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 77 ط
السلفية) ومسلم (1 / 88 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.
(3) حديث عائشة: " قلت: يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 4 / 72 ط السلفية) .
(41/116)
فَرَجَّحَ صَاحِبُ البَزَّازِيَّةِ
أَفْضَلِيَّةَ حَجِّ النَّفْل لِمَشَقَّتِهِ فِي الْمَال وَالْبَدَنِ
جَمِيعًا، قَال: وَبِهِ أَفْتَى أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ حَجَّ وَعَرَفَ
الْمَشَقَّةَ (1) .
وَفِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَل
لأَِنَّ الصَّدَقَةَ تَطَوُّعًا يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى غَيْرِهِ
وَالْحَجُّ لاَ (2) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ
أَرْبَعَ صُوَرٍ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعُ لأَِنَّ
الْحَجَّ وَالْغَزْوَ إِمَّا فَرْضَانِ أَوْ مُتَطَوَّعٌ بِهِمَا، وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فَرْضًا وَالْغَزْوُ تَطَوُّعًا وَإِمَّا عَكْسُهُ،
فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ مُتَعَيِّنًا بِفَجْأَةِ الْعَدُوِّ أَوْ
بِتَعْيِينِ الإِْمَامِ أَوْ بِكَثْرَةِ الْخَوْفِ، كَانَ أَفْضَل مِنَ
الْحَجِّ سَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا، وَحِينَئِذٍ فَيُقَدَّمُ
عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلَى الْقَوْل بِفَوْرِيَّةِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ
الْجِهَادُ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ كَانَ الْحَجُّ وَلَوْ تَطَوُّعًا أَفْضَل
مِنَ الْغَزْوِ، وَلَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَدَّمُ
تَطَوُّعُ الْحَجِّ عَلَى تَطَوُّعِ الْغَزْوِ وَهُوَ الْجِهَادُ فِي
الْجِهَاتِ الْغَيْرِ الْمُخِيفَةِ، وَعَلَى فَرْضِهِ الْكِفَائِيِّ
كَالْجِهَادِ فِي الْجِهَاتِ الْمُخِيفَةِ.
وَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى تَطَوُّعٍ وَعَلَى فَرْضِ
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 253 - 254.
(2) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 559.
(41/117)
الْغَزْوِ الْكِفَائِيِّ عَلَى الْقَوْل
بِالْفَوْرِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْل بِالتَّرَاخِي إِنْ خِيفَ الْفَوَاتُ،
فَإِنْ لَمْ يَخَفْ يُقَدِّمْ فَرْضَ الْغَزْوِ الْكِفَائِيِّ عَلَى فَرْضِ
الْحَجِّ (1) .
نَفَل
انْظُرْ: أَنْفَال.
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 10.
(41/117)
نفي
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّفْيُ لُغَةً: التَّغْرِيبُ، وَالطَّرْدُ، وَالإِْبْعَادُ، وَهُوَ
مَصْدَرٌ مِنْ بَابِ رَمَى، يُقَال: نَفَاهُ فَانْتَفَى، وَنَفَيْتُ
الْحَصَى: دَفَعْتُهُ عَنْ وَجْهِ الأَْرْضِ، وَنَفَيْتُهُ مِنَ
الْمَكَانِ: نَحَّيْتُهُ عَنْهُ، وَنُفِيَ فُلاَنٌ مِنَ الْبَلَدِ:
أُخْرِجَ وَسُيِّرَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَنَفَى الرَّجُل: حَبَسَهُ فِي
سِجْنٍ (1) .
وَأَمَّا النَّفْيُ اصْطِلاَحًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ
وَالْعُلَمَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي تَفْسِيرِ النَّفْيِ
فِي دَائِرَةِ الْعُقُوبَاتِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ
يُنْفَوا مِنَ الأَْرْضِ (2) } ، وَذَلِكَ عَلَى عِدَّةِ أَقْوَالٍ،
أَهَمُّهَا ثَلاَثَةٌ:
أ - النَّفْيُ: هُوَ التَّشْرِيدُ فِي الْبُلْدَانِ، وَالْمُطَارَدَةُ
وَالْمُلاَحَقَةُ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي
قَوْلٍ، لأَِنَّ النَّفْيَ هُوَ الطَّرْدُ
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، وأساس البلاغة، ومعجم مقاييس اللغة،
ومختار الصحاح.
(2) سورة المائدة / 33.
(41/118)
بِحَسْبِ الْمَشْهُورِ فِي لُغَةِ
الْعَرَبِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمِا، وَقَتَادَةَ وَالنَّخْعِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ،
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ (1) .
ب - النَّفْيُ: هُوَ الْحَبْسُ وَالسَّجْنُ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنِ الْعَرَبِيِّ
مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّ النَّفْيَ مِنْ جَمِيعِ الأَْرْضِ مُحَالٌ،
وَالنَّفْيُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فِيهِ إِيذَاءٌ لأَِهْلِهَا، وَهُوَ فِي
حَقِيقَتِهِ لَيْسَ نَفْيًا مِنَ الأَْرْضِ، بَل مِنْ بَعْضِهَا (2) .
وَبِهَذَا عَمِل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَبَسَ رَجُلاً،
وَقَال: أَحْبِسُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 12 / 482، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 349،
وتحفة المحتاج 9 / 159، والأحكام السلطانية للماوردي ص 62، وأحكام القرآن
لابن العربي 2 / 598 طبعة عيسى الحلبي، وتفسير القرطبي 6 / 152، وكشاف
القناع 6 / 152.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 500 المطبعة البهية المصرية، وأحكام القرآن
لابن العربي 2 / 598، ومنهاج الطالبين للنووي مع حاشيتي القليوبي وعميرة 4
/ 200، والمغني 12 / 482، والأحكام السلطانية للماوردي ص 62، وحاشية ابن
عابدين 4 / 114، والمبسوط 9 / 199، وبداية المجتهد 2 / 493.
(41/118)
وَلاَ أَنْفِيهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ
فَيُؤْذِيَهُمْ (1) ، وَلِمَا وَرَدَ أَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ
بِهِرَقْل، فَتَنَصَّرَ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ
أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا (2) .
ج - النَّفْيُ: هُوَ الإِْبْعَادُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ مَعَ الْحَبْسِ
فِيهِ، وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَابْنِ سُرَيْجٍ الشَّافِعِيِّ،
وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَدَّمَهُ (3) .
فَإِذَا أُضِيفَ النَّفْيُ إِلَى النَّسَبِ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ
إِنْكَارَ نَسَبِ الْمَوْلُودِ إِلَى وَالِدِهِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْزِيرُ:
2 - مِنْ مَعَانِي التَّعْزِيرِ فِي اللُّغَةِ: التَّأْدِيبُ (4) .
__________
(1) أثر: " أن عمر رضي الله عنه. . . ". أورده القرطبي في الجامع 6 / 153
عن مكحول عنه، ولم نهتد لمن أخرجه من المصادر الحديثية.
(2) أثر: " أن عمر رضي الله عنه غرب ربيعة بن أمية ". أخرجه عبد الرزاق في
المصنف (7 / 314 ط المكتب الإسلامي) ، والنسائي (8 / 219 ط التجارية
الكبرى) .
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 249، 322، والمغني لابن قدامة 12 /
482، وتفسير الطبري 6 / 218، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 598.
(4) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(41/119)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: التَّعْزِيرُ
عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
أَوْ لآِدَمِيٍّ فِي كُل مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلاَ كَفَّارَةٌ
غَالِبًا (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالنَّفْيِ أَنَّ التَّعْزِيرَ أَعَمُّ
مِنَ النَّفْيِ.
مَشْرُوعِيَّةُ النَّفْيِ:
3 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ النَّفْيِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالإِْجْمَاعِ.
فَفِي الْكِتَابِ قَال تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (2) } .
كَمَا وَرَدَتْ بَعْضُ الآْيَاتِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ، وَفَسَّرَ
الْعُلَمَاءُ الْحَبْسَ بِالنَّفْيِ (انْظُرْ: مُصْطَلَح حَبَس ف 7) .
__________
(1) المبسوط 9 / 36، وحاشية ابن عابدين 4 / 59، وفتح القدير 4 / 211،
والمهذب للشيرازي 2 / 289، مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة، وتبصرة الحكام 2
/ 293، وغياث الأمم في التياث الظلم للجويني ص 162 طبع دار الدعوة
بالإسكندرية، والمحرر في الفقه 2 / 163، والفروع لابن مفلح 6 / 104 ط دار
مصر للطباعة.
(2) سورة المائدة / 33.
(41/119)
وَفِي السُّنَّةِ وَرَدَتْ عِدَّةُ
أَحَادِيثَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ النَّفْيِ، مِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَل اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ،
وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (1) .
وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمِا: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال أَحَدُهُمَا: إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ
عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ
بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْل الْعِلْمِ
فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ،
وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا
بِكِتَابِ اللَّهِ جَل ذِكْرُهُ: الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ،
وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَاغَدُ يَا أُنَيْسُ
إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا "، فَغَدَا
عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا (2) .
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت: " خذوا عني خذوا عني. . . ". أخرجه مسلم (3 /
1316 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أحدهما. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 137 ط السلفية) ، ومسلم (3
/ 1324 - 1325 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري.
(41/120)
وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ
ضَرَبَ وَغَرَّبَ (1) .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْجَلْدِ
وَالنَّفْيِ لِلْحُرِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَانْتَشَرَ ذَلِكَ وَلَمْ
يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ، قَال التِّرْمِذِيُّ:
وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ،
وَعَلِيٌّ، وَأُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ،
وَأَبُو ذَرٍّ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (2) .
وَنَفَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصْرَ بْنَ الْحَجَّاجِ
لاِفْتِتَانِ النِّسَاءِ بِهِ، وَكَانَ عَلَى مَرْأًى مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَذَلِكَ لَيْسَ عُقُوبَةً لَهُ، لأَِنَّ الْجَمَال لاَ يُوجِبُ النَّفْيَ،
وَلَكِنْ فَعَل ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا، كَمَا عَاقَبَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا لِسُؤَالِهِ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ
وَأَوَائِل السُّوَرِ وَأَسْمَائِهَا (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر. .
. ". أخرجه الترمذي (4 / 44 ط الحلبي) وقال: حديث ابن عمر حديث غريب. ونقل
ابن حجر في التلخيص (4 / 171 ط العلمية) عن ابن القطان أنه صححه، وعن
الدارقطني ترجيح وقفه.
(2) جامع الترمذي 4 / 45 ط الحلبي.
(3) المبسوط للسرخسي 9 / 45، ومغني المحتاج 4 / 147، وكشاف القناع 6 / 92،
ونهاية المحتاج 7 / 147، والمغني 12 / 324، والفروع لابن مفلح 6 / 69 مع
تصحيح الفروع طبعة ثانية، وأقضية النبي صلى الله عليه وسلم 4 - 5 طبع قطر.
(41/120)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ النَّفْيِ فِي حَدِّ
الْحِرَابَةِ، مَعَ التَّخْيِيرِ لِلإِْمَامِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَالتَّنْوِيعِ بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (انْظُرْ:
حِرَابَة ف 17 وَمَا بَعْدَهَا) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّفْيِ فِي التَّعْزِيرِ، وَأَنَّهُ
مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ لِلإِْمَامِ وَالْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِهِ
(انْظُرْ: تَعْزِير ف 6) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ النَّفْيِ فِي حَدِّ الزِّنَا
لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِإِبَاحَتِهِ وَعَدَمِ
وُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ مُجَرَّدُ تَعْزِيرٌ، وَلَيْسَ جُزْءًا مِنَ الْحَدِّ
(انْظُرْ: حُدُود ف 32) .
وَإِذَا كَانَ النَّفْيُ تَعْزِيرًا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ
حَالِهِ، وَحَال فَاعِلِهِ (1) .
حِكْمَةُ النَّفْيِ:
5 - إِنَّ النَّفْيَ - بِالْمَعَانِي الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ -
إِبْعَادٌ عَنِ الأَْهْل وَالْبَيْتِ وَالسَّكَنِ وَالْحَيَاةِ
الْعَادِيَّةِ، وَفِيهِ تَنْكَسِرُ النَّفْسُ وَتَلِينُ، وَفِيهِ إِيحَاشٌ
بِالْبُعْدِ عَنِ الأَْهْل وَالْوَطَنِ (2) ،.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 236.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 15، ومغني المحتاج 4 / 148.
(41/121)
لِذَلِكَ اعْتُبِرَ النَّفْيُ تَأْدِيبًا
وَعِتَابًا، وَهُوَ تَرْبِيَةٌ وَوَسِيلَةٌ لِلإِْصْلاَحِ وَالنَّدَمِ
وَالتَّوْبَةِ وَتَهْدِئَةِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَنْعٌ لِلاِضْطِرَابِ
وَالثَّأْرِ وَالاِنْتِقَامِ، وَوَضْعُ حَدٍّ لِلْجَرِيمَةِ وَالْعِصْيَانِ
وَالْمُخَالَفَاتِ (1) .
أَنْوَاعُ النَّفْيِ:
6 - يَتَنَوَّعُ النَّفْيُ بِحَسَبِ اعْتِبَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَذَلِكَ
كَمَا يَلِي:
أ - يَتَنَوَّعُ النَّفْيُ بِحَسَبِ حَقِيقَتِهِ إِلَى الْحَبْسِ، أَوِ
الإِْبْعَادِ وَالتَّغْرِيبِ، أَوِ الْحَبْسِ وَالتَّغْرِيبِ مَعًا، كَمَا
سَبَقَ فِي تَعْرِيفِهِ.
ب - وَيَتَنَوَّعُ النَّفْيِ بِحَسَبِ مُدَّتِهِ إِلَى نَفْيٍ لِمُدَّةٍ
قَصِيرَةٍ، أَوْ نَفْيٍ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، أَوْ نَفْيٍ مُؤَبَّدٍ حَتَّى
التَّوْبَةِ أَوِ الْمَوْتِ.
ج - وَيَتَنَوَّعُ النَّفْيُ بِاعْتِبَارِهِ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا إِلَى
نَوْعَيْنِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: النَّفْيُ حَدٌّ فِي الْحِرَابَةِ بِاتِّفَاقِ
الْمَذَاهِبِ، أَمَّا فِي الزِّنَا فَهُوَ حَدٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْفُقَهَاءِ وَتَعْزِيرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَغْرِيب ف 2) .
النَّوْعُ الثَّانِي: النَّفْيُ يَكُونُ تَعْزِيرًا يُقَدِّرُهُ الْقَاضِي.
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 315، ومعين الحكام للطرابلسي ص 191.
(41/121)
د - وَيَتَنَوَّعُ النَّفْيُ بِحَسَبِ
طَرِيقَةِ تَنْفِيذِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مُجَرَّدِ
النَّفْيِ وَالإِْبْعَادِ عَنِ الْوَطَنِ وَالأَْهْل، وَإِمَّا أَنْ
تَقْتَرِنَ بِهِ الْمُطَارَدَةُ وَالْمُلاَحَقَةُ وَالْمُضَايَقَةُ،
وَالْحَبْسُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِرًا عَلَى تَقْيِيدِ الْحُرِيَّةِ
بِمُفْرَدِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الضَّرْبُ وَالتَّعْذِيبُ.
مُوجِبَاتُ النَّفْيِ:
شُرِعَ النَّفْيُ عُقُوبَةً فِي الزِّنَا وَفِي الْحِرَابَةِ وَفِي
التَّعْزِيرِ.
أ - النَّفْيُ فِي حَدِّ الزِّنَا:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ
- رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً - مِائَةُ جَلْدَةٍ إِنْ كَانَ حُرًّا،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (1) } ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ
النَّبَوِيَّةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ عُقُوبَةِ النَّفْيِ لِلزَّانِي غَيْرِ
الْمُحْصَنِ، مَعَ اخْتِلاَفٍ فِي اعْتِبَارِهِ جُزْءًا مِنْ حَدِّ
الزِّنَا أَوْ هُوَ مُجَرَّدُ تَعْزِيرٍ وَزِيَادَةٍ عَلَى الْحَدِّ (2) .
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 14، وفتح القدير 4 / 136، وحاشية الدسوقي 4 /
321، والقوانين الفقهية ص 384، ومغني المحتاج 4 / 147، والروضة 10 / 88،
وكشاف القناع 6 / 92، والفروع 6 / 69.
(41/122)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زِنَى ف 8،
وَتَغْرِيب ف 2) .
ب - النَّفْيُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ:
8 - وَرَدَ النَّفْيُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ صَرَاحَةً فِي الْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ، قَال تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ (1) } .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَفْيِ الْمُحَارِبِينَ قُطَّاعِ
الطَّرِيقِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَطْبِيقِ الْعُقُوبَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حِرَابَة ف 18) .
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْمُرَادِ مِنَ النَّفْيِ فِي الآْيَةِ
الْكَرِيمَةِ كَمَا سَبَقَ.
(ر: تَغْرِيب ف 2، وَحِرَابَة ف 18) .
ج - النَّفْيُ تَعْزِيرًا:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّعْزِيرِ بِالنَّفْيِ،
وَيَفْعَلُهُ الإِْمَامُ وَالْحَاكِمُ عِنْدَ ظَنِّ الْمَصْلَحَةِ فِي
النَّفْيِ (2) .
__________
(1) سورة المائدة / 33.
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 198، وفتح القدير 4 / 273، والقوانين الفقهية ص
392، وحاشية الدسوقي 4 / 348، ومغني المحتاج 4 / 182، وحاشية القليوبي 4 /
200، وكشاف القناع 6 / 150، والفروع 6 / 142، وبدائع الصنائع 9 / 4283،
والمغني 12 / 486.
(41/122)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَضَاءِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ تَعْزِيرًا فِي
شَأْنِ الْمُخَنَّثِينَ، فَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمِا
قَال: لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَال، وَالْمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ،
وَقَال: " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ " قَال: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلاَنًا وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنَةً
(1) .
وَنَفَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لَمَّا خَافَ
الْفِتْنَةَ بِهِ، نَفَاهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ (2) .
وَاتَّخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السِّجْنَ لِعُقُوبَاتِ
التَّعْزِيرِ، وَسَجَنَ الْحُطَيْئَةَ لَمَّا هَجَا الزِّبْرِقَانَ بْنَ
بَدْرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ (3) وَسَجَنَ صَبِيغًا عَلَى
سُؤَالِهِ عَنِ الذَّارِيَاتِ وَالْمُرْسَلاَتِ وَالنَّازِعَاتِ
وَشَبَهِهِنَّ، وَأَمَرَهُ بِالتَّفَقُّهِ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَى الْعِرَاقِ
(4) .
مُدَّةُ النَّفْيِ:
تَخْتَلِفُ مُدَّةُ النَّفْيِ بِحَسَبِ مُوجِبِهَا فِي الزِّنَا
وَالْحِرَابَةِ وَالتَّعْزِيرِ.
__________
(1) حديث: " لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال. . . ".
أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 333 ط السلفية) .
(2) المبسوط 9 / 45، والفروع 6 / 115.
(3) الفروع 6 / 111، فتح القدير والعناية 4 / 136.
(4) تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 317، ومعين الحكام للطرابلسي ص 192.
(41/123)
أ - مُدَّةُ النَّفْيِ فِي حَدِّ الزِّنَا:
10 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مُدَّةَ النَّفْيِ فِي حَدِّ الزِّنَا لِغَيْرِ
الْمُحْصَنِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ، لِلنَّصِّ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ
عَامٍ (1) ، فَالْمُدَّةُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَلاَ مَجَال
لِلاِجْتِهَادِ فِيهِ، فَلاَ يُزَادُ وَلاَ يُنْقَصُ (2) .
لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ النَّفْيُ لِلزَّانِي
غَيْرِ الْمُحْصَنِ عَلَى سَنَةٍ، مَعَ أَنَّ التَّغْرِيبَ عِنْدَهُمْ فِي
الزِّنَا حَدٌّ، لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِنَسْخِ حَدِيثِ: مَنْ بَلَغَ
حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ (3) . فَالرَّاجِحُ
عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ
عَلَى الْحَدِّ، مَعَ
__________
(1) حديث عبادة. سبق تخريجه ف (3) .
(2) مغني المحتاج 4 / 147، وحاشية الدسوقي 4 / 322، والتاج والإكليل على
هامش مواهب الجليل 6 / 296، وكشاف القناع 6 / 91، والفروع 6 / 69، وحاشية
قليوبي 4 / 181، والشرح الصغير على أقرب المسالك 4 / 457.
(3) حديث: " من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ". أخرجه البيهقي في
السنن الكبرى (8 / 327 ط دائرة المعارف) ، وقال البيهقي: والمحفوظ أن هذا
الحديث مرسل.
(41/123)
مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ غَيْرِ
الْمَشُوبَةِ بِالْهَوَى (1) .
وَابْتِدَاءُ الْعَامِ مِنْ حُصُولِهِ فِي بَلَدِ التَّغْرِيبِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ خُرُوجِهِ مِنْ
بَلَدِ الزِّنَا فِي الْوَجْهِ الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَوِ ادَّعَى الْمَحْدُودُ انْقِضَاءَ الْعَامِ، وَلاَ بَيِّنَةَ،
صُدِّقَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَحْلِفُ
اسْتِحْبَابًا، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يُثْبِتَ فِي
دِيوَانِهِ أَوَّل زَمَانِ النَّفْيِ (2) .
وَلَوْ ظَهَرَتْ تَوْبَةُ الزَّانِي قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ السَّنَةُ لَمْ
يَخْرُجْ حَتَّى تَنْقَضِيَ لأَِنَّهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ شَرْعًا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُعْتَبَرُ النَّفْيُ حَدًّا فِي الزِّنَا،
وَلَكِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ التَّعْزِيرِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ
يَزِيدَ مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ عَلَى سَنَةٍ (4) .
وَإِنْ عَادَ الْمَنْفِيُّ إِلَى وَطَنِهِ قَبْل مُضِيِّ السَّنَةِ
أُخْرِجَ مَرَّةً ثَانِيَةً لإِِكْمَال الْمُدَّةِ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 322، والشرح الصغير على أقرب المسالك 4 / 505،
وتبصرة الحكام 2 / 299، 300.
(2) مغني المحتاج 4 / 148، وحاشية البجيرمي على الخطيب 4 / 136، وتبصرة
الحكام 2 / 260، والتاج والإكليل 6 / 296.
(3) تبصرة الحكام 2 / 260.
(4) معين الحكام ص 182.
(41/124)
وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ تُسْتَأْنَفُ، وَإِنَّمَا تُكْمَل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: إِذَا رَجَعَ الْمَنْفِيُّ إِلَى
الْبَلَدِ الَّذِي نُفِيَ مِنْهُ رُدَّ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي نُفِيَ
إِلَيْهِ، وَتُسْتَأْنَفُ الْمُدَّةُ فِي الأَْصَحِّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا زَنَا الْمَنْفِيُّ فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي نُفِيَ إِلَيْهِ نُفِيَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ،
وَتَدْخُل بَقِيَّةُ مُدَّةِ الأَْوَّل فِي الثَّانِي، لأَِنَّ
الْحَدَّيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ (3) .
وَقَالُوا: إِذَا زَنَى الْغَرِيبُ فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ غُرِّبَ مِنْ
بَلَدِ الزِّنَى إِلَى غَيْرِ مَوْطِنِهِ الأَْصْلِيِّ تَنْكِيلاً
وَإِبْعَادًا عَنْ مَوْضِعِ الْفَاحِشَةِ، وَلأَِنَّ الْقَصْدَ إِيحَاشُهُ.
وَزَادُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ عَادَ بَعْدَ تَغْرِيبِهِ إِلَى
بَلَدِهِ الأَْصْلِيِّ أَثْنَاءَ مُدَّةِ التَّغْرِيبِ مُنِعَ مِنْهُ فِي
الأَْصَحِّ، مُعَارَضَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ لاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْغَرِيبُ الَّذِي زَنَى بِفَوْرِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 322، وكشاف القناع 6 / 92.
(2) نهاية المحتاج 7 / 458، والروضة 10 / 89، وحاشية القليوبي 4 / 181.
(3) الروضة 10 / 89، وكشاف القناع 6 / 93.
(4) مغني المحتاج 4 / 148، وكشاف القناع 6 / 92، والروضة 10 / 89.
(41/124)
نُزُولِهِ بِبَلَدٍ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ
وَيُسْجَنُ بِهَا، لأَِنَّ سَجْنَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي زَنَى فِيهِ
تَغْرِيبٌ لَهُ.
وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ زَنَى فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ، أَوْ زَنَى غَرِيبٌ بِغَيْرِ
بَلَدِهِ أَنَّهُ إِنْ تَأَنَّسَ بِأَهْل السِّجْنِ لِطُول الإِْقَامَةِ
مَعَهُمْ وَتَأَنَّسَ الْغَرِيبُ بِأَهْل تِلْكَ الْبَلَدِ، غُرِّبَ
لِمَوْضِعٍ آخَرَ بَعْدَ الْجَلْدِ، وَإِلاَّ كَفَى السَّجْنُ فِي ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ (1) .
ب - مُدَّةُ النَّفْيِ فِي الْحِرَابَةِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ النَّفْيِ فِي
حَدِّ الْحِرَابَةِ غَيْرُ مُحَدَّدَةٍ وَإِنَّمَا تَتَوَقَّفُ عَلَى
التَّوْبَةِ، لاَ بِالْقَوْل بَل بِظُهُورِ سِيمَا الصُّلَحَاءِ، وَيَبْقَى
فِي النَّفْيِ، وَهُوَ الإِْبْعَادُ أَوِ الْحَبْسُ، حَتَّى تَظْهَرَ
تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ فِي النَّفْيِ
بِالزِّنَا بِأَنَّهُ مُحَدَّدٌ بِسَنَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي
الْحِرَابَةِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَسْتَمِرَّ حَتَّى يَمُوتَ
(2) .
__________
(1) الدسوقي 4 / 322.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 114، وفتح القدير 4 / 268، والمبسوط 9 / 199،
وبدائع الصنائع 9 / 4293، وحاشية الدسوقي 4 / 349، والتاج والإكليل 6 /
296، ومغني المحتاج 4 / 181، والروضة 10 / 156، ونهاية المحتاج 8 / 5،
والمهذب 2 / 285، وكشاف القناع 6 / 152، والفروع 6 / 140، والمغني 12 /
483.
(41/125)
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: يُحْتَمَل
أَنْ يُنْفَى عَامًا كَنَفْيِ الزَّانِي (1) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُقَدَّرُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا لِئَلاَّ يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الْعَبْدِ فِي
الزِّنَا، وَقِيل: يُقَدَّرُ بِسَنَةٍ فَيَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا لِئَلاَّ
يَزِيدَ عَلَى تَغْرِيبِ الْحُرِّ فِي الزِّنَا (2) .
ج - مُدَّةُ النَّفْيِ فِي التَّعْزِيرِ:
12 - لَيْسَ لِلْحَبْسِ وَالتَّغْرِيبِ فِي التَّعْزِيرِ مُدَّةٌ
مُعَيَّنَةٌ، وَتَخْتَلِفُ مُدَّةُ النَّفْيِ بِاخْتِلاَفِ الأَْسْبَابِ
وَالْمُوجِبَاتِ، وَمَرَدُّ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي بِقَدْرِ
مَا يَرَى أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ يَوْمًا، وَقَدْ
يَكُونُ أَكْثَرَ بِلاَ تَقْدِيرٍ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير ف 17، 18 وَمَا بَعْدَهَا، حَبْس ف
19، 20 وَمَا بَعْدَهَا) .
تَنْفِيذُ عُقُوبَةِ النَّفْيِ:
بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامًا عِدَّةً فِي تَنْفِيذِ عُقُوبَةِ
النَّفْيِ، نَذْكُرُ مِنْهَا:
أَوَّلاً: مَكَانُ النَّفْيِ:
مَكَانُ النَّفْيِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الإِْبْعَادَ عَنِ الْبَلَدِ،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السَّجْنَ وَالْحَبْسَ، وَيَخْتَلِفُ الْمَكَانُ
بِحَسَبِ مُوجِبِ النَّفْيِ.
__________
(1) المغني 12 / 483.
(2) مغني المحتاج 4 / 181.
(3) تبصرة الحكام 2 / 215.
(41/125)
أ - مَكَانُ النَّفْيِ فِي الزِّنَا:
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ النَّفْيَ فِي الزِّنَا لِغَيْرِ
الْمُحْصَنِ هُوَ سِيَاسَةٌ وَتَعْزِيرٌ إِنْ رَآهُ الْحَاكِمُ، وَمَكَانُ
النَّفْيِ هُوَ الْحَبْسُ بِالسَّجْنِ؛ لأَِنَّهُ أَسْكَنُ لِلْفِتْنَةِ
مِنَ التَّغْرِيبِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ
الْمَنْعُ مِنَ الْفَسَادِ، وَفِي التَّغْرِيبِ فَتْحٌ لِبَابِ الْفَسَادِ،
وَفِيهِ نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ النَّفْيِ شَرْعًا،
وَلِذَلِكَ يُحْبَسُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَتِمُّ
النَّفْيُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الزِّنَا، وَيُغَرَّبُ
الزَّانِي إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، دُونَ حَبْسِ الْمُغرَّبِ فِي الْبَلَدِ
الَّذِي نُفِي إِلَيْهِ وَلاَ يُعْتَقَل هُنَاكَ، وَلَكِنْ يُحْفَظُ
بِالْمُرَاقَبَةِ لِئَلاَّ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى
الاِعْتِقَال وَالْحَبْسِ خَوْفًا مِنْ رُجُوعِهِ اعْتُقِل (2) ،
وَقَالُوا: يُخْرَجُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ فِي الزِّنَا إِلَى
مَسَافَةِ قَصْرٍ فَمَا فَوْقَهَا، لأَِنَّ مَا دُونَهَا فِي حُكْمِ
الْحَضَرِ لِتَوَصُّل الأَْخْبَارِ فِيهَا إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ
إِيحَاشُهُ بِالْبُعْدِ عَنِ الأَْهْل وَالْوَطَنِ، وَقَدْ غَرَّبَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ، وَغَرَّبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 14، والمبسوط للسرخسي 9 / 45.
(2) روضة الطالبين 10 / 89، وكشاف القناع 6 / 92، وفتح القدير 4 / 136.
(41/126)
إِلَى مِصْرَ، وَغَرَّبَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْبَصْرَةِ (1) .
وَيَجِبُ تَحْدِيدُ بَلَدِ النَّفْيِ، فَلاَ يُرْسِلُهُ الإِْمَامُ
إِرْسَالاً، وَإِذَا عَيَّنَ الإِْمَامُ لَهُ جِهَةً فَلَيْسَ
لِلْمَنْفِيِّ أَنْ يَطْلُبَ غَيْرَهَا فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّهُ أَلْيَقُ بِالزَّجْرِ، وَمُعَامَلَةٌ لَهُ
بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ: لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّ
الْمَقْصُودَ إِيحَاشُهُ بِالْبُعْدِ عَنِ الْوَطَنِ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّغْرِيبُ لِلْجَانِي إِلَى بَلَدِهِ (2) .
وَإِذَا رَجَعَ الْمُغَرَّبُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ مِنْهُ،
رُدَّ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُغَرَّبُ الزَّانِي عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي
وَقَعَ فِيهِ الزِّنَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَيُسْجَنُ فِي الْبَلَدِ
الَّذِي غُرِّبَ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَا تُقْصَرُ
بِهِ الصَّلاَةُ، وَأَمَّا الْغَرِيبُ الَّذِي يَزْنِي فَوْرَ نُزُولِهِ
بِبَلَدٍ، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُسْجَنُ بِهَا، لأَِنَّ سَجْنَهُ فِي
الْمَكَانِ الَّذِي زَنَى فِيهِ تَغْرِيبٌ لَهُ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 148، وكشاف القناع 6 / 92، وحاشية القليوبي وعميرة 4
/ 181.
(2) مغني المحتاج 4 / 148، والروضة 10 / 89، وحاشية البجيرمي 4 / 136،
وكشاف القناع 6 / 92.
(3) الروضة 10 / 89.
(4) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 4 / 322، وبداية المجتهد 2 / 493، والتاج
والإكليل 6 / 296.
(41/126)
ب - مَكَانُ النَّفْيِ فِي الْحِرَابَةِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عُقُوبَةِ النَّفْيِ فِي الْحِرَابَة،
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَكَانِهَا.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَكَانُ النَّفْيِ هُوَ السِّجْنُ، فَيُحْبَسُ
قَاطِعُ الطَّرِيقِ فِي بَلَدِهِ، لاَ فِي غَيْرِهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النَّفْيَ فِي الْحِرَابَة كَالنَّفْيِ فِي
الزِّنَا، وَهُوَ التَّغْرِيبُ وَالْحَبْسُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ
إِلَيْهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِمَسَافَةِ قَصْرٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ النَّفْيَ فِي الْحِرَابَةِ هُوَ
بِالْحَبْسِ فِي السِّجْنِ أَوِ التَّغْرِيبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ
عِنْدَهُمْ بِالتَّخْيِيرِ لِلإِْمَامِ، وَقِيل: يَتَعَيَّنُ التَّغْرِيبُ
إِلَى حَيْثُ يَرَاهُ الْحَاكِمُ، وَأَيَّدَ ابْنُ سُرَيْجٍ الشَّافِعِيُّ
مَذْهَبَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَقَال: الْحَبْسُ يَتَعَيَّنُ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمُحَارِبِينَ الْمَحْبُوسِينَ،
لأَِنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَالإِْيحَاشِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي حَدِّ
الْحِرَابَةِ هُوَ تَشْرِيدُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 114، وفتح القدير 4 / 268، وبدائع الصنائع 9 /
4293.
(2) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 4 / 349، والتاج والإكليل 6 / 296، وبداية
المجتهد 2 / 493.
(3) مغني المحتاج 4 / 183، والروضة 10 / 156.
(41/127)
الأَْرْضِ، وَعَدَمِ تَرْكِهِمْ يَأْوُونَ
إِلَى بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ، لأَِنَّ النَّفْيَ هُوَ
الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ، وَالْحَبْسُ إِمْسَاكٌ، وَهُمَا يَتَنَافَيَانِ،
فَمَكَانُ النَّفْيِ عِنْدَهُمْ لاَ يَكُونُ بِالْحَبْسِ فِي سِجْنٍ، وَلاَ
فِي تَغْرِيبٍ إِلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ، بَل هُوَ التَّشْرِيدُ
وَالْمُلاَحَقَةُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ (1) .
ج - مَكَانُ النَّفْيِ فِي التَّعْزِيرِ:
15 - النَّفْيُ فِي التَّعْزِيرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَغْرِيبًا
وَإِبْعَادًا عَنِ الْوَطَنِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
حَبْسًا فِي السِّجْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالأَْمْرَيْنِ مَعًا.
وَأُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي
رَمَضَانَ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ ثَمَانِينَ سَوْطًا، حَدًّا لِلْخَمْرِ،
ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ لاِنْتِهَاكِهِ حُرْمَةَ رَمَضَانَ (2) ،
وَكَانَ عُمَرُ إِذَا غَضِبَ عَلَى رَجُلٍ سَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ (3) ،
وَكَانَ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 152، والمغني 12 / 482، والفروع 6 / 140.
(2) أثر عمر: " أنه أتي برجل شرب الخمر في رمضان. . . ". عزاه ابن حجر في
التلخيص (4 / 171 - ط العلمية) إلى سعيد بن منصور في سننه.
(3) أثر عمر: " أنه كان إذا غضب على رجل سيره إلى الشام. . . ". عزاه ابن
حجر في التلخيص (4 / 171 - ط العلمية) للبغوي في الجعديات.
(41/127)
عُمَرُ يَنْفِي إِلَى الْبَصْرَةِ أَيْضًا
(1) ، وَنَفَى إِلَى فَدَكَ (2) .
ثَانِيًا: مُعَامَلَةُ الشَّخْصِ الْمَنْفِيِّ:
16 - إِذَا كَانَ النَّفْيُ مُجَرَّدَ تَغْرِيبٍ عَنْ بَلَدِهِ فَإِنَّهُ
يُرَاقَبُ فِي تِلْكَ الْبِلاَدِ لِئَلاَّ يَرْجِعَ إِلَى بَلْدَتِهِ،
وَيُتْرَكُ لَهُ حُرِّيَّةُ التَّصَرُّفِ كَامِلَةً فِي الْعَمَل
وَالسَّكَنِ وَالْمُعَامَلاَتِ وَصُحْبَةِ أَهْلِهِ وَزَوْجَتِهِ
وَأَوْلاَدِهِ (3) .
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ يُغَرَّبُ عَنْ بَلَدِهِ
وَيُطَارَدُ وَيُشَرَّدُ فِي الْبُلْدَانِ، فَلاَ يُسْمَحُ لَهُ أَنْ
يَسْتَقِرَّ فِي بَلَدٍ، وَلاَ يُمَكَّنُ أَنْ يَأْوِيَ إِلَى بَلَدٍ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُرْسَلاً أَنَّهُ نَفَى مُخَنَّثَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ،
يُقَال لأَِحَدِهِمَا: هَيْتُ وَالآْخَرِ مَاتِعٌ. وَيُحْفَظُ فِي
أَحَدِهِمَا أَنَّهُ
__________
(1) أثر عمر: " أنه كان ينفي إلى البصرة ". أخرجه البيهقي في السنن (8 /
222 - ط دائرة المعارف العثمانية) عن ابن شهاب عنه.
(2) أثر عمر: " أنه نفى إلى فدك ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7 / 315 -
ط المجلس العلمي - الهند) .
(3) مغني المحتاج 4 / 148، والفروع 6 / 69، وكشاف القناع 6 / 92، وحاشية
البجيرمي على شرح الخطيب 4 / 136 مطبعة التقدم العلمية بمصر، ونهاية
المحتاج 7 / 428.
(4) كشاف القناع 6 / 152، والمغني 12 / 482، والفروع 6 / 140.
(41/128)
نُفِيَ إِلَى الْحُمَّى، وَأَنَّهُ كَانَ
فِي ذَلِكَ الْمَنْزِل طَوَال حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَحَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَحَيَاةِ عُمَرَ، أَيْ إِقَامَةً
جَبْرِيَّةً فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّهُ شَكَا الضِّيقَ، فَأَذِنَ لَهُ بَعْضُ
الأَْئِمَّةِ أَنْ يَدْخُل الْمَدِينَةَ فِي الْجُمُعَةِ يَوْمًا
يَتَسَوَّقُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَيَعُودُ إِلَى مَكَانِهِ (1) .
وَإِنْ كَانَ النَّفْيُ حَبْسًا فَهُوَ تَقْيِيدٌ لِلْحَرِيَّةِ، وَمَنْعٌ
مِنَ الْمُغَادَرَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَيَجُوزُ ضَرْبُهُ بِالسَّوْطِ
وَالْعَصَا تَأْدِيبًا وَزَجْرًا بِحَسَبِ تُهْمَتِهِ وَجَرِيرَتِهِ، وَلاَ
مَانِعَ أَنْ يُمَارِسَ كُل الأَْعْمَال الَّتِي تَتَّفِقُ مَعَ الْحَبْسِ،
وَلاَ مَانِعَ مِنْ أَدَائِهِ عَمَلاً يَكْسِبُ مِنْهُ، وَأَنْ يَدْخُل
عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَيُسْمَحُ لَهُ بِالْخَلْوَةِ مَعَ
زَوْجَتِهِ إِنَ تَوَفَّرَ مَكَانٌ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ، وَتَكُونُ نَفَقَةُ
الْمَحْبُوسِ فِي قُوتِهِ وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَكِسَائِهِ مِنْ بَيْتِ
الْمَال، وَلَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ وَأَضْنَاهُ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ
يَخْدُمُهُ يُخْرِجُهُ الإِْمَامُ مِنَ الْحَبْسِ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ
مِنْ مَرَضِهِ الْهَلاَكَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُخْرِجُهُ؛ لأَِنَّ
الْهَلاَكَ فِي السِّجْنِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ (2) .
ثَالِثًا: نَفْيُ الْمَرْأَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَفِي الْمَرْأَةِ بِالتَّغْرِيبِ.
__________
(1) الأم للإمام الشافعي 6 / 146 نشر دار المعرفة.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 322، ومعين الحكام ص 233، والمبسوط 20 / 90.
(41/128)
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ
عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ
تُنْفَى الْمَرْأَةُ الزَّانِيَةُ وَقَاطِعَةُ الطَّرِيقِ وَحْدَهَا، بَل
تُغَرَّبُ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمِا انْهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلاَ تُسَافِرَنَّ
امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ ". فَقَامَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول
اللَّهِ: اكْتَتَبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتَيْ
حَاجَّةً قَال: " اذْهَبْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ (1) .
وَلِحَدِيثِ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآْخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ
عَلَيْهَا (2) ، وَلأَِنَّ الْقَصْدَ تَأْدِيبُ الزَّانِيَةِ بِالْجَلْدِ
وَالنَّفْيِ، فَإِذَا خَرَجَتْ وَحْدَهَا هَتَكَتْ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُغَرَّبُ وَحْدَهَا
لأَِنَّهَا سَفَرٌ وَاجِبٌ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَ سَفَرَ الْهِجْرَةِ،
__________
(1) حديث ابن عباس رضي الله عنه: " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
لا يخلون رجل بامرأة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 143 ط السلفية)
ومسلم (2 / 978 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة.
. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 566 ط السلفية) ومسلم (2 / 977 ط
عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(41/129)
لَكِنَّ هَذَا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ
آمِنًا، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يُكْتَفَى مَعَ الأَْمْنِ بِامْرَأَةٍ
وَاحِدَةٍ ثِقَةٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ غُرِّبَتْ مَعَ
نِسَاءٍ ثِقَاتٍ، قَالُوا: وَيُحْتَمَل أَنْ يَسْقُطَ النَّفْيُ كَمَا
يَسْقُطُ سَفَرُ الْحَجِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ، فَإِنَّ
تَغْرِيبَهَا إِغْرَاءٌ لَهَا بِالْفُجُورِ وَتَعْرِيضٌ لَهَا
لِلْفِتْنَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الأَْصَحِّ - وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا
رَفَضَ الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ الْخُرُوجَ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ لَزِمَهَا
دَفْعُ الأُْجْرَةِ مِنْ مَالِهَا إِذَا كَانَ لَهَا مَالٌ؛ لأَِنَّهَا
مِمَّا يَتِمُّ بِهَا الْوَاجِبُ، وَلأَِنَّهَا مِنْ مُؤَنِ سَفَرِهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الأُْجْرَةَ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، سَوَاءٌ
كَانَ لَهَا مَالٌ أَوْ لاَ.
وَإِنْ رَفَضَ الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ الْخُرُوجَ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ،
قَال الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ فِيهِ تَغْرِيبَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ،
وَلاَ يَأْثَمُ بِامْتِنَاعِهِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَعَلَى الْقَوْل الأَْصَحِّ: يُؤَخَّرُ
التَّغْرِيبُ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُغَرَّبُ وَحْدَهَا مَعَ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ
لأَِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَى تَأْخِيرِهِ، فَأَشْبَهَ سَفَرَ الْهِجْرَةِ
وَالْحَجِّ إِذَا مَاتَ مَحْرَمُهَا فِي الطَّرِيقِ.
وَهُوَ قَوْل الرُّويَانِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَيَحْتَاطُ الإِْمَامُ
فِي ذَلِكَ.
(41/129)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ: يُجْبَرُ الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ عَلَى الْخُرُوجِ
لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي إِقَامَةِ الْوَاجِبِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُغَرَّبُ الْمَرْأَةُ فِي حَدِّ الزِّنَا أَوِ
الْحِرَابَةِ أَوِ التَّعْزِيرِ، وَإِنَّمَا عُقُوبَتُهَا الْحَبْسُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ
مُطْلَقًا، وَلَوْ مَعَ مَحْرَمٍ، أَوْ زَوْجٍ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ
عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَرْأَةَ
تُعْتَبَرُ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَتُطَبَّقُ عَلَيْهَا عُقُوبَاتُ
الْحِرَابَةِ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُغَرَّبُ (3) .
رَابِعًا: انْتِهَاءُ النَّفْيِ:
يَنْتَهِي النَّفْيُ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَبْسًا أَمْ تَغْرِيبًا،
بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ انْتِهَاؤُهُ قَبْل الْبَدْءِ
بِتَنْفِيذِهِ، وَبَعْدَ الْحُكْمِ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَثْنَاءَ
التَّنْفِيذِ، وَهَذِهِ الأَْسْبَابُ هِيَ:
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 322، والتاج والإكليل 6 / 296، ومغني المحتاج 4 /
148، 149، 181، وحاشية قليوبي 4 / 181، والروضة 10 / 87 - 88، ونهاية
المحتاج 8 / 5، والمغني 8 / 169 - 170 ط الرياض، والفروع 6 / 69، وكشاف
القناع 6 / 92.
(2) فتح القدير 4 / 273، وحاشية ابن عابدين 3 / 212.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 322، 349، وبداية المجتهد 2 / 470، 493، والتاج
والإكليل 6 / 296 والقوانين الفقهية ص 384.
(41/130)
أ - انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ:
18 - إِنَّ الْمُدَّةَ فِي النَّفْيِ لِلزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ -
عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ - مُحَدَّدَةٌ شَرْعًا بِسَنَةٍ، وَأَمَّا
النَّفْيُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ وَالتَّعْزِيرِ فَقَدْ يُحَدِّدُهُ
الْحَاكِمُ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِي كِلاَ الْحَالَيْنِ يَنْتَهِي
النَّفْيُ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ لَهُ حَتْمًا، إِلاَّ
إِذَا انْتَهَى لِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي، أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا
يُوجِبُ تَجْدِيدَهُ وَتَمْدِيدَهُ.
ب - الْمَوْتُ:
19 - يَنْتَهِي النَّفْيُ بِمَوْتِ الْمَنْفِيِّ عَنْ بَلَدِهِ، أَوْ
مَوْتِ الْمَحْبُوسِ، لاِنْتِهَاءِ مَحَل التَّكْلِيفِ.
ج - الْجُنُونُ:
20 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ بَعْدَ
الْجَرِيمَةِ يُوقِفُ التَّنْفِيذَ فِي النَّفْيِ (التَّغْرِيبَ أَوِ
الْحَبْسَ) لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَلاَ أَهْلاً
لِلْعُقُوبَةِ وَالتَّأْدِيبِ، وَهُوَ لاَ يَعْقِل الْمَقْصُودَ مِنَ
النَّفْيِ لِفَقْدِ الإِْدْرَاكِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى
يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى
يَسْتَيْقِظَ (1) وَكَذَلِكَ
__________
(1) حديث عائشة: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه النسائي (6 / 156 ط
المكتبة التجارية) ، والحاكم (2 / 59 ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ
للحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(41/130)
إِذَا جُنَّ أَثْنَاءَ التَّنْفِيذِ
فَإِنَّهُ يَنْتَهِي النَّفْيُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ الإِْسْكَافِيِّ مِنَ
الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْجُنُونَ لاَ يُنْهِي تَنْفِيذَ التَّعْزِيرِ،
وَالنَّفْيُ فَرْعٌ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْغَايَةَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ
وَالزَّجْرُ، فَإِذَا تَعَطَّل جَانِبُ التَّأْدِيبِ بِالْجُنُونِ، فَلاَ
يَنْبَغِي تَعْطِيل جَانِبِ الزَّجْرِ مَنْعًا لِلضَّرَرِ (2) .
د - الْمَرَضُ:
21 - لَوْ مَرِضَ الْمَنْفِيُّ فِي الْحَبْسِ، وَأَضْنَاهُ مَرَضُهُ،
وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْدِمُهُ وَيَقُومُ بِشَأْنِهِ - يُخْرِجُهُ
الْحَاكِمُ مِنَ الْحَبْسِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ فِي الْمَرَضِ
هُوَ الْهَلاَكَ، وَهُوَ رَأْيُ مُحَمَّدٍ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال
أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُخْرِجُهُ، وَالْهَلاَكُ فِي السِّجْنِ وَغَيْرِهِ
سَوَاءٌ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا يُطْلِقُهُ
بِكَفِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلاً فَلاَ يُطْلِقُهُ.
أَمَّا الْمَرَضُ غَيْرُ الْخَطِيرِ فَإِنَّهُ يُعَالَجُ فِي الْحَبْسِ
بِاتِّفَاقٍ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 282، وحاشية ابن عابدين 5 / 426، وبدائع الصنائع 9 /
4227 - 4298.
(2) الإنصاف 10 / 241، ومعين الحكام ص 192.
(3) معين الحكام ص 192، وحاشية ابن عابدين 5 / 378.
(41/131)
هـ - الْعَفْوُ:
22 - إِذَا كَانَ النَّفْيُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ سَقَطَ بِعَفْوِهِ،
وَضَرَبُوا مِثَالاً لِذَلِكَ بِالْمَدِينِ الْمَحْبُوسِ لِحَقِّ
الدَّائِنِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ حَدِّ الْقَذْفِ فَلاَ
تَعْزِيرَ لِلإِْمَامِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
كَمَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ إِذَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ،
وَتَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الآْدَمِيِّ، وَتَفَرَّدَ حَقُّ السَّلْطَنَةِ
فِيهِ، وَرَأَى الْحَاكِمُ فِي الْعَفْوِ مَصْلَحَةً.
أَمَّا إِذَا كَانَ النَّفْيُ فِي حَدِّ الزِّنَا لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ
فَلاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ نِهَائِيًّا، لأَِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى
فِي حَدٍّ مُقَدَّرٍ شَرْعًا (1) .
و الشَّفَاعَةُ:
23 - تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ تَعْزِيرًا
قَبْل الْبَدْءِ بِتَنْفِيذِ النَّفْيِ وَبَعْدَهُ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ
يَكُنْ صَاحِبَ أَذًى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 388، 4 / 75، وفتح القدير 5 / 471، وحاشية
القليوبي 4 / 206، وتبصرة الحكام 2 / 303، والمهذب للشيرازي 2 / 289.
(2) حاشية القليوبي 4 / 206، والمنثور للزركشي 2 / 248، 249 طبعة وزارة
الأوقاف بالكويت، والأحكام السلطانية للماوردي ص 237.
(41/131)
وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ رَدُّ الشَّفَاعَةِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ؛ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
رَدَّ الشَّفَاعَةَ فِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ حِينَ حَبَسَهُ
لِتَزْوِيرِهِ خَاتَمَهُ (1) .
قَال الزَّرْكَشِيُّ: إِطْلاَقُ اسْتِحْبَابِ الشَّفَاعَةِ فِي
التَّعْزِيرِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ
مِنَ التَّعْزِيرِ كَانَ لِلإِْمَامِ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلإِْصْلاَحِ،
وَقَدْ يَرَى ذَلِكَ فِي إِقَامَتِهِ، وَفِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ
يَنْبَغِي اسْتِحْبَابُهُ (2) .
ز - التَّوْبَةُ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَوْبَةَ الزَّانِي غَيْرِ
الْمُحْصَنِ قَبْل السَّنَةِ لاَ تُؤَثِّرُ فِي نَفْيِهِ، وَلاَ يُخْرَجُ
مِنْ حَبْسِهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ السَّنَةُ، لأَِنَّهَا جُزْءٌ مِنَ
الْحَدِّ، وَإِنْ عَادَ مِنَ النَّفْيِ أُعِيدَ نَفْيُهُ (3) .
وَنَقَل ابْنُ فَرْحُونَ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، مَا
عَلِمْتُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا (4) .
نَفْيُ النَّسَبِ:
25 - يَتَرَتَّبُ - عَلَى نَفْيِ نَسَبِ شَخْصِ أَحْكَامٌ
__________
(1) المغني 12 / 525.
(2) المنثور للزركشي 2 / 249.
(3) المغني 12 / 482، 483، 485، وتبصرة الحكام 2 / 200، وفتح القدير 4 /
268، ومغني المحتاج 4 / 181.
(4) تبصرة الحكام 2 / 305.
(41/132)
مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ النَّفْيُ
لَمْ يَلْحَقِ الشَّخْصُ بِمَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَيَجِبُ حَدُّ
الْقَذْفِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ مَا يَدْرَؤُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَسَب، لِعَان ف 25، قَذْف ف 34) .
(41/132)
|