الموسوعة
الفقهية الكويتية نِقَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النِّقَابِ فِي اللُّغَةِ: الْقِنَاعُ تَجْعَلُهُ
الْمَرْأَةُ عَلَى مَارِنِ أَنْفِهَا تَسْتُرُ بِهِ وَجْهَهَا. وَالْجَمْعُ
نُقُبٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِمَارُ:
2 - الْخِمَارُ فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، يُقَال:
خَمَّرْتُ الشَّيْءَ تَخْمِيرًا غَطَّيْتُهُ وَسَتَرْتُهُ (3) ،
وَالْخِمَارُ لِلْمَرْأَةِ هُوَ النَّصِيفُ، وَقِيل: الْخِمَارُ مَا
تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا (4) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب.
(2) فتح الباري 4 / 53 ط السلفية، ونيل الأوطار 5 / 68 ط دار الجيل، وقواعد
الفقه للبركتي.
(3) المصباح المنير.
(4) لسان العرب.
(41/133)
وَاصْطِلاَحًا: قَال الرَّاغِبُ
الأَْصْفَهَانِيُّ (1) : أَصْل الْخَمْرِ سَتْرُ الشَّيْءِ، وَيُقَال لِمَا
يُسْتَرُ بِهِ خِمَارٌ، لَكِنَّ الْخِمَارَ صَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا
لِمَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا، وَجَمْعُهُ خُمُرٌ، قَال
تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (2) } .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النِّقَابِ وَالْخِمَارِ أَنَّ كِلَيْهِمَا لِبَاسٌ
لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، فَالْخِمَارُ غِطَاءٌ لِرَأْسِهَا،
وَالنِّقَابُ غِطَاءٌ لِوَجْهِهَا.
ب - الْحِجَابُ:
3 - الْحِجَابُ فِي اللُّغَةِ: السِّتْرُ، وَالْحِجَابُ أَيْضًا: مَا
احْتَجَبَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النِّقَابِ وَالْحِجَابِ أَنَّ النِّقَابَ لِسَتْرِ
وَجْهِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا الْحِجَابُ فَإِنَّهُ سَتْرٌ لِلْمَرْأَةِ
جَمِيعِهَا عَنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ.
ج - الْبُرْقُعُ:
4 - الْبُرْقُعُ فِي اللُّغَةِ: مَا تَسْتُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا
(4) . وَقَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْبُرْقُعُ فِيهِ خَرْقَانِ لِلْعَيْنَيْنِ
(5) .
__________
(1) المفردات في غريب القرآن ص 159 ط الحلبي.
(2) سورة النور / 31.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط، ومختار الصحاح.
(4) المصباح المنير، ومختار الصحاح، والقاموس المحيط.
(5) لسان العرب.
(41/133)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النِّقَابِ
وَالْبُرْقُعِ هِيَ أَنَّ كِلَيْهِمَا غِطَاءٌ لِوَجْهِ الْمَرْأَةِ،
غَيْرَ أَنَّهُ مَيَّزَ فِي الْبُرْقُعِ بِخَرْقَيْنِ لِلْعَيْنَيْنِ،
وَمَنْ وَصَفَ النِّقَابَ بِذَلِكَ كَانَتِ الْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ
التَّرَادُفَ.
د - اللِّثَامُ:
5 - اللِّثَامُ فِي اللُّغَةِ بِالْكَسْرِ: مَا تُغَطَّى بِهِ الشَّفَةُ
(1) أَوْ مَا كَانَ عَلَى الْفَمِ مِنَ النِّقَابِ (2) ، وَقَال ابْنُ
مَنْظُورٍ: اللِّثَامُ رَدُّ الْمَرْأَةِ قِنَاعَهَا عَلَى أَنْفِهَا،
وَرَدُّ الرَّجُل عِمَامَتَهُ عَلَى أَنْفِهِ (3) وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ
النِّقَابِ وَاللِّثَامِ هِيَ أَنَّ كِلَيْهِمَا غِطَاءٌ لِلْوَجْهِ،
غَيْرَ أَنَّهُ فِي النِّقَابِ يُسْتَرُ الْوَجْهُ عَدَا الْعَيْنَيْنِ،
وَفِي اللِّثَامِ يُسْتَرُ الْفَمُ وَمَا دُونَهُ، وَلِذَا كَانَ
النِّقَابُ أَعَمَّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - لَمَّا كَانَ النِّقَابُ هُوَ سَتْرَ وَجْهِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ
يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، إِذِ الْعَوْرَةُ هِيَ مَا
يَحْرُمُ كَشْفُهُ مِنَ الْجِسْمِ، سَوَاءٌ مِنَ الرَّجُل أَوْ مِنَ
الْمَرْأَةِ، أَوْ هِيَ مَا يَجِبُ سَتْرُهُ وَعَدَمُ إِظْهَارِهِ مِنَ
الْجِسْمِ، لِذَا فَإِنَّ بَيَانَ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ
عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ يَتَّضِحُ مِنْهُ حُكْمُ اتِّخَاذِ النِّقَابِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْوَجْهِ عَوْرَةً:
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مختار الصحاح.
(3) لسان العرب.
(41/134)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
(الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ)
إِلَى أَنَّ الْوَجْهَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْرَةً
فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَسْتُرَهُ فَتَنْتَقِبَ، وَلَهَا أَنْ
تَكْشِفَهُ فَلاَ تَنْتَقِبَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُمْنَعُ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ مِنْ كَشْفِ
وَجْهِهَا بَيْنَ الرِّجَال فِي زَمَانِنَا، لاَ لأَِنَّهُ عَوْرَةٌ، بَل
لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ انْتِقَابُ الْمَرْأَةِ - أَيْ:
تَغْطِيَةُ وَجْهِهَا، وَهُوَ مَا يَصِل لِلْعُيُونِ - سَوَاءٌ كَانَتْ فِي
صَلاَةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا، كَانَ الاِنْتِقَابُ فِيهَا لأَِجْلِهَا أَوْ
لاَ، لأَِنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ.
وَيُكْرَهُ النِّقَابُ لِلرِّجَال مِنْ بَابٍ أَوْلَى إِلاَّ إِذَا كَانَ
ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ قَوْمِهِ، فَلاَ يُكْرَهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ
صَلاَةٍ، وَأَمَّا فِي الصَّلاَةِ فَيُكْرَهُ.
وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الشَّابَّةِ مَخْشِيَّةِ الْفِتْنَةِ سَتْرٌ
حَتَّى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ إِذَا كَانَتْ جَمِيلَةً، أَوْ يَكْثُرُ
الْفَسَادُ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَنَقُّبِ الْمَرْأَةِ، فَرَأْيٌ يُوجِبُ
النِّقَابَ عَلَيْهَا، وَقِيل: هُوَ سُنَّةٌ، وَقِيل: هُوَ خِلاَفُ
الأَْوْلَى (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَوْرَة ف 3 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُصْطَلَحَ نَظَر ف
3 - 8) .
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 96، وابن عابدين 1 / 272، والشرح الكبير 1 / 218،
والفواكه الدواني 2 / 409، ومغني المحتاج 1 / 129، وكشاف القناع 5 / 15.
(41/134)
النِّقَابُ لِلْمُحْرِمَةِ:
7 - حَظَرَ الإِْسْلاَمُ النِّقَابَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ تَنْتَقِبُ
الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ (1) .
وَلِذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِالْحُرْمَةِ، فَقَالُوا: وَالْمَرْأَةُ
إِحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا تَغْطِيَتُهُ بِبُرْقُعٍ
أَوْ نِقَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ
غَطَّتْهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَدَتْ كَمَا لَوْ غَطَّى الرَّجُل رَأْسَهُ
(2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 67) .
النِّقَابُ فِي الصَّلاَةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى كَرَاهَةِ النِّقَابِ فِي
الصَّلاَةِ، وَكَرِهَهُ الْمَالِكِيَّةُ مُطْلَقًا فِي الصَّلاَةِ وَفِي
غَيْرِهَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيُكْرَهُ التَّلَثُّمُ وَهُوَ تَغْطِيَةُ الأَْنْفِ
وَالْفَمِ فِي الصَّلاَةِ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ فِعْل الْمَجُوسِ حَال
عِبَادَتِهِمُ النِّيرَانَ، وَهُوَ
__________
(1) حديث ابن عمر رضي الله عنهم ا: " لا تنتقب المرأة. . . ". أخرجه
البخاري (فتح الباري 4 / 52 ط السلفية) .
(2) كشاف القناع 2 / 447 ط عالم الكتب، وحاشية الطحطاوي مع الدر المختار 1
/ 521، والتاج والإكليل 3 / 141 ط دار الفكر، وأسنى المطالب 1 / 506،
ونهاية المحتاج 3 / 322.
(41/135)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَكْرُوهٌ
تَحْرِيمًا (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ النِّقَابَ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا أَيًّا
كَانَ، فِي صَلاَةٍ أَوْ خَارِجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِيهَا لأَِجْلِهَا
أَوْ لِغَيْرِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ لِعَادَةٍ، وَإِلاَّ فَلاَ كَرَاهَةَ
فِيهِ خَارِجَهَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تُصَلِّيَ
الْمَرْأَةُ مُتَنَقِّبَةً (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَيُكْرَهُ أَنْ تُصَلِّيَ فِي نِقَابٍ وَبُرْقُعٍ
بِلاَ حَاجَةٍ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ
عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا فِي الصَّلاَةِ وَالإِْحْرَامِ،
وَلأَِنَّ سَتْرَ الْوَجْهِ يُخِل بِمُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّي بِالْجَبْهَةِ
وَيُغَطِّي الْفَمَ (4) ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الرَّجُل عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ كَحُضُورِ أَجَانِبَ،
فَلاَ كَرَاهَةَ (5) .
__________
(1) حاشية الطحطاوي 1 / 275.
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 218 ط دار الفكر.
(3) أسنى المطالب 1 / 179، ونهاية المحتاج 2 / 12.
(4) كشاف القناع 1 / 268، والمغني لابن قدامة 1 / 603 ط الرياض الحديثة.
(5) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تغطية الفم في الصلاة "، عن
عطاء عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السدل في
الصلاة وأن يغطي الرجل فاه ". أخرجه أبو داود (1 / 423 ط حمص) ، ثم أسند عن
ابن جريج أنه قال: أكثر ما رأيت عطاء يصلي
(41/135)
نِكَاحُ الْمُنَقَّبَةِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً
مُتَنَقِّبَةً، فَقَال: تَزَوَّجْتُ هَذِهِ. وَقَبِلَتْ جَازَ لأَِنَّهَا
صَارَتْ مَعْرُوفَةً بِالإِْشَارَةِ، وَقِيل: يُشْتَرَطُ فِي الْحَاضِرَةِ
كَشْفُ النِّقَابِ.
وَلَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً مُتَنَقِّبَةً وَلاَ يَعْرِفُهَا الشُّهُودُ
فَعَنِ الْحَسَنِ وَبِشْرٍ: يَجُوزُ، وَقِيل: لاَ يَجُوزُ مَا لَمْ
تَرْفَعْ نِقَابَهَا وَيَرَاهَا الشُّهُودُ، وَالأَْوَّل أَقْيَسُ فِيمَا
يَظْهَرُ بَعْدَ سَمَاعِ الشَّطْرَيْنِ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ
لَيْسَ شَهَادَةً تُعْتَبَرُ لِلأَْدَاءِ لِيُشْتَرَطَ الْعَامُّ عَلَى
التَّحْقِيقِ بِذَاتِ الْمَرْأَةِ.
وَفِي التَّجْنِيسِ أَنْهُ هُوَ الْمُخْتَارُ لأَِنَّ الْحَاضِرَ يُعْرَفُ
بِالإِْشَارَةِ، وَالاِحْتِيَاطُ كَشْفُ نِقَابِهَا وَتَسْمِيَتُهَا
وَنِسْبَتُهَا، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا الشُّهُودُ. أَمَّا
إِذَا كَانُوا يَعْرِفُونَهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فَذَكَرَ الزَّوْجُ
اسْمَهَا لاَ غَيْرَ - جَازَ النِّكَاحُ إِذَا عَرَفَ الشُّهُودُ أَنَّهُ
أَرَادَ الْمَرْأَةَ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ
التَّسْمِيَةِ التَّعْرِيفُ، وَقَدْ حَصَل.
وَبِقَوْل الْحَنَفِيَّةِ قَال الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: قَال
جَمْعٌ: وَلاَ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ مُتَنَقِّبَةٍ إِلاَّ إِنْ عَرَفَهَا
الشَّاهِدَانِ اسْمًا وَنَسَبًا أَوْ صُورَةً.
__________
(1) فتح القدير 3 / 104، 197 ط دار إحياء التراث العربي، والبناية 4 / 173.
(41/136)
وَفِي حَاشِيَةِ الشَّرْوَانِيِّ قَال:
إِذَا رَأَى الشَّاهِدَانِ وَجْهَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ
يَرَهُ الْقَاضِي الْعَاقِدُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِحَاكِمٍ بِالنِّكَاحِ
وَلاَ شَاهِدٍ كَمَا لَوْ زَوَّجَ وَلِيُّ النَّسَبِ مُوَلِّيَتَهُ الَّتِي
لَمْ يَرَهَا قَطُّ، بَل لاَ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الشَّاهِدَيْنِ وَجْهَهَا
فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ (1) .
الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُنَقَّبَةِ:
10 - قَال بَعْضُ مَشَائِخِ الْحَنَفِيَّةِ: تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى
الْمُتَنَقِّبَةِ، وَلَوْ أَخْبَرَ الْعَدْلاَنِ أَنَّ هَذِهِ الْمُقِرَّةَ
فُلاَنَةُ بِنْتُ فُلاَنٍ تَكْفِي هَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الاِسْمِ
وَالنَّسَبِ عِنْدَهُمَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، فَإِنْ عَرَفَهَا
بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا عَدْلاَنِ، يَنْبَغِي لِلْعَدْلَيْنِ أَنْ
يُشْهِدَا الْفَرْعَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، كَمَا هُوَ طَرِيقُ
الإِْشْهَادِ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى يَشْهَدَا عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى
شَهَادَتِهِمَا بِالاِسْمِ وَالنَّسَبِ، وَيَشْهَدَا بِأَصْل الْحَقِّ
أَصَالَةً، فَتَجُوزُ وِفَاقًا (2) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ
مَجْهُولَةٍ لِلشُّهُودِ مُنْتَقِبَةٍ حَتَّى تَرْفَعَ النِّقَابَ عَنْ
وَجْهِهَا وَيَشْهَدُوا عَلَى عَيْنِهَا، لِتَتَعَيَّنَ الْمَرْأَةُ
الْمَشْهُودُ عَلَيْهَا لِتَأْدِيَةِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَحَمَّلُوهَا
عَلَيْهَا إِذَا طُلِبُوا بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَإِنْ قَال الشُّهُودُ
وَقْتَ الأَْدَاءِ:
__________
(1) تحفة المحتاج في شرح المنهاج 10 / 261.
(2) درر الحكام وشرح غرر الأحكام 2 / 374.
(41/136)
أَشْهَدَتْنَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ عَلَى
نَفْسِهَا بِكَذَا حَال كَوْنِهَا مُتَنَقِّبَةً، وَكَذَلِكَ حَال
كَوْنِهَا مُتَنَقِّبَةً نَعْرِفُهَا وَلاَ تَشْتَبِهُ عَلَيْنَا
بِغَيْرِهَا فَنُؤَدِّي الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا مُتَنَقِّبَةً - صَدَقُوا
وَاتُّبِعُوا فِي ذَلِكَ، وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: إِنْ قَالَتِ
الْبَيِّنَةُ: أَشْهَدَتْنَا وَهِيَ مُتَنَقِّبَةٌ وَكَذَلِكَ نَعْرِفُهَا
وَلاَ نَعْرِفُهَا بِغَيْرِ نِقَابٍ، فَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا تَقَلَّدُوا،
وَإِنْ كَانُوا عُدُولاً وَعَيَّنُوهَا كَمَا ذَكَرَتْ وَقُطِعَ
بِشَهَادَتِهِمْ.
سَأَل ابْنُ حَبِيبٍ سَحْنُونَ عَنِ امْرَأَةٍ أَنْكَرَتْ دَعْوَى رَجُلٍ
عَلَيْهَا فَأَقَامَ عَلَيْهَا بَيِّنَةً، قَالُوا: أَشْهَدَتْنَا عَلَى
نَفْسِهَا وَهِيَ مُتَنَقِّبَةٌ بِكَذَا وَكَذَا، وَلاَ نَعْرِفُهَا إِلاَّ
مُتَنَقِّبَةً وَإِنْ كَشَفَتْ وَجْهَهَا فَلاَ نَعْرِفُهَا، فَقَال: هُمْ
أَعْلَمُ بِمَا تَقَلَّدُوا، فَإِنْ كَانُوا عُدُولاً، وَقَالُوا:
عَرَفْنَاهَا، قُطِعَ بِشَهَادَتِهِمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ تَحَمُّل شَهَادَةٍ عَلَى
مُتَنَقِّبَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى صَوْتِهَا، فَإِنَّ الأَْصْوَاتَ
تَتَشَابَهُ، فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهَا وَلَمْ يَرَهَا بِأَنْ
كَانَتْ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَلاَ يَمْنَعُ
الْحَائِل الرَّقِيقُ عَلَى الأَْصَحِّ.
فَلاَ يَصِحُّ التَّحَمُّل عَلَى الْمُتَنَقِّبَةِ لِيُؤَدِّيَ مَا
تَحَمَّلَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ صَوْتِهَا، أَمَّا لَوْ شَهِدَ
اثْنَانِ أَنَّ امْرَأَةً مُتَنَقِّبَةً أَقَرَّتْ يَوْمَ كَذَا
__________
(1) منح الجليل 4 / 267.
(41/137)
لِفُلاَنٍ بِكَذَا، فَشَهِدَ آخَرَانِ
أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي حَضَرَتْ وَأَقَرَّتْ يَوْمَ كَذَا هِيَ
هَذِهِ ثَبَتَ الْحَقُّ بِالْبَيِّنَتَيْنِ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ
أَنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ الْفُلاَنِيَّ أَقَرَّ بِكَذَا وَقَامَتْ
أُخْرَى عَلَى أَنَّ الْحَاضِرَ هُوَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ ثَبَتَ
الْحَقُّ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ تَحَقَّقَ صَوْتُهَا مِنْ
وَرَاءِ نِقَابٍ كَثِيفٍ وَلاَزَمَهَا حَتَّى أَدَّى عَلَى عَيْنِهَا كَمَا
أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ بَحْثًا كَنَظِيرِهِ مِنَ الأَْعْمَى.
فَإِنْ عَرَفَهَا بِعَيْنِهَا، أَوْ بِاسْمٍ وَنَسَبٍ جَازَ التَّحَمُّل
عَلَيْهَا، وَلاَ يَضُرُّ النِّقَابُ، بَل يَجُوزُ كَشْفُ الْوَجْهِ
حِينَئِذٍ كَمَا فِي الْحَاوِي وَغَيْرِهِ، وَيَشْهَدُ الْمُتَحَمِّل عَلَى
الْمُتَنَقِّبَةِ عِنْدَ الأَْدَاءِ بِمَا يَعْلَمُ مِمَّا ذُكِرَ،
فَيَشْهَدُ فِي الْعِلْمِ بِعَيْنِهَا إِنْ حَضَرَتْ، وَفِي صُورَةِ
عِلْمِهِ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا إِنْ غَابَتْ أَوْ مَاتَتْ وَدُفِنَتْ،
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَشَفَ وَجْهَهَا عِنْدَ
التَّحَمُّل عَلَيْهَا وَضَبَطَ حِلْيَتَهَا وَكَشَفَهُ أَيْضًا عِنْدَ
الأَْدَاءِ، وَيَجُوزُ اسْتِيعَابُ وَجْهِهَا بِالنَّظَرِ لِلشَّهَادَةِ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَصَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنْ يَنْظُرَ مَا
يَعْرِفُهَا بِهِ فَقَطْ، فَإِنْ عَرَفَهَا بِالنَّظَرِ إِلَى بَعْضِهِ
لَمْ يَتَجَاوَزْهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى
مَرَّةٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِالاِسْتِيعَابِ أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنْ
يَحْتَاجَ لِلتَّكْرَارِ.
وَلاَ يَجُوزُ التَّحَمُّل عَلَى الْمَرْأَةِ - مُتَنَقِّبَةً أَمْ لاَ -
بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ أَنَّهَا فُلاَنَةُ بِنْتُ فُلاَنٍ
عَلَى الأَْشْهَرِ الْمُعَبَّرِ بِهِ فِي الْمُحَرِّرِ وَفِي
(41/137)
الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عِنْدَ
الأَْكْثَرِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ فِي أَنَّ التَّسَامُعَ
لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمَاعَةٍ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ،
وَقِيل: يَجُوزُ بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ لأَِنَّهُ خَبَرٌ، وَقِيل: بِتَعْرِيفِ
عَدْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ
بِالسَّمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْعَمَل عَلَى خِلاَفِ الأَْشْهَرِ، وَهُوَ
التَّحَمُّل بِمَا ذُكِرَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَمَل
عَلَى التَّحَمُّل بِتَعْرِيفِ عَدْلٍ فَقَطْ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 447.
(41/138)
نَقْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلنَّقْدِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مِنْهَا:
أ - خِلاَفُ النَّسِيئَةِ، أَيْ: أَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي وَنَحْوُهُ
الْعِوَضَ فَوْرًا.
تَقُول: فُلاَنٌ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ نَقْدًا بِكَذَا، وَنَسِيئَةً بِكَذَا.
ب - إِعْطَاءُ النَّقْدِ، أَيْ إِعْطَاءُ الثَّمَنِ أَوِ الأُْجْرَةِ أَوْ
نَحْوِهِمَا مَالاً نَقْدِيًّا، كَالدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ،
بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَعْطَاهُ الْعِوَضَ مِنَ الْعُرُوضِ.
تَقُول: نَقَدْتُهُ الدَّرَاهِمَ فَانْتَقَدَهَا، أَيْ أَخَذَهَا، وَمِنْهُ
حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَمَل، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ (1) .
ج - تَمْيِيزُ الْجَيِّدِ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ مِنَ
الرَّدِيءِ مِنْهَا، تَقُول الْعَرَبُ: نَقَدْتُ الدَّرَاهِمَ،
وَانْتَقَدْتُهَا، إِذَا أَخْرَجْتَ الزَّائِفَ مِنْهَا.
__________
(1) حديث جابر رضي الله عنه: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالجمل. . .
". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 314 ط السلفية) ومسلم (3 / 122 ط الحلبي)
.
(41/138)
د - الْعُمْلَةُ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُتَعَامَل بِهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّسِيئَةُ:
2 - النَّسِيئَةُ: هِيَ التَّأْخِيرُ، تَقُول: بِعْتُ السِّلْعَةَ
بِنَسِيئَةٍ، أَوْ نَسِيئَةً، أَوْ نُسْأَةً: إِذَا بِعْتَهُ عَلَى أَنْ
يُؤَخَّرَ دَفْعُ الثَّمَنِ إِلَى وَقْتٍ لاَحِقٍ. وَأَصْلُهُ مِنْ "
نَسَأَ " الشَّيْءَ إِذَا أَخَّرَهُ (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(4) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ النَّسِيئَةَ ضِدُّ النَّقْدِ، كَالتَّأْجِيل
وَالْحُلُول.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّقْدِ:
أَوَّلاً: النَّقْدُ بِمَعْنَى الْحُلُول:
3 - الأَْصْل فِي دَفْعِ الْمَال النَّقْدِيِّ لِمُسْتَحِقِّهِ أَنْ
يَجُوزَ الاِتِّفَاقُ عَلَى دَفْعِهِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً، فَمَا
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) روضة الطالبين 5 / 117، والمبسوط 12 / 137.
(3) القاموس المحيط.
(4) المطلع على أبواب المقنع ص 239.
(41/139)
وَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَيْهِ وَجَبَ
الاِلْتِزَامُ بِهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) } وَمِنْ ذَلِكَ الثَّمَنُ فِي
الْبَيْعِ، وَالأُْجْرَةُ فِي الإِْجَارَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَالأَْصْل
وُجُوبُ التَّسْلِيمِ، وَإِلاَّ فَلِلْعَاقِدِ الآْخَرِ حَقُّ حَبْسِ
الْمَبِيعِ مَثَلاً حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (ثَمَن ف 33) وَ (تَسْلِيم ف 4
وَمَا بَعْدَهَا) .
4 - وَيَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ نَوْعَانِ مِنَ الْعُقُودِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا يَجِبُ فِيهِ النَّقْدُ:
أ - فَفِي بَيْعِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لاَ
يَصِحُّ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيمُ نَقْدًا مِنَ
الطَّرَفَيْنِ، فَلَوْ بَاعَ بِنَسِيئَةٍ، أَوْ أَخَّرَ الدَّفْعَ عَنْ
مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ،
وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ
بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً
بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ
فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) .
__________
(1) سورة المائدة 1 /.
(2) حديث: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211 ط
عيسى الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(41/139)
وَالتَّفْصِيل فِي (رِبَا ف 13) وَ (صَرْف
ف 8) .
وَتَلْحَقُ الْفُلُوسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ
عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لاَ رِبَا فِيهَا (ر.
صَرْف ف 46 - 48) .
ب - السَّلَمُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَقْدُ رَأْسِ
الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ كَانَ مِنْ
بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (1) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَ قَبْضِهِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ
وَالثَّلاَثَةَ (2) وَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (سَلَم
ف 16) .
ج - بَيْعُ الدَّيْنِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ
أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ بَدَل قَرْضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، لاَ يَجُوزُ مِنْ
غَيْرِ الْمَدِينِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ". أخرجه البيهقي في السنن (5 / 290
ط دار المعارف العثمانية) والحاكم في المستدرك (2 / 57 ط دائرة المعارف)
وضعفه ابن حجر في بلوغ المرام (ص 193 - ط عبد المجيد حنفي) .
(2) رد المحتار على الدر المختار، المسمى حاشية ابن عابدين 4 / 217، ومغني
المحتاج شرح المنهاج 2 / 102، والمغني لابن قدامة 4 / 295 ط ثالثة، وحاشية
الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 195، وجواهر الإكليل 2 / 72 - 75.
(41/140)
الدَّيْنُ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ
يَنْقُدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَجْلِسِ
الْعَقْدِ إِنْ بِيعَ بِمَا لاَ يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً، لِحَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول
اللَّهِ، إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ
وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ،
آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا
بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (1) فَدَل
ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الدَّائِنِ مَدِينَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ
أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ، بِشَرْطِ النَّقْدِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ
غَيْرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَصِحَّ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي ذَلِكَ وَالْخِلاَفُ فِيهِ فِي (دَيْن ف 58 -
60) وَ (صَرْف ف 40) .
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الإِْلْزَامُ بِالنَّقْدِ:
أ - مِنْ ذَلِكَ الدِّيَةُ فِي قَتْل الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ،
فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، ثُلْثٌ
__________
(1) حديث: " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ". أخرجه أبو داود (3 / 650 - 651
ط حمص) ونقل البيهقي عن شعبة أنه أعله بالوقف على ابن عمر، كذا في التلخيص
لابن حجر (3 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نهاية المحتاج 4 / 88، ومغني المحتاج 2 / 70، وحاشية القليوبي 2 / 214،
وشرح منتهى الإرادات 2 / 222 والفروع 4 / 22، وابن عابدين 4 / 244.
(41/140)
عِنْدَ آخِرِ كُل سَنَةٍ، لِمَا رُوِيَ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَضَيَا بِذَلِكَ،
وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا فِي عَصْرِهِمَا مُخَالِفٌ، فَكَانَ فِي مَعْنَى
الإِْجْمَاعِ (1) .
ب - نَقْدُ الثَّمَنِ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ: يَتَّفِقُ
الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ
الْخِيَارِ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ، بَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ
الدَّفْعَ، لاِحْتِمَال الْفَسْخِ، وَيَجُوزَ لَهُ النَّقْدُ اخْتِيَارًا
وَتَطَوُّعًا، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ مُبْطِلاً لِلْخِيَارِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى
الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ الْخِيَارِ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ، أَيْ
يُعَجِّلَهُ - يَفْسُدُ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّ مَا يَنْقُدُهُ يَكُونُ
مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَلَفًا إِنْ فُسِخَ الْعَقْدُ، أَوْ
ثَمَنًا إِنْ لَمْ يُفْسَخْ، أَمَّا لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ تَطَوُّعًا
دُونَ شَرْطٍ فَلاَ يَفْسُدُ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ صُوَرًا شَبِيهَةً بِهَذَا يَمْتَنِعُ فِيهَا
شَرْطُ النَّقْدِ إِنْ تَرَدَّدَ الْمَنْقُودُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا
أَوْ سَلَفًا، فَيُمْنَعُ لأَِنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ نَفْعًا احْتِمَالاً،
مِنْهَا:
- مَا لَوْ أَكْرَى أَرْضَهُ لِلزِّرَاعَةِ، وَكَانَتْ مِمَّا لاَ
يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ سَيَحْصُل لَهَا الرَّيُّ، بَل يُشَكُّ فِيهِ،
كَالأَْرَاضِي الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الْمَطَرِ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 411، والدسوقي 4 / 285، ونهاية المحتاج 7 / 301،
والمغني مع الشرح الكبير 9 / 492.
(41/141)
لاِحْتِمَال أَنْ تُرْوَى فَيَكُونَ
الْمَنْقُودُ كِرَاءً، أَوْ لاَ تُرْوَى فَيَكُونَ سَلَفًا.
- وَمِنْهَا: إِنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مُعَيَّنًا، وَكَانَ لاَ يَشْرَعُ
فِي الْعَمَل إِلاَّ بَعْدَ شَهْرٍ: فَإِنْ شَرَطَ نَقْدَ الأُْجْرَةِ
فَسَدَتِ الإِْجَارَةُ، لاِحْتِمَال تَلَفِ الأَْجِيرِ الْمُعَيَّنِ،
فَيَكُونَ سَلَفًا، أَوْ سَلاَمَتِهِ فَيَكُونَ أُجْرَةً.
وَيَمْتَنِعُ النَّقْدُ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ بِغَيْرِ
شَرْطٍ فِي كُل مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ، إِنْ
كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الْمِثْلِيُّ،
وَعِلَّةُ الْمَنْعِ فَسْخُ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ، وَذَكَرُوا
لَهُ أَمْثِلَةً مِنْهَا: مَا لَوِ اكْتَرَى دَابَّةً، سَوَاءٌ كَانَتْ
مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، لِيَرْكَبَهَا مَثَلاً بَعْدَ
انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَلاَ يَجُوزُ النَّقْدُ فِي هَذِهِ
مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ الْكِرَاءَ إِذَا عَقَدَهُ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ
الْخِيَارِ، فَقَدْ فَسَخَ الْمُكْتَرِي الثَّمَنَ الَّذِي لَهُ فِي
ذِمَّةِ الْمُكْرِي فِي شَيْءٍ لاَ يَتَعَجَّلُهُ الآْنَ بَل بِحَدِّ
أَيَّامِ الْخِيَارِ، لأَِنَّ قَبْضَ الأَْوَائِل لَيْسَ قَبْضًا
لِلأَْوَاخِرِ (1) .
ج - الْجِعَالَةُ: يُمْتَنَعُ فِيهَا اشْتِرَاطُ نَقْدِ الْجُعْل، فَلَوْ
شَرَطَ نَقْدَهُ فَسَدَ الْعَقْدُ بِهَذَا الشَّرْطِ عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) وَلَوْ لَمْ يَنْقُدْهُ بِالشَّرْطِ
بَل تَطَوَّعَ بِهِ، لاَ يَفْسُدُ.
وَانْظُرْ (جِعَالَة ف 24) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 499، والفتاوى الهندية 3 / 42، والمغني 3 / 518،
والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 94، 96 - 98.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 96، ونهاية المحتاج 5 / 463.
(41/141)
ثَانِيًا: النَّقْدُ بِمَعْنَى
التَّسْلِيمِ:
نَقْدُ الثَّمَنِ قَبْل تَسْلِيمِ الْمُثَمَّنِ:
5 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْعَقْدِ.
فَفِي الصَّرْفِ وَالْمُقَايَضَةِ لاَ يَجِبُ التَّسْلِيمُ أَوَّلاً عَلَى
أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ دُونَ الآْخَرِ إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى
بِالاِلْتِزَامِ بِذَلِكَ مِنَ الآْخَرِ، فَإِنِ اخْتَلَفَا يُجْعَل
بَيْنَهُمَا عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَدْفَعُ لِلآْخَرِ.
وَفِي السَّلَمِ يَجِبُ النَّقْدُ أَوَّلاً كَمَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ بَيْعُ سِلْعَةٍ بِثَمَنٍ
فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ
أَوَّلاً (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (تَسْلِيم ف 5) وَ (ثَمَن ف 33 - 40) وَ
(مُقَايَضَة ف 3، 4) .
خِيَارُ النَّقْدِ:
6 - خِيَارُ النَّقْدِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى
الآْخَرِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْقُدِ الثَّمَنَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ
فَلاَ عَقْدَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يَكُونُ اشْتِرَاطُهُ لِمَصْلَحَةِ
الْبَائِعِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هَذَا الشَّرْطِ، فَيَرَى جَوَازَهُ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 2 / 8، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 /
147، والقليوبي على شرح المنهاج 2 / 218.
(41/142)
الصَّحِيحِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ
وَرَدَ الأَْخْذُ بِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَضَى بِهِ
شُرَيْحٌ، وَلِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إِلَى التَّرَوِّي فِي قُدْرَتِهِ
عَلَى الأَْدَاءِ، وَحَاجَةِ الْبَائِعِ إِلَى التَّوْثِيقِ لِنَفْسِهِ
إِنْ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ أَوْ مَاطَل بِهِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال الشَّيْخُ عِلِيشٌ: وَالَّذِي تَحَصَّل لِي
أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةَ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: كَرَاهَةُ هَذَا الْبَيْعِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ وَقَعَ صَحَّ
الْبَيْعُ وَبَطَل الشَّرْطُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ مَفْسُوخٌ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطَ جَائِزٌ،
حَكَى هَذِهِ الأَْقْوَال الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي التَّنْبِيهَاتِ.
وَالْقَوْل الرَّابِعُ: التَّفْصِيل بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنْ جِئْتَنِي
بِالثَّمَنِ، وَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِالثَّمَنِ، فَإِنْ قَال:
أَبِيعُكَ عَلَى إِنْ جِئْتَنِي بِالثَّمَنِ، فَالْبَيْعُ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ - فَالثَّمَنُ حَالٌّ، كَأَنَّهُ رَآهُ بَيْعًا بَتًّا،
وَإِنَّمَا يُرِيدُ فَسْخَهُ بِتَأْخِيرِ النَّقْدِ، فَيُفْسَخُ الشَّرْطُ
وَيُعَجَّل النَّقْدُ. وَإِذَا قَال: إِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِالثَّمَنِ -
فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ
بِالثَّمَنِ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى النَّقْدِ إِلاَّ إِلَى الأَْجَل.
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 39، وفتح القدير 5 / 502 - 503، والبدائع 5 / 175،
والمغني 3 / 531، والمجموع 9 / 193.
(41/142)
وَالْقَوْل الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُوقَفُ
الْمُشْتَرِي، فَإِنْ نَقَدَ مَضَى الْبَيْعُ، وَإِلاَّ رُدَّ.
وَالْقَوْل السَّادِسُ: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا لاَ يَسْرُعُ إِلَيْهِ
التَّغَيُّرُ، وَيُكْرَهُ فِيمَا يَسْرُعُ إِلَيْهِ التَّغَيُّرُ.
وَالْقَوْل السَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الأَْجَل كَشَهْرٍ فَحُكْمُهُ
حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَكَاهُ فِي التَّنْبِيهَاتِ عَنِ ابْنِ
لُبَابَةَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، لأَِنَّ
هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ بِشَرْطِ خِيَارٍ، بَل هُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ
لِلْبَيْعِ؛ لأَِنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا مُطْلَقًا، فَأَشْبَهَ
مَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَلاَ بَيْعَ
بَيْنَهُمَا، وَبِهِ قَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (خِيَار النَّقْدِ ف 3) .
ثَالِثًا: النَّقْدُ بِمَعْنَى تَمْيِيزِ جَيِّدِ النُّقُودِ مِنْ
رَدِيئِهَا وَزَائِفِهَا:
تَعَلُّمُ التَّاجِرِ النَّقْدَ:
7 - ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
التَّاجِرِ تَعَلُّمُ النَّقْدِ، لاَ لِيَسْتَقْصِيَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا
لِئَلاَّ يُسَلِّمَ إِلَى مُسْلِمٍ نَقْدًا زَائِفًا وَهُوَ لاَ يَدْرِي،
فَيَكُونَ آثِمًا بِتَقْصِيرِهِ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، إِذْ
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 353.
(2) المجموع 9 / 193، والفتاوى الهندية 3 / 39، وفتح القدير 5 / 502 - 503،
والبدائع 5 / 175.
(41/143)
لِكُل عَمَلٍ عِلْمٌ بِهِ يَتِمُّ نُصْحُ
الْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ، قَال: وَلِمِثْل هَذَا كَانَ
السَّلَفُ يَتَعَلَّمُونَ عَلاَمَاتِ النَّقْدِ، نَظَرًا لِدِينِهِمْ لاَ
لِدُنْيَاهُمْ (1) .
أُجْرَةُ النُّقَّادِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَكُونُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ نَاقِدِ
الثَّمَنِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى
أَنَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُ
تَسَلُّمُ الْجَيِّدِ مِنَ الثَّمَنِ، وَالْجَوْدَةُ لاَ تُعْرَفُ إِلاَّ
بِالنَّقْدِ كَمَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ بِالْوَزْنِ.
هَذَا إِذَا كَانَ قَبْل الْقَبْضِ، أَمَّا بَعْدَهُ فَعَلَى الْبَائِعِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أُجْرَةُ النُّقَّادِ عَلَى الْبَاذِل، سَوَاءٌ
كَانَ هُوَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ (2) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي
(بَيْع ف 58) وَ (ثَمَن ف 44) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 778 طبعة دار الشعب.
(2) شرح فتح القدير 5 / 108، ورد المحتار 4 / 560، ومغني المحتاج 2 / 73،
وشرح المنتهى 2 / 191، 192، والفتاوى الهندية 3 / 28، والشرح الكبير مع
حاشية الدسوقي 3 / 144.
(41/143)
نُقْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النُّقْرَةِ فِي اللُّغَةِ: الْقِطْعَةُ الْمُذَابَةُ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَبْل الذَّوْبِ هِيَ تِبْرٌ.
وَقِيل: النُّقْرَةُ مَا سُبِكَ مُجْتَمِعًا مِنْهُمَا.
وَالنُّقْرَةُ: السَّبِيكَةُ، وَالْجَمْعُ نِقَارٌ.
وَالنُّقْرَةُ: حُفْرَةٌ فِي الأَْرْضِ غَيْرُ كَبِيرَةٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّبِيكَةُ:
2 - السَّبِيكَةُ: هِيَ الْقِطْعَةُ الْمُسْتَطِيلَةُ مِنَ الذَّهَبِ،
وَالْجَمْعُ سَبَائِكُ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَتِ السَّبِيكَةُ عَلَى كُل
قِطْعَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ مِنْ أَيِّ مَعْدِنٍ كَانَ، مَأْخُوذَةٌ مِنْ
سَبَكْتُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ سَبْكًا: إِذَا أَذَبْتَهُ وَخَلَّصْتَهُ
مِنْ خُبْثِهِ (2) .
__________
(1) المغرب في ترتيب المعرب، ولسان العرب.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والمغرب.
(41/144)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النُّقْرَةِ وَالسَّبِيكَةِ الْعُمُومُ
وَالْخُصُوصُ، إِذِ النُّقْرَةُ أَعَمُّ مِنَ السَّبِيكَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّقْرَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنُّقْرَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النُّقْرَةِ:
3 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النُّقْرَةِ إِنْ بَلَغَ وَزْنُهَا مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَتُكْمَل فِي نِصَابِهِمَا، كَأَنْ
كَانَ عِنْدَ أَحَدٍ دَنَانِيرُ وَنِقَارٌ، أَوْ دَرَاهِمُ وَنِقَارٌ،
وَزْنُ جَمِيعِ ذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ
زُكِّيَ، وَيُخْرَجُ رُبُعُ عُشْرِ كُل صِنْفٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ
وَالنِّقَارِ، وَالدَّرَاهِمِ وَالنِّقَارِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (زَكَاة ف 68 - 71) .
ب - بَيْعُ النُّقْرَةِ بِجِنْسِهَا صِحَاحًا وَبَيْعُ الصِّحَاحِ
بِجِنْسِهَا نِقَارًا:
4 - إِنْ بَاعَ نُقْرَةً بِجِنْسِهَا صِحَاحًا، أَوْ بَاعَ صِحَاحًا مِنْ
أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِجِنْسِهِ نِقَارًا تَجْرِي فِي ذَلِكَ أَحْكَامُ
بَيْعِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِجِنْسِهِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ: التَّمَاثُل
فِي الْوَزْنِ، وَالْحُلُول، وَالتَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.
__________
(1) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 2 / 355 بتصرف.
(41/144)
وَإِنْ بِيعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ يُشْتَرَطُ
الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (صَرْف ف 7 - 18، وَفِضَّة ف 12،
وَتِبْر ف 2) .
ج - قَطْعُ الدَّرَاهِمِ وَتَكْسِيرُهَا:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ الدَّرَاهِمِ وَتَكْسِيرِهَا.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قِطَعَ الدَّرَاهِمِ،
وَكَذَا الدَّنَانِيرُ - مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِ
حَاجَةٍ، لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ، وَيُنْكَرُ
عَلَى فَاعِلِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مِنْ
بَأْسٍ (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُكْرَهُ كَسْرُهُ.
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ كَسْرُهَا لِحَاجَةٍ لَمْ
يُكْرَهْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ لَهُ، لأَِنَّ
إِدْخَال النَّقْصِ عَلَى الْمَال مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ سَفَهٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِم ف 8) .
__________
(1) المجموع 10 / 88.
(2) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: " نهى عن كسر سكة المسلمين ". أخرجه
أبو داود (3 / 730 ط حمص) وابن ماجه (2 / 761 ط عيسى الحلبي) من حديث عبد
الله بن عمرو بن هلال المزني، وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود (5 / 91
ط دار المعرفة) : في إسناده محمد بن فضاء الأزدي (أبو بحر) لا يحتج بحديثه.
(41/145)
د - عَقْدُ الشَّرِكَةِ بِرَأْسِ مَالٍ
مِنَ النِّقَارِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِرَأْسِ مَالٍ
مِنَ النِّقَارِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ
إِلَى أَنَّهُ إِنْ رَاجَتِ النُّقْرَةُ رَوَاجَ النُّقُودِ صَحَّتِ
الشَّرِكَةُ بِهَا وَالْمُضَارَبَةُ عَلَيْهَا، وَإِلاَّ فَحُكْمُهَا
حُكْمُ الْعُرُوضِ، وَهُوَ الْمَتَاعُ غَيْرُ النَّقْدَيْنِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْظْهَرِ،
وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ
الشَّرِكَةُ بِرَأْسِ مَالٍ مِنَ النِّقَارِ، وَلاَ الْمُضَارَبَةُ
بِالنِّقَارِ، لأَِنَّهَا أَعْيَانٌ مُتَمَيِّزَةٌ، وَلأَِنَّ قِيمَتَهَا
تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، فَأَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ، فَتَأْخُذُ حُكْمَهَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ
بِالنُّقْرَةِ، لأَِنَّهَا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ (3) .
__________
(1) الحاوي الكبير 8 / 167، وروضة الطالبين 4 / 276، ومغني المحتاج 2 /
213، وكشاف القناع 3 / 498، والمغني 5 / 18، والإنصاف 5 / 411.
(2) ابن عابدين 3 / 340 بتصرف بسيط، وحاشية الدسوقي 3 / 518، ومواهب الجليل
5 / 357.
(3) روضة الطالبين 4 / 271، ومغني المحتاج 2 / 213.
(41/145)
نَقْشٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّقْشُ لُغَةً: مَصْدَرُ نَقَشَ، يُقَال: نَقَشَهُ نَقْشًا مِنْ
بَابِ قَتَل، وَنَقَشْتُ الشَّوْكَةَ نَقْشًا: اسْتَخْرَجْتُهَا
بِالْمِنْقَشِ، وَانْتَقَشَهُ: نَمْنَمَهُ فَهُوَ مَنْقُوشٌ، وَانْتَقَشَ
الشَّيْءَ: اخْتَارَهُ، وَالنَّقْشُ: الأَْثَرُ فِي الأَْرْضِ،
وَالنَّقْشُ: تَلْوِينُ الشَّيْءِ بِلَوْنَيْنِ أَوْ بِأَلْوَانٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى النَّقْشِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ فِي
اللُّغَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّزْوِيقُ:
2 - التَّزْوِيقُ لُغَةً: التَّزْيِينُ وَالتَّحْسِينُ، وَالزَّاوُوقُ:
الزِّئْبَقُ، وَقَدْ يُجْعَل مَعَ الذَّهَبِ فَيُطْلَى بِهِ فَيُدْخَل فِي
النَّارِ، فَيَطِيرُ الزَّاوُوقُ وَيَبْقَى الذَّهَبُ - ثُمَّ قِيل لِكُل
مِنْقَشٍ وَمُزَيِّنٍ: مُزَوِّقٌ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير.
(41/146)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى
الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّقْشِ وَالتَّزْوِيقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ،
فَالنَّقْشُ أَعَمُّ مِنَ التَّزْوِيقِ.
ب - الزَّخْرَفَةُ:
3 - الزَّخْرَفَةُ لُغَةً: الزِّينَةُ، ثُمَّ سُمِّيَ كُل زِينَةٍ
زُخْرُفًا، وَالزَّخْرَفَةُ: كَمَال حُسْنِ الشَّيْءِ، وَالزُّخْرُفُ فِي
الأَْصْل: الذَّهَبُ، وَزَخْرَفَ الْبَيْتَ زَخْرَفَةً: زَيَّنَهُ
وَأَكْمَلَهُ (2) وَكُل مَا زُوِّقَ وَزُيِّنَ فَقَدْ زُخْرِفَ، وَفِي
الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَدْخُل الْكَعْبَةَ حَتَّى أَمَرَ بِالزُّخْرُفِ فَنُحِّيَ (3)
وَالزُّخْرُفُ هُنَا نُقُوشٌ وَتَصَاوِيرُ تُزَيَّنُ بِهَا الْكَعْبَةُ،
وَكَانَتْ بِالذَّهَبِ فَأَمَرَ بِهَا فَحُكَّتْ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّقْشِ وَالزُّخْرُفِ هِيَ الْعُمُومُ
وَالْخُصُوصُ، فَالنَّقْشُ أَعَمُّ مِنَ الزُّخْرُفِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 65.
(2) لسان العرب، وانظر القاموس المحيط.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف
فنحي ". ذكره ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (2 / 299 ط دار الفكر)
ولم نهتد لمن أخرجه من المصادر الحديثية.
(4) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 335، 337 والنهاية في غريب الحديث
لابن الأثير 2 / 299 ط دار الفكر.
(41/146)
ج - الْخَتْمُ:
4 - الْخَتْمُ لُغَةً: مِنْ خَتَمَهُ يَخْتِمُهُ خَتْمًا وَخِتَامًا:
طَبَعَهُ (1) ، وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: الْخَاتِمُ بِالْكَسْرِ الْفَاعِل،
وَبِالْفَتْحِ: مَا يُوضَعُ عَلَى الطِّينَةِ، وَالْخَاتَمِ الَّذِي
يَخْتِمُ عَلَى الْكِتَابِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّقْشِ وَالْخَتْمِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ،
بِمَعْنَى أَنَّ كُل خَتْمٍ يُعَدُّ نَقْشًا، وَلَيْسَ كُل نَقْشٍ يُعَدُّ
خَتْمًا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّقْشِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّقْشِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - نَقْشُ الْخَاتَمِ:
5 - يُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ اتِّخَاذُ خَاتَمٍ وَنَقْشُهُ (4) ، لِمَا ثَبَتَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا
وَنَقَشَ عَلَيْهِ (مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ) فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنَ
الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ إِلَى مُلُوكِ الأَْرْضِ، وَأَرْسَل إِلَيْهِمْ
رُسُلَهُ، فَكَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَقِيل لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ
يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ إِذَا كَانَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا
مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشَ عَلَيْهِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ: (مُحَمَّدٌ)
__________
(1) القاموس المحيط.
(2) المصباح المنير، وانظر لسان العرب.
(3) الاختيار 4 / 159، والإنصاف 3 / 145.
(4) زاد المعاد 1 / 119، 120 ط مؤسسة الرسالة.
(41/147)
سَطْرٌ، وَ (رَسُول) سَطْرٌ، وَ (اللَّهِ)
سَطْرٌ، وَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ إِلَى الْمُلُوكِ وَبَعَثَ سِتَّةَ نَفَرٍ
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (1) .
وَيُسَنُّ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَالسُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَمَنْ
فِي مَعْنَاهُمَا نَقْشُ خَاتَمِهِ الَّذِي يَخْتِمُ بِهِ فِي الْكِتَابِ،
وَأَنْ يَكْتُبَ اسْمَ نَفْسِهِ وَاسْمَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فِي
بَاطِنِهِ وَعُنْوَانَهُ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَقْشِ اسْمِ صَاحِبِ الْخَاتَمِ
عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْشِ لَفْظِ الْجَلاَلَةِ أَوِ الذِّكْرِ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ جَوَازَهُ.
وَكَرِهَهُ الْحَنَابِلَةُ (3) .
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ نَقْشُ صُورَةٍ أَوْ طَيْرٍ، وَلاَ:
مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ، لأَِنَّهُ نَقْشُ خَاتَمِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ كُل كَلِمَةٍ سَطْرٌ،
وَقَدْ نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ
__________
(1) حديث: " اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة. . . ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 10 / 324 ط السلفية) من حديث أنه رضي الله عنه.
(2) حاشية الجمل 5 / 362، وزاد المعاد 1 / 119، 120.
(3) الاختيار 4 / 159، ومواهب الجليل 1 / 127، والقليوبي وعميرة 2 / 24،
والإنصاف 3 / 145.
(41/147)
عَلَيْهِ (1) . أَيْ: عَلَى هَيْئَتِهِ
أَوْ مِثْل نَقْشِهِ، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ أَبِي بَكْرٍ (نِعْمَ
الْقَادِرُ اللَّهُ) ، وَعُمَرَ (كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا) ،
وَعُثْمَانَ (لَتَصْبِرَنَّ أَوْ لَتَنْدَمَنَّ) ، وَعَلِيٍّ (الْمُلْكُ
لِلَّهِ) . . . (2) وَقَالُوا: إِذَا غَلِطَ النَّقَّاشُ، وَنَقَشَ فِي
الْخَاتَمِ اسْمَ غَيْرِهِ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِصْلاَحُهُ ضَمِنَهُ
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الإِْمَامِ لاَ يَضْمَنُ بِكُل حَالٍ (3) .
ب - نَقْشُ الْمَسْجِدِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَقْشِ الْمَسْجِدِ: فَيَرَى
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ - كَرَاهِيَتَهُ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ (4) .
__________
(1) حديث: " نهى عليه الصلاة والسلام أن ينقش أحد عليه ". أخرجه البخاري
(فتح الباري 10 / 324 ط السلفية) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 230.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 157.
(4) حديث: " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ". أخرجه أبو داود
(1 / 311 ط حمص) ، وابن ماجه (1 / 244 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس رضي الله
عنه، وصححه ابن حبان (4 / 493 ط الرسالة) .
(41/148)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَهُ، وَهُوَ
رَأْيٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاِبْنِ وَهْبٍ وَابْنِ نَافِعٍ، وَبَعْضِ
الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ بِالشَّيْءِ الْخَفِيفِ (1) .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
زَادَ فِي الْمَسْجِدِ (النَّبَوِيِّ) زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى
جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَل عَمَدَهُ
مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ (2) .
ج - نَقْشُ الدَّارِ وَتَزْيِينُهَا وَزَخْرَفَتُهَا:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَقْشِ الدَّارِ وَتَزْيِينِهَا
وَزَخْرَفَتِهَا.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ تَزْيِينِ الْبُيُوتِ
وَالْحِيطَانِ وَالسَّقْفِ وَالْخَشَبِ وَالسَّتَائِرِ بِالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَلاَّ يُفْعَل عَلَى قَصْدِ
التَّكَبُّرِ، فَإِنْ فُعِل كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ
لاَ يُكْرَهُ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حُرْمَةَ زَخْرَفَةِ
__________
(1) البدائع 5 / 127، ومواهب الجليل 1 / 551، والمجموع 2 / 180، ومطالب
أولي النهى 2 / 255، وفتاوى السبكي 1 / 277، وإعلام الساجد للزركشي 336.
(2) أثر: أن عثمان رضي الله عنه زاد في المسجد النبوي. أخرجه البخاري (فتح
الباري 1 / 540 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 226، والفتاوى الهندية 5 / 319، وحاشية الدسوقي 1
/ 65.
(41/148)
الْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ بِذَهَبٍ أَوْ
فِضَّةٍ، لأَِنَّهُ سَرَفٌ وَيُفْضِي إِلَى الْخُيَلاَءِ وَكَسْرِ قُلُوبِ
الْفُقَرَاءِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَزَيُّن ف 21 وَزَخْرَفَة ف 6) .
د - نَقْشُ يَدِ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ بِالْحِنَّاءِ:
8 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَقْشُ يَدِ الْمَرْأَةِ
الْمُحْرِمَةِ بِالْحِنَّاءِ، وَكَذَا تَطْرِيفُ الأَْصَابِعِ
وَتَسْوِيدُهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّينَةِ وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ
الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الإِْحْرَامِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِضَاب ف 22) .
هـ - النَّقْشُ عَلَى الْقَبْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ وَالنَّقْشِ عَلَى
الْقَبْرِ.
فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَرَاهَتَهُ،
وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَيَنْبَغِي الْحُرْمَةُ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى
امْتِهَانِهِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ
بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهَا.
ر: مُصْطَلَحُ (قَبْر ف 19) .
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 44، وكشاف القناع 2 / 238، والمجموع 6 / 43.
(2) القليوبي وعميرة 2 / 99 ط عيسى الحلبي، وانظر: أسنى المطالب 1 / 472
المكتبة الإسلامية، وحاشية الجمل 1 / 418.
(41/149)
نَقْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّقْضُ لُغَةً: إِفْسَادُ مَا أَبْرَمْتَهُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ
بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، يُقَال: نَقَضْتُ الْحَبْل نَقْضًا حَلَلْتُ
بَرْمَهُ، وَمِنْهُ يُقَال: نَقَضْتُ مَا أَبْرَمَهُ: إِذَا أَبْطَلْتَهُ،
فَالنَّقْضُ ضِدُّ الإِْبْرَامِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ
الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالنَّقْضُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ: هُوَ إِبْدَاءُ
الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ بِدُونِ وُجُودِ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ
يُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَخْصِيصِ الْوَصْفِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْبْرَامُ:
2 - الإِْبْرَامُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَبْرَمَ الأَْمْرَ وَبَرَمَهُ:
أَحْكَمَهُ، قَال الْخَلِيل: أَبْرَمْتُ الأَْمْرَ
__________
(1) القاموس المحيط وانظر المصباح المنير، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي.
(2) شرح البدخشي والأسنوي على البيضاوي 3 / 106 ط دار الكتب العلمية.
(41/149)
أَحْكَمْتُهُ، وَقَال الْعَسْكَرِيُّ:
إِبْرَامُ الشَّيْءِ تَقْوِيَتُهُ، وَأَصْلُهُ فِي تَقْوِيَةِ الْحَبْل،
وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُسْتَعَارٌ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى
الْعُقُودِ، فَيُقَال: أَبْرَمَ عَقْدَ الْبَيْعِ وَأَبْرَمَ عَقْدَ
النِّكَاحِ، وَالإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ يَتَوَلَّى إِبْرَامَ عَقْدِ
الذِّمَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقْضِ وَالإِْبْرَامِ التَّضَادُّ.
ب - الْعَقْدُ:
3 - الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْحَل، يُقَال: عَقَدَهُ يَعْقِدُهُ
عَقْدًا، وَعَقْدُ كُل شَيْءٍ إِبْرَامُهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ
بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقْضِ وَالْعَقْدِ هِيَ التَّضَادُّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّقْضِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّقْضِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلاً: نَقْضُ الطَّهَارَةِ:
4 - الْمُرَادُ بِنَقْضِ الطَّهَارَةِ: إِفْسَادُ مَا قَامَ بِهِ
__________
(1) لسان العرب ومقاييس اللغة لابن فارس 1 / 231، والفروق في اللغة ص 207.
(2) تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 27، 28، ولسان العرب.
(3) التعريفات للجرجاني، وقواعد الفقه للبركتي، وانظر دستور العلماء 2 /
331.
(41/150)
الْمُكَلَّفُ مِنْ فِعْلٍ مَوْضُوعٍ
لِرَفْعِ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةِ خَبَثٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا (1) .
وَنَوَاقِضُ الطَّهَارَةِ تَشْمَل: نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ وَنَوَاقِضَ
التَّيَمُّمِ وَنَوَاقِضَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ
فِيمَا يَلِي:
أ - نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ:
5 - عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ:
خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَخُرُوجُ نَجِسٍ مِنْ غَيْرِ
السَّبِيلَيْنِ، وَزَوَال الْعَقْل (السُّكْرُ - الْجُنُونُ -
الإِْغْمَاءُ) ، وَالنَّوْمُ، وَاللَّمْسُ، وَمَسُّ فَرْجِ الآْدَمِيِّ،
وَالْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلاَةِ، وَأَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ، وَغَسْل
الْمَيِّتِ، وَالرِّدَّةُ، وَالشَّكُّ فِي الْحَدَثِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ بِبَعْضِهَا
وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَث ف 6 - 20) .
ب - نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ:
6 - يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ أُمُورٌ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا: كُل مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ
لأَِنَّهُ بَدَلاً مِنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ،
وَوُجُودُ مَاءٍ لِعَادِمِهِ، وَزَوَال الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لَهُ إِذَا
قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِلاَ ضَرَرٍ كَأَنْ تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ
فَعُوفِيَ أَوْ لِبَرْدٍ فَزَال.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَيَمُّم ف 33) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 16، 17.
(41/150)
ج - نَوَاقِضُ الْمَسْحِ عَلَى
الْخُفَّيْنِ:
7 - يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أُمُورٌ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا: كُل مَا يَنْقُضُ
الْوُضُوءَ، لأَِنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَيَنْقُضُهُ نَاقِضُ أَصْلِهِ
كَالتَّيَمُّمِ، وَنَزْعُ الْخُفَّيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَيَغْسِل
الْقَدَمَيْنِ؛ لأَِنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ عَنِ الطَّهَارَةِ يَسْرِي
عَلَى الْقَدَمَيْنِ لِزَوَال الْمَانِعِ، وَمُضِيِّ مُدَّةِ الْمَسْحِ،
وَحُدُوثِ مَا يُوجِبُ الْغُسْل.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ف 11) .
ثَانِيًا: نَقْضُ الْعُهُودِ:
نَقْضُ الْعُهُودِ يَشْمَل نَقْضَ الْهُدْنَةِ، وَنَقْضَ الأَْمَانِ،
وَنَقْضَ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
أ - نَقْضُ الْهُدْنَةِ:
8 - إِذَا تَعَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
تَرْكِ الْقِتَال، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِهِ،
قَال تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً
(1) } .
وَتُنْقَضُ الْهُدْنَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
- نَقْضُ الإِْمَامِ إِنْ عَلَّقَ بَقَاءَهَا بِمَشِيئَتِهِ أَوْ مَشِيئَةِ
غَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) سورة الإسراء / 34.
(41/151)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا رَأَى فِي
نَقْضِهَا مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ (1) .
- صُدُورُ خِيَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُهَادِنِينَ كَقَتْل مُسْلِمٍ
وَقِتَال مُسْلِمِينَ بِلاَ شُبْهَةٍ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَإِيوَاءِ
جَاسُوسٍ يَنْقُل أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاضِعَ الضَّعْفِ فِيهِمْ
لأَِهْل الْحَرْبِ.
- نَقْضُ مَنْ عَقَدَ لَهُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْل أَوْ دَلاَلَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (هُدْنَة) .
ب - نَقْضُ الأَْمَانِ:
9 - إِذَا أَمَّنَ الإِْمَامُ أَوْ مُسْلِمٌ بَالِغٌ حُرٌّ مِنْ عَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ حَرْبِيًّا أَوْ عَدَدًا مَحْصُورِينَ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ
فَلَيْسَ لِلإِْمَامِ وَلاَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ نَقْضُهُ لِخَبَرِ:
ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ
أَخَفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (2) ، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الإِْمَامُ خِيَانَةً
مِنْهُمْ، لأَِنَّ الأَْمَانَ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ،
وَجَائِزٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوهُ
وَقْتَمَا شَاءُوا، فَإِنْ خَافَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 337، ومغني المحتاج 4 / 260 - 261، وكشاف القناع 3
/ 112، والفتاوى الهندية 2 / 197.
(2) حديث: " ذمة المسلمين واحدة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 42
ط السلفية) ، ومسلم (2 / 999 ط عيسى الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب.
(41/151)
خِيَانَتَهُمْ بِأَمَارَاتٍ ظَاهِرَةٍ،
فَلَهُ نَبْذُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ
لِلإِْمَامِ نَقْضَ الأَْمَانِ مَتَى شَاءَ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ
مَا يُخَالِفُ عَقْدَ الأَْمَانِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ أَمَارَاتُهَا
(1) .
ج - نَقْضُ عَقْدِ الذِّمَّةِ:
10 - يَنْتَقِضُ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
لُحُوقُ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوِ التَّطَلُّعُ عَلَى عَوْرَاتِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 42) .
ثَالِثًا: نَقْضُ الاِجْتِهَادِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ
قِي قَضِيَّةٍ أَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي فِي مَسْأَلَةٍ - وَهُمَا مِنْ
أَهْل الاِجْتِهَادِ - لَمْ يَجُزِ النَّقْضُ، إِلاَّ إِذَا بَانَ أَنَّ
حُكْمَهُ خِلاَفُ نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الإِْجْمَاعِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ لِمُخَالَفَةِ قِيَاسٍ جَلِيٍّ،
وَهُوَ مَا قُطِعَ فِيهِ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ الأَْصْل
وَالْفَرْعِ، كَقِيَاسِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ عَلَى
__________
(1) الاختيار 4 / 123 - 124، ورد المحتار 3 / 247، وشرح الزرقاني 3 / 122،
123، والدسوقي 2 / 185، ومغني المحتاج 4 / 238، وكشاف القناع 6 / 105.
(41/152)
التَّأْفِيفِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا (1) }
أَيِ الْوَالِدَيْنِ.
وَكَقِيَاسِ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ بِالذَّرَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (2) } .
وَمَا قُطِعَ بِهِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنِ الْفَرْعُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الأَْصْل، كَقِيَاسِ
الأَْمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ
الْمُوسِرُ بَعْضَهُ، وَقِيَاسُ غَيْرِ السَّمْنِ مِنَ الْمَائِعَاتِ عَلَى
السَّمْنِ فِي حُكْمِ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
رَابِعًا: نَقْضُ الْقَضَاءِ:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِنَقْضِ الْقَضَاءِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا
خَالَفَ فِي حُكْمِهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا كَانَ قَضَاؤُهُ فَاقِدًا
لِشَرْطٍ وَوَجَبَ نَقْضُهُ، إِذْ أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالاِجْتِهَادِ
عَدَمُ النَّصِّ بِدَلِيل خَبَرِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ
لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال:
أَجْتَهِدُ
__________
(1) سورة الإسراء / 23.
(2) سورة الزلزلة / 7.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 362 - 4 / 325، ومغني المحتاج 4 / 396، وكشاف
القناع 6 / 359، والمغني 9 / 56.
(41/152)
رَأْيِي وَلاَ آلُو (1) وَلأَِنَّهُ إِذَا
تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَقَدْ فَرَّطَ، فَوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ،
إِذْ لاَ مَسَاغَ لِلاِجْتِهَادِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَزَادَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ زِيَادَاتٍ أُخْرَى كَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ (2) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي حُكْمِ مَا يُنْقَضُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ أَنْ يَنْقُضَ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ صَالِحٍ
لِلْقَضَاءِ شَيْئًا لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ
وَإِلَى أَلاَّ يَثْبُتَ حُكْمٌ أَصْلاً، غَيْرَ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ
اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ سُنَّةٍ آحَادٍ أَوْ خَالَفَ
إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا، بِخِلاَفِ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ (3) .
مَا يُنْقَضُ مِنَ الأَْحْكَامِ وَمَا لاَ يُنْقَضُ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُنْقَضُ مِنَ الأَْحْكَامِ
__________
(1) حديث: " فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب
الله؟ . . . ". أخرجه أبو داود (4 / 18 ط حمص) ، والترمذي (3 / 607 ط
الحلبي) واللفظ لأبي داود، قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا
الوجه وليس إسناده عندي بمتصل.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 56، 57، وكشاف القناع 6 / 315، والمبسوط للسرخسي
16 / 84، ومغني المحتاج 4 / 396 وما بعدها، وتبصرة الحكام 1 / 70 وما
بعدها، وبدائع الصنائع 7 / 14، والمادة (14) من مجلة الأحكام العدلية،
ونهاية المحتاج للرملي 8 / 258، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 194.
(3) شرح المنتهى 3 / 478 - 479.
(41/153)
وَمَا لاَ يُنْقَضُ، فَمِنْهُمْ مَنْ
تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَصَرَ النَّقْضَ فِي نِطَاقِ
الْمُخَالَفَةِ الصَّرِيحَةِ لِلنَّصِّ أَوِ الإِْجْمَاعِ، وَمَنَعَهُ
فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْقَاضِي لاَ تَخْلُو عَنْ ثَلاَثَةِ
أَحْوَالٍ:
قِسْمٌ يُنْقَضُ بِكُل حَالٍ، وَقِسْمٌ يُمْضَى بِكُل حَالٍ، وَقِسْمٌ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا يُنْقَضُ مِنَ الأَْحْكَامِ:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَقْضُ
الْحُكْمِ إِذَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ
الإِْجْمَاعَ (2) .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ: مَا يَشِذُّ مَدْرَكُهُ أَيْ
دَلِيلُهُ، أَوْ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ، أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ،
وَقَيَّدَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْل
__________
(1) ابن عابدين بتصرف 5 / 394.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 56، 57، وكشاف القناع 6 / 315، والمبسوط للسرخسي
16 / 84، ومغني المحتاج 4 / 396 وما بعدها، وتبصرة الحكام 1 / 70 وما
بعدها، وبدائع الصنائع 7 / 14، والمادة (14) من مجلة الأحكام العدلية،
ونهاية المحتاج للرملي 8 / 258، والقواعد الفقهية لابن جزي ص 194.
(41/153)
الْعُلَمَاءِ: إِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي
يُنْقَضُ إِذَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ أَوِ الْقِيَاسَ أَوِ النَّصَّ -
فَالْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا،
فَإِنْ كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ فَلاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَقَالُوا: إِذَا
كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلإِْجْمَاعِ فَلاَ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ
وَيَجِبُ نَقْضُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ
لِلأَْخِ دُونَ الْجَدِّ، فَهَذَا خِلاَفُ الإِْجْمَاعِ، لأََنَّ
الأُْمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْمَال كُلُّهُ لِلْجَدِّ أَوْ يُقَاسِمُ
الأَْخَ، وَأَمَّا حِرْمَانُ الْجَدِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَقُل بِهِ
أَحَدٌ مِنَ الأُْمَّةِ (1) .
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ
أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ
الْجَلِيَّ، أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّحْقِيقِ -
نُقِضَ بِهِ حُكْمُهُ وَحُكْمُ غَيْرِهِ؛ (2) لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَدَل عَنِ اجْتِهَادٍ فِي دِيَةِ
الْجَنِينِ حِينَ أَخْبَرَهُ حَمْل بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ (3)
.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 70، والشرح الصغير 4 / 225، 226، وأدب القاضي
للماوردي 1 / 682.
(2) أدب القاضي للماوردي 1 / 682 - 689.
(3) حديث: " أن عمر عدل عن اجتهاده في دية الجنين. . . ". أخرجه أبو داود 4
/ 698، 699 ط حمص) ، والحاكم (3 / 575 ط دائرة المعارف العثمانية) .
(41/154)
وَكَانَ لاَ يُوَرِّثُ امْرَأَةً مِنْ
دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ
الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَوَرَّثَهَا عُمَرُ (1) .
وَقَضَى فِي الأَْصَابِعِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَفِي كُل أُصْبُعٍ مِمَّا
هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (2) ، وَنَقَضَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَضَاءَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُِمٍّ -
بِأَنَّ الْمَال لِلأَْخِ (3) مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو
الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ (4) } فَقَال لَهُ عَلِيٌّ: قَال
اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (5) }
فَيَحْتَمِل أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَقَضَ ذَلِكَ الْحُكْمَ
لِمُخَالَفَةِ نَصِّ هَذِهِ الآْيَةِ (6) . فَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ لَمْ
يَظْهَرْ لَهَا فِي الصَّحَابَةِ
__________
(1) حديث: " أن عمر كان لا يورث امرأة من دية زوجها. . . ". أخرجه الترمذي
(4 / 27 ط الحلبي) ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) حديث: " في كل أصبع مما هنالك. . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9 /
385 ط المجلس العلمي) .
(3) مغني المحتاج 4 / 396.
(4) سورة الأحزاب / 6.
(5) سورة النساء / 12.
(6) المغني 9 / 57، 58. .
(41/154)
مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إِجْمَاعًا،
وَلأَِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَصْل الإِْجْمَاعِ (1) . وَقَال
النَّوَوِيُّ: إِنْ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ خَالَفَ قَطْعِيًّا
كَنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ ظَنًّا
مُحْكَمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَيَلْزَمُهُ
نَقْضُ حُكْمِهِ، أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ
أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ، فَلْيَحْكُمْ فِيمَا
يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَخَوَاتِ الْحَادِثَةِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا،
وَلاَ يَنْقُضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلاً، بَل يُمْضِيهِ، ثُمَّ مَا نَقَضَ
بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لاَ فَلاَ،
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَتَتَبَّعُ قَضَاءَ
غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، وَلَهُ تَتَبُّعُ
قَضَاءِ نَفْسِهِ لِيَنْقُضَهُ.
وَقَال: مَا يَنْقُضُ مِنَ الأَْحْكَامِ لَوْ كُتِبَ بِهِ إِلَيْهِ لاَ
يَخْفَى أَنَّهُ لاَ يَقْبَلُهُ وَلاَ يُنَفِّذُهُ. وَأَمَّا مَا لاَ
يَنْقُضُ وَيَرَى غَيْرَهُ أَصْوَبَ مِنْهُ فَنَقَل ابْنُ كَجٍّ عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلاَ يُنَفِّذُهُ لأَِنَّهُ
إِعَانَةٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ خَطَأً، وَقَال ابْنُ الْقَاصِّ: لاَ
أُحِبُّ تَنْفِيذَهُ. وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِتَجْوِيزِ تَنْفِيذِهِ.
وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ (الشَّافِعِيُّ) بِنَقْل الْخِلاَفِ فَقَال:
إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ قَبْلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ مَا
يَقْتَضِي النَّقْضَ، لَكِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى غَيْرِهِ
فَوَجْهَانِ:
__________
(1) أدب القاضي للمارودي 1 / 684 - 689.
(41/155)
أَحَدُهُمَا: يُعْرِضُ عَنْهُ،
وَأَصَحُّهُمَا: يُنْفِذُهُ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَل، كَمَا لَوْ حَكَمَ
بِنَفْسِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ تَغَيُّرًا لاَ يَقْتَضِي
النَّقْضَ، وَتَرَافَعَ الْخُصُومُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ
الأَْوَّل وَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ
مِنْهُ (1) .
وَيَرَى فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ
الْكِتَابِ مُخَالَفَةُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفِ
السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (2) } فَإِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا
عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ امْرَأَةِ الأَْبِ وَجَارِيَتِهِ الَّتِي
وَطِئَهَا الأَْبُ، فَلَوْ حَكَمَ قَاضٍ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقَضَهُ مَنْ
رُفِعَ إِلَيْهِ.
وَإِنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ
الْمَشْهُورَةِ كَالْحُكْمِ بِحِل الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لِلزَّوْجِ
الأَْوَّل بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ إِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي،
فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الدُّخُول ثَابِتٌ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ (3) .
وَالْمُرَادُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ
أَيْ جُل النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، وَمُخَالَفَةُ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 150، 152، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 258 ط دار
الفكر.
(2) سورة النساء / 22.
(3) حديث العسيلة. أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 464 ط السلفية) ، ومسلم
(2 / 1056 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(41/155)
الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لأَِنَّ
ذَلِكَ خِلاَفٌ لاَ اخْتِلاَفٌ، وَقَالُوا: يُنْقَضُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ
إِذَا كَانَ حُكْمًا لاَ دَلِيل عَلَيْهِ قَطْعًا (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لاَ يُنْقَضُ مِنَ الأَْحْكَامِ:
15 - لاَ يُنْقَضُ مِنَ الأَْحْكَامِ كُل حُكْمٍ وَافَقَ نَصًّا مِنْ
كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا يَسُوغُ
فِيهِ الاِجْتِهَادُ، فَإِذَا أَصَابَ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَالأَْصْل
أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ كَمَا إِذَا حَكَمَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ
الاِجْتِهَادُ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ
بِهِ نَافِذًا، لاَ يُتَعَقَّبُ بِفَسْخٍ وَلاَ نَقْضٍ، لأَِنَّ هَذَا
الْقَضَاءَ حَصَل فِي مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ فَنَفَذَ، وَلَزِمَ عَلَى
وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ إِبْطَالُهُ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، وَيَنْزِل الْقُرْآنُ بِغَيْرِ مَا قَضَى،
فَيَسْتَقْبِل حُكْمَ الْقُرْآنِ وَلاَ يَرُدُّ قَضَاءَهُ الأَْوَّل (2) ،
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) العناية على الهداية 5 / 487، 492، وشرح المجلة لعلي حيدر 4 / 632،
وتبيين الحقائق 4 / 188 وانظر روضة القضاة 1 / 319، 320.
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بالقضاء. . . ". أورده
ابن مفلح في الفروع 6 / 456، وعزاه إلى سعيد بن منصور.
(41/156)
" أَنَّهُ حَكَمَ بِحِرْمَانِ الإِْخْوَةِ
الأَْشِقَّاءِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي الْمُشْرِكَةِ، ثُمَّ شَرَّكَ بَعْدَ
ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُضْ قَضَاءَهُ الأَْوَّل، فَلَمَّا قِيل لَهُ فِي
ذَلِكَ قَال: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي "،
وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَرُدَّ الأُْولَى،
وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي
إِلَى أَنْ لاَ يَثْبُتَ الْحُكْمُ أَصْلاً، لأَِنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ
يُخَالِفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالثَّالِثُ يُخَالِفُ الثَّانِيَ، فَلاَ
يَثْبُتُ الْحُكْمُ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَوْ قَضَى عَلَى خِلاَفِ قِيَاسٍ
خَفِيٍّ - وَهُوَ مَا لاَ يُزِيل احْتِمَال الْمُفَارَقَةِ وَلاَ يَبْعُدُ
كَقِيَاسِ الأُْرْزِ عَلَى الْبُرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِعِلَّةِ
الطَّعَامِ - فَلاَ يَنْقُضُ الْحُكْمُ الْمُخَالِفَ لَهُ، لأَِنَّ
الظُّنُونَ الْمُتَعَادِلَةَ لَوْ نَقَضَ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمَا
اسْتَمَرَّ حُكْمٌ وَلَشَقَّ الأَْمْرُ عَلَى النَّاسِ.
قَال الشَّافِعِيُّ: مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ الْحُكَّامِ فَقَضَى
بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ رَأَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ خَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ
يَحْتَمِل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَيَحْتَمِل غَيْرَهُ لَمْ يَرُدَّهُ،
وَحَكَمَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ بِالَّذِي هُوَ أَصْوَبُ (1) .
__________
(1) أدب القاضي للماوردي 1 / 682، 686، وأدب القاضي للخصاف شرح ابن مازه 1
/ 224، والمبسوط للسرخسي 16 / 84، 85، ومغني المحتاج 4 / 396، والقوانين
الفقهية لابن جزي ص 194، والمغني 9 / 257، والأم 8 / 407 ط دار المعرفة.
(41/156)
وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ
الْحُكْمِ فِي مَحَل الاِجْتِهَادِ وَالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ.
فَالْحُكْمُ فِي مَحَل الاِجْتِهَادِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِي
الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ
الْمَحْدُودِينِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَكَانَ الْقَاضِي يَرَى
سَمَاعَ شَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لاَ يَرَى
ذَلِكَ يُمْضِيهِ وَلاَ يَنْقُضْهُ. وَكَذَا لَوْ قَضَى لاِمْرَأَةٍ
بِشَهَادَةِ زَوْجِهَا وَآخَرَ أَجْنَبِيٍّ، فَرُفِعَ لِمَنْ لاَ يُجِيزُ
هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَمْضَاهُ، لأَِنَّ الأَْوَّل قَضَى بِمُجْتَهَدٍ
فِيهِ فَيَنْفُذُ، لأَِنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ
أَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلاَءِ هَل تَصِيرُ حُجَّةً لِلْحُكْمِ أَوْ لاَ؟
فَالْخِلاَفُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْحُكْمِ لاَ فِي نَفْسِ
الْحُكْمِ (1) .
وَفَصَّلُوا مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ، فَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ فِي
فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا
عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِي
كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحَل
الاِجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ
الْمَقْضِيَّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، فَرُفِعَ إِلَى
قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَنْقُضْهُ الثَّانِي بَل يُنْفِذُهُ لِكَوْنِهِ قَضَاءً
مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، لِمَا عُلِمَ أَنَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 394.
(41/157)
النَّاسَ عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي
الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ
الأَْقْوَال الَّذِي مَال إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاءً
مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَلَوْ نَقَضَهُ إِنَّمَا يَنْقُضُهُ
بِقَوْلِهِ، وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلاَ يَجُوزُ
نَقْضُ مَا صَحَّ بِالاِتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ،
وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَل اجْتِهَادِيٌّ،
وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الأَْوَّل ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ
وَهُوَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ
لَهُ، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ
شُبْهَةٌ، وَلأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْل بِلُزُومِ الْقَضَاءِ
الْمَبْنِيِّ عَلَى الاِجْتِهَادِ وَأَنْ لاَ يَجُوزَ نَقْضُهُ، لأَِنَّهُ
لَوْ جَازَ نَقْضُهُ بِرَفْعِهِ إِلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلاَفَ رَأْيِ
الأَْوَّل فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ
يَرَى خِلاَفَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي
كَمَا قَضَى الأَْوَّل، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ لاَ تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ
وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ فَسَادٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى
الْفَسَادِ فَسَادٌ.
فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي رَدَّ الْحُكْمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ
ثَالِثٍ - نُفِّذَ قَضَاءُ الأَْوَّل وَأُبْطِل قَضَاءُ الْقَاضِي
الثَّانِي، لأَِنَّهُ لاَ مَزِيَّةَ لأَِحَدِ الاِجْتِهَادَيْنِ عَلَى
الآْخَرِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الأَْوَّل بِاتِّصَال الْقَضَاءِ بِهِ فَلاَ
يُنْتَقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، كَمَا أَنَّ قَضَاءَ الأَْوَّل كَانَ فِي
مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ
بِالإِْجْمَاعِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ مِنَ
(41/157)
الثَّانِي مُخَالِفًا لِلإِْجْمَاعِ،
فَيَكُونُ بَاطِلاً، وَلأَِنَّهُ لاَ يُنْقَضُ الاِجْتِهَادُ
بِالاِجْتِهَادِ، وَالدَّعْوَى مَتَى فَصَلَتْ مَرَّةً بِالْوَجْهِ
الشَّرْعِيِّ لاَ تُنْتَقَضُ وَلاَ تُعَادُ، فَيَكُونُ قَضَاءُ الأَْوَّل
صَحِيحًا، وَقَضَاءُ الثَّانِيَ بِالرَّدِّ بَاطِلاً (1) وَشَرْطُ نَفَاذِ
الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي حَادِثَةٍ وَدَعْوَى
صَحِيحَةٍ، فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَ فَتْوَى لاَ حُكْمًا (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ نَفْسُهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ، أَوْ كَانَ فِي
مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَل الاِجْتِهَادِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّازِلَةِ مَوْضُوعِ
الدَّعْوَى يَرْفَعُ الْخِلاَفَ، فَلاَ يَجُوزُ لِمُخَالِفٍ فِيهَا
نَقْضُهَا، فَإِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ عَقْدٍ أَوْ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ
يَرَى ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِقَاضٍ غَيْرِهِ وَلاَ لَهُ نَقْضُهُ، وَهَذَا
فِي الْخِلاَفِ الْمُعْتَبَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ (3) . وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 14، وتبيين الحقائق على الكنز 4 / 188، وروضة القضاة
1 / 323، وفتح القدير 5 / 487، 490، وأدب القاضي للخصاف بشرح ابن مازه 1 /
224، والعقود الدرية لابن عابدين 1 / 298.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 117 ط الفكر بدمشق.
(3) الدسوقي 4 / 155، 156.
(41/158)
خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ
وَأَنَّهُ الصَّوَابُ فَلاَ يَنْقُضُ حُكْمَهُ، بَل يُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ
فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَقْضِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ:
الأَْحْكَامُ الَّتِي يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْل
بِنَقْضِهَا وَالْقَوْل بِعَدَمِ النَّقْضِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَيَتَعَذَّرُ
حَصْرُهَا، وَأَهَمُّهَا:
أ - الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ:
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ: هُوَ مَا يَقَعُ
الْخِلاَفُ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ الْحُكْمِ، فَقِيل: يَنْفُذُ، وَقِيل:
يَتَوَقَّفُ عَلَى إِمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ (2) فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي
الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الأَْوَّل إِذَا مَال اجْتِهَادُهُ إِلَى
خِلاَفِ اجْتِهَادِ الأَْوَّل، لأَِنَّ قَضَاءَهُ لَمْ يُجَزْ بِقَوْل
الْكُل، بَل بِقَوْل الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ
مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَكَانَ مُحْتَمِلاً لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ
أَبْطَلَهُ الثَّانِي بَطَل، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يُجِيزَهُ كَمَا لَوْ
قَضَى لِوَلَدِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ لاِمْرَأَتِهِ، لأََنَّ نَفْسَ
الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
أَمَّا إِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَكَمَ
فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلثَّالِثِ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 151.
(2) ابن عابدين 5 / 394.
(41/158)
نَقْضُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ
فِي مَحَلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحَل الاِجْتِهَادِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَل الاِجْتِهَادِ
كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
يَنْفُذُ؛ لأَِنَّهُ مَحَل الاِجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ
الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ يَنْفُذُ
لِوُقُوعِ الاِتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ
عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَخَرَجَ عَنْ مَحَل الاِجْتِهَادِ،
وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الإِْجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ لاَ يَرْفَعُ
الْخِلاَفَ الْمُتَقَدِّمَ - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ -
أَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَرَى أَنَّ الإِْجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ
الْخِلاَفَ الْمُتَقَدِّمَ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْل مُخْتَلَفًا فِي
كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي
أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلاَ يَرُدُّهُ، وَإِنْ
كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الاِجْتِهَادِ وَصَارَ
مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لاَ يَنْفُذُ، بَل يَنْقُضُهُ لأَِنَّ قَضَاءَ
الأَْوَّل وَقَعَ مُخَالِفًا لِلإِْجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلاً (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ - فِيمَا
يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ - فَحَكَمَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ،
ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ أَنَّ الصَّوَابَ خِلاَفُهُ فَلاَ
يَنْقُضُهُ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي
لَكَانَ لَهُ نَقْضُ الثَّانِي
__________
(1) البدائع 7 / 14، 15.
(41/159)
وَالثَّالِثِ وَلاَ يَقِفُ عَلَى حَدٍّ،
وَلاَ يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ،
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ،
فَقَالُوا: يُفْسَخُ الْحُكْمُ (1) .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا سَبَقَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاضِي
حَكَمَ بِقَضِيَّةٍ فِيهَا اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَوَافَقَ
قَوْلاً شَاذًّا نَقَضَ حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا لَمْ
يَنْقُضْ حُكْمَهُ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ ابْنَ
الْقَاسِمِ يَقُول: الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَيَرْفَعُ
أَمْرَهُ إِلَى مَنْ لاَ يَرَى الْبَتَّةَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً،
فَتَزَوَّجَهَا قَبْل أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ - أَنَّهُ يُفَرِّقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَسْتُ أَرَاهُ، لاَ
يَرْجِعُ الْقَاضِي عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ وَلاَ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ
مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الأَْوْلَى خَطَأً بَيِّنًا صُرَاحًا (2) . وَذَهَبَ
الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي
الْمُسْتَنِدِ إِلَى اجْتِهَادِهِ الْمُخَالِفِ خَبَرَ الْوَاحِدِ
الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لاَ يَحْتَمِل إِلاَّ تَأْوِيلاً بَعِيدًا
يَنْبُو الْفَهْمُ عَنْ قَبُولِهِ - يُنْقَضُ، وَقِيل: لاَ يُنْقَضُ،
مِثَالُهُ الْقَضَاءُ بِنَفْيِ خِيَارِ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 72، 2 / 57 ط دار الكتب العلمية، والمعيار للونشريسي
9 / 302، 303، وأدب القاضي للماوردي 1 / 682، وروضة الطالبين 11 / 150،
151، ومغني المحتاج 4 / 396، والمغني 9 / 56.
(2) تبصرة الحكام 1 / 71.
(41/159)
الْمَجْلِسِ - عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ -
وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بِلاَ وَلِيٍّ. وَقِيل: الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ
يُنْقَضُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ، وَصَحَّحَهُ فِي
الرَّوْضَةِ (1) ، وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ
قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ، ثُمَّ بَانَ
لَهُ فَسَادُ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمُسْتَقْبَل إِلاَّ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ دُونَ
الأَْوَّل، وَلَوْ بَانَ لَهُ فَسَادُ الاِجْتِهَادِ قَبْل تَنْفِيذِ
الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِالاِجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الأَْوَّل،
قِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِنْ بَانَ لَهُ
بِالاِجْتِهَادِ خَطَأُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اجْتِهَادِهِ قَبْل صَلاَتِهِ
عَمِل عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي دُونَ الأَْوَّل، وَإِنْ بَانَ لَهُ
بَعْدَ صَلاَتِهِ لَمْ يُعِدْ، وَصَلَّى، وَاسْتَقْبَل الصَّلاَةَ
الثَّانِيَةَ بِالاِجْتِهَادِ الثَّانِي (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا رَفَعَ إِلَى قَاضٍ حَكَمَ فِي
مُخْتَلَفٍ فِيهِ لاَ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لِيُنَفِّذَهُ لَزِمَهُ
تَنْفِيذُهُ فِي الأَْصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الْمَرْفُوعُ إِلَيْهِ
صَحِيحًا، لأَِنَّهُ حُكْمٌ سَاغَ الْخِلاَفُ فِيهِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ
حَاكِمٌ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ
نَفْسُ الْحُكْمِ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَحُكْمِهِ بِعِلْمِهِ (3) ، وَقِيل:
يَحْرُمُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي لاَ يَرَى
صِحَّةَ الْحُكْمِ، وَفِي
__________
(1) أدب القاضي لابن أبي الدم الحموي ص 164، 165.
(2) أدب القاضي للماوردي 1 / 682، وانظر الحاوي الكبير 20 / 239، 240.
(3) كشاف القناع 6 / 359.
(41/160)
الْمُحَرَّرِ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ قَبْلَهُ (1) .
ب - عَدَمُ عِلْمِ الْقَاضِي بِاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ:
17 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ
نَفَّذَهُ، أَيْ: أُلْزِمَ الْحُكْمَ وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ، لَوْ
مُجْتَهِدًا فِيهِ عَالِمًا بِاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ لَمْ
يَعْلَمْ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ، وَلاَ يُمْضِيهِ الثَّانِي فِي ظَاهِرِ
الْمَذْهَبِ، لَكِنْ فِي الْخُلاَصَةِ: وَيُفْتَى بِخِلاَفِهِ -
وَكَأَنَّهُ - تَيْسِيرًا (2) .
وَأَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا قَضَى الْمُجْتَهِدُ فِي حَادِثَةٍ،
لَهُ فِيهَا رَأْيٌ مُقَرَّرٌ قَبْل قَضَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ
الَّتِي قَصَدَ فِيهَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، فَحَصَل حُكْمُهُ فِي
الْمَحَل الْمُخْتَلَفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ
قَضَاءَهُ هَذَا عَلَى خِلاَفِ رَأْيِهِ الْمُقَرَّرِ قَبْل هَذِهِ
الْحَادِثَةِ فَحِينَئِذٍ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ
قَضَاؤُهُ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ حَال قَضَائِهِ
أَنَّ فِيهَا خِلاَفًا، فَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ
بِأَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ حُكْمُ الْقَاضِي
بِعَدَمِ عِلْمِهِ الْخِلاَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لأَِنَّ
__________
(1) الفروع لابن مفلح 6 / 493.
(2) الدر المختار 5 / 393 - 395 ط الحلبي.
(3) ابن عابدين 5 / 395، 396، وانظر فتح القدير 5 / 488.
(41/160)
عِلْمَهُ بِالْخِلاَفِ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي
صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلاَ بُطْلاَنِهِ حَيْثُ وَافَقَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ
(1) .
ج - الْخَطَأُ فِي الْحُكْمِ:
18 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَصَدَ الْحُكْمَ
بِشَيْءٍ فَأَخْطَأَ عَمَّا قَصَدَهُ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوِ
اشْتِغَال بَالٍ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ،
أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَيَنْقُضُهُ الَّذِي أَصْدَرَهُ دُونَ
غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا حَكَمَ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ مِنْ
غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلاَ اجْتِهَادٍ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا
لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةً
وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَوَجْهُ
النَّفَاذِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ لأَِنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِل
الْخَطَأَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ، وَرَأْيُ
غَيْرِهِ يَحْتَمِل الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأً،
فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً
فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ
أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ، فَلاَ
يُعْتَبَرُ. وَبِهَذَا أَخَذَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الأَْوْزَجَنْدِيُّ،
وَبِالأَْوَّل أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ.
__________
(1) كشاف القناع 6 / 326، 327.
(2) الدسوقي 4 / 154 وما بعدها، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 194،
والمعيار للونشريسي 9 / 303.
(41/161)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ
يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لأَِنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ
(1) .
د - إِذَا خَالَفَ مَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ:
19 - إِذَا خَالَفَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ مَذْهَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ،
وَبِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا وَقَضَى فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ مُخَالِفًا
لِمَذْهَبِهِ أَوْ رَأْيِ مُقَلَّدِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ هُوَ
حُكْمَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقَلِّدُ غَيْرَ
مُتَبَحِّرٍ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ لِلْمُعْتَمَدِ عِنْدَ أَهْل
الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ
يُنْقَضْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي مُتَّبِعًا لإِِمَامٍ
فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أَوْ قَلَّدَ مَنْ
هُوَ أَعْلَمُ أَوْ أَتْقَى مِنْهُ فَحَسَنٌ، وَلَمْ يُقْدَحْ فِي
عَدَالَتِهِ (3) .
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 491، وروضة القضاة 1 / 319، 320، وانظر شرح مجلة
الأحكام العدلية 4 / 552.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 278، وابن عابدين 5 / 407، ومغني المحتاج
4 / 396، والدسوقي 4 / 155، 156.
(3) كشاف القناع 6 / 293.
(41/161)
وَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ
الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَل
بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ خِلاَفَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي أُمِرَ بِالْعَمَل
بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي الْمَسَائِل الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، فَإِنْ عَمِل
وَحَكَمَ لاَ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ، لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ
لَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ الرَّأْيَ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي
قَاضِيًا لِلْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْمَذْكُورِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ
وَالْمُقَلِّدَ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ثُمَّ جَدَّتْ أُخْرَى
مُمَاثِلَةً فَإِنَّ حُكْمَهُ لاَ يَتَعَدَّى لِلدَّعْوَى الأُْخْرَى،
فَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فِي النَّازِلَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالْمُقَلِّدُ
يَحْكُمُ بِمَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلاً مِنْ رَاجِحِ قَوْل مُقَلَّدِهِ،
وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ أَنْ يَحْكُمَ بِضِدِّهِ، كَمَا
لَوْ حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحِ مَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلاَ وَلِيٍّ،
ثُمَّ تَجَدَّدَ مِثْلُهَا، فَنَظَرَهَا قَاضٍ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ
بِدُونِ وَلِيٍّ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا
ارْتَفَعَ فِيهَا الْخِلاَفُ وَلَمْ يَجُزْ لأَِحَدٍ نَقْضُهُ، حَتَّى
وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْقَضِيَّةِ الأُْولَى هِيَ ذَاتَ
الْمَرْأَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ (2) .
وَإِذَا خَالَفَ الْقَاضِي مَا يَعْتَقِدُهُ: بِأَنْ حَكَمَ بِمَا لاَ
يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لاِعْتِقَادِهِ
__________
(1) شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر 4 / 548 تعليقا على المادة 1801 من
المجلة، وانظر ص 552.
(2) الشرح الصغير 4 / 229.
(41/162)
بُطْلاَنَهُ، فَإِنِ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا
وَقْتَ الْحُكْمِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَلاَ نَصَّ وَلاَ
إِجْمَاعَ لَمْ يَنْقُضْهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ
(1) .
هـ - صُدُورُ الْحُكْمِ مِنْ قَاضٍ لاَ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ:
20 - إِذَا وَلِيَ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ لِجَهْلٍ أَوْ نَحْوِهِ
فَهَل تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا، مَا أَصَابَ فِيهَا وَمَا أَخْطَأَ،
أَمْ يَقْتَصِرُ النَّقْضُ عَلَى الأَْحْكَامِ الَّتِي يَشُوبُهَا
الْخَطَأُ؟
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ
أَحْكَامَهُ كُلَّهَا تُنْقَضُ وَإِنْ أَصَابَ فِيهَا، لأَِنَّهَا صَدَرَتْ
مِمَّنْ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، لَكِنَّ صَاحِبَ مُغْنِي الْمُحْتَاجِ
اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَلاَّهُ ذُو شَوْكَةٍ بِحَيْثُ يُنَفَّذُ
حُكْمُهُ مَعَ الْجَهْل، أَوْ نَحْوِهِ، وَقَال: إِنَّهُ لاَ يُنْقَضُ مَا
أَصَابَ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ
تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ الْمُخَالِفَةُ لِلصَّوَابِ كُلُّهَا، سَوَاءٌ
أَكَانَتْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ أَمْ لاَ يَسُوغُ، لأَِنَّ
حُكْمَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَضَاؤُهُ كَعَدَمِهِ، لأَِنَّ شَرْطَ
الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَوَفِّرٍ فِيهِ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 478.
(2) مغني المحتاج 4 / 397، وروضة الطالبين 11 / 151، والمغني لابن قدامة 9
/ 58، وكشاف القناع 6 / 327، والشرح الصغير 4 / 220.
(41/162)
وَلَيْسَ فِي نَقْضِ قَضَايَاهُ نَقْضُ
الاِجْتِهَادِ بِالاِجْتِهَادِ؛ لأَِنَّ الأَْوَّل لَيْسَ بِاجْتِهَادٍ.
وَلاَ يُنْقَضُ مَا وَافَقَ الصَّوَابَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي
نَقْضِهِ، فَإِنَّ الْحَقَّ وَصَل إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَالْحَقُّ إِذَا
وَصَل إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ لَمْ
يُغَيَّرْ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِقَضَاءٍ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَنَقَل ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الْمَالِكِيَّةِ
أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ
يُشَاوِرُ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ
يُشَاوِرُهُمْ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِنْ شَاوَرَ
الْعُلَمَاءَ مَضَى قَطْعًا وَلَمْ يُتَعَقَّبْ حُكْمُهُ (1) .
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ
الْحَنَابِلَةِ الْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِ إِلاَّ
مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ هَذَا
عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ مِنْ زَمَنٍ وَلاَ يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُهُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِخِلاَفِ الشَّرْعِ
الشَّرِيفِ وَأَعْطَى بِذَلِكَ حُجَّةً لاَ يُنَفَّذُ الْحُكْمُ
الْمَذْكُورُ وَلاَ يُعْمَل بِالْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 220، 221، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 194، 195،
وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 73، والقواعد لابن رجب ص 122.
(2) الإنصاف 11 / 225، 226.
(41/163)
بِمَا أَنْزَل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (1) } وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: الْقُضَاةُ
ثَلاَثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ (2) أَيْ قَاضٍ
عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ
الْحَقَّ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكَذَا قَاضٍ قَضَى
عَلَى جَهْلٍ (3) .
و صُدُورُ حُكْمٍ مِنْ قَاضٍ جَائِرٍ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا
الْقَاضِي إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْجَوْرِ وَكَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فِي
حَالِهِ وَسِيرَتِهِ - عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلاً، ظَهَرَ جَوْرُهُ أَوْ
خَفِيَ - هَل تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا جَانَبَ الصَّوَابَ وَمَا
وَافَقَهُ، أَمْ تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ الْخَاطِئَةُ دُونَ غَيْرِهَا؟
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا -
إِلَى وُجُوبِ نَقْضِ أَحْكَامِهِ كُلِّهَا، صَوَابًا كَانَتْ أَوْ خَطَأً،
لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ حَيْفُهُ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا ظَهَرَ الصَّوَابُ
وَالْعَدْل فِي قَضَائِهِ، وَكَانَ بَاطِنُ أَمْرِهِ فِيهِ جَوْرٌ،
وَلَكِنْ عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ حُكْمَهُ فِيهَا صَوَابٌ، وَشَهِدَ
بِذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْقَضَايَا،
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حديث: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 5 ط
حمص) ، والترمذي (3 / 613 ط الحلبي) من حديث بريدة واللفظ لأبي داود.
(3) العقود الدرية 1 / 297.
(41/163)
فَإِنَّ أَحْكَامَهُ تَمْضِي وَلاَ
تُنْقَضُ، لأَِنَّهَا إِذَا نُقِضَتْ وَقَدْ مَاتَتِ الْبَيِّنَةُ
وَانْقَطَعَتِ الْحُجَّةُ كَانَ ذَلِكَ إِبْطَالاً لِلْحَقِّ.
وَقَال أَصْبَغُ: إِنَّ أَقْضِيَةَ الْخُلَفَاءِ وَالأُْمَرَاءِ وَقُضَاةِ
السُّوءِ جَائِزَةٌ مَا عُدِل فِيهِ مِنْهَا، وَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا
تَبَيَّنَ فِيهِ جَوْرٌ أَوِ اسْتُرِيبَ، مَا لَمْ يُعْرَفِ الْقَاضِي
بِالْجَوْرِ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا.
وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ فِي الْقَاضِي غَيْرِ الْعَدْل ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ.
الثَّانِي: عَدَمُ نَقْضِهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي
إِسْمَاعِيل، وَعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يُحْمَل عَلَى
الصِّحَّةِ، مَا لَمْ يَثْبُتِ الْجَوْرُ، وَفِي التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ
ضَرَرٌ لِلنَّاسِ وَوَهَنٌ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَخْلُو
مِنْ أَعْدَاءٍ يَرْمُونَهُ بِالْجَوْرِ يُرِيدُونَ الاِنْتِقَامَ مِنْهُ
بِنَقْضِ أَحْكَامِهِ، فَيَنْبَغِي عَدَمُ تَمْكِينِهِمْ مِنْ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: رَأْيُ أَصْبَغَ، وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا
عَدَل فِيهِ وَلَمْ يُسْتَرَبْ فِيهِ، وَيُنْقَضْ مَا تَبَيَّنَ فِيهِ
الْجَوْرُ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُ مَنْ شَاعَ
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 30، والشرح الصغير 4 / 220، 221، والإنصاف 11 / 225.
(41/164)
جَوْرُهُ إِذَا أَثْبَتَ مَنِ ادَّعَى
عَلَيْهِ أَنَّهُ حَكَمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاضِي تَعَمَّدَ
الْجَوْرَ فِيمَا قَضَى وَأَقَرَّ بِهِ فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ
كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيُعَزَّرُ
الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ لاِرْتِكَابِهِ الْجَرِيمَةَ الْعَظِيمَةَ،
وَيُعْزَل عَنِ الْقَضَاءِ، وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا
غَلَبَ جَوْرُهُ وَرِشْوَتُهُ رُدَّتْ قَضَايَاهُ وَشَهَادَتُهُ (2) .
ز - الْحُكْمُ الْمَشُوبُ بِالْبُطْلاَنِ:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ
أَوْ لأَِحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ مَنْ لاَ
تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ -
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ
- نَقْضَ الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ بَاطِلاً لِمَكَانِ التُّهْمَةِ، بِخِلاَفِ
مَا إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ، فَيُنَفَّذُ حُكْمُهُ لاِنْتِفَاءِ
التُّهْمَةِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ
لِنَفْسِهِ أَوْ شَرِيكِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِل
__________
(1) الإنصاف 11 / 225، ومغني المحتاج 4 / 384، 385.
(2) ابن عابدين 5 / 418، 419، والفتاوى الهندية 3 / 342.
(41/164)
الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
مُقَابِل الصَّحِيحِ - أَنَّهُ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ،
لأَِنَّ الْقَاضِيَ أَسِيرُ الْبَيِّنَةِ، فَلاَ تَظْهَرُ مِنْهُ تُهْمَةٌ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ هُوَ
اعْتِرَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لاِبْنِهِ
أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ ذُكِرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ يَحْتَاجُ
إِلَى بَيِّنَةٍ فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ لَهُمْ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ
بِالتَّسَاهُل فِيهَا.
وَيُنْقَضُ الْحُكْمُ إِذَا أَثْبَتَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ
مِنْ وُجُودِ عَدَاوَةٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْقَاضِي، أَوْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ ابْنِهِ أَوْ أَحَدِ وَالِدَيْهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمَشْهُورُ فِي
الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَجَوَّزَ الْمَاوَرْدِيُّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ:
إِنَّ أَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ بِخِلاَفِ شَهَادَتِهِ عَلَى
عَدُوِّهِ (2) .
ح - الْحُكْمُ بِبَيِّنَةٍ فِيهَا خَلَلٌ:
23 - إِذَا كَانَ مَبْنَى الْحُكْمِ بَيِّنَةً لاَ شِيَةَ فِيهَا لَمْ
يَجُزْ نَقْضُ الْحُكْمِ، وَإِنِ اعْتَوَرَ الْبَيِّنَةَ مَا
__________
(1) فتح القدير 5 / 502، وابن عابدين 5 / 357، 358، وتبصرة الحكام 1 / 80،
81، والدسوقي 4 / 152، 154، وكشاف القناع 6 / 320، وشرح منتهى الإرادات 3 /
473.
(2) مغني المحتاج 4 / 393، وروضة الطالبين 11 / 145، 146، ونهاية المحتاج 8
/ 256، 257، والأحكام السلطانية ص 96.
(41/165)
يَعِيبُهَا، نُظِرَ: هَل يُؤَدِّي ذَلِكَ
إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ أَمْ لاَ؟ وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ عَلَى
الْوَجْهِ التَّالِي:
كَوْنُ الشَّاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ أَوْ صَغِيرَيْنِ:
24 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَقْضِ الْحُكْمِ إِذَا بُنِيَ
عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ظَهَرَ كَوْنُهُمَا كَافِرَيْنِ، أَوْ
صَغِيرَيْنِ فِيمَا عَدَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَحْصُل بَيْنَ الصِّغَارِ
بِشُرُوطِهَا - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا - (1) .
فِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ:
25 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ يُنْقَضُ
إِذَا ظَهَرَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ كَانَا قَبْل الْحُكْمِ غَيْرَ
عَدْلَيْنِ لِفِسْقِهِمَا.
وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ نَقْضَ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى
الْمَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَجُوزُ
لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِينَ لَكِنَّهُ إِذَا قَضَى
بِمُوجِبِهِمَا لاَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِلاَّ فِيمَا ذُكِرَ (2) .
__________
(1) المغني 9 / 56، والتبصرة 1 / 74، وابن عابدين 5 / 405، وأدب القضاة
لابن أبي الدم الحموي 1 / 167، والدسوقي 4 / 154، وروضة الطالبين 11 / 251.
(2) أدب القضاء 1 / 126، وكشاف القناع 6 / 360، والشرح الصغير 4 / 254،
وابن عابدين 5 / 480.
(41/165)
وَيَرَى ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي نَقْضُ الْحُكْمِ بِفِسْقِ
الشُّهُودِ إِلاَّ بِثُبُوتِهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِنْ حَكَمَ بِعِلْمِهِ
فِي عَدَالَتِهِمَا، أَوْ بِظَاهِرِ عَدَالَةِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُنْقَضُ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (1) وَيَرَى ابْنُ
قُدَامَةَ وَأَبُو الْوَفَاءِ أَنَّهُ إِذَا بَانَ فِسْقُ الشُّهُودِ قَبْل
الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ
لَمْ يَنْقُضْهُ (2) .
تَقْصِيرُ الْقَاضِي فِي الْكَشْفِ عَنِ الشُّهُودِ:
26 - إِذَا ادَّعَى الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ قَصَّرَ فِي
الْكَشْفِ عَنِ الشُّهُودِ وَأَتَى بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَةِ مَنْ
شَهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ بِمَا يَجْرَحُهُمْ
كَالْفِسْقِ، فَفِي نَقْضِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ
لِلإِْمَامِ مَالِكٍ، وَبِالنَّقْضِ قَال ابْنُ الْقَاسِمِ، وَبِعَدَمِهِ
قَال أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ (3) .
شَهَادَةُ الزُّورِ:
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ بِشَهَادَةِ
الزُّورِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِذَا كَانَ الْمَحَل قَابِلاً، وَالْقَاضِي
غَيْرُ عَالِمٍ بِزُورِهِمْ. وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ، وَالْفُسُوخِ كَالإِْقَالَةِ وَالطَّلاَقِ لِقَوْل عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتِلْكَ
__________
(1) الإنصاف 11 / 318، 319.
(2) المغني 9 / 58، الفروع لابن مفلح 6 / 495.
(3) تبصرة الحكام 1 / 80.
(41/166)
الْمَرْأَةِ: " شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ "
(1) ، وَقَال الصَّاحِبَانِ وَزُفَرُ: يَنْفُذُ ظَاهِرًا فَقَطْ،
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، لأَِنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ حُجَّةٌ ظَاهِرًا لاَ
بَاطِنًا، فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ
بِقَدْرِ الْحُجَّةِ.
أَمَّا إِذَا عَلِمَ الْقَاضِي بِكَذِبِ الشُّهُودِ فَلاَ يَنْفُذُ
حُكْمُهُ أَصْلاً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْقَضُ الْحُكْمُ إِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْحُكْمِ
كَذِبُهُمْ إِنْ أَمْكَنَ، وَذَلِكَ قَبْل الاِسْتِيفَاءِ، فَإِنْ لَمْ
يَثْبُتِ الْكَذِبُ إِلاَّ بَعْدَ الاِسْتِيفَاءِ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ
غُرْمُ الشُّهُودِ الدِّيَةَ أَوِ الْمَال، وَلاَ يَتَأَتَّى نَقْضُ
الْحُكْمِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الشُّهُودِ شُهُودَ زُورٍ
وَجَبَ نَقْضُ الْحُكْمِ (4) .
انْظُرْ: (شَهَادَة الزُّورِ ف 8 - 9) .
- الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ:
28 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْحُكْمِ إِذَا
رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ وَكَانَ رُجُوعُهُمْ بَعْدَ
الْحُكْمِ إِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ فِيهِ مِنَ الأَْمْوَال، أَمَّا إِنْ
كَانَ الْحُكْمُ فِي قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ
__________
(1) أثر: شاهداك زوجاك. . . ذكره ابن حجر في الفتح (13 / 176 ط السلفية)
وذكر أنه لم يثبت عن علي.
(2) ابن عابدين 5 / 405، 406.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 295، 296.
(4) كشاف القناع 6 / 447، والمغني 9 / 262.
(41/166)
أَوْ نَحْوِهِمَا، وَكَانَ رُجُوعُ
الشُّهُودِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ
لِحُرْمَةِ الدَّمِ وَلِقِيَامِ الشُّبْهَةِ، وَإِذَا كَانَ بَعْدَ
الاِسْتِيفَاءِ فَلاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَيُلْزَمُ الشُّهُودُ
بِالضَّمَانِ أَوِ الْقَصَاصِ حَسَبَ الأَْحْوَال (1) .
وَتَفْصِيل مَا يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الشُّهُودِ فِي الأَْمْوَال
وَالْجِنَايَاتِ وَغَيْرِهَا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (شَهَادَة ف 48،
وَرُجُوع ف 37، وَضَمَان ف 142) .
شَهَادَةُ الأَْصْل لِفَرْعِهِ وَعَكْسُهُ وَأَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
لِلآْخَرِ:
29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْصْل
لِفَرْعِهِ، وَالْفَرْعُ لأَِصْلِهِ.
وَيَرَى الْجُمْهُورُ عَدَمَ قَبُول شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
لِلآْخَرِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِقَبُولِهَا
لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ أَنَّ الشَّاهِدَ ابْنُ
الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ وَالِدُهُ، وَالْقَاضِي لاَ يَرَى الْحُكْمَ بِهِ
نَقَضَهُ بَعْدَ إِثْبَاتِ السَّبَبِ وَلَمْ يُنَفِّذْهُ لأَِنَّهُ حُكْمٌ
بِمَا لاَ يَعْتَقِدُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَإِنْ
كَانَ يَرَى الْحُكْمَ بِهِ لَمْ يَنْقُضْهُ لأَِنَّهُ
__________
(1) الدسوقي 4 / 206، 207، والمغني 9 / 245، 248، وابن عابدين 5 / 504،
ومغني المحتاج 4 / 334.
(41/167)
يَحْكُمُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ
اجْتِهَادُهُ فِيمَا هُوَ سَائِغٌ فِيهِ، أَشْبَهَ بَاقِيَ مَسَائِل
الْخِلاَفِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا (1) .
شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ:
30 - لاَ يَخْتَلِفُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَدَاوَةَ
الدُّنْيَوِيَّةَ تَمْنَعُ مِنْ قَبُول الشَّهَادَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - عَلَى مَا جَاءَ فِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ نَقْلاً
عَنِ الْقِنْيَةِ - إِنَّ الْعَدَاوَةَ بِسَبَبِ الدُّنْيَا لاَ تَمْنَعُ
مَا لَمْ يَفْسُقْ بِسَبَبِهَا أَوْ يَجْلِبْ بِهَا مَنْفَعَةً أَوْ
يَدْفَعْ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً، وَمَا فِي الْوَاقِعَاتِ
وَغَيْرِهَا اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ
الْمَنْصُوصَةُ فَبِخِلاَفِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَدْلاً لاَ تُقْبَل
شَهَادَتُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ عَادَى مَنْ سَيَشْهَدُ عَلَيْهِ وَبَالَغَ
فِي خِصَامِهِ وَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ لَمْ تُرَدَّ
شَهَادَتُهُ لِئَلاَّ يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى رَدِّهَا، وَلَوْ
أَفْضَتِ الْعَدَاوَةُ إِلَى الْفِسْقِ رُدَّتْ مُطْلَقًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا ظَهَرَ بَعْدَ الْحُكْمِ أَنَّ
الشَّاهِدَ كَانَ عَدُوًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 168، والشرح الصغير 4 / 219، ومغني
المحتاج 4 / 434، وكشاف القناع 6 / 428، والبدائع 6 / 272.
(41/167)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَقَال
الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِي يَظْهَرُ عَدَمُ نَقْضِ الْحُكْمِ، كَمَا قَالُوا:
إِنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَلاَ
يَجُوزُ لَهُ، فَإِذَا قَضَى لاَ يُنْقَضُ، ثُمَّ قَال: وَهُوَ مُخَالِفٌ
لِمَا فِي الْيَعْقُوبِيَّةِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا عَدَمُ نَفَاذِ قَضَاءِ
الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ نَقْضَ الْحُكْمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى
مَا يَرَاهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مَقْبُولَةٌ أَوْ
غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي شَهَادَةِ الأَْصْل
وَالْفَرْعِ.
وَيَرَى الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ نَقْضَ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ (1) .
ط - الدَّفْعُ مِنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً لَمْ
يَعْلَمْهَا:
31 - إِذَا قَال الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ: لَدَيَّ بَيِّنَةٌ لَمْ
أَعْلَمْهَا قَبْل الْحُكْمِ وَطَلَبَ سَمَاعَهَا وَنَقْضَ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 446، والإنصاف 11 / 319، والبناية في شرح الهداية
للعيني 8 / 166 وما بعدها - طبع دار الفكر - بيروت -، وبدائع الصنائع 6 /
282 ط الخانجي، وابن عابدين 5 / 381، 480، ومجمع الأنهر 2 / 189، وروضة
الطالبين 11 / 126، 127، 151، 152، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 385،
وتبصرة الحكام 1 / 223، 225، والدسوقي 4 / 171، ومغني المحتاج 4 / 435.
(41/168)
الْحُكْمِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ
تُقْبَل دَعْوَاهُ وَلاَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، فَقَدْ سُئِل نَجْمُ
الدِّينِ النَّسَفِيُّ عَنْ رَجُلٍ ادَّعَى دَيْنًا فِي تَرِكَةِ مَيِّتٍ
وَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ فِي ذَلِكَ وَضَمِنَ لَهُ إِيفَاءَ الدَّيْنِ،
ثُمَّ ادَّعَى الْوَارِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ كَانَ قَضَى
الْمَال فِي حَيَاتِهِ وَأَرَادَ إِثْبَاتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، قَال:
لاَ تَصِحُّ دَعْوَاهُ وَلاَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، هَكَذَا فِي الْمُحِيطِ
(1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ،
قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يُسْمَعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِمَا
يُوجِبُ الْفَسْخَ فُسِخَ، وَقَال سَحْنُونٌ: لاَ يُسْمَعُ مِنْهَا، وَقَال
ابْنُ الْمَوَّازِ: إِنْ قَامَ بِهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي الْحَاكِمِ
نَقَضَهُ، وَإِنْ قَامَ عِنْدَ غَيْرِهِ لَمْ يَنْقُضْهُ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
بَيِّنَةً بَعْدَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَتَعْدِيلِهَا فَقَدْ أَقَامَهَا
فِي أَوَانِ إِقَامَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا حَتَّى قَضَى الْقَاضِي
لِلْمُدَّعِي وَسَلَّمَ الْمَال إِلَيْهِ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يُسْنِدِ
الْمِلْكَ إِلَى مَا قَبْل إِزَالَةِ الْيَدِ فَهُوَ الآْنَ مُدَّعٍ
خَارِجٌ، وَإِنْ أَسْنَدَهُ وَاعْتَذَرَ بِغَيْبَةِ الشُّهُودِ وَنَحْوِهَا
فَهَل تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَهَل تُقَدَّمُ بِالْيَدِ الْمُزَالَةِ
بِالْقَضَاءِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا نَعَمْ، وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ
الأَْوَّل لأَِنَّهَا إِنَّمَا أُزِيلَتْ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ
ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ، فَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْحُكْمِ
لِلْمُدَّعِي وَقَبْل التَّسْلِيمِ إِلَيْهِ سُمِعَتْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 66.
(2) تبصرة الحكام 1 / 80.
(41/168)
بَيِّنَتُهُ وَقُدِّمَتْ عَلَى الصَّحِيحِ
لِبَقَاءِ الْيَدِ حِسًّا (1) .
ي - إِذَا لَمْ يُعَيَّنِ الْقَاضِي مِنْ قِبَل وَلِيِّ الأَْمْرِ:
32 - إِذَا اتَّفَقَ أَهْل بَلَدٍ قَدْ خَلاَ مِنْ قَاضٍ عَلَى أَنْ
يُقَلِّدُوا عَلَيْهِمْ قَاضِيًا، فَإِنْ كَانَ إِمَامُ الْوَقْتِ
مَوْجُودًا بَطَل التَّقْلِيدُ، وَمِنْ ثَمَّ تَبْطُل جَمِيعُ أَحْكَامِهِ،
وَإِنْ كَانَ لَيْسَ ثَمَّةَ إِمَامٌ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَنُفِّذَتْ
أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَجَدَّدَ بَعْدَ نَظَرِهِ إِمَامٌ لَمْ
يَسْتَدِمِ النَّظَرَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ أَحْكَامِهِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاء ف 23) .
الْجِهَةُ الَّتِي تَنْقُضُ الْحُكْمَ:
33 - فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا نَقْضُ الْحُكْمِ: إِمَّا
أَنْ يَنْقُضَهُ الْقَاضِي الَّذِي أَصْدَرَهُ أَوْ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ
مِنَ الْقُضَاةِ، كَالْقَاضِي الَّذِي يُوَلَّى الْقَضَاءَ بَعْدَ غَيْرِهِ
فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ سَلَفِهِ، أَوْ كَالْقَاضِي الْمَكْتُوبِ
إِلَيْهِ لِتَنْفِيذِ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ وَلِيُّ الأَْمْرِ عَدَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ
لِلنَّظَرِ فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ، أَصْدَرَهُ مَنْ تَلْحَقُهُ
الشُّبْهَةُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) روضة الطالبين 12 / 59.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 72 الطبعة المحمودية، والأحكام السلطانية
لأبي يعلى ص 73 ط دار الكتب العلمية.
(41/169)
أ - نَقْضُ الْقَاضِي أَحْكَامَ نَفْسِهِ:
34 - الأَْصْل أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا حَكَمَ فَلَيْسَ لَهُ أَوْ
لِغَيْرِهِ نَقْضُ حُكْمِهِ إِلاَّ إِذَا خَالَفَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا،
لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ نَصُّوا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عَلَى أَنَّهُ
إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ وَهِمَ فِي قَضَائِهِ أَوْ نَسِيَ أَوْ قَضَى
بِخِلاَفِ رَأْيِهِ - وَهُوَ لاَ يَذْكُرُ - وَلَكِنْ عَلَى مَا قَضَى بِهِ
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً، فَيَنْقُضُهُ بِنَفْسِهِ
دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ،
خِلاَفًا لِلإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَقُول بِمُضِيِّ هَذَا
الْفَصْل وَلاَ يُرْجَعُ فِيهِ.
وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُل قَضَاءٍ لاَ يُعْرَفُ خَطَؤُهُ إِلاَّ مِنْ
جِهَتِهِ كَمُخَالَفَتِهِ لِرَأْيِهِ السَّابِقِ فَلاَ يَنْقُضُهُ سِوَاهُ،
مَا لَمْ تَشْهَدْ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، فَيَنْقُضُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ.
ب - نَقْضُ الْقَاضِي أَحْكَامَ غَيْرِهِ:
35 - لَيْسَ عَلَى الْقَاضِي تَتَبُّعُ قَضَاءِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ
لأَِنَّ الظَّاهِرَ صِحَّتُهَا، لَكِنْ إِنْ وَجَدَ فِيهَا مُخَالَفَةً
صَرِيحَةً نَقَضَهَا، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل مَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ
يَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ أَوْ يَنْقُضُ الْحُكْمَ مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ
قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لاَ فَلاَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا (1) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 278، وروضة القضاة 1 / 319، 323، وتبصرة
الحكام 1 / 71، 74، وروضة الطالبين 11 / 150، 151، والمغني 9 / 56، 57.
(41/169)
ج - نَقْضُ الأَْمِيرِ وَالْفُقَهَاءِ
حُكْمَ الْقَاضِي:
36 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي
بَعْضِ الأَْحْوَال جَمْعُ الْفُقَهَاءِ لِلنَّظَرِ فِي حُكْمِ الْقَاضِي،
فَقَدْ جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: قَال مُطَرِّفٌ: وَإِذَا
اشْتُكِيَ عَلَى الْقَاضِي فِي قَضِيَّةٍ حَكَمَ بِهَا وَرُفِعَ ذَلِكَ
إِلَى الأَْمِيرِ: فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَأْمُونًا فِي أَحْكَامِهِ
عَدْلاً فِي أَحْوَالِهِ بَصِيرًا بِقَضَائِهِ فَأَرَى أَنْ لاَ يَعْرِضَ
لَهُ الأَْمِيرُ فِي ذَلِكَ وَلاَ يَقْبَل شَكْوَى مَنْ شَكَاهُ وَلاَ
يُجْلِسَ الْفُقَهَاءَ لِلنَّظَرِ فِي قَضَائِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ
الْخَطَأِ إِنْ فَعَلَهُ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِنْ تَابَعُوهُ عَلَى
ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مُتَّهَمًا فِي أَحْكَامِهِ أَوْ غَيْرَ
عَدْلٍ فِي حَالِهِ أَوْ جَاهِلاً بِقَضَائِهِ فَلْيَعْزِلْهُ وَيُوَل
غَيْرَهُ. قَال مُطَرِّفٌ: وَلَوْ جَهِل الأَْمِيرُ فَأَجْلَسَ فُقَهَاءَ
بَلَدِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالنَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ وَجَهِلُوا
هُمْ أَيْضًا، أَوْ أُكْرِهُوا عَلَى النَّظَرِ فَنَظَرُوا فَرَأَوْا
فَسْخَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَفَسَخَهُ الأَْمِيرُ أَوْ رَدَّ قَضِيَّتَهُ
إِلَى مَا رَأَى الْفُقَهَاءُ، فَأَرَى لِمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا بَعْدَ
ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحُكْمِ الأَْوَّل، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا لاَ
اخْتِلاَفَ فِيهِ أَوْ كَانَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْل الْعِلْمِ أَوْ
مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الأَْئِمَّةُ الْمَاضُونَ فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ
فَحُكْمُهُ مَاضٍ وَالْفَسْخُ الَّذِي تَكَلَّفَهُ الأَْمِيرُ
وَالْفُقَهَاءُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الأَْوَّل خَطَأً بَيِّنًا
أَمْضَى فَسْخَهُ وَأَجَازَ مَا فَعَلَهُ الأَْمِيرُ وَالْفُقَهَاءُ،
وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الأَْوَّل خَطَأً بَيِّنًا
(41/170)
أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ عَرَفَ مِنَ الْقَاضِي
بَعْضَ مَا لاَ يَنْبَغِي مِنَ الْقُضَاةِ وَلَكِنَّ الأَْمِيرَ لَمْ
يَعْزِلْهُ وَأَرَادَ النَّظَرَ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ
فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلْفُقَهَاءِ النَّظَرُ فِيهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّ حُكْمَهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ فَلْيَرُدَّهُ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا
عَلَى الأَْمِيرِ فَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَأْيًا
غَيْرَهُ لَمْ يَمِل مَعَ أَكْثَرِهِمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَا رَآهُ صَوَابًا قَضَى بِهِ وَأَنْفَذَهُ.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَل إِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ
الْمُشِيرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ. قَال مُطَرِّفٌ: وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي
لَمْ يَكُنْ فَصَل بَعْدُ فِي الْخُصُومَةِ فَصْلاً، فَلَمَّا أَجْلَسَ
مَعَهُ غَيْرَهُ لِلنَّظَرِ فِيهَا قَال: قَدْ حَكَمْتُ، لَمْ يُقْبَل
ذَلِكَ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ عَنِ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ
وَحْدَهَا فَتَلْزَمُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَزَل ثُمَّ قَال: قَدْ
كُنْتُ حَكَمْتُ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى ذَلِكَ.
قَال مُطَرِّفٌ: وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي الْمُشْتَكَى فِي غَيْرِ بَلَدِ
الأَْمِيرِ الَّذِي هُوَ بِهِ وَحَيْثُ يَكُونُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ
فَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَعْرُوفًا
مَشْهُورًا بِالْعَدْل فِي أَحْكَامِهِ وَالصَّلاَحِ فِي أَحْوَالِهِ
أَقَرَّهُ وَلَمْ يَقْبَل عَلَيْهِ شَكْوَى وَلَمْ يَكْتُبْ بِأَنْ
يَجْلِسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلاَ يَفْعَل هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ قُضَاتِهِ
إِلاَّ أَنْ يُشْتَكَى مِنْهُ اسْتِبْدَادٌ بِرَأْيٍ أَوْ تَرْكُ رَأْيِ
مَنْ
(41/170)
يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ،
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ أَنْ يُشَاوِرَ فِي أُمُورِهِ
وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ أَحَدًا أَوْ يُجْلِسَ
مَعَهُ أَحَدًا.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَاضِي غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدْل وَالرِّضَا
وَتَظَاهَرَتِ الشَّكِيَّةُ عَلَيْهِ كَتَبَ إِلَى رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ
أَهْل بَلَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَأَقْدَمَهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهُ
وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يَجِبُ أَمْضَاهُ،
وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَزَلَهُ.
قَال: وَلَوْ جَهِل الأَْمِيرُ وَكَتَبَ إِلَى نَاسٍ يَأْمُرُهُمْ
بِالْجُلُوسِ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْحُكُومَةِ فَفَعَلُوا وَاخْتَلَفَ
رَأْيُهُمْ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الأَْمِيرُ كَتَبَ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي
وَالأُْمَنَاءِ أَنْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ هُوَ مُنَفِّذَ
الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ
يَنْظُرُوا مَعَهُ ثُمَّ يَجْتَهِدُوا وَيَحْكُمُ بِأَفْضَل مَا يَرَاهُ
مَعَهُمْ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالَّذِي يَرَاهُ مَعَ بَعْضِ مَنْ
جَلَسَ مَعَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لاَزِمًا لِمَنْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ
وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ أُمِرَ بِالنَّظَرِ
مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى مِثْل مَا كَانَ عَلَيْهِ
قَبْل أَنْ يَجْلِسُوا مَعَهُ وَقَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى خِلاَفِهِ لَمْ
أَرَ أَنْ يَحْكُمَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ الآْنَ عَلَى مِثْل مَا اشْتُكِيَ
مِنْهُ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ بِذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَرَأْيِ الْقَوْمِ
إِلَى الأَْمِيرِ فَيَكُونُ هُوَ الآْمِرَ بِالَّذِي يَرَاهُ وَالْحَاكِمَ
فِيهِ دُونَهُمْ. وَقَدْ سُئِل ابْنُ الْقَاسِمِ
(41/171)
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَال فِيهِ مِثْل
قَوْل مُطَرِّفٍ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَمِثْل ذَلِكَ وَرَدَ بِنَصِّهِ فِي
مُعِينِ الْحُكَّامِ (1) .
طَلَبُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ نَقْضَ الْحُكْمِ:
37 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ
الَّذِي يَسْتَوْجِبُ النَّقْضَ إِنْ كَانَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى -
كَالطَّلاَقِ - نَقَضَهُ الْقَاضِي بِدُونِ طَلَبٍ، هَذَا فِيمَا يُمْكِنُ
تَدَارُكُهُ، وَمَا لاَ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، فَفِي بَعْضِ صُوَرِهِ
الضَّمَانُ.
وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ فَلاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي
نَقْضُهُ إِلاَّ بِمُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ
تَعْرِيفُ الْخَصْمَيْنِ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ خَطَأٍ حَتَّى وَإِنْ
عَلِمَا بِذَلِكَ، لأَِنَّهُمَا قَدْ يَتَوَهَّمَانِ أَنَّهُ لاَ يُنْقَضُ،
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ الأَْصْحَابِ وَصَحَّحَهُ
النَّوَوِيُّ خِلاَفًا لاِبْنِ سُرَيْجٍ الَّذِي قَال: إِنَّهُ لاَ
يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُ الْخَصْمَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَا وَتَرَافَعَا إِلَيْهِ
نَقَضَ الْحُكْمَ (2) .
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 63، 64، ومعين الحكام ص 37.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 56، 57، 58، وروضة الطالبين 11 / 150.
(41/171)
صِيغَةُ النَّقْضِ:
38 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ صِيغَةَ النَّقْضِ هِيَ: نَقَضْتُهُ،
أَوْ فَسَخْتُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَأَبْطَلْتُهُ، وَلَوْ قَال: بَاطِلٌ
أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالُوا:
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَقْضًا؛ إِذِ الْمُرَادُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ
يَصِحَّ مِنْ أَصْلِهِ (1) .
تَسْبِيبُ حُكْمِ النَّقْضِ:
39 - إِذَا نَقَضَ الْقَاضِي الْحُكْمَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُ
السَّبَبِ الَّذِي نَقَضَ الْحُكْمَ مِنْ أَجْلِهِ؛ لِئَلاَّ يُنْسَبَ
لِلْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ بِالنَّقْضِ الْجَوْرُ وَالْهَوَى بِنَقْضِهِ
الأَْحْكَامَ الَّتِي حَكَمَ بِهَا الْقُضَاةُ (2) .
تَسْجِيل حُكْمِ النَّقْضِ:
40 - يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَجِّل النَّقْضَ كَمَا يُسَجِّل
الْحُكْمَ؛ لِيَكُونَ تَسْجِيل الثَّانِي مُبْطِلاً لِلأَْوَّل كَمَا صَارَ
الثَّانِي نَاقِضًا لِلْحُكْمِ الأَْوَّل (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 396، والرملي 8 / 258 ط دار الفكر.
(2) الشرح الصغير 4 / 227، وكشاف القناع 6 / 326، 446.
(3) مغني المحتاج 4 / 396، نهاية المحتاج للرملي 8 / 260.
(41/172)
نُقُودٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - النُّقُودُ لُغَةً جَمْعُ نَقْدٍ، وَالنَّقْدُ الْعُمْلَةُ مِنَ
الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُتَعَامَل بِهِ (1) .
وَالنُّقُودُ فِي الاِصْطِلاَحِ يَأْتِي بِمَعَانٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهَا اسْمٌ لِمَعْدِنَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ
هُنَا يَكْثُرُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ " النَّقْدَانِ
" - بِالتَّثْنِيَةِ - إِشَارَةً إِلَى الْمَعْدِنَيْنِ.
وَيُطْلَقُ الاِسْمُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ أَكَانَا مَضْرُوبَيْنِ " أَيْ
مَسْكُوكَيْنِ " أَمْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ بِأَنْ كَانَا سَبَائِكَ أَوْ
تِبْرًا أَوْ حُلِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
فَأَمَّا فِي الْمَسْكُوكَيْنِ فَكَثِيرٌ.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَسْكُوكَيْنِ فَمِنْهُ قَوْل الزُّرْقَانِيِّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ: اسْتِعْمَال النَّقْدِ فِي جِدَارٍ وَسَقْفٍ (2) .
يَقْصِدُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَقَوْل صَاحِبِ الْفُرُوعِ مِنَ
الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَصِحُّ
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) الزرقاني على شرح مختصر خليل 1 / 33، 37، نهاية المحتاج 3 / 83.
(41/172)
وَقْفُ قِنْدِيل نَقْدٍ، وَيُزَكِّيهِ
رَبُّهُ (1) ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: شَرْطُ الرِّكَازِ الَّذِي
فِيهِ الْخُمُسُ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا، وَالنَّقْدُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَضْرُوبَيْنِ (2) ، وَوَرَدَ مِثْل ذَلِكَ فِي
مَوَاضِعَ.
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ فِي الْمَادَّةِ 130:
النُّقُودُ جَمْعُ نَقْدٍ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
سَوَاءٌ كَانَا مَسْكُوكَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ، وَيُقَال
لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: النَّقْدَانِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
خَاصَّةً، أُطْلِقَ عَلَيْهَا الاِسْمُ لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَتْ
تُنْقَدُ فِي الأَْثْمَانِ عَادَةً، سَوَاءٌ دُفِعَتْ حَالاً أَوْ بَعْدَ
أَمَدٍ، جَيِّدَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ جَيِّدَةٍ، دُونَ غَيْرِهِمَا
مِمَّا يُسْتَعْمَل لِلتَّبَادُل. وَمِنْ عِبَارَاتِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى
ذَلِكَ قَوْل السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ: إِنَّ الْفُلُوسَ تُرَوَّجُ
فِي ثَمَنِ الْخَسِيسِ مِنَ الأَْشْيَاءِ دُونَ النَّفِيسِ، بِخِلاَفِ
النُّقُودِ (3) ، فَبَايَنَ بَيْنَ الْفُلُوسِ وَبَيْنَ النُّقُودِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْقِرَاضِ: يُشْتَرَطُ فِي
رَأْسِ الْمَال أَنْ يَكُونَ نَقْدًا، وَهُوَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ
الْمَضْرُوبَةُ (4) .
__________
(1) الفروع لابن مفلح 4 / 583.
(2) نهاية المحتاج 3 / 98، 104، 433.
(3) المبسوط 12 / 137.
(4) فتح العزيز للرافعي في ذيل المجموع 12 / 5، وروضة الطالبين 5 / 117.
(41/173)
فَعَلَى هَذَا الاِصْطِلاَحِ وَالَّذِي
قَبْلَهُ لَيْسَتِ الْفُلُوسُ نُقُودًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِكُل مَا يُسْتَعْمَل وَسِيطًا لِلتَّبَادُل
سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ جُلُودٍ أَوْ
وَرَقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَلْقَى قَبُولاً عَامًّا.
وَمِنْهُ مَا قَال الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ
نَقْدٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقُودٌ يَغْلِبُ التَّعَامُل بِوَاحِدٍ مِنْهَا
انْصَرَفَ الْعَقْدُ إِلَى الْمَعْهُودِ وَإِنْ كَانَ فُلُوسًا (1) .
وَهَذَا الاِصْطِلاَحُ الثَّالِثُ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الاِسْتِعْمَال
فِي هَذَا الْعَصْرِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفُلُوسُ:
2 - الْفُلُوسُ: جَمْعُ فَلْسٍ، وَهِيَ قِطَعٌ مَعْدِنِيَّةٌ صَغِيرَةٌ،
مَضْرُوبَةٌ مِنْ مَعْدِنٍ سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ
غَيْرِهِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّقُودِ وَالْفُلُوسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يُتَعَامَل بِهِ.
__________
(1) فتح العزيز 8 / 140، وروضة الطالبين 3 / 363.
(2) المعجم الوسيط، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 179 طبعة دار الكتب
العلمية.
(41/173)
ب - التِّبْرُ:
3 - التِّبْرُ: هُوَ مَا اسْتُخْرِجَ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مِنْ
تُرَابِهِ قَبْل أَنْ يُضْرَبَ أَوْ يُصَاغَ، وَقِيل: يُسَمَّى بِذَلِكَ
قَبْل تَخْلِيصِهِ مِنْ تُرَابِ الْمَعْدِنِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
(1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التِّبْرَ أَصْل النَّقْدَيْنِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
ج - السِّكَّةُ:
4 - السِّكَّةُ حَدِيدَةٌ مَنْقُوشَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا، تُضْرَبُ
عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالْمَسْكُوكَاتُ (وَيُقَال
أَيْضًا: الْمَصْكُوكَاتُ) وَهِيَ الْعُمُلاَتُ الْمَعْدِنِيَّةُ
الْمَضْرُوبَةُ مِنَ النَّقْدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَتُطْلَقُ السِّكَّةُ أَيْضًا عَلَى النُّقُوشِ وَالْكِتَابَةِ الَّتِي
عَلَى النُّقُودِ (2) .
وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ دَوْلَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَمِنْ وَقْتٍ إِلَى
وَقْتٍ فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتُطْلَقُ السِّكَّةُ أَيْضًا عَلَى
النُّقُودِ الْمَعْدِنِيَّةِ الْمَضْرُوبَةِ؛ لأَِنَّهَا طُبِعَتْ
بِالْحَدِيدِ الَّتِي هِيَ السِّكَّةُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب، وابن عابدين 2 / 30.
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط، وابن عابدين 3 / 340، 4 / 218.
(41/174)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّقُودِ
وَالسِّكَّةِ أَنَّ السِّكَّةَ أَعَمُّ مِنَ النُّقُودِ.
مَشْرُوعِيَّةُ التَّعَامُل بِالنُّقُودِ:
5 - التَّعَامُل بِالنُّقُودِ جَائِزٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ
بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى
طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ (1) } . وَتَوَاتَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ
وَإِقْرَارِهِ إِجَازَةُ التَّعَامُل بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ،
وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَال: دَفَعَ إِلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دِينَارًا لأَِشْتَرِيَ لَهُ شَاةً. فَاشْتَرَيْتُ لَهُ
شَاتَيْنِ، فَبِعْتُ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجِئْتُ بِالشَّاةِ
وَالدِّينَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَال لَهُ: " بَارَكَ اللَّهُ
لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ " (2) .
وَفِي اتِّخَاذِ النُّقُودِ لِلتَّعَامُل حِكَمٌ وَمَصَالِحُ تَتَحَقَّقُ
بِهَا، عَلِمَهَا النَّاسُ بِالتَّجَارِبِ وَطُول الْعَهْدِ، وَأَقَرَّهَا
الشَّارِعُ مِنْ أَجْل تِلْكَ الْمَصَالِحِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ عَنِ النَّقْدَيْنِ:
__________
(1) سورة الكهف / 19
(2) حديث: " بارك الله لك في صفقة يمينك ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 /
632 ط السلفية) والترمذي (3 / 550 ط الحلبي) واللفظ للترمذي
(41/174)
خَلَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى
لِتَتَدَاوَلَهُمَا الأَْيْدِي، وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الأَْمْوَال
بِالْعَدْل، وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّل بِهِمَا إِلَى
سَائِرِ الأَْشْيَاءِ؛ لأَِنَّهُمَا عَزِيزَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا، وَلاَ
غَرَضَ فِي أَعْيَانِهِمَا، وَنِسْبَتُهُمَا إِلَى سَائِرِ الأَْشْيَاءِ
نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ مَلَكَهُمَا فَكَأَنَّهُ مَلَكَ كُل شَيْءٍ (1)
.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: الْعَدْل فِي الْمُعَامَلاَتِ إِنَّمَا هُوَ
التَّسَاوِي، أَوْ مُقَارَبَةُ التَّسَاوِي، وَلِذَلِكَ لَمَّا عَسُرَ
إِدْرَاكُ التَّسَاوِي فِي الأَْشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالذَّاتِ جُعِل
الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ لِتَقْوِيمِهَا، أَعْنِي تَقْدِيرَهَا (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانُ
الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ
تَقْوِيمُ الأَْمْوَال، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مُنْضَبِطًا، لاَ
يَرْتَفِعُ وَلاَ يَنْخَفِضُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ
وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ
الْمَبِيعَاتِ، بَل الْكُل سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ثَمَنٍ
يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ
لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ وَيَسْتَمِرُّ
عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُقَوَّمُ هُوَ بِغَيْرِهِ؛ إِذْ يَصِيرُ
سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلاَتُ النَّاسِ
وَيَقَعُ الْخُلْفُ (3) .
__________
(1) إحياء علوم الدين للغزالي 12 / 2219 ط دار الشعب.
(2) بداية المجتهد 2 / 99.
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين 2 / 155، 156.
(41/175)
وَقَال ابْنُ خَلْدُونَ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى خَلَقَ الْحَجَرَيْنِ الْمَعْدِنِيَّيْنِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ قِيمَةً لِكُل مُتَمَوَّلٍ، وَهُمَا الذَّخِيرَةُ
وَالْقُنْيَةُ لأَِهْل الْعَالَمِ فِي الْغَالِبِ، وَإِنِ اقْتُنِيَ
سِوَاهُمَا فِي بَعْضِ الأَْحْيَانِ فَإِنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ
تَحْصِيلِهِمَا، لِمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ حَوَالَةِ الأَْسْوَاقِ
- أَيْ تَغَيُّرِ الأَْسْعَارِ - الَّتِي هُمَا عَنْهَا بِمَعْزِلٍ (1) .
أَنْوَاعُ النُّقُودِ:
تَتَنَوَّعُ النُّقُودُ إِلَى الأَْنْوَاعِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: النُّقُودُ الْخَلْقِيَّةُ:
النُّقُودُ الْخِلْقِيَّةُ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِي الْعُصُورِ
الإِْسْلاَمِيَّةِ نَوْعَانِ، هُمَا:
أ - الدِّينَارُ:
6 - الدِّينَارُ لُغَةً: فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَهُوَ نَقْدٌ ذَهَبٌ.
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ: هُوَ اسْمٌ
لِلْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ الْمَضْرُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمِثْقَال
(2) ، فَوَزْنُ الدِّينَارِ مِثْقَالٌ تَامٌّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي وَزْنِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَنَانِير ف 7 - 8) .
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 391.
(2) ابن عابدين 2 / 29.
(41/175)
ب - الدِّرْهَمُ:
7 - الدِّرْهَمُ هُوَ لَفْظٌ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ اسْمٌ
لِلْمَضْرُوبِ مِنَ الْفِضَّةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَزْنِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِم ف 6) .
ثَانِيًا: النُّقُودُ الاِصْطِلاَحِيَّةُ:
8 - النُّقُودُ الاِصْطِلاَحِيَّةُ هِيَ مَا يَلِي:
أ - الْفُلُوسُ، وَهِيَ النُّقُودُ الْمَعْدِنِيَّةُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَلَهَا حَالاَنِ:
الأُْولَى: أَنْ تَكُونَ رَائِجَةً، وَفِي هَذِهِ الْحَال يُخْتَلَفُ
فِيهَا، فَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَهَا أَحْكَامُ
النَّقْدَيْنِ، فَلاَ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا بِالتَّفَاضُل وَلاَ
بِالنَّسَاءِ، وَلاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَكُنْ
لِلتِّجَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عِنْدَ الصَّيَارِفِ، وَيَرَى آخَرُونَ
أَنَّهَا تَكُونُ أَثْمَانًا، بِجَامِعِ الثَّمَنِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
النَّقْدَيْنِ، فَتَأْخُذُ أَحْكَامَهَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ تَكُونَ رَائِجَةً: وَفِي هَذِهِ الْحَال لاَ
يَكُونُ لَهَا حُكْمُ النَّقْدَيْنِ اتِّفَاقًا.
(ر: صَرْف ف 45 وَمَا بَعْدَهَا، وَفُلُوس ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(41/176)
ب - الدَّرَاهِمُ الْغَالِبَةُ الْغِشِّ،
وَهِيَ مَا كَانَ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ مَغْلُوبًا، وَالْغِشُّ
فِيهَا غَالِبًا، فَهَذِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَهَا أَحْكَامُ
الْفُلُوسِ لاَ أَحْكَامُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اعْتِبَارًا
بِالْغَالِبِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَيُنْظَرُ إِلَى
الْقَدْرِ الَّذِي فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ، فَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ
النَّقْدَيْنِ (1) .
(ر: صَرْف ف 41 - 44، وَزَكَاة ف 71) .
ج - النُّقُودُ الْوَرَقِيَّةُ: وَقَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي
الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، حَتَّى حَلَّتْ مَكَانَ النُّقُودِ الذَّهَبِيَّةِ
وَالْفِضِّيَّةِ، وَأَخَذَتْ وَظِيفَتَهُمَا فِي التَّعَامُل فِي عَامَّةِ
بُلْدَانِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى إِمْكَانِ اتِّخَاذِ
النُّقُودِ مِنَ الْوَرَقِ الإِْمَامُ مَالِكٌ، مِنْ بَابِ افْتِرَاضِ
وُقُوعِ مَا لَمْ يَقَعْ وَبَيَانِ حُكْمِهِ، فَقَال: لَوْ أَنَّ النَّاسَ
أَجَازُوا بَيْنَهُمُ الْجُلُودَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا سِكَّةٌ وَعَيْنٌ
لَكَرِهْتُهَا أَنْ تُبَاعَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ نَظِرَةً، وَقَال فِي
مَوْضِعٍ: لَوْ جَرَتِ الْجُلُودُ بَيْنَ النَّاسِ مَجْرَى الْعَيْنِ
الْمَسْكُوكِ لَكَرِهْنَا بَيْعَهَا بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ نَظِرَةً (2) .
وَقَدْ عُرِفَ التَّعَامُل بِالأَْوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ قَدِيمًا، فَقَدْ
حَكَى الْمَقْرِيزِيُّ أَنَّهُ لَمَّا رَحَل إِلَى بَغْدَادَ أَخْرَجَ لَهُ
أَحَدُ التُّجَّارِ وَرَقَةً فِيهَا خُطُوطٌ بِقَلَمِ
__________
(1) البدائع 5 / 236.
(2) المدونة 3 / 396.
(41/176)
الْخَطَا - أَيْ بِالْخَطِّ الْمَغُولِيِّ
- وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الأَْوْرَاقَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَرَقِ التُّوتِ،
فِيهَا لِينٌ وَنُعُومَةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الْوَرَقَةَ إِذَا احْتَاجَ
الإِْنْسَانُ فِي (خَانْ بَالِقْ) مِنْ بِلاَدِ الصِّينِ لِخَمْسَةِ
دَرَاهِمَ دَفَعَهَا فِيهَا، وَأَنَّ مَلِكَهَا يَخْتِمُ لَهُمْ هَذِهِ
الأَْوْرَاقَ وَيَنْتَفِعُ بِمَا يَأْخُذُ بَدَلاً عَنْهَا (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّقُودِ:
أَوَّلاً: الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُقَدَّرَةُ بِالنُّقُودِ:
أ - نِصَابُ الزَّكَاةِ:
9 - نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَنِصَابُ
الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ هَذَا النِّصَابُ
عِنْدَ مَالِكِهِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ،
فَإِنْ كَانَ مَغْشُوشًا فَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي
مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 69 - 71) .
وَنِصَابُ الزَّكَاةِ فِي الْفُلُوسِ وَفِي الأَْوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ
عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ فِيهَا الزَّكَاةَ يَقُومُ بِتَقْوِيمِهِمَا
بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ (2) (ر: زَكَاة 71 - 75) .
__________
(1) إغاثة الأمةِ بكشف الغمة للمقريزي ص 68.
(2) ترى لجنة الموسوعة أن النقود الورقية تزكى إذا بلغت قيمتها نصاب ذهب أو
فضة سواء كانت للتجارة أو لم تكن ما دامت تستعمل أثمانا رائجة لأنها أصبحت
غالب أموال الناس وراجت في التبادل حتى حلت في هذا العصر محل النقود
الذهبية والفضية
(41/177)
وَنِصَابُ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ
التِّجَارَةِ يُقَوَّمُ بِالدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ الشَّرْعِيَّيْنِ
كَذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاة ف 84 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - أَقَل الْمَهْرِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل الْمَهْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الْمَهْرِ مُقَدَّرٌ فَإِنَّهُ لاَ
يَقِل عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُبْعِ دِينَارٍ
أَوْ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ النِّصَابُ
الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا.
فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَل مِنْ ذَلِكَ فَلَهَا تَمَامُ الْعَشَرَةِ
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفَسَدَ النِّكَاحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
وَيُتِمُّهُ إِنْ دَخَل، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ إِتْمَامِهِ وَبَيْنَ
الطَّلاَقِ إِنْ لَمْ يَدْخُل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ لأَِقَل الْمَهْرِ
شَرْعًا، بَل كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا أَوْ مَبِيعًا جَازَ أَنْ
يَكُونَ مَهْرًا (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي (مَهْر ف 18) .
ج - كَفَّارَةُ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي حَيْضِهَا:
11 - وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَاجِبَةٌ وَقَدْرُهَا دِينَارٌ،
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 102، وجواهر الإكليل 1 / 308، والدسوقي
على الشرح الكبير 2 / 302، ومغني المحتاج 3 / 220، وكشاف القناع 5 / 128.
(41/177)
وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مُسْتَحَبَّةٌ
وَقَدْرُهَا دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ.
(ر: حَيْض ف 43) .
د - نِصَابُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِصَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ مَا
قِيمَتُهُ ذَلِكَ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ
مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ.
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي (سَرِقَة ف 33 - 36) .
هـ - الدِّيَاتُ:
13 - حَدَّدَ الشَّرْعُ مِقْدَارَ الدِّيَاتِ، فَدِيَةُ نَفْسِ الْحُرِّ
الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ
أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ
الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهِيَ فِي النَّقْدِ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ
عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ.
وَتَفْصِيل دِيَاتِ غَيْرِهِ وَدِيَةِ الأَْعْضَاءِ وَالْقُوَى يُرْجَعُ
إِلَيْهِ فِي (دِيَات ف 28 وَمَا بَعْدَهَا) .
و الْجِزْيَةُ:
14 - تُفْرَضُ الْجِزْيَةُ عَلَى رِجَال أَهْل الذِّمَّةِ، فَهِيَ عَلَى
الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فِي
(41/178)
السَّنَةِ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ
أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ
دِرْهَمًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ خِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي (جِزْيَة ف 44) .
ثَانِيًا: ضَرْبُ النُّقُودِ وَإِصْدَارُهَا:
15 - ضَرْبُ النُّقُودِ هُوَ صِنَاعَتُهَا وَنَقْشُهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ
بِضَرْبِهَا عَلَى السِّكَّةِ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الْمَنْقُوشُ عَلَيْهَا
الْكِتَابَةُ بِوَضْعٍ مَقْلُوبٍ.
وَيُقَال: سَكُّ النُّقُودِ وَصَكُّهَا.
أ - حَقُّ إِصْدَارِ النُّقُودِ:
16 - حَقُّ إِصْدَارِ النُّقُودِ هُوَ لِلإِْمَامِ وَحْدَهُ، وَلاَ بُدَّ
لَهُ مِنْ تَفْوِيضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ لِيَتَمَيَّزَ
الْخَالِصُ مِنَ الْمَغْشُوشِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَيُتَّقَى الْغِشُّ
فِيهَا بِخَتْمِ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا بِالنَّقْشِ الْمَعْرُوفِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِعِيَارٍ مُحَدَّدٍ وَأَوْزَانٍ مُحَدَّدَةٍ
لِيُمْكِنَ التَّعَامُل بِهَا عَدَدًا، كَمَا حَصَل فِي عَهْدِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ ضَرْبُ النُّقُودِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ
افْتِيَاتًا عَلَيْهِ.
وَيَحِقُّ لِلإِْمَامِ تَعْزِيرُ مَنِ افْتَاتَ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ مِنْ
حُقُوقِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا ضَرَبَهُ مُخَالِفًا لِضَرْبِ
السُّلْطَانِ، أَوْ مُوَافِقًا لَهُ فِي الْوَزْنِ وَنِسْبَةِ الْغِشِّ،
وَفِي الْجَوْدَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
الْخَالِصَيْنِ، قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ: لاَ يَصْلُحُ ضَرْبُ
(41/178)
الدَّرَاهِمِ إِلاَّ فِي دَارِ الضَّرْبِ
بِإِذْنِ السُّلْطَانِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ إِنْ رُخِّصَ لَهُمْ رَكِبُوا
الْعَظَائِمَ. قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: فَقَدْ مُنِعَ مِنَ الضَّرْبِ
بِغَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ (1)
.
وَانْظُرْ (دَرَاهِم ف 7، وَسِكَّة ف 4) .
17 - وَيَنْبَغِي لِلإِْمَامِ ضَرْبُ الْفُلُوسِ لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ
مِنْ إِنْفَاقِهَا فِي الْحَاجَاتِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي هِيَ أَقَل مِنْ
قِيمَةِ الدِّرْهَمِ، وَالْعَادَةُ أَنْ تُضْرَبَ مِنَ النُّحَاسِ أَوْ
غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَادِنِ الَّتِي تَحْتَمِل كَثْرَةَ الاِسْتِعْمَال،
قَال ابْنُ تَيْمِيَةَ: يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَضْرِبَ لِلرَّعَايَا
فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْل فِي مُعَامَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ
ظُلْمٍ لَهُمْ تَسْهِيلاً عَلَيْهِمْ وَتَيْسِيرًا لِمُعَامَلاَتِهِمْ.
وَمَقْصُودُهُ بِقِيمَةِ الْعَدْل أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا بِقَدْرِ مَا
فِيهَا مِنَ النُّحَاسِ لِتَكُونَ قِيمَتُهَا ذَاتِيَّةً.
وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ
يُحَرِّمَ عَلَى النَّاسِ الْفُلُوسَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبَ
لَهُمْ غَيْرَهَا، لأَِنَّهُ إِذَا فَعَل ذَلِكَ أَفْسَدَ مَا عِنْدَهُمْ
مِنَ الأَْمْوَال بِنَقْصِ أَسْعَارِهَا، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ
الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مِنْ بَأْسٍ " (2) .
__________
(1) الفروع 2 / 457، وكشاف القناع 2 / 232، ونهاية المحتاج وحاشية الرشيدي
3 / 87، ومقدمة ابن خلدون ص 261.
(2) حديث: " نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس ". أخرجه
أبو داود (3 / 730 ط حمص) وابن ماجه (2 / 761 ط عيسى الحلبي) وأعله المنذري
في مختصر السنن (5 / 91 - نشر دار المعرفة) بأن أحد رواته لا يحتج بحديثه
(41/179)
وَالْبَأْسُ - كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ -
نَحْوُ أَنْ يُشْتَبَهَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ
فَيَكْسِرَهُ (1) .
ب - أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى سَكِّ النُّقُودِ:
18 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ دَفْعُ الأُْجْرَةِ عَلَى سَكِّ النُّقُودِ،
وَقَدْ نَقَل الْبُهُوتِيُّ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ عَلَى الإِْمَامِ
أَنْ يَدْفَعَ أُجْرَةَ ضَرْبِ الْفُلُوسِ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
وَلَوْ ضَرَبَ النُّقُودَ الذَّهَبِيَّةَ أَوِ الْفِضِّيَّةَ، وَالذَّهَبُ
أَوِ الْفِضَّةُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَعْطَى الصُّنَّاعَ أَجْرَهُمْ مِنْ
بَيْتِ الْمَال فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَقَدْ جَاءَ وَقْتٌ كَانَ بِإِمْكَانِ مَالِكِ النُّقْرَةِ أَنْ يَذْهَبَ
بِهَا إِلَى دَارِ الضَّرْبِ، لِتُضْرَبَ لَهُ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ،
وَيُعْطِي مَالِكُهَا أُجْرَةَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ
شَرْعًا إِنْ رُدَّتْ لَهُ دَرَاهِمُهُ أَوْ دَنَانِيرُهُ مِنْ نُقْرَتِهِ
بِعَيْنِهَا، أَمَّا إِنْ جَرَى تَبَادُلٌ، بِأَنْ أَخَذَ غَيْرَ مَا
أَعْطَى، فَقَدْ نَبَّهَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الاِحْتِرَازُ
لأَِنَّهُ يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْل، وَرُبَّمَا دَخَلَهُ رِبَا
النَّسَاءِ، قَال: وَذَلِكَ حَرَامٌ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 232.
(2) إحياء علوم الدين 4 / 768 ط دار الشعب.
(41/179)
وَابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ
قَوْلِهِ الْمَشْهُورِ بِجَوَازِ بَيْعِ الْحِلْيَةِ الذَّهَبِيَّةِ أَوِ
الْفِضِّيَّةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مِنْ جِنْسِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا
وَزْنًا فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ جَوَازَ
بَيْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ بِسَبَائِكَ مِنْ
جِنْسِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا وَزْنًا، مِنْ أَجْل صِنَاعَةِ الضَّرْبِ.
وَفَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بِأَنَّ السِّكَّةَ لاَ تَتَقَوَّمُ فِيهَا
الصِّنَاعَةُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، فَإِنَّ
السُّلْطَانَ يَضْرِبُهَا لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ
الضَّارِبُ يَضْرِبُهَا بِأُجْرَةٍ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا أَنْ
تَكُونَ مِعْيَارًا لِلنَّاسِ لاَ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَالسِّكَّةُ
فِيهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ قُوبِلَتْ
بِالزِّيَادَةِ فَسَدَتِ الْمُعَامَلَةُ، وَانْتُقِضَتِ الْمَصْلَحَةُ
الَّتِي ضُرِبَتْ لأَِجْلِهَا، وَاحْتَاجَتِ الدَّرَاهِمُ إِلَى
التَّقْوِيمِ بِغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَامَ الدِّرْهَمُ مَقَامَ
الدِّرْهَمِ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُل الدَّرَاهِمَ رَدَّ
نَظِيرَهَا، وَلَيْسَتِ الْمَصُوغُ كَذَلِكَ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ حَالَةً أَجَازُوهَا لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ
مَا قَال النَّفْرَاوِيُّ: الْمُسَافِرُ تَكُونُ مَعَهُ الْعَيْنُ غَيْرَ
مَسْكُوكَةٍ، وَلاَ تَرُوجُ مَعَهُ فِي الْمَحَل الَّذِي يُسَافِرُ
إِلَيْهِ، فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى السَّكَّاكِ لِيَدْفَعَ لَهُ
بَدَلَهَا مَسْكُوكًا - أَيْ جَاهِزًا - وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُ أُجْرَةِ
السِّكَّةِ، وَإِنْ لَزِمَ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّ الأُْجْرَةَ
لِلزِّيَادَةِ،
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 163.
(41/180)
قَال: وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ
لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُسَافِرِ مِنَ السَّفَرِ لَوْ تَأَخَّرَ
لإِِتْمَامِ ضَرْبِهَا (1) ، وَقِيل: يَجُوزُ أَيْضًا لِلْحَاجَةِ، قَال
الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ: الْمَسْكُوكُ الَّذِي لاَ يَرُوجُ
مَعَ الْمُسَافِرِ فِي بَلَدِ الْغُرْبَةِ كَالنُّقْرَةِ فِي ذَلِكَ،
بِأَنْ يَدْفَعَ مَسْكُوكَهُ إِلَى السَّكَّاكِ لِيُعْطِيَهُ الْمَسْكُوكَ
الَّذِي يَرُوُجُ مَعَ زِيَادَةِ أُجْرَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ
الْمُسَافِرِ، وَلاَ لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ وَلَوِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ
الْهَلاَكَ وَإِلاَّ جَازَ، وَالْمُعْتَمَدُ الأَْوَّل (2) .
ج - نَقْشُ شَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ عَلَى النُّقُودِ:
19 - قَال الْمَقْرِيزِيُّ: ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الدَّرَاهِمَ عَلَى نَقْشِ الْكِسْرَوِيَّةِ (3) ، وَشَكَّلَهَا
بِأَعْيَانِهَا غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِي بَعْضِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ،
وَفِي بَعْضِهَا: رَسُول اللَّهِ، وَعَلَى آخَرَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللَّهُ وَحْدَهُ، وَعَلَى آخَرَ: عُمَرُ، فَلَمَّا بُويِعَ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ دَرَاهِمَ، وَنَقَشَهَا " اللَّهُ
أَكْبَرُ ".
فَلَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِمَكَّةَ ضَرَبَ دَرَاهِمَ مُدَوَّرَةً، وَنَقَشَ بِأَحَدِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 111.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 34.
(3) الكسروية نسبة إلى كسرى، والمقصود الدراهم الفارسية.
(41/180)
الْوَجْهَيْنِ: مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ،
وَبِالآْخَرِ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَالْعَدْل.
فَلَمَّا اسْتَوْثَقَ الأَْمْرُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ
مَقْتَل عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْعَبٍ ابْنَيِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَحَصَ عَنِ النُّقُودِ وَالأَْوْزَانِ
وَالْمَكَايِيل، وَضَرَبَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ فِي صَدْرِ
كُتُبِهِ إِلَى الرُّومِ: " قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَذَكَرَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ التَّارِيخِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
مَلِكُ الرُّومِ: إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ كَذَا وَكَذَا فَاتْرُكُوهُ،
وَإِلاَّ أَتَاكُمْ فِي دَنَانِيرِنَا مِنْ ذِكْرِ نَبِيِّكُمْ مَا
تَكْرَهُونَ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَلَّمَ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ دَنَانِيرَ الرُّومِ،
وَيَنْهَى عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، وَيَضْرِبَ لِلنَّاسِ دَرَاهِمَ
وَدَنَانِيرَ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ فَضَرَبَ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ.
وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْعِرَاقِ أَنِ اضْرِبْهَا قِبَلَكَ،
وَنَهَى أَنْ يَضْرِبَ أَحَدٌ غَيْرُهُ.
وَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالسِّكَّةِ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْعِرَاقِ،
فَسَيَّرَهَا الْحَجَّاجُ إِلَى الآْفَاقِ لِتُضْرَبَ الدَّرَاهِمُ بِهَا،
وَتَقَدَّمَ إِلَى الأَْمْصَارِ كُلِّهَا أَنْ يُكْتَبَ إِلَيْهِ مِنْهَا
كُل شَهْرٍ بِمَا يَجْتَمِعُ قِبَلَهُمْ مِنَ الْمَال كَيْ يُحْصِيَهُ
عِنْدَهُمْ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّرَاهِمُ بِالآْفَاقِ عَلَى السِّكَّةِ
الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَتُحْمَل إِلَيْهِ أَوَّلاً بِأَوَّلٍ، وَقَدَّرَ فِي
كُل مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا عَنِ الْحَطَبِ وَأُجْرَةِ الضَّرَّابِ،
وَنَقَشَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيِ الدِّرْهَمِ: " قُل هُوَ اللَّهُ
(41/181)
أَحَدٌ " وَعَلَى الآْخَرِ: " لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ " وَطَوَّقَ الدِّرْهَمَ مِنْ وَجْهَيْهِ بِطَوْقٍ،
وَكَتَبَ فِي الطَّوْقِ الْوَاحِدِ " ضُرِبَ هَذَا الدِّرْهَمُ بِمَدِينَةِ
كَذَا "، وَفِي الطَّوْقِ الآْخَرِ: مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ أَرْسَلَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1) .
د - مَسُّ الْمُحْدِثِ النُّقُودَ الْمَضْرُوبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ
الْقُرْآنِ:
20 - إِذَا كُتِبَ عَلَى النُّقُودِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسِّهَا وَحَمْلِهَا عَلَى
الْمُحْدِثِ: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ، وَقِيل:
يَحْرُمُ، وَقِيل: يُكْرَهُ (2) .
(ر: دَرَاهِم ف 10 - 11) .
هـ - ضَرْبُ النُّقُودِ الْحَامِلَةِ لِلصُّوَرِ وَاسْتِعْمَالُهَا:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَرْبِ وَاسْتِعْمَال النُّقُودِ الَّتِي
تَحْمِل صُوَرًا فَأَبَاحَهَا بَعْضُهُمْ وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (دَرَاهِم ف 12، تَصْوِير ف 30، 57) .
__________
(1) إغاثة الأمة بكشف الغمة ص 51 - 55. .
(2) الزرقاني على خليل 1 / 94، وجواهر الإكليل 1 / 21، والمغني لابن قدامة
1 / 148 ط ثالثة، وتحفة المحتاج 1 / 150.
(41/181)
و - ضَرْبُ النُّقُودِ الْمَغْشُوشَةِ
وَالتَّعَامُل بِهَا:
22 - النُّقُودُ الْمَغْشُوشَةُ هِيَ الَّتِي خَالَطَ الْمَعْدِنَ
النَّفِيسَ فِيهَا مَعْدِنٌ آخَرُ.
وَغِشُّ النُّقُودِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ مِنْ
غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْغِشُّ مِنَ الإِْمَامِ لِمَصْلَحَةِ صَلاَبَةِ
النَّقْدِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا الإِْمَامُ وَيَتَصَرَّفُ
بِمُقْتَضَاهَا لِمَصْلَحَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ جَائِزٌ،
وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ لِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الإِْمَامِ
فَفِيهِ وَفِي التَّعَامُل بِهَذِهِ النُّقُودِ الْمَغْشُوشَةِ خِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَزْوِير ف 16، زُيُوف ف 6، 7،
سَتُّوقَة ف 4، غِشّ ف 9، صَرْف ف 41 - 45، نَبَهْرَجَة ف 4) .
كَيْفِيَّةُ التَّصَرُّفِ بِالنُّقُودِ الْمَغْشُوشَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّصَرُّفِ فِي النُّقُودِ
الْمَغْشُوشَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى سَبْكَهَا وَتَصْفِيَتَهَا،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى كَسْرَهَا. وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي
مُصْطَلَحِ (زُيُوف ف 7) .
__________
(1) وَلاَ يَخْفَى أَنَّ طَبْعَ نُقُودٍ وَرَقِيَّةٍ مُطَابِقَةٍ فِي
الْهَيْئَةِ لِلنُّقُودِ الْوَرَقِيَّةِ الَّتِي تُصْدِرُهَا الدَّوْلَةُ
هُوَ مِنْ بَابِ التَّزْوِيرِ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ عُقُوبَةً
تَعْزِيرِيَّةً لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى الدَّوْلَةِ وَتَغْرِيرِه
(41/182)
التَّعَامُل بِالنُّقُودِ الرَّدِيئَةِ:
24 - النُّقُودُ الرَّدِيئَةُ هِيَ ضِدُّ الْجَيِّدَةِ، وَقَدْ فَصَّل
الْفُقَهَاءُ حُكْمَ التَّعَامُل بِالنُّقُودِ الرَّدِيئَةِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (رَدَاءَة ف 2 - 5) .
ثَالِثًا: كَسْرُ النُّقُودِ:
25 - الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَكْسُورَةُ، أَوِ الْمَقْطُوعَةُ -
وَضِدُّهَا الصَّحِيحَةُ وَالصِّحَاحُ - هِيَ مَا قُطِعَتْ بِالْمِقْرَاضِ،
أَمَّا أَرْبَاعُ الْقُرُوشِ فَهِيَ نُقُودٌ صَحِيحَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ، وَيُنْظَرُ
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَرَاهِم ف 8) .
رَابِعًا: التَّزَيُّنُ بِالنُّقُودِ:
26 - اسْتِعْمَال زِينَةِ الذَّهَبِ حَلاَلٌ لِلنِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَى
الرِّجَال، وَزِينَةُ الْفِضَّةِ حَلاَلٌ لِلنِّسَاءِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ
لِلرَّجُل مِنْهَا الْيَسِيرُ عَلَى تَفْصِيلٍ ذُكِرَ فِي مُصْطَلَحِ
(ذَهَب ف 4، 9، وَفِضَّة ف 6 - 8) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّحَلِّي
بِالدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ حَسَبَ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ
إِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى قَطْعِهَا، فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى قَطْعِهَا لَمْ
يَجُزْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال
الرَّمْلِيُّ: لَوِ اسْتَعْمَلَتِ الْمَرْأَةُ الدَّنَانِيرَ لِلتَّحَلِّي،
فَإِنْ جَعَلَتْ لَهَا عُرًى
(41/182)
وَجَعَلَتْهَا فِي قِلاَدَتِهَا جَازَ،
أَمَّا إِنْ تَقَلَّدَتْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ مَثْقُوبَةً
فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ
تَحْرِيمُهَا (1) .
وَلَمْ يَرَ أَحْمَدُ أَنْ تُقْطَعَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ
أَجْل التَّحَلِّي.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلاَ بَأْسَ بِقَطْعِهَا لِهَذَا الْغَرَضِ
عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ (2) .
(ر: دَرَاهِم ف 8) .
خَامِسًا: النُّقُودُ فِي الْعُقُودِ:
27 - تُسْتَخْدَمُ النُّقُودُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالأَْنْكِحَةِ
وَالتَّبَرُّعَاتِ وَغَيْرِهَا، وَلاَ تَخْتَصُّ بِذَلِكَ فَقَدْ
تُسْتَعْمَل الْعُرُوضُ أَيْضًا، فَيَكُونُ الْعَرْضُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَوْ
أُجْرَةً، أَوْ مَهْرًا أَوْ مَوْهُوبًا، أَوْ جُعْلاً، أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ.
وَفِي الْبَيْعِ يُسَمَّى بَيْعُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ مُقَايَضَةً،
وَبَيْعُ الْعَقَارِ بِالْعَقَارِ مُنَاقَلَةً.
غَيْرَ أَنَّ الأَْكْثَرَ فِي الْمُبَايَعَاتِ وَنَحْوِهَا أَنْ يَكُونَ
الْعِوَضُ نَقْدًا، وَهِيَ الْوَظِيفَةُ الْكُبْرَى لِلنُّقُودِ،
وَيُسَمَّى الْعِوَضُ النَّقْدِيُّ ثَمَنًا، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ
النُّقُودِ فِي الْمُبَايَعَاتِ فِي مُصْطَلَحِ (ثَمَن ف 8) .
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 93.
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 182، وفتح العلي المالك 1 / 219.
(41/183)
وَإِذَا بِيعَ النَّقْدُ بِالنَّقْدِ
سُمِّيَ ذَلِكَ صَرْفًا، وَهُوَ تَبَادُل الْعُمُلاَتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
وَإِذَا بِيعَ النَّقْدُ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ وَجَبَ التَّمَاثُل فِي
الْوَزْنِ وَالتَّقَابُضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَإِلاَّ كَانَ رِبَا
فَضْلٍ أَوْ رِبَا نَسِيئَةٍ، وَإِذَا بِيعَ بِنَقْدٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ
وَجَبَ التَّقَابُضُ وَلَمْ يَجِبِ التَّمَاثُل، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ
يُنْظَرُ فِي (صَرْف ف 20، 28) .
مَا يَجِبُ فِيهِ النُّقُودُ وَلاَ يَجُوزُ الْعَرْضُ:
رَأْسُ مَال شَرِكَةِ الْعَقْدِ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَعْل الْعُرُوضِ رَأْسَ مَالٍ فِي
شَرِكَةِ الْعَقْدِ:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَعَامَّةُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي
قَوْلٍ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الأَْثْمَانِ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ عَرْضًا وَلَوْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا؛ لأَِنَّ
الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِرَأْسِ الْمَال
أَوْ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ كَانَ عَرْضًا تَعَذَّرَ رُجُوعُ كُلٍّ مِنَ
الشَّرِيكَيْنِ إِلَى حَقِّهِ بِيَقِينٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ الْمِثْلِيُّ
رَأْسَ مَال شَرِكَةٍ، وَيُرْجَعُ عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِمِثْلِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ إِلاَّ إِذَا
كَانَ رَأْسُ الْمَال طَعَامًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلاَ تَجُوزُ، (ر:
شَرِكَة الْعَقْدِ ف 44) .
(41/183)
وَعِنْدَ الأَْوْزَاعِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ.
29 - وَقَال الأَْكْثَرُونَ: يُعْتَبَرُ فِي رَأْسِ الْمَال فِي
الْمُضَارَبَةِ وَفِي الشَّرِكَةِ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا مَضْرُوبًا وَلاَ
يَجُوزُ فِي النُّقْرَةِ؛ لأَِنَّهَا تَزِيدُ قِيمَتُهَا وَتَنْقُصُ.
قَال الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: لاَ يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِغَيْرِ
الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ؛ لأَِنَّهَا أُصُول الأَْثْمَانِ وَقِيَمُ
الْمُتْلَفَاتِ، وَلاَ يَدْخُل أَسْوَاقَهَا تَغْيِيرٌ، فَأَمَّا مَا
يَدْخُلُهُ تَغْيِيرُ الأَْسْوَاقِ مِنَ الْعُرُوضِ فَلاَ يَجُوزُ
الْقِرَاضُ بِهِ، وَمُرَادُهُ بِتَغْيِيرِ الأَْسْوَاقِ ارْتِفَاعُ
الأَْسْعَارِ وَانْخِفَاضُهُ (1) .
وَلاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ عِنْدَ
الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَل
الْغِشُّ أَوْ كَثُرَ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ أَقَل
مِنَ النِّصْفِ جَازَ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلأَْكْثَرِ، وَالأَْصَحُّ
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ إِنْ
كَانَ رَائِجًا (2) .
أَمَّا الْفُلُوسُ فَلاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا فِي قَوْل أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ؛ لأَِنَّهَا تَنْفُقُ مَرَّةً
وَتَكْسُدُ أُخْرَى فَأَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.
__________
(1) فتح القدير 6 / 168، والفتاوى الهندية 2 / 306، وحاشية الدسوقي على
الشرح الكبير 3 / 349 - 351، والمحلي شرح المنهاج 2 / 334، وشرح منتهى
الإرادات 2 / 322، والمغني 5 / 13 - 15.
(2) المغني 5 / 14، ونهاية المحتاج 5 / 7.
(41/184)
وَفِي قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَبِي ثَوْرٍ،
وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا إِنْ
كَانَتْ نَافِقَةً وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ
الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِيهَا
فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَافِقَةً كَانَ رَأْسُ الْمَال مِثْلَهَا، وَإِنْ
كَانَتْ كَاسِدَةً كَانَ رَأْسُ الْمَال قِيمَتَهَا (1) .
(ر: فُلُوس ف 5) .
30 - وَجَمَعَ السُّيُوطِيُّ مِنْ فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ أَحْكَامًا
يَخْتَصُّ بِهَا النَّقْدُ الذَّهَبِيُّ وَالْفِضِّيُّ:
مِنْهَا: أَنَّهُمَا قِيَمُ الأَْشْيَاءِ، فَلاَ تَقْوِيمَ بِغَيْرِهِمَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لاَ يَبِيعُ الْقَاضِي وَالْوَكِيل وَالْوَلِيُّ مَال
الْغَيْرِ إِلاَّ بِهِمَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لاَ يُفْرَضُ مَهْرُ الْمِثْل إِلاَّ مِنْهُمَا (2) .
مَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ النَّقْدُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ فِي الْعُقُودِ
وَالإِْقْرَارَاتِ وَنَحْوِهِمَا:
31 - إِذَا تَبَايَعَا سِلْعَةً بِنَقْدٍ، دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ
__________
(1) المغني 4 / 15، والفتاوى الهندية 2 / 306، وابن عابدين 3 / 340، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 322.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 370 نشر مصطفى الحلبي.
(41/184)
وَعَيَّنَا نَوْعًا مِنْهُ فَإِنَّهُ
يَتَعَيَّنُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ نَقْدِ الْبَلَدِ وَلَوْ كَانَ عَزِيزًا،
أَمَّا إِنْ أَطْلَقَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ نَوْعٌ
وَاحِدٌ انْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَيَصِيرُ هُوَ الْمُسَمَّى.
وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى
الْغَالِبِ رَوَاجًا وَلَوْ كَانَ مَغْشُوشًا أَوْ نَاقِصَ الْوَزْنِ، إِذِ
الظَّاهِرُ إِرَادَتُهُمَا لَهُ.
وَإِنْ تَفَاوَتَتْ قِيمَةُ أَنْوَاعِ النُّقُودِ وَرَوَاجُهَا وَجَبَ
التَّعْيِينُ، فَإِنِ اتَّفَقَتِ الْقِيمَةُ وَاخْتَلَفَا فِيمَا وَقَعَ
بِهِ الْعَقْدُ تَحَالَفَا.
وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ فَأَكْثَرُ وَلَمْ يَغْلِبْ
أَحَدُهُمَا اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا (1) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل (ثَمَن ف 20) .
وَلَوْ ذَكَرَ عَدَدًا دُونَ تَفْسِيرٍ بِأَنْ لَمْ يَذْكُرْ دِينَارًا
وَلاَ دِرْهَمًا وَلاَ فَلْسًا، يَعْمَل بِالْعُرْفِ، قَال الْمَوْصِلِيُّ:
لَوْ قَال: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الدَّارَ بِعَشَرَةٍ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ
بِعَشَرَةٍ، أَوْ هَذَا الْبِطِّيخَ بِعَشَرَةٍ انْصَرَفَتِ الْعَشَرَةُ
فِي الدَّارِ إِلَى الدَّنَانِيرِ، وَفِي الثَّوْبِ إِلَى الدَّرَاهِمِ،
وَفِي الْبِطِّيخِ إِلَى الْفُلُوسِ بِدَلاَلَةِ الْعُرْفِ (2) .
وَمِنْ هُنَا يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ كُل
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 410، 411، وتنبيه الرقود ص 34، والفتاوى الهندية 4 /
412، ونزهة النفوس 39.
(2) الاختيار 2 / 5.
(41/185)
عِوَضٍ نَقْدِيٍّ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ
لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ،
إِلاَّ إِذَا لَمْ يَرُجْ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ نَقْدٌ وَاحِدٌ.
وَيُعْمَل فِي الْوَصَايَا وَالأَْوْقَافِ وَنَحْوِهَا، إِذَا جُعِل
لِلْمُوصَى لَهُ أَوِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ
مَعْدُودَةٌ فِي حَال الإِْطْلاَقِ بِالْعُرْفِ الَّذِي كَانَ جَارِيًا
وَقْتَ الْوَقْفِ أَوِ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ وَأَطْلَقَ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِنَقْدِ
الْبَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهَا فِيهِ قُبِل، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ
أَجْوَدُ مِنْهَا قُبِل كَذَلِكَ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا هُوَ أَدْنَى
لَمْ يُقْبَل (1) .
وَلَوْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَطْلَقَ يَلْزَمُهُ مِنْ
دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَدَنَانِيرِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةَ الْوَزْنِ
أَوْ مَغْشُوشَةً؛ لأَِنَّ مُطْلَقَ كَلاَمِهِمْ يُحْمَل عَلَى عُرْفِ
بَلَدِهِمْ، كَمَا فِي الثَّمَنِ وَالأُْجْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي
وَجْهٍ ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْقَلْيُوبِيُّ: تَلْزَمُهُ
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْوَازِنَةُ الْخَالِصَةُ مِنَ الْغِشِّ
حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي النَّقْدِ الإِْسْلاَمِيِّ فِي الصَّدْرِ
الأَْوَّل، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَفَارَقَ الإِْقْرَارُ الْبَيْعَ فِي
هَذَا؛ لأَِنَّهُ إِيجَابٌ فِي الْحَال فَاخْتَصَّ بِدَرَاهِمِ الْمَوْضِعِ
الَّذِي هُمَا فِيهِ، وَالإِْقْرَارُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ سَابِقٍ،
فَانْصَرَفَ إِلَى دَرَاهِمِ الإِْسْلاَمِ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 156.
(2) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 9، والمغني 5 / 155.
(41/185)
وَيُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ
وَكَّل إِنْسَانًا يَبِيعُ لَهُ عَيْنًا وَأَطْلَقَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَبِيعَ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ إِلاَّ بِإِذْنٍ، عَمَلاً بِالْعُرْفِ،
وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ؛ لأَِنَّ الشَّرِيكَ وَالْوَكِيل لَهُمَا
التَّصَرُّفُ بِلاَ ضَرَرٍ، كَمَا أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ وَالْوِكَالَةِ
لاَ يُتِيحُ لَهُمَا الْبَيْعَ بِنَسِيئَةٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحْشٍ إِلاَّ
بِإِذْنٍ (1) .
تَعَيُّنُ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ:
32 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ
الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أَنَّ النُّقُودَ الذَّهَبِيَّةَ وَالْفِضِّيَّةَ،
وَكَذَا الْفُلُوسُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ
بِالتَّعْيِينِ كَمَا تَتَعَيَّنُ السِّلَعُ، فَلَوِ اشْتَرَى شَاةً
بِهَذَا الدِّينَارِ لَزِمَهُ أَدَاءُ ذَلِكَ الدِّينَارِ بِعَيْنِهِ إِلَى
الْبَائِعِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ الدِّينَارَ مَغْصُوبًا أَوْ تَلِفَ
فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْل قَبْضِ الْبَائِعِ لَهُ فَسَدَ الْبَيْعُ؛
لأَِنَّ الثَّمَنَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ، فَيَتَعَيَّنُ قِيَاسًا عَلَى
الْمَبِيعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ النُّقُودَ لاَ تَتَعَيَّنُ
بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ إِطْلاَقُهَا فِيهِ،
كَالْمِكْيَال وَالصَّنْجَةِ، وَلأَِنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَا فِي
الذِّمَّةِ، فَلاَ
__________
(1) القليوبي 2 / 341، 335، والمغني 5 / 123، 35.
(41/186)
يَكُونُ مُحْتَمِلاً لِلتَّعْيِينِ
بِالإِْشَارَةِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ فَتَتَعَيَّنُ
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الصَّرْفِ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ
لاِشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الصَّرْفِ
بَعْدَ فَسَادِهِ، وَبَعْدَ هَلاَكِ الْمَبِيعِ، وَفِي الدَّيْنِ
الْمُشْتَرَكِ، فَيُؤْمَرُ الْقَابِضُ مِنْهُمَا بِرَدِّ نِصْفِ مَا قَبَضَ
عَلَى شَرِيكِهِ، وَفِيمَا إِذَا تَبَيَّنَ بُطْلاَنُ قَضَاءِ الدَّيْنِ،
فَلَوِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالاً فَأَخَذَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ حَقٌّ، فَعَلَى الْمُدَّعِي رَدُّ مَا أَخَذَهُ
بِعَيْنِهِ مَا دَامَ قَائِمًا.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ النُّقُودَ لاَ تَتَعَيَّنُ فِي الْمَهْرِ
وَلَوْ بَعْدَ الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول فَتُرَدُّ مِثْل نِصْفِهِ، وَلاَ
فِي النَّذْرِ، وَالْوِكَالَةِ قَبْل التَّسْلِيمِ، وَأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ
فِي الأَْمَانَاتِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالشَّرِكَةِ
وَالْمُضَارَبَةِ وَالْغَصْبِ.
وَفِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ، وَرَجَّحَ
بَعْضُهُمْ تَفْصِيلاً: أَنَّ مَا فَسَدَ مِنْ أَصْلِهِ تَتَعَيَّنُ فِيهِ،
لاَ فِيمَا انْتُقِضَ بَعْدَ صِحَّتِهِ.
وَأَمَّا الْفُلُوسُ فَإِنَّهَا لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَ
الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتْ رَائِجَةً لأَِنَّهَا بِالاِصْطِلاَحِ صَارَتْ
أَثْمَانًا.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الصَّرْفَ وَالْكِرَاءَ، وَكَوْنَ الآْخِذِ
لَهَا مِنْ ذَوِي الشُّبَهَاتِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ
(41/186)
تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ فِي حَقِّهِ،
فَيُلْزَمُ بِرَدِّهَا بِعَيْنِهَا إِنْ حَصَلَتْ إِقَالَةٌ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ أَيْضًا (ثَمَن ف 9 - 11، صَرْف ف 49) .
قِيَامُ بَعْضِ النُّقُودِ مَقَامَ بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ
وَالْمُعَامَلاَتِ:
33 - الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ جِنْسَانِ مُتَبَايِنَانِ، وَلِذَا
يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ نَقْدًا مَعَ التَّفَاضُل
بَيْنَهُمَا، عَلَى أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي
الثَّمَنِيَّةِ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ الأَْصْلِيُّ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُمَا
كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي أَحْكَامٍ
مُعَيَّنَةٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجْرِي الدَّرَاهِمُ مَجْرَى الدَّنَانِيرِ فِي
عِدَّةِ مَسَائِل، وَيُوَافِقُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي بَعْضِهَا. وَفَصَّلَهَا
ابْنُ عَابِدِينَ، وَمِنْهَا:
أ - الزَّكَاةُ، فَتُضَمُّ الدَّرَاهِمُ إِلَى الدَّنَانِيرِ فِي تَكْمِيل
النِّصَابِ، وَيَجُوزُ إِخْرَاجُ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ عَنِ الآْخَرِ.
وَيُوَافِقُ الْحَنَفِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الضَّمِّ الْمَالِكِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 13، وحاشية ابن عابدين 4 / 128، 166، والأشباه
والنظائر لابن نجيم ص 375 نشر دار الفكر، والمغني 4 / 43 - 50، والشرح
الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 155، 445، والفروق 3 / 255، والمنتقى 4 / 268.
(41/187)
وَالثَّوْرِيُّ. وَيُخَالِفُهُمُ
الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
(ر: زَكَاة ف 76 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - قَضَاءُ الدَّيْنِ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ،
وَقَدِ امْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ، فَوَقَعَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ
الْقَاضِي دَنَانِيرُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا بِالدَّرَاهِمِ حَتَّى
يَقْضِيَ غَرِيمَهُ. وَلاَ يُفْعَل ذَلِكَ فِي غَيْرِ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
(ر: إِفْلاَس ف 6) .
ج - لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِدَرَاهِمَ ثُمَّ قَبْل أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ
اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ بِعَيْنِهِ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِدَرَاهِمَ أَقَل
مِمَّا بَاعَ بِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ فِي
ذَلِكَ رِبَا الْفَضْل. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ بِدَرَاهِمَ بَل
بِدَنَانِيرَ تَقِل قِيمَتُهَا عَنِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي بَاعَهَا بِهِ
يَفْسُدُ أَيْضًا، بِخِلاَفِ مَا لَوِ اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ، وَذَلِكَ
لأَِنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ جِنْسَانِ صُورَةً وَجِنْسٌ وَاحِدٌ
مَعْنًى؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ،
وَهِيَ مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْعَيِّنَةِ، يَرَى تَحْرِيمَهَا الْحَنَفِيَّةُ
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهُ (1) ،
وَلأَِنَّهُ ذَرِيعَةُ الرِّبَا. وَيُجِيزُهُ الشَّافِعِيُّ نَظَرًا إِلَى
صُورَةِ الْعَقْدِ حَيْثُ تَوَافَرَتْ أَرْكَانُهُ وَشُرُوطُهُ.
(ر: بَيْع الْعَيِّنَةِ ف 3) .
__________
(1) حديث النهي عن بيع العينة. أخرجه أبو داود (3 / 740 - 741 ط حمص) من
حديث ابن عمر.
(41/187)
د - الشُّفْعَةُ، وَصُورَتُهُ: أَخْبَرَ
الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَرَاهُ
بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرُ لَيْسَ لَهُ
طَلَبُهَا وَسَقَطَتْ بِالتَّسْلِيمِ الأَْوَّل.
هـ - الإِْكْرَاهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ
كَانَ الْبَيْعُ عَلَى حُكْمِ الإِْكْرَاهِ، لاَ لَوْ بَاعَهُ بِكَيْلِيٍّ
أَوْ وَزْنِيٍّ أَوْ عَرْضٍ، وَالْقِيمَةُ كَذَلِكَ.
و الْمُضَارَبَةُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَبَقَاءً، وَلَهَا ثَلاَثُ
صُوَرٍ:
إِحْدَاهَا: مَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ دَرَاهِمَ فَمَاتَ رَبُّ
الْمَال أَوْ عُزِل الْمُضَارِبُ عَنِ الْمُضَارَبَةِ وَفِي يَدِهِ
دَنَانِيرُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا،
وَلَكِنْ يَصْرِفُ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ، وَلَوْ كَانَ مَا فِي
يَدِهِ عُرُوضٌ أَوْ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى
رَأْسِ الْمَال، وَلَوْ بَاعَ الْمَتَاعَ بِالدَّنَانِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا إِلاَّ الدَّرَاهِمَ.
وَثَانِيَتُهَا: لَوْ كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ دَرَاهِمَ فِي يَدِ
الْمُضَارِبِ فَاشْتَرَى مَتَاعًا بِكَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ لَزِمَهُ،
وَلَوِ اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ
اسْتِحْسَانًا عِنْدَهُمَا، فَالصُّورَةُ الأُْولَى تَصْلُحُ مِثَالاً
لِلاِنْتِهَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلْبَقَاءِ.
(41/188)
وَالثَّالِثَةُ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ
الْمُضَارَبَةِ ابْتِدَاءً، فَصُورَتُهَا: عَقَدَ مَعَهُ الْمُضَارَبَةَ
عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ وَبَيَّنَ الرِّبْحَ، فَدَفَعَ لَهُ دَرَاهِمَ
قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ تِلْكَ الدَّنَانِيرُ صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ
وَالرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا أَوَّلاً.
ز - امْتِنَاعُ الْمُرَابَحَةِ، وَصُورَتُهُ: اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ وَبَاعَهُ مُرَابَحَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، ثُمَّ
اشْتَرَاهُ أَيْضًا بِدَنَانِيرَ، لاَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً؛ لأَِنَّهُ
يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَحُطَّ مِنَ الدَّنَانِيرِ رِبْحَهُ وَهُوَ
دِرْهَمَانِ فِي قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلاَ يُدْرَكُ ذَلِكَ
إِلاَّ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْكَيْلِيِّ أَوِ الْوَزْنِيِّ أَوِ الْعَرُوضِ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى
الثَّمَنِ الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْوِيمِ الدَّنَانِيرِ
بِالدَّرَاهِمِ وَهُوَ مُجَرَّدُ ظَنٍّ، وَمَبْنَى الْمُرَابَحَةِ
كَالتَّوْلِيَةِ وَالْوَضِيعَةِ عَلَى الْيَقِينِ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ
لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ الْخِيَانَةِ.
ح - الشَّرِكَاتُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَال أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَمَال
الآْخَرِ دَنَانِيرَ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ شَرِكَةُ الْعِنَانِ
بَيْنَهُمَا.
ط - قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، يَعْنِي أَنَّ الْمُقَوِّمَ إِنْ شَاءَ قَوَّمَ
بِدَرَاهِمَ وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ بِدَنَانِيرَ وَلاَ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ
الْجِنْسَيْنِ.
ي - أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، كَالْمُوضِحَةِ يَجِبُ فِيهَا نِصْفُ عُشْرِ
الدِّيَةِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ الْعُشْرُ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرٌ
وَنِصْفُ عُشْرٍ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَالدِّيَةُ إِمَّا
أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةُ آلاَفِ
(41/188)
دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ فَيَجُوزُ
التَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ مِنْ أَيِّ الْجِنْسَيْنِ (1) .
اسْتِيفَاءُ أَحَدِ جِنْسَيِ النَّقْدِ مِنَ الآْخَرِ:
34 - مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ
أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، كَدَنَانِيرَ فَأَخَذَ عَنْهَا دَرَاهِمَ، أَوْ
عَكْسُهُ، جَازَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
فِي الْجَدِيدِ، وَالْتَزَمَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ ذَلِكَ
إِلاَّ إِنْ كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، آخِذًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: " لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا
بِسِعْرِ يَوْمِهَا " (2) ، وَلأَِنَّهُ اقْتِضَاءُ دَيْنٍ، وَلَيْسَ مِنْ
بَابِ الْمُعَاوَضَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَقْضِيهِ مَكَانَ
الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ عَلَى التَّرَاضِي؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَال،
فَجَازَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَقُول ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَابِ
السَّلَمِ: إِذَا حَل الأَْجْرُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 375 في أحكام النقد، وحاشية ابن عابدين 4
/ 115، 116 و 3 / 200، والمغني 4 / 257، والروضة 3 / 416، 417، والدسوقي 3
89.
(2) حديث: " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ". أخرجه أبو داود (3 / 561 ط
حمص) ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 25 - 26 ط شركة الطباعة الفنية) عن
البيهقي أنه أعله بالوقف
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 205، والمغني 4 / 47 - 50، وابن عابدين 4 /
115، 244، والقليوبي 2 / 214.
(41/189)
الْفِضَّةِ الذَّهَبَ، وَمِنَ الذَّهَبِ
الْفِضَّةَ بِصَرْفِ الْيَوْمِ وَبِمَا شَاءَ، ثُمَّ لاَ يَفْتَرِقَانِ
وَبَيْنَهُمَا عَمَلٌ فِيمَا تَصَارَفَا فِيهِ.
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دِينَارٌ
فَأَكْثَرُ فَقَضَاهُ دَرَاهِمَ مُتَفَرِّقَةً، كُل نَقْدَةٍ مِنَ
الدَّرَاهِمِ بِحِسَابِهَا مِنَ الدَّنَانِيرِ صَحَّ، نَصَّ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ. أَمَّا إِنْ صَارَ يَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ شَيْئًا فَشَيْئًا
ثُمَّ صَارَفَهُ بِهَا وَقْتَ الْمُحَاسَبَةِ فَلاَ يَجُوزُ وَلاَ يَصِحُّ؛
لأَِنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ
ذَلِكَ (1) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (صَرْف ف 37 - 40) .
الْمُقَاصَّةُ فِي الدُّيُونِ النَّقْدِيَّةِ:
35 - إِذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ شَخْصَيْنِ دَيْنٌ عَلَى الآْخَرِ،
وَاتَّفَقَ الدَّيْنَانِ فِي الْجِنْسِ وَالْوَصْفِ وَوَقْتِ الأَْدَاءِ،
كَأَنْ كَانَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً
بِأَجَلٍ وَاحِدٍ، تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مُقَاصَّة ف 5
وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 204، والكافي لابن عبد البر 2 / 643، وابن
عابدين 4 / 239.
(2) جواهر الإكليل 2 / 76، وشرح المنهاج 4 / 336، والدسوقي على الشرح
الكبير 3 / 227.
(41/189)
السَّلَمُ فِي النُّقُودِ:
36 - لاَ خِلاَفَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ
يُسْلِمَ دَنَانِيرَ فِي دَرَاهِمَ، وَلاَ دَرَاهِمَ فِي دَنَانِيرَ،
فَإِنْ فَعَل يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا.
أَمَّا لَوْ أَسْلَمَ عَرْضًا فِي دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَقَدْ
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لأَِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ
تَنْضَبِطَ بِالْوَصْفِ وَالْوَزْنِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَسْلَفَ فَلاَ يُسْلِفْ إِلاَّ فِي
كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ " (1) وَهِيَ مَوْزُونَةٌ
وَلأَِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالْمَهْرِ الْمُؤَجَّل،
وَالْبَيْعِ بِثَمَنٍ آجِلٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ ذَلِكَ سَلَمًا بِاتِّفَاقٍ؛
لأَِنَّهَا أَثْمَانٌ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ
مُثَمَّنًا، لأَِنَّهُ مَحَل الْبَيْعِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ أَبُو
بَكْرٍ الأَْعْمَشُ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا، لأَِنَّهُ فِي
الْمَعْنَى بَيْعٌ لِلْعَرْضِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَالْعِبْرَةُ فِي
الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي. وَقَال عِيسَى بْنُ أَبَانَ: يَبْطُل؛ لأَِنَّ
الْعَاقِدَيْنِ لَمْ يُوجِبَا الْعَقْدَ فِي الْعَرْضِ بَل فِي
الدَّرَاهِمِ، فَلاَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ مَعَ
__________
(1) حديث: " من أسلف فلا يسلف إلا في كيل. . . ". أخرجه البخاري (فتح
الباري 4 / 429 ط السلفية) ومسلم (3 / 1228 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن
عباس - رضي الله عنهما - واللفظ لمسلم
(41/190)
اخْتِلاَفِ الْمَحَل. وَرَجَّحَ ابْنُ
الْهُمَامِ الأَْوَّل تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا، وَرَجَّحَ صَاحِبُ
النَّهْرِ الثَّانِيَ (1) .
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ
الْخَالِصَةِ.
37 - وَأَمَّا الْمَغْشُوشَةُ فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ
أَنَّهَا إِنْ كَانَ الْغِشُّ فِيهَا مَغْلُوبًا فَيَمْتَنِعُ فِيهَا
السَّلَمُ؛ لأَِنَّهَا تَجْرِي فِي الْمُعَامَلاَتِ لَدَيْهَا مَجْرَى
الْخَالِصِ، لأَِنَّ الْعِبْرَةَ لِلأَْغْلَبِ، وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ
غَالِبًا فَهِيَ كَالْفُلُوسِ كَمَا يَأْتِي.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى بِأَنَّ
الأَْثْمَانَ الْمَغْشُوشَةَ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا؛ لأَِنَّ
غِشَّهَا يَمْنَعُ الْعِلْمَ بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنَ
الْغَرَرِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ رَأْسَ مَال
سَلَمٍ لِلسَّبَبِ نَفْسِهِ.
وَقَال الشَّيْخُ عُمَيْرَةُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الدَّرَاهِمُ
وَالدَّنَانِيرُ لَوْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَالظَّاهِرُ الصِّحَّةُ؛
لأَِنَّ الْغِشَّ غَيْرُ مَقْصُودٍ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 203، والفتاوى الهندية 3 / 181، 182، وتكملة فتح
القدير 7 / 62، وجواهر الإكليل 2 / 68، وشرح المحلي مع حاشية القليوبي 2 /
255، وشرح منتهى الإرادات 2 / 215، والمغني 4 / 299.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 215، وحاشية عميرة على شرح المنهاج 2 / 255.
(41/190)
السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - إِلَى جَوَازِ
السَّلَمِ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا؛ لأَِنَّ ثَمَنِيَّتَهَا لَيْسَتْ
بِلاَزِمَةٍ بَل تَحْتَمِل الزَّوَال، لأَِنَّهَا ثَبَتَتْ بِالاِصْطِلاَحِ
فَتَزُول بِالاِصْطِلاَحِ، وَإِقْدَامُ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى عَقْدِ
السَّلَمِ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِمَا أَنَّهُ لاَ صِحَّةَ لِلسَّلَمِ فِي
الأَْثْمَانِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى إِخْرَاجِهَا عَنْ صِفَةِ
الثَّمَنِيَّةِ، فَتَبْطُل فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ سَابِقًا عَلَى
الْعَقْدِ وَتَصِيرُ سُلَفًا عَدَدِيَّةً فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا (1) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْفُلُوسِ وَلَوْ
كَانَتْ نَافِقَةً، سَوَاءٌ ضَبَطَهَا بِالْعَدَدِ أَوِ الْوَزْنِ؛
لأَِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالنَّقْدِ عَلَى مَا قَال الْبُهُوتِيُّ،
وَيَكُونُ رَأْسُ مَالِهِ عَرْضًا لاَ نَقْدًا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَرِهَ
مَالِكٌ السَّلَمَ فِي الْفُلُوسِ وَبَيْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسِيئَةً
وَلَمْ يُجِزْهَا إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ (2)
.
التِّجَارَةُ فِي النُّقُودِ (الصِّرَافَةُ) :
39 - صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِكَرَاهَةِ التِّجَارَةِ فِي
__________
(1) البدائع 5 / 208، وابن عابدين 4 / 203، والفتاوى الهندية 3 / 183.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 215، والكافي لابن عبد البر 2 / 644، والأم 3 /
98.
(41/191)
النُّقُودِ، قَال الْغَزَالِيُّ: خَلَقَ
اللَّهُ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لِيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ
الأَْمْوَال بِالْعَدْل، ثُمَّ قَال: وَالنَّقْدُ لاَ غَرَضَ فِيهِ وَهُوَ
وَسِيلَةٌ إِلَى كُل غَرَضٍ، فَهُوَ كَالْحَرْفِ لاَ مَعْنَى لَهُ فِي
نَفْسِهِ، وَتَظْهَرُ بِهِ الْمَعَانِي فِي غَيْرِهِ. ثُمَّ قَال: مَنْ
مَعَهُ عَرْضٌ فَهُوَ مَعْذُورٌ إِنْ بَاعَهُ بِنَقْدٍ لِيَصِل بِهِ إِلَى
مَا شَاءَ مِنَ الْعُرُوضِ. أَمَّا مَنْ يَتَّخِذُ بَيْعَ النَّقْدِ
بِالنَّقْدِ غَايَتَهُ، فَإِنَّ النَّقْدَ يَبْقَى مُقَيَّدًا عِنْدَهُ،
وَيَنْزِل مَنْزِلَةَ الْمَكْنُوزِ، فَلاَ مَعْنَى لِبَيْعِ النَّقْدِ
بِالنَّقْدِ إِلاَّ اتِّخَاذُ النَّقْدِ مَقْصُودًا لِلاِدِّخَارِ وَهُوَ
ظُلْمٌ (1) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَرِهُوا الصَّرْفَ؛ لأَِنَّ
الاِحْتِرَازَ فِيهِ عَنْ دَقَائِقِ الرِّبَا عَسِيرٌ، وَلأَِنَّهُ طَلَبٌ
لِدَقَائِقِ الصِّفَاتِ فِيمَا لاَ تُقْصَدُ أَعْيَانُهَا، وَإِنَّمَا
يُقْصَدُ رَوَاجُهَا، وَقَلَّمَا يَتِمُّ لِلصَّيْرَفِيِّ رِبْحٌ إِلاَّ
بِاعْتِمَادِ جَهَالَةِ مُعَامِلِهِ بِدَقَائِقِ النَّقْدِ، فَقَلَّمَا
يَسْلَمُ الصَّيْرَفِيُّ وَإِنِ احْتَاطَ (2) .
وَكَرَاهَةُ حِرْفَةِ الصِّرَافَةِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَال
الْبُهُوتِيُّ: لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَفِي نَيْل الْمَآرِبِ:
جَعَلَهَا مِنْ أَبْغَضِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، كَالصِّيَاغَةِ (3) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 12 / 2221.
(2) إحياء علوم الدين 5 / 795 ط الشعب.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 411، وكشاف القناع 6 / 214، ونيل المآرب 2 /
412.
(41/191)
إِقْرَاضُ النُّقُودِ:
40 - يَجُوزُ إِقْرَاضُ النُّقُودِ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَهَبِيَّةً أَوْ
فِضِّيَّةً أَوْ فُلُوسًا.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ
أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَعْطَاهُ، أَوْ يَرُدَّ
صِحَاحًا عَنْ مُكَسَّرَةٍ. فَإِنْ رَدَّ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ
جَازَ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "
خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً " (1) قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَلَوْ نَوَى
ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَوْ لِمَنْ عُرِفَ
بِالرَّدِّ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَقَال كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ
بِالْحُرْمَةِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ
عَادَتُهُ أَنْ يَرُدَّ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَعُرِفَ ذَلِكَ عَنْهُ
فَلاَ يَحْرُمُ إِقْرَاضُهُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَبِمِثْل ذَلِكَ صَرَّحَ
الْحَنَابِلَةُ (3) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (قَرْض ف 24 وَمَا بَعْدَهَا) .
__________
(1) حديث: " خيركم أحسنكم قضاء ". أخرجه مسلم (3 / 1225 ط عيسى الحلبي)
(2) المغني 4 / 317، 318، ورد المحتار 4 / 172، 174، وحاشية القليوبي على
شرح المنهاج 2 / 260.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 96، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 108،
والمغني 4 / 322.
(41/192)
رَهْنُ النُّقُودِ:
41 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ رَهْنِ
النُّقُودِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ
الاِسْتِيفَاءِ مِنْهَا، فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا فَهَلَكَتْ سَقَطَ
مِثْلُهَا مِنَ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ حَصَل، وَلاَ فَائِدَةَ
فِي تَضْمِينِهِ الْمِثْل؛ لأَِنَّهُ مِثْلِيٌّ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى
صَاحِبِ الْحَقِّ قَضَاءً.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يَجُوزُ رَهْنُ النُّقُودِ سَوَاءٌ
جُعِلَتْ فِي يَدِ عَدْلٍ أَوْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَاشْتَرَطُوا
لِصِحَّةِ رَهْنِهَا أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهَا خَتْمًا مُحْكَمًا بِحَيْثُ
مَتَى أُزِيل الْخَتْمُ عُرِفَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ
حِمَايَةً لِلذَّرِيعَةِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَا قَصَدَا بِهِ
السَّلَفَ، وَسَمَّيَاهُ رَهْنًا، وَالسَّلَفُ مَعَ الْمُدَايَنَةِ
مَمْنُوعٌ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
الثَّمَنُ رَهْنًا فِيمَا إِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ أَوِ الْحَاكِمُ
الْمَرْهُونَ، وَكَمَا إِذَا بَاعَ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ
بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُجْعَل ثَمَنُهُ رَهْنًا (1) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 2 / 67، وحاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5
/ 319، 320، وجواهر الإكليل 2 / 79، والدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 237،
ونهاية المحتاج 4 / 237، والإنصاف 5 / 141، والمغني 4 / 377.
(41/192)
إِعَارَةُ النُّقُودِ:
42 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ جَوَازَ
إِعَارَةِ النُّقُودِ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَارِيَةُ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ قَرْضٌ تَغْلِيبًا لِلْمَعْنَى عَلَى
اللَّفْظِ، وَهَذَا إِذَا أُطْلِقَ الْعَارِيَةُ، فَأَمَّا إِذَا بَيَّنَ
الْجِهَةَ الَّتِي تُسْتَعْمَل فِيهَا، كَمَا إِذَا اسْتَعَارَهَا
لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانَهُ أَوْ يُجَمِّل بِهَا دُكَّانَهُ أَوْ
لِتَجَمُّل أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ تَنْقَلِبُ بِهِ
أَعْيَانُهَا، لاَ يَكُونُ قَرْضًا، بَل يَكُونُ عَارِيَةً تُمْلَكُ بِهَا
الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ دُونَ غَيْرِهَا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ
الاِنْتِفَاعُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ مَا سَمَّاهُ لَهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِعَارَةَ النُّقُودِ قَرْضٌ لاَ
عَارِيَةٌ وَإِنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْعَارِيَةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ
مِنَ الْعَارِيَةِ الاِنْتِفَاعُ بِهَا مَعَ رَدِّ عَيْنِهَا لِرَبِّهَا،
وَالنُّقُودُ إِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ ذَهَابِ عَيْنِهَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجُوزُ إِعَارَةُ النَّقْدِ لَوْ صَرَّحَ
بِإِعَارَتِهِ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ أَوِ الطَّبْعِ عَلَى طَبْعِهِ، وَلَوْ
نَوَى ذَلِكَ كَفَى. أَمَّا فِي حَال الإِْطْلاَقِ فَلاَ تَصِحُّ
الْعَارِيَةُ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ الْقَصْدِ مِنَ النَّقْدِ
الإِْنْفَاقُ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 363، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 435،
ونهاية المحتاج 5 / 121، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 3 / 69، 18، وشرح
منتهى الإرادات 2 / 392، والمغني 5 / 308.
(41/193)
إِجَارَةُ النُّقُودِ:
43 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ إِجَارَةِ النُّقُودِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ،
كَالتَّحَلِّي وَالْوَزْنِ؛ لأَِنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ يُمْكِنُ
اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ النُّقُودَ لاَ تَصِحُّ إِجَارَتُهَا
لِلضَّرْبِ عَلَى صُورَتِهَا، أَوْ لِلتَّزَيُّنِ بِهَا أَوِ الْوَزْنِ
بِهَا؛ لأَِنَّهَا مَنَافِعُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ غَالِبًا بِدَلِيل عَدَمِ
ضَمَانِ غَاصِبِهَا أُجْرَتَهَا، وَهَذَا عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُصَرَّحْ بِالتَّزْيِينِ وَنَحْوِهِ فَلاَ تَصِحُّ
إِجَارَتُهَا جَزْمًا. فَإِنْ كَانَتْ فِيهَا عُرًى جَازَتْ إِجَارَتُهَا
لِلتَّزَيُّنِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اسْتَأْجَرَ دِرْهَمًا لِيُزَيَّنَ بِهَا
جَازَ إِنْ وَقَّتَ وَبَيَّنَ الأُْجْرَةَ (1) .
وَقْفُ النُّقُودِ:
44 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَابْنُ
شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ وَقْفَ
النُّقُودِ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لأَِنَّ النُّقُودَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ
بَقَاءِ عَيْنِهَا، بَل الاِنْتِفَاعُ بِهَا إِنَّمَا هُوَ بِإِنْفَاقِهَا،
وَهُوَ اسْتِهْلاَكٌ لأَِصْلِهَا، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ
الْوَقْفِ.
__________
(1) غمز عيون البصائر 3 / 123 ط دار الكتب العلمية، وشرح المنهاج مع حاشية
القليوبي 3 / 69، 18، ونهاية المحتاج 5 / 270، وشرح منتهى الإرادات 2 /
358، وكشاف القناع 3 / 561.
(41/193)
وَفَرَّقُوا بَيْنَ إِجَارَةِ النُّقُودِ
وَإِعَارَتِهَا لِمَنْفَعَةِ التَّزَيُّنِ بِهَا أَوْ مُعَايَرَةِ
الْوَزْنِ بِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَبَيْنَ وَقْفِهَا
عَلَى مِثْل هَذِهِ الْمَنَافِعِ، بِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الأَْصْلِيَّةَ
الْمَقْصُودَةَ الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا النُّقُودُ هِيَ كَوْنُهَا
أَثْمَانًا تُنْفَقُ إِلَى الأَْغْرَاضِ وَالْحَاجَاتِ، وَأَنَّ
الإِْجَارَةَ وَالإِْعَارَةَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا عَدَمُ الدَّوَامِ
بِخِلاَفِ الْوَقْفِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ: يَجُوزُ
وَقْفُهَا لِلتَّحَلِّي وَالْوَزْنِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ
الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُوَافِقُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ
النُّقُودِ عَلَى الإِْنْفَاقِ وَعَلَى التَّزَيُّنِ وَنَحْوِهِ مِنَ
الْمَصَالِحِ، لَكِنْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهَا إِنْ وُقِفَتْ عَلَى
الإِْقْرَاضِ جَازَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ مَالِكٌ فِي
الْمُدَوَّنَةِ فَتُقْرَضُ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِإِنْفَاقِهَا، وَيَرُدُّ
بَدَلَهَا، فَإِذَا رَدَّ بَدَلَهَا تُقْرَضُ لِغَيْرِهِ، وَهَكَذَا.
قَالُوا: وَيَنْزِل رَدُّ بَدَل النُّقُودِ مَنْزِلَةَ بَقَاءِ عَيْنِهَا
(2) .
وَتَفْصِيل مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْل
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَدَمُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 377، ونهاية المحتاج 5 / 358، وروضة الطالبين 5 /
315، وأسنى المطالب 2 / 458.
(2) جواهر الإكليل 2 / 205، وحاشية الدسوقي 4 / 76، 77، والمغني لابن قدامة
5 / 84، والفروع لابن مفلح 4 / 583.
(41/194)
جَوَازِ وَقْفِ النُّقُودِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولاَتِ أَصْلاً عِنْدَهُمَا.
وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ مِنْ طَرِيقِ الأَْنْصَارِيِّ إِجَازَةُ وَقْفِهَا -
أَيِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ -.
وَقَوْل مُحَمَّدٍ إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولاَتِ لَكِنْ إِنْ
جَرَى التَّعَامُل بِوَقْفِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْقُولاَتِ جَازَ وَقْفُهُ.
قَال فِي الاِخْتِيَارِ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ لِحَاجَةِ
النَّاسِ وَتَعَامُلِهِمْ بِذَلِكَ، كَالْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ
وَالسِّلاَحِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَحِينَ جَرَى التَّعَامُل فِي الْعُصُورِ
اللاَّحِقَةِ بِوَقْفِ النُّقُودِ وُجِدَتِ الْفَتْوَى بِدُخُول النُّقُودِ
تَحْتَ قَوْل مُحَمَّدٍ بِجَوَازِ وَقْفِ مَا جَرَى التَّعَامُل
بِوَقْفِهِ. قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: بَل وَرَدَ الأَْمْرُ
لِلْقُضَاةِ بِالْحُكْمِ بِهِ كَمَا فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ.
وَوَجْهُ الاِنْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا هُوَ عِنْدَهُمْ
بِإِقْرَاضِهَا، وَإِذَا رَدَّ مِثْلَهَا جَرَى إِقْرَاضُهُ أَيْضًا،
وَهَكَذَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَتِ الدَّرَاهِمُ
وَالدَّنَانِيرُ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، يَكُونُ بَدَلُهَا
قَائِمًا مَقَامَهَا لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا.
وَذَكَرَ زُفَرُ وَجْهًا آخَرَ: أَنْ تُدْفَعَ مُضَارَبَةً إِلَى مَنْ
يَعْمَل فِيهَا، ثُمَّ يُتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي
وُقِفَتْ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 42، ومجمع الأنهر 2 / 747، وحاشية ابن
عابدين 3 / 374.
(41/194)
السُّفْتَجَةُ:
45 - السُّفْتَجَةُ طَرِيقَةٌ تُتَّبَعُ فِي نَقْل النُّقُودِ مِنْ بَلَدٍ
إِلَى آخَرَ، تُتَفَادَى بِهَا أَخْطَارُ النَّقْل مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ
نَهْبٍ أَوْ فِقْدَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَصُورَتُهَا: أَنْ يُعْطِيَ النُّقُودَ الَّتِي يُرِيدُ نَقْلَهَا
تَاجِرًا فِي الْبَلَدِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيُعْطِيَهُ التَّاجِرُ
كِتَابًا إِلَى وَكِيلِهِ فِي الْبَلَدِ الآْخَرِ لِيُعْطِيَهُ مِثْلَهَا.
وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ قَرْضًا أَوْ حَوَالَةً.
وَقَدْ مَنَعَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ؛ لِكَوْنِهَا قَرْضًا يَجُرُّ
مَنْفَعَةً لِلْمُقْرِضِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الأَْمْنِ مِنْ أَخْطَارِ
الطَّرِيقِ. وَأَجَازَهَا آخَرُونَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ
الْكَبِيرَةِ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَقَعُ عَلَى أَحَدِ
الْمُتَعَامِلِينَ بِهَا (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفُ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ (سُفْتَجَة
ف 3) .
سَادِسًا: التَّغَيُّرَاتُ الَّتِي تَعْتَرِي النُّقُودَ مِنْ حَيْثُ
قِيمَتُهَا:
46 - إِنَّ النُّقُودَ الذَّهَبِيَّةَ وَالْفِضِّيَّةَ تَتَمَيَّزُ
بِأَنَّهَا ثَابِتَةُ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّمَنِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ
عُرْضَةٌ لِتَبَدُّل قِيمَتِهَا، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي
الْعَادَةِ بِنِسْبَةٍ ضَئِيلَةٍ جِدًّا.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 174، 295، وجواهر الإكليل 2 / 76،
ونهاية المحتاج 4 / 225، والمغني 4 / 320.
(41/195)
وَأَمَّا الْفُلُوسُ فَتَعْتَرِيهَا
تَغَيُّرَاتٌ فِي قِيمَتِهَا، قَدْ تَكُونُ شَدِيدَةً، مِمَّا يُؤَثِّرُ
عَلَى قِيمَةِ مُدَّخَرَاتِ الدَّوْلَةِ، وَمُدَّخَرَاتِ الرَّعِيَّةِ
مِنْهَا، وَعَلَى قِيمَةِ الدُّيُونِ.
وَمِنْ تِلْكَ التَّغَيُّرَاتِ مَا يَلِي:
أ - الْغَلاَءُ، وَسَبَبُهُ إِمَّا كَثْرَةُ الإِْقْبَال عَلَى
تَدَاوُلِهَا، وَالتَّوَسُّعُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُبَايَعَاتِ
وَسَائِرِ الْمُعَامَلاَتِ، وَكَثْرَةُ ادِّخَارِهَا، هَذَا مِنْ جِهَةٍ،
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قِلَّةُ الْمُتَوَافِرِ مِنَ الْمَعْدِنِ الَّذِي
تُضْرَبُ مِنْهُ، أَوْ عَدَمُ قِيَامِ الدَّوْلَةِ بِضَرْبِ مَا يَكُونُ
كَافِيًا لِيَسَعَ حَاجَةَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَقْرِيزِيُّ أَنَّ
الْفُلُوسَ فِي عَهْدِهِ رَاجَتْ رَوَاجًا عَظِيمًا حَتَّى نُسِبَتْ
إِلَيْهَا سَائِرُ الْمَبِيعَاتِ، وَصَارَ يُقَال: كُل دِينَارٍ بِكَذَا
مِنَ الْفُلُوسِ.
ب - الرُّخْصُ، بِسَبَبِ قِلَّةِ الطَّلَبِ عَلَيْهَا، أَوْ قِلَّةِ
الإِْقْبَال عَلَى ادِّخَارِهَا، أَوْ تَوَافُرِ الْمَعْدِنِ الَّذِي
تُصْنَعُ مِنْهُ بِكَثْرَةٍ، أَوْ كَثْرَةِ مَا يُصْنَعُ مِنْهَا وَيَدْخُل
السُّوقَ. وَمَعْنَى رُخْصِهَا انْخِفَاضُ قُوَّتِهَا الشِّرَائِيَّةِ،
بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يُشْتَرَى بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا أَقَل مِمَّا
كَانَ يُشْتَرَى بِهِ سَابِقًا. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِمُقَارَنَةِ
أَسْعَارِهَا بَيْنَ فَتْرَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّهَبِ أَوِ
الْفِضَّةِ.
ج - وَقَدْ يَعْتَرِيهَا الْكَسَادُ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ أَنْ
تُتْرَكَ الْمُعَامَلَةُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ. وَضِدُّ الْكَسَادِ
الرَّوَاجُ وَالنَّفَاقُ.
(41/195)
د - الاِنْقِطَاعُ: وَالاِنْقِطَاعُ
الَّذِي لَهُ أَثَرُهُ هُوَ أَنْ لاَ تُوجَدَ فِي السُّوقِ لَدَى
التُّجَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ تُوجَدُ لَدَى الصَّيَارِفَةِ، وَفِي
الْبُيُوتِ (1) .
هـ - إِبْطَال التَّعَامُل بِالنُّقُودِ بِأَمْرِ الإِْمَامِ، وَذَلِكَ
بِأَنْ يُحَرِّمَ الإِْمَامُ التَّعَامُل بِهَا، وَيَضْرِبَ نَقْدًا
جَدِيدًا يُلْزِمُ النَّاسَ بِالتَّعَامُل بِهِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا.
قَال ابْنُ الْهَائِمِ: وَتَحْرِيمُ السُّلْطَانِ مُعْتَبَرٌ (أَيْ
مُلْزِمٍ لِلنَّاسِ) فِي مِثْل هَذَا (2) ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول
وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ (3) } .
و وَقَدْ يَعْتَرِيهَا التَّغْيِيرُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ بِتَنْقِيصِ
أَسْعَارِهَا، وَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي رِسَالَتِهِ: تَعَدَّدَ
فِي زَمَانِنَا وُرُودُ الأَْمْرِ السُّلْطَانِيِّ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ
بَعْضِ النُّقُودِ الرَّائِجَةِ بِالنَّقْصِ (4) .
تَحَوُّل النُّقُودِ إِلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ بُطْلاَنِ التَّعَامُل بِهَا:
47 - إِذَا بَطَل النَّقْدُ، سَوَاءٌ بِإِبْطَال الإِْمَامِ لَهُ، أَوْ
بِتَرْكِ النَّاسِ التَّعَامُل بِهِ، فَإِنَّهُ يَعُودُ عَرْضًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 24، ورسالته المسماة " تنبيه الرقود إلى أحكام
النقود " ص 17، 18، نشر محمد سلامة جبر.
(2) نزهة النفوس في أحكام التعامل بالفلوس لابن الهائم ص 63.
(3) سورة النساء / 59
(4) رسالة تنبيه الرقود ص 38.
(41/196)
لاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ
النُّقُودِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ النُّقُودِ
الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ.
أَمَّا النُّقُودُ الذَّهَبِيَّةُ وَالْفِضِّيَّةُ فَإِنَّ أَحْكَامَهُمَا
مِنْ حَيْثُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا، وَجَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِمَا،
ثَابِتَةٌ سَوَاءٌ كَانَا نُقُودًا أَوْ نُقْرَةً.
وَهَذَا لأَِنَّ الْفُلُوسَ تَلْحَقُ بِالنَّقْدَيْنِ - عِنْدَ مَنْ
أَلْحَقَهَا بِهِمَا - بِعِلَّةِ الثَّمَنِيَّةِ، فَإِذَا خَرَجَتْ عَنِ
التَّعَامُل بَطَلَتْ ثَمَنِيَّتُهَا، فَبَطَل إِلْحَاقُهَا
بِالنَّقْدَيْنِ، لِزَوَال الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ، وَرَجَعَتْ إِلَى
أَصْلِهَا وَهُوَ كَوْنُهَا سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ فِي النُّقُودِ الاِصْطِلاَحِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ
فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا. قَالُوا: لأَِنَّ
الْفُلُوسَ صَارَتْ ثَمَنًا فِي حَقِّهِمَا بِاصْطِلاَحِهِمَا، فَتَبْطُل
بِاصْطِلاَحِهِمَا. وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ مَا دَامَتِ
الْفُلُوسُ رَائِجَةً؛ لأَِنَّ ثَمَنِيَّتَهَا بِاصْطِلاَحِ الْعُمُومِ
فَلاَ تَبْطُل بِمُجَرَّدِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى إِبْطَالِهَا (2) .
مُحَافَظَةُ الإِْمَامِ عَلَى اسْتِقْرَارِ أَسْعَارِ النُّقُودِ:
48 - مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى
الإِْمَامِ رِعَايَتُهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى اسْتِقْرَارِ أَسْعَارِ
النُّقُودِ مِنَ الاِنْخِفَاضِ؛ لِئَلاَّ
__________
(1) تكملة فتح القدير 5 / 288 ط دار الفكر.
(2) تكملة فتح القدير 7 / 20.
(41/196)
يَحْصُل بِذَلِكَ غَلاَءُ الأَْقْوَاتِ
وَالسِّلَعِ وَيَنْتَشِرَ الْفَقْرُ، وَلِتَحْصُل الطُّمَأْنِينَةُ
لِلنَّاسِ بِالتَّمَتُّعِ بِثَبَاتِ قِيَمِ مَا حَصَّلُوهُ مِنَ النُّقُودِ
بِجُهْدِهِمْ وَسَعْيِهِمْ وَاكْتِسَابِهِمْ؛ لِئَلاَّ تَذْهَبَ هَدْرًا
وَيَقَعَ الْخَلَل وَالْفَسَادُ.
وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْخَلَل تَحْرِيمَ الإِْمَامِ لأَِنْوَاعٍ مِنَ
النُّقُودِ فَعَلَيْهِ إِبْدَالُهَا لَهُمْ بِمَا يُسَاوِيهَا فِي
الْقِيمَةِ، وَأَنْ يُتِيحَ لَهُمُ الْفُرْصَةَ الْكَافِيَةَ مِنَ
الْوَقْتِ لإِِجْرَاءِ الاِسْتِبْدَال. وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَزِيدَ
كَمِّيَّةَ الْمَضْرُوبِ الْجَدِيدِ مِنْهَا مِنْ أَجْل الرَّغْبَةِ فِي
أَنْ يُحَصِّل لِبَيْتِ الْمَال دَخْلاً مِنْ ذَلِكَ. قَال الْبُهُوتِيِّ:
قَال ابْنُ تَيْمِيَةَ: يَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبَ الإِْمَامُ لِلرَّعَايَا
فُلُوسًا تَكُونُ بِقَدْرِ الْعَدْل فِي مُعَامَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ
ظُلْمٍ لَهُمْ، وَلاَ يَتَّجِرُ ذُو السُّلْطَانِ فِي الْفُلُوسِ، بِأَنْ
يَشْتَرِيَ نُحَاسًا فَيَضْرِبَهُ فَيَتَّجِرَ فِيهِ، وَلاَ بِأَنْ
يُحَرِّمَ عَلَيْهِمُ الْفُلُوسَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ
غَيْرَهَا، بَل يَضْرِبَ النُّحَاسَ بِقِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ فِيهِ
لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَيُعْطِيَ أُجْرَةَ الصُّنَّاعِ مِنْ بَيْتِ
الْمَال، فَإِنَّ التِّجَارَةَ فِيهَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَأَكْلٌ لأَِمْوَال
النَّاسِ بِالْبَاطِل، فَإِنَّهُ إِذَا حَرَّمَ الْمُعَامَلَةَ صَارَتْ
عَرْضًا، وَإِذَا ضَرَبَ لَهُمْ فُلُوسًا أُخْرَى أَفْسَدَ مَا كَانَ
عِنْدَهُمْ مِنَ الأَْمْوَال بِنَقْصِ أَسْعَارِهَا (1) . قَال: وَفِي
السُّنَنِ عَنِ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 232، وانظر مواهب الجليل للحطاب المالكي 4 / 342.
(41/197)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ
الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مِنْ بَأْسٍ " (1) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الأَْثْمَانَ يَجِبُ أَنْ
تَكُونَ مِمَّا يَتَمَتَّعُ بِثَبَاتِ الْقِيمَةِ، لاَ يَرْتَفِعُ وَلاَ
يَنْخَفِضُ، قَال: وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ حُرِّمَ رِبَا الْفَضْل
وَالنَّسَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إِذْ لَوْ أُبِيحَ ذَلِكَ
فِيهِمَا لَكَانَا سِلَعًا تُقْصَدُ لأَِعْيَانِهَا، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ
إِلَى فَسَادِ أَمْرِ النَّاسِ (2) .
وَرَأَى الْمَقْرِيزِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي النُّقُودِ أَنَّ عِلاَجَ
اضْطِرَابَاتِ الأَْسْعَارِ وَمَوْجَاتِ الْغَلاَءِ النَّاشِئَةِ عَنْ
ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى قَاعِدَةِ اسْتِعْمَال
النُّقُودِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، وَأَنَّ فَسَادَ الأُْمُورِ
الَّذِي حَصَل فِي زَمَنِهِ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ التَّدْبِيرِ، وَمِنْ
جُمْلَتِهِ الْخُرُوجُ عَنْ قَاعِدَةِ التَّعَامُل بِالذَّهَبِ إِلَى
قَاعِدَةِ التَّعَامُل بِالْفُلُوسِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَدَّى
إِلَى تَفَاقُمِ مُشْكِلَةِ الأَْسْعَارِ، قَال فِي ذَلِكَ: اعْلَمْ
أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَال فِي فَسَادِ الأُْمُورِ إِنَّمَا
هُوَ سُوءُ التَّدْبِيرِ لاَ غَلاَءُ الأَْسْعَارِ. ثُمَّ قَال: فَلَوْ
وَفَّقَ اللَّهُ مَنْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ أَمْرَ عِبَادِهِ حَتَّى رُدَّتِ
الْمُعَامَلاَتُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِالذَّهَبِ خَاصَّةً، وَرَدَّ
قِيَمَ السِّلَعِ
__________
(1) حديث: " نهى عن كسر سكة المسلمين. . . ". سبق تخريجه ف 17
(2) إعلام الموقعين 2 / 156.
(41/197)
وَعَوَّضَ الأَْعْمَال كُلَّهَا إِلَى
الدِّينَارِ، وَرَدَّ قِيَمَ الأَْعْمَال وَأَثْمَانَ الْمَبِيعَاتِ إِلَى
الدِّرْهَمِ، لَكَانَ فِي ذَلِكَ غِيَاثُ الأُْمَّةِ وَصَلاَحُ الأُْمُورِ.
وَقَال أَيْضًا: مَنْ نَظَرَ إِلَى أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ بِاعْتِبَارِ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لاَ يَجِدُهَا قَدْ غَلَتْ إِلاَّ شَيْئًا
يَسِيرًا، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا دَهَى النَّاسَ مِنْ كَثْرَةِ
الْفُلُوسِ فَأَمْرٌ لاَ أَشْنَعَ مِنْهُ، وَلاَ أَفْظَعَ مِنْ هَوْلِهِ،
فَسَدَتْ بِهِ الأُْمُورُ، وَاخْتَلَّتْ بِهِ الأَْحْوَال (1) .
أَثَرُ تَغَيُّرِ قِيمَةِ النَّقْدِ عَلَى الدُّيُونِ:
49 - إِنَّ الدُّيُونَ الْمُقَدَّرَةَ بِنَقْدٍ مُعَيَّنٍ، إِذَا غَلاَ
ذَلِكَ النَّقْدُ، وَأُلْزِمَ الْمَدِينُ بِسَدَادِهَا بِالْمِثْل،
يَزْدَادُ الْعِبْءُ الَّذِي يَتَحَمَّلُهُ نَتِيجَةً لِذَلِكَ، فَيَكُونُ
عَلَيْهِ ضَرَرٌ، وَإِنْ رَخُصَ النَّقْدُ الْمُعَيَّنُ يَكُونُ فِي
سَدَادِ الدَّيْنِ بِالْمِثْل ضَرَرٌ عَلَى الدَّائِنِ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي كِلاَ الْحَالَتَيْنِ كَبِيرًا بِحَسَبِ
نِسْبَةِ التَّغَيُّرِ.
وَقَدْ يَعِزُّ النَّقْدُ الْمُعَيَّنُ عِنْدَ الْوَفَاءِ أَوْ يَنْقَطِعُ
فَيَتَعَذَّرُ أَدَاءُ الْمِثْل.
وَقَدْ عَالَجَ الْفُقَهَاءُ أَثَرَ التَّغَيُّرَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى
الدُّيُونِ بِالنِّسْبَةِ لِلنُّقُودِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ
وَالْفُلُوسِ:
__________
(1) إغاثة الأمة بكشف الغمة ص 79 وما بعدها.
(41/198)
أ - فَأَمَّا النُّقُودُ الْخَلْقِيَّةُ،
وَهِيَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ الْخَالِصَةُ أَوِ الْمَغْلُوبَةُ
الْغِشِّ فَيُلْزَمُ الْمَدِينُ بِأَدَاءِ الْمِثْل وَلَوْ كَانَ عَزِيزًا،
لَكِنْ لَوِ انْقَطَعَ أَوِ انْعَدَمَ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ النَّقْدِ
فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي
ذِمَّتِهِ أَوْ وَقْتَ الْمُطَالَبَةِ.
ب - وَأَمَّا النُّقُودُ الاِصْطِلاَحِيَّةُ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ
الْغَالِبَةُ الْغِشِّ، وَالْفُلُوسُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِيمَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ فِي حَال كَسَادِهَا أَوِ انْقِطَاعِهَا أَوْ
رُخْصِهَا أَوْ غَلاَئِهَا عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ (1) .
. تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَيْن ف 64 - 69) .
__________
(1) رسالة تنبيه الرقود على أحكام النقود لابن عابدين، ورسالة قطع المجادلة
عند تغير المعاملة للسيوطي ضمن كتابه الحاوي في الفتاوى 1 / 151 وما بعدها،
والفتاوى الهندية 3 / 225، وتكملة فتح القدير 7 / 155، 156، والمدونة
الكبرى 3 / 444، 445، وحاشية الرهوني 5 / 120، ونهاية المحتاج على شرح
المنهاج 3 / 399، والمجموع للنووي 9 / 282، والإنصاف للمرداوي 5 / 127،
128، وكشاف القناع 3 / 314، وشرح المفردات 2 / 390.
(41/198)
|