الموسوعة الفقهية الكويتية

نَقِيعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النَّقِيعِ فِي اللُّغَةِ: شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنْ زَبِيبٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ. وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْبِئْرُ الْكَثِيرَةُ الْمَاءِ. وَجَمْعُهُ أَنْقِعَةٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يُنْقَعَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ إِلَى أَنْ تَخْرُجَ حَلاَوَتُهُ إِلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَشْتَدُّ وَيُغْلَى وَيُقْذَفُ بِالزُّبْدِ (2) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: النَّقِيعُ مِنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إِذَا اشْتَدَّ حَرَامٌ (3) ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، وأساس البلاغة، والمصباح المنير.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 409، وانظر قواعد الفقه للبركتي، وفتح القدير 8 / 159، ومغني المحتاج 4 / 187، والمغني 5 / 581، وكشاف القناع 6 / 119.
(3) الحاوي الكبير 17 / 283، وحاشية الدسوقي 4 / 352.

(41/199)


" مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ " (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَهُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا إِذَا اشْتَدَّ وَغَلَى، إِلاَّ أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الأَْشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لاَ يُكَفَّرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَيُكَفَّرَ مُسْتَحِل الْخَمْرِ؛ لأَِنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَحُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ، وَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنَ الْخَمْرِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النَّقِيعُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إِذَا اشْتَدَّ وَغَلَى فَهُوَ حَرَامٌ وَلَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَقَال أَحْمَدُ: إِذَا اشْتَدَّ وَأَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ وَإِذَا لَمْ يُسْكِرْ لَمْ يَحْرُمْ، وَإِذَا نَقَعَ الرَّجُل الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ الْهِنْدِيَّ وَالْعُنَّابَ وَنَحْوَهُ يَنْقَعُهُ غُدْوَةً وَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً لِلدَّوَاءِ أَكْرَهُهُ (3) .
__________
(1) حديث: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". أخرجه الترمذي (4 / 292 ط الحلبي) من حديث جابر رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن غريب
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 291.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 319 ط الرياض.

(41/199)


نَقِيعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّقِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ.
وَفِي التَّهْذِيبِ: النَّقِيعَةُ: مَا صَنَعَهُ الرَّجُل عِنْدَ قُدُومِهِ مِنَ السَّفَرِ. وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى: مَا يُصْنَعُ عِنْدَ الإِْمْلاَكِ، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى: مَا يُذْبَحُ لِلضِّيَافَةِ، وَطَعَامِ الرَّجُل لَيْلَةَ عُرْسِهِ، وَمَا يُنْحَرُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْل الْقَسْمِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَلِيمَةُ:
2 - اخْتَلَفَ أَهْل اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْوَلِيمَةِ، فَقَال
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، ولسان العرب.
(2) المجموع للإمام النووي 4 / 400، ومغني المحتاج 3 / 244 - 245، والمغني لابن قدامة 7 / 1.

(41/200)


بَعْضُهُمْ: هِيَ اسْمٌ لِكُل طَعَامٍ يُتَّخَذُ لِجَمْعٍ، وَقَال آخَرُونَ: هِيَ اسْمٌ لِطَعَامِ الْعُرْسِ خَاصَّةً.
وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَلَمِ وَهُوَ الاِجْتِمَاعُ، لأَِنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَوْلَمَ الرَّجُل إِذَا اجْتَمَعَ عَقْلُهُ وَخَلْقُهُ (1) .
وَالْوَلِيمَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ تَقَعُ عَلَى: كُل طَعَامٍ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ مِنْ عُرْسٍ وَإِمْلاَكٍ وَغَيْرِهِمَا.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقِيعَةِ وَالْوَلِيمَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ يُصْنَعُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ (2) .

ب - الْعَقِيقَةُ:
3 - الْعَقِيقَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، وَهِيَ: اسْمٌ لِلشَّعَرِ الَّذِي يُولَدُ عَلَيْهِ الْمَوْلُودُ آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَتُسَمَّى الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ وِلاَدَتِهِ عَقِيقَةً (3) ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْغُلاَمُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ " (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، المغرب في ترتيب المغرب.
(2) مغني المحتاج 3 / 244، والمغني لابن قدامة 7 / 1.
(3) المصباح المنير، والمغرب في ترتيب المعرب.
(4) حديث: الغلام مرتهن بعقيقته " أخرجه الترمذي (4 / 101 ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب، وقال: حديث حسن صحيح

(41/200)


وَالْعَقِيقَةُ شَرْعًا: مَا يُذْبَحُ لأَِجْل الْمَوْلُودِ عِنْدَ حَلْقِ شَعَرِهِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ (1) وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقِيعَةِ وَالْعَقِيقَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ يُصْنَعُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ وَيُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ.

ج - الْعَذِيرَةُ:
4 - الْعَذِيرَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ عَذَرْتُ الْغُلاَمَ وَالْجَارِيَةَ عَذْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: خَتَنْتُهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ (2) .
وَالْعَذِيرَةُ اصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِطَعَامٍ يُصْنَعُ لِلْخِتَانِ وَيُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ (3) وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقِيعَةِ وَالْعَذِيرَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ يُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ.

د - الْوَكِيرَةُ:
5 - الْوَكِيرَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَكْرِ وَهُوَ الْمَأْوَى، يُقَال: وَكَرَ فُلاَنٌ: اتَّخَذَ الْوَكِيرَةَ وَوَكَرَ فُلاَنٌ الْقَوْمَ: أَطْعَمَهُمُ الْوَكِيرَةَ، وَالْوَكِيرَةُ: الطَّعَامُ يَتَّخِذُهُ الرَّجُل عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ بُنْيَانِهِ فَيَدْعُو إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 293، والمطلع على أبواب المقنع ص 328.
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والقاموس المحيط، والمطلع على أبواب المقنع ص 328.
(3) المغني لابن قدامة 7 / 1، ومغني المحتاج 3 / 244.
(4) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، ولسان العرب.

(41/201)


وَالْوَكِيرَةُ اصْطِلاَحًا: طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِلْبِنَاءِ وَيُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّقِيعَةِ وَالْوَكِيرَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ يُصْنَعُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ وَيُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ.

هـ - الْحِذَاقُ:
6 - الْحِذَاقُ فِي اللُّغَةِ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَأْخُوذَةٌ مِنْ (حَذَقَ) : الرَّجُل فِي صَنْعَتِهِ مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَتَعِبَ (حَذْقًا) مَهَرَ فِيهَا وَعَرَفَ غَوَامِضَهَا وَوَقَائِعَهَا (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: طَعَامٌ يُصْنَعُ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَيُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْحِذَاقُ الطَّعَامُ عِنْدَ حِذَاقِ الصَّبِيِّ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقِيعَةِ وَالْحِذَاقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ يُصْنَعُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ.

و الْخُرْسُ:
7 - الْخُرْسُ فِي اللُّغَةِ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَيُقَال: الْخُرْصُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ: طَعَامٌ يُصْنَعُ لِلْوِلاَدَةِ أَيْ لِلسَّلاَمَةِ مِنَ الطَّلْقِ،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 244، والمغني لابن قدامة 7 / 1، والمطلع على أبواب المقنع ص 328.
(2) المصباح المنير، والمطلع على أبواب المقنع ص 328.
(3) مغني المحتاج 3 / 244، والمغني لابن قدامة 7 / 1.

(41/201)


وَيُقَال أَيْضًا: الْخُرْسَةُ وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُصْنَعُ لِلنُّفَسَاءِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ حَسَاءٍ. وَفِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ التَّمْرِ: " هِيَ صُمْتَةُ الصَّبِيِّ وَخُرْسَةُ مَرْيَمَ " (1) .
وَالْخَرُوسُ مِنَ النِّسَاءِ: هِيَ الَّتِي يُعْمَل لَهَا عِنْدَ الْوِلاَدَةِ مَا تَأْكُلُهُ أَوْ تَحْسُوهُ أَيَّامًا، وَتَخَرَّسَتِ الْمَرْأَةُ عَمِلَتْ لِنَفْسِهَا الْخُرْسَةَ، وَمِنْهُ الْمَثَل:
تَخَرَّسِي يَا نَفْسُ لاَ مُخَرِّسَةَ لَكِ، يُضْرَبُ لِمَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ حِينَ لاَ يَجِدُ مَنْ يَقُومُ لَهُ بِهَا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْخُرْسَةِ وَبَيْنَ النَّقِيعَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ يُصْنَعُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ.

ز - الْمَأْدُبَةُ:
8 - الْمَأْدُبَةُ فِي اللُّغَةِ بِضَمِّ الدَّال وَفَتْحِهَا مِنْ آدَبَ إِيدَابًا: صَنَعَ مَأْدُبَةً، وَآدَبَ الْقَوْمَ: دَعَاهُمْ
__________
(1) حديث: " هي صمنة الصبي وخرسة مريم ". ذكره ابن الأثير في النهاية (2 / 21 ط دار الفكر) ، ولم نهتد لمن أخرجه من المصادر الحديثية
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط، والمطلع على أبواب المقنع ص 328.
(3) مغني المحتاج 3 / 244، والمغني 7 / 1.

(41/202)


إِلَى مَأْدُبَتِهِ، وَالْمَأْدُبَةُ: طَعَامٌ يُصْنَعُ بِدَعْوَةٍ (1) ، وَمِنْهُ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَفْعَل " (2) .
وَالْمَأْدُبَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ.
فَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا الطَّعَامُ الَّذِي يُعْمَل لِلْجِيرَانِ وَالأَْصْحَابِ لأَِجْل الْمَوَدَّةِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا كُل طَعَامٍ يُصْنَعُ بِدَعْوَةٍ بِلاَ سَبَبٍ إِلاَّ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هِيَ اسْمٌ لِكُل دَعْوَةٍ لِسَبَبٍ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ سَبَبٍ (3) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَأْدُبَةِ وَالنَّقِيعَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَعَامٌ يُصْنَعُ وَيُدْعَى إِلَيْهِ النَّاسُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ النَّقِيعَةِ، فَيَرَى
__________
(1) المعجم الوسيط، والمطلع على أبواب المقنع ص 328.
(2) قول ابن مسعود: إن هذا القرآن مأدبة الله. . . أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 164 - ط القدسي) ، وقال: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال هذه الطريق رجال الصحيح.
(3) تحفة المحتاج مع الحواشي 7 / 423 - 424، وحاشية الدسوقي 2 / 337، والمغني 7 / 1.

(41/202)


الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً " (2) .
وَلَمْ يُفَرِّقْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ الَّذِي يُعْمَل لِلْقَادِمِ مِنْهُ النَّقِيعَةُ، بَل تُصْنَعُ النَّقِيعَةُ سَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلاً أَوْ قَصِيرًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّقِيعَةَ تُسْتَحَبُّ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ الطَّوِيل؛ لِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ سَوَاءٌ عَمِلَهُ الْمُسَافِرُ الْقَادِمُ نَفْسُهُ، أَوْ عَمِلَهُ غَيْرُهُ لَهُ. أَمَّا مَنْ غَابَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا أَوْ غَابَ أَيَّامًا يَسِيرَةً إِلَى بَعْضِ النَّوَاحِي الْقَرِيبَةِ فَكَالْحَاضِرِ فَلاَ تُسْتَحَبُّ النَّقِيعَةُ فِي حَقِّهِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 221، وجواهر الإكليل 1 / 325، ومغني المحتاج 3 / 244، وتحفة المحتاج 7 / 423 - 424، والمغني لابن قدامة 7 / 1، وكشاف القناع 5 / 165.
(2) حديث جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزورًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 194 ط السلفية)
(3) تحفة المحتاج مع الحواشي 7 / 424، ومغني المحتاج 3 / 244، ونهاية المحتاج 6 / 363.

(41/203)


حُكْمُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لِلنَّقِيعَةِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لِلنَّقِيعَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ " (1) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ " (2) .
فَهَذَا يَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِ الإِْجَابَةِ فِي سَائِرِ الدَّعَوَاتِ مَا عَدَا وَلِيمَةَ الْعُرْسِ، وَلأَِنَّ فِيهِ إِطْعَامَ الطَّعَامِ، وَالإِْجَابَةُ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إِدْخَال السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَجَبْرِ خَاطِرِ الدَّاعِي وَتَطْيِيبِ قَلْبِهِ، وَلأَِنَّ بَعْضَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْوَلِيمَةِ خَصَّصَتْ ذَلِكَ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ " (3) .
__________
(1) حديث: " من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب ". أخرجه مسلم (2 / 1053 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
(2) حديث: " إذا دعا أحدكم أخاه فليجب ". أخرجه مسلم (2 / 1053 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
(3) حديث: " إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب ". أخرجه مسلم (2 / 1053 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما

(41/203)


وَالثَّانِي: لِبَعْضِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (1) وَهُوَ أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّقِيعَةِ وَاجِبَةٌ لاَ يَسَعُ لِلْمُسْلِمِ تَرْكُهَا لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ: مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْهُ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ ". وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ ".

وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ (2) وَهُوَ أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّقِيعَةِ وَالْحُضُورَ إِلَيْهَا مَكْرُوهٌ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ طَعَامَ الْخِتَانِ يُقَال لَهُ: إِعْذَارٌ، وَطَعَامُ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ يُقَال لَهُ: نَقِيعَةٌ، وَطَعَامُ النِّفَاسِ يُقَال لَهُ: خُرْسٌ، وَالطَّعَامُ الَّذِي يُعْمَل لِلْجِيرَانِ وَالأَْصْحَابِ لأَِجْل الْمَوَدَّةِ يُقَال لَهُ: مَأْدُبَةٌ، وَطَعَامُ بِنَاءِ الدُّورِ يُقَال لَهُ: وَكِيرَةٌ، وَالطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ فِي سَابِعِ الْوِلاَدَةِ يُقَال لَهُ: عَقِيقَةٌ، وَالطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ عِنْدَ حِفْظِ الْقُرْآنِ يُقَال لَهُ: حِذَاقَةٌ، وَوُجُوبُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالْحُضُورِ إِنَّمَا هُوَ لِوَلِيمَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 221، وتحفة المحتاج مع الحواشي 7 / 426، ومغني المحتاج 3 / 245، والمغني 7 / 11، وكشاف القناع 5 / 166، 168.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 337، والخرشي 3 / 301، والقوانين الفقهية ص 200.

(41/204)


الْعُرْسِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهَا فَحُضُورُهُ مَكْرُوهٌ إِلاَّ الْعَقِيقَةَ فَمَنْدُوبٌ.

الرَّابِعُ: لاِبْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ إِجَابَةَ دَعْوَةِ النَّقِيعَةِ وَحُضُورَهَا مُبَاحٌ، وَكَذَا سَائِرُ الْوَلاَئِمِ إِلاَّ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ، فَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَحُضُورُهَا وَاجِبٌ، وَإِلاَّ الْعَقِيقَةَ فَمَنْدُوبٌ، وَكَذَا الْمَأْدُبَةُ إِذَا فُعِلَتْ لإِِينَاسِ الْجَارِ وَمَوَدَّتِهِ فَمَنْدُوبٌ أَيْضًا، وَأَمَّا إِذَا فُعِلَتْ لِلْفَخَارِ وَالْمَحْمَدَةِ فَحُضُورُهَا مَكْرُوهٌ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ شُرُوطٌ فِي اسْتِحْبَابِ وَجَوَازِ حُضُورِ النَّقِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْوَلاَئِمِ وَالدَّعَوَاتِ إِلَى الطَّعَامِ (2) ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (وَلِيمَة الْعُرْسِ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 377، والخرشي 3 / 310.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 221، وحاشية الدسوقي 2 / 337 وما بعدها، وتحفة المحتاج 7 / 424 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 164 وما بعدها، والمغني 7 / 1 وما بعدها.

(41/204)


نِكَاحٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - النِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ نَكَحَ، يُقَال: نَكَحَ يَنْكِحُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ نِكَاحًا: مِنْ بَابِ ضَرَبَ، قَال ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ، وَيُقَال: نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ: تَزَوَّجَتْ، وَنَكَحَ فُلاَنٌ امْرَأَةً: تَزَوَّجَهَا، قَال تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (1) } ، وَنَكَحَ الْمَرْأَةَ: بَاضَعَهَا (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ النِّكَاحِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِالأُْنْثَى قَصْدًا، أَيْ يُفِيدُ حِل اسْتِمْتَاعِ الرَّجُل مِنَ امْرَأَةٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نِكَاحِهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 3
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 258 - 260 ط دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير 3 / 99 - ط دار إحياء التراث العربي.

(41/205)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ لِحِل تَمَتُّعٍ بِأُنْثَى غَيْرِ مَحْرَمٍ وَمَجُوسِيَّةٍ وَأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ بِصِيغَةٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ وَطْءٍ بِلَفْظِ إِنْكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ تَرْجَمَتِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النِّكَاحُ عَقْدُ التَّزْوِيجِ، أَيْ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ نِكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ تَرْجَمَتُهُ (3) .

حَقِيقَةُ النِّكَاحِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ إِلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:

الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي مِنْهُمْ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 332 - 334 - ط دار المعارف - القاهرة.
(2) مغني المحتاج 3 / 123 - ط دار الفكر، وحاشية الرملي على شرح روض الطالب 3 / 98، ونهاية المحتاج 6 / 174، والقليوبي 3 / 206.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 5 - ط مكتبة النصر - الرياض.

(41/205)


مُجَرَّدًا عَنِ الْقَرَائِنِ - أَيْ مُحْتَمِلاً لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِلاَ مُرَجِّحٍ خَارِجٍ - يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ؛ لأَِنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ، فَتَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهَا، كَمَا فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (1) } بِخِلاَفِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (2) } ، لإِِسْنَادِهِ إِلَيْهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْعَقْدُ لاَ الْوَطْءُ إِلاَّ مَجَازًا (3) .

الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْعَقْدِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ دَلِيلٌ لأَِنَّهُ الْمَشْهُورُ فِي الْقُرْآنِ وَالأَْخْبَارِ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ كَاللَّفْظِ الآْخَرِ، وَقَدْ قِيل: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ لَفْظُ النِّكَاحِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ إِلاَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لِخَبَرِ: حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ (4) ، وَلِصِحَّةِ نَفْيِهِ عَنِ
__________
(1) سورة النساء / 22
(2) سورة البقرة / 230
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 260، ومغني المحتاج 3 / 123، والإنصاف 8 / 4 - 5.
(4) حديث: " حتى تذوقي عسيلته ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 464 ط السلفية) من حديث عائشة رضي الله عنهَا

(41/206)


الْوَطْءِ، وَلأَِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ وَلاَ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إِلاَّ إِلَيْهِ فَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْعُرْفُ (1) .

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ فِيهِمَا أَوْ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ فِيهِمَا.
وَقَال بَهْرَامُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيُسْتَعْمَل لَفْظُ النِّكَاحِ - فِي الشَّرْعِ - فِي الْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيل الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا بِالاِشْتِرَاكِ كَالْعَيْنِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، قَال الْمَرْدَاوِيُّ: وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مَعًا، فَلاَ يُقَال: هُوَ حَقِيقَةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ، بَل عَلَى مَجْمُوعِهِمَا، فَهُوَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ، قَال ابْنُ رَزِينٍ: هُوَ الأَْشْبَهُ، قَال الْمَرْدَاوِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الاِشْتِرَاكِ وَالتَّوَاطُؤِ: أَنَّ الاِشْتِرَاكَ
__________
(1) شرح الخرشي 3 / 165، والفواكه الدواني 2 / 21، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 3 / 403 ط دار الفكر - بيروت، والدر المختار ورد المحتار 2 / 260، ومغني المحتاج قيم 3 / 123، والإنصاف 8 / 4، 5، وكشاف القنَاع 5 / 5، 6، والمغني 6 / 445.

(41/206)


يُقَال عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَقِيقَةً بِخِلاَفِ الْمُتَوَاطِئِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقَال حَقِيقَةً إِلاَّ عَلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ (1) .

مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ:
2 - يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ اخْتِلاَفُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ.
فَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْشْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الزِّنَا لاَ يُثْبِتُ الْمُصَاهَرَةَ، فَلِمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِفُرُوعِهَا وَأُصُولِهَا، وَلأَِبِيهِ وَابْنِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لاَ يُسَمَّى نِكَاحًا وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ بِالْمُصَاهَرَةِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ حَيْثُ أُطْلِقَ حُمِل عَلَى الْعَقْدِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ، فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ (3) }
__________
(1) رد المحتار والدر المختار 2 / 260، ومواهب الجليل 3 / 403، والخرشي مع العدوي 3 / 164، ومغني المحتاج 3 / 123، والإنصاف 8 / 5، 6، وكشاف القناع 5 / 5، 6.
(2) رد المحتار 2 / 260، والمغني 6 / 576، 577، ومطالب أولي النهى 5 / 4.
(3) سورة النساء / 22

(41/207)


مَعْنَاهُ: لاَ تَنْكِحُوا مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا آبَاؤُكُمْ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ زَنَى بِهَا أَبُوهُ لاَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الزِّنَا لاَ حُكْمَ لَهُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ (2) } ، وَلَيْسَتِ الَّتِي زَنَى بِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ وَلاَ ابْنَتُهَا مِنْ رَبَائِبِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ الصَّدَاقُ فِي الزِّنَا وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ وَوَجَبَ الْحَدُّ ارْتَفَعَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْجَائِزِ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوِ ابْنَتَهَا فَقَال: لاَ يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلاَل، إِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ " (4) .
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 6 / 174.
(2) سورة النساء / 23
(3) الجامع لأحكام القرآن 5 / 115 ط دار إحياء التراث العربي، وشرح الدردير مع الدسوقي 2 / 251.
(4) حديث: " لا يحرم الحرام الحلال. . . ". أخرجه الدارقطني في السنن (3 / 268 ط دار المحاسن) والبيهقي في السنن (7 / 169 ط دائرة المعارف) وذكره ابن حجر في الفتح (9 / 156 ط السلفية) وعزاه إليهما ثم قال: وفي إسنادهما عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وهو متروك، وقد أخرج ابن ماجه طرفًا منه من حديث ابن عمر (1 / 649 ط الحلبي) وإسناده أصلح من الأول

(41/207)


وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ: أَنَّ مَنْ حَلَفَ لاَ يَنْكِحُ، وَمَنْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ عَلَى النِّكَاحِ فَإِنَّ الْحِنْثَ وَوُقُوعَ الطَّلاَقِ بِالْوَطْءِ عِنْدَ مَنْ يَقُول إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَبِالْعَقْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِيهِ.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ، وَكَذَا لَوْ أَبَانَهَا قَبْل الْوَطْءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ بِهِ لاَ بِالْعَقْدِ، بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ؛ لأَِنَّ وَطْئَهَا لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ شَرْعًا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً فَتَعَيَّنَ الْمَجَازُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَلَفَ لاَ يَنْكِحُ حَنِثَ بِالْعَقْدِ لاَ بِالْوَطْءِ، إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلاَقَ عَلَى النِّكَاحِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِطْبَةُ:
4 - الْخِطْبَةُ - بِكَسْرِ الْخَاءِ - فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَطَبَ، يُقَال: خَطَبَ الْمَرْأَةَ خَطْبًا وَخِطْبَةً: طَلَبُهَا لِلزَّوَاجِ، وَخَطَبَهَا إِلَى أَهْلِهَا: طَلَبَهَا مِنْهُمْ لِلزَّوَاجِ، وَاخْتَطَبَ الْقَوْمُ فُلاَنًا: إِذَا دَعَوْهُ إِلَى تَزْوِيجِ صَاحِبَتِهِمْ (3) .
__________
(1) رد المحتار 2 / 260.
(2) مغني المحتاج 3 / 123، ونهاية المحتاج 6 / 174.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.

(41/208)


وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْخِطْبَةُ مُقَدِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ.

ب - السِّفَاحُ:
5 - السِّفَاحُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ سَافَحَ، يُقَال: سَافَحَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ سِفَاحًا وَمُسَافَحَةً، وَهُوَ الْمُزَانَاةُ وَالْفُجُورُ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ يُصَبُّ ضَائِعًا، وَفِي النِّكَاحِ غُنْيَةٌ عَنِ السِّفَاحِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
وَالسِّفَاحُ ضِدُّ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فِي السِّفَاحِ حَرَامٌ، وَفِي النِّكَاحِ حَلاَلٌ.

ج - الطَّلاَقُ:
6 - الطَّلاَقُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ طَلَقَ - بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا - يُقَال: طَلَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا طَلاَقًا: بَانَتْ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الطَّلاَقُ حَل عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَمَا قَال الْحَنَابِلَةُ: حَل قَيْدِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْضِهِ - أَيْ بَعْضِ قَيْدِ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 115 ط المكتبة الإسلامية، ومواهب الجليل 3 / 407.
(2) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(3) قواعد الفقه للبركتي.
(4) القاموس المحيط.

(41/208)


النِّكَاحِ - إِذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً (1) وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلاَقَ حَلٌّ لِقَيْدِ النِّكَاحِ.

مَشْرُوعِيَّةُ النِّكَاحِ وَحِكْمَتُهُ:
7 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ النِّكَاحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (2) } ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ (3) } .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ " (4) .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ، وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَاسْتَمَرَّتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ، بَل هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي الْجَنَّةِ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ فَهِيَ مُتَعَدِّدَةُ
__________
(1) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 99، وكشاف القناع 5 / 232.
(2) سورة النساء / 3
(3) سورة النور / 32
(4) حديث: " يا معشر. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 112 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1018 ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

(41/209)


الْجَوَانِبِ، مِنْهَا: حِفْظُ النَّسْل، وَإِخْرَاجُ الْمَاءِ الَّذِي يَضُرُّ احْتِبَاسُهُ بِالْبَدَنِ، وَنَيْل اللَّذَّةِ، وَهَذِهِ الأَْخِيرَةُ هِيَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ؛ إِذْ لاَ تَنَاسُل هُنَاكَ وَلاَ احْتِبَاسَ (1) .
وَقَال الْبَابَرْتِيُّ: مَا اتُّفِقَ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْل مَا اتُّفِقَ فِي النِّكَاحِ مِنَ اجْتِمَاعِ دَوَاعِي الشَّرْعِ وَالْعَقْل وَالطَّبْعِ، فَأَمَّا دَوَاعِي الشَّرْعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا دَوَاعِي الْعَقْل: فَإِنَّ كُل عَاقِلٍ يُحِبُّ أَنْ يَبْقَى اسْمُهُ وَلاَ يَنْمَحِيَ رَسْمُهُ، وَمَا ذَلِكَ غَالِبًا إِلاَّ بِبَقَاءِ النَّسْل، وَأَمَّا دَوَاعِي الطَّبْعِ: فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَهِيمِيَّ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى يَدْعُو إِلَى تَحْقِيقِ مَا أُعِدَّ مِنَ الْمُبَاضَعَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْمُضَاجَعَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَلاَ مَزْجَرَةَ فِيهَا إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ بِدَوَاعِي الطَّبْعِ بَل يُؤْجَرُ عَلَيْهِ.
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْعَقْدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ ذَلِكَ حِفْظُ النِّسَاءِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِنَّ وَالإِْنْفَاقُ، وَصِيَانَةُ النَّفْسِ عَنِ الزِّنَا، وَتَكْثِيرُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَال: " تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 98، ومغني المحتاج 3 / 124، ومطالب أولي النهى 5 / 6، والمغني 6 / 446.

(41/209)


الأَْنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (1) ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ - أَنَّهُ كَانَ يَقُول: إِنِّي لأََتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمَا لِي فِيهَا حَاجَةٌ، وَأَطَؤُهَا وَمَا أَشْتَهِيهَا، قِيل لَهُ: وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَال: حُبِّي أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنِّي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَضَافَ السَّرَخْسِيُّ قَوْلَهُ: وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِهِ إِلَى وَقْتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَبِالتَّنَاسُل يَكُونُ هَذَا الْبَقَاءُ، وَهَذَا التَّنَاسُل يَحْصُل عَادَةً بِالْوَطْءِ، فَجَعَل الشَّرْعُ طَرِيقَ ذَلِكَ الْوَطْءِ النِّكَاحَ؛ لأَِنَّ فِي التَّغَالُبِ فَسَادًا، وَفِي الإِْقْدَامِ بِغَيْرِ مِلْكٍ اشْتِبَاهَ الأَْنْسَابِ وَهُوَ سَبَبٌ لِضَيَاعِ النَّسْل، وَهَذَا الْمِلْكُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْل الآْدَمِيِّ مِنَ الْحُرِّيَّةِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، فَهَذَا مَعْنَى أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ الْبَقَاءُ الْمَقْدُورُ إِلَى وَقْتِهِ (2) .
__________
(1) حديث: " تزوجوا الودود. . . ". أخرجه الإمام أحمد (3 / 158 ط الميمنية) من حديث أنس بن مالك، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 258 ط القدسي) وقال: أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط وإسناده حسن
(2) العناية بهامش فتح القدير 3 / 98 - 99، والمبسوط 4 / 192 - 193 - ط دار المعرفة - بيروت، وتفسير القرطبي 9 328.

(41/210)


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَجْرِي عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا - أَوْ فَرْضًا - أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: أَوَّلاً: الْوُجُوبُ:
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ يَكُونُ وَاجِبًا عِنْدَ التَّوَقَانِ، أَيْ شِدَّةِ الاِشْتِيَاقِ بِحَيْثُ يَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ؛ إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنَ الاِشْتِيَاقِ إِلَى الْجِمَاعِ الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا فِيمَا يَظْهَرُ لَوْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ أَوْ عَنِ الاِسْتِمْنَاءِ بِالْكَفِّ، فَيَجِبُ التَّزَوُّجُ وَإِنْ لَمْ يَخَفِ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا.
وَيَكُونُ النِّكَاحُ فَرْضًا إِنْ تَيَقَّنَ الزِّنَا إِلاَّ بِهِ، بِأَنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ الاِحْتِرَازُ عَنِ الزِّنَا إِلاَّ بِهِ؛ لأَِنَّ مَا لاَ يُتَوَصَّل إِلَى تَرْكِ الْحَرَامِ إِلاَّ بِهِ يَكُونُ فَرْضًا.
وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ النِّكَاحِ أَوْ فَرْضِهِ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ قَامَتْ بِهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ أَوِ الْفَرْضِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَزَادَ فِي الْبَحْرِ شَرْطًا آخَرَ فِيهِمَا وَهُوَ: عَدَمُ الْجَوْرِ أَيِ الظُّلْمِ، فَإِنْ وُجِدَتِ الشُّرُوطُ كَانَ الْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَلاَ إِثْمَ بِتَرْكِ النِّكَاحِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى الرَّاغِبِ

(41/210)


إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ حَرَامٍ، أَوْ أَدَّى إِلَى عَدَمِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا مَعَ وُجُوبِ إِعْلاَمِهَا بِذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ لَوْ خَافَ الْعَنَتَ وَتَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ، وَحَكَى ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَذَا الْحُكْمَ وَجْهًا فَقَال: وَوَجْهٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ خَافَ زِنًا، قِيل: مُطْلَقًا لأَِنَّ الإِْحْصَانَ لاَ يُوجَدُ إِلاَّ بِهِ، وَقِيل: إِنْ لَمْ يُرِدِ التَّسَرِّيَ، وَتَلْحَقُ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُل فِي هَذَا الْحُكْمِ فَيَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لاَ يَنْدَفِعُ عَنْهَا الْفَجَرَةُ إِلاَّ بِالنِّكَاحِ.
وَقَالُوا: يَجِبُ النِّكَاحُ بِالنَّذْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ، قَال الشَّرْوَانِيُّ: خِلاَفًا لِنِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَالشِّهَابِ الرَّمْلِيِّ.
وَقَال الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ: لاَ يُلْزَمُ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا وَإِنِ اسْتَحَبَّ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَيْهِ أَمْ لاَ، تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ أَمْ لاَ.
وَقِيل: النِّكَاحُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الأُْمَّةِ لاَ يَسُوغُ لِجَمَاعَتِهِمِ الإِْعْرَاضُ عَنْهُ لِبَقَاءِ النَّسْل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى مَنْ يَخَافُ الزِّنَا بِتَرْكِ النِّكَاحِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ،

(41/211)


سَوَاءً كَانَ خَوْفُهُ ذَلِكَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ وَصَرْفُهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحُ، وَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى حَجٍّ وَاجِبٍ نَصًّا لِخَشْيَةِ الْمَحْظُورِ بِتَأْخِيرِهِ بِخِلاَفِ الْحَجِّ.
وَفَصَّل الْبُهُوتِيُّ بَعْضَ الْمَسَائِل فَقَال: وَلاَ يَكْتَفِي فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَل يَكُونُ التَّزْوِيجُ فِي مَجْمُوعِ الْعُمُرِ لِتَنْدَفِعَ خَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ.
وَلاَ يَكْتَفِي فِي الاِمْتِثَال بِالْعَقْدِ فَقَطْ، بَل يَجِبُ الاِسْتِمْتَاعُ لأَِنَّ خَشْيَةَ الْمَحْظُورِ لاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِهِ.
وَيُجْزِئُ تَسَرٍّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (1) } .
وَمَنْ أَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ وَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا قَال أَحْمَدُ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِوُجُوبِ بِرِّ وَالِدَيْهِ، قَال فِي الْفُرُوعِ: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِالطَّلاَقِ لاَ يَتَزَوَّجُ أَبَدًا إِنْ أَمَرَهُ بِهِ أَبُوهُ تَزَوَّجَ، قَال الشَّيْخُ: وَلَيْسَ - لأَِبَوَيْهِ - إِلْزَامُهُ بِنِكَاحِ مَنْ لاَ يُرِيدُ نِكَاحَهَا لِعَدَمِ حُصُول الْغَرَضِ بِهَا.
وَيَجِبُ النِّكَاحُ بِالنَّذْرِ مِنْ ذِي الشَّهْوَةِ، لِحَدِيثِ: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ " (2)
__________
(1) سورة النساء / 3
(2) حديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 581 ط السلفية) من حديث عائشة رضي الله عنها

(41/211)


وَأَمَّا نَحْوُ الْعِنِّينِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ إِذَا نَذَرَهَا (1) .

ثَانِيًا: النَّدْبُ:
9 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الأَْصَحِّ - وَهُوَ مَحْمَل الْقَوْل بِالاِسْتِحْبَابِ - فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، لأَِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ مُؤْثِمٌ، وَيُثَابُ إِنْ نَوَى وَلَدًا وَتَحْصِينًا، أَيْ مَنْعَ نَفْسِهِ وَنَفْسِهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى مُجَرَّدَ الاِتِّبَاعِ وَامْتِثَال الأَْمْرِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ نَوَى مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي حَال الاِعْتِدَال، أَيِ الْقُدْرَةِ عَلَى وَطْءٍ وَمَهْرٍ وَنَفَقَةٍ، وَأَمَّا حَال الاِعْتِدَال فِي التَّوَقَانِ فَذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَكُونَ بِالْمَعْنَى الْمَارِّ فِي الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ وَهُوَ شِدَّةُ الاِشْتِيَاقِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ فِي غَايَةِ الْفُتُورِ كَالْعِنِّينِ، بَل يَكُونُ بَيْنَ الْفُتُورِ وَالشَّوْقِ، وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَهْرِ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 82، والدر المختار ورد المحتار 2 / 260 - 261، وبدائع الصنائع 2 / 229، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 77 - 78، وحاشية الدسوقي 2 / 214 - 215، ومواهب الجليل 3 / 403 - 404، ومغني المحتاج 3 / 225 - 226، ونهاية المحتاج 6 / 178 - 180، وتحفة المحتاج 7 / 183 - 187، وكشاف القناع 5 / 6 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 5 / 5 وما بعدها، والإنصاف 8 / 6 - 15.

(41/212)


وَالنَّفَقَةِ فَلأَِنَّ الْعَجْزَ عَنْهُمَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ فَيُسْقِطُ السُّنِّيَّةَ بِالأَْوْلَى.
وَمَنْ قَال: إِنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِل مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي " (1) ، وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِل، وَلأَِنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ: " فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " (2) وَلاَ وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِل.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ يُخِل عَنْهُ، بَل كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي أَفْضَل لَمَا فَعَل، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لاَ يَتْرُكُونَ الأَْفْضَل فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، لأَِنَّ تَرْكَ الأَْفْضَل فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُعَدُّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ
__________
(1) حديث: " النكاح من سنتي ". أخرجه ابن ماجه (1 / 592 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 323 - ط دار الجنان) .
(2) حديث: " فمن رغب عن سنتي. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 104 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1020 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه

(41/212)


النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الأُْمَّةِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِل، لأَِنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا - أَيِ الزَّوْجَةِ - عَنِ الْهَلاَكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ لِعَجْزِهَا عَنِ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُول الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِل، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّل إِلَيْهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الشَّخْصُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي النِّكَاحِ رَغْبَةٌ أَوْ لاَ: فَالرَّاغِبُ إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ حَرَامٍ أَوْ أَدَّى إِلَى عَدَمِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، أَوْ مَعَ وُجُودِ مُقْتَضَى تَحْرِيمِ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ إِعْلاَمِهَا بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا نُدِبَ لَهُ النِّكَاحُ إِلاَّ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى حَرَامٍ فَيُحَرَّمُ. وَغَيْرُ الرَّاغِبِ إِنْ أَدَّاهُ إِلَى قَطْعٍ مَنْدُوبٍ كُرِهَ وَإِلاَّ أُبِيحَ إِلاَّ أَنْ يَرْجُوَ نَسْلاً أَوْ يَنْوِيَ خَيْرًا مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى فَقِيرَةٍ أَوْ صَوْنٍ لَهَا فَيُنْدَبُ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 82 ط دار المعرفة، والدر المختار ورد المحتار 2 / 260، 261، وبدائع الصنائع 2 / 229

(41/213)


مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى مُحَرَّمٍ وَإِلاَّ حُرِّمَ. وَالأَْصْل فِي النِّكَاحِ النَّدْبُ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ النَّدْبَ بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا ذَا أُهْبَةٍ، وَزَادَ الْحَطَّابُ بِأَنْ لاَ يَخْشَى الْعَنَتَ.
وَنَقَل الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الإِْنْفَاقَ مِنَ الْكَسْبِ الْحَرَامِ لاَ يَجُوزُ مَعَهُ النِّكَاحُ وَإِنْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النِّكَاحُ مُسْتَحَبٌّ لِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، أَيْ تَائِقٍ لَهُ، بِأَنْ تَتُوقَ نَفْسُهُ إِلَى الْوَطْءِ، وَلَوْ خَصِيًّا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الإِْحْيَاءِ، يَجِدُ أُهْبَتَهُ مِنْ مَهْرٍ، وَكُسْوَةِ فَصْل التَّمْكِينِ، وَنَفَقَةِ يَوْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَبِّدًا، تَحْصِينًا لِدِينِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ النَّسْل وَحِفْظِ النَّسَبِ، وَلِلاِسْتِعَانَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ، وَلِخَبَرِ: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " (2) ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ (3) }
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 214، 215 - دار الفكر، والخرشي مع حاشية العدوي عليه 3 / 165، والبناني على الزرقاني 3 / 162، ومواهب الجليل 3 / 403
(2) حديث يا معشر الشباب. . ". سبق تخريجه ف (7)
(3) سورة النساء

(41/213)


إِذِ الْوَاجِبُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالاِسْتِطَابَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ (1) } ، وَلاَ يَجِبُ الْعَدَدُ بِالإِْجْمَاعِ (2) وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (3) } .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ وَلاَ يَخَافُ الزِّنَا يُسَنُّ لَهُ النِّكَاحُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ "، عَلَّل أَمْرَهُ بِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَخَاطَبَ الشَّبَابَ لأَِنَّهُمْ أَغْلَبُ شَهْوَةً، وَذَكَرَهُ بِأَفْعَل التَّفْضِيل، فَدَل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى لِلأَْمْنِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورِ النَّظَرِ وَالزِّنَا، وَيُسَنُّ لَهُ وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنِ الإِْنْفَاقِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " زَوَّجَ رَجُلاً لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَلاَ وَجَدَ إِلاَّ إِزَارَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ (4)
__________
(1) سورة النساء / 3.
(2) مغني المحتاج 3 / 125، 126، ونهاية المحتاج 6 / 178 - 180، وتحفة المحتاج 7 / 183 - 187 ط دار صادر.
(3) سورة النساء / 3
(4) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم زوج رجلا لم يقدر على خاتم من حديد. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 131 ط السلفية) من حديث سهل بن سعد

(41/214)


وَقَال أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ قَلِيل الْكَسْبِ يَضْعُفُ قَلْبُهُ عَنِ التَّزَوُّجِ: اللَّهُ يَرْزُقُهُمُ، التَّزَوُّجُ أَحْصَنُ لَهُ.
هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزَوُّجُ، فَأَمَّا مَنْ لاَ يُمْكِنُهُ فَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (1) } ، وَنَقَل صَالِحٌ: يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ، وَاشْتِغَال ذِي الشَّهْوَةِ بِالنِّكَاحِ أَفْضَل مِنْ نَوَافِل الْعِبَادَةِ وَمِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِل الْعِبَادَةِ، قَال ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجْلِي إِلاَّ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا وَلِي طَوْل النِّكَاحِ فِيهِنَّ لَتَزَوَّجْتُ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، قَال أَحْمَدُ: لَيْسَتِ الْعُزُوبَةُ مِنْ أَمْرِ الإِْسْلاَمِ فِي شَيْءٍ، وَلأَِنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ مَصَالِحِ التَّخَلِّي لِنَوَافِل الْعِبَادَةِ، لاِشْتِمَالِهِ عَلَى تَحْصِينِ فَرْجِ نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَحِفْظِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِيجَادِ النَّسْل، وَتَكْثِيرِ الأُْمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْل الْعِبَادَةِ (2) .

ثَالِثًا: الْكَرَاهَةُ:

15 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ مَكْرُوهًا
__________
(1) سورة النور / 33
(2) كشاف القناع 5 / 6 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 5 / 5 وما بعدها، والإنصاف 8 / 6 - 15.

(41/214)


- أَيْ تَحْرِيمًا - لِخَوْفِ الْجَوْرِ، فَإِنْ تَعَارَضَ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَخَوْفَ الْجَوْرِ لَوْ تَزَوَّجَ قُدِّمَ الثَّانِي، فَلاَ افْتِرَاضَ بَل يُكْرَهُ، لأَِنَّ الْجَوْرَ مَعْصِيَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِبَادِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الزِّنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ لاِحْتِيَاجِهِ وَغِنَى الْمَوْلَى تَعَالَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ النِّكَاحُ لِمَنْ لاَ يَشْتَهِيهِ وَيَقْطَعُهُ عَنْ عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ لَمْ يَحْتَجْ لِلنِّكَاحِ بِأَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ لَهُ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ، أَوْ لِعَارِضٍ كَمَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ. . كُرِهَ لَهُ إِنْ فَقَدَ الأُْهْبَةَ، لِمَا فِيهِ مِنِ الْتِزَامٍ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَحُكْمُ الاِحْتِيَاجِ لِلتَّزْوِيجِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ غَيْرِ النِّكَاحِ كَخِدْمَةٍ وَتَأَنُّسٍ كَالاِحْتِيَاجِ لِلنِّكَاحِ كَمَا بَحَثَهُ الأَْذْرَعِيُّ، وَفِي الإِْحْيَاءِ مَا يَدُل عَلَيْهِ، وَنُقِل عَنِ الْبَلْقِينِيِّ أَنَّ مَحَل الْكَرَاهَةِ فِيمَنْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، أَمَّا مَنْ لاَ يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ حُكِيَ بِقِيل يُكْرَهُ النِّكَاحُ لِمَنْ لاَ شَهْوَةَ لَهُ، قَال الْمَرْدَاوِيُّ فِي الإِْنْصَافِ: وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ لِمَنْعِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنَ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ، وَيَضُرُّهَا بِحَبْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لاَ يَقُومُ بِهَا،

(41/215)


وَيَشْتَغِل عَنِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ (1) .

رَابِعًا: الْحُرْمَةُ:
11 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ حَرَامًا إِنْ تَيَقَّنَ الْجَوْرَ، لأَِنَّ النِّكَاحَ إِنَّمَا شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ تَحْصِينِ النَّفْسِ وَتَحْصِيل الثَّوَابِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُهُ، وَبِالْجَوْرِ يَأْثَمُ وَيَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَتَنْعَدِمُ الْمَصَالِحُ لِرُجْحَانِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ إِذَا لَمْ يَخْشَ الزِّنَا، وَكَانَ نِكَاحُهُ يَضُرُّ بِالْمَرْأَةِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، أَوِ التَّكَسُّبِ مِنْ حَرَامٍ أَوْ تَأْخِيرِ الصَّلاَةِ عَنْ أَوْقَاتِهَا لاِشْتِغَالِهِ بِتَحْصِيل نَفَقَتِهَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ لاَ يَصِحُّ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 82، والدر المختار ورد المحتار 2 / 260 - 261، وبدائع الصنائع 2 / 229، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 77 - 78، وحاشية الدسوقي 2 / 214 - 214، ومواهب الجليل 3 / 403 - 404، ومغني المحتاج 3 / 225 - 226، ونهاية المحتاج 6 / 178 - 180، وتحفة المحتاج 7 / 183 - 187، وكشاف القناع 5 / 6 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 5 / 5 وما بعدها، والإنصاف 8 / 6 - 15.

(41/215)


وَقَالُوا: مَنْ لاَ تَحْتَاجُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى النِّكَاحِ وَعَلِمَتْ مِنْ نَفْسِهَا عَدَمَ الْقِيَامِ بِحَاجَةِ الزَّوْجِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ حَرُمَ عَلَيْهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِمُسْلِمٍ دَخَل دَارَ كُفَّارٍ بِأَمَانٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلاَ يَتَسَرَّى إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلاَ يَطَأُ زَوْجَتَهُ إِنْ كَانَتْ مَعَهُ وَلاَ أَمَتَهُ وَلاَ أَمَةً اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلَوْ مَسْلِمَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ أَبَا بَكْرٍ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَهُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ (1) . وَلأَِنَّ الْكُفَّارَ لاَ يَدَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَأَمَّا الأَْسِيرُ فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ: لاَ يَحِل لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لأَِنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ إِذَا أُسِرَتْ مَعَهُ مَعَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا، قَال الْبُهُوتِيُّ: فَظَاهِرُهُ وَلَوْ لِضَرُورَةٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْمُنْتَهَى (2) .
__________
(1) حديث سعيد بن أبي هلال أنه بلغه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أبا بكر أسماء بنت عميس. . . ". أخرجه سعيد بن منصور (3 / 338 ط المجلس العلمي) وذكره ابن حجر في الإصابة (4 / 225 ط التجارية الكبرى) ، وقال: مرسل جيد الإسناد.
(2) الاختيار لتعليل المختار 3 / 82، والدر المختار ورد المحتار 2 / 260 - 261، وبدائع الصنائع 2 / 229، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 77 - 78، وحاشية الدسوقي 2 / 214 - 214، ومواهب الجليل 3 / 403 - 404، ومغني المحتاج 3 / 225 - 226، ونهاية المحتاج 6 / 178 - 180، وتحفة المحتاج 7 / 183 - 187، وكشاف القناع 5 / 6 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 5 / 5 وما بعدها، والإنصاف، 8 / 6 - 15.

(41/216)


خَامِسًا: الإِْبَاحَةُ:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ مُبَاحًا إِنْ خَافَ الْعَجْزَ عَنِ الإِْيفَاءِ بِمَوَاجِبِهِ خَوْفًا غَيْرَ رَاجِحٍ، لأَِنَّ عَدَمَ الْجَوْرِ مِنْ وَاجِبِهِ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِقَامَةَ السُّنَّةِ، بَل قَصَدَ مُجَرَّدَ التَّوَصُّل إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَلَمْ يَخَفْ شَيْئًا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ، إِذْ لاَ ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ مُبَاحًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ النِّكَاحُ لِمَنْ لاَ يُولَدُ لَهُ وَلاَ يَرْغَبُ فِي النِّسَاءِ، قَال اللَّخْمِيُّ: إِذَا كَانَ لاَ إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ وَلاَ يَرْجُو نَسْلاً - لأَِنَّهُ حَصُورٌ أَوْ خَصِيٌّ أَوْ مَجْبُوبٌ أَوْ شَيْخٌ فَانٍ أَوْ عَقِيمٌ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ - كَانَ مُبَاحًا، وَيُقَيَّدُ هَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يَقْطَعْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ مِنْهُ كَوْنَهُ حَصُورًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ وَجَدَ الأُْهْبَةَ مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَى النِّكَاحِ وَلاَ عِلَّةَ بِهِ فَلاَ يُكْرَهُ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ.
وَمَقَاصِدُ النِّكَاحِ لاَ تَنْحَصِرُ فِي

(41/216)


الْجِمَاعِ، لَكِنَّ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الْمُتَعَبِّدِ أَفْضَل لَهُ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ التَّخَلِّي لِلاِشْتِغَال بِالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بَل هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُبَاحُ النِّكَاحُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِمَنْ لاَ شَهْوَةَ لَهُ كَالْعِنِّينِ وَالْمَرِيضِ وَالْكَبِيرِ، لأَِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لَهَا يَجِبُ النِّكَاحُ أَوْ يُسْتَحَبُّ، وَهِيَ خَوْفُ الزِّنَا أَوْ وُجُودُ الشَّهْوَةِ مَفْقُودَةٌ فِيهِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَلَدُ وَهُوَ فِيمَنْ لاَ شَهْوَةَ لَهُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، فَلاَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ لِعَدَمِ مَنْعِ الشَّرْعِ مِنْهُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُل فِي هَذِهِ الأَْحْكَامِ إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَسَرَّى (1) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 82، والدر المختار ورد المحتار 2 / 260 - 261، وبدائع الصنائع 2 / 229، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 3 / 77 - 78، وحاشية الدسوقي 2 / 214 - 214، ومواهب الجليل 3 / 403 - 404، ومغني المحتاج 3 / 225 - 226، ونهاية المحتاج 6 / 178 - 180، وتحفة المحتاج 7 / 183 - 187، وكشاف القناع 5 / 6 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 5 / 5 وما بعدها، والإنصاف 8 / 6 - 15.

(41/217)


النِّكَاحُ وَالْعِبَادَةُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ النِّكَاحِ عِبَادَةً، وَفِي كَوْنِهِ أَفْضَل مِنَ النَّوَافِل، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:

أ - كَوْنُ النِّكَاحِ عِبَادَةً:
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ أَقْرَبُ إِلَى الْعِبَادَاتِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي النِّكَاحِ هَل هُوَ عِبَادَةٌ أَمْ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ: فَصَرَّحَ جَمْعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِدَلِيل صِحَّتِهِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا الْفَهْمَ مَرْدُودٌ وَأَنَّهُ عِبَادَةٌ، بِدَلِيل أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ (1) وَالْعِبَادَةُ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَصِحَّةُ النِّكَاحِ مِنَ الْكَافِرِ - مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَعِبَادَةُ الْكَافِرِ لاَ تَصِحُّ - لِمَا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا كَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ مِنْهُ عِبَادَةٌ، وَتَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ عِبَادَةٌ، وَأَفْتَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالنَّوَوِيُّ بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ طَاعَةً مِنْ وَلَدٍ صَالِحٍ أَوْ إِعْفَافٍ كَانَ مِنْ عَمَل الآْخِرَةِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُبَاحًا.
وَمَحَل اخْتِلاَفِهِمْ فِي غَيْرِ نِكَاحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا
__________
(1) أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح دل عليه حديث: " تزوجوا الودود. . . " وحديث: " يا معشر الشباب من استطاع. . " وقد سبق تخريجهما في فقرة (7) .

(41/217)


هُوَ فَقُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ قَطْعًا وَمُطْلَقًا، لأَِنَّ فِيهِ نَشْرَ الشَّرِيعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَحَاسِنِهِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلاَّ النِّسَاءُ، وَمِنْ ثَمَّ وَسَّعَ لَهُ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ مَا لَمْ يُوَسِّعْ لِغَيْرِهِ، لِيَحْفَظَ كُل مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهُ، لِتَعَذُّرِ إِحَاطَةِ الْعَدَدِ الْقَلِيل بِهَا لِكَثْرَتِهَا بَل لِخُرُوجِهَا عَنِ الْحَصْرِ (1) .

ب - الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالنَّوَافِل:
14 - قَال الْكَاسَانِيُّ: مَنْ قَال مِنْ أَصْحَابِنَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ، قَال إِنَّ الاِشْتِغَال بِهِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى مِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِل الْعِبَادَاتِ مَعَ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْل أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، لأَِنَّ الاِشْتِغَال بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ مَا كَانَ أَوْلَى مِنْ الاِشْتِغَال بِالتَّطَوُّعِ.
وَمَنْ قَال مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ، فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِل مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي " (2) ، وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِل بِالإِْجْمَاعِ، وَلأَِنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: " فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " (3) ، وَلاَ وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِل.
__________
(1) فتح القدير 3 / 184، ونهاية المحتاج 6 / 178، ومغني المحتاج 3 / 126.
(2) حديث: " النكاح من سنتي. . . ". سبق تخريجه ف (9)
(3) حديث: " فمن رغب عن سنتي. . ". سبق تخريجه ف (9)

(41/218)


وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَمْ يَخْل عَنْهُ، بَل كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ، حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِل أَفْضَل لَمَا فَعَل، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الأَْنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لاَ يَتْرُكُونَ الأَْفْضَل فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، لأَِنَّ تَرْكَ الأَْفْضَل فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الأُْمَّةِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِل، لأَِنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنِ الْهَلاَكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ لِعَجْزِهَا عَنِ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُول الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِل، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوصِل إِلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ (1) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّاغِبَ فِي النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ نُدِبَ لَهُ النِّكَاحُ رَجَا النَّسْل أَوْ لاَ وَلَوْ قَطَعَهُ عَنْ عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ مِنَ الْمُتَعَبِّدِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 229، وفتح القدير 3 / 184.
(2) شرح الزرقاني، 3 / 162، والشرح الصغير 2 / 331

(41/218)


أَفْضَل لَهُ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ التَّخَلِّي لِلاِشْتِغَال بِالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، بَل هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ النِّكَاحَ أَفْضَل مِنْ نَوَافِل الْعِبَادَةِ وَمِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِل الْعِبَادَةِ.
وَقَال أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ: لاَ يَكُونُ أَفْضَل مِنَ التَّخَلِّي إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْمَصَالِحَ الْمَعْلُومَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْهَا فَلاَ يَكُونُ أَفْضَل.
وَعَنْ أَحْمَدَ: التَّخَلِّي لِنَوَافِل الْعِبَادَةِ أَفْضَل كَمَا لَوْ كَانَ مَعْدُومَ الشَّهْوَةِ (2) .

خَصَائِصُ عَقْدِ النِّكَاحِ:
يَتَمَيَّزُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِخَصَائِصَ مِنْهَا:

أ - التَّأْبِيدُ:
15 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ لاَ يَقْبَل التَّأْقِيتَ، فَلاَ يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ النِّكَاحِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْقِيتُ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أَمْ قَصِيرَةٍ، مَعْلُومَةٍ أَمْ مَجْهُولَةٍ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج لهم 3 / 126، ونهاية المحتاج 6 / 180.
(2) كشاف القناع 5 / 6، والإنصاف 8 / 15.
(3) بدائع الصنائع 2 / 272، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 239، ومغني المحتاج 3 / 142، وكشاف القناع 5 / 96.

(41/219)


16 - أَمَّا إِذَا كَانَ التَّأْقِيتُ مُضْمَرًا فِي نَفْسِ الزَّوْجِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ. وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِكَرَاهَتِهِ وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حُكِيَ بِقِيل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل بَهْرَامَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَأْقِيت ف 14 - 16، نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) .

ب - اللُّزُومُ:
17 - النِّكَاحُ عَقْدٌ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَمِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهُ رَفْعَهُ بِالطَّلاَقِ وَالْفَسْخِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِهِ، أَمَّا فَسْخُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسْخِ فَلاَ يَتَأَتَّى لاَ مِنَ الرَّجُل وَلاَ مِنَ الْمَرْأَةِ (1) .
__________
(1) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 64، ومواهب الجليل 3 / 422، وفتح القدير 3 / 428، 249، والمغني 6 / 315، وتهذيب الفروق 4 / 31.

(41/219)


مَا يُسَنُّ فِي النِّكَاحِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ تُسَنُّ فِي النِّكَاحِ أُمُورٌ، اتَّفَقُوا عَلَى بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:

أ - أَنْ لاَ يَزِيدَ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ:
18 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَزِيدَ الرَّجُل فِي النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، إِنْ حَصَل بِهَا الإِْعْفَافُ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ (1) } ، وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيل إِلَى إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ " (2) .
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: لَوْ أَعَفَّتْهُ وَاحِدَةٌ لَكِنَّهَا عَقِيمٌ اسْتُحِبَّ لَهُ نِكَاحُ وَلُودٍ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِلَى أَرْبَعٍ إِذَا أَمِنَ عَدَمَ الْجَوْرِ بَيْنَهُنَّ فَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ الْعَدْل بَيْنَهُنَّ، فَإِنْ لَمْ
__________
(1) سورة النساء / 129.
(2) حديث: " من كان له امرأتان. . . ". أخرجه النسائي (7 / 36 ط التجارية الكبرى) ، والحاكم (2 / 186 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، واللفظ للنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي

(41/220)


يَأْمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً (2) } .

ب - أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالٍ وَيَدْخُل فِيهِ:
19 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلرَّجُل أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّال وَيَدْخُل فِيهِ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: " تَزَوَّجَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ (3) . وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْضُ الْعَوَامِّ يَكْرَهُونَ التَّزَوُّجَ وَالتَّزْوِيجَ فِي شَوَّال وَيَتَطَيَّرُونَ بِذَلِكَ لِمَا فِي اسْمِ شَوَّالٍ مِنَ الإِْشَالَةِ وَالرَّفْعِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّرْغِيبُ فِي صَفَرٍ، لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي شَهْرِ صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ " (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 127 - 128، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 54.
(2) سورة النساء / 3.
(3) حديث عائشة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال ". أخرجه مسلم (2 / 1039 ط عيسى الحلبي)
(4) حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته فاطمة عليا رضي الله عنهم افي صفر. . . ". ذكره الشبراملسي في حاشيته على نهاية المحتاج (6 / 185 ط دار الفكر) ولم نقف على من أسنده، وقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب ما يفيد معناه

(41/220)


وَقَال بَعْضُهُمْ: يُسَنُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالٍ حَيْثُ كَانَ يُمْكِنُهُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنْ وُجِدَ سَبَبٌ لِلنِّكَاحِ فِي غَيْرِهِ فَعَلَهُ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: وَالْبِنَاءُ وَالنِّكَاحُ بَيْنَ الْعِيدَيْنِ جَائِزٌ، وَكُرِهَ الزِّفَافُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ تَزَوَّجَ بِالصِّدِّيقَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِهَا فِيهِ (1) .
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 408، وابن عابدين 2 / 262، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 6 / 182 - 183.

(41/221)


ج - أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ فِي الْمَسْجِدِ:
20 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ (1) ، لِحَدِيثِ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ " (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ جَائِزٌ (3) .

د - أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ عَقْدُ النِّكَاحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ، مِنْهُمْ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ وَرَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَحَبِيبُ بْنُ عُتْبَةَ، وَلأَِنَّهُ يَوْمٌ شَرِيفٌ، وَيَوْمُ عِيدٍ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 261 - 262، ومغني المحتاج 3 / 128.
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 390 ط الحلبي) وقال: هذا حديث غريب حسن في هذا الباب وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث. وضعف إسناده ابن حجر في الفتح (9 / 226) .
(3) مواهب الجليل 3 / 408.
(4) خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة ورد في حديث أخرجه مسلم (4 / 2150ط عيسى الحلبي) عن أبي هريرة مرفوعا.

(41/221)


وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ أَوَّل النَّهَارِ لِخَبَرِ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُِمَّتِي فِي بُكُورِهَا " (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الإِْمْسَاءُ بِالنِّكَاحِ أَوْلَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " أَمْسُوا بِالْمِلاَكِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ " (2) ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ لِمَقْصُودِهِ وَأَقَل لاِنْتِظَارِهِ، وَلأَِنَّ فِي آخِرِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ سَاعَةَ الإِْجَابَةِ (3) .
وَنَقَل الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الطِّرَازِ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " اللهم بارك لأمتي في بكورها ". أخرجه أبو داود (3 / 79 - 80 ط حمص) ، والترمذي (3 / 508 ط الحلبي) من حديث صخر الغامدي، وقال الترمذي: حديث حسن ولا نعرف لصخر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث
(2) حديث: " أمسوا بالملاك فإنه أعظم للبركة ". ذكره صاحب منار السبيل (2 / 144 ط المكتب الإسلامي) ، وصاحب كشاف القناع (5 / 20 ط مكتبة النصر الحديثة) من حديث أبي هريرة معزوا لأبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان العكبري المتوفى 317 هـ، ولم نهتد إلى من أخرجه غيره
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 262، وأسنى المطالب 3 / 108، وكشاف القناع 5 / 20، والمغني 6 / 538، 539 ط الرياض، 9 / 469 ط هجر.

(41/222)


تُسْتَحَبُّ الْخِطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَذَلِكَ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّيْل وَسُكُونِ النَّاسِ فِيهِ وَالْهُدُوءِ فِيهِ (1) .

هـ - أَنْ يَكُونَ بِعَاقِدٍ رَشِيدٍ وَشُهُودٍ عُدُولٍ:
22 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ رَشِيدٍ وَشُهُودٍ عُدُولٍ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْقِدَ مَعَ الْمَرْأَةِ بِلاَ أَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهَا، وَلاَ مَعَ عَصَبَةِ فَاسِقٍ، وَلاَ عِنْدَ شُهُودٍ غَيْرِ عُدُولٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ الَّذِي يُجْرِي الْعَقْدَ وَلِيُّهَا.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَفْوِيضُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ وَمِثْلُهُ الزَّوْجُ الْعَقْدَ لِفَاضِلٍ تُرْجَى بَرَكَتُهُ، وَأَمَّا تَفْوِيضُ الْعَقْدِ لِغَيْرِ فَاضِلٍ فَهُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى (2)
وَ - أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ يُرِيدُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا، وَلِلأَْحَادِيثِ وَالآْثَارِ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 407.
(2) الدر المختار ورد المختار 2 / 262، والشرح الصغير 2 / 339.

(41/222)


وَالْمَذْهَبُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا النَّظَرَ مُبَاحٌ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِطْبَة ف 24 - 29) .

ز - ذِكْرُ الصَّدَاقِ وَحُلُولُهُ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَسْمِيَةُ الصَّدَاقِ وَالإِْشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ وَدَفْعِ تَوَهُّمِ الاِخْتِلاَفِ فِي الْمُسْتَقْبَل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمَحَل نَدَبِهِ إِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ: أَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ، لاَ وَهَبْتُ فَيَجِبُ ذِكْرُهُ.
وَقَالُوا: يُنْدَبُ حُلُول كُلِّهِ بِلاَ تَأْجِيلٍ لِبَعْضِهِ، وَتَأْجِيلُهُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا خِلاَفُ الأَْوْلَى، حَيْثُ أُجِّل إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ (2)

ح - الاِسْتِدَانَةُ لِلنِّكَاحِ:
25 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الاِسْتِدَانَةُ لِلنِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، لأَِنَّ ضَمَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 262، والشرح الصغير 2 / 340، ومغني المحتاج 3 / 128، وكشاف القناع 5 / 10، والإنصاف 8 / 16.
(2) الشرح الصغير 2 / 340، وكشاف القناع 5 / 129، نهاية المحتاج 6 / 328.

(41/223)


فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَْدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ " (1) .

ط - الْخُطْبَةُ قَبْل الْخِطْبَةِ وَالْعَقْدِ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي النِّكَاحِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَفَصَّلُوا:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُنْدَبُ قَبْل إِجْرَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ، وَلاَ تَتَعَيَّنُ بِأَلْفَاظٌ مَخْصُوصَةٌ، بَل يُجْزِئُ الْحَمْدُ وَالتَّشَهُّدُ، وَإِنْ خَطَبَ بِمَا وَرَدَ فَهُوَ أَحْسَنُ، وَمِنْهُ مَا نُقِل مِنْ لَفْظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِخُطْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (2) ، وَهِيَ كَمَا قَال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " عَلَّمَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلاَةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِل لَهُ وَمَنْ يُضَلِّل فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 261 - 262. وحديث: " ثلاثة حق على الله عونهم. . . " أخرجه الترمذي (4 / 184 ط الحلبي) والنسائي (6 / 61 ط التجارية الكبرى) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ للترمذي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن
(2) حديث خطبة ابن مسعود: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 591 ط حمص) ، والترمذي (3 / 404 ط الحلبي) ، وقال الترمذي: حديث حسن

(41/223)


إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلاَثَ آيَاتٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1) } ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (2) } وَ {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (3) } .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَعْدَ خُطْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، يَخْطُبُهَا الْعَاقِدُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَاضِرِينَ قَبْل الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَقَال الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: وَإِنْ أَخَّرَ الْخُطْبَةَ عَنِ الْعَقْدِ جَازَ، وَقَال فِي الإِْنْصَافِ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَال - مَعَ النِّسْيَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَكَانَ أَحْمَدُ إِذَا حَضَرَ عَقْدَ نِكَاحٍ وَلَمْ يُخْطَبْ فِيهِ بِهَا قَامَ وَتَرَكَهُمْ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِحْبَابِهَا لاَ عَلَى الإِْيجَابِ، فَإِنَّ حَرْبَ بْنَ إِسْمَاعِيل قَال: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ خُطْبَةُ النِّكَاحِ مِثْل قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً لأَِنَّ رَجُلاً قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " زَوِّجْنِيهَا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " (4) ، وَلَمْ يَذْكُرْ
__________
(1) سورة آل عمران / 102.
(2) سورة النساء / 1
(3) سورة الأحزاب 70.
(4) حديث: " زوجناكها بما معك من القرآن ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 191 ط السلفية) من حديث سهل بن سعد

(41/224)


خُطْبَةً، وَرُوِيَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَال: " خَطَبْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ " (1) ، وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ خُطْبَةٌ كَالْبَيْعِ.
وَالاِقْتِصَارُ عَلَى خُطْبَةٍ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَشَهَّدَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا دُعِيَ لِيُزَوِّجَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ فُلاَنًا يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ فُلاَنَةً، فَإِنْ أَنْكَحْتُمُوهُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ رَدَدْتُمُوهُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ لأَِنَّ الْمَنْقُول عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ السَّلَفِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَوْلَى مَا اتُّبِعَ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُسْتَحَبُّ فِي النِّكَاحِ أَرْبَعُ خُطَبٍ:
__________
(1) حديث رجل من بني سليم: " خطبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 593 ط حمص) والبيهقي في السنن الكبرى (7 / 147 ط دائرة المعارف العثمانية) وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود (3 / 55 ط دار المعرفة) : إسناده مجهول
(2) كشاف القناع 5 / 20 - 22، والمغني 6 / 536، والدر المختار ورد المحتار 2 / 262.

(41/224)


الأُْولَى: خُطْبَةٌ قَبْل الْخِطْبَةِ مِنَ الْخَاطِبِ أَوْ نَائِبِهِ تَتَضَمَّنُ الْتِمَاسَ النِّكَاحِ.
الثَّانِيَةُ: خُطْبَةٌ مِنَ الْوَلِيِّ أَوْ نَائِبِهِ تَتَضَمَّنُ إِجَابَةَ الْخَاطِبِ أَوْ الاِعْتِذَارَ لَهُ.
وَفِيهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خِطْبَة ف 37) .
الثَّالِثَةُ: قَبْل عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الْوَلِيِّ بِالإِْيجَابِ.
الرَّابِعَةُ: قَبْل تَمَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الزَّوْجِ بِالْقَبُول.
وَقَالُوا: الْفَصْل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِخُطْبَةِ الزَّوَاجِ مُغْتَفَرٌ، لأَِنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْقَبُول مَعَ قِصَرِهِ، فَلَيْسَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ (1) .

ي - إِعْلاَنُ النِّكَاحِ:
27 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِعْلاَنُ النِّكَاحِ، أَيْ إِظْهَارُ عَقْدِهِ، حَتَّى يُشْهَرَ وَيُعْرَفَ وَيَبْعُدَ عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْلِنُوا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 175 - ط دار الباز - مكة المكرمة، والشرح الصغير 2 / 338، وأسنى المطالب 3 / 117، ونهاية المحتاج 6 / 202.
(2) الدر المختار ورد المحتار 2 / 261، 262، والشرح الصغير والصاوي 2 / 339، والمغني 6 / 537، وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 5 / 350 - 351.

(41/225)


النِّكَاحَ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ " (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِعْلاَن ف 7) .

ك - الْوَلِيمَةُ لِلنِّكَاحِ:
28 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَلِيمَةَ - وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ - مُسْتَحَبٌّ لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا، أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِثُبُوتِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفِعْلاً، فَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ (3) ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ (4) .
__________
(1) حديث: أعلنوا النكاح ". أخرجه أحمد (4 / 5 ط الميمنية) ، والحاكم (2 / 183) من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدف ". سبق تخريجه فقرة (19) .
(3) حديث: " أولم على بعض نسائه بمدين من شعير ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 238 ط السلفية) من حديث صفية بنت شيبة
(4) حديث: " أنه أولم على صفية بتمر وسمن وأقط ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 481 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1044 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك

(41/225)


وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ تَزَوَّجَ: " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ " (1) .
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ أَوْ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ. (2) .
وَفِي تَفْصِيل حُكْمِ الْوَلِيمَةِ وَوَقْتِهَا، وَمَا يُجْزِئُ مِنْهَا، وَالإِْجَابَةُ إِلَيْهَا، وَمَا يَجُوزُ أَوْ لاَ يَجُوزُ فِيهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (وَلِيمَة) .

ل - الدُّعَاءُ لِلزَّوْجَيْنِ وَالتَّهْنِئَةُ:
29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ بِالْبَرَكَةِ وَالسَّعَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَيُنْدَبُ تَهْنِئَةُ الزَّوْجَيْنِ وَإِدْخَال السُّرُورِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوْ عَلَيْهِمَا.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَال لِلزَّوْجِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَال لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: بَارَكَ اللَّهُ لِكُل
__________
(1) حديث: " أولم ولو بشاة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 231 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1042 ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك
(2) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية 4 / 176، والشرح الصغير 2 / 499، 505، ومغني المحتاج 3 / 245، والمغني 7 / 1، والإنصاف 8 / 317.

(41/226)


وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي صَاحِبِهِ (1) لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَّأَ إِنْسَانًا إِذَا تَزَوَّجَ قَال: " بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ " (2) .
وَفِي لَفْظِ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ، وَوَقْتِ التَّهْنِئَةِ، وَمَنْ تُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَهْنِئَة ف 6 - 8) .

م - دُعَاءُ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ:
30 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ أَنْ يَسْأَل اللَّهَ تَعَالَى خَيْرَهَا، وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرِّهَا، قَال النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ - الزَّوْجُ - اللَّهَ تَعَالَى، وَيَأْخُذَ بِنَاصِيَةِ الزَّوْجَةِ أَوَّل مَنْ يَلْقَاهَا، وَيَقُول: بَارَكَ اللَّهُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَّا فِي صَاحِبِهِ (3) ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيَقُل:
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 339، وجوهر الإكليل 1 / 275، وأسنى المطالب 3 / 117، وكشاف القناع 5 / 22، والمغني 6 / 539.
(2) حديث: " بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير ". أخرجه أبو داود (2 / 599 ط حمص) ، والترمذي: (3 / 391 ط الحلبي) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح
(3) مواهب الجليل 3 / 408، ومطالب أولي النهى 5 / 28، والأذكار ص 251، 252، والمغني 6 / 539.

(41/226)


اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلَتْهَا عَلَيْهِ، وَأُعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلَتْهَا عَلَيْهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ " (1) .
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ النَّوَادِرِ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنِ ابْتَنَى بِزَوْجَتِهِ أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تُصَلِّيَ خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذَ بِنَاصِيَتِهَا وَيَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ (2) .
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ فَحَضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالُوا لَهُ: إِذَا أُدْخِل عَلَيْكَ أَهْلُكَ فَصَل رَكْعَتَيْنِ وَمُرْهَا فَلْتُصَل خَلْفَكَ، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَسَل اللَّهَ خَيْرًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا (3) .
. وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (عُرْس ف 5) .
__________
(1) حديث: " إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل: اللهم إني أسألك خيرها. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 617 ط حمص) ، والحاكم (2 / 185 - 186) ، واللفظ لأبي داود، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وجمع أبو داود بين الروايتين
(2) حديث: فيمن ابتنى بزوجته أن يأمرها أن تصلي خلفه ركعتين، ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 291 - 292 - ط القدسي) حديثا بمعناه دون ذكر الأخذ بالناصية، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وذكر أن فيه راويا لم يهتد إلى من ذكره، وراويا آخر اختلط
(3) أثر: عن ابن مسعود إذا أدخل عليك أهلك فصل ركعتين. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6 / 191)

(41/227)


مَا يُسْتَحَبُّ فِي الزَّوْجَةِ مِنْ أَوْصَافٍ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ النِّكَاحَ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا الأَْوْصَافُ التَّالِيَةُ، أَوْ بَعْضُهَا:

أ - أَنْ تَكُونَ ذَاتَ دِينٍ:
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِبُّ لِلرَّجُل أَنْ يَتَخَيَّرَ لِلنِّكَاحِ الْمَرْأَةَ ذَاتَ الدِّينِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ " (1) أَيِ اسْتَغْنَيْتَ إِنْ فَعَلْتَ، أَوِ افْتَقَرْتَ إِنْ لَمْ تَفْعَل.
وَفَسَّرَ الشَّافِعِيَّةُ ذَاتَ الدِّينِ بِالَّتِي تُوجَدُ فِيهَا صِفَةُ الْعَدَالَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالأَْعْمَال الصَّالِحَةِ وَالْعِفَّةِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، لاَ الْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَا فَقَطْ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُنْدَبُ أَنْ يَخْتَارَ الزَّوْجُ مَنْ فَوْقَهُ خُلُقًا وَأَدَبًا وَوَرَعًا (2) .
__________
(1) حديث: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 132 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1086 - ط عيسى الحلبي)
(2) الدر المختار ورد المحتار 2 / 262، ومواهب الجليل 3 / 404، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 118ط دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان ونهاية المحتاج 6 / 181، ومغني المحتاج 3 / 126 - 127، ومطالب أولي النهى 5 / 8.

(41/227)


ب - أَنْ تَكُونَ بِكْرًا:
32 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اخْتِيَارُ الْبِكْرِ لِلنِّكَاحِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِالأَْبْكَارِ، فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ " (1) أَيْ أَطْيَبُ كَلاَمًا وَأَكْثَرُ أَوْلاَدًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الثَّيِّبَ أَوْلَى لِمَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ أَرْجَحُ فِي نِكَاحِ الثَّيِّبِ فَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْبِكْرِ مُرَاعَاةً لِلْمَصْلَحَةِ، كَالْعَاجِزِ عَنْ الاِفْتِضَاضِ، وَمِنْ عِنْدِهِ عِيَالٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ تَقُومُ عَلَيْهِنَّ (2) ، كَمَا اسْتَصْوَبَهُ
__________
(1) حديث: " عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها. . . ". أخرجه ابن ماجة (1 / 598 - ط الحلبي) من حديث عويم بن ساعدة، وأعله البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 326 - 327 - ط دار الجنان) بضعف أحد رواته
(2) فتح الباري 9 / 121 - 122 ط السلفية، ورد المحتار 2 / 262، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 403 - 404، والشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 341، والجمل على شرح المنهج 4 / 118، ومغني المحتاج 3 / 127، ونهاية المحتاج 6 / 181، وكشاف القناع 5 / 9.

(41/228)


النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدَ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: " فَهَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ؟ فَقَال جَابِرٌ: يَا رَسُول اللَّهِ، تُوُفِّيَ وَالِدِي - أَوِ اسْتُشْهِدَ - وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ فَلاَ تُؤَدِّبَهُنَّ وَلاَ تَقُومَ عَلَيْهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُمَشِّطُهُنَّ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَبْتَ " (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " فَقَال جَابِرٌ: إِنَّ أَبِي قُتِل يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ كُنَّ لِي تِسْعَ أَخَوَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ، وَلَكِنِ امْرَأَةً تُمَشِّطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَبْتَ " (2) .

ج - أَنْ تَكُونَ حَسِيبَةً:
33 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ الرَّجُل لِنِكَاحِهِ الْمَرْأَةَ الْحَسِيبَةَ النَّسِيبَةَ، أَيْ طَيِّبَةَ الأَْصْل، وَذَاتُ الْحَسَبِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ أُصُولُهَا ذَوِي شَرَفٍ وَكَرَمٍ وَدِيَانَةٍ، لِنِسْبَتِهَا إِلَى
__________
(1) حديث: " فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك. . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 6 / 121 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1087 - 1088 ط عيسى الحلبي) والرواية الأخرى لمسلم
(2) رواية: " إن أبي قتل يوم أحد. . . ". أخرجهما البخاري (الفتح 7 / 357 - ط السلفية)

(41/228)


الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا تُنْكَحُ لَهُ الْمَرْأَةُ: " لِحَسَبِهَا " (1) وَلِيَكُونَ وَلَدُهَا نَجِيبًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَشْبَهَ أَهْلَهَا وَنَزَعَ إِلَيْهِمْ.
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: يُنْدَبُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ دُونَ زَوْجِهَا حَسَبًا لِتَنْقَادَ لَهُ وَلاَ تَحْتَقِرَهُ، وَإِلاَّ تَرَفَّعَتْ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِلاَّ لِيَغُضَّ بَصَرَهُ، أَوْ لِيُحْصِنَ فَرْجَهُ أَوْ يَصِل رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ " (2) .
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَسُنَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالدِّينِ وَالْقَنَاعَةِ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ دِينِهَا وَقَنَاعَتِهَا (3) .
__________
(1) حديث: " لحسبها ". تقدم تخريجه ف 31.
(2) حديث: " من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا. . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط (3 / 178 ط مكتبة المعارف - الرياض) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 254 ط القدسي) ، وقال: فيه عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب وهو ضعيف
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 262، ومغني المحتاج 3 / 127، ونهاية المحتاج 6 / 181، وكشاف القناع 5 / 9.

(41/229)


د - أَنْ تَكُونَ وَدُودًا وَلُودًا:
34 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تُخْتَارُ لِلنِّكَاحِ وَدُودًا وَلُودًا لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: " كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُْمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (1) ، وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْبِكْرِ وَلُودًا بِكَوْنِهَا مِنْ نِسَاءٍ يُعْرَفْنَ بِذَلِكَ (2) .

هـ - أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً:
35 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُخْتَارَ لِلنِّكَاحِ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ ذَاتُ الْجَمَال، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال " قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَال: الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلاَ تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ " (3) . وَلِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " خَيْرُ فَائِدَةٍ أَفَادَهَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهَا،
__________
(1) حديث: " تزوجوا الودود الولود. . . ". سبق تخريجه ف 7
(2) رد المحتار 2 / 262، ومواهب الجليل 3 / 404، ومغني المحتاج 1273، ومطالب أولي النهى 5 / 8.
(3) حديث: يا رسول الله أي النساء خير. . . ". أخرجه أحمد في المسند (2 / 251 ط الميمنية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (13 / 153 ط دار المعارف مصر) : إسناده صحيح

(41/229)


وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهَا ". (1) ، وَلأَِنَّ جَمَال الزَّوْجَةِ أَسْكَنُ لِنَفْسِ الزَّوْجِ وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ وَأَكْمَل لِمَوَدَّتِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهَا قَبْل النِّكَاحِ (2) .

و أَنْ تَكُونَ عَاقِلَةً حَسَنَةَ الْخُلُقِ:
36 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تُخْتَارُ لِلنِّكَاحِ وَافِرَةَ الْعَقْل، حَسَنَةَ الْخُلُقِ، لاَ حَمْقَاءَ وَلاَ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْعِشْرَةِ الْحَسَنَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْعِشْرَةُ مَعَ الْحَمْقَاءِ، وَلاَ يَطِيبُ مَعَهَا عَيْشٌ، وَرُبَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى وَلَدِهَا، وَقَدْ قِيل: اجْتَنِبُوا الْحَمْقَاءَ فَإِنَّ وَلَدَهَا ضَيَاعٌ وَصُحْبَتَهَا بَلاَءٌ (3) .
__________
(1) حديث: " خير فائدة أفادها المرء المسلم. . . ". أخرجه سعيد بن منصور في السنن من حديث يحيى بن جعدة مرسلا (3 / 124 ط المجلس العلمي) ، وأخرجه الطبراني في الأوسط (3 / 71 - 72 ط مكتبة المعارف - الرياض) من حديث أبي هريرة، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 272 ط القدسي) وقال: فيه جابر الجعفي وهو ضعيف وقد وثق وبقية رجاله ثقات.
(2) رد المحتار 2 / 262، ومغني المحتاج 3 / 127، ونهاية المحتاج 6 / 182، ومطالب أولي النهى. 5
(3) رد المحتار 2 / 262، ومغني المحتاج 3 / 127، ونهاية المحتاج 6 / 182، ومطالب أولي النهى 5 / 8.

(41/230)


ز - أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً:
37 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِيمَنْ تُخْتَارُ لِلنِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ وَلاَ تَكُونَ ذَاتَ قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ، وَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ مِنْ عَشِيرَتِهِ لأَِنَّ وَلَدَ الأَْجْنَبِيَّةِ يَكُونُ أَنْجَبَ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ الطَّلاَقَ فَيُفْضِي مَعَ الْقَرَابَةِ إِلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا (1) .

ح - أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْمَهْرِ وَالْمُؤْنَةِ:
38 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَرَّى الرَّجُل فِيمَنْ يَنْكِحُهَا أَنْ تَكُونَ أَيْسَرَ النِّسَاءِ خِطْبَةً وَمُؤْنَةً، وَأَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْمَهْرِ (2) ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا وَتَيْسِيرَ رَحِمِهَا، وَقَال عُرْوَةُ: وَأَنَا أَقُول مِنْ أَوَّل شُؤْمِهَا أَنْ يَكْثُرَ صَدَاقُهَا " (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 157، وكشاف القناع 5 / 9، والمغني 6 / 567.
(2) رد المحتار 2 / 262، ومغني المحتاج 3 / 127، والمغني 6 / 681، والإنصاف 8 / 228.
(3) حديث: " إن من يمن المرأة تيسير خطبتها. . . ". أخرجه أحمد (6 / 77 - ط الميمنية) والحاكم (2 / 181 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي

(41/230)


ط - أَنْ لاَ تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ:
39 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَرَّى الرَّجُل فِيمَنْ يَنْكِحُهَا أَنْ لاَ تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِهِ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَةٌ فَلاَ قَيْدَ (1) ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أَمَّ سَلَمَةَ وَمَعَهَا وَلَدُ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ (2) .

ي - أَنْ لاَ تَكُونَ مُطَلَّقَةً وَلاَ فِي حِلِّهَا خِلاَفٌ:
40 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ نِكَاحُهَا مُطَلَّقَةً، لَهَا إِلَى مُطَلِّقِهَا رَغْبَةٌ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ فِي حِلِّهَا لِمَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا خِلاَفٌ فِقْهِيٌّ كَأَنْ زَنَى أَوْ تَمَتَّعَ بِأُمِّهَا، أَوْ بِهَا، فَرْعَهُ أَوْ أَصْلَهُ، أَوْ شَكَّ بِنَحْوِ رَضَاعٍ (3) .

تَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْأَل عَنْهُ أَوَّلاً:
41 - نَصَّ شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَتِ الصِّفَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ فِيمَنْ تُخْتَارُ
__________
(1) رد المحتار 2 / 262، ونهاية المحتاج 6 / 182، وروضة الطالبين 7 / 19 - ط المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى 5 / 10.
(2) حديث: " تزوج أم سلمة ومعها ولد. . ". أخرجه النسائي (6 / 81 ط التجارية الكبرى) ، والحاكم في المستدرك (4 / 17 ط دائرة المعارف)
(3) نهاية المحتاج 6 / 182.

(41/231)


لِلنِّكَاحِ فَالأَْوْجَهُ تَقْدِيمُ ذَاتِ الدِّينِ مُطْلَقًا، ثُمَّ الْعَقْل وَحُسْنِ الْخُلُقِ، ثُمَّ النَّسَبِ، ثُمَّ الْبَكَارَةِ، ثُمَّ الْوِلاَدَةِ، ثُمَّ الْجَمَال، ثُمَّ مَا الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَظْهَرُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ.
وَقَال أَحْمَدُ: إِذَا خَطَبَ الرَّجُل امْرَأَةً سَأَل عَنْ جَمَالِهَا أَوَّلاً، فَإِنْ حُمِدَ سَأَل عَنْ دِينِهَا، فَإِنْ حُمِدَ تَزَوَّجَ، وَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ يَكُونُ رَدًّا لأَِجْل الدِّينِ، وَلاَ يَسْأَل عَنِ الدِّينِ أَوَّلاً، فَإِنْ حُمِدَ سَأَل عَنِ الْجَمَال، فَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ رَدَّهَا لِلْجَمَال لاَ لِلدِّينِ (1) .

مَا يُسْتَحَبُّ فِي الزَّوْجِ مِنْ أَوْصَافٍ:
42 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَوْصَافًا تُتَحَرَّى فِي الرَّجُل عِنْدَ إِنْكَاحِهِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَخْتَارُ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ الدَّيِّنَ الْحَسَنَ الْخُلُقِ، الْجَوَادَ الْمُوسِرَ، وَلاَ تَتَزَوَّجُ فَاسِقًا، وَلاَ يُزَوِّجُ الرَّجُل ابْنَتَهُ الشَّابَّةَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَلاَ رَجُلاً دَمِيمًا، وَيُزَوِّجُهَا الْكُفْءَ، فَإِنْ خَطَبَهَا لاَ يُؤَخِّرُهَا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يُزَوِّجَ الرَّجُل ابْنَتَهُ إِلاَّ مِنْ بِكْرٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ. وَيُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ وَلِوَلِيِّهَا أَنْ يَتَحَرَّى كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الزَّوْجِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَنُّ تَحَرِّيهَا فِي الْمَرْأَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 182، ومطالب أولي النهى 5 / 9.

(41/231)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ أَنْ يَنْظُرَ لَهَا شَابًّا وَسِيمًا حَسَنَ الصُّورَةِ، وَلاَ يُزَوِّجَهَا دَمِيمًا، وَقَالُوا: وَمِنَ التَّغْفِيل أَنْ يَتَزَوَّجَ الشَّيْخُ صَبِيَّةً أَيْ شَابَّةً (1) .

الْمَرْأَةُ الَّتِي يُكْرَهُ نِكَاحُهَا:
43 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَوْصَافٍ فِي الْمَرْأَةِ تَجْعَل نِكَاحَهَا مَكْرُوهًا، وَمِنْ ذَلِكَ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: كُرِهَ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ مَشْهُورَةٍ بِالزِّنَا وَلَوْ بِقَرَائِنِ الأَْحْوَال وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، أَيْ هَذَا إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، بَل وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، وَأَمَّا مَنْ يُتَكَلَّمُ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَشْهُورَةً بِذَلِكَ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي زَوَاجِهَا، قَال بَعْضُهُمْ: وَمَحَل الْكَرَاهَةِ تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي اشْتَهَرَتْ بِالزِّنَا إِذَا لَمْ تُحَدَّ، أَمَّا إِذَا حُدَّتْ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي زَوَاجِهَا.
وَقَالُوا: وَكُرِهَ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ صَرَّحَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ، وَنُدِبَ فِرَاقُ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُكْرَهُ بِنْتُ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ - أَيْ يُكْرَهُ نِكَاحُ كُلٍّ مِنْهُمَا - وَأُلْحِقَ بِهِمَا اللَّقِيطَةُ وَمَنْ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهَا، لِخَبَرِ: " تَخَيَّرُوا
__________
(1) رد المحتار 2 / 262، ونهاية المحتاج 6 / 182، ومغني المحتاج 3 / 127، ومطالب أولي النهى 5 / 11، وكشاف القناع 5 / 11.

(41/232)


لِنُطَفِكُمْ وَأَنْكِحُوا الأَْكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ " (1) ، وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا يُعَيَّرُ بِكُلٍّ مِنْهُنَّ لِدَنَاءَةِ أَصْلِهَا، وَرُبَّمَا اكْتَسَبَتْ مِنْ طِبَاعِ أَبِيهَا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَنْبَغِي تَزَوُّجُ بِنْتِ زِنًا وَلَقِيطَةٍ وَدَنِيئَةِ نَسَبٍ وَمَنْ لاَ يُعْرَفُ أَبُوهَا (2) .

حُكْمُ الزِّفَافِ:
44 - الزِّفَافُ: إِهْدَاءُ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا، أَيْ نَقْل الْعَرُوسِ مِنْ بَيْتِ أَبَوَيْهَا إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَزِمٌ لَهُ عُرْفًا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ - عَلَى أَنَّ الزِّفَافَ إِذَا لَمْ يَشْتَمِل عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلاَ يُكْرَهُ.
__________
(1) حديث: " تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء ". أخرجه ابن ماجة (1 / 633 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 146 - ط شركة الطباعة الفنية) : مداره على أناس ضعفاء، وأعاد ذكر الحديث في الفتح (9 / 125 - ط السلفية) وقال: وأخرجه أبو نعيم من حديث عمر أيضا وفي إسناده مقال، ويقوي أحد الإسنادين بالآخر
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 2 / 349، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 6 / 181، ومطالب أولي النهى 5 / 9.

(41/232)


قَال الْكَمَال: اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الزِّفَافِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إِذَا لَمْ يَشْتَمِل عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ " (1) ، وَعَنْهَا قَالَتْ: " زُفَّتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الأَْنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ " (2) ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَصْل مَا بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ " (3) ، وَقَال الْفُقَهَاءُ: الْمُرَادُ بِالدُّفِّ مَا لاَ جَلاَجِل لَهُ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ عَنِ الذَّخِيرَةِ: ضَرْبُ الدُّفِّ فِي الْعُرْسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْغِنَاءِ فِي الْعُرْسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِعَدَمِ كَرَاهَتِهِ كَضَرْبِ الدُّفِّ (4) .
__________
(1) حديث: " أعلنوا هذا النكاح. . . ". سبق تخريجه ف (20) .
(2) حديث: " يا عائشة ما كان معكم لهو. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 225 ط السلفية) .
(3) حديث: " فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت ". أخرجه الترمذي (3 / 389 ط الحلبي) ، والنسائي (6 / 127 ط التجارية الكبرى) من حديث محمد بن حاطب الجمحي، واللفظ للنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن
(4) الدر المختار ورد المحتار 2 / 262، وفتح القدير 3 / 102، وكشاف القناع 5 / 22.

(41/233)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاع ف 22، عُرْس ف 7، مَعَازِف ف 5 وَمَا بَعْدَهَا) .

أَرْكَانُ النِّكَاحِ:
45 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ النِّكَاحِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ هُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فَقَطْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ: وَلِيٌ، وَمَحَلٌّ (زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ) ، وَصِيغَةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ خَمْسَةٌ: صِيغَةٌ، وَزَوْجٌ، وَزَوْجَةٌ، وَشَاهِدَانِ، وَوَلِيٌّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ ثَلاَثَةٌ: زَوْجَانِ، وَالإِْيجَابُ، وَالْقَبُول.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي إِيضَاحِ هَذِهِ الأَْرْكَانِ (1) .

أَوَّلاً: الصِّيغَةُ فِي النِّكَاحِ:
46 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَذَلِكَ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَدُل عَلَى ذَلِكَ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ.
أَمَّا الإِْيجَابُ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 229، والشرح الصغير 2 / 334 - 335، ومغني المحتاج 3 / 139، وكشاف القناع 5 / 37.

(41/233)


وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنْ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ، وَالْقَبُول هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِهِ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ يَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَبُول عَلَى الإِْيجَابِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مَا دَامَ قَدْ تَحَدَّدَ الْمُوجِبُ وَالْقَابِل، فَلَوْ قَال الزَّوْجُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي أَوْ تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ كَانَ قَبُولاً، وَلَوْ قَال الْوَلِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنَكَحْتُكَ كَانَ إِيجَابًا، وَانْعَقَدَ النِّكَاحُ بِذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُنْدَبُ تَقَدَّمُ الإِْيجَابِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الإِْيجَابُ عَلَى الْقَبُول وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَبُول عَلَيْهِ، قَالُوا: لأَِنَّ الْقَبُول إِنَّمَا يَكُونُ لِلإِْيجَابِ، فَمَتَى وُجِدَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ قَبُولاً لِعَدَمِ مَعْنَاهُ فَلَمْ يَصِحَّ، فَلَوْ قَال الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُ ابْنَتَكَ، وَقَال الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا، لَمْ يَصِحَّ رِوَايَةً وَاحِدَةً (2) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالإِْيجَابُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَصْدُرُ أَوَّلاً، سَوَاءً أَكَانَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ كَلاَمَ الزَّوْجِ أَمْ كَانَ كَلاَمَ الزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، وَالْقَبُول هُوَ مَا يَصْدُرُ مُؤَخَّرًا، سَوَاءً أَكَانَ صُدُورُهُ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ كَانَ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 221، ومغني المحتاج 3 / 140، وفتح القدير 3 / 102.
(2) المغني 6 / 534، وكشاف القناع 5 / 37.

(41/234)


وَعَلَى هَذَا لَوْ قَال الزَّوْجُ: زَوِّجْنِي أَوْ تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ كَانَ إِيجَابًا، فَلَوْ قَال الْوَلِيُّ أَوِ الزَّوْجَةُ: قَبِلْتُ كَانَ قَبُولاً، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ (1) .

الأَْلْفَاظُ الَّتِي يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ:
47 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الإِْنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَهُمَا اللَّفْظَانِ الصَّرِيحَانِ فِي النِّكَاحِ (2) .
وَاقْتَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ قَالُوا: لأَِنَّ نَصَّ الْكِتَابِ وَرَدَ بِهِمَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ (3) } ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا (4) } ، وَلَمْ يُذْكَرْ سِوَاهُمَا فِي الْقِرَانِ الْكَرِيمِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا، لأَِنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالأَْذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظَيِ التَّزْوِيجِ وَالإِْنْكَاحِ.
__________
(1) فتح القدير 3 / 102 نشر دار إحياء التراث العربي.
(2) فتح القدير 3 / 105، والفتاوى الهندية 1 / 270، والدسوقي 2 / 221، ومغني المحتاج 3 / 140، والمغني 6 / 532، 533.
(3) سورة النساء / 22
(4) سورة الأحزاب / 37

(41/234)


وَبِهَذَا قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ أَجَازُوا عَقْدَ النِّكَاحِ بِمَا يَدُل عَلَيْهِ كِنَايَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَقَسَّمُوا الأَْلْفَاظَ مِنْ حَيْثُ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ مِنْهَا وَمَا لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ مِنْهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، إِلاَّ أَنَّ لِكُل مَذْهَبٍ اتِّجَاهَهُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الأَْقْسَامِ، وَذَلِكَ كَمَا يَلِي:
48 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ كَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَهُوَ الإِْنْكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ يَنْعَقِدُ بِأَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَقَسَّمُوا هَذِهِ الأَْلْفَاظَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

أ - الْقِسْمُ الأَْوَّل: لاَ خِلاَفَ فِي الاِنْعِقَادِ بِهِ فِي الْمَذْهَبِ، بَل الْخِلاَفُ مِنْ خَارِجِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ مَا سِوَى لَفْظَيِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، مِنْ لَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْجَعْل، نَحْوَ: جَعَلْتُ بِنْتِي لَكَ بِأَلْفٍ، لأَِنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهَا بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ، وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقُ الْمَجَازِ (2) .

ب - الْقِسْمُ الثَّانِي: وَفِيهِ خِلاَفٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَالصَّحِيحُ الاِنْعِقَادُ بِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ، نَحْوَ:
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 140، والمغني 6 / 532، 533.
(2) فتح القدير 3 / 105.

(41/235)


بِعْتُ نَفْسِي مِنْكَ أَوِ ابْنَتِي أَوِ اشْتَرَيْتُكِ بِكَذَا، قَالَتْ: نَعَمْ، يَنْعَقِدُ، وَالاِنْعِقَادُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ طَرِيقِ الْمَجَازِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الاِنْعِقَادِ بِلَفْظِ السَّلَمِ فَقِيل: لاَ يَنْعَقِدُ لأَِنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ لاَ يَصِحُّ، وَقِيل: يَنْعَقِدُ لأَِنَّهُ ثَبَتَ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ.
وَالْمَنْقُول عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُل لَفْظٍ تُمْلَكُ بِهِ الرِّقَابُ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ حَتَّى وَلَوِ اتَّصَل بِهِ الْقَبْضُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، لَكِنْ لَيْسَ كُل مَا يُفْسِدُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لِلَّفْظِ يُفْسِدُ مَجَازِيَّهُ لِعَدَمِ لُزُومِ اشْتِرَاكِ الْمُفْسِدِ فِيهِمَا.
وَفِي الاِنْعِقَادِ بِلَفْظِ الصَّرْفِ رِوَايَتَانِ قِيل: لاَ يَنْعَقِدُ لأَِنَّهُ وُضِعَ لإِِثْبَاتِ مِلْكِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي لاَ تَتَعَيَّنُ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَا يَتَعَيَّنُ.
وَقِيل: يَنْعَقِدُ، لأَِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مَلِكُ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، قَال صَاحِبُ الْفَتْحِ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمَا قَوْلاَنِ وَكَانَ مَنْشَؤُهُمَا الرِّوَايَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْقَرْضُ، فَقِيل: يَنْعَقِدُ بِهِ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِهِ، وَقِيل: لاَ يَنْعَقِدُ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الإِْعَارَةِ، قِيل: الأَْوَّل قِيَاسُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالثَّانِي قِيَاسُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا لَفْظُ الصُّلْحِ فَذَكَرَ صَاحِبُ الأَْجْنَاسِ

(41/235)


أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ، وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ جَائِزٌ (1) .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الاِنْعِقَادِ بِهِ، وَذَلِكَ لَفْظُ الإِْجَارَةِ فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحَ يُشْتَرَطُ فِيهِ نَفْيُهُ، فَتَضَادَّا فَلاَ يُسْتَعَارُ أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ.
وَقَال الْكَرْخِيُّ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ اسْتِدْلاَل الْكَرْخِيِّ فَقَال: لأَِنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ جُعِل فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ أَجْرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (2) } ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الإِْجَارَةِ.
قَال صَاحِبُ الْفَتْحِ: إِنَّمَا لاَ يَجُوزُ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ - فِي الصَّحِيحِ - إِذَا جُعِلَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَأْجَرَةً، أَمَّا إِذَا جُعِلَتِ الْمَرْأَةُ بَدَل إِجَارَةٍ أَوْ رَأْسَ مَال السَّلَمِ كَأَنْ يُقَال: اسْتَأْجَرْتُ دَارَكَ بِابْنَتِي هَذِهِ، أَوْ أَسْلَمْتُهَا إِلَيْكَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُخْتَلَفَ فِي جَوَازِهِ.
وَلاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ، لأَِنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
__________
(1) فتح القدير 3 / 107، 108.
(2) سورة النساء / 24

(41/236)


وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لأَِنَّهُ يَتَثَبَّتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَعَنِ الْكَرْخِيِّ: إِنْ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَال بِأَنْ قَال: أَوْصَيْتُ لَكَ بِبِنْتِي هَذِهِ الآْنَ يَنْعَقِدُ لِلْحَال، لأَِنَّهُ بِهِ صَارَ مَجَازًا عَنِ التَّمْلِيكِ، قَال صَاحِبُ الْفَتْحِ: وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُخْتَلَفَ فِي صِحَّتِهِ حِينَئِذٍ، وَالْحَاصِل أَنَّهُ إِذَا قُيِّدَتْ بِالْحَال يَصِحُّ.
وَإِنْ قَيَّدَ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ قَال: أَوْصَيْتُ لَكَ بِابْنَتِي بَعْدَ مَوْتِي لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا.
وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ لاَ بِالْحَال وَلاَ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، بِأَنْ قَال: أَوْصَيْتُ لَكَ بِهَا وَلَمْ يَزِدْ، فَقِيل لاَ يَكُونُ نِكَاحًا، وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ: يَنْعَقِدُ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَا لاَ خِلاَفَ فِي عَدَمِ الاِنْعِقَادِ بِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الإِْبَاحَةِ وَالإِْحْلاَل وَالإِْعَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالتَّمَتُّعِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ تَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، أَيْ أَنَّ كُل لَفْظٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ.
وَلاَ يَنْعَقِدُ أَيْضًا بِلَفْظِ الإِْقَالَةِ وَالْخُلْعِ لأَِنَّهُمَا لِفَسْخِ عَقْدٍ ثَابِتٍ (1) .
كَمَا لاَ يَنْعَقِدُ بِأَلْفَاظٍ مُصَحَّفَةٍ كَتَجَوَّزْتُ، بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الزَّايِ، وَذَلِكَ لِصُدُورِهِ لاَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ، بَل عَنْ تَحْرِيفٍ
__________
(1) فتح القدير 3 / 108.

(41/236)


وَتَصْحِيفٍ فَلَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً وَلاَ مَجَازًا لِعَدَمِ الْعَلاَقَةِ بَل غَلَطًا، فَلاَ اعْتِبَارَ بِهِ أَصْلاً.
لَكِنْ لَوِ اتَّفَقَ قَوْمٌ عَلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ الْغَلْطَةِ، وَصَدَرَتْ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ وَضْعًا جَدِيدًا، وَقَدْ أَفْتَى بِجَوَازِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ أَبُو السُّعُودِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَاصِل كَلاَمِ الدُّرِّ: أَنَّهُمْ إِنِ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَال التَّجْوِيزِ فِي النِّكَاحِ بِوَضْعٍ جَدِيدٍ قَصْدًا يَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، مِثْل الْحَقَائِقِ الْمُرْتَجَلَةِ، وَمِثْل الأَْلْفَاظِ الأَْعْجَمِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلنِّكَاحِ، فَيَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ لِوُجُودِ طَلَبِ الدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَإِرَادَتِهِ مِنَ اللَّفْظِ قَصْدًا (1) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ أَلْفَاظَ الْكِنَايَةِ فِي النِّكَاحِ كَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ أَوْ تَصْدِيقِ الْقَابِل لِلْمُوجِبِ وَفَهْمِ الشُّهُودِ الْمُرَادِ أَوْ إِعْلاَمِهِمْ بِهِ.
وَالأَْصْل أَنَّ كُل لَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ إِنْ ذَكَرَ الْمَهْرَ، وَإِلاَّ فَالنِّيَّةُ، وَمَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لَهُ لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهِ بِلَفْظٍ لاَ يَعْلَمَانِ أَنَّهُ نِكَاحٌ فَلَوْ لُقِّنَتِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 269، 270.

(41/237)


الْمَرْأَةُ زَوَّجْتُ نَفْسِي بِالْعَرَبِيَّةِ وَلاَ تَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَقَبِل الزَّوْجُ، وَالشُّهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ صَحَّ كَالطَّلاَقِ، وَقِيل: لاَ كَالْبَيْعِ. وَمِثْل هَذَا فِي جَانِبِ الرَّجُل (1) .
49 - وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الأَْلْفَاظَ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّكَاحِ - بِمَا فِي ذَلِكَ لَفْظَيِ الإِْنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ - إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

الأَْوَّل: مَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ سَمَّى صَدَاقًا أَوْ لاَ، وَهُوَ: أَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ. الثَّانِي: مَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ إِنْ سَمَّى صَدَاقًا وَإِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ لَفْظُ وَهَبْتُ، مِثْل: وَهَبْتُ لَكَ ابْنَتِي بِكَذَا، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ صَدَاقًا لَمْ يَنْعَقِدْ.

الثَّالِثُ: مَا فِيهِ التَّرَدُّدُ بَيْنَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهِ، وَهُوَ كُل لَفْظٍ يَقْتَضِي الْبَقَاءَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ مِثْل بِعْتُ، وَمَلَكْتُ وَأَحْلَلْتُ، وَأَعْطَيْتُ وَمَنَحْتُ، فَقِيل: يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ إِنَّ سَمَّى صَدَاقًا، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَصَّارِ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الإِْشْرَاقِ وَالْبَاجِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ.
وَقِيل: لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ مُطْلَقًا، أَيْ وَلَوْ سَمَّى صَدَاقًا، وَهُوَ قَوْل ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ.

الرَّابِعُ: مَا لاَ يَنْعَقِدُ بِهِ اتِّفَاقًا مُطْلَقًا، وَهُوَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 269، وتبيين الحقائق 2 / 98، والاختيار 3 / 83، وفتح القدير 2 / 349.

(41/237)


كُل لَفْظٍ لاَ يَقْتَضِي الْبَقَاءَ مُدَّةَ الْحَيَاةِ كَالْحَبْسِ وَالإِْجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ (1) .

دَلاَلَةُ الصِّيغَةِ عَلَى الزَّمَانِ وَأَثَرُهَا فِي الْعَقْدِ:
50 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِصِيغَةِ الْمَاضِي، كَقَوْل الْوَلِيِّ لِلزَّوْجِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي أَوْ أَنَكَحْتُكَ، فَيَقُول الزَّوْجُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ رَضِيْتُ، لأَِنَّ الْمَاضِيَ أَدَل عَلَى الثُّبُوتِ وَالتَّحْقِيقِ دُونَ الْمُسْتَقْبَل.
إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَكْفِي أَنْ يَقُول الزَّوْجُ: قَبِلْتُ فَقَطْ، أَوْ رَضِيتُ فَقَطْ، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ رَضِيتُ نِكَاحَهَا، فَإِذَا لَمْ يَقُل ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - يَكْفِي أَنْ يَقُول الزَّوْجُ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ (2) .
وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالإِْيجَابِ بِصِيغَةِ الأَْمْرِ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 221.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 262، 263، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 220، 221، ونهاية المحتاج 6 / 209، والمغني 6 / 532.

(41/238)


كَقَوْل الْوَلِيِّ لِلزَّوْجِ: تَزَوَّجِ ابْنَتِي فَيَقُول الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُهَا (1) .
أَمَّا لَوْ قَال الزَّوْجُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ فَقَال الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، سَوَاءٌ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ قَوْل الزَّوْجِ لِلْوَلِيِّ زَوِّجْنِي هُوَ تَوْكِيلٌ ضِمْنِيٌّ بِالنِّكَاحِ وَلَيْسَ إِيجَابًا، أَوْ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ إِيجَابٌ، وَرُجِّحَ هَذَا فِي الْبَحْرِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ فَلاَ يَنْعَقِدُ هَذَا النِّكَاحُ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الإِْيجَابُ عَلَى الْقَبُول فَإِذَا تَقَدَّمَ الْقَبُول فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، وَالإِْيجَابُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ مِنْ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ وَلَيْسَ مِنَ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا كَلاَمُ الزَّوْجِ يُعْتَبَرُ قَبُولاً (2) .
51 - أَمَّا لَوْ كَانَتِ الصِّيغَةُ بِالْمُضَارِعِ فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمُضَارِعُ الْمَبْدُوءُ بِهَمْزَةٍ كَقَوْل الزَّوْجَةِ: أَتَزَوَّجُكَ - بِفَتْحِ الْكَافِ - أَوْ أَتَزَوَّجُكِ - بِكَسْرِ الْكَافِ - وَالْمُضَارِعُ الْمَبْدُوءُ بِالنُّونِ كَقَوْل وَلِيِّ الزَّوْجِ: نُزَوِّجُكِ مِنَ ابْنِي وَالْمُضَارِعُ الْمَبْدُوءُ بِتَاءٍ كَقَوْل: تُزَوِّجِينِي
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 209.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 263، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 221، والشرح الصغير 2 / 350، ونهاية المحتاج 6 / 209، وكشاف القناع 5 / 40.

(41/238)


نَفْسَكِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ فِي الْمُضَارِعِ الْمَبْدُوءِ بِالتَّاءِ الاِسْتِقْبَال أَيْ طَلَبَ الْوَعْدِ (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ: الْمُضَارِعُ كَالْمَاضِي فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِهِ، ثُمَّ قَال: وَاعْتَرَضَهُ النَّاصِرُ اللَّقَّانِيُّ بِأَنَّ الْعُقُودَ إِنَّمَا تَحْصُل بِالْمَاضِي دُونَ الْمُضَارِعِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْمُضَارِعِ الْوَعْدُ وَفِي الْمَاضِي اللُّزُومُ (2) .
52 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِل، قَال الْحَنَفِيَّةَ: كَ ـ أَنَّا مُتَزَوِّجُكِ، أَوْ قَال: جِئْتُكِ خَاطِبًا، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: لَوْ قَال بِاسْمِ الْفَاعِل: جِئْتُكَ خَاطِبًا، فَقَال الأَْبُ: زَوَّجْتُكَ فَالنِّكَاحُ لاَزِمٌ وَلَيْسَ لِلْخَاطِبِ أَنْ لاَ يَقْبَل لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْمُسَاوَمَةِ فِيهِ.
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ: لَوْ أَتَى بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِل، كَ ـ أَنَا مُزَوِّجُكَ، فَالْقِيَاسُ الصِّحَّةُ، كَمَا لَوْ قَال أَنَا بَائِعُكَ دَارِي بِكَذَا (3)
53 - وَأَمَّا صِيغَةُ الاِسْتِفْهَامِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَرَّحَ بِالاِسْتِفْهَامِ اعْتُبِرَ فَهْمُ الْحَال، قَال فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 264.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 220، 221.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 264، 265، وحاشية الرملي بهامش أسنى المطالب 3 119.

(41/239)


شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ قَال: هَل أَعْطَيْتَنِيهَا؟ فَقَال: أَعْطَيْتُ. إِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ لِلْوَعْدِ فَوَعْدٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَقْدِ فَنِكَاحٌ، قَال الرَّحْمَتِيُّ: فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمَا لاَ لِنِيَّتِهِمَا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَعَ الْهَزْل، وَالْهَازِل لَمْ يَنْوِ النِّكَاحَ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الْوَلِيُّ: تَتَزَوَّجُ ابْنَتِي لاَ يُجْزِئُ لأَِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَال الزَّوْجُ: أَتُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ فَقَال الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ لَمْ يَنْعَقِدْ إِلاَّ أَنْ يَقُول الْخَاطِبُ بَعْدَهُ: تَزَوَّجْتُ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الإِْيجَابُ بِلَفْظِ الاِسْتِفْهَامِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ (2) .

انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ
54 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلِسَانِهِ لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَمَّا سِوَاهُ، فَسَقَطَ عَنْهُ كَالأَْخْرَسِ وَيَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ بِحَيْثُ يَشْتَمِل عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ.
__________
(1) الدر المختار 2 / 264، 265.
(2) أسنى المطالب 3 / 119، وروضة الطالبين 7 / 39، وكشاف القناع 5 / 40.

(41/239)


وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ يَقْدِرُ عَلَى لَفْظِ النِّكَاحِ بِالْعَرَبِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِهَا، لأَِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِهِ الْخَاصِّ فَانْعَقَدَ بِهِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِالْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرْجَمَة ف 13) .

مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ: يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَشْيَاءُ مِنْهَا:
أ - الإِْشَارَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ:
55 - إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا وَتَقُومُ مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ فِيمَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ الْعِبَارَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِيجَابُ الأَْخْرَسِ وَقَبُولُهُ النِّكَاحَ بِإِشَارَتِهِ إِذَا كَانَتِ الإِْشَارَةُ مَفْهُومَةً يَفْهَمُهَا الْعَاقِدُ مَعَهُ وَيَفْهَمُهَا الشُّهُودُ لأَِنَّ النِّكَاحَ مَعْنًى لاَ يُسْتَفَادُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَحَّ

(41/240)


بِإِشَارَتِهِ كَبَقِيَّةِ عُقُودِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ مِثْل شَرْطِ كَوْنِهِ عَاجِزًا عَنِ الْكِتَابَةِ أَوْ قَادِرًا عَلَيْهَا.
وَمِثْل شَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُلِدَ أَخْرَسَ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَة ف - 5) .

ب - الْكِتَابَةُ:
56 - الْكِتَابَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الأَْخْرَسِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
أَمَّا الأَْخْرَسُ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ لأَِنَّهَا أَوْلَى مِنَ الإِْشَارَةِ.
أَمَّا الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ غَائِبًا عَنْهُ، أَمَّا الْحَاضِرُ فَلاَ يَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْعَقِدُ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 39، ومغني المحتاج 3 / 284، والتاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب 4 / 58، وابن عابدين 2 / 272، 425، وفتح القدير 3 / 109 نشر دار إحياء التراث.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 265، والتاج والإكليل للمواق 4 / 58، والحطاب 4 / 229، والروضة 8 / 39 وما بعدها، 7 / 37، والإنصاف 8 / 50.

(41/240)


وَأَمَّا الْغَائِبُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالْخِطَابِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهَا يَخْطِبُهَا فَإِذَا بَلَغَهَا الْكِتَابُ أَحْضَرَتِ الشُّهُودَ وَقَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ أَوْ تَقُول: إِنَّ فُلاَنًا كَتَبَ إِلَيَّ يَخْطُبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْهُ، أَمَّا لَوْ لَمْ تَقُل بِحَضْرَتِهِمْ سِوَى زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلاَنٍ لاَ يَنْعَقِدُ لأََنَّ سَمَاعَ الشَّطْرَيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَبِإِسْمَاعِهِمِ الْكِتَابَ أَوِ التَّعْبِيرَ عَنْهُ مِنْهَا قَدْ سَمِعُوا الشَّطْرَيْنِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الأَْمْرِ كَقَوْلِهِ زَوِّجِي نَفْسَكِ مِنِّي فَلاَ يَشْتَرِطُ إِعْلاَمُهَا الشُّهُودَ بِمَا فِي الْكِتَابِ لأَِنَّهَا تَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ.
وَقِيل إِنَّهُ تَوْكِيلٌ ضِمْنِيٌّ فَيَثْبُتُ بِشُرُوطِ مَا تَضَمَّنُهُ وَهُوَ الإِْيجَابُ وَمِنْ شُرُوطِهِ سَمَاعُ الشُّهُودِ.
وَلَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِالْكِتَابِ إِلَى الشُّهُودِ مَخْتُومًا فَقَال: هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلاَنَةَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَعْلَمَ الشُّهُودُ مَا فِيهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، فَلَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ الْكِتَابَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَشَهِدُوا بِأَنَّهُ كِتَابُهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ لاَ تُقْبَل وَلاَ يُقْضَى بِالنِّكَاحِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ وَيُقْضَى بِهِ.

(41/241)


أَمَّا الْكِتَابُ فَصَحِيحٌ بِلاَ إِشْهَادٍ وَإِنَّمَا الإِْشْهَادُ لِتَمَكُّنِ الْمَرْأَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْكِتَابِ إِذَا جَحَدَ الزَّوْجُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَتَبَ بِالنِّكَاحِ إِلَى غَائِبٍ أَوْ حَاضِرٍ لَمْ يَصِحَّ، وَقِيل: يَصِحُّ فِي الْغَالِبِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لأَِنَّهُ كِنَايَةٌ وَلاَ يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَاتِ، وَلَوْ خَاطَبَ غَائِبًا بِلِسَانِهِ فَقَال: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، ثُمَّ كَتَبَ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَقَال: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِذَا صَحَّحْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَشَرْطُهُ الْقَبُول فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ وَأَنْ يَقَعَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيِ الإِْيجَابِ.
قَال النَّوَوِيُّ: لاَ يَكْفِي فِي الْمَجْلِسِ بَل يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ (2) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ صِحَّةُ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْكِتَابَةِ مَعَ غَيْبَةِ الْعَاقِدِ (3) .

ج - الرَّسُول:
57 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى صِحَّةِ إِرْسَال الرَّسُول فِي النِّكَاحِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: النِّكَاحُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ يَنْعَقِدُ بِهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لأَِنَّ كَلاَمَ الرَّسُول كَلاَمُ الْمُرْسِل، فَلَوْ أَرْسَل الرَّجُل إِلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 265.
(2) الروضة 7 / 37، 38.
(3) الإنصاف 8 50.

(41/241)


مَنْ يُرِيدُ زَوَاجَهَا رَسُولاً فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلاَمَ الرَّسُول جَازَ ذَلِكَ لاِتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لأَِنَّ الرَّسُول يَنْقُل عِبَارَةَ الْمُرْسِل فَكَانَ سَمَاعُ قَوْل الرَّسُول سَمَاعَ قَوْل الْمُرْسِل.
وَفِي الْمُسَالَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَال ف6) .

د - الْمُعَاطَاةُ:
58 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي احْتِرَامًا لِلْفُرُوجِ أَيْ لِخَطَرِ أَمْرِهَا وَشِدَّةِ حُرْمَتِهَا فَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ قَوْلَهُ: وَهَل يَكُونُ الْقَبُول بِالْفِعْل كَالْقَبُول بِاللَّفْظِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، قَال فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَجَابَ صَاحِبُ الْبِدَايَةِ فِي امْرَأَةٍ زَوَّجْتَ نَفْسَهَا بِأَلْفٍ مِنْ رَجُلٍ عِنْدَ الشُّهُودِ فَلَمْ يَقُل الزَّوْجُ شَيْئًا لَكِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ فِي الْمَجْلِسِ أَنَّهُ يَكُونُ قَبُولاً، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ وَقَال: لاَ، مَا لَمْ يَقُل بِلِسَانِهِ قَبِلْتُ بِخِلاَفِ الْبَيْعِ لأَِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي، وَالنِّكَاحُ لِخَطَرِهِ لاَ يَنْعَقِدُ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى الشُّهُودِ (1) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 265 - 271، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 3 / 111، وكشاف القناع 5 / 40، 41.

(41/242)


خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ:
أ - خِيَارُ الْمَجْلِسِ:
59 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، قَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا وَلاَ فِي مَعْنَاهُ، وَالْعِوَضُ لَيْسَ رُكْنًا فِيهِ، وَلاَ مَقْصُودًا مِنْهُ، وَقَالُوا لأَِنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ دَاعِيَةٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ فِي الْغَالِبِ إِلاَّ بَعْدَ تَرَوٍّ وَفِكْرٍ، وَمَسْأَلَةِ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِحَالِهِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي النِّكَاحِ إِذَا اشْتُرِطَ (1) .

ب - خِيَارُ الشَّرْطِ:
60 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ وَهِيَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتُرِطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ
__________
(1) فتح القدير 3 / 110، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 48، والشرح الصغير 2 / 351، وحاشية الدسوقي 2 / 221، وجواهر الإكليل 1 / 284، ومغني المحتاج 2 / 44، 47، وكشاف القناع 5 / 41، والمغني 6 / 536.

(41/242)


خِيَارُ شَرْطٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُل الْخِيَارُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لأَِحَدِهِمَا، أَوْ بِخِيَارِ الْغَيْرِ فَيُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْل الْبِنَاءِ وُجُوبًا، وَيَثْبُتُ بِالدُّخُول بِالْمُسَمَّى إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَبِصَدَاقِ الْمِثْل.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ (2) .

تَعْلِيقُ الصِّيغَةِ:
61 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ فِي غَيْرِ الْمَشِيئَةِ لأَِنَّهُ إِلْزَامٌ، فَلَوْ قَال الْوَلِيُّ: إِذَا جَاءَ فُلاَنٌ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فُلاَنَةَ فَقَبِل فَجَاءَ فُلاَنٌ فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ، وَمِثْلُهُ: إِنْ وَضَعَتْ زَوْجَتِي بِنْتًا فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ تَعْلِيقَ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يَصِحُّ (3) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 110، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 48، ومغني المحتاج 2 / 44، والإنصاف 8 / 166، والمغني 6 / 551.
(2) جواهر الإكليل 1 / 284، والإنصاف 8 / 166.
(3) فتح القدير 30 / 105، 110، ومغني المحتاج 3 / 141، 142، ونهاية المحتاج 6 / 211، وكشاف القناع 5 / 40، والإنصاف 8 / 164، والحطاب 3 / 422.

(41/243)


وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْلِيقِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ عَلَى أَمْرٍ حَالٍّ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَذَلِكَ كَمَنْ خُطِبَتْ إِلَيْهِ ابْنَتُهُ فَقَال زَوَّجْتُهَا، فَلَمْ يُصَدِّقِ الْخَاطِبُ فَقَال: إِنْ لَمْ أَكُنْ زَوَّجْتُهَا مِنْ فُلاَنٍ فَقَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْكَ فَقَبِل بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا حَيْثُ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ لِلْحَال، وَالتَّعْلِيقُ بِكَائِنٍ لِلْحَال تَحْقِيقٌ وَتَنْجِيزٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ الْحَاضِرَةِ وَالشُّرُوطِ الْمَاضِيَةِ مِثْل قَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ هَذَا الْمَوْلُودَ إِنْ كَانَ أُنْثَى وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهَا أُنْثَى فَإِنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ حَقِيقَةً إِذِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ لاَ يَقْبَلُهُ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الشُّرُوطِ الْحَاضِرَةِ أَيْضًا.
وَقَالُوا: لَوْ بُشِّرَ شَخْصٌ بِوَلَدٍ فَقَال لآِخَرَ: إِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَقَبِل فَالْمَذْهَبُ بُطْلاَنُ النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ كَذَلِكَ لِوُجُودِ صُورَةِ التَّعْلِيقِ وَفَسَادِ الصِّيغَةِ.
وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أُخْبِرَ شَخْصٌ بِحُدُوثِ
__________
(1) فتح القدير 3 / 105، 110.
(2) كشاف القناع 5 / 40.

(41/243)


بِنْتٍ لَهُ فَصَدَّقَ الْمُخْبَرُ ثُمَّ قَال لآِخَرَ: إِنْ صَدَقَ الْمُخْبِرُ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ بَل تَحْقِيقٌ وَتَكُونُ " إِنْ " بِمَعْنَى " إِذَا (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2) } .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ إِذَا أَبْطَل مَنْ لَهُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا قَال: تَزَوَّجْتُكِ إِنْ شِئْتِ أَوْ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ فَأَبْطَل صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ مَشِيئَتَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لأَِنَّ الْمَشِيئَةَ إِذَا بَطَلَتْ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ نِكَاحًا بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ، لَكِنْ ذَلِكَ إِذَا بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ، أَمَّا إِذَا بَدَأَ الزَّوْجُ فَقَال: تَزَوَّجْتُكِ إِنْ شِئْتِ فَقَبِلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ صَحَّ النِّكَاحُ وَلاَ يُحْتَاجُ إِلَى إِبْطَال الْمَشِيئَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لأَِنَّ الْقَبُول مَشِيئَةٌ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ وَأَنَّ كُل شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى صَحَّ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال زَوَّجْتُكَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَبِلْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَال الْوَلِيُّ:
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 141، 142.
(2) سورة آل عمران / 175.
(3) فتح القدير 3 / 110.
(4) مغني المحتاج 3 / 141.

(41/244)


زَوْجْتُكَ ابْنَتِي إِنْ شِئْتَ فَقَال: قَدْ شِئْتُ وَقَبِلْتُ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ (1) .

إِضَافَةُ الصِّيغَةِ:
62 - لاَ يَصِحُّ إِضَافَةُ صِيغَةِ النِّكَاحِ إِلَى الْمُسْتَقْبَل كَأَنْ يَقُول الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ: تَزَوَّجْتُكِ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ أَوْ سَنَةَ كَذَا أَوْ شَهْرَ كَذَا، أَوْ زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ (2) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (نِكَاحِ مَنْهِي عَنْهُ) .

تَأْقِيتُ النِّكَاحِ:
63 - لاَ يَجُوزُ تَأْقِيتُ النِّكَاحِ بِمُدَّةٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح مَنْهِي عَنْهُ) .

تَوَلِّي شَخْصٍ طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ:
64 - تَوَلِّي صِيغَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَنِ الطَّرَفَيْنِ - الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ - يَأْتِي عَلَى صُورَتَيْنِ: الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَصِيلاً مِنْ جَانِبِ نَفْسِهِ فِي الْعَقْدِ وَوَلِيًّا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ وَلِيًّا عَلَى بِنْتِ عَمِّهِ وَأَرَادَ تَزْوِيجَهَا مِنْ نَفْسِهِ فَهَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ؟
__________
(1) كشاف القناع 5 / 40.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 295، وحاشية الدسوقي 2 / 238، ومغني المحتاج 3 / 142، وكشاف القناع 5 / 97، 98.

(41/244)


اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ (1) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - غَيْرَ زُفَرَ - وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَرَبِيعَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَاسْتَدَل الْكَاسَانِيُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (2) } .
قِيل: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي يَتِيمَةٍ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ، وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِتَابِ فَيَدُل عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعِتَابِ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لاَ يَتَحَقَّقُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ (3) }
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 231، 232، وحاشية الدسوقي 2 / 233، والحطاب 3 / 439، ومغني المحتاج 3 / 163، والمغني 6 / 469، 470، وكشاف القناع 5 / 62.
(2) سورة النساء / 176
(3) سورة النور / 32

(41/245)


أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالإِْنْكَاحِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الإِْنْكَاحِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ، وَلأَِنَّ الْوَكِيل فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِعَاقِدٍ، بَل هُوَ سَفِيرٌ عَنِ الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ بِدَلِيل أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ لاَ تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيل، وَإِذَا كَانَ مُعَبِّرًا عَنْهُ وَلَهُ وِلاَيَةٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّل فَصَارَ كَلاَمُهُ كَكَلاَمِ شَخْصَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ إِيجَابُهُ كَلاَمًا لِلْمَرْأَةِ كَأَنَّهَا قَالَتْ: زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلاَنٍ وَقَبُولُهُ كَلاَمًا لِلزَّوْجِ كَأَنَّهُ قَال: قَبِلْتُ فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا، وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً (1) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمَّا وَرَدَ " أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَال لأُِمِّ حَكِيمِ بِنْتِ قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَال: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ (2) "، وَلأَِنَّهُ يَمْلِكُ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول فَجَازَ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ، وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ وُجِدَ فِيهِ الإِْيجَابُ مِنْ وَلِيٍّ ثَابِتِ الْوِلاَيَةِ وَالْقَبُول مِنْ زَوْجٍ هُوَ أَهْلٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 232.
(2) حديث: " أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم. . . ". أخرجه البخاري معلقا (فتح الباري 9 / 188 - ط السلفية) ووصله ابن سعد في الطبقات كما في التغليق لابن حجر (4 / 416 - ط المكتب الإسلامي) .

(41/245)


لِلْقَبُول فَصَحَّ كَمَا لَوْ وُجِدَا مِنْ رَجُلَيْنِ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الَّذِي يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْ مُوَلِّيَتِهِ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ يُزَوِّجُهُ إِيَّاهَا بِإِذْنِهَا، قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُوَكِّل مَنْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الدَّرَجَةِ فَإِنْ فُقِدَ فَالْقَاضِي.
وَفِي الْمُغْنِي: قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: لاَ يُزَوِّجْ نَفْسَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ رَجُلاً، لِحَدِيثِ " أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ خَطَبَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا فَأَمَرَ رَجُلاً فَزَوَّجَهُ (2) ، وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ مَلَكَهُ بِالإِْذْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ كَالْبَيْعِ (3) .

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَلِيُّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَذَلِكَ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِهِ كَأَنَّ يَتَوَلَّى جَدٌّ طَرَفَيْ عَقْدٍ فِي تَزْوِيجِ بِنْتِ ابْنِهِ بِابْنِ ابْنِهِ الآْخَرِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) المغني 6 / 469 - 471.
(2) حديث: " خطب المغيرة بن شعبة امرأة هو أولى الناس بها فأمر رجلا فزوجه ". أخرجه البخاري معلقا (فتح الباري 9 / 188 - ط السلفية) ، ووصله البيهقي في الخلافيات كما في التغليق لابن حجر (4 / 416) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 231، والحطاب 3 / 439، ومغني المحتاج 3 / 163، والمغني 6 / 470.

(41/246)


فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - غَيْرَ زُفَرَ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّ يَتَوَلَّى وَلِيُّ الزَّوْجَيْنِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَجْعَلُونَ هَذَا الْحَقَّ لِلْجَدِّ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ لِقُوَّةِ وِلاَيَتِهِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُوَكِّل رَجُلاً يُزَوِّجُهَا لاِبْنِ ابْنِهِ لأَِنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فَلاَ يَقُومَانِ إِلاَّ بِعَاقِدَيْنِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَوَلِّي ف 6) .

انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِالنِّيَابَةِ:
65 - الْمُرَادُ بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالنِّيَابَةِ هُوَ التَّوْكِيل فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إِذْ أَنَّ النِّيَابَةَ وَالْوِكَالَةَ مُتَسَاوِيَانِ وَقِيل: إِنَّ النِّيَابَةَ أَعَمُّ لاِنْفِرَادِهَا فِيمَا إِذَا وَلَّى الْحَاكِمُ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا فَهُوَ نَائِبٌ عَمَّنْ وَلاَّهُ وَلَيْسَ وَكِيلاً (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: النِّكَاحُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ يَنْعَقِدُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لأَِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيل كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّل.
وَحُكْمُ التَّوْكِيل فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِهِ مَا وَرَدَ عَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 231، ومغني المحتاج 3 / 163، والمغني 6 / 469 - 471.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 377.

(41/246)


" أُمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ ابْنِ جَحْشٍ فَهَلَكَ عَنْهَا، وَكَانَ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ عِنْدَهُمْ - " (1) ، فَإِنْ كَانَ فَعَل ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْدَهُ وَالإِْجَازَةُ اللاَّحِقَةُ كَالْوِكَالَةِ السَّابِقَةِ (2) .
كَذَلِكَ وَرَدَ عَنِ " النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَكَّل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ فِي قَبُول نِكَاحِ مَيْمُونَةَ " (3) ، " وَوَكَّل عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي قَبُول نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا " (4) ، وَلأَِنَّهُ عَقْدُ
__________
(1) حديث: " أم حبيبة أنها كانت عند ابن جحش. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 569 ط حمص) ، والنسائي (6 / 119 ط التجارية الكبرى) ، وسكت عنه المنذري في مختصر السنن (3 / 31 ط دار المعرفة) .
(2) البدائع 2 / 231.
(3) حديث: أنه صلى الله عليه وسلم وكل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 191) من حديث أبي رافع أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. وقال الترمذي: حديث حسن
(4) حديث: " وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة ". أخرجه البيهقي (7 / 139 ط دائرة المعارف) من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلا

(41/247)


مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ التَّوْكِيل فِيهِ كَالْبَيْعِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكَّل فِي إِنْكَاحِهَا هَل هُوَ الْمُجْبِرُ فَقَطْ أَوْ هُوَ كُل وَلِيٍّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْبِرًا.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ أَنْ تَتَوَلَّى الْمَرْأَةُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِالْوَكَالَةِ أَمْ لاَ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (ف 66 - 71) .

ثَانِيًا: الْوَلِيُّ:
66 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْوَلِيِّ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ النِّكَاحِ أَوْ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ أَوْ شَرْطًا فِي جَوَازِهِ وَنَفَاذِهِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْوَلِيُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بِدُونِ وَلِيٍّ بِشُرُوطِهِ، لأَِنَّهُ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ الَّتِي لاَ يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ إِلاَّ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ مِنْ لَهُ وِلاَيَةٌ وَلَوْ تَوَلَّى الْعَقْدَ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ.
وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَوَلِّي عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ أُنْثَى (2) .
فَلاَ تَصِحُّ عِبَارَةُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ إِيجَابًا وَقَبُولاً، فَلاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَلاَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلاَ غَيْرَهَا لاَ بِوِلاَيَةٍ وَلاَ بِوِكَالَةِ، وَلاَ تَقْبَل النِّكَاحَ لاَ بِوِلاَيَةٍ وَلاَ بِوِكَالَةِ.
__________
(1) المغني 6 / 462، وكشاف القناع 5 / 56.
(2) الشرح الصغير 2 / 335،، 369، وشرح الزرقاني 3 / 168، ومغني المحتاج 3 / 147، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 13.

(41/247)


وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ عُدِمَ الْوَلِيُّ وَالْحَاكِمُ فَوَلَّتْ مَعَ خَاطِبِهَا أَمْرَهَا رَجُلاً مُجْتَهِدًا لِيُزَوِّجَهَا مِنْهُ صَحَّ لأَِنَّهُ مُحَكَّمٌ، وَالْمُحَكَّمُ كَالْحَاكِمِ، وَكَذَا لَوْ وَلَّتْ مَعَهُ عَدْلاً صَحَّ عَلَى الْمُخْتَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ قَال فِي الْمُهِمَّاتِ: وَلاَ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِفَقْدِ الْحَاكِمِ بَل يَجُوزُ مَعَ وُجُودِهِ سَفَرًا وَحَضَرًا بِنَاءً عَلَى الصَّحِيحِ فِي جَوَازِ التَّحْكِيمِ، قَال الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: وَمُرَادُ الْمُهِمَّاتِ مَا إِذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ، وَأَمَّا الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَكْفِي الْعَدَالَةُ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ فَشَرْطُهُ السَّفَرُ وَفَقْدُ الْقَاضِي (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْوِلاَيَةُ شَرْطٌ فِي الرُّكْنِ وَهِيَ مِنْ شُرُوطِ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ إِنْكَاحُ مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ، وَالْوَلِيُّ: الْعَاقِل الْبَالِغُ الْوَارِثُ، فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ فُقَهَائِهِمْ، وَقَال الرَّمْلِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: التَّعْرِيفُ خَاصٌّ بِالْوَلِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ، إِذِ الْحَاكِمُ وَلِيٌ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ وَكَذَا سَيِّدُ الْعَبْدِ.
وَالْوِلاَيَةُ فِي النِّكَاحِ نَوْعَانِ:

الأَْوَّل: وِلاَيَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ، وَهُوَ الْوِلاَيَةُ عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا.

وَالثَّانِي: وِلاَيَةُ إِجْبَارٍ، وَهُوَ الْوِلاَيَةُ عَلَى
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة 2 / 13، ومغني المحتاج 3 / 147، وروضة الطالبين 7 / 50، 51.

(41/248)


الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَكَذَا الْكَبِيرَةُ الْمَعْتُوهَةُ وَالْمَرْقُوقَةُ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْوِلاَيَةِ عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ أَقْوَالٌ لَخَّصَهَا الْكَمَال فَقَال: وَحَاصِل مَا عِنْدَ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ سَبْعُ رِوَايَاتٍ:
رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ:
الأُْولَى: تَجُوزُ مُبَاشَرَةُ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ عَقْدَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحِ غَيْرِهَا مُطْلَقًا - أَيْ مِنْ كُفْءٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ - إِلاَّ أَنَّهُ خِلاَفُ الْمُسْتَحَبِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ (1) .
وَلأَِبِي حَنِيفَةَ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسَّنَةُ وَالاِسْتِدْلاَل:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا (2) } ، فَالآْيَةُ الشَّرِيفَةُ نَصٌّ عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهَا فَكَانَتْ حُجَّةً عَلَى الْمُخَالِفِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا (3) } أَضَافَ النِّكَاحَ فِي قَوْلِهِ {حَتَّى تَنْكِحَ} إِلَيْهَا فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ النِّكَاحِ مِنْهَا، وَأَضَافَهُ إِلَى الزَّوْجَيْنِ فِي قَوْلِهِ {أَنْ يَتَرَاجَعَا} ، أَيْ يَتَنَاكَحَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَلِيِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (4) }
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 232، 237، وفتح القدير 3 / 157، والدر المختار ورد المحتار 2 / 395.
(2) سورة الأحزاب / 50
(3) سورة البقرة / 230
(4) سورة البقرة 232

(41/248)


وَالاِسْتِدْلاَل مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إِلَيْهِنَّ فَيَدُل عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْوَلِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى الأَْوْلِيَاءَ عَنِ الْمَنْعِ عَنْ نِكَاحِهِنَّ أَنْفُسَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ إِذَا تَرَاضَى الزَّوْجَانِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ " (1) ، وَهَذَا قَطْعُ وِلاَيَةِ الْوَلِيِّ عَنْهَا، وَوَرَدَ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا " (2) ، وَالأَْيِّمُ اسْمٌ لاِمْرَأَةٍ لاَ زَوْجَ لَهَا. وَأَمَّا الاِسْتِدْلاَل فَهُوَ أَنَّهَا لَمَّا بَلَغَتْ عَنْ عَقْلٍ وَحُرِّيَّةٍ صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ فَلاَ تَبْقَى مُوَلَّيًا عَلَيْهَا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِل إِذَا بَلَغَ، وَالْجَامِعُ أَنَّ وِلاَيَةَ الإِْنْكَاحِ إِنَّمَا ثَبَتَتْ لِلأَْبِ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهَا شَرْعًا، لِكَوْنِ النِّكَاحِ تَصَرُّفًا نَافِعًا مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَحَاجَتُهَا إِلَيْهِ حَالاً وَمَآلاً، وَكَوْنِهَا عَاجِزَةً عَنْ إِحْرَازِ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا وَكَوْنِ الأَْبِ
__________
(1) حديث: " ليس للولي مع الثيب أمر ". أخرجه أبو داود (2 / 578، 579 ط حمص) ، والنسائي (6 / 85 ط التجارية الكبرى)
(2) حديث: " الأيم أحق بنفسها من وليها ". أخرجه مسلم (2 / 1037 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس رضي الله عنهم

(41/249)


قَادِرًا عَلَيْهِ، وَبِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ زَال الْعَجْزُ حَقِيقَةً وَقَدَرَتْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهَا حَقِيقَةً، فَتَزُول وِلاَيَةُ الْغَيْرِ عَنْهَا وَثَبَتَتِ الْوِلاَيَةُ لَهَا، لأَِنَّ النِّيَابَةَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ نَظَرًا فَتَزُول بِزَوَال الضَّرُورَةِ، وَإِذَا صَارَتْ وَلِيَّ نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ لاَ تَبْقَى مُوَلَّيًا عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الاِسْتِحَالَةِ (1) وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّهُ إِنْ عَقَدَتْ مَعَ كُفْءٍ جَازَ وَمَعَ غَيْرِهِ لاَ يَصِحُّ، وَاخْتِيرَتْ لِلْفَتْوَى، لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ كَمٌّ وَاقِعٌ لاَ يُرْفَعُ، وَلَيْسَ كُل وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ وَالْخُصُومَةَ، وَلاَ كُل قَاضٍ يَعْدِل، وَلَوْ أَحْسَنَ الْوَلِيُّ وَعَدَل الْقَاضِي فَقَدْ يُتْرَكُ أَنَفَةً لِلتَّرَدُّدِ عَلَى أَبْوَابِ الْحُكَّامِ، وَاسْتِثْقَالاً لِنَفْسِ الْخُصُومَاتِ، فَيَتَقَرَّرُ الضَّرَرُ، فَكَانَ مَنْعُهُ دَفْعًا لَهُ، وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ عَدَمُ الصِّحَّةِ الْمُفْتَى بِهِ بِمَا إِذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءُ أَحْيَاءُ، لأَِنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى مَا وُجِّهَتْ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ دَفْعًا لِضَرَرِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَقَرَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا، أَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى حَقِّهَا فَقَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: لاَ يَجُوزُ مُطْلَقًا إِذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَوَازِ مِنَ الْكُفْءِ لاَ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا مِنَ الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ، قَال الْكَمَال:
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 248.

(41/249)


وَتَرْتِيبُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: انْعِقَادُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ، إِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِلاَّ بَطَل، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ كُفْءٍ وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ يُجَدِّدُ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَرِوَايَةُ رُجُوعِهِ إِلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْوَلِيُّ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَلاَ يَصِحُّ نِكَاحٌ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ وَنَصَّ عَلَيْهِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: لاَ يَخْتَلِفُ الأَْصْحَابُ فِي ذَلِكَ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَيْسَ الْوَلِيُّ بِشَرْطٍ مُطْلَقًا، وَخَصَّهَا ابْنُ قُدَامَةَ صَاحِبُ الْمُقْنِعِ وَجَمَاعَةٌ بِالْعُذْرِ لِعَدَمِ الْوَلِيِّ وَالسُّلْطَانِ.
وَعَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ لَوْ زَوَّجَتِ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا، أَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا كَبِنْتِهَا وَأُخْتِهَا، أَوْ وَكَّلَتْ غَيْرَ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا وَلَوْ بِإِذْنِ وَلِيِّهَا، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ " (2) ، وَهُوَ لِنَفْيِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِدَلِيل مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَل مِنْ
__________
(1) فتح القدير 3 / 157.
(2) حديث أبي موسى: " لا نكاح إلا بولي ". أخرجه أبو داود (2 / 568 ط حمص) ، والترمذي (3 / 398 ط الحلبي) وقال: حسن

(41/250)


فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ " (1) ، وَلاَ يُقَال يُمْكِنُ حَمْل النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ " عَلَى نَفْيِ الْكَمَال، لأَِنَّ كَلاَمَ الشَّارِعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، أَيْ لاَ نِكَاحَ مَوْجُودٌ فِي الشَّرْعِ إِلاَّ بِوَلِيٍّ.
وَقَالُوا: إِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَصِحُّ بِدُونِ وَلِيٍّ لِعَدَمِ وُجُودِ شَرْطِهِ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ عَلَى الْبُضْعِ لِنَقْصِ عَقْلِهَا وَسُرْعَةِ انْخِدَاعِهَا فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيضُهُ إِلَيْهَا كَالْمُبَذِّرِ فِي الْمَال، وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ تُوَكِّل فِيهِ وَلاَ أَنْ تَتَوَكَّل فِيهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ بِصِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ وَلِيٍّ حَاكِمٌ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ، أَوْ كَانَ مُتَوَلِّي الْعَقْدِ حَاكِمًا يَرَاهُ لَمْ يُنْقَضْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَْنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ إِذَا حَكَمَ بِهَا مَنْ يَرَاهَا لَمْ يُنْقَضْ لأَِنَّهُ يُسَوَّغُ فِيهَا الاِجْتِهَادُ فَلَمْ يَجُزْ نَقْضُ الْحُكْمِ بِهَا (2) .

شُرُوطُ الْوَلِيِّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ شُرُوطٌ، اتَّفَقُوا عَلَى بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حديث عائشة: " أيما امرأة نكحت بغير وليها فنكاحها. . ". أخرجه الترمذي (3 / 407ط الحلبي) ، وقال: هذا حديث حسن
(2) الإنصاف 8 / 66، وكشاف القناع 5 / 48، 49.

(41/250)


الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْعَقْل وَالْبُلُوغُ:
67 - أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ بَالِغًا عَاقِلاً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
فَلاَ تَثْبُتُ الْوِلاَيَةُ لِمَجْنُونٍ وَلاَ صَبِيٍّ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ، لأَِنَّ أَهْلِيَّةَ الْوِلاَيَةِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيل النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِكَمَال الْعَقْل وَالرَّأْيِ وَلَمْ يُوجَدْ، أَلاَ تَرَى أَنْ لاَ وِلاَيَةَ لأَِيٍّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ عَشْرًا زُوِّجَ وَتَزَوَّجَ، وَعَنْهُ: إِذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْجُنُونِ - كَمَا قَال الْكَمَال - الْمُطْبِقُ، وَهُوَ عَلَى مَا قِيل سَنَةٌ، وَقِيل أَكْثَرُ السَّنَةِ، وَقِيل شَهْرٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي التَّجْنِيسِ: وَأَبُو حَنِيفَةَ لاَ يُؤَقِّتُ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ شَيْئًا كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي التَّقْدِيرَاتِ فَيُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلاَيَةُ فِي حَالَةِ إِفَاقَتِهِ بِالإِْجْمَاعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُطْبِقًا تُسْلَبُ وِلاَيَتُهُ فَتُزَوَّجُ وَلاَ تُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ الْوِلاَيَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ فَلاَ تُزَوَّجُ وَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهُ كَالنَّائِمِ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ إِذَا فَاتَ بِانْتِظَارِ إِفَاقَتِهِ تُزَوَّجُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطْبِقًا، وَإِلاَّ انْتُظِرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 237، والشرح الصغير 2 / 369 - 371، ومغني المحتاج 3 / 254، والإنصاف 8 / 72، 73، وكشاف القناع 5 / 53، 54.
(2) فتح القدير 3 / 180، 181.

(41/251)


الشَّرْطُ الثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ:
68 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، لأَِنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى أَحَدٍ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلأَِنَّ الْوِلاَيَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَكُونُ مَالِكًا وَمَمْلُوكًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَلأَِنَّ هَذِهِ وِلاَيَةُ نَظَرٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَمَصَالِحُ النِّكَاحِ لاَ يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالتَّأَمُّل وَالتَّدَبُّرِ، وَالْمَمْلُوكُ بِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ مَوْلاَهُ لاَ يَتَفَرَّغُ لِلتَّأَمُّل وَالتَّدَبُّرِ فَلاَ يُعْرَفُ كَوْنُ إِنْكَاحِهِ مَصْلَحَةً.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَتَوَكَّل لِغَيْرِهِ فِي قَبُول النِّكَاحِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ قَطْعًا وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَلاَ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ فِي الإِْيجَابِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَنَقَل الْمَرْدَاوِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَنِ الرَّوْضَةِ فِي وِلاَيَةِ الْعَبْدِ عَلَى قَرَابَتِهِ رِوَايَتَيْنِ، قَال فِي الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ: الأَْظْهَرُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا (1) .

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الإِْسْلاَمُ:
69 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ الإِْسْلاَمِ فِي وِلاَيَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ وِلاَيَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، لأَِنَّهُ لاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) البدائع 2 / 237، والشرح الصغير 2 / 369، ومغني المحتاج 3 / 154، والإنصاف 8 / 72، ومطالب أولي النهى 5 / 64.

(41/251)


" لاَ يَتَوَارَثُ أَهْل مِلَّتَيْنِ شَيْئًا " (1) ، وَلأَِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، لأَِنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ وِلاَيَةَ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (2) } قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى " (3) ، وَلأَِنَّ إِثْبَاتَ الْوِلاَيَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ تُشْعِرُ بِإِذْلاَل الْمُسْلِمِ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَلِذَا صِينَتِ الْمُسْلِمَةُ عَنْ نِكَاحِ الْكَافِرِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَافِرًا فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَرِثُ الْكَافِرَ كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " (4) .
وَقَالُوا: لاَ وِلاَيَةَ لِلْمُرْتَدِّ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ
__________
(1) حديث: " لا يتوارث أهل ملتين. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 328 - 329 ط حمص) ممن حديث عبد الله بن عمرو، وصحح إسناده ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2 / 135 - ط دار الرشد) .
(2) سورة النساء / 141
(3) حديث: " الإسلام يعلو ولا يعلى ". أحرجه الدارقطني (3 / 252 ط دار المحاسن) من حديث عائذ بن عمرو المدني، وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري (3 / 220 - ط السلفية)
(4) حديث: " لا يرث المسلم الكافر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 50 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1233 ط عيسى الحلبي) من حديث أسامة بن زيد، والسياق للبخاري.

(41/252)


عَلَى مُسْلِمٍ وَلاَ عَلَى كَافِرٍ وَلاَ عَلَى مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ.
وَأَمَّا إِسْلاَمُ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، لِثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَلِي الْكَافِرُ عَلَى الْكَافِرِ لأَِنَّ الْكُفْرَ لاَ يَقْدَحُ فِي الشَّفَقَةِ الْبَاعِثَةِ فِي تَحْصِيل النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ فِي الْوِرَاثَةِ فَإِنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَا عَلَى غَيْرِهِ (1) ، قَال عَزَّ وَجَل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (2) } .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُمْنَعُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمَةِ وَعَكْسُهُ، فَلاَ يَكُونُ الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِكَافِرَةٍ إِلاَّ لأَِمَةٍ كَافِرَةٍ فَيُزَوِّجُهَا لِكَافِرٍ فَقَطْ، أَوْ مَعْتُوقَتِهِ الْكَافِرَةِ إِنْ أَعْتَقَهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ بِبِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فَيُزَوِّجُهَا وَلَوْ لِمُسْلِمٍ حَيْثُ كَانَتْ كِتَابِيَّةً (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُزَوِّجُ الْمُسْلِمَةَ قَرِيبُهَا الْكَافِرُ، وَلاَ يُزَوِّجُ الْكَافِرَةَ قَرِيبُهَا الْمُسْلِمُ، وَيَلِي - عَلَى الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ - الْكَافِرُ الأَْصْلِيُّ الْكَافِرَةَ الأَْصْلِيَّةَ، وَلَوْ كَانَتْ عَتِيقَةَ مُسْلِمٍ، وَاخْتَلَفَ اعْتِقَادُهُمَا فَيُزَوِّجُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيُّ الْيَهُودِيَّةَ كَالإِْرْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ، وَقَضِيَّةُ التَّشْبِيهِ بِالإِْرْثِ أَنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لِحَرْبِيٍّ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 237، 239، والشرح الصغير 2 / 370، ومطالب أولي النهى 5 / 64، 65، وكشاف القناع 5 / 53، وروضة الطالبين 7 / 66، ومغني المحتاج 3 / 156.
(2) سورة الأنفال / 73.
(3) الشرح الصغير 2 / 370.

(41/252)


عَلَى ذِمِّيَّةٍ، وَبِالْعَكْسِ، وَأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ كَالذِّمِّيِّ، وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ.
وَمُرْتَكِبُ الْمُحَرَّمِ الْمُفَسَّقُ فِي دِينِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْكَافِرَةِ كَالْفَاسِقِ عِنْدَنَا فَلاَ يُزَوِّجُ مُوَلِّيَتِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَرْتَكِبْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَيُزَوِّجُهَا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُ الْكَافِرَةِ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، لَكِنْ لاَ يُزَوِّجُ الْمُسْلِمَ قَاضِيهِمْ بِخِلاَفِ الزَّوْجِ الْكَافِرِ لأَِنَّ نِكَاحَ الْكُفَّارِ صَحِيحٌ وَإِنْ صَدَرَ مِنْ قَاضِيهِمْ.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلاَ يَلِي مُطْلَقًا لاَ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلاَ مُرْتَدَّةٍ وَلاَ غَيْرِهِمَا لاِنْقِطَاعِ الْمُوَالاَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلاَ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ بِمِلْكٍ، كَمَا لاَ يَتَزَوَّجُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُزَوِّجُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً وَلاَ عَكْسُهُ إِلاَّ أُمَّ وَلَدِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَتْ يُزَوِّجُهَا.
وَالْمُسْلِمُ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ الْكَافِرَةَ، وَالسُّلْطَانُ يُزَوِّجُ كَافِرَةً لاَ وَلِيَّ لَهَا.
وَيَلِي الذِّمِّيُّ نِكَاحَ مُوَلِّيَتِهِ الذِّمِّيِّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ، قَال الْمَرْدَاوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَ الأَْصْحَابِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اتِّحَادِ دِينِهِمْ أَوْ تَبَايُنِهِ، وَيَلِيهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا كَانَ وَلِيًّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُسْلِمِ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 66، ومغني المحتاج 3 / 156.
(2) الإنصاف 8 / 80، 81، وكشاف القناع 5 / 53، 54.

(41/253)


الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ:
70 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْوَلِيِّ إِلَى رَأْيَيْنِ:

الأَْوَّل: لاَ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْوَلِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ (1) } ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الأَْكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ " (2) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلأَِنَّ النَّاسَ عَنْ آخِرِهِمْ عَامَّهُمْ وَخَاصَّهُمْ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا يُزَوِّجُونَ بَنَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ، وَلأَِنَّ هَذِهِ وِلاَيَةُ نَظَرٍ، وَالْفِسْقُ لاَ يَقْدَحُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيل النَّظَرِ وَلاَ فِي الدَّاعِي إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّفَقَةُ، وَكَذَا لاَ يَقْدَحُ فِي الْوِرَاثَةِ فَلاَ يَقْدَحُ فِي الْوِلاَيَةِ كَالْعَدْل، وَلأَِنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ عَلَى غَيْرِهِ كَالْعَدْل وَلِهَذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ، وَلأَِنَّهُ مِنْ أَهْل أَحَدِ نَوْعَيِ الْوِلاَيَةِ وَهُوَ وِلاَيَةُ الْمِلْكِ حَتَّى يُزَوِّجَ أَمَتَهُ فَيَكُونُ مِنْ أَهْل النَّوْعِ الآْخَرِ (3) .
__________
(1) سورة النور / 32.
(2) حديث: " تخيروا لنطفكم، وأنكحوا. . . ". تقدم تخريجه ف 43.
(3) بدائع الصنائع 2 / 239، 240، وحاشية ابن عابدين 2 / 312، وفتح القدير 3 / 180، 181، والشرح الصغير 2 / 369 - 371، والإنصاف 8 / 73، 74، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 24 ومغني المحتاج 3 / 155.

(41/253)


الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لِفَاسِقٍ، غَيْرَ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ، مُجْبَرًا كَانَ أَوْ لاَ، أَعْلَنَ بِفِسْقِهِ أَوْ لاَ عَلَى الْمَذْهَبِ بَل تَنْتَقِل الْوِلاَيَةُ لِلأَْبْعَدِ لِحَدِيثِ: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيٍّ مُرْشِدٍ أَوْ سُلْطَانٍ " (1) أَمَّا الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ فَلاَ يَقْدَحُ فِسْقُهُ لأَِنَّهُ لاَ يَنْعَزِل بِهِ، وَقَدْ نَقَل الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَسْتُورَ يَلِي، وَأَثْبَتَ غَيْرُهُمَا فِيهِ خِلاَفًا، وَقَال الْبَغَوِيُّ: إِذَا تَابَ الْفَاسِقُ زُوِّجَ فِي الْحَال، وَوُجِّهَ بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ عَدَمُ الْفِسْقِ لاَ قَبُول الشَّهَادَةِ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، قَال الشِّرْبِينِي الْخَطِيبُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَال ابْنُ الْمُقْرِي: لاَ يُزَوَّجُ فِي الْحَال بَل لاَ بُدَّ مِنَ الاِسْتِبْرَاءِ قِيَاسًا عَلَى الشَّهَادَةِ (2) .

الْشَرْطُ الْخَامِسُ: الذُّكُورَةُ:
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَلِيِّ
__________
(1) حديث: " لا نكاح إلا بإذن ولي مرشد أو سلطان ". أخرجه الطبراني في الأوسط (1 / 318 ط مكتبة المعارف - الرياض) من حديث ابن عباس، وحسنه ابن حجر في فتح الباري (9 / 191 ط السلفية) .
(2) روضة الطالبين 7 / 62، 63، ومغني المحتاج 3 / 154، 155، والإنصاف 8 / 73، 74، ومطالب أولي النهى 5 / 65، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 24.

(41/254)


فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ذَكَرًا إِلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ الذُّكُورَةُ فَلاَ يَصِحُّ مِنْ أُنْثَى.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تُوَكَّل مَالِكَةٌ لأَِمَةٍ، وَوَصِيَّةٌ عَلَى أُنْثَى، وَمُعْتَقِةٌ لأَِمَةٍ لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا عَاصِبُ نَسَبِ مَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ عَنْهُنَّ مِنَ الذُّكُورَةِ الْمُسْتَوْفِيَةِ لِلشُّرُوطِ (1) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَقَالُوا: لاَ تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِإِذْنٍ مِنْ وَلِيِّهَا وَلاَ دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ، وَلاَ تُزَوِّجُ غَيْرَهَا بِوِلاَيَةٍ وَلاَ بِوَكَالَةٍ عَنِ الْوَلِيِّ، وَلاَ تَقْبَل نِكَاحًا لأَِحَدٍ، قَطْعًا لَهَا عَنْ هَذَا الْبَابِ، إِذًا لاَ يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ دُخُولُهَا فِيهِ، لِمَا قُصِدَ مِنْهَا مِنَ الْحَيَاءِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (2) } قَال الْقَلْيُوبِيُّ: مَعْنَى {قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} قِيَامُهُمْ بِمَصَالِحِهِنَّ وَمِنْهَا وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهِنَّ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ " (3) .
وَتَذْكِيرُ الْوَلِيِّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ذُكُورَتِهِ، وَإِرَادَةُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 369، وروضة الطالبين 7 / 67، ومغني المحتاج 3 / 147، والإنصاف 8 / 68.
(2) سورة النساء / 34.
(3) حديث: " لا نكاح إلا بولي. . . ". سبق تخريجه ف (66) .

(41/254)


التَّغْلِيبِ فِيهِ مَدْفُوعَةٌ بِحَدِيثِ: " لاَ تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلاَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا " (1) .
وَقَالُوا: لَوْ وَكَّل الْوَلِيُّ ابْنَتَهُ - مَثَلاً - فِي أَنْ تُوَكِّل رَجُلاً فِي مُبَاشَرَةِ عَقْدِ نِكَاحِهَا، لاَ عَنْهَا بَل عَنْهُ أَوْ أَطْلَقَ صَحَّ، لأَِنَّهَا سَفِيرَةٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْوَكِيل، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَكَّلَتْ عَنْهَا.
وَلَوِ ابْتَلَيْنَا إِمَامَةَ امْرَأَةٍ فَإِنَّ أَحْكَامَهَا تَنْفُذُ لِلضَّرُورَةِ، وَقِيَاسُهُ: تَصْحِيحُ تَزْوِيجِهَا.
وَلاَ يُعْتَبَرُ إِذْنُ الْمَرْأَةِ فِي نِكَاحِ غَيْرِهَا إِلاَّ فِي مِلْكِهَا أَوْ سَفِيهٍ أَوْ مَجْنُونٍ هِيَ وَصِيَّةٌ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا تَزْوِيجُ أَمَتِهَا وَمُعْتَقَتِهَا (3) .

الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ وَأَبُو يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّ عِبَارَةَ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتِ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلاَيَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَا إِذَا
__________
(1) حديث: " لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها ". أخرجه ابن ماجه (1 / 606 ط عيسى الحلبي) ، والدارقطني (3 / 227 ط دار المحاسن. القاهرة) من حديث أبي هريرة.
(2) روضة الطالبين 7 / 67، ومغني المحتاج 3 / 106، 147، والمحلي والقليوبي 3 / 221.
(3) الإنصاف 8 / 86.

(41/255)


وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ فَإِنْ مَاتَا قَبْلَهَا لاَ يَتَوَارَثَانِ وَلاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ وَلاَ ظِهَارُهُ وَوَطْؤُهُ حَرَامٌ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْوَلِيُّ مِنَ الإِْجَازَةِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ يُجَدِّدُ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَلِيُّ أُجِيزُهُ أَنَا وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قَاضِيًا فَصَارَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ قَبْل مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ أَدِلَّةِ كُل فَرِيقٍ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْوَلِيِّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ (ر: ف 66) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: الرُّشْدُ:
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَلِيِّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ رَشِيدًا إِلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الرُّشْدُ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ السَّفِيهَ (2) يُزَوِّجُ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 90.
(2) السفه عند الحنفية والمالكية والحنابلة في المذهب والمرجوح عند الشافعية: هو التبذير في المال والإسراف فيه، والراجح عند الشافعية أن السفه: هو التبذير في المال والفساد فيه وفي الدين معا - انظر مصطلح (سفه ف 1) .

(41/255)


مُجْبَرَتَهُ وَغَيْرَهَا بِإِذْنِهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ اسْتِحْبَابًا لاَ شَرْطًا، وَإِلاَّ بِأَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مَثَلاً بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ نَظَرَ الْوَلِيُّ نَدْبًا لِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا أَبْقَاهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ فَهُوَ مَاضٍ (1) .

الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ بِأَنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ أَوْ بَذَّرَ فِي مَالِهِ بَعْدَ رُشْدِهِ ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ لأَِنَّهُ لاَ يَلِي أَمْرَ نَفْسِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، قَال الرَّافِعِيُّ: فَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَزُول وِلاَيَتُهُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ النَّوَوِيِّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَجَزَمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزَوَال وِلاَيَتِهِ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الرُّشْدِ فِي النِّكَاحِ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِإِذْنِ وَلِيٍّ مُرْشِدٍ أَوْ سُلْطَانٍ " (3) ، وَالرُّشْدُ هُنَا هُوَ مَعْرِفَةُ الْكُفْءِ وَمَصَالِحِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ هُوَ حِفْظَ الْمَال، لأَِنَّ رُشْدَ كُل مَقَامٍ بِحَسَبِهِ، قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 171، والشرح الصغير 2 / 369 - 371، ومغني المحتاج 3 / 154، والإنصاف 8 / 75.
(2) مغني المحتاج 3 / 154.
(3) حديث: " لا نكاح إلا بإذن ولي ومرشد أو سلطان ". سبق تخريجه فقرة (70) .

(41/256)


وَقَالُوا: لاَ تَزُول بِالسَّفَهِ الَّذِي هُوَ التَّبْذِيرُ بِالْمَال (1) .

الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَلاَّ يَكُونَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ:
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ خُلُوِّ وَلِيِّ النِّكَاحِ مِنَ الإِْحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِلَى رَأْيَيْنِ: الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ خُلُوُّهُ مِنَ الإِْحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
فَالْمُحْرِمُ بِأَحَدِهِمَا لاَ يَصِحُّ مِنْهُ تَوَلِّي عَقْدِ النِّكَاحِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ عَقَدَ فُسِخَ أَبَدًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا الشَّرْطُ عَامٌّ فِي الْوَلِيِّ وَلَوْ حَاكِمًا أَوِ الزَّوْجِ، أَوِ الْوَكِيل عَنْ أَحَدِهِمَا أَوِ الزَّوْجَةِ، لِحَدِيثِ: لاَ يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ وَلاَ يَخْطُبُ (2) ، وَلَكِنْ إِحْرَامُ الْوَلِيِّ لاَ يَنْقُل الْوِلاَيَةَ لِلْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ فِي الأَْصَحِّ (3) .

الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَنْكِحَ وَيُنْكَحَ
__________
(1) الإنصاف 8 / 74، 75.
(2) حديث: " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ". أخرجه مسلم (2 / 1030 ط عيسى الحلبي) من حديث عثمان بن عفان
(3) الشرح الصغير 2 / 373، وكشاف القناع 2 / 441، وروضة الطالبين ومغني المحتاج 3 / 156.

(41/256)


وَيَخْطُبَ وَلَكِنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْخُل حَتَّى يَحِل.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهُوَ مُحْرِمٌ " (1) وَقَالُوا: إِذَا كَانَتْ حُرْمَةُ الصِّيَامِ لاَ تَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الإِْحْرَامِ لاَ تَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ أَيْضًا.
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ بَأْسًا بِتَزَوُّجِ الْمُحْرِمِ (2) .

الشَّرْطُ الثَّامِنُ: أَلاَّ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُكْرَهًا: 74 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ النِّكَاحِ غَيْرَ مُكْرَهٍ عَلَى عَقْدِهِ إِلَى رَأْيَيْنِ: الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَرَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ نِكَاحُ الْوَلِيِّ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَيُسْتَدَل لَهُمْ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) حديث: " تزوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميمونة وهو محرم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 7 / 509 ط السلفية)
(2) شرح معاني الآثار 2 / 268 - 273 - ط مطبعة الأنوار المحمدية.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 203، والمنثور للزركشي 1 / 188، والشرح الصغير 2 / 370 - 371.

(41/257)


وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " (1) .

الرَّأْيُ الثَّانِي: يَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ الْوَلِيِّ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ.
فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ مِمَّا لاَ يَحْتَمِل الْهَزْل، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ كُل مَا يَصِحُّ مَعَ الْهَزْل يَصِحُّ مَعَ الإِْكْرَاهِ، لأَِنَّ مَا يَصِحُّ مَعَ الْهَزْل لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ، وَكُل مَا لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الإِْكْرَاهُ (2) .

أَسْبَابُ الْوِلاَيَةِ فِي النِّكَاحِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَسْبَابًا لِوِلاَيَةِ النِّكَاحِ وَهِيَ:
أ - الْقَرَابَةُ:
75 - سَبَبُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ هُوَ أَصْل الْقَرَابَةِ وَذَاتُهَا لاَ كَمَال الْقَرَابَةِ وَإِنَّمَا الْكَمَال شَرْطُ التَّقَدُّمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ (3) } ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الأَْكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659 ط عيسى الحلبي) وقال ابن حجر في الفتح (5 / 161) : رجاله ثقات.
(2) رد المختار والدر المختار 5 / 87.
(3) سورة النور / 32.

(41/257)


إِلَيْهِمْ " (1) وَلأَِنَّ الْقَرَابَةَ يَحْصُل بِهَا الشَّفَقَةُ وَهِيَ دَاعِيَةٌ إِلَى تَحْصِيل النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ (2) .

ب - الْمِلْكُ:
76 - تَثْبُتُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ بِالْمِلْكِ، أَيْ مِلْكِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ، لأَِنَّ وِلاَيَةَ الإِْنْكَاحِ وِلاَيَةُ نَظَرٍ، وَالْمِلْكُ دَاعٍ إِلَى الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ، فَكَانَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ. وَالْمَمْلُوكُ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةٌ، لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ، إِذْ هُوَ مَمْلُوكٌ فِي نَفْسِهِ فَلاَ يَكُونُ مَالِكًا (3) .

ج - الْوَلاَءُ:
77 - تَثْبُتُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ بِوَلاَءِ الْعَتَاقَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لاَ تُبَاعُ
__________
(1) حديث: " تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء ". سبق تخريخه فقرة (43) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 237، 238، 252، وابن عابدين 2 / 296، وروضة الطالبين 7 / 53، 55، 58، والشرح الصغير 3 / 113 - 116، وكشاف القناع 5 / 48 - 51، وأسنى المطالب 3 / 226.
(3) بدائع الصنائع 2 / 237، 238، 252، والدر المختار ورد المحتار 2 / 296، وروضة الطالبين 7 / 53، 55، 58، والشرح الصغير 2 / 351 - 361، والإنصاف 7 / 70 - 71، ومطالب أولي النهى 5 / 55، والمبدع 7 / 30 - 31، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 15 - 18.

(41/258)


وَلاَ تُوهَبُ " (1) ثُمَّ النَّسَبُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ فَكَذَا الْوَلاَءُ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا (2) .

د - الإِْمَامَةُ:
78 - تَثْبُتُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ بِالإِْمَامَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ " (3) وَلأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (4) .

هـ - الْوِصَايَةُ:
79 - تَثْبُتُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِالْوِصَايَةِ (5) .
__________
(1) حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب لا تباع ولا توهب ". أخرجه الحاكم في المستدرك (4 / 341 ط دائرة المعارف) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1 / 292 - 293 ط دائرة المعارف) وصححه الحاكم
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 296، والشرح الصغير 2 / 351، روضة الطالبين 7 / 53. 55، 58، والإنصاف 7 / 70 - 71.
(3) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له " أخرجه أبو داود (3 / 568 ط حمص) ، والترمذي (3 / 399 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: حسن
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 296، والشرح الصغير 2 / 351، روضة الطالبين 7 / 53. 55، 58، والإنصاف 7 / 70 - 71.
(5) عقد الجواهر الثمينة 2 / 16، ومطالب أولي النهى 5 / 55.

(41/258)


أَنْوَاعُ الْوِلاَيَةِ فِي النِّكَاحِ:
80 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ فِي النِّكَاحِ بِحَسَبِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ نَوْعَانِ:
وِلاَيَةُ إِجْبَارٍ: وَهِيَ تَنْفِيذُ الْقَوْل بِالإِْنْكَاحِ عَلَى الْغَيْرِ، أَيْ أَنْ يُبَاشِرَ الْوَلِيُّ الْعَقْدَ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ شَاءَ أَوْ أَبَى.
وَوِلاَيَةُ اخْتِيَارٍ: أَوْ وِلاَيَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ، أَوْ وِلاَيَةُ شَرِكَةٍ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَسْمِيَتِهَا.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْوِلاَيَةِ تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ أَوْ إِجْبَارُهُ، وَمُقْتَضَاهَا أَنَّ نِكَاحَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَصِحُّ بَعْدَ أَخْذِ إِذْنِهِ أَوِ اخْتِيَارِهِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُل نَوْعٍ تَفْصِيلٌ:

النَّوْعُ الأَْوَّل - وِلاَيَةُ الإِْجْبَارِ:
81 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِثْبَاتِ وِلاَيَةِ الإِْجْبَارِ لِبَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
82 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وِلاَيَةُ الْحَتْمِ وَالإِْيجَابِ وَالاِسْتِبْدَادِ " الإِْجْبَارِ " تَكُونُ لِلْوَلِيِّ، وَهُوَ عِنْدَهُمُ الْعَصَبَةُ مُطْلَقًا، فَلَهُ إِنْكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 296، وفتح القدير 3 / 161، والشرح الصغير 2 / 351، 355، ومغني المحتاج 3 / 149، 150، 172، وكشاف القناع 5 / 42، 44، 45.

(41/259)


" النِّكَاحُ إِلَى الْعَصَبَاتِ " (1) ، وَالْبَالِغَاتُ خَرَجْنَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ. قَال: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا " (2) وَبِخُرُوجِ الْبَالِغَاتِ بَقِيَ الصِّغَارُ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ " (3) .
وَشَرْطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ عِنْدَهُمْ كَوْنُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً، أَوْ مَجْنُونًا كَبِيرًا أَوْ مَجْنُونَةً كَبِيرَةً، سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّغِيرَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَلاَ تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلاَيَةُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِل وَلاَ عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّ هَذِهِ الْوِلاَيَةَ تَدُورُ مَعَ الصِّغَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَفِي الْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَةِ تَدُورُ
__________
(1) حديث: " النكاح إلى العصبات ". قال ابن حجر في الدراية (2 / 62 ط الفجالة الجديدة) : لم أجده، وقال العيني في البناية (4 / 134 ط دار الفكر) : لا يثبت
(2) حديث عائشة: " قلت: يا رسول الله، يستأمر النساء في أبضاعهن. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 319 ط السلفية) .
(3) حديث عائشة: " أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها وهي بنت ست سنين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 190 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1038ط عيسى الحلبي) .

(41/259)


مَعَ الْجُنُونِ وُجُودًا وَعَدَمًا، سَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا، أَوْ عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقَال زُفَرُ: إِذَا طَرَأَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُوَلَّى التَّزْوِيجُ، وَعَلَى أَصْل الْحَنَفِيَّةِ يَنْبَنِي أَنَّ الأَْبَ وَالْجَدَّ لاَ يَمْلِكَانِ إِنْكَاحَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَهُمْ.
وَقَالُوا: إِنَّ إِثْبَاتَ وِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ عَلَى هَؤُلاَءِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ، وَذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ، وَالْكُفْءُ لاَ يَتَّفِقُ فِي كُل وَقْتٍ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِثْبَاتِ الْوِلاَيَةِ عَلَى الصِّغَارِ تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ، وَالْقَرَابَةُ مُوجِبَةٌ لِلْنَظَرِ وَالشَّفَقَةِ فَيَنْتَظِمُ الْجَمِيعُ، إِلاَّ أَنَّ شَفَقَةَ الأَْبِ وَالْجَدِّ أَكْثَرُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لِلصَّغِيرِ أَوِ الصَّغِيرَةِ أَبًا أَوْ جَدًّا، وَلِلْمَجْنُونِ أَوِ الْمَجْنُونَةِ ابْنَهُمَا، وَلِلرَّقِيقِ مَالِكَهُ لَزِمَ النِّكَاحُ، وَلاَ خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ كُفْءٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، لِوُفُورِ شَفَقَةِ الأَْوْلِيَاءِ، وَشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى نَفْعِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ بَاشَرُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَيَّرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا حِينَ بَلَغَتْ، لَكِنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الأَْوْلِيَاءِ عِنْدَئِذٍ أَنْ لاَ يُعْرَفَ مِنْ أَيٍّ مِنْهُمْ سُوءُ الاِخْتِيَارِ مَجَانَةً وَفِسْقًا وَإِلاَّ فَبَطَل النِّكَاحُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ إِنْكَاحُهُ مِنْ كُفْءٍ وَبِلاَ غَبْنٍ - إِنْ

(41/260)


شَاءَ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ خِيَارَ لَهُمْ كَمَا فِي إِنْكَاحِ الأَْبِ وَالْجَدِّ.
وَقَالُوا: يَمْلِكُ السَّيِّدُ إِجْبَارَ الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ عَلَى النِّكَاحِ صِيَانَةً لِمِلْكِهِ وَتَحْصِينًا لَهُ عَنِ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ هَلاَكِهِمْ أَوْ نُقْصَانِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُوَلَّى أَنْ يُزَوِّجَ الْمُكَاتَبَ وَالْمُكَاتَبَةَ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا، لِخُرُوجِهِمَا عَنْ يَدِهِ، وَلاَ يَجُوزُ نِكَاحُهُمَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلرِّقِّ الثَّابِتِ فِيهِمَا، وَيَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ لأَِنَّهُ مِنَ الاِكْتِسَابِ، وَلاَ يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ لأَِنَّهُ خُسْرَانٌ لاَ اكْتِسَابٌ، وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ جَازَ وَلاَ مَهْرَ، وَقِيل: يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ ثُمَّ يَسْقُطُ (1) .
83 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ أَحَدُ الثَّلاَثَةِ:
أ - الأَْبُ فَلَهُ الْجَبْرُ، وَلَوْ بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْل، وَلَوْ لأَِقَل حَالٍ مِنْهَا، أَوْ لِقَبِيحِ مَنْظَرٍ لِثَلاَثٍ مِنْ بَنَاتِهِ:

الأُْولَى: الْبِكْرُ وَلَوْ عَانِسًا طَالَتْ إِقَامَتُهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَعَرَفَتْ مَصَالِحَ نَفْسِهَا قَبْل الزَّوَاجِ.
__________
(1) الاختيار 3 / 92، 93، 94، 109، وفتح القدير 3 / 164 - 166، وبدائع الصنائع 2 / 241 - 244، والدر المختار ورد المحتار 2 / 298 - 299، 304 - 306.

(41/260)


وَجَبْرُ الْبِكْرِ وَلَوْ عَانِسًا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، خِلاَفًا لاِبْنِ وَهْبٍ حَيْثُ قَال: لِلأَْبِ جَبْرُ الْبِكْرِ مَا لَمْ تَكُنْ عَانِسًا، لأَِنَّهَا لَمَّا عَنَسَتْ صَارَتْ كَالثَّيِّبِ.
وَمَنْشَأُ الْخِلاَفِ هَل الْعِلَّةُ فِي الْجَبْرِ الْبَكَارَةُ أَوِ الْجَهْل بِمَصَالِحِ النِّسَاءِ، فاَلْمَشْهُورُ نَاظِرٌ لِلأَْوَّل، وَابْنُ وَهْبٍ نَاظِرٌ لِلثَّانِي.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ جَبْرِ الْبِكْرِ مَنْ رَشَّدَهَا الأَْبُ، أَيْ جَعَلَهَا رَشِيدَةً أَوْ أَطْلَقَ الْحَجْرَ عَنْهَا لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ، وَهَذَهِ الْبِكْرُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنَ الْجَبْرِ لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا فِي النِّكَاحِ بِالْقَوْل.
كَمَا اسْتَثْنَوْا مَنْ أَقَامَتْ سَنَةً فَأَكْثَرَ بِبَيْتِ زَوْجِهَا بَعْدَ أَنْ دَخَل بِهَا ثُمَّ تَأَيَّمَتْ وَهِيَ بِكْرٌ فَلاَ جَبْرَ عَلَيْهَا تَنْزِيلاً لإِِقَامَتِهَا بِبَيْتِ الزَّوْجِ سَنَةً مَنْزِلَةَ الثُّيُوبَةِ.

الثَّانِيَةُ: الثَّيِّبُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ وَتَأَيَّمَتْ بَعْدَ أَنْ أَزَال الزَّوْجُ بَكَارَتَهَا، فَلِلأَْبِ جَبْرُهَا لِصِغَرِهَا إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِثِيُوبَتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالثَّيِّبُ الَّتِي بَلَغَتْ وَزَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًا وَلَوْ تَكَرَّرَ مَتَى زَال الْحَيَاءُ عَنْ وَجْهِهَا أَوْ وَلَدَتْ مِنَ الزِّنَا فَلِلأَْبِ جَبْرُهَا، وَلاَ حَقَّ لِوِلاَدَتِهَا مِنَ الزِّنَا، وَالثَّيِّبُ الَّتِي زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِعَارِضٍ كَوَثْبَةٍ أَوْ ضَرْبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلِلأَْبِ جَبْرُهَا وَلَوْ عَانِسًا.
أَمَّا مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَلَوْ

(41/261)


مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ فَلَيْسَ لِلأَْبِ جَبْرُهَا إِنْ دُرِئَ الْحَدُّ لِشُبْهَةٍ، وَإِلاَّ فَلَهُ جَبْرُهَا.

الثَّالِثَةُ: الْمَجْنُونَةُ الْبَالِغَةُ الثَّيِّبُ لِلأَْبِ جَبْرُهَا لِعَدَمِ تَمْيِيزِهَا، وَلاَ كَلاَمَ لِوَلَدِهَا مَعَهُ إِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ رَشِيدٌ، إِلاَّ مَنْ تُفِيقُ أَحْيَانًا فَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهَا لِتُسْتَأْذَنَ وَلاَ تُجْبَرُ.
وَمَحَل جَبْرِ الأَْبِ فِي الثَّلاَثِ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ عَلَى تَزْوِيجِ أَيٍّ مِنْهُنَّ ضَرَرٌ عَادَةً، كَتَزْوِيجِهَا مِنْ خَصِيٍّ أَوْ ذِي عَاهَةٍ - كَجُنُونٍ وَنَحْوِهِ - مِمَّا يُرَدُّ بِهِ الزَّوْجُ شَرْعًا، وَإِلاَّ فَلاَ جَبْرَ.
ب - وَصِيُّ الأَْبِ عِنْدَ عَدَمِ الأَْبِ فَلَهُ الْجَبْرُ فِيمَا لِلأَْبِ جَبْرٌ فِيهِ، وَمَحَلُّهُ إِنْ عَيَّنَ لَهُ الأَْبُ الزَّوْجَ، وَبَذَل مَهْرَ الْمِثْل، وَلَمْ يَكُنْ فَاسِقًا، بِخِلاَفِ الأَْبِ فَلَهُ جَبْرُهَا مُطْلَقًا وَلَوْ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْل، وَلِلْوَصِيِّ الْجَبْرُ كَذَلِكَ إِنْ أَمَرَهُ الأَْبُ بِهِ وَلَوْ ضِمْنًا، أَوْ أَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الزَّوْجَ وَلاَ الإِْجْبَارَ، بِأَنْ قَال لَهُ: زَوِّجْهَا، أَوْ زَوِّجْهَا مِمَّنْ أَحْبَبْتَ أَوْ لِمَنْ تَرْضَاهُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَقَالُوا: الرَّاجِحُ الْجَبْرُ إِنْ ذَكَرَ الْبُضْعَ أَوِ النِّكَاحَ أَوِ التَّزْوِيجَ بِأَنْ قَال لَهُ الأَْبُ: أَنْتَ وَصِيِّي عَلَى بُضْعِ بَنَاتِي، أَوْ عَلَى نِكَاحِ بَنَاتِي، أَوْ عَلَى تَزْوِيجِهِنَّ، أَوْ وَصِيِّي عَلَى بِنْتِي تُزَوِّجُهَا، أَوْ تُزَوِّجُهَا مِمَّنْ أَحْبَبْتَ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنَ الثَّلاَثَةِ فَالرَّاجِحُ عَدَمُ الْجَبْرِ، كَمَا إِذَا قَال: وَصِيِّي عَلَى بَنَاتِي، أَوْ عَلَى بَعْضِ بَنَاتِي، أَوْ عَلَى بِنْتِي فُلاَنَةَ، وَأَمَّا لَوْ قَال: وَصِيِّي فَقَطْ فَلاَ جَبْرَ اتِّفَاقًا.

(41/261)


وَالْوَصِيُّ فِي الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ إِذَا أَمَرَهُ الأَْبُ بِتَزْوِيجِهَا كَأَبٍ، مَرْتَبَتُهُ بَعْدَ الاِبْنِ، وَلاَ جَبْرَ، فَإِنْ زَوَّجَهَا مَعَ وُجُودِ الاِبْنِ جَازَ عَلَى الاِبْنِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا الأَْخُ بِرِضَاهَا جَازَ عَلَى الْوَصِيِّ، لِصِحَّةِ عَقْدِ الأَْبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الأَْقْرَبِ، وَالْجَوَازُ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَإِلاَّ فَالاِبْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيِّ، وَهَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى الأَْخِ. هَذَا عَنِ الْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ لِلأُْنْثَى، أَمَّا الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ لِلذَّكَرِ فَقَالُوا: يُجْبِرُ أَبٌ وَوَصِيٌّ وَحَاكِمٌ لاَ غَيْرُهُمْ ذَكَرًا مَجْنُونًا مُطْبِقًا وَصَغِيرًا لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْ تَزْوِيجَهُمَا، بِأَنْ خِيفَ الزِّنَا أَوِ الضَّرَرُ عَلَى الْمَجْنُونِ فَتَحْفَظُهُ الزَّوْجَةُ، وَمَصْلَحَةُ الصَّبِيِّ تَزْوِيجُهُ مِنْ غَنِيَّةٍ أَوْ شَرِيفَةٍ أَوِ ابْنَةِ عَمٍّ أَوْ لِمَنْ تَحْفَظُ مَالَهُ، وَلاَ جَبْرَ لِلْحَاكِمِ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ الأَْبِ وَالْوَصِيِّ، إِلاَّ إِذَا بَلَغَ عَاقِلاً أَيْ رَشَدَ ثُمَّ جُنَّ فَالْكَلاَمُ لِلْحَاكِمِ.
ج - الْمَالِكُ لأَِمَةٍ أَوْ عَبْدٍ، لَهُ جَبْرُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ أُنْثَى فَلَهَا الْجَبْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ تُوَكِّل فِي الْعَقْدِ عَلَى الأَْمَةِ بِخِلاَفِ الْعَبْدِ فَلَهَا الْعَقْدُ بِنَفْسِهَا، وَيَمْتَنِعُ الْجَبْرُ إِنْ كَانَ يَلْحَقُ الْمَمْلُوكَ فِي النِّكَاحِ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، كَالتَّزْوِيجِ لِذِي عَاهَةٍ، فَلاَ جَبْرَ، وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ وَلَوْ طَال الأَْمَدُ.
وَلِلْمَالِكِ الْجَبْرُ وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَبْدًا مُدَبَّرًا أَوْ مُعْتَقًا لأَِجَلٍ، مَا لَمْ يَمْرَضْ مَاِلكُ الْمُدَبَّرِ، أَوْ يَقْرُبْ أَجَل الْعِتْقِ كَالثَّلاَثَةِ الأَْشْهُرِ

(41/262)


فَدُونَ، فَإِنْ مَرِضَ أَوْ قَرُبَ الأَْجَل فَلاَ جَبْرَ لِلْمَالِكِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهِ عَدَمُ الْجَبْرِ مُطْلَقًا لِلأُْنْثَى الْمُدَبَّرَةِ أَوِ الْمُعْتَقَةِ لأَِجَلٍ.
وَلاَ جَبْرَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمُبَعَّضِ وَالْمُكَاتَبِ، لأَِنَّ الْمُكَاتَبَ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، وَالْمُبَعَّضَ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْحُرِّيَّةُ.
وَكُرِهَ لِلسَّيِّدِ جَبْرُ أُمِّ وَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ جَبَرَهَا صَحَّ عَلَى الأَْصَحِّ، وَقِيل: لاَ جَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ جَبَرَهَا لَمْ يُمْضَ.
وَجَبْرُ الشُّرَكَاءِ مَمْلُوكَهُمْ - ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى - إِنِ اتَّفَقُوا عَلَى تَزْوِيجِهِ، لاَ إِنْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فَلَيْسَ لِلآْخَرِ جَبْرٌ.
وَقُدِّمَ الْمَالِكُ عَلَى سَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ الْمُجْبِرِينَ لِقُوَّةِ تَصَرُّفِهِ لأَِنَّهُ يُزَوِّجُ الأَْمَةَ مَعَ وُجُودِ أَبِيهَا وَلَهُ جَبْرُ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، لأَِنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصْلِحَ مَالَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ (1) .
84 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلأَْبِ وِلاَيَةُ الإِْجْبَارِ وَهِيَ تَزْوِيجُ ابْنِهِ الصَّغِيرِ الْعَاقِل وَابْنَتِهِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً بِغَيْرِ إِذْنِهَا،
__________
(1) الشرح الصغير مع الصاوي 2 / 351، 357، 366، 369، 396، والدسوقي 2 / 244 - 248.

(41/262)


لِخَبَرِ: " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا " (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ: " الْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا " (2) حُمِلَتْ عَلَى النَّدْبِ، وَلأَِنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَال بِالْوَطْءِ فَهِيَ شَدِيدَةُ الْحَيَاءِ.
وَلِتَزْوِيجِ الأَْبِ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا شُرُوطٌ:

الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا بِخِلاَفِ غَيْرِ الظَّاهِرِةِ لأَِنَّ الْوَلِيَّ يَحْتَاطُ لِمُوَلِّيَتِهِ لِخَوْفِ الْعَارِ وَغَيْرِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ كُفْءٍ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ.

الْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا بِالْمَهْرِ.

السَّادِسُ: أَنْ لاَ يُزَوِّجَهَا بِمَنْ تَتَضَرَّرُ بِمُعَاشَرَتِهِ كَأَعْمَى وَشَيْخٍ هَرِمٍ.

السَّابِعُ: أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا
__________
(1) حديث: " الثيب أحق بنفسها. . ". أخرجه مسلم (2 / 1037 ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس رضي الله عنهم ا
(2) حديث: " البكر يستأمرها أبوها ". أخرجه الدارقطني (3 / 240 ط دار المحاسن) من حديث ابن عباس، وأصله في مسلم 2 / 1037 ط الحلبي) بلفظ: " البكر تستأمر ".

(41/263)


الْحَجُّ، فَإِنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَمْنَعُهَا لِكَوْنِ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَهَا غَرَضٌ فِي تَعْجِيل بَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الإِْذْنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ لِجَوَازِ الإِْقْدَامِ فَقَطْ.
فَالْمُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ دُونَ إِذْنِهَا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ: أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلِيِّهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفْئًا، وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِحَال الصَّدَاقِ حَتَّى لاَ يَكُونَ قَدْ بَخَسَهَا حَقَّهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ مُعْتَبَرٌ لِجَوَازِ الإِْقْدَامِ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ دُونَ إِذْنِهَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُ الْبِكْرِ إِذَا كَانَتْ مُكَلَّفَةً لِحَدِيثِ: " الْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا ". وَتَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفَةِ فَلاَ إِذْنَ لَهَا، وَيُسَنُّ اسْتِفْهَامُ الْمُرَاهِقَةِ، وَأَنْ لاَ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ حَتَّى تَبْلُغَ.
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الاِسْتِئْذَانِ أَنْ يُرْسِل إِلَيْهَا نِسْوَةً ثِقَاتٍ يَنْظُرْنَ مَا فِي نَفْسِهَا، وَالأُْمُّ أَوْلَى بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تَطَّلِعُ عَلَى مَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا.
وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ كَالأَْبِ عِنْدَ عَدَمِهِ أَوْ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ فِيمَا ذُكِرَ لأَِنَّ لَهُ وِلاَيَةً وَعُصُوبَةً كَالأَْبِ، وَيَزِيدُ الْجَدُّ عَلَيْهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ تَوَلِّي طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِخِلاَفِ الأَْبِ.
وَوَكِيل الأَْبِ وَالْجَدِّ كَالأَْبِ وَالْجَدِّ، لَكِنْ وَكِيل الْجَدِّ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ.
وَلاَ أَثَرَ لِزَوَال الْبَكَارَةِ بِلاَ وَطْءٍ فِي الْقُبُل، كَسَقْطَةٍ، وَحِدَّةِ طَمْثٍ وَطُول تَعْنِيسٍ - وَهُوَ

(41/263)


الْكِبَرُ - أَوْ بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ فِي الأَْصَحِّ كَمَا فِي مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ - أَوِ الصَّحِيحِ كَمَا فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ - بَل حُكْمُهَا حُكْمُ الأَْبْكَارِ لأَِنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَال فَهِيَ عَلَى حَالِهَا وَحَيَائِهَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ لِزَوَال الْعُذْرَةِ، وَلَوْ خُلِقَتْ بِلاَ بَكَارَةٍ فَهِيَ بِكْرٌ.
وَيَلْزَمُ الْمُجْبِرَ - الأَْبَ أَوِ الْجَدَّ - تَزْوِيجُ مَجْنُونَةٍ أَطْبَقَ جُنُونُهَا بَالِغَةٍ مُحْتَاجَةٍ وَلَوْ ثَيِّبًا لاِكْتِسَابِهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، وَرُبَّمَا كَانَ جُنُونُهَا لِشِدَّةِ الشَّبَقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنُونَةِ أَبٌ أَوْ جَدٌّ لَمْ تُزَوَّجِ الْمَجْنُونَةُ الصَّغِيرَةُ حَتَّى تَبْلُغَ، وَحِينَئِذٍ يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ، بِمُرَاجَعَةِ أَقَارِبِهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَلأَِنَّهُمْ أَعْرَفُ بِمَصْلَحَتِهَا، وَالثَّانِي: يُزَوِّجُهَا الْقَرِيبُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ إِذْنِهَا.
وَتُزَوَّجُ بِوَاسِطَةِ السُّلْطَانِ لِلْحَاجَةِ - إِلَى النِّكَاحِ بِظُهُورِ عَلاَمَةِ شَهْوَتِهَا، أَوْ تَوَقُّعِ شِفَائِهَا بِقَوْل عَدْلَيْنِ مِنَ الأَْطِبَّاءِ، لأَِنَّ تَزَوُّجَهَا يَقَعُ إِجْبَارًا وَغَيْرُ الأَْبِ وَالْجَدِّ لاَ يَمْلِكُ الإِْجْبَارَ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِلْحَاجَةِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ، وَلاَ يُزَوِّجُهَا لِمَصْلَحَةٍ كَتَوَفُّرِ الْمُؤَنِ فِي الأَْصَحِّ، وَالثَّانِي: نَعَمْ كَالأَْبِ وَالْجَدِّ، قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَإِذَا أَفَاقَتِ الْمَجْنُونَةُ - هَذِهِ - بَعْدَ تَزْوِيجِهَا لاَ خِيَارَ لَهَا، لأَِنَّ تَزْوِيجَهَا كَالْحُكْمِ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا.
وَيُزَوِّجُ الأَْبُ وَالْجَدُّ الْمَجْنُونَةَ لأَِنَّهُ لاَ يُرْجَى لَهَا حَالَةٌ تُسْتَأْذَنُ فِيهَا، وَلَهُمَا وِلاَيَةُ

(41/264)


الإِْجْبَارِ، إِنْ ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ فِي تَزْوِيجِهَا، وَلاَ تُشْتَرَطُ الْحَاجَةُ قَطْعًا، لإِِفَادَتِهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، بِخِلاَفِ الْمَجْنُونِ، وَسَوَاءٌ فِي جَوَازِ التَّزْوِيجِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ، ثَيِّبٌ وَبِكْرٌ، جُنَّتْ قَبْل الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَيَلْزَمُ الْوَلِيَّ الْمُجْبِرَ - الأَْبَ أَوِ الْجَدَّ - تَزْوِيجُ مَجْنُونٍ بَالِغٍ أَطْبَقَ جُنُونُهُ وَظَهَرَتْ حَاجَتُهُ لِلنِّكَاحِ بِظُهُورِ رَغْبَتِهِ فِيهِ إِمَّا بِدَوَرَانِهِ حَوْل النِّسَاءِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِنَّ، أَوْ بِتَوَقُّعِ شِفَائِهِ بِالْوَطْءِ بِقَوْل عَدْلَيْنِ مِنَ الأَْطِبَّاءِ لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ - وَلَوْ ثَيِّبًا - الْبَالِغَيْنِ لَمْ يُزَوَّجَا حَتَّى يَفِيقَا وَيَأْذَنَا، وَيَكُونَ الْعَقْدُ حَال الإِْفَاقَةِ (1) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ - غَيْرِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُبَعَّضِ وَلَوْ صَغِيرًا وَخَالَفَهُ فِي الدِّينِ - عَلَى النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ رَفْعَهُ بِالطَّلاَقِ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ يَلْزَمُ ذِمَّةَ الْعَبْدِ مَالاً فَلاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَالْكِتَابَةِ.
وَالثَّانِي: لَهُ إِجْبَارُهُ كَالأَْمَةِ، وَقِيل: يُجْبَرُ الصَّغِيرُ.
وَلِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ أَمَتِهِ غَيْرِ الْمُبَعَّضَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 149، 150، 195، 168، 169، 172، 173، وروضة الطالبين 7 / 53، 54، 55، 94، 95.

(41/264)


عَلَى النِّكَاحِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَبِهَذَا فَارَقَتِ الْعَبْدَ، فَيُزَوِّجُهَا بِرَقِيقٍ وَدَنِيءِ النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهَا قُرَشِيًّا لأَِنَّهَا لاَ نَسَبَ لَهَا، وَلاَ يُزَوِّجُهَا بِمَعِيبٍ كَأَجْذَمَ وَأَبْرَصَ وَمَجْنُونٍ بِغَيْرِ رِضَاهَا - وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْهُ وَإِنْ كَرِهَتْ - وَلَوْ أَجْبَرَهَا السَّيِّدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ.
وَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ الْبَالِغُ أَوِ الأَْمَةُ مِنْ سَيِّدِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهُ لَمْ يُجْبَرِ السَّيِّدُ عَلَى ذَلِكَ، لأَِنَّهُ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ مَقَاصِدَ الْمِلْكِ وَفَوَائِدَهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَنْقِيصِ الْقِيمَةِ وَتَفْوُيتِ الاِسْتِمْتَاعِ بِالأَْمَةِ عَلَيْهِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ فِي الْعَبْدِ: يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى إِنْكَاحِ الْعَبْدِ أَوْ عَلَى بَيْعِهِ، لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُوقِعُهُ فِي الْفُجُورِ إِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَقِيل فِي الأَْمَةِ: إِنْ حُرِّمَتِ الأَْمَةُ عَلَى السَّيِّدِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَوْ كَانَتْ بَالِغَةً تَائِقَةً خَائِفَةَ الزِّنَا، لَزِمَ السَّيِّدَ تَزْوِيجُهَا، إِذْ لاَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ قَضَاءُ شَهْوَتِهَا، وَلاَ بُدَّ مِنْ إِعْفَافِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِعَارِضٍ كَأَنْ مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ طَلَبَتِ الأُْخْرَى تَزْوِيجَهَا فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِجَابَتُهَا قَطْعًا (1) . .
85 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي وِلاَيَةِ الإِْجْبَارِ: لِلأَْبِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 149، 150، 159، 168، 165، 172، 173، وروضة الطالبين 7 / 53، 54، 55، 94، 95.

(41/265)


خَاصَّةً تَزْوِيجُ بَنِيهِ الصِّغَارِ، وَكَذَا الْمَجَانِينَ وَلَوْ بَالِغِينَ دُونَ إِذْنِهِمْ، لأَِنَّهُ لاَ قَوْل لَهُمْ فَكَانَ لَهُ وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهِمْ كَأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ، وَحَيْثُ زَوَّجَ الأَْبُ ابْنَهُ لِصِغَرِهِ أَوْ جُنُونِهِ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهُ بِغَيْرِ أَمَةٍ لِئَلاَّ يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ، وَلاَ مَعِيبَةٍ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ النِّكَاحُ كَرَتْقَاءَ وَجَذْمَاءَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ، وَيُزَوِّجُ الأَْبُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ بِمَهْرِ الْمِثْل وَغَيْرِهِ وَلَوْ كُرْهًا، وَلَيْسَ لأَِيٍّ مِنْهُمَا خِيَارٌ إِذَا بَلَغَ وَعَقَل.
وَلِلأَْبِ تَزْوِيجُ بَنَاتِهِ الأَْبْكَارِ وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ دُونَ إِذْنِهِنَّ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا " (1) فَلَمَّا قَسَّمَ النِّسَاءَ قِسْمَيْنِ وَأَثْبَتَ الْحَقَّ لأَِحَدِهِمَا دَل عَلَى نَفْيِهِ عَنِ الْقِسْمِ الآْخَرِ وَهِيَ الْبِكْرُ، فَيَكُونُ وَلِيُّهَا أَحَقَّ مِنْهَا بِهَا، وَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الاِسْتِئْذَانَ هُنَا وَالاِسْتِئْمَارَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَلِلأَْبِ أَيْضًا تَزْوِيجُ ثَيِّبٍ لَهَا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، لأَِنَّهُ لاَ إِذْنَ لَهَا.
وَلَيْسَ لِلْجَدِّ تَزْوِيجُ هَؤُلاَءِ بِدُونِ إِذْنِهِمْ لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ، وَلأَِنَّهُ قَاصِرٌ عَنِ الأَْبِ فَلَمْ يَمْلِكِ الإِْجْبَارَ كَالْعَمِّ.
__________
(1) حديث: " الأيم أحق بنفسها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1037 ط الحلبي) من حديث ابن عباس

(41/265)


وَيُسَنُّ اسْتِئْذَانُ بِكْرٍ بَالِغَةٍ هِيَ وَأُمِّهَا، أَمَّا هِيَ فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا أُمُّهَا فَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: " آمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ " (1) ، وَيَكُونُ اسْتِئْذَانُ الْوَلِيِّ لَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنِسْوَةٍ ثِقَاتٍ يَنْظُرْنَ مَا فِي نَفْسِهَا لأَِنَّهَا قَدْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ، وَأُمُّهَا بِذَلِكَ أَوْلَى لأَِنَّهَا تَطَّلِعُ مِنْهَا عَلَى مَا تُخْفِيهِ عَلَى غَيْرِهَا.
وَحَيْثُ أُجْبِرَتُ الْبِكْرُ أُخِذَ بِتَعْيِينِ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ كُفْئًا لاَ بِتَعْيِينِ الْمُجْبِرِ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيِّهِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلرَّغْبَةِ فَلاَ تُجْبَرُ عَلَى مَنْ لاَ تَرْغَبُ فِيهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلإِْجْبَارِ شُرُوطٌ هِيَ:
أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا، وَأَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الأَْبِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا بِنَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُجْبِرُ مِنْ تَزْوِيجِ مَنْ عَيَّنَتْهُ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، فَهُوَ عَاضِلٌ سَقَطَتْ وِلاَيَتُهُ، وَيَفْسُقُ بِهِ إِنْ تَكَرَّرَ (2) .
وَقَالُوا: وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَلِجَمِيعِ الأَْوْلِيَاءِ تَزْوِيجُهَا إِذَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمَيْل لِلرِّجَال، لأَِنَّ
__________
(1) حديث: " آمروا النساء في بناتهن ". أخرجه أبو داود (2 / 575 ط حمص) وقال الخطابي: فيه رجل مجهول. كذا في مختصر السنن للمنذري (3 / 39 ط دار المعرفة) .
(2) المبدع 7 / 23، وكشاف القناع 5 / 42 - 47.

(41/266)


لَهَا حَاجَةً إِلَى النِّكَاحِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنْهَا، وَصِيَانَتِهَا عَنِ الْفُجُورِ، وَتَحْصِيل الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَفَافِ وَصِيَانَةِ الْعِرْضِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى إِذْنِهَا فَأُبِيحَ تَزْوِيجُهَا كَالْبِنْتِ مَعَ أَبِيهَا، وَيُعْرَفُ مَيْلُهَا إِلَى الرِّجَال مِنْ كَلاَمِهَا وَتَتَبُّعِهَا الرِّجَال وَمَيْلِهَا إِلَيْهِمْ وَنَحْوِهِ مِنْ قَرَائِنِ الأَْحْوَال، وَكَذَا إِنْ قَال ثِقَةٌ مِنْ أَهْل الطِّبِّ إِنْ تَعَذَّرَ غَيْرُهُ وَإِلاَّ فَاثْنَانِ: إِنَّ عِلَّتَهَا تَزُول بِتَزْوِيجِهَا، فَلِكُل وَلِيٍّ تَزْوِيجُهَا لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهَا كَالْمُدَاوَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنُونَةِ ذَاتِ الشَّهْوَةِ ونَحْوَهَا وَلِيٌّ إِلاَّ الْحَاكِمُ زَوَّجَهَا.
وَإِنِ احْتَاجَ الصَّغِيرُ الْعَاقِل أَوِ الْمَجْنُونُ الْمُطْبِقُ الْبَالِغُ إِلَى النِّكَاحِ لِوَطْءٍ أَوْ خِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا زَوَّجَهُمَا الْحَاكِمُ بَعْدَ الأَْبِ وَالْوَصِيِّ، أَيْ مَعَ عَدَمِهِمَا، لأَِنَّهُ يَنْظُرُ فِي مَصَالِحِهِمَا إِذَنْ، وَلاَ يَمْلِكُ تَزْوِيجَهُمَا بَقِيَّةُ الأَْوْلِيَاءِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الأَْبِ وَوَصِيِّهِ وَالْحَاكِمِ لأَِنَّهُ لاَ نَظَرَ لِغَيْرِ هَؤُلاَءِ فِي مَالِهِمَا وَمَصَالِحِهِمَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى النِّكَاحِ فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهُمَا، لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ بِهِمَا بِلاَ مَنْفَعَةٍ (1) .
وَلِلسَّيِّدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِجْبَارُ إِمَائِهِ الأَْبْكَارِ وَالثُّيَّبِ عَلَى النِّكَاحِ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ مِنْهُنَّ، وَلاَ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 42 - 47، والمبدع 7 / 23.

(41/266)


الْوَلَدِ، لأَِنَّ مَنَافِعَهُنَّ مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَتِهِنَّ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَبِهَذَا فَارَقَتِ الْعَبْدَ، وَلأَِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ مَا لَهُ مِنْ مَهْرِهَا وَوَلَدِهَا وَتَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ كَأُخْتِهِ مِنْ رَضَاعٍ.
وَلاَ يُجْبِرُ مُكَاتَبَتَهُ وَلَوْ صَغِيرَةً لأَِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا، وَلاَ يَمْلِكُ إِجَارَتَهَا وَلاَ أَخْذَ مَهْرِهَا.
وَلِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ الصَّغِيرِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَلَوْ بَالِغًا، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا مَلَكَ تَزْوِيجَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فَعَبْدُهُ كَذَلِكَ مَعَ مِلْكِهِ وَتَمَامِ وِلاَيَتِهِ أَوْلَى.
وَلاَ يَمْلِكُ السَّيِّدُ إِجْبَارَ عَبْدِهِ الْكَبِيرِ الْعَاقِل عَلَى النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ مُكَلَّفٌ يَمْلِكُ الطَّلاَقَ فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْحُرِّ، وَالأَْمْرُ بِإِنْكَاحِهِ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ طَلَبِهِ (1) .

النَّوْعُ الثَّانِي: وِلاَيَةُ الْمُشَارَكَةِ أَوْ وِلاَيَةُ النَّدْبِ وَالاِسْتِحْبَابِ:
86 - هَذِهِ الْوِلاَيَةُ تُفِيدُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَخْذِ إِذْنِهَا نَدْبًا وَاسْتِحْبَابًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، أَوْ وِلاَيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيْ لاَ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْوَلِيِّ إِلاَّ بَعْدَ أَخْذِ إِذْنِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 42 - 47.

(41/267)


الْمُوَلَّى عَلَيْهَا كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
87 - فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رَأْيِهِ الأَْوَّل أَنَّهُ لاَ إِجْبَارَ عَلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِل وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ صَغِيرَيْنِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثِّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا " (1) ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: " يَا رَسُول اللَّهِ، يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَال: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ. قَال: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا " (2) .
وَلأَِنَّ وِلاَيَةَ الْحَتْمِ وَالإِْيجَابِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الصَّغِيرَةِ لِعَجْزِهَا عَنِ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ بِنَفْسِهَا، وَبِالْبُلُوغِ وَالْعَقْل زَال الْعَجْزُ وَثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا صَارَتْ مِنْ أَهْل الْخِطَابِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، إِلاَّ أَنَّهَا مَعَ قُدْرَتِهَا حَقِيقَةً عَاجِزَةٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ، لأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى مَحَافِل الرِّجَال، وَالْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةٌ مَسْتُورَةٌ،
__________
(1) حديث: " الثيب أحق بنفسها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1037 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " يستأمر النساء في أبضاعهن: ". سبق تخريجه ف (82)

(41/267)


وَالْخُرُوجُ إِلَى مَحْفَل الرِّجَال مِنَ النِّسَاءِ عَيْبٌ فِي الْعَادَةِ، فَكَانَ عَجْزُهَا عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لاَ حَقِيقَةٍ، فَثَبَتَتِ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ الْعَجْزِ، وَهِيَ وِلاَيَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لاَ وِلاَيَةَ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وِلاَيَةُ الشَّرِكَةِ لاَ وِلاَيَةُ الاِسْتِبْدَادِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الرِّضَا كَمَا فِي الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ (1) .
وَإِذَا كَانَ الرِّضَا فِي نِكَاحِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ شَرْطَ الْجَوَازِ فَإِنَّهَا إِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا تَوَقَّفَ التَّزْوِيجُ عَلَى رِضَاهَا، فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ، وَإِنْ رَدَّتْ بَطَل.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ - كَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ - بَيْنَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ مِنَ الثَّيِّبِ، وَمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ تَزْوِيجُهَا ثَيِّبًا فَرِضَاهَا يُعْرَفُ بِالْقَوْل تَارَةً وَبِالْفِعْل أُخْرَى، أَمَّا الْقَوْل فَهُوَ التَّنْصِيصُ عَلَى الرِّضَا وَمَا يَجْرِى مَجْرَاهُ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثَّيِّبُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا " (2) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 242.
(2) حديث: " الثيب تستأمر في نفسها ". أخرجه أحمد (2 / 425 ط الميمنية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأصله في الصحيحين

(41/268)


نَفْسِهَا " (1) ، وَأَمَّا الْفِعْل نَحْوَ التَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا، وَالْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ هَذَا دَلِيل الرِّضَا، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَرَّةً وَبِالدَّلِيل أُخْرَى، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِبَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: " إِنْ وَطَأَكِ فَلاَ خِيَارَ لَكِ " (2) .
وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِكْرًا فَيُعْرَفُ رِضَاهَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، وَبِثَالِثٍ وَهُوَ السُّكُوتُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَكُونَ سُكُوتُهَا رِضًا.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَال: نَعَمْ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا " وَرُوِيَ: " سُكُوتُهَا رِضَاهَا " وَرُوِيَ: " سُكُوتُهَا إِقْرَارُهَا " (3) ، وَكُل ذَلِكَ
__________
(1) حديث: (الثيب تعرب عن نفسها ". أخرجه ابن ماجه (1 / 602 ط عيسى الحلبي) ، وأحمد (4 / 192ط الميمنية) من حديث عدي بن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال البوصيري: رجاله ثقات إلا أنه منقطع. (1 / 330 ط دار الجنان) .
(2) حديث: " إن وطئك فلا خيار لك ". أخرجه الدارقطني (3 / 294 ط دار المحاسن) .
(3) حديث: " يستأمر النساء في أبضاعهن ". سبق تخريجه ف (82) . وأما رواية " سكوتها رضاها " فذكرها السيوطي في الجامع الكبير (2 / 702 ط الهيئة العامة للكتاب) وعزاها للضياء المقدسي من حديث أبي هريرة، وأما رواية: " سكوتها إقرارها أفأخرجها ابن أبي شيبة (المصنف 4 / 136ط السلفية) من حديث عائشة

(41/268)


نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلأَِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي عَنِ النُّطْقِ بِالإِْذْنِ فِي النِّكَاحِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَال فَتُنْسَبُ إِلَى الْوَقَاحَةِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَل سُكُوتَهَا إِذْنًا وَرِضًا بِالنِّكَاحِ دَلاَلَةً، وَشَرَطَ اسْتِنْطَاقَهَا وَهِيَ لاَ تَنْطِقُ عَادَةً، لَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصَالِحُ النِّكَاحِ مَعَ حَاجَتِهَا إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَتَرَجَّحَ جَانِبُ الرِّضَا عَلَى جَانِبِ السُّخْطِ فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ لأَِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً لَرَدَّتْ، لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ تَسْتَحِي عَنِ الإِْذْنِ فَلاَ تَسْتَحِي عَنِ الرَّدِّ، فَلَمَّا سَكَتَتْ وَلَمْ تَرُدَّ دَل عَلَى أَنَّهَا رَاضِيَةٌ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا زَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ، لأَِنَّ احْتِمَال السُّخْطِ - فِي حَالَةِ السُّكُوتِ - ازْدَادَ، فَقَدْ يَكُونُ سُكُوتُهَا عَنْ جَوَابِهِ مَعَ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى الرَّدِّ تَحْقِيرًا لَهُ وَعَدَمَ مُبَالاَةٍ بِكَلاَمِهِ، فَبَطَل رُجْحَانُ دَلِيل الرِّضَا، وَلأَِنَّهَا إِنَّمَا تَسْتَحِي مِنَ الأَْوْلِيَاءِ مِنَ الأَْجَانِبِ، وَالأَْبْعَدُ عِنْدَ قِيَامِ الأَْقْرَبِ وَحُضُورِهِ أَجْنَبِيٌّ، فَكَانَتْ فِي حَقِّ الأَْجَانِبِ كَالثَّيِّبِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا، وَلأَِنَّ الْمُزَوِّجَ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ كَانَ

(41/269)


الْوَلِيُّ الأَْبْعَدُ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ طَرِيقِ الْوَكَالَةِ لاَ مِنْ طَرِيقِ الْوِلاَيَةِ لاِنْعِدَامِهَا، وَالْوَكَالَةُ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْقَوْل، وَإِذَا كَانَ وَلِيًّا فَالْجَوَازُ بِطَرِيقِ الْوِلاَيَةِ فَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَوْل.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ الَّذِي لاَ يَعْتَبِرُ سُكُوتَ الْمَرْأَةِ رِضًا أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِل الرِّضَا وَيَحْتَمِل السُّخْطَ، فَلاَ يَصْلُحُ دَلِيل الرِّضَا مَعَ الشَّكِّ وَالاِحْتِمَال، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَل دَلِيلاً إِذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ.
وَالسُّنَّةُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْبِكْرَ قَبْل النِّكَاحِ وَيَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ، فَيَقُول: إِنَّ فُلاَنًا يَخْطُبُكِ أَوْ يَذْكُرُكِ، فَإِذَا سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، زَادَ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُحِيطِ: وَتُوقَفُ عَلَى رِضَاهَا، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا دَنَا إِلَى خِدْرِهَا فَقَال: إِنَّ عَلِيًّا يَذْكُرُكِ فَسَكَتَتْ فَزَوَّجَهَا " (1) .
وَلَوِ اسْتَأْذَنَ الْوَلِيُّ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ فِي النِّكَاحِ فَضَحِكَتْ غَيْرَ مُسْتَهْزِئَةٍ، أَوْ تَبَسَّمَتْ، أَوْ بَكَتْ بِلاَ صَوْتٍ فَهُوَ إِذْنٌ - فِي الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى - لأَِنَّهُ حُزْنٌ عَلَى مُفَارَقَةِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا
__________
(1) حديث: إ إن عليا يذكرك. . . ". أخرجه ابن سعد في الطبقات (8 / 20 ط دار صادر) من حديث عطاء مرسلا.

(41/269)


يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الإِْجَازَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْبُكَاءِ أَنَّهُ رِضًا لأَِنَّهُ لِشِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَدٌّ لأَِنَّ وَضْعَهُ لإِِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ بَعْدَمَا سَبَقَ: وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الأَْحْوَال فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أُشْكِل احْتِيطَ.
وَلَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ فَبَكَتْ بِصَوْتٍ لَمْ يَكُنْ إِذْنًا وَلاَ رَدًّا، حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ بَعْدَهُ انْعَقَدَ كَمَا قَال الْحَصْكَفِيُّ نَقْلاً عَنِ الْمِعْرَاجِ وَغَيْرِهِ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ بِوَاسِطَةِ وَكِيلِهِ أَوْ رَسُولِهِ، أَوْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا وَأَخْبَرَهَا رَسُولُهُ أَوْ فُضُولِيٌّ عَدْلٌ.
وَلَوْ قَال الْوَلِيُّ لِلْبِكْرِ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلاَنًا، فَقَالَتْ: غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ لَمْ يَكُنْ إِذْنًا، وَلَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ أَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: قَدْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَانَ إِجَازَةً، لأَِنَّ قَوْلَهَا فِي الأَْوَّل إِظْهَارُ عَدَمِ الرِّضَا بِالتَّزْوِيجِ مِنْ فُلاَنٍ، وَقَوْلَهَا فِي الثَّانِي قَبُولٌ أَوْ سُكُوتٌ عَنِ الرَّدِّ، وَسُكُوتُ الْبِكْرِ عَنِ الرَّدِّ يَكُونُ رِضًا.
وَلَوْ قَال الْوَلِيُّ لِلْبِكْرِ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ رِضًا كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، لأَِنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لاَ يَتَحَقَّقُ.
وَلَوْ قَال: أُزَوِّجُكَ فُلاَنًا أَوْ فُلاَنًا حَتَّى عَدَّ جَمَاعَةً فَسَكَتَتْ، فَمِنْ أَيِّهِمْ زَوَّجَهَا جَازَ.
وَلَوْ سَمَّى لَهَا الْجَمَاعَةَ مُجْمَلاً بِأَنْ قَال:

(41/270)


أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ جِيرَانِي أَوْ مِنْ بَنِي عَمِّي فَسَكَتَتْ، فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَهُو رِضًا، وَإِنْ كَانُوا لاَ يُحْصَوْنَ لَمْ يَكُنْ رِضًا، لأَِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ يُعْلَمُونَ فَيَتَعَلَّقُ الرِّضَا بِهِمْ، وَإِذَا لَمْ يُحْصَوْا لَمْ يُعْلَمُوا فَلاَ يُتَصَوَّرُ الرِّضَا، لأَِنَّ الرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ.
وَلَوْ سَمَّى الْوَلِيُّ لَهَا الزَّوْجَ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَهْرَ فَسَكَتَتْ فَسُكُوتُهَا رِضًا عَلَى مَا صَحَّحَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَالْمِرْغِينَانِيُّ وَشُرَّاحُ كِتَابَيْهِمَا تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ وَالْهِدَايَةِ وَجُمْهُورِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لأَِنَّ لِلْنِكَاحِ صِحَّةٌ بِدُونِ ذِكْرِ الْمَهْرِ، وَقِيل يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ قَدْرِ الصَّدَاقِ مَعَ تَسْمِيَةِ الزَّوْجِ، لاِخْتِلاَفِ الرَّغْبَةِ بِاخْتِلاَفِ الصَّدَاقَةِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَتَمَامُ الرِّضَا لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِذِكْرِ الزَّوْجِ وَالْمَهْرِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَنَقَلَهُ الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْفَتَاوِي.
وَلَوِ اسْتَأْذَنَ الْمَرْأَةَ غَيْرُ الْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ، كَأَجْنَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ بَعِيدٍ، فَلاَ عِبْرَةَ لِسُكُوتِهَا بَل لاَ بُدَّ مِنَ الْقَوْل أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ فِعْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا كَطَلَبِ مَهْرِهَا وَنَفَقَتِهَا، وَتَمْكِينِهَا مِنَ الْوَطْءِ، وَدُخُولِهِ بِهَا بِرِضَاهَا، وَقَبُول التَّهْنِئَةِ وَالضَّحِكِ سُرُورًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِل رِضًا عِنْدَ الْحَاجَةِ أَيْ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ وَعَجْزِهَا عَنِ الْمُبَاشَرَةِ، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَنْ لاَ يَمْلِكُ الْعَقْدَ وَلاَ الْتِفَاتَ إِلَى كَلاَمِهِ.
وَقَالُوا: مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ - أَيْ نَطَّةٍ -

(41/270)


مِنْ فَوْقٍ إِلَى أَسْفَل، أَوْ طَفْرَةٍ وَهِيَ عَكْسُ النَّطَّةِ، أَوْ دُرُورِ حَيْضٍ، أَوْ حُصُول جِرَاحَةٍ، أَوْ تَعْنِيسٍ فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً، لأَِنَّ الْبِكْرَ عِنْدَهُمُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ وَلاَ غَيْرِهِ، كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الظُّهَيْرِيَّةِ، فَهِيَ وَإِنْ زَالَتْ مِنْهَا الْعُذْرَةُ - أَيِ الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى الْمَحَل - فَإِنَّ بَكَارَتَهَا لَمْ تَزُل لأَِنَّهَا لَمْ تُجَامَعْ، فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً، وَهِيَ كَذَلِكَ بِكْرٌ حُكْمًا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الأَْبْكَارُ، وَتَأْخُذُ فِي الرِّضَا وَغَيْرِهَا حُكْمَ الأَْبْكَارِ حَتَّى تَدْخُل - كَمَا قَال ابْنُ مَوْدُودٍ الْمَوْصِلِيُّ - تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ بِالإِْجْمَاعِ.
وَمَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَطْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَهُوَ الْوَطْءُ بِعَقْدٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبُ، وَلاَ يَكْفِي فِي رِضَاهَا السُّكُوتُ.
وَإِذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالزِّنَا فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الأَْبْكَارُ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ عِلَّةُ إِقَامَةِ السُّكُوتِ مَقَامَ النُّطْقِ فِي الْبِكْرِ الْحَيَاءُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَقِيقَةً، لأَِنَّ زَوَال بَكَارَتِهَا لَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ فَيَسْتَقْبِحُونَ مِنْهَا الإِْذْنَ بِالنِّكَاحِ صَرِيحًا وَيَعُدُّونَهُ مِنْ بَابِ الْوَقَاحَةِ، وَلاَ يَزُول ذَلِكَ مَا لَمْ يُوجَدِ النِّكَاحُ أَوْ يَشْتَهِرِ الزِّنَا، وَلَوِ اشْتَرَطَ نُطْقَهَا فَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ تَفُوتُهَا مَصْلَحَةُ النِّكَاحِ، وَإِنْ نَطَقَتْ وَالنَّاسُ يَعْرِفُونَهَا بِكْرًا تَتَضَرَّرُ بِاشْتِهَارِ الزِّنَا عَنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَشْتَرِطُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.

(41/271)


وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ " (1) وَهَذِهِ ثَيِّبٌ حَقِيقَةً، لأَِنَّ الثَّيِّبَ حَقِيقَةً مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا وَهَذِهِ كَذَلِكَ، فَيَجْرِى عَلَيْهَا أَحْكَامُ الثَّيِّبِ، وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا نَصًّا فَلاَ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا.
وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَهِرَةً بِالزِّنَا، بِأَنْ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، أَوِ اعْتَادَتْهُ وَتَكَرَّرَ مِنْهَا، أَوْ قَضَى عَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ، تُسْتَنْطَقُ بِالإِْجْمَاعِ لِزَوَال الْحَيَاءِ وَعَدَمِ التَّضَرُّرِ بِالنُّطْقِ.
وَلَوْ مَاتَ زَوْجُ الْبِكْرِ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول تُزَوَّجُ كَالأَْبْكَارِ، لِبَقَاءِ الْبَكَارَةِ وَالْحَيَاءِ (2) .
88 - وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَلِيَّ غَيْرُ الْمُجْبِرِ هُوَ مَنْ عَدَا الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ فِي وِلاَيَةِ الإِْجْبَارِ، وَهُمُ الأَْبُ وَالْوَصِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْمَالِكُ، وَعَلَيْهِ لاَ تُزَوَّجُ بَالِغٌ إِلاَّ بِإِذْنِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، وَالإِْذْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ:
__________
(1) حديث: " البكر تستأمر والثيب تشاور ". أخرجه أحمد (2 / 229 ط الميمنية) من حديث أبي هريرة وقال أحمد شاكر في التعليق عليه: إسناده صحيح (12 / 102ط دار المعارف)
(2) الاختيار 3 / 92 - 94، 109، وفتح القدير 3 / 164 - 166، وبدائع الصنائع 2 / 241 - 244، والدر المختار ورد المحتار 2 / 298 - 299، 304 - 306.

(41/271)


فَإِذْنُ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ صَمْتُهَا، أَيْ إِذَا سُئِلَتْ، هَل تَرْضَيْنَ بِأَنْ نُزَوِّجَكِ مِنْ فُلاَنٍ عَلَى مَهْرٍ قَدْرُهُ كَذَا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى الْعَقْدَ فُلاَنٌ؟ فَلاَ تُكَلَّفُ النُّطْقَ، وَنُدِبَ إِعْلاَمُهَا بِأَنَّ سُكُوتَهَا إِذْنٌ وَرِضًا، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ وَادَّعَتِ الْجَهْل فَلاَ تُقْبَل دَعْوَاهَا وَتَمَّ النِّكَاحُ عِنْدَ الأَْكْثَرِ.
وَلاَ تُزَوَّجُ الْبِكْرُ إِنْ مَنَعَتْ، بِأَنْ قَالَتْ: لاَ أَتَزَوَّجُ أَوْ لاَ أَرْضَى أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَا إِنْ نَفَرَتْ، لأَِنَّ النُّفُورَ دَلِيل عَدَمِ الرِّضَا، لاَ إِنْ ضَحِكَتْ أَوْ بَكَتْ فَتُزَوَّجُ، لأَِنَّ بُكَاءَهَا يَحْتَمِل أَنَّهُ لِفَقْدِ أَبِيهَا الَّذِي يَتَوَلَّى عَقْدَهَا.
وَالثَّيِّبُ - وَلَوْ سَفِيهَةً - تُعْرِبُ عَنِ الرِّضَا أَوِ الْمَنْعِ، وَلاَ يُكْتَفَى مِنْهَا بِالصَّمْتِ وَيُشَارِكُ الثَّيِّبَ فِي عَدَمِ الاِكْتِفَاءِ بِالصَّمْتِ سِتُّ أَبْكَارٍ:

الأُْولَى: الْبِكْرُ الَّتِي رَشَّدَهَا أَبُوهَا بِأَنْ أَطْلَقَ الْحَجْرَ عَنْهَا فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ وَهِيَ بَالِغٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا بِالْقَوْل.

الثَّانِيَةُ: الْبِكْرُ الَّتِي عُضِلَتْ فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا بِالْقَوْل، فَإِنْ أَمَرَ الْحَاكِمُ أَبَاهَا بِالْعَقْدِ، فَأَجَابَ وَزَوَّجَهَا لَمْ يَحْتَجْ لإِِذْنٍ، لأَِنَّهُ مُجْبِرٌ.

الثَّالِثَةُ: الْبِكْرُ الْمُهْمَلَةُ الَّتِي لاَ أَبَ لَهَا وَلاَ وَصِيَّ وَزُوِّجَتْ بِعَرَضٍ، وَهِيَ مِنْ قَوْمٍ لاَ يُزَوِّجُونَ بِالْعُرُوضِ، أَوْ يُزَوِّجُونَ بِعَرَضٍ مَعْلُومٍ فَزَوَّجَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِهِ لاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا بِأَنْ

(41/272)


تَقُول: رَضِيتُ بِهِ، وَلاَ تَكْفِي الإِْشَارَةُ.

الرَّابِعَةُ: الْبِكْرُ وَلَوْ مُجْبَرَةً الَّتِي زُوِّجَتْ بِرَقِيقٍ - أَيِ الَّتِي أَرَادَ وَلِيُّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا لِرَقِيقٍ - لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا بِالْقَوْل، لأَِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْحُرَّةِ.

الْخَامِسَةُ: الْبِكْرُ الَّتِي زُوِّجَتْ لِذِي عَيْبٍ - كَجُذَامٍ وَبَرَصٍ وَجُنُونٍ وَخِصَاءٍ - فَلاَ بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا بِأَنْ تَقُول: رَضِيتُ بِهِ مَثَلاً.

السَّادِسَةُ: غَيْرُ الْمُجْبَرَةِ الَّتِي افْتِيتَ عَلَيْهَا، أَيْ تَعَدَّى عَلَيْهَا وَلِيُّهَا غَيْرُ الْمُجْبِرِ فَعَقَدَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا ثُمَّ أَنْهَى إِلَيْهَا الْخَبَرَ فَرَضِيَتْ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ عَقْدُ الْمُفْتَاتِ عَلَيْهَا إِذَا رَضِيَتْ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عَلَيْهَا افْتِيَاتًا بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ:

الأَْوَّل: أَنْ يَقْرُبَ رِضَاهَا، بِأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بِالسُّوقِ أَوْ بِالْمَسْجِدِ مَثَلاً وُيُسَارُّ إِلَيْهَا بِالْخَبَرِ مِنْ وَقْتِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرِّضَا بِالْقَوْل، فَلاَ يَكْفِي الصَّمْتُ.

الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَقَعَ مِنْهَا رَدٌّ لِلنِّكَاحِ قَبْل الرِّضَا بِهِ.

الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَنِ افْتِيتَ عَلَيْهَا بِالْبَلَدِ حَال الاِفْتِيَاتِ وَالرِّضَا، فَإِنْ كَانَتْ بِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ وَلَوْ قَرُبَ الْبَلَدَانِ وَأَنْهَى إِلَيْهَا الْخَبَرَ مِنْ وَقْتِهِ.

(41/272)


الْخَامِسُ: أَنْ لاَ يُقِرَّ الْوَلِيُّ بِالاِفْتِيَاتِ حَال الْعَقْدِ، بِأَنْ سَكَتَ أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ مَأْذُونٌ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَصِحَّ.

السَّادِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ الاِفْتِيَاتُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ مَعًا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمَا مَعًا لَمْ يَصِحَّ وَلاَ بُدَّ مِنْ فَسْخِهِ.
وَالاِفْتِيَاتُ عَلَى الزَّوْجِ كَالاِفْتِيَاتِ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي جَمِيعِ مَا مَرَّ، أَيْ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ إِنْ رَضِيَ بِهِ نُطْقًا، مَعَ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ (1) .
89 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ تَزْوِيجُ ثَيِّبٍ بَالِغَةٍ وَإِنْ عَادَتْ بَكَارَتُهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا، لِخَبَرِ: " لاَ تَنْكِحُوا الأَْيَامَى حَتَّى تَسْتَأْمِرُوهُنَّ " (2) ، وَلأَِنَّهَا عَرَفَتْ مَقْصُودَ النِّكَاحِ فَلاَ تُجْبَرُ بِخِلاَفِ الْبِكْرِ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الثَّيِّبُ صَغِيرَةً غَيْرَ مَجْنُونَةٍ وَغَيْرَ أَمَةٍ لَمْ تُزَوَّجْ، سَوَاءٌ احْتَمَلَتِ الْوَطْءَ أَمْ لاَ، حَتَّى تَبْلُغَ، لأَِنَّ إِذْنَ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ مُعْتَبَرًا
__________
(1) الشرح الصغير والصاوي 2 / 351 - 357، 369، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 223 - 228.
(2) حديث: " لا تنكحوا الأيامى حتى تستأمروهن ". أخرجه الحاكم في المستدرك (2 / 167 ط دائرة المعارف) من حديث ابن عمر رضي الله عنهم اإلا أنه عنده " النساء " بدل " الأيامى " وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه

(41/273)


فَامْتَنَعَ تَزْوِيجُهَا إِلَى الْبُلُوغِ، أَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَيُزَوِّجُهَا الأَْبُ وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِهِ قَبْل بُلُوغِهَا لِلْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الأَْمَةُ فَلِسَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا.
وَقَالُوا: وَسَوَاءٌ فِي حُصُول الثُّيُوبَةِ وَاعْتِبَارِ إِذْنِهَا زَوَال الْبَكَارَةِ بِوَطْءٍ فِي قُبُلِهَا حَلاَلٍ كَالنِّكَاحِ أَوْ حَرَامٍ كَالزِّنَا أَوْ بِوَطْءٍ لاَ يُوصَفُ بِهِمَا كَشُبْهَةٍ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ، وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَال بِالْوَطْءِ فِي مَحَل الْبَكَارَةِ.
وَلاَ أَثَرَ لِزَوَال الْبَكَارَةِ بِلاَ وَطْءٍ فِي الْقُبُل، كَسَقْطَةٍ وَحِدَّةِ طَمْثٍ وَطُول تَعْنِيسٍ - وَهُوَ الْكِبَرُ - أَوْ بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ فِي الأَْصَحِّ كَمَا فِي مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ، أَوِ الصَّحِيحِ كَمَا فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ بَل حُكْمُهَا حُكْمُ الأَْبْكَارِ لأَِنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَال فَهِيَ عَلَى حَالِهَا وَحَيَائِهَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ لِزَوَال الْعُذْرَةِ، وَلَوْ خُلِقَتْ بِلاَ بَكَارَةٍ فَهِيَ بِكْرٌ (1) .
90 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الأَْبِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ تَزْوِيجُ حُرَّةٍ كَبِيرَةٍ بَالِغَةٍ - ثَيِّبًا كَانَتْ أَوْ بِكْرًا - إِلاَّ بِإِذْنِهَا، لِحَدِيثِ: " لاَ تُنْكَحُ الأَْيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 149، 150، 159، 68 1، 172، 173، وروضة الطالبين 7 / 53 - 55.

(41/273)


قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَال: أَنْ تَسْكُتَ " (1) إِلاَّ الْمَجْنُونَةَ فَلِسَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ تَزْوِيجُهَا إِذَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمَيْل لِلرِّجَال، لأَِنَّ لَهَا حَاجَةً إِلَى النِّكَاحِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنْهَا، وَصِيَانِتِهَا عَنِ الْفُجُورِ، وَتَحْصِيل الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْعَفَافِ وَصِيَانَةِ الْعِرْضِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى إِذْنِهَا فَأُبِيحَ تَزْوِيجُهَا، كَالْبِنْتِ مَعَ أَبِيهَا، وَيُعْرَفُ مَيْلُهَا إِلَى الرِّجَال مِنْ كَلاَمِهَا وَتَتَبُّعِهَا الرِّجَال وَمَيْلِهَا إِلَيْهِمْ وَنَحْوِهِ مِنْ قَرَائِنِ الأَْحْوَال، وَكَذَا إِنْ قَال ثِقَةٌ مِنْ أَهْل الطِّبِّ إِنْ تَعَذَّرَ غَيْرُهُ وَإِلاَّ فَاثْنَانِ: إِنَّ عِلَّتَهَا تَزُول بِتَزْوِيجِهَا، فَلِكُل وَلِيٍّ تَزْوِيجُهَا لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهَا كَالْمُدَاوَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنُونَةِ ذَاتِ الشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا وَلِيٌّ إِلاَّ الْحَاكِمُ زَوَّجَهَا.
وَلَيْسَ لِمَنْ عَدَا الأَْبِ وَوَصِيِّهِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ تَزْوِيجُ صَغِيرَةٍ لَهَا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ بِحَالٍ، وَلَهُمْ تَزْوِيجُ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ بِإِذْنِهَا، وَلَهَا إِذْنٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ نَصًّا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ " (2) ، وَرُوِيَ
__________
(1) حديث: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 191 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1036 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) قول عائشة: " إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة ". ذكره الترمذي (3 / 409 ط الحلبي) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1 / 320 ط دائرة المعارف) دون أن يسنداه، ولم نهتد لمن أسنده

(41/274)


مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (1) ، وَمَعْنَاهُ: فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ، وَلأَِنَّهَا تَصْلُحُ بِذَلِكَ لِلنِّكَاحِ وَتَحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَشْبَهَتِ الْبَالِغَةَ.
وَإِذْنُ الثَّيِّبِ الْكَلاَمُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا " (2) ، وَهِيَ مَنْ وُطِئَتْ فِي الْقُبُل بِآلَةِ الرِّجَال وَلَوْ بِزِنًا، وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِالثُّيُوبَةِ وَعَادَتِ الْبَكَارَةُ لَمْ يَزُل حُكْمُ الثُّيُوبَةِ، لأَِنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي اقْتَضَتِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبِكْرِ مُبَاضَعَةُ الرِّجَال وَهَذَا مَوْجُودٌ مَعَ عَوْدِ الْبَكَارَةِ.
وَإِذْنُ الْبِكْرِ الصُّمَاتُ وَلَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الأَْبِ لِمَا سَبَقَ، وَإِنْ ضَحِكَتْ أَوْ بَكَتْ فَذَلِكَ كَسُكُوتِهَا، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلاَ جَوَازَ عَلَيْهَا " وَفِي رِوَايَةٍ: " فَإِنْ بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ " (3)
__________
(1) ذكر ابن قدامة في المغني (9 / 404 ط دار هجر) أن القاضي أبا يعلى رواه بإسناده، ولم نهتد لأي كتاب أسنده فيه، كما لم نهتد لمن أخرجه بإسناده غيره.
(2) حديث: " الثيب تعرب عن نفسها ". سبق تخريجه ف (87)
(3) حديث: " تستأمر اليتيمة فإن سكتت. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 573 - 575 ط حمص) بروايتيه من حديث أبي هريرة، ثم أشار إلى شذوذ لفظة: " بكت "

(41/274)


وَلأَِنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالاِمْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِهَا لِلاِسْتِئْذَانِ فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا، وَنُطْقُ الْبِكْرِ أَبْلَغُ مِنْ سُكُوتِهَا وَضَحِكِهَا وَبُكَائِهَا لأَِنَّهُ الأَْصْل فِي الإِْذْنِ وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ مِنْهَا بِالصُّمَاتِ لِلاِسْتِحْيَاءِ، فَإِنْ أَذِنَتْ نُطْقًا فَقَدْ تَمَّ الإِْذْنُ، وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ نُطْقًا اسْتُحِبَّ أَنْ لاَ يُجْبِرَهَا عَلَى النُّطْقِ، وَاكْتُفِيَ بِسُكُوتِهَا إِنْ لَمْ تُصَرِّحْ بِالْمَنْعِ.
وَزَوَال الْبَكَارَةِ بِأُصْبُعٍ أَوْ وَثْبَةٍ أَوْ شِدَّةِ حَيْضَةٍ وَنَحْوِهِ كَسُقُوطٍ مِنْ شَاهِقٍ لاَ يُغَيِّرُ صِفَةَ الإِْذْنِ، فَلَهَا حُكْمُ الْبِكْرِ فِي الإِْذْنِ، لأَِنَّهَا لَمْ تَخْبُرِ الْمَقْصُودَ وَلاَ وُجِدَ وَطْؤُهَا فِي الْقُبُل فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ تَزُل عُذْرَتُهَا، وَكَذَا وَطْءٌ فِي الدُّبُرِ وَمُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَوْطُوءَةٍ فِي الْقُبُل.
وَيُعْتَبَرُ فِي الاِسْتِئْذَانِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ مَعْرِفَةُ الْمَرْأَةِ بِهِ، بِأَنْ يَذْكُرَ لَهَا نَسَبَهُ وَمَنْصِبَهُ وَنَحْوَهُ لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ إِذْنِهَا فِي تَزْوِيجِهِ لَهَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِئْذَانِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ لأَِنَّهُ لَيْسَ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ وَلاَ مَقْصُودًا مِنْهُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلاَ يُشْتَرَطُ أَيْضًا اقْتِرَانُهُ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْشْهَادُ عَلَى إِذْنِهَا لِوَلِّيِهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلَوْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ، وَالاِحْتِيَاطُ الإِْشْهَادُ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 42 - 47.

(41/275)


تَرْتِيبُ الأَْوْلِيَاءِ:
91 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ إِذَا كَانَ مُجْبِرًا فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمُقَدَّمَ، لاَ يُنَازِعُهُ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الْوِلاَيَةِ.
وَذَهَبُوا - فِي الْجُمْلَةِ - إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَتْ أَسْبَابُ وِلاَيَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلاَيَتِهِ الْمِلْكَ، ثُمَّ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلاَيَتِهِ الْقَرَابَةَ، ثُمَّ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلاَيَتِهِ الإِْمَامَةَ، ثُمَّ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلاَيَتِهِ الْوَلاَءَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَرْتِيبِ الأَْوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
92 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مَنْ يَتَّصِل بِالْمَيِّتِ حَتَّى الْمُعْتِقِ بِلاَ تَوَسُّطِ أُنْثَى عَلَى تَرْتِيبِ الإِْرْثِ وَالْحَجْبِ، فَيُقَدَّمُ الاِبْنُ عَلَى الأَْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ حَيْثُ قَدَّمَ الأَْبَ، وَفِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الطَّحَاوِيِّ: إِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَأْمُرَ الأَْبُ الاِبْنَ بِالنِّكَاحِ حَتَّى يَجُوزَ بِلاَ خِلاَفٍ، وَابْنُ الاِبْنِ كَالاِبْنِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ الأَْبُ، ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ الأَْخُ الشَّقِيقُ، ثُمَّ لأَِبٍ، ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ الشَّقِيقِ، ثُمَّ لأَِبٍ، ثُمَّ الْعَمُّ الشَّقِيقُ، ثُمَّ لأَِبٍ، ثُمَّ ابْنُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَمُّ الأَْبِ كَذَلِكَ، ثُمَّ ابْنُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ كَذَلِكَ، ثُمَّ ابْنُهُ كَذَلِكَ، كُل هَؤُلاَءِ لَهُمْ إِجْبَارُ الصَّغِيرَيْنِ وَكَذَا الْكَبِيرَيْنِ إِذَا جُنَّا، ثُمَّ الْمُعْتَقُ وَلَوْ أُنْثَى، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ عَصَبَتُهُ مِنَ النَّسَبِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ.

(41/275)


فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ لاَ نَسَبِيَّةٌ وَلاَ سَبَبِيَّةٌ فَالْوِلاَيَةُ لِلأُْمِّ عِنْدَ الإِْمَامِ وَمَعَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الأَْصَحَّ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَالْعَمَل عَلَيْهِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ وِلاَيَةٌ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَاكَمِ، ثُمَّ لأُِمِّ الأَْبِ، ثُمَّ لِلْبِنْتِ، ثُمَّ لِبِنْتِ الاِبْنِ، ثُمَّ لِبِنْتِ الْبِنْتِ، ثُمَّ لِبِنْتِ ابْنِ الاِبْنِ، ثُمَّ لِبِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الْفُرُوعِ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ لِلْجَدِّ الْفَاسِدِ، ثُمَّ لِلأُْخْتِ لأَِبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ لِلأُْخْتِ لأَِبٍ، ثُمَّ لِوَلَدِ الأُْمِّ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى سَوَاءٌ، ثُمَّ لأَِوْلاَدِ الأُْخْتِ الشَّقِيقَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ لِذَوِي الأَْرْحَامِ: الْعَمَّاتِ، ثُمَّ الأَْخْوَال، ثُمَّ الْخَالاَتِ، ثُمَّ بَنَاتِ الأَْعْمَامِ، وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ أَوْلاَدُهُمْ، فَيُقَدَّمُ أَوْلاَدُ الْعَمَّاتِ، ثُمَّ أَوْلاَدُ الأَْخْوَال، ثُمَّ أَوْلاَدُ الْخَالاَتِ، ثُمَّ أَوْلاَدُ بَنَاتِ الأَْعْمَامِ.
ثُمَّ تَكُونُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ لِمَوْلَى الْمُوَالاَةِ وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَبُو الصَّغِيرَةِ وَوَالاَهُ لأَِنَّهُ يَرِثُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ إِذَا كَانَ الأَْبُ مَجْهُول النَّسَبِ وَوَالاَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَنَى يَعْقِل عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ يَرِثُهُ.
ثُمَّ لِلسُّلْطَانِ، ثُمَّ لِقَاضٍ نَصَّ لَهُ عَلَيْهِ فِي مَنْشُورِهِ، ثُمَّ لِنُوَّابِ الْقَاضِي إِنْ فُوِّضَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِ التَّزْوِيجُ فَلَيْسَ لِنَائِبِهِ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصِيٌّ أَنْ يُزَوِّجَ الْيَتِيمَ مُطْلَقًا وَإِنْ أَوْصَى إِلَيْهِ الأَْبُ بِذَلِكَ

(41/276)


عَلَى الْمَذْهَبِ. نَعَمْ لَوْ كَانَ قَرِيبًا أَوْ حَاكِمًا يَمْلِكُهُ بِالْوِلاَيَةِ (1) .
93 - وَرَتَّبَ الْمَالِكِيَّةُ الأَْوْلِيَاءَ غَيْرَ الْمُجْبِرِينَ فِي النِّكَاحِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيمِ بِحَسَبِ هَذَا التَّرْتِيبِ هَل هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّقْدِيمَ بِذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ، وَقِيل إِنَّهُ مَنْدُوبٌ.
وَقَالُوا: يُقَدَّمُ عِنْدَ وُجُودِ مُتَعَدِّدٍ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ ابْنٌ لِلْمَرْأَةِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ الاِبْنُ مِنْ زِنًا كَمَا إِذَا ثُيِّبَتْ بِنِكَاحٍ ثُمَّ زَنَتْ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ فَيُقَدَّمُ عَلَى الأَْبِ، وَأَمَّا إِذَا ثُيِّبَتْ بِزِنًا وَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ فَإِنَّ الأَْبَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، لأَِنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُجْبَرَةٌ لِلأَْبِ - ثُمَّ بَعْدَ الاِبْنِ ابْنُهُ، وَلَوْ عَقَدَ الأَْبُ مَعَ وُجُودِ الاِبْنِ وَابْنِهِ جَازَ عَلَى الاِبْنِ وَلاَ ضَرَرَ، ثُمَّ أَبٌ لِلْمَرْأَةِ - أَيْ شَرْعِيٌّ، وَأَمَّا أَبُو الزِّنَا فَلاَ عِبْرَةَ بِه - ثُمَّ أَخٌ شَقِيقٌ أَوْ لأَِبٍ - أَمَّا الأَْخُ لأُِمٍّ فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَ لَهُ وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ - ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَل وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ تَقْدِيمِ الأَْخِ وَابْنِهِ عَلَى الْجَدِّ هُنَا، ثُمَّ جَدٌّ لأَِبٍ، ثُمَّ عَمٌّ لأَِبٍ، فَابْنُهُ، فَجَدُّ أَبٍ، فَعَمُّهُ أَيْ عَمُّ الأَْبِ، فَابْنُهُ.
وَيُقَدَّمُ مِنْ كُل صِنْفٍ الشَّقِيقُ عَلَى الَّذِي لِلأَْبِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ ابْنِ بَشِيرٍ، وَالْمُخْتَارُ
__________
(1) الدر المحتار ورد المحتار 2 / 311، 312.

(41/276)


عِنْدَ اللَّخْمِيِّ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ، وَمُقَابِلُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الشَّقِيقَ وَغَيْرَهُ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتَرِعَانِ عِنْدَ التَّنَازُعِ.
وَيُقَدَّمُ الأَْفْضَل عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الرُّتْبَةِ، وَإِنْ تَنَازَعَ مُتَسَاوُونَ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضْل كَإِخْوَةٍ كُلِّهِمْ عُلَمَاءُ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يُقَدِّمُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ يُقَدَّمُ بَعْدَ عَصَبَةِ النَّسَبِ الْمَوْلَى الأَْعْلَى وَهُوَ مَنْ أَعْتَقَ الْمَرْأَةَ، فَعَصَبَتُهُ الْمُتَعَصِّبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَمَوْلاَهُ وَهُوَ مَنْ أَعْتَقَ مُعْتِقَهَا وَإِنْ عَلاَ.
ثُمَّ هَل يُقَدَّمُ الْمَوْلَى الأَْسْفَل وَهُوَ مَنْ أَعْتَقَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ أَصْلاً عَلَيْهَا؟ صُحِّحَ عَدَمُ الْوِلاَيَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ هُنَا إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ، وَالْعَتِيقُ لَيْسَ مِنْ عَصَبَتِهَا.
ثُمَّ كَافِلٌ لِلْمَرْأَةِ غَيْرُ عَاصِبٍ، فَالْبِنْتُ إِذَا مَاتَ أَبُوهَا أَوْ غَابَ، وَكَفِلَهَا رَجَلٌ - أَيْ قَامَ بِأُمُورِهَا حَتَّى بَلَغَتْ عِنْدَهُ، أَوْ خِيفَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ - سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِحَضَانَتِهَا شَرْعًا أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، فَإِنَّهُ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلاَيَةُ عَلَيْهَا وَيُزَوِّجُهَا بِإِذْنِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالدَّنِيئَةِ، أَمَّا الشَّرِيفَةُ فَفِيهَا خِلاَفٌ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْكَافِلَةَ لاَ وِلاَيَةَ لَهَا عَلَى الْمَكْفُولَةِ، وَوَلِيُّهَا الْحَاكِمُ،

(41/277)


وَقِيل: لَهَا وِلاَيَةٌ وَلَكِنَّهَا لاَ تُبَاشِرُ الْعَقْدَ بَل تُوَكِّل كَالْمُعْتَقَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الْكَفَالَةِ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ عَلَى الأَْظْهَرِ، بَل مَا تَحْصُل فِيهِ الشَّفَقَةُ وَالْحَنَانُ عَلَيْهَا عَادَةً، وَلاَ بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهَا مِنْهُ بِالْفِعْل، وَإِلاَّ فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عَقْدَ نِكَاحِهَا.
ثُمَّ يَتَوَلَّى الْحَاكِمُ عَقْدَ النِّكَاحِ بَعْدَ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْمَرْأَةِ عَاصِبٌ وَلاَ مَوْلًى أَعْلَى وَلاَ كَافِلٌ وَلاَ حَاكِمٌ شَرْعِيٌّ، تَوَلَّى عَقْدَ نِكَاحِهَا رَجُلٌ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخَال وَالْجَدُّ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ وَالأَْخُ لأُِمٍّ فَهُمْ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ بِإِذْنِهَا وَرِضَاهَا، وَصَحَّ النِّكَاحُ بِالْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ فِي الْمَرْأَةِ الدَّنِيئَةِ - الْخَالِيَةِ مِنَ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ وَالْمَال وَالْجَمَال - مَعَ وُجُودِ وَلِيٍّ خَاصٍّ غَيْرِ مُجْبِرٍ لِكَوْنِهَا لِدَنَاءَتِهَا وَعَدَمِ الاِلْتِفَاتِ إِلَيْهَا لاَ يَلْحَقُهَا بِذَلِكَ مَعَرَّةٌ، وَلاَ يُفْسَخُ نِكَاحُهَا بِحَالٍ طَال زَمَنُ الْعَقْدِ أَوْ لاَ، دَخَل بِهَا الزَّوْجُ أَوْ لَمْ يَدْخُل، أَمَّا الشَّرِيفَةُ فَتُقَيَّدُ صِحَّةُ نِكَاحِهَا بِالْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ مَعَ وُجُودِ وَلِيٍّ غَيْرِ مُجْبِرٍ بِمَا إِذَا دَخَل الزَّوْجُ بِهَا وَطَال، مَعَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءً (1) .
94 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُرَتَّبُ الأَْوْلِيَاءُ فِي
__________
(1) الشرح الصغير والصاوي 2 / 359 - 362، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 225 - 226.

(41/277)


النِّكَاحِ بِحَسَبِ الْجِهَةِ الَّتِي يُدْلُونَ بِهَا إِلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهَا، فَتُقَدَّمُ جِهَةُ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ الْوَلاَءُ، ثُمَّ السَّلْطَنَةُ.
وَأَحَقُّ الأَْوْلِيَاءِ بِالتَّزْوِيجِ أَبٌ لأَِنَّ أَغْلَبَ الأَْوْلِيَاءِ يُدْلُونَ بِهِ، ثُمَّ جَدٌّ لأَِبٍ، ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلاَ، لاِخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَنْ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ بِالْوِلاَدَةِ مَعَ مُشَارَكَتِهِ فِي الْعُصُوبَةِ، ثُمَّ أَخٌ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ أَخٌ لأَِبٍ، لأَِنَّ الأَْخَ يُدْلَى بِالأَْبِ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنِ ابْنِهِ، ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ، ثُمَّ ابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ وَإِنْ سَفَل، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ مِنَ الْعَمِّ، ثُمَّ عَمٌّ لأَِبَوَيْنِ ثُمَّ عَمٌّ لأَِبٍ، ثُمَّ ابْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ سَائِرُ الْعَصَبَةِ مِنَ الْقَرَابَةِ كَالإِْرْثِ، لأَِنَّ الْمَأْخَذَ فِيهِمَا وَاحِدٌ إِلاَّ فِي مَسَائِل:
مِنْهَا: يُقَدَّمُ الأَْخُ لِلأَْبَوَيْنِ عَلَى الأَْخِ لأَِبٍ فِي الإِْرْثِ، وَهُنَا قَوْلاَنِ، أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ يُقَدَّمُ أْيَضًا، وَالْقَدِيمُ يَسْتَوِيَانِ.
وَيَجْرِي الْقَوْلاَنِ فِي ابْنَيِ الأَْخِ وَالْعَمَّيْنِ وَابْنَيِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنَ الأَْبَوَيْنِ وَالآْخَرُ مِنَ الأَْبِ، وَلَوْ كَانَ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخُوهَا مِنَ الأُْمِّ، أَوِ ابْنَا ابْنِ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا فَقَال الإِْمَامُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَطَرَّدَ الْجُمْهُورُ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالُوا: الْجَدِيدُ يُقَدَّمُ الأَْخُ وَالاِبْنُ.
وَلَوْ كَانَ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا مِنَ الأَْبَوَيْنِ وَالآْخَرُ مِنَ الأَْبِ لَكِنَّهُ أَخُوهَا مِنَ الأُْمِّ فَالثَّانِي

(41/278)


هُوَ الْوَلِيُّ لأَِنَّهُ يُدْلَى بِالْجَدِّ وَالأُْمِّ، وَالأَْوَّل بِالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ.
وَلَوْ كَانَ ابْنَا ابْنِ عَمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُهَا وَالآْخَرُ أَخُوهَا مِنَ الأُْمِّ فَالاِبْنُ الْمُقَدَّمُ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ.
وَلَوْ كَانَ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا مُعْتَقٌ فَالْجَدِيدُ يُقَدَّمُ ابْنُ الْمُعْتَقِ وَالْقَدِيمُ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا، أَوِ ابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا خَالٌ فَهُمَا سَوَاءٌ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَمِنْهَا: الاِبْنُ لاَ يُزَوِّجُ بِالْبُنُوَّةِ، فَإِنْ شَارَكَهَا فِي نَسَبٍ كَابْنٍ هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمِّهَا فَلَهُ الْوِلاَيَةُ بِذَلِكَ وَلاَ تَمْنَعُهُ الْبُنُوَّةُ التَّزْوِيجَ بِالْجِهَةِ الأُْخْرَى، لأَِنَّهَا غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لاَ مَانِعَةٌ، فَإِذَا وُجِدَ مَعَهَا سَبَبٌ آخَرُ يَقْتَضِي الْوِلاَيَةَ لَمْ تَمْنَعْهُ.
وَمَنْ لاَ عَصَبَةَ لَهَا بِنَسَبٍ وَعَلَيْهَا وَلاَءٌ فَيُنْظَرُ: إِنْ أَعْتَقَهَا رَجُلٌ فَوِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْوِلاَيَةِ فَلِعَصَبَاتِهِ، ثُمَّ لِمُعْتِقِهِ، ثُمَّ لِعَصَبَاتِ مُعْتِقِهِ، وَهَذَا عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الإِْرْثِ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي تَزْوِيجِ السُّلْطَانِ، هَل يُزَوِّجُ بِالْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الإِْمَامُ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْخِلاَفِ: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْقَاضِي نِكَاحَ مَنْ غَابَ عَنْهَا وَلِيُّهَا، إِنْ قُلْنَا بِالْوِلاَيَةِ زَوَّجَهَا أَحَدُ نُوَّابِهِ أَوْ قَاضٍ آخَرُ، أَوْ بِالنِّيَابَةِ لَمْ يَجُزْ.

(41/278)


وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهَا وَلِيَّانِ، وَالأَْقْرَبُ غَائِبٌ، إِنْ قُلْنَا يُزَوِّجُ بِالْوِلاَيَةِ قُدِّمَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُ، أَوْ بِالنِّيَابَةِ فَلاَ، وَأَفْتَى الْبَغَوِيُّ بِالأَْوَّل وَكَلاَمُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ يَقْتَضِيهِ، وَصَحَّحَ الإِْمَامُ فِيمَا إِذَا زَوَّجَ لِلْغَيْبَةِ أَنَّهُ يُزَوِّجُ بِنِيَابَةٍ اقْتَضَتْهَا الْوِلاَيَةُ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهَذَا أَوْجَهُ (1) .
95 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَحَقُّ النَّاسِ فِي وِلاَيَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ أَبُوهَا، لأَِنَّ الْوَلَدَ مَوْهُوبٌ لأَِبِيهِ، قَال تَعَالَى {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى (2) } ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ " (3) ، وَإِثْبَاتُ وِلاَيَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى الْهِبَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَلأَِنَّ الأَْبَ أَكْمَل شَفَقَةً وَأَتَمُّ نَظَرًا، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ لأَِنَّ الْجَدَّ لَهُ إِيلاَدٌ وَتَعْصِيبٌ فَأَشْبَهَ الأَْبَ، وَأَوْلَى الأَْجْدَادِ أَقْرَبُهُمْ كَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ ابْنُ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهَا وَإِنْ سَفَل، ثُمَّ أَخُوهَا لأَِبَوَيْهَا كَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ أَخُوهَا لأَِبِيهَا كَالإِْرْثِ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ فَيُقَدَّمُ ابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ عَلَى ابْنِ الأَْخِ لأَِبٍ،
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 151 - 153، وروضة الطالبين 7 / 59 - 60.
(2) سورة الأنبياء / 90.
(3) حديث " أنت ومالك ملك لأبيك ". أخرجه أبو داود (3 / 801 - حمص) من حديث عبد الله بن عمرو وقال المنذري في مختصر السنن (5 / 183 نشر دار المعرفة) : رجال إسناده ثقات

(41/279)


ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ وَإِنْ نَزَلُوا، ثُمَّ الْعَمُّ لأَِبَوَيْنِ، ثُمَّ الْعَمُّ لأَِبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، وَإِنْ نَزَلُوا الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، لأَِنَّ الْوِلاَيَةَ مَبْنَاهَا عَلَى النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ، وَمَظِنَّةُ ذَلِكَ الْقَرَابَةُ، وَالأَْحَقُّ بِالْمِيرَاثِ هُوَ الأَْقْرَبُ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِالْوِلاَيَةِ.
وَتَكُونُ الْوِلاَيَةُ بَعْدَ عَصَبَةِ النَّسَبِ لِلْمَوْلَى الْمُنْعِمِ بِالْعِتْقِ لأَِنَّهُ يَرِثُهَا وَيَعْقِل عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِ عَصَبَتِهَا مِنَ النَّسَبِ فَيَكُونُ لَهُ تَزْوِيجُهَا، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَاتِهِ فَأَقْرَبُهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ، ثُمَّ مَوْلَى الْمَوْلَى، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ كَذَلِكَ، وَيُقَدَّمُ هُنَا ابْنُهُ وَإِنْ نَزَل عَلَى أَبِيهِ لأَِنَّهُ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ وَأَقْوَى فِي التَّعْصِيبِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الأَْبُ فِي النَّسَبِ بِزِيَادَةِ شَفَقَتِهِ وَفَضِيلَةِ وِلاَدَتِهِ وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي أَبِي الْمُعْتِقِ فَرَجَعَ فِيهِ إِلَى الأَْصْل.
ثُمَّ تَكُونُ وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ لِلسُّلْطَانِ، وَهُوَ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ الْحَاكِمُ وَمَنْ فَوَّضَا إِلَيْهِ الأَْنْكِحَةَ، وَلَوْ كَانَ الإِْمَامُ أَوِ الْحَاكِمُ مِنْ بُغَاةٍ إِذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى بَلَدٍ لأَِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ سُلْطَانِهِمْ وَقَاضِيهِمْ مَجْرَى حُكْمِ الإِْمَامِ وَقَاضِيهِ.
وَلاَ وِلاَيَةَ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ مِنَ الأَْقَارِبِ كَالأَْخِ لأُِمٍّ وَالْخَال وَعَمِّ الأُْمِّ وَأَبِيهَا وَنَحْوِهِمْ، لأَِنَّ مَنْ لاَ يُعَصِّبُهَا شَبِيهٌ بِالأَْجْنَبِيِّ مِنْهَا.

(41/279)


فَإِنْ عُدِمَ الْوَلِيُّ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، أَوْ عَضَل وَلِيُّهَا وَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، زَوَّجَهَا ذُو سُلْطَانٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَوَالِي الْبَلَدِ أَوْ كَبِيرِهِ أَوْ أَمِيرِ الْقَافِلَةِ وَنَحْوِهِ لأَِنَّ لَهُ سَلْطَنَةً، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذُو سُلْطَانٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ زَوَّجَهَا عَدْلٌ بِإِذْنِهَا، قَال أَحْمَدُ فِي دِهْقَانِ قَرْيَةٍ (1) أَيْ رَئِيسِهَا: يُزَوِّجُ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهَا إِذَا احْتَاطَ لَهَا فِي الْكُفْءِ وَالْمَهْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرُّسْتَاقِ قَاضٍ، لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الْوِلاَيَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَمْنَعُ النِّكَاحَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَجُزْ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَلِيِّ عَصَبَةً فِي حَقِّ مَنْ لاَ عَصَبَةَ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ حَاكِمٌ وَأَبَى التَّزْوِيجَ إِلاَّ بِظُلْمٍ كَطَلَبِهِ جُعْلاً لاَ يَسْتَحِقُّهُ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ (2)

انْتِقَال الْوِلاَيَةِ بِالْعَضْل:
96 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الْعَضْل مِنَ الْوَلِيِّ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَمَرَ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ بِالتَّزْوِيجِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَضْل بِسَبَبٍ مَعْقُولٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ وَانْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَنْتَقِل إِلَيْهِ الْوِلاَيَةُ
__________
(1) الدهقان: يطلق على رئيس القرية وعلى التاجر وعلى من له مال وعقار.
(2) كشاف القناع 5 / 50 - 52.

(41/280)


حِينَئِذٍ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِل إِلَى السُّلْطَانِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِل إِلَى الْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ عَضَل انْتَقَلَتْ إِلَى السُّلْطَانِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَضَل ف 5) .

غَيْبَةُ الْوَلِيِّ:
97 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَقَاءِ وِلاَيَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَلِيِّ هَل تَكُونُ لِلْحَاكِمِ أَمْ لِلْوَلِيِّ الأَْبْعَدِ؟ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يَتَقَدَّمُ الأَْقْرَبُ عَلَى الأَْبْعَدِ إِذَا كَانَ الأَْقْرَبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَلِلأَْبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ لاَ وِلاَيَةَ لِلأَْبْعَدِ بَعْدَ قِيَامِ الأَْقْرَبِ بِحَالٍ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي زَوَال وِلاَيَةِ الأَْقْرَبِ بِالْغَيْبَةِ أَوْ عَدَمِ زَوَالِهَا، فَقَال بَعْضُهُمْ إِنَّهَا بَاقِيَةٌ إِلاَّ إِنْ حَدَثَتْ لِلأَْبْعَدِ وِلاَيَةٌ لِغَيْبَةِ الأَْقْرَبِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ لَهَا وَلِيَّيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ، كَالأَْخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: تَزُول وِلاَيَتُهُ وَتَنْتَقِل إِلَى الأَْبْعَدِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ.
وَاسْتَدَل لِزُفَرَ بِأَنَّ وِلاَيَةَ الأَْقْرَبِ قَائِمَةٌ لِقِيَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ، وَلِهَذَا

(41/280)


لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ يَجُوزُ، فَقِيَامُ وِلاَيَتِهِ يَمْنَعُ الاِنْتِقَال إِلَى غَيْرِهِ.
وَاسْتَدَل الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلاَيَةِ لِلأَْبْعَدِ زِيَادَةُ نَظَرٍ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلاَيَةُ، كَمَا فِي الأَْبِ مَعَ الْجَدِّ إِذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ، وَلأَِنَّ الأَْبْعَدَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْصِيل النَّظَرِ لِلْعَاجِزِ، لأَِنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ مُضَمَّنَةٌ تَحْتَ الْكَفَاءَةِ وَالْمَهْرِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ الأَْبْعَدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِحْرَازِ الْكُفْءِ الْحَاضِرِ بِحَيْثُ لاَ يَفُوتُهُ غَالِبًا، وَالأَْقْرَبُ الْغَائِبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِحْرَازِهِ غَالِبًا، لأَِنَّ الْكُفْءَ الْحَاضِرَ لاَ يَنْتَظِرُ حُضُورَهُ وَاسْتِطْلاَعَ رَأْيِهِ غَالِبًا، وَكَذَا الْكُفْءُ الْمُطْلَقُ، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تُخْطَبُ حَيْثُ هِيَ عَادَةً، فَكَانَ الأَْبْعَدُ أَقْدَرَ عَلَى إِحْرَازِ الْكُفْءِ مِنَ الأَْقْرَبِ، فَكَانَ أَقْدَرَ عَلَى إِحْرَازِ النَّظَرِ، فَكَانَ أَوْلَى بِثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ لَهُ، إِذِ الْمَرْجُوحُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي الأَْحْكَامِ كَمَا فِي الأَْبِ مَعَ الْجَدِّ.
98 - وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ: فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، قَال فِي رِوَايَةٍ: مَا بَيْنَ بَغْدَادَ وَالرَّيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصَاعِدًا وَمَا دُونَهُ لَيْسَ بِغَيْبَةٍ مُنْقَطِعَةٍ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ أَيْضًا، فَرُوِيَ عَنْهُ: مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ إِلَى الرَّيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ: مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ: إِذَا كَانَ غَائِبًا فِي

(41/281)


مَوْضِعٍ لاَ تَصِل إِلَيْهِ الْقَوَافِل وَالرُّسُل فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَغَيْبَتُهُ مُنْقَطِعَةٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْقَوَافِل تَصِل إِلَيْهِ فِي السَّنَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْل الْبُخَارِيُّ: إِنْ كَانَ الأَْقْرَبُ فِي مَوْضِعٍ يُفَوِّتُ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ بِاسْتِطْلاَعِ رَأْيِهِ فَغَيْبَتُهُ مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُفَوِّتُ فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْفِقْهِ لأَِنَّ التَّعْوِيل فِي الْوِلاَيَةِ عَلَى تَحْصِيل النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ (1)
99 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ فُقِدَ الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ أَوْ أُسِرَ فَكَمَوْتِهِ يُنْقَل الْحَقُّ لِلْوَلِيِّ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ دُونَ الْحَاكِمِ، فَلاَ كَلاَمَ لِلْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ، قَالَهُ الْمُتَيْطِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَذَلِكَ لِتَنْزِيل الأَْسْرِ وَالْفَقْدِ مَنْزِلَةَ الْمَوْتِ بِخِلاَفِ بَعِيدِ الْغَيْبَةِ فَإِنَّ حَيَاتَهُ مَعْلُومَةً، وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ كَذِي الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ يُزَوِّجُ الْحَاكِمُ دُونَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ هُوَ الْمَذْهَبَ، قَال الصَّاوِيُّ: وَلِذَلِكَ صَوَّبَهُ بَعْضُ الْمُوَثَّقِينَ قَائِلاً: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْفَقْدِ وَالأَْسْرِ وَبُعْدِ الْغَيْبَةِ؟
وَإِنْ غَابَ الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ غَيْبَةً بَعِيدَةً كَإِفْرِيقِيَّةَ مِنْ مِصْرَ، وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ لأَِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ كَانَ بِهَا وَبَيْنَهُمَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، وَقَال
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 250، 251.

(41/281)


الأَْكْثَرُ: مِنَ الْمَدِينَةِ لأَِنَّ مَالِكًا كَانَ بِهَا وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ - وَلَمْ يُرْجَ قُدُومُهُ عَنْ قُرْبٍ - فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يُزَوِّجُهَا بِإِذْنِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ - إِذَا كَانَتْ بَالِغًا أَوْ خِيفَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ - وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْطِنِ الْوَلِيُّ الْغَائِبُ، أَيْ لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ الاِسْتِيطَانَ بِهَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَتُئُوِّلَتْ أَيْضًا عَلَى الاِسْتِيطَانِ بِالْفِعْل وَلاَ تَكْفِي مَظِنَّتُهُ، فَعَلَيْهِ مَنْ خَرَجَ لِتِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا وَنِيَّتُهُ الْعَوْدُ فَلاَ يُزَوِّجُ الْحَاكِمُ ابْنَتَهُ وَلَوْ طَالَتْ إِقَامَتُهُ، إِلاَّ إِذَا خِيفَ فَسَادُهَا، أَوْ قَصَدَ بِغَيْبَتِهِ الإِْضْرَارَ بِهَا، فَإِنْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ كَتَبَ لَهُ الْحَاكِمُ إِمَّا أَنْ تَحْضُرَ وَتُزَوِّجَهَا أَوْ تُوَكِّل وَكِيلاً يُزَوِّجُهَا عَنْكَ وَإِلاَّ زَوَّجْنَاهَا عَلَيْكَ، فَإِنْ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ وَلاَ فَسْخَ كَمَا قَال الرَّجْرَاجِيُّ.
وَإِنَّمَا كَانَ الأَْمْرُ لِلْحَاكِمِ دُونَ غَيْرِهِ لأَِنَّ الْحَاكِمَ وَلِيُّ الْغَائِبِ وَهُوَ مُجْبِرٌ لاَ كَلاَمَ لِغَيْرِهِ مَعَهُ.
وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ الْغَائِبُ غَيْبَةً بَعِيدَةً مَرْجُوَّ الْقُدُومِ كَالتُّجَّارِ فَلاَ يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ وَلاَ غَيْرُهُ.
وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ غَيْرُ الْمُجْبِرِ غَيْبَةً مَسَافَتُهَا مِنْ بَلَدِ الْمَرْأَةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَنَحْوُهَا وَأَرَادَتِ التَّزْوِيجَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُزَوِّجُهَا لاَ الأَْبْعَدُ، وَلَوْ زَوَّجَهَا الأَْبْعَدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَحَّ، فَإِنْ كَانَ الْغَائِبُ عَلَى الأَْقَل مِنَ الثَّلاَثَةِ كَتَبَ لَهُ إِمَّا أَنْ يَحْضُرَ أَوْ يُوَكِّل وَإِلاَّ زَوَّجَ

(41/282)


الْحَاكِمُ لأَِنَّهُ وَكِيل الْغَائِبِ، فَإِنْ زَوَّجَ الأَْبْعَدُ صَحَّ لأَِنَّهَا غَيْرُ مُجْبَرَةٍ.
وَإِنْ غَابَ الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ غَيْبَةً قَرِيبَةً كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا، مَعَ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَسُلُوكِهَا، لَمْ يُزَوِّجِ الْمُجْبَرَةَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُهُ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، لإِِمْكَانِ إِيصَال الْخَبَرِ إِلَيْهِ بِلاَ كَبِيرِ مَشَقَّةٍ، وَفُسِخَ إِنْ وَقَعَ، إِلاَّ إِذَا خِيفَتِ الطَّرِيقُ وَخِيفَ عَلَيْهَا ضَيَاعٌ أَوْ فَسَادٌ فَكَالْبَعِيدَةِ يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِلاَّ فُسِخَ (1) .
100 - وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ غَابَ الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ نَسَبًا أَوْ وَلاَءً إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ وَلاَ وَكِيل لَهُ بِالْبَلَدِ أَوْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ زَوَّجَ الْمَرْأَةَ سُلْطَانُ بَلَدِهَا أَوْ نَائِبُهُ، لاَ سُلْطَانُ غَيْرِ بَلَدِهَا وَلاَ الْوَلِيُّ الأَْبْعَدُ عَلَى الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْغَائِبَ وَلِيٌّ وَالتَّزْوِيجُ حَقٌّ لَهُ فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ نَابَ عَنْهُ الْحَاكِمُ، وَقِيل: يُزَوِّجُ الأَْبْعَدُ، قَال الشَّيْخَانِ: وَالأَْوْلَى لِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لِلأَْبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَ أَوْ يَسْتَأْذِنَهُ فَيُزَوِّجُ الْقَاضِي لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ.
وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الأَْقْرَبُ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ لاَ يُزَوِّجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فِي الأَْصَحِّ لِقِصَرِ الْمَسَافَةِ، فَيُرَاجَعُ فَيَحْضُرُ أَوْ يُوَكِّل كَمَا لَوْ كَانَ مُقِيمًا، وَالثَّانِي: يُزَوِّجُ لِئَلاَّ تَتَضَرَّرَ بِفَوَاتِ الْكُفْءِ الرَّاغِبِ كَالْمَسَافَةِ الطَّوِيلَةِ.
__________
(1) الشرح الصغير والصاوي 2 / 364 - 366.

(41/282)


وَعَلَى الأَْوَّل لَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُول إِلَيْهِ لِفِتْنَةٍ أَوْ خَوْفٍ جَازَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُزَوِّجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟ قَالَهُ الرُّويَانِيُّ، قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ فِي سِجْنِ السُّلْطَانِ وَتَعَذَّرَ الْوُصُول إِلَيْهِ أَنَّ الْقَاضِيَ يُزَوِّجُ.
وَيُزَوِّجُ الْقَاضِي أَيْضًا عَنِ الْمَفْقُودِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلاَ مَوْتُهُ وَلاَ حَيَاتُهُ، لِتَعَذُّرِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ مَا إِذَا عَضَل، هَذَا إِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ وَإِلاَّ زَوَّجَهَا الأَْبْعَدُ.
وَلِلْقَاضِي التَّعْوِيل عَلَى دَعْوَاهَا غَيْبَةَ وَلِيِّهَا وَأَنَّهَا خَلِيَّةٌ عَنِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ، لأَِنَّ الْعُقُودَ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى قَوْل أَرْبَابِهَا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِذَلِكَ، وَلاَ يُقْبَل فِيهَا إِلاَّ شَهَادَةُ مُطَّلِعٍ عَلَى بَاطِنِ أَحْوَالِهَا.
وَلَوْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لِغَيْبَةِ وَلِيِّهَا ثُمَّ قَدِمَ وَقَال: كُنْتُ زَوَّجْتُهَا فِي الْغَيْبَةِ، قُدِّمَ نِكَاحُ الْحَاكِمِ (1) .
101 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ غَابَ الْوَلِيُّ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يُوَكِّل مَنْ يُزَوِّجُ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الأَْبْعَدُ دُونَ السُّلْطَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ " (2) وَهَذِهِ لَهَا وَلِيٌّ، مَا لَمْ تَكُنْ أَمَةً فَيُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ لأَِنَّ لَهُ نَظَرًا فِي مَال الْغَائِبِ.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 157.
(2) حديث: " السلطان ولي من لا ولي له ". سبق تخريجه ف (78)

(41/283)


وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ هِيَ مَا لاَ تُقْطَعُ إِلاَّ بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ، قَال الْمُوَفَّقُ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ، فَإِنَّ التَّحْدِيدَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ وَلاَ تَوْقِيفَ.
وَإِنْ كَانَ الأَْقْرَبُ أَسِيرًا أَوْ مَحْبُوسًا فِي مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ لاَ تُمْكِنُ مُرَاجَعَتُهُ أَوْ تَتَعَذَّرُ أَيْ تَتَعَسَّرُ مُرَاجَعَتُهُ فَزَوَّجَ َالأَْبْعَدُ صَحَّ، أَوْ كَانَ الأَْقْرَبُ غَائِبًا لاَ يُعْلَمُ مَحَلُّهُ أَقَرِيبٌ هُوَ أَمْ بَعِيدٌ فَزَوَّجَ الأَْبْعَدُ صَحَّ، أَوْ عُلِمَ أَنَّ الأَْقْرَبَ قَرِيبُ الْمَسَافَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ فَزَوَّجَ الأَْبْعَدُ صَحَّ لِتَعَذُّرِ مُرَاجَعَتِهِ، أَوْ كَانَ الأَْقْرَبُ مَجْهُولاً لاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ عَصَبَةٌ لِلْمَرْأَةِ فَزَوَّجَ الأَْبْعَدُ الَّذِي يَلِيهِ صَحَّ التَّزْوِيجُ اسْتِصْحَابًا لِلأَْصْل، ثُمَّ إِنْ عُلِمَ الْعَصَبَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَكَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ حِينَهُ لَمْ يُعِدِ الْعَقْدَ.
وَإِذَا زَوَّجَ الأَْبْعَدُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِلأَْقْرَبِ إِلَيْهَا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَلَوْ أَجَازَهُ الأَْقْرَبُ، لأَِنَّ الأَْبْعَدَ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ مَعَ الأَْقْرَبِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ زَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ.
وَإِذَا زَوَّجَ أَجْنَبِيٌّ وَلَوْ حَاكِمًا مَعَ وُجُودِ وَلِيٍّ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَلَوْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ، لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْوَلِيُّ (1) .

تَزْوِيجُ وَلِيَّيْنِ امْرَأَةً لأَِكْثَرَ مِنْ رَجُلٍ:
102 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ مُسْتَوِيَانِ فِي وِلاَيَةِ التَّزْوِيجِ لِرَجُلَيْنِ،
__________
(1) كشاف القناع 5 / 55، 56.

(41/283)


وَعُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَالنِّكَاحُ لَهُ، وَعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلٌ، لِحَدِيثِ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلأَْوَّل مِنْهُمَا " (1) ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ مَعًا بَطَلاَ لِتَعَذُّرِ تَصْحِيحِهِمَا وَلِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً فِيمَا يَلِي تَفْصِيلُهَا.
103 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ زَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَلِيَّانِ مُسْتَوِيَانِ فِي الْقَرَابَةِ كَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ وَعُلِمَ السَّابِقُ مِنَ الْعَقْدَيْنِ قُدِّمَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالأَْوَّل أَحَقُّ " (2) ، وَلأَِنَّهُ لَمَّا سَبَقَ فَقَدْ صَحَّ فَلاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الثَّانِي، لأَِنَّ سَبَبَ الْوِلاَيَةِ الْقَرَابَةُ وَهِيَ لاَ تَتَجَزَّأُ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْعَقْدِ - وَهُوَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ - لاَ يَتَجَزَّأُ، لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّجَزُّئُ فِي الْفُرُوجِ.
__________
(1) حديث: " أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما ". أخرجه أحمد (5 / 8، 18 ط الميمنية) من حديث سمرة بن جندب، وتوقف ابن حجر في التلخيص (3 / 165 - ط شركة الطباعة الفنية) في تصحيحه على إثبات سماع راويه عن سمرة، وعلى الاختلاف في إسناده
(2) حديث: " إذا أنكح الوليان فالأول أحق ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7 / 141 ط دائرة المعارف) من حديث سمرة بن جندب، أو عقبة بن عامر، وأشار ابن حجر في التلخيص (3 / هـ 16 ط شركة الطباعة الفنية) إلى إعلاله

(41/284)


وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ السَّابِقُ مِنَ الْعَقْدَيْنِ، أَوْ وَقَعَا مَعًا بَطَلاَ، لِجَهْل الصَّحِيحِ وَهُوَ السَّابِقُ مِنَ الْعَقْدَيْنِ، وَلِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا.
وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ أَقْرَبَ مِنَ الآْخَرِ فَلاَ وِلاَيَةَ لِلأَْبْعَدِ مَعَ الأَْقْرَبِ إِلاَّ إِنْ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَنِكَاحُ الأَْبْعَدِ يَجُوزُ إِذَا وَقَعَ قَبْل عَقْدِ الأَْقْرَبِ، نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ.
وَلَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ، بِأَمْرِهَا مِنْ رَجُلٍ، وَزَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ آخَرَ، فَأَيُّهُمَا قَالَتْ هُوَ الأَْوْلَى فَالْقَوْل لَهَا وَهُوَ الزَّوْجُ، لأَِنَّهَا أَقَرَّتْ لِمِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِقْرَارُهَا حُجَّةٌ ثَابِتَةٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَالَتْ لاَ أَدْرِي الأَْوَّل وَلاَ يُعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ بِأَمْرِهَا (1) .
104 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَذِنَتِ الْمَرْأَةُ غَيْرُ الْمُجْبَرَةِ فِي تَزْوِيجِهَا لِوَلِيَّيْنِ - أَوْ أَكْثَرَ - مَعًا أَوْ مَرَّتَبَيْنِ فَعَقَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى رَجُلٍ مَعَ التَّرْتِيبِ وَعُلِمَ الأَْوَّل مِنْهُمَا وَالثَّانِي، فَلِلأَْوَّل مِنْهُمَا يُقْضَى لَهُ بِهَا - وَإِنْ تَأَخَّرَ الإِْذْنُ لَهُ - دُونَ الثَّانِي فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ تَزَوَّجَ ذَاتَ زَوْجٍ وَهُوَ الأَْوَّل، وَيُفْسَخُ عَقْدُ الثَّانِي، وَمَحَل كَوْنِهَا لِلأَْوَّل إِنْ لَمْ يَتَلَذَّذْ بِهَا الثَّانِي حَال كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَقْدِ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 314، والاختيار 3 / 97، وبدائع الصنائع 2 / 251.

(41/284)


غَيْرِهِ عَلَيْهَا قَبْلَهُ، فَإِنْ تَلَذَّذَ الثَّانِي - فِي هَذِهِ الْحَال - فَهِيَ لَهُ دُونَ الأَْوَّل، وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ: أَنْ يَتَلَذَّذَ بِهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ ثَانٍ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ عَقْدُ الثَّانِي فِي عِدَّةِ وَفَاةِ الأَْوَّل، وَأَنْ لاَ يَسْبِقَهُ الأَْوَّل بِالتَّلَذُّذِ بِهَا.
وَفَسْخُ نِكَاحِهِمَا مَعًا بِلاَ طَلاَقٍ إِنْ عَقَدَا بِزَمَنٍ وَاحِدٍ تَحْقِيقًا أَوْ شَكًّا، دَخَلاَ أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ لاَ.
وَكَذَا يُفْسَخُ نِكَاحُ الثَّانِي فَقَطْ بِلاَ طَلاَقٍ لأَِجْل بَيِّنَةٍ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَقَرَّ قَبْل الدُّخُول أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ ثَانٍ، وَالْحَال أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ وَعُلِمَ الأَْوَّل وَالثَّانِي.
أَمَّا إِنْ أَقَرَّ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُول بِأَنَّهُ دَخَل عَالِمًا بِأَنَّهُ ثَانٍ فَيُفْسَخُ نِكَاحُهُ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ لاِحْتِمَال كَذِبِهِ وَأَنَّهُ دَخَل غَيْرَ عَالِمٍ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وَلاَ تَكُونُ لِلأَْوَّل.
وَكَذَا يُفْسَخُ النِّكَاحَانِ بِطَلاَقٍ إِنْ تَحَقَّقَ وُقُوعُهُمَا فِي زَمَانَيْنِ وَجُهِل تَقَدُّمُ زَمَنِ عَقْدِ أَحَدِهِمَا عَلَى زَمَنِ عَقْدِ الآْخَرِ إِذَا لَمْ يَدْخُلاَ، أَوْ دَخَلاَ مَعًا وَلَمْ يُعْلَمِ الأَْوَّل وَإِلاَّ كَانَتْ لَهُ، فَإِنْ دَخَل أَحَدُهُمَا فَهِيَ لَهُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ثَانٍ (1) .
105 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَذِنَتِ الْمَرْأَةُ لأَِحَدِ الْوَلِيَّيْنِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِزَيْدٍ وَلِلآْخَرِ أَنْ يُزَوِّجَهَا
__________
(1) الشرح الصغير والصاوي 2 / 378 - 382، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 235.

(41/285)


بِعَمْرٍو، وَأَطْلَقَتِ الإِْذْنَ، وَصَحَّحْنَاهُ، فَزَوَّجَ وَاحِدٌ زَيْدًا وَالآْخَرُ عَمْرًا، أَوْ وَكَّل الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ رَجُلاً فَزَوَّجَ الْوَلِيُّ زَيْدًا وَالْوَكِيل عَمْرًا، أَوْ وَكَّل رَجُلَيْنِ فَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا زَيْدًا وَالآْخَرُ عَمْرًا، فَلِلْمَسْأَلَةِ خَمْسُ صُوَرٍ:

إِحْدَاهَا: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ النِّكَاحَيْنِ وَنَعْلَمُهُ، فَهُوَ الصَّحِيحُ وَالثَّانِي بَاطِلٌ، سَوَاءٌ أَدَخَل الثَّانِي أَمْ لاَ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ السَّبْقُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ التَّصَادُقِ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَا مَعًا، فَبَاطِلاَنِ.

الثَّالِثَةُ: إِذَا لَمْ يُعْلَمِ السَّبْقُ وَالْمَعِيَّةُ وَأَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهِمَا، فَبَاطِلاَنِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الصِّحَّةِ، كَذَا أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ، وَنَقَل الإِْمَامُ وَغَيْرُهُ وَجْهًا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ فَسْخٍ لاِحْتِمَال السَّبْقِ.

الرَّابِعَةُ: أَنْ يَسْبِقَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ يَخْفَى، فَيُتَوَقَّفُ حَتَّى يُبَيَّنَ، وَلاَ يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا، وَلاَ لِثَالِثٍ نِكَاحُهَا إِلاَّ أَنْ يُطَلِّقَاهَا أَوْ يَمُوتَا أَوْ يُطَلِّقَ أَحَدُهُمَا وَيَمُوتَ الآْخَرُ وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِ آخِرِهِمَا.

الْخَامِسَةُ: إِذَا عُلِمَ سَبْقُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَعَيَّنْ، بِأَنْ أُيِسَ مِنْ تَعْيِينِهِ وَلَمْ تُرْجَ مَعْرِفَتُهُ، فَبَاطِلاَنِ عَلَى الْمَنْصُوصِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا لَوِ احْتُمِل السَّبْقُ وَالْمَعِيَّةُ لِتَعَذُّرِ الإِْمْضَاءِ لَعَمَّ تَعْيِينُهُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا هَذَا

(41/285)


- أَيْ بَاطِلاَنِ - وَالثَّانِي مُخَرَّجٌ مِنْ نَظِيرِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجُمُعَتَيْنِ أَنَّهُ يُوقَفُ الأَْمْرُ حَتَّى يَتَعَيَّنَ، فَإِنْ رُجِيَ مَعْرِفَتُهُ وَجَبَ التَّوَقُّفُ (1) .
106 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا زَوَّجَ وَلِيَّانِ مُسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَةِ اثْنَيْنِ، وَعُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَالنِّكَاحُ لَهُ وَعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلٌ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ وَعُقْبَةَ مَرْفُوعًا: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلأَْوَّل مِنْهُمَا " (2) ، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ الأَْوَّل خَلاَ عَنْ مُبْطِلٍ، وَالثَّانِي تَزَوَّجَ زَوْجَةَ غَيْرِهِ فَكَانَ بَاطِلاً كَمَا لَوْ عَلِمَ.
فَإِنْ دَخَل بِهَا الثَّانِي وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِبُطْلاَنِ نِكَاحِهِ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ فَهُوَ وَطْءُ شُبْهَةٍ، يَجِبُ لَهَا بِهِ مَهْرُ الْمِثْل، وَتُرَدُّ لِلأَْوَّل لأَِنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَلاَ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ وَطْءِ الثَّانِي لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْهُ، وَلاَ تَرُدُّ الصَّدَاقَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الدَّاخِل بِهَا وَهُوَ الثَّانِي عَلَى الزَّوْجِ الأَْوَّل الَّذِي دَفَعَتْ إِلَيْهِ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي بُضْعِهَا فَلاَ يَمْلِكُ عِوَضَهُ، وَلاَ يَحْتَاجُ النِّكَاحُ الثَّانِي إِلَى فَسْخٍ لأَِنَّهُ بَاطِلٌ.
وَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهُمَا
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 88 - 89، ومغني المحتاج 3 / 16.
(2) حديث: أيما امرأة زوجها. . ". سبق تخريجه ف (102)

(41/286)


بَاطِلاَنِ مِنْ أَصْلِهِمَا، وَلاَ يَحْتَاجَانِ إِلَى فَسْخٍ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُمَا وَلاَ مُرَجِّحَ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، وَلاَ مَهْرَ لَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا وَلاَ يَرِثَانِهَا وَلاَ تَرِثُهُمَا، لأَِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، وَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَإِنْ جُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا، أَوْ جُهِل السَّبْقُ بِأَنْ جُهِل هَل وَقَعَا مَعًا أَوْ مُرَتَّبَيْنِ، أَوْ عُلِمَ عَيْنُ السَّابِقِ مِنَ الْعَقْدَيْنِ ثُمَّ نُسِيَ، أَوْ عُلِمَ السَّبْقُ وَجُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا فَسَخَهُمَا حَاكِمٌ، لأَِنَّ أَحَدَهُمَا صَحِيحٌ وَلاَ طَرِيقَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ يَقْتَرِعَانِ عَلَيْهِ، فَمَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ غَرِمَهُ، لأَِنَّ عَقْدَ أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ، وَقَدِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الزَّوْجَةِ قَبْل الدُّخُول فَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَاهَا (1) .

الْوَكِيل فِي النِّكَاحِ:
الْوَكِيل فِي النِّكَاحِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً عَنِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوِ الْوَلِيِّ.

أ - تَوْكِيل الزَّوْجِ غَيْرَهُ فِي النِّكَاحِ:
107 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيل فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الرَّجُل.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 59، 60

(41/286)


وَكَّل أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ (1) وَوَكَّل عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ فِي تَزْوِيجِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ (2) ، وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ التَّوْكِيل فِيهِ كَالْبَيْعِ (3) .
108 - وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيل: قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيل أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل.
وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِل وَالْعَبْدِ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ، لِمَا وَرَدَ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ وَلاَ غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لاِبْنِهَا عَمْرِو بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَمْرُو قُمْ فَزَوِّجْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) ، وَكَانَ صَبِيًّا،
__________
(1) حديث: " أنه وكل أبا رافع. . . ". سبق تخريجه (ف 65)
(2) حديث: " وكل عمرو بن أمية في تزويجه. . . ". سبق تخريجه (ف 65) .
(3) المغني 6 / 462 ط الرياض.
(4) حديث: " لما خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم سلمة. . . ". أخرجه النسائي (6 / 81، 82 ط التجارية الكبرى) ، والحاكم (4 / 16، 17 ط دائرة المعارف) من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وقال الحاكم: صحيح، ووافقه الذهبي

(41/287)


وَالاِعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لأَِنَّ الْعَقْل شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدِ انْعَدَمَ الْعَقْل فِي الْمَجْنُونِ، وَوُجِدَ هُنَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِل، فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ، إِلاَّ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إِلَى الْمُوَكَّل (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ لِلزَّوْجِ إِذَا وَكَّل مَنْ يَعْقِدُ لَهُ أَنْ يُوَكِّل ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ رَقِيقًا، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا إِلاَّ الْمُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَإِلاَّ ضَعِيفَ الْعَقْل أَوْ فَاقِدَهُ، فَلاَ يَصِحُّ لِلزَّوْجِ تَوْكِيل أَيٍّ مِنْهُمْ لِمَانِعِ الإِْحْرَامِ وَضَعْفِ الْعَقْل أَوْ عَدَمِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّل الزَّوْجُ فِي النِّكَاحِ مَنْ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ النِّكَاحَ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يَصِحُّ تَوْكِيل صَبِيٍّ وَلاَ مَجْنُونٍ وَلاَ مُغْمًى عَلَيْهِ وَلاَ امْرَأَةٍ وَلاَ مُحْرِمٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لأَِنَّ تَصَرُّفَ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ لَهُ بِطَرِيقِ الأَْصَالَةِ، وَلِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَْقْوَى فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الأَْضْعَفِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُوَكِّل مَنْ يَقْبَل لَهُ النِّكَاحُ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّل أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ، وَوَكَّل عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي تَزْوِيجِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ.
__________
(1) البدائع 6 / 20، 21.
(2) الشرح الصغير 2 / 372.
(3) مغني المحتاج 2 / 218، 3 / 158.

(41/287)


وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي وَكِيل الزَّوْجِ عَدَالَتُهُ فَيَصِحُّ تَوْكِيل فَاسِقٍ فِي قَبُولِهِ لأَِنَّ الْفَاسِقَ يَصِحُّ قَبُولُهُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ فَصَحَّ قَبُولُهُ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ وَكَّل مُسْلِمٌ نَصْرَانِيًّا فِي قَبُول نِكَاحِ نَصْرَانِيَّةٍ لِصِحَّةِ قَبُول ذَلِكَ لِنَفْسِهِ (1) .

ب - تَوْكِيل الْمَرْأَةِ مَنْ يُزَوِّجُهَا:
109 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَوْكِيل الْمَرْأَةِ مَنْ يُزَوِّجُهَا.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبَاشِرَ عَقْدَ الزَّوَاجِ، سَوَاءٌ أَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا، أَمْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا، فَلَهَا أَنْ تُوَكِّل مَنْ يُزَوِّجُهَا، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُوَكِّل أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْل مَا وَكَّل بِهِ بِنَفْسِهِ، فَمَا لاَ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ لاَ يَحْتَمِل التَّفْوُيِضَ إِلَى غَيْرِهِ فَلاَ يَصِحُّ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَكَّلَتِ الدَّنِيئَةُ كَالْمُعْتَقَةِ وَالْمِسْكِينَةِ أَجْنَبِيًّا فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ سُلْطَانٌ أَوْ فِيهِ لَكِنْ يَعْسُرُ وُصُولُهَا إِلَيْهِ وَلاَ وَلِيَّ لَهَا جَازَ (3) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلِيَ عَقْدَ الزَّوَاجِ بِنَفْسِهَا سَوَاءٌ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَمْ غَيْرَهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُوَكِّل مَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ
__________
(1) الإنصاف 8 / 82 - 84، كشاف القناع 5 / 56، 57.
(2) البدائع 6 / 20.
(3) الزخيرة للقرافي 4 / 240.

(41/288)


زَوَاجِهَا لأَِنَّهَا لاَ تَمْلِكُ هَذَا الْحَقَّ، فَمَا لاَ تَمْلِكُهُ لاَ يَصِحُّ لَهَا أَنْ تُوَكِّل فِيهِ (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صُوَرًا تَتَعَلَّقُ بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ فِي زَوَاجِهَا:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَ مُجْبِرٍ أَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَفِي التَّوْكِيل صُوَرٌ:

إِحْدَاهُمَا: قَالَتْ: زَوِّجْنِي وَوَكِّل، فَلَهُ التَّزْوِيجُ وَالتَّوْكِيل.

الثَّانِيَةُ: نَهَتْ عَنِ التَّوْكِيل، فَلاَ يُوَكَّل.

الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: وَكِّل بِتَزْوِيجِي، وَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ، فَلَهُ التَّوْكِيل، وَهَل لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.

الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِي، فَلَهُ التَّوْكِيل عَلَى الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلاَيَةِ.
وَلَوْ وَكَّل مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَتِهَا وَاسْتِئْذَانِهَا بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمَرْأَةِ لأَِنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ وِلاَيَتُهُ مِنْ جِهَتِهَا، وَلَوْ كَانَ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 147، 157، 2 / 218، وعقد الجواهر الثمينة 2 / 13، والمغني 6 / 449.
(2) روضة الطالبين 7 / 72 - 73، ومغني المحتاج 3 / 157.

(41/288)


الْوَلِيُّ وَكِيلاً عَنْهَا لَتَمَكَّنَتْ مِنْ عَزْلِهِ كَسَائِرِ الْوُكَلاَءِ، وَإِنَّمَا إِذْنُهَا - حَيْثُ اعْتُبِرَ - شَرْطٌ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ أَشْبَهَ وِلاَيَةَ الْحَاكِمِ عَلَيْهَا، وَحَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ وَكِيلاً عَنْهَا فَلَهُ تَوْكِيل مَنْ يُوجِبُ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَقُبِل إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً، وَلاَ يَفْتَقِرُ تَوْكِيلُهُ إِلَى حُضُورِ شَاهِدَيْنِ لأَِنَّهُ إِذْنٌ مِنَ الْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ، فَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْمَرْأَةِ، وَلاَ الإِْشْهَادِ عَلَيْهِ، كَإِذْنِ الْحَاكِمِ.
وَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ امْرَأَةٍ غَيْرِ مُجْبَرَةٍ لِوَكِيل وَلِيِّهَا فِي التَّزْوِيجِ لأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنْ غَيْرِ مُجْبِرٍ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا يَثْبُتُ لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَلاَ يَكْفِي إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ وَكِيلٍ لَهَا وَإِذْنِهَا لَهُ بَعْدَ تَوْكِيلِهِ، وَلاَ يَكْفِي إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا بِتَوْكِيلٍ فِي التَّزْوِيجِ بِلاَ مُرَاجَعَةِ وَكِيلٍ لَهَا وَإِذْنِهَا لِلْوَكِيل فِي التَّزْوِيجِ بَعْدَ تَوْكِيلِهِ، لأَِنَّ الَّذِي يُعْتَبَرُ إِذْنُهَا فِيهِ لِلْوَكِيل هُوَ غَيْرُ مَا يُوَكَّل فِيهِ الْمُوَكَّل، فَهُوَ كَالْمُوَكَّل فِي ذَلِكَ، وَلاَ أَثَرَ لإِِذْنِهَا لَهُ قَبْل أَنْ يُوَكِّل الْوَلِيُّ، لأَِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ وَبَعْدَ تَوْكِيلِهِ كَوَلِيٍّ، قَال الْبُهُوتِيُّ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوِ انْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ لِلأَْبْعَدِ فَلاَ بُدَّ مِنْ مُرَاجَعَتِهِ لَهَا بَعْدَ انْتِقَال الْوِلاَيَةِ إِلَيْهِ.
وَلَوْ وَكَّل وَلِيُّ غَيْرِ مُجْبَرَةٍ فِي تَزْوِيجِهَا بِلاَ إِذْنِهَا، ثُمَّ أَذِنَتْ لِوَكِيل وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا فَزَوَّجَهَا صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَوْ لَمْ تَأْذَنْ لِلْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ أَوِ التَّوْكِيل، لِقِيَامِ وَكِيلِهِ مَقَامَهُ.
وَيَصِحُّ تَوْكِيل الْوَلِيِّ فِي إِيجَابِ النِّكَاحِ

(41/289)


تَوْكِيلاً مُطْلَقًا، وَإِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا فِي الْعَقْدِ إِذْنًا مُطْلَقًا، كَقَوْل الْمَرْأَةِ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْ مَنْ شِئْتَ أَوْ مَنْ تَرْضَاهُ.
وَيَتَقَيَّدُ الْوَلِيُّ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَأَطْلَقَتْ بِالْكُفْءِ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ الْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْكُفْءِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، لأَِنَّ الإِْطْلاَقَ يُحْمَل عَلَى مَا لاَ نَقِيصَةَ فِيهِ (1) .

ج - تَوْكِيل الْوَلِيِّ غَيْرَهُ فِي النِّكَاحِ:
110 - تَوْكِيل الْوَلِيِّ غَيْرَهُ لِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا تَوَافَرَتْ فِي الْوَكِيل الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ كُل مَذْهَبٍ (2) .
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ تَوْكِيل وَلِيِّ امْرَأَةٍ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ نِكَاحِهَا نِيَابَةً عَنْهُ إِلاَّ مِثْلَهُ فِي اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ.
وَقَالُوا: تُوَكِّل الْمَرْأَةُ الْمَالِكَةُ لأَِمَةٍ وَالْوَصِيَّةُ عَلَى أُنْثَى وَالْمُعْتِقَةُ لأُِنْثَى ذَكَرًا مُسْتَوْفِيًا لِلشُّرُوطِ فِي عَقْدِ الأُْنْثَى - فِي الْحَالاَتِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 56 - 59، ومطالب أولي النهى 5 / 68 - 71.
(2) بدائع الصنائع 2 / 231، 252، وابن عابدين 2 / 314، والشرح الصغير 2 / 355 - 357، 372، ومغني المحتاج 3 / 158، وكشاف القناع 5 / 56 - 59.

(41/289)


الثَّلاَثِ - وَإِنْ كَانَ الْوَكِيل أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُوَكِّلَةِ فِي الثَّلاَثِ مَعَ حُضُورِ أَوْلِيَائِهَا، وَمِنَ الْمُوَكَّل عَلَيْهَا فِي الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ لاَ فِي الثَّالِثَةِ حَيْثُ يَكُونُ لَهَا وَلِيُّ نَسَبٍ، إِذْ لاَ وِلاَيَةَ لِلْمُعْتِقَةِ حِينَئِذٍ حَيْثُ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَلِيُّ النَّسَبِ.
وَأَمَّا فِي الذَّكَرِ فَكُلٌّ مِنَ الْمَالِكَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُعْتِقَةِ تَلِي تَزْوِيجَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْوَاضِحَةِ، وَقِيل: لاَ تُقْبَل الْمَرْأَةُ لِلذَّكَرِ، نَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: التَّوْكِيل بِالتَّزْوِيجِ جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبِرًا فَلَهُ التَّوْكِيل بِغَيْرِ إِذْنِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيل يُشْتَرَطُ إِذْنُهَا حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً امْتَنَعَ التَّوْكِيل، وَعَلَى الصَّحِيحِ إِذَا وَكَّل لاَ يَشْتَرِطُ تَعْيِينَ الزَّوْجِ عَلَى الأَْظْهَرِ.
وَلَوْ أَذِنَتِ الثَّيِّبُ فِي النِّكَاحِ أَوِ الْبِكْرُ لِغَيْرِ الأَْبِ وَالْجَدِّ فَفِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ الْقَوْلاَنِ، وَقِيل: لاَ يُشْتَرَطُ قَطْعًا، لأَِنَّ الْوَلِيَّ يُعْنَى بِدَفْعِ الْعَارِ عَنِ النَّسَبِ بِخِلاَفِ الْوَكِيل.
وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَ مُجْبِرٍ أَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَفِي التَّوْكِيل صُوَرٌ:

إِحْدَاهَا: قَالَتْ: زَوِّجْنِي وَوَكِّل، فَلَهُ التَّزْوِيجُ وَالتَّوْكِيل.
__________
(1) الدسوقي 2 / 223، 224، 230، والشرح الصغير 2 / 355 - 356، 372.

(41/290)


الثَّانِيَةُ: نَهَتْ عَنِ التَّوْكِيل، فَلاَ يُوَكِّل.

الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: وَكِّل بِتَزْوِيجِي، وَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ، فَلَهُ التَّوْكِيل، وَهَل لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.

الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِي، فَلَهُ التَّوْكِيل عَلَى الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلاَيَةِ.
وَلَوْ وَكَّل مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَتِهَا وَاسْتِئْذَانِهَا بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَكِيل كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ مُجْبِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ حَاضِرًا، لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ كَالْبَيْعِ، وَلأَِنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّل أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ (2) .
وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمَرْأَةِ لأَِنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ وِلاَيَتُهُ مِنْ جِهَتِهَا، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ وَكِيلاً عَنْهَا لَتَمَكَّنَتْ مِنْ عَزْلِهِ كَسَائِرِ الْوُكَلاَءِ، وَإِنَّمَا إِذْنُهَا - حَيْثُ اعْتُبِرَ - شَرْطٌ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ أَشْبَهَ وِلاَيَةَ الْحَاكِمِ عَلَيْهَا، وَحَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ وَكِيلاً عَنْهَا فَلَهُ تَوْكِيل مَنْ يُوجِبُ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا،
__________
(1) روضة الطالبين 7 72 - 73، ومغني المحتاج 3 / 157.
(2) حديث: " أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل أبا رافع. . ". سبق تخريجه (ف 65) .

(41/290)


وَقُبِل إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ شَاهِدَيْنِ لأَِنَّهُ إِذْنٌ مِنَ الْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ فَلاَ يَفْتَقِرُ التَّوْكِيل إِلَى إِذْنِ الْمَرْأَةِ وَلاَ الإِْشْهَادِ عَلَيْهِ كَإِذْنِ الْحَاكِمِ.
وَيَثْبُتُ لِلْوَكِيل مَا يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّل حَتَّى فِي الإِْجْبَارِ لأَِنَّهُ نَائِبُهُ، وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالسُّلْطَانُ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ فِي التَّزْوِيجِ.
وَلاَ يَمْلِكُ الْوَلِيُّ تَوْكِيلاً فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ إِنْ وَكَّلَتْ غَيْرَهُ - كَمَا لَوْ وَكَّلَتْ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ - وَلَوْ كَانَ تَوْكِيلُهَا لِلْبَعِيدِ بِإِذْنِهِ، فَلَوْ وَكَّل فِي هَذِهِ الْحَال لَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُ، لأَِنَّهُ إِنْ صَحَّ بِدُونِ إِذْنِهَا لَكِنْ صِحَّةُ تَصَرُّفِ وَكِيل الْوَلِيِّ مَوْقُوفَةٌ عَلَى اسْتِئْذَانِهَا وَقَدْ سَبَقَ صُدُورُ الإِْذْنِ مِنْهَا لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُ لِذَلِكَ.
وَلَوْ وَكَّل وَلِيُّ غَيْرِ مُجْبَرَةٍ فِي تَزْوِيجِهَا بِلاَ إِذْنِهَا، ثُمَّ أَذِنَتْ لِوَكِيل وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا فَتَزَوَّجَهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَلَوْ لَمْ تَأْذَنْ لِلْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ أَوِ التَّوْكِيل، لِقِيَامِ وَكِيلِهِ مَقَامَهُ.
وَيُشْتَرَطُ فِي وَكِيل الْوَلِيِّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَلِيِّ مِنَ الذُّكُورَةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْل وَالْعَدَالَةِ وَاتِّحَادِ الدِّينِ وَالرُّشْدِ، لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُبَاشِرَهَا غَيْرُ أَهْلِهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ مُوَلِّيَتِهِ أَصَالَةً فَلأََنْ لاَ يَمْلِكَ تَزْوِيجَ مُوَلِّيَةِ غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيل أَوْلَى.
وَيَصِحُّ تَوْكِيل الْوَلِيِّ فِي إِيجَابِ النِّكَاحِ

(41/291)


تَوْكِيلاً مُطْلَقًا، وَيَصِحُّ قَوْل الْوَلِيِّ لِوَكِيلِهِ: زَوِّجْ مَنْ شِئْتَ أَوْ مَنْ تَرْضَاهُ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْعَرَبِ تَرَكَ ابْنَتَهُ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَال: إِذَا وَجَدْتَ كُفْئًا فَزَوِّجْهُ وَلَوْ بِشِرَاكِ نَعْلِهِ، فَزَوَّجَهَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَهِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكَرْ، وَكَالتَّوْكِيل فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
وَيَتَقَيَّدُ الْوَلِيُّ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَأَطْلَقَتْ بِالْكُفْءِ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ الْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْكُفْءِ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، لأَِنَّ الإِْطْلاَقَ يُحْمَل عَلَى مَا لاَ نَقِيصَةَ فِيهِ.
وَيَصِحُّ تَوْكِيلُهُ مُقَيَّدًا، كَزَوِّجْ فُلاَنًا بِعَيْنِهِ، أَوْ زَوِّجْ هَذَا، فَلاَ يُزَوِّجُ غَيْرَهُ لِقُصُورِ وِلاَيَتِهِ (1) .

الْوَصِيُّ فِي النِّكَاحِ:
111 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ وِلاَيَةِ النِّكَاحِ لِلْوَصِيِّ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لاَ تُسْتَفَادُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ وِلاَيَةُ الإِْنْكَاحِ، لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالأَْمْرِ فَلاَ يَعْدُو مَوْضِعَ الأَْمْرِ كَالْوَكِيل، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى إِلَيْهِ لاَ يَمْلِكُ أَيْضًا لأَِنَّهُ أَرَادَ بِالْوِصَايَةِ نَقْل وِلاَيَةِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 56 - 59، ومطالب أولي النهى 5 / 68، 72، والإنصاف 8 / 82، 83.

(41/291)


الإِْنْكَاحِ إِلَيْهِ، وَإِنَّهَا لاَ تَحْتَمِل النَّقْل حَال الْحَيَاةِ كَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَوْ عَيَّنَ الْمُوصِي فِي حَيَاتِهِ رَجُلاً فَزَوَّجَ الْوَصِيُّ الْمَرْأَةَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُل فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَهُوَ وَكِيلٌ لاَ وَصِيٌّ، وَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَقَدْ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ بِالْمَوْتِ وَانْتَقَلَتِ الْوِلاَيَةُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِيبٍ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ قَرِيبًا أَوْ حَاكِمًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِالْوِلاَيَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَوْلَى مِنْهُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّ وِلاَيَةَ النِّكَاحِ تُسْتَفَادُ بِالْوَصِيَّةِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَصِيُّ الأَْبِ عِنْدَ عَدَمِهِ لَهُ الْجَبْرُ فِيمَا لِلأَْبِ فِيهِ جَبْرٌ.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي وِلاَيَةِ الإِْجْبَارِ (فِقْرَة: 83) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَصِيُّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ بِمَنْزِلَتِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، فَتُسْتَفَادُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ إِذَا نَصَّ لَهُ عَلَى التَّزْوِيجِ مُجْبِرًا كَانَ الْوَلِيُّ أَوْ غَيْرَ مُجْبِرٍ كَأَخٍ لِغَيْرِ أُمٍّ وَكَذَا عَمٌّ وَابْنُهُ، لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ ثَابِتَةٌ لِلْوَلِيِّ فَجَازَتْ وَصِيَّتُهُ بِهَا كَوِلاَيَةِ الْمَال، وَلأَِنَّهُ

(41/292)


يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونَ نَائِبُهُ فِيهَا قَائِمًا مَقَامَهُ فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَصِفَةُ الإِْيصَاءِ أَنْ يَقُول الأَْبُ لِمَنِ اخْتَارَهُ: وَصَّيْتُ إِلَيْكَ بِنِكَاحِ بَنَاتِي، أَوْ جَعَلْتُكَ وَصِيًّا فِي نِكَاحِ بَنَاتِي، فَيَقُومُ الْوَصِيُّ مَقَامَهُ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَهُ الإِْجْبَارُ كَأَبِي الْبِكْرِ فَذَلِكَ الإِْجْبَارُ لِوَصِيِّهِ، فَيُجْبِرُ وَصِيُّ الأَْبِ مَنْ يُجْبِرُهُ الأَْبُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى لِقِيَامِهِ مَقَامَ الأَْبِ، وَإِنْ كَانَ الأَْبُ لَيْسَ مُجْبِرًا كَأَبِي ثَيِّبٍ تَمَّ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ، وَأَخِيهَا وَعَمِّهَا وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِهَا فَوَصِيُّهُ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِهَا كَوَكِيلِهِ.
وَلاَ خِيَارَ لِمَنْ زَوَّجَهُ الْوَصِيُّ - ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى - إِذَا بَلَغَ، لأَِنَّ الْوَصِيَّ قَامَ مَقَامَ الْمُوصِي فَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَزْوِيجِهِ خِيَارٌ كَالْوَكِيل.
وَإِذَا أَوْصَى إِلَيْهِ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أَحَدِهِمْ.
وَعَنْ أَحْمَدَ لاَ تُسْتَفَادُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي عَصَبَةٌ، حَكَاهَا الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 56 - 59، ومطالب أولي النهى 5 / 1 7، 72، والإنصاف 8 / 85، 86.

(41/292)


إِنْكَاحُ الْيَتِيمِ:
112 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِنْكَاحِ الْيَتِيمِ - وَهُوَ الصَّغِيرُ أَوِ الصَّغِيرَةُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ - فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمْ بِالْقَرَابَةِ أَوِ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ لِلْوِلاَيَةِ، وَقَيَّدَ آخَرُونَ الإِْجَازَةَ بِخِيفَةِ الْفَسَادِ، فِي حِينِ قَيَّدَهَا غَيْرُهُمْ بِبُلُوغِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصِيٌّ أَنْ يُزَوِّجَ الْيَتِيمَ - وَهُوَ يَشْمَل الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ - سَوَاءٌ أَوْصَى إِلَيْهِ الأَْبُ بِالنِّكَاحِ أَوْ لَمْ يُوصِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، نَعَمْ لَوْ كَانَ قَرِيبًا أَوْ حَاكِمًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِالْوِلاَيَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَوْلَى مِنْهُ (1) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - كَمَا نَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْعَدَوِيِّ - وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى خِيفَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْيَتِيمَةِ، فَمَتَى خِيفَ عَلَيْهَا فَسَادُ حَالِهَا بِفَقْرٍ أَوْ زِنًا أَوْ عَدَمِ حَاضِنٍ شَرْعِيٍّ أَوْ ضَيَاعِ مَالٍ أَوْ دِينٍ زُوِّجَتْ، بَلَغَتْ عَشْرًا أَوْ لاَ، رَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ أَوْ لاَ، فَيُجْبِرُهَا وَلِيُّهَا عَلَى النِّكَاحِ، وَوَجَبَ مُشَاوَرَةُ الْقَاضِي فِي تَزْوِيجِهَا.
وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا الْفَسَادُ وَزُوِّجَتْ صَحَّ إِنْ دَخَل بِهَا الزَّوْجُ وَطَال أَمَدُ النِّكَاحِ، بِأَنْ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 314.

(41/293)


وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنَيْنِ أَوْ مَضَتْ مُدَّةٌ تَلِدُ فِيهَا ذَلِكَ.
وَإِنْ خِيفَ فَسَادُهَا وَزُوِّجَتْ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةِ الْقَاضِي صَحَّ النِّكَاحُ إِنْ دُخِل بِهَا وَإِنْ لَمْ يَطُل.
وَقَالُوا: وَجَبْرُ وَصِيٍّ صَغِيرًا لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْ تَزْوِيجَهُ كَتَزْوِيجِهِ مِنْ غَنِيَّةٍ أَوْ شَرِيفَةٍ أَوِ ابْنَةِ عَمٍّ أَوْ لِمَنْ تَحْفَظُ مَالَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةٌ فَلاَ يَصِحُّ تَزْوِيجُهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَمَنْ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ كَأَخٍ وَعَمٍّ وَنَحْوِهِمَا لاَ يُزَوِّجُ صَغِيرَةً بِحَالٍ عِنْدَ عَدَمِ الأَْبِ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً، لأَِنَّهَا إِنَّمَا تُزَوَّجُ بِالإِْذْنِ وَإِذْنُهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
وَكَذَا الصَّغِيرُ فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنْ حَاشِيَةِ النَّسَبِ أَوِ الْوَصِيِّ أَوِ الْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ وَانْتِفَاءِ كَمَال الشَّفَقَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِمَنْ عَدَا الأَْبِ وَوَصِيِّهِ الَّذِي نَصَّ لَهُ عَلَى الإِْنْكَاحِ تَزْوِيجُ صَغِيرَةٍ لَهَا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ، لِمَا رُوِيَ " أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَفَعَ ذَلِكَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 224، والشرح الصغير 396.
(2) مغني المحتاج 3 / 150، وروضة الطالبين 7 / 55، 95.

(41/293)


لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ تُنْكَحُ إِلاَّ بِإِذْنِهَا " (1) ، وَالصَّغِيرَةُ لاَ إِذْنَ لَهَا بِحَالٍ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ وَلاَ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا، وَلِسَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ تَزْوِيجُ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ بِإِذْنِهَا، وَلَهَا إِذْنٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ نَصًّا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ (2) ، وَمَعْنَاهُ: فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ، وَلأَِنَّهَا تَصْلُحُ بِذَلِكَ لِلنِّكَاحِ وَتَحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَشْبَهَتِ الْبَالِغَةَ (3) .
وَقَالُوا: حُكْمُ تَزْوِيجِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ بِالْوَصِيَّةِ حُكْمُ تَزْوِيجِ الأُْنْثَى بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ (4) ، فَلِوَصِيِّ الأَْبِ أَنْ يُزَوِّجَ الْغُلاَمَ قَبْل بُلُوغِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْغُلاَمُ عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ مُسْتَدَامًا أَوْ طَارِئًا (5) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (يَتِيم) .

نِكَاحُ الرَّقِيقِ:
113 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّقِيقِ
__________
(1) حديث: " أن قدامة بن مظعون - رضي الله عنه - زوج ابنة أخيه. . . ". أخرجه الدارقطني في السنن (3 / 230 - ط دار المحاسن) .
(2) حديث: " حديث إذا بلغت الجارية تسع. . .) . سبق تخريجه (ت 90)
(3) كشاف القناع 5 / 46.
(4) الإنصاف 8 / 87.
(5) المغني 6 / 449.

(41/294)


- ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى - أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، لأَِنَّ فِي هَذَا صَوْنًا لِلرَّقِيقِ عَنِ الزِّنَا، وَحِفْظًا لِمَال السَّيِّدِ مِنَ النَّقْصِ أَوِ التَّلَفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ (1) } قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ عِنْدَ الطَّلَبِ، وَالأَْصْل أَنَّ وِلاَيَةَ تَزْوِيجِ الرَّقِيقِ لِمَالِكِهِ.
وَتَفْصِيل نِكَاحِ الرَّقِيقِ، وَإِعْفَافِهِ، وَوِلاَيَةِ إِنْكَاحِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رق ف 25، 48، 73 - 99) .

إِنْكَاحُ الْفُضُولِيِّ:
114 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِنْكَاحِ الْفُضُولِيِّ فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (فُضُولِيّ ف 8) .

نِكَاحُ السَّفِيهِ:
115 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْوَلِيِّ لِصِحَّةِ نِكَاحِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَفِهَ ف 22) .

ثَالِثًا: الإِْشْهَادُ عَلَى النِّكَاحِ:
116 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الإِْشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ: رُكْنًا أَوْ شَرْطًا أَوْ وَاجِبًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
__________
(1) سورة النور / 32

(41/294)


فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ -: لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ لِخَبَرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ " (1) ، وَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِهِمَا الاِحْتِيَاطُ لِلأَْبْضَاعِ، وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الْوَلَدُ، فَاشْتُرِطَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِئَلاَّ يَجْحَدَهُ أَبُوهُ فَيَضِيعَ نَسَبُهُ، وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى دَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا عَنِ الزَّوْجَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ وَالدُّخُول، وَلاَ تَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالشُّهُودِ لِظُهُورِ النِّكَاحِ وَاشْتِهَارِهِ بِقَوْل الشُّهُودِ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَهُ شَرْطًا، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ رُكْنٌ (2) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي الْمُقْنِعِ وَجَمَاعَةٌ.
__________
(1) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". أخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 9 / 386 ط مؤسسة الرسالة) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7 / 124ط دار المعارف العثمانية) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 253، ومغني المحتاج 3 / 144، ومطالب أولي النهى 5 / 81.

(41/295)


وَقَيَّدَ الْمَجْدُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الأَْصْحَابِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكْتُمُوهُ فَمَعَ الْكَتْمِ تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ إِجْمَاعًا (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الإِْشْهَادُ عَلَى النِّكَاحِ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ لأَِنَّ مَاهِيَّةَ الْعَقْدِ لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، بَل هُوَ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ، مَخَافَةَ أَنَّ كُل اثْنَيْنِ - رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ - اجْتَمَعَا فِي خَلْوَةٍ عَلَى فَسَادٍ يَدَّعِيَانِ سَبْقَ عَقْدٍ بِلاَ إِشْهَادٍ فَيُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ حَدِّ الزِّنَا.
وَأَصْل الإِْشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ، وَكَوْنُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، فَإِنْ حَصَل الإِْشْهَادُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَقَدْ حَصَل الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، وَإِنْ فُقِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَوُجِدَ عِنْدَ الدُّخُول فَقَدْ حَصَل الْوَاجِبُ وَفَاتَ الْمَنْدُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُل عِنْدَ الْعَقْدِ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ الْبِنَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شُهُودٌ أَصْلاً وَحَصَل الدُّخُول بِلاَ إِشْهَادٍ عَلَى النِّكَاحِ فُسِخَ الْعَقْدُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَسْخُ بِطَلْقَةٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ بِدُونِ الإِْشْهَادِ عَلَيْهِ، وَكَانَ بِبَائِنَةٍ لأَِنَّهُ فَسْخٌ جَبْرِيٌّ مِنَ الْحَاكِمِ (2) .
__________
(1) الإنصاف 8 / 102، والمغني 6 / 451.
(2) الشرح الصغير والصاوي 2 / 339، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 216، 220.

(41/295)


الشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الشَّاهِدَيْنِ:
117 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ تَوَفُّرُ شُرُوطٍ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، تَفْصِيلُهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ - الإِْسْلاَمُ:
118 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الإِْسْلاَمُ، وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ، فَلاَ يَنْعَقِدُ هَذَا النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (1) } ، وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ " (2) .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إِذَا نَكَحَ ذِمِّيَّةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى هَذَا النِّكَاحِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَى الزَّوْجَةِ الذِّمِّيَّةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَهُمْ، وَفِي الاِحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ " قَال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: الْمُرَادُ مِنْهُ عَدَالَةُ الدِّينِ لاَ عَدَالَةُ
__________
(1) سورة النساء / 141.
(2) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". سبق تخريجه (ف 116) .

(41/296)


التَّعَاطِي، لإِِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ فِسْقَ التَّعَاطِي لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّ الإِْشْهَادَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالطَّرَفَيْنِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَمْ يُوجَدِ الإِْشْهَادُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ لأَِنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّهِ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ، فَلَمْ يُوجَدِ الإِْشْهَادُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَمِعَا كَلاَمَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلاَمِ الرَّجُل، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ النِّكَاحُ، كَذَا هَذَا.
وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَقَالاَ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، سَوَاءٌ كَانَا مُوَافِقَيْنِ لَهَا فِي الْمِلَّةِ أَوْ مُخَالِفَيْنِ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلأَِنَّ لِلْكَافِرِ وِلاَيَةً عَلَى الْكَافِرِ (1) .

ب - التَّكْلِيفُ:
119 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ التَّكْلِيفُ، أَيْ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَاقِلاً بَالِغًا، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ مَجْنُونٍ بِالإِْجْمَاعِ، وَلاَ شَهَادَةُ صَبِيٍّ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ (2) } ، وَلأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 253 - 254، ومغني المحتاج 3 / 144، ومطالب أولي النهى 5 / 81 والدسوقي 4 / 165.
(2) سورة البقرة / 282.

(41/296)


أَهْل الشَّهَادَةِ، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلاَيَةِ وَهِيَ نَفَاذُ الْمَشِيئَةِ لأَِنَّهَا تَنْفِيذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَى غَيْرِهِ (1) .

ج - الْعَدَالَةُ:
120 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَيَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الْعَدَالَةَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (2) فَلاَ يَنْعَقِدُ بِفَاسِقَيْنِ، لأَِنَّهُ لاَ يُثْبَتُ بِهِمَا.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِمَا الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ، فَيَنْعَقِدُ بِمَسْتُورَيِ الْعَدَالَةِ وَهُمَا الْمَعْرُوفَانِ بِهَا ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا، بِأَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُمَا بِالْمُخَالَطَةِ دُونَ التَّزْكِيَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ يَجْرِي بَيْنَ أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْعَوَامِّ، فَلَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ لاَحْتَاجُوا إِلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 253، وروضة الطالبين 7 / 45، ومغني المحتاج 4 / 427، ومطالب أولي النهى 5 / 81، والدسوقي 4 / 465.
(2) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". سبق تخريجه (ف 116) .

(41/297)


مَعْرِفَتِهَا لِيُحْضِرُوا مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا فَيَطُول الأَْمْرُ عَلَيْهِمْ وَيَشُقَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَنْعَقِدُ بِالْمَسْتُورَيْنِ بَل لاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ.
وَيَبْطُل السَّتْرُ بِتَفْسِيقِ عَدْلٍ فِي الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَخْبَرَ بِفِسْقِ الْمَسْتُورِ عَدْلٌ لَمْ يَصِحَّ بِهِ النِّكَاحُ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلإِْمَامِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مَسْتُورِ الْعَدَالَةِ وَمَسْتُورِ الإِْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ - وَالْعَدَالَةُ وَالإِْسْلاَمُ وَالْحُرِّيَّةُ مِمَّا يَشْتَرِطُونَهُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ - فَقَالُوا: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ مَسْتُورَيِ الْعَدَالَةِ لاَ بِمَسْتُورَيِ الإِْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ، بِأَنْ لَمْ يُعْرَفْ إِسْلاَمُ الشَّاهِدِ وَلاَ حُرِّيَّتُهُ، كَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَخْتَلِطُ فِيهَا مُسْلِمُونَ بِالْكُفَّارِ، وَالأَْحْرَارُ بِالأَْرِقَّاءِ، وَلاَ غَالِبَ، أَوْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ الإِْسْلاَمَ وَالْحُرِّيَّةَ بِالدَّارِ فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَال الشَّاهِدِ بِالإِْسْلاَمِ وَالْحُرِّيَّةِ بَاطِنًا، لِسُهُولَةِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلاَفِ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ عَدَالَةَ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الْفَاسِقَيْنِ، لأَِنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطٍ، وَاشْتِرَاطُ أَصْل الشَّهَادَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ثَبَتَ بِالدَّلِيل، فَمَنِ

(41/297)


ادَّعَى شَرْطَ الْعَدَالَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَلأَِنَّ الْفِسْقَ لاَ يَقْدَحُ فِي وِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ بِنَفْسِهِ (1) .

د - الْعَدَدُ:
121 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ شَاهِدَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (2) .
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ حُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ قَصْدًا أَوِ اتِّفَاقًا (3) .

هـ - الْحُرِّيَّةُ:
122 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي كُل وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ لأَِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 255، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 2 / 216، ومغني المحتاج 3 / 144 - 145، وكشاف القناع 5 / 65، والإنصاف 8 / 103.
(2) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". سبق تخريجه (ف 116) .
(3) بدائع الصنائع 2 / 255، ومغني المحتاج 3 / 144، ومطالب أولي النهى 5 / 81، والدسوقي 4 / 165، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 153.

(41/298)


لَيْسَ أَهْلاً لِلشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ حُرَّيْنِ لأَِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَوْلٍ أَشْبَهَتْ الاِسْتِفَاضَةَ (1) .

و الذُّكُورَةُ:
123 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الذُّكُورَةَ، فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَلاَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لأَِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ، رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الأَْمْوَال عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَال: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لاَ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلاَ فِي النِّكَاحِ وَلاَ فِي الطَّلاَقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذُكُورَةُ شَاهِدَيِ النِّكَاحِ، فَيَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (2) .

ز - السَّمْعُ:
124 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ السَّمْعِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 253، ومغني المحتاج 3 / 144، والدسوقي 4 / 165، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 137، ومطالب أولي النهى 5 / 82.
(2) بدائع الصنائع 2 / 255، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 216، ومغني المحتاج 3 / 144، وكشاف القناع 5 / 65 - 66، والإنصاف 8 / 102، والمغني 6 / 452.

(41/298)


فَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدَا النِّكَاحِ سَمِيعَيْنِ وَلَوْ بِرَفْعِ صَوْتٍ إِذِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَوْلٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ سَمَاعِهِ، أَيْ سَمَاعِ كَلاَمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ سَمِعَا كَلاَمَ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، أَوْ سَمِعَ أَحَدُهُمَا كَلاَمَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَسَمِعَ الآْخَرُ كَلاَمَ الْمُتَعَاقِدِ الثَّانِي لاَ يَجُوزُ النِّكَاحُ، قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ حُضُورَ الشُّهُودِ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، فَمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلاَمَهُمَا لاَ تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ الرُّكْنِ فَلاَ يُوجَدُ شَرْطُ الرُّكْنِ.
وَحَكَى الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ فِي الأَْصَمِّ وَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ عَلَى النِّكَاحِ السَّمْعُ (1) .

ح - الْبَصَرُ:
125 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْبَصَرِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الْبَصَرَ، لأَِنَّ الأَْقْوَال - وَهِيَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ - لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ.
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 255، والدسوقي 4 / 167، ومغني المحتاج 3 / 144، ونهاية المحتاج 6 / 214، ومطالب أولي النهى 5 / 81.

(41/299)


وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الْبَصَرَ، بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا ضَرِيرَيْنِ إِذَا تَيَقَّنَا الصَّوْتَ تَيَقُّنًا لاَ شَكَّ فِيهِ، كَالشَّهَادَةِ بِالاِسْتِفَاضَةِ، وَلأَِنَّ الْعَمَى كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ لاَ يَقْدَحُ إِلاَّ فِي الأَْدَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَقْدَحُ فِي وِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ وَلاَ فِي قَبُول النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَلاَ فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ مِنْ أَهْل أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ.
وَنَقَل الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ الْوَجْهَ بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِحَضْرَةِ الأَْعْمَى حُكِيَ عَنِ النَّصِّ، لأَِنَّ الأَْعْمَى أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ (1) .

ط - النُّطْقُ:
126 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ النُّطْقِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَا نَاطِقَيْنِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِشَاهِدَيْنِ أَخْرَسَيْنِ، أَوْ بِشَاهِدَيْنِ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ، لأَِنَّ الأَْخْرَسَ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 255، ومغني المحتاج 3 / 144، والدسوقي 4 / 167، وكشاف القناع 5 / 66.

(41/299)


لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ قُبِلَتْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ تُقْبَل شَهَادَتُهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خرس ف 12) .

ي - التَّيَقُّظُ:
127 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ التَّيَقُّظُ وَالضَّبْطُ، فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِالْمُغَفَّل الَّذِي لاَ يَضْبُطُ، وَيَنْعَقِدُ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - بِمَنْ يَحْفَظُ وَيَنْسَى عَنْ قَرِيبٍ (1) .

ك - مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَاقِدَيْنِ:
128 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَاقِدَيْنِ، فَلاَ يَكْفِي إِخْبَارُ ثِقَةٍ بِمَعْنَى قَوْل الْعَاقِدَيْنِ، قَال الشَّبْرَامُلْسِيُّ: أَيْ بَعْدَ تَمَامِ الصِّيغَةِ أَمَّا قَبْلَهَا بِأَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِمَعْنَاهَا وَلَمْ يَطُل الْفَصْل فَتَصِحُّ، وَقِيل: يَكْفِي ضَبْطُ اللَّفْظِ.
وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ وَجْهًا أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِمَنْ لاَ يَعْرِفُ لِسَانَ الْعَاقِدَيْنِ لأَِنَّهُ يَنْقُلُهُ إِلَى الْحَاكِمِ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 167، وروضة الطالبين 7 / 45، ونهاية المحتاج 6 / 214.
(2) روضة الطالبين 7 / 45، ونهاية المحتاج 6 / 214، ومغني المحتاج 3 / 144.

(41/300)


ل - أَنْ لاَ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ ابْنَيِ الزَّوْجَيْنِ:
129 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَال الْمَرْدَاوِيُّ - عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنْ شَاهِدَيِ النِّكَاحِ أَنْ لاَ يَكُونَ ابْنَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ ابْنَيِ الزَّوْجَيْنِ وَلاَ بِشَهَادَةِ ابْنِ أَحَدِهِمَا.
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلاَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا الاِنْعِقَادُ (1) .

نِكَاحُ السِّرِّ:
130 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَاهِيَّةِ نِكَاحِ السِّرِّ وَفِي حُكْمِهِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: نِكَاحُ السِّرِّ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ شَاهِدَانِ، أَمَّا مَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلاَنِيَةٍ لاَ نِكَاحُ سِرٍّ، إِذِ السِّرُّ إِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سِرًّا، وَقَدْ نُهِيَ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ، وَنَقُول بِمُوجَبِهِ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ " (2) ، لأَِنَّ الْعَاقِدَيْنِ إِذَا أَحْضَرَا
__________
(1) روضة القضاة للسمناني 1 / 256، وعقد الجواهر الثمينة 3 / 142، وروضة الطالبين 7 / 45، 46، ومغني المحتاج 3 / 144، والإنصاف 8 / 105.
(2) حديث: " أعلنوا هذا النكاح. . . ". سبق تخريجه (ف 20) .

(41/300)


النِّكَاحَ شَاهِدَيْنِ فَقَدْ أَعْلَنَاهُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ " (1) نَدْبٌ إِلَى زِيَادَةِ إِعْلاَنِهِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ (2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - كَمَا قَال الدَّرْدِيرُ - أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ هُوَ مَا أُمِرَ الشُّهُودُ حِينَ الْعَقْدِ بِكَتْمِهِ، أُوصِيَ غَيْرُهُمْ أَيْضًا عَلَى كَتْمِهِ أَمْ لاَ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي الزَّوْجَ، انْضَمَّ لَهُ غَيْرُهُ كَالزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيُّهَا أَمْ لاَ، وَهَذِهِ هِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ عَرَفَةَ فِي نِكَاحِ السِّرِّ.
وَالطَّرِيقَةُ الأُْخْرَى لِلْبَاجِيِّ وَتَقُول: اسْتِكْتَامُ غَيْرِ الشُّهُودِ نِكَاحُ سِرٍّ أَيْضًا، كَمَا لَوْ تَوَاصَى الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيُّ عَلَى كَتْمِهِ وَلَمْ يُوصُوا الشُّهُودَ بِذَلِكَ.
وَحُكْمُ نِكَاحِ السِّرِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَوْفًا مِنْ ظَالِمٍ أَوْ سَاحِرٍ فَإِنَّهُ لاَ حُرْمَةَ فِيهِ وَلاَ فَسْخَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ (3) ، وَيُفْسَخُ هَذَا النِّكَاحُ إِنْ لَمْ يَدْخُل الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ، فَإِنْ
__________
(1) حديث: " واضربوا عليه بالدفوف ". سبق تخريجه (ف 20) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 253.
(3) حديث: " نهيه صلى الله عليه وسلم عن نكاح السر ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 285 ط المقدسي) من حديث أبي هريرة، وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن محمد بن عبد الصمد بن أبي الجراح، ولم يتكلم فيه أحد، وبقية رجاله ثقات

(41/301)


دَخَل بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، سُئِل ابْنُ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ نَكَحَ سِرًّا وَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ فَقَال: إِنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَاعْتَدَّتْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَعُوقِبَ الشَّاهِدَانِ بِمَا كَتَمَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُهَا، ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا حِينَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا نَكَحَهَا نِكَاحَ عَلاَنِيَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلاَ صَدَاقَ لَهَا، وَنَرَى أَنْ يَنْكِلَهُمَا الإِْمَامُ بِعُقُوبَةٍ وَالشَّاهِدَيْنِ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ نِكَاحُ السِّرِّ (1) .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَأَصْحَابُهُ بِبَنِي زُرَيْقٍ فَسَمِعُوا غِنَاءً وَلَعِبًا، فَقَال: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: نِكَاحُ فُلاَنٍ يَا رَسُول اللَّهِ. فَقَال: كَمُل دِينُهُ، هَذَا النِّكَاحُ لاَ السِّفَاحُ وَلاَ نِكَاحُ السِّرِّ حَتَّى يُسْمَعَ دُفٌّ أَوْ يُرَى دُخَانٌ " (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَبْطُل النِّكَاحُ بِالتَّوَاصِي بِكِتْمَانِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ مَعَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مَكْتُومًا، فَإِنْ كَتَمَهُ الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ
__________
(1) الشرح الصغير والصاوي 2 / 382، 383، ومواهب الجليل 3 / 409، 410 والمدونة 2 / 194 ط دار صادر - بيروت.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء. . . ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7 / 290 ط دائرة المعارف العثمانية) ثم ضعف أحد رواته

(41/301)


قَصْدًا صَحَّ الْعَقْدُ وَكُرِهَ كِتْمَانُهُمْ لَهُ، لأَِنَّ السُّنَّةَ إِعْلاَنُ النِّكَاحِ (1) .

رَابِعًا: مَحَل عَقْدِ النِّكَاحِ:
131 - مَحَل عَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ مَعًا، وَهُمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ أَرْكَانِ النِّكَاحِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل هَذِهِ الأَْرْكَانِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ حِلًّا لِلآْخَرِ، وَأَنْ لاَ يَقُومَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ. فَلاَ يَصِحُّ نِكَاحُ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَلاَ نِكَاحُ مَجُوسِيَّةٍ، أَوْ وَثَنِيَّةٍ أَوْ مُرْتَدَّةٍ، أَوْ مُلاَعِنَتِهِ، وَلاَ نِكَاحُ ذَاتِ زَوْجٍ، وَلاَ مُطَلَّقَتِهِ ثَلاَثًا، وَلاَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ نِكَاحُ مَنْ تَحْرُمُ جَمْعُهَا مَعَ زَوْجٍ لَهُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُحَرَّم ف 18، وَمُحَرِّمَات النِّكَاحِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا، وَوَثَنِيّ ف 28) .
كَمَا يَشْتَرِطُونَ تَعْيِينَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ فِي النِّكَاحِ التَّعْيِينُ فَلاَ يَصِحُّ بِدُونِهِ، وَتُزَوَّجُ بِاسْمِهَا الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ.
__________
(1) كشاف القناع 5 / 66.

(41/302)


كَمَا يَشْتَرِطُونَ أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِلْكًا لِلآْخَرِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا (1) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ، فَلاَ يَصِحُّ نِكَاحُ مَرِيضٍ أَوْ مَرِيضَةٍ، وَيُفْسَخُ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ، لَكِنْ إِنْ صَحَّ الْمَرِيضُ لَمْ يُفْسَخْ، وَلاَ مِيرَاثَ إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الْفَسْخِ، وَلِلْمَرِيضَةِ بِالدُّخُول أَوِ الْمَوْتِ الْمُسَمَّى، وَعَلَى الْمَرِيضِ إِنْ مَاتَ قَبْل الْفَسْخِ الأَْقَل مِنَ الثُّلُثِ وَالْمُسَمَّى وَصَدَاقُ الْمِثْل، وَلَهَا بِالدُّخُول الْمُسَمَّى مِنَ الثُّلُثِ مُبْتَدَأً (2) .
كَمَا اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ لاَ يَكُونَ أَيٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الْوَلِيِّ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
وَسَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي شُرُوطِ الْوَلِيِّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.

شُرُوطُ النِّكَاحِ:
132 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا لاَ بُدَّ مِنْهَا.
__________
(1) البدائع 2 / 256، 257، وفتح القدير 3 / 104، والشرح الصغير 2 / 372 - 375، وروضة الطالبين 7 / 43، وحاشية الباجوري على ابن القاسم 2 / 188، وكشاف القناع 5 / 41، 66.
(2) الشرح الصغير 2 / 373، 387، 427، والذخيرة للقرافي 4 / 208، 211.

(41/302)


وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَالتَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: شَرَائِطُ رُكْنِ النِّكَاحِ أَنْوَاعٌ هِيَ: شَرَائِطُ الاِنْعِقَادِ، وَشَرَائِطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ، وَشَرَائِطُ اللُّزُومِ.
أ - أَمَّا شَرَائِطُ الاِنْعِقَادِ فَنَوْعَانِ:
نَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْعَاقِدِ وَهُوَ الْعَقْل، فَلاَ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، لأَِنَّ الْعَقْل مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِ الْعَقْدِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ إِذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، بِأَنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الآْخَرُ عَنِ الْمَجْلِسِ قَبْل الْقَبُول، أَوِ اشْتَغَل بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلاَفَ الْمَجْلِسِ لاَ يَنْعَقِدُ، لأَِنَّ انْعِقَادَهُ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِبَاطِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ بِالآْخَرِ.
ب - وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ بَالِغًا، فَإِنَّ نِكَاحَ الصَّبِيِّ الْعَاقِل وَإِنْ كَانَ مُنْعَقِدًا فَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ، بَل نَفَاذُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، لأَِنَّ نَفَاذَ التَّصَرُّفِ لاِشْتِمَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، وَالصَّبِيُّ لِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لاِنْشِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لاَ يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهُ بَل يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى بُلُوغِهِ حَتَّى وَلَوْ بَلَغَ قَبْل أَنْ يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ لاَ يَنْفُذُ بِالْبُلُوغِ، لأَِنَّ

(41/303)


الْعَقْدَ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ وَرِضَاهُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ رِضَا الصَّبِيِّ شَرْعًا، وَبِالْبُلُوغِ زَالَتْ وِلاَيَةُ الْوَلِيِّ فَلاَ يَنْفُذُ مَا لَمْ يُجِزْهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلاَ يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ " (1) .
وَمِنْهَا: الْوِلاَيَةُ فِي النِّكَاحِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ إِنْكَاحُ مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ.
ج - وَأَمَّا شَرَائِطُ اللُّزُومِ فَنَوْعَانِ فِي الأَْصْل: نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ وُقُوعِ النِّكَاحِ لاَزِمًا، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ لاَزِمًا.
أَمَّا النَّوْعُ الأَْوَّل: فَمِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ فِي إِنْكَاحِ الصَّغِيرِ أَوِ الصَّغِيرَةِ هُوَ الأَْبُ أَوِ الْجَدُّ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا مِنَ الأَْوْلِيَاءِ كَالأَْخِ وَالْعَمِّ لاَ يَلْزَمُ النِّكَاحُ حَتَّى يَثْبُتَ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَلْزَمُ نِكَاحُ غَيْرِ الْجَدِّ وَالأَْبِ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ حَتَّى لاَ يَثْبُتَ لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ الْخِيَارُ.
__________
(1) حديث: " أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر ". أخرجه الترمذي (3 / 411 - ط الحلبي) من حديث جابر رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح.

(41/303)


وَمِنْ شَرَائِطِ هَذَا النَّوْعِ: كَفَاءَةُ الزَّوْجِ فِي إِنْكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الأَْوْلِيَاءِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، فَيَقَعُ الْكَلاَمُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:.
أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ هَل هِيَ شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ أَمْ لاَ؟ .
وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ النِّكَاحِ الَّذِي الْكَفَاءَةُ مِنْ شُرُوطِ لُزُومِهِ.
وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ.
وَالرَّابِعُ: فِي بَيَانِ مَنْ تُعْتَبَرُ لَهُ الْكَفَاءَةُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَاءَة ف 2 - 12) .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ شَرَائِطِ اللُّزُومِ، وَهُوَ شَرْطُ بَقَاءِ النِّكَاحِ لاَزِمًا، فَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى فِي نِكَاحِ أَمَتِهِ.
أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ، فَعَدَمُ تَمْلِيكِهِ الطَّلاَقَ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، بِأَنْ يَقُول لاِمْرَأَتِهِ: اخْتَارِي، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَنْوِي الطَّلاَقَ، أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، أَوْ يَقُول لِرَجُلٍ: طَلِّقِ امْرَأَتِي إِنْ شِئْتَ، كَذَا عَدَمُ التَّطْلِيقِ بِشَرْطٍ، وَالإِْضَافَةِ إِلَى وَقْتٍ، لأَِنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ جَعَل النِّكَاحَ بِحَالٍ لاَ يَتَوَقَّفُ زَوَالُهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَكَذَا بِالتَّعْلِيقِ وَالإِْضَافَةِ، وَهَذَا مَعْنَى عَدَمِ بَقَاءِ النِّكَاحِ لاَزِمًا.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى فِي نِكَاحِ أَمَتِهِ

(41/304)


فَهُوَ أَنْ لاَ يُعْتِقَ أَمَتَهُ الْمَنْكُوحَةَ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا لاَ يَبْقَى الْعَقْدُ لاَزِمًا وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِخِيَارِ الْعَتَاقَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: شُرُوطُ صِحَّةِ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ بِصَدَاقٍ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ حَال الْعَقْدِ فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الدُّخُول، أَوْ تَقَرُّرِ صَدَاقِ الْمِثْل.
وَصِحَّتُهُ أَيْضًا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ غَيْرِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ حَصَلَتِ الشَّهَادَةُ بِهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْل الدُّخُول، فَلاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلاَ شَهَادَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلاَ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، وَلاَ بِعَدْلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْوَلِيُّ، قَال الصَّاوِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ مَنْ يُبَاشِرُ الْعَقْدَ، بَل مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ النِّكَاحِ وَلَوْ تَوَلَّى الْعَقْدَ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الْمُتَوَلَّى أَيْضًا لأَِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى فِعْل النَّفْسِ، وَقَال: وَمِثْل الْفَاسِقَيْنِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ بِشَهَادَتِهِمَا مَسْتُورَا الْحَال، فَإِنْ عُدِمَ الْعُدُول فَيَكْفِي مَسْتُورَا الْحَال، وَقِيل يُسْتَكْثَرُ مِنَ الشُّهُودِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 232، 233، 237، 315، 317، 328.
(2) الشرح الكبير والدسوقي 2 / 220 - 221، والشرح الصغير والصاوي 2 / 335، 336، 349 وما بعدها.

(41/304)


الشُّرُوطُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:
133 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، هَل تُبْطِل النِّكَاحَ أَوْ لاَ تُبْطِلُهُ؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ عَلَى أَلْفٍ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَفَى بِمَا شَرَطَ فَلَهَا الْمُسَمَّى لأَِنَّهُ يَصْلُحُ مَهْرًا وَقَدْ تَرَاضَيَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوفِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلُهَا لأَِنَّهَا مَا رَضِيَتْ بِالأَْلْفِ - وَهُوَ دُونَ مَهْرِ مِثْلِهَا - إِلاَّ مَعَ مَا ذَكَرَ لَهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ فَيُكْمِل لَهَا مَهْرَ الْمِثْل، لأَِنَّهَا مَا رَضِيَتْ بِالْمُسَمَّى وَحْدَهُ فَكَأَنَّهُ مَا سَمَّى.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَتِهَا - أَيْ بِأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ تُسَرُّ بِهِ - فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لاَ يَنْقُصُ عَنْ أَلْفٍ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول فَلَهَا نِصْفُ الأَْلْفِ لأَِنَّهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمُتْعَةِ.
وَإِنْ قَال: عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ أَقَامَ بِهَا وَأَلْفَيْنِ إِنْ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ أَقَامَ فَلَهَا الأَْلْفُ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا فَمَهْرُ مِثْلِهَا لاَ يُزَادُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَلاَ يُنْقَصُ عَنْ أَلْفٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ فَاسِدَانِ، وَعَلَى هَذَا: عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا وَأَلْفَانِ إِنْ تَزَوَّجَ.

(41/305)


دَلِيل زُفَرَ: أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَكَانَ الْمَهْرُ مَجْهُولاً.
وَدَلِيلُهُمَا: أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَقَدْ سَمَّى فِيهِ بَدَلاً مَعْلُومًا.
وَلأَِبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الشَّرْطَ الأَْوَّل صَحَّ وَمُوجِبَهُ الْمُسَمَّى، وَالشَّرْطَ الثَّانِيَ يَنْفِي مُوجِبَ الأَْوَّل، وَالتَّسْمِيَةُ مَتَى صَحَّتْ لاَ يَجُوزُ نَفْيُ مُوجِبِهَا فَيَبْطُل الشَّرْطُ الثَّانِي.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً وَأَلْفَيْنِ إِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً صَحَّ الشَّرْطَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لاَ مُخَاطَرَةَ هُنَا لأَِنَّ الْمَرْأَةَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ أَنَّ الزَّوْجَ يَجْهَلُهَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الأُْولَى الْمُخَاطَرَةُ مَوْجُودَةٌ فِي التَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يُدْرَى أَنَّ الزَّوْجَ هَل يَفِي بِالشَّرْطِ الأَْوَّل أَمْ لاَ (1) .
134 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَزَوَّجَ الرَّجُل امْرَأَةً عَلَى شَرْطِ أَنْ لاَ تَأْتِيَهُ أَوْ أَنْ لاَ يَأْتِيَهَا إِلاَّ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً فَقَطْ فُسِخَ النِّكَاحُ قَبْل الدُّخُول لاَ بَعْدَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُنَاقِضُ مُقْتَضَى النِّكَاحِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْخَلَل فِي الصَّدَاقِ، وَلِذَا كَانَ يَثْبُتُ بَعْدَ الدُّخُول بِصَدَاقِ الْمِثْل، لأَِنَّ الصَّدَاقَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا الشَّرْطِ.
وَلَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ بِخِيَارِهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لأَِحَدِ
__________
(1) الاختيار 3 / 105، 106، والبحر الرائق 3 / 171، وتبيين الحقائق 2 / 148، 149.

(41/305)


الزَّوْجَيْنِ أَوْ لَهُمَا أَوْ لأَِجْنَبِيٍّ فُسِخَ قَبْل الدُّخُول، وَثَبَتَ بَعْدَهُ بِالْمُسَمَّى إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَبِصَدَاقِ الْمِثْل، إِلاَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ هُنَا إِذَا اشْتَرَطَ.
وَلَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالصَّدَاقِ لِوَقْتِ كَذَا فَلاَ نِكَاحَ فَيُفْسَخُ قَبْل الدُّخُول فَقَطْ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فُسِخَ أَبَدًا.
وَقَالُوا: كُل مَا وَقَعَ عَلَى شَرْطٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ؟ كَأَنْ وَقَعَ عَلَى شَرْطِ أَنْ لاَ يَقْسِمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ضَرَّتِهَا فِي الْمَبِيتِ، أَوْ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُؤْثِرَ عَلَيْهَا ضَرَّتَهَا، أَوْ شَرَطَ أَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهَا أَوْ عَلَى أَبِيهَا، أَوْ أَنْ لاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، أَوْ شَرَطَتْ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا، أَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، أَوْ شَرَطَتْ زَوْجَةُ الصَّغِيرِ أَوِ السَّفِيهِ أَوِ الْعَبْدِ أَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الْوَلِيِّ أَوِ السَّيِّدِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ فِي الْجَمِيعِ قَبْل الدُّخُول، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَيُلْغَى الشَّرْطُ (1) .
135 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الشَّرْطُ فِي النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ فَهُوَ لَغْوٌ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لاَ يُخَالِفُ مُقْتَضَى النِّكَاحِ، بِأَنْ شَرَطَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، أَوْ يَقْسِمَ لَهَا، أَوْ يَتَسَرَّى، أَوْ
__________
(1) الشرح الصغير والصاوي 2 / 384 - 386، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 238.

(41/306)


يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ، أَوْ يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ لاَ تَخْرُجَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَهَذَا لاَ يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ (1) .

وَإِنْ شَرَطَ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ فَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لاَ يُخِل بِالْمَقْصُودِ الأَْصْلِيِّ مِنَ النِّكَاحِ فَيُفْسِدُ الشَّرْطَ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا بِأَنْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ لاَ يَتَسَرَّى، أَوْ لاَ يُطَلِّقَهَا، أَوْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا، أَوْ كَانَ الشَّرْطُ عَلَيْهَا بِأَنْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَقْسِمَ لَهَا، أَوْ لاَ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ضَرَّاتِهَا فِي سَكَنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ فَسَادُ الشَّرْطِ لاَ يُفْسِدُ النِّكَاحَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ: يُبْطِل النِّكَاحَ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُخِل بِمَقْصُودِ النِّكَاحِ كَأَنْ شَرَطَ الزَّوْجُ أَنْ لاَ يَطَأَ زَوْجَتَهُ أَصْلاً، أَوْ أَنْ لاَ يَطَأَهَا إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً مَثَلاً فِي السَّنَةِ، أَوْ أَنْ لاَ يَطَأَهَا إِلاَّ لَيْلاً فَقَطْ، أَوْ إِلاَّ نَهَارًا، أَوْ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ بَطَل النِّكَاحُ، لأَِنَّهُ يُنَافِي مَقْصُودَ النِّكَاحِ فَأَبْطَلَهُ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - أَيِ النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ - مِنَ الْبُطْلاَنِ فِيمَا إِذَا شَرَطَ عَدَمَ الْوَطْءِ هُوَ مَا صَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ، وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ الأَْشْبَهُ، وَالَّذِي صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 264، 265، ومغني المحتاج 3 / 226 - 227.

(41/306)


وَتَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ فِيمَا إِذَا شَرْطُهُ الصِّحَّةُ، لأَِنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ تَرْكُهُ وَالتَّمْكِينُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَمَا قَالَهُ الأَْذْرُعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَال فِي الْبَحْرِ إِنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَلَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لاَ تَرِثُهُ أَوْ أَنَّهُ لاَ يَرِثُهَا أَوْ أَنَّهُمَا لاَ يَتَوَارَثَانِ، أَوْ أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ بَطَل النِّكَاحُ أَيْضًا، كَمَا قَالَهُ فِي أَصْل الرَّوْضَةِ عَنِ الْحَنَّاطِيِّ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَصَحَّحَ الْبُلْقَيْنِيُّ الصِّحَّةَ وَبُطْلاَنَ الشَّرْطِ.
وَلَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ خِيَارًا فِي النِّكَاحِ بَطَل، لأَِنَّ النِّكَاحَ مَبْنَاهُ عَلَى اللُّزُومِ، فَشَرْطُ مَا يُخَالِفُ قَضِيَّتَهُ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عَيْبٍ مُثْبِتٍ لِلْخِيَارِ قَال الزَّرْكَشِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مُخَالِفٌ لإِِطْلاَقِ الأَْصْحَابِ.
وَلَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ خِيَارًا فِي الْمَهْرِ فَالأَْظْهَرُ صِحَّةُ النِّكَاحِ، لأَِنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ، وَلاَ يَصِحُّ الْمَهْرُ فِي الأَْظْهَرِ بَل يَفْسُدُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْل، لأَِنَّ الصَّدَاقَ لاَ يَتَمَحَّضُ عِوَضًا بَل فِيهِ مَعْنَى النِّحْلَةِ فَلاَ يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ، وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَرْضَ بِالْمُسَمَّى إِلاَّ بِالْخِيَارِ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ الْمَهْرُ، وَالثَّالِثُ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ لِفَسَادِ الْمَهْرِ أَيْضًا.

(41/307)


136 - وَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: مَحَل الْمُعْتَبَرِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا وَرَدَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَوْ قَبْلَهُ، كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فُلاَنَةَ بِشَرْطِ كَذَا وَنَحْوِهِ وَيَقْبَل الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا تَوَافَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ قَبْل الْعَقْدِ، لأَِنَّ الأَْمْرَ بِالْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ وَالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ يَتَنَاوَل ذَلِكَ تَنَاوُلاً وَاحِدًا، وَلاَ يَلْزَمُ الشَّرْطُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ لِفَوَاتِ مَحَل الشَّرْطِ.
وَالشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ قِسْمَانِ:

الْقِسْمُ الأَْوَّل: صَحِيحٌ: وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، كَتَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ إِلَى الزَّوْجِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَتَسْلِيمِهَا الْمَهْرَ وَتَمْكِينِهَا مِنْ الاِنْتِفَاعِ بِهِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: شَرْطُ مَا تَنْتَفِعُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا لاَ يُنَافِي الْعَقْدَ كَزِيَادَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي مَهْرِهَا أَوْ فِي نَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ، أَوِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ مَهْرِهَا مِنْ نَقْدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ تَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَنْقُلَهَا مِنْ دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا أَوْ أَنْ لاَ يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ أَنْ لاَ يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَبَوَيْهَا أَوْ أَوْلاَدِهَا، أَوْ عَلَى أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ، أَوْ شَرَطَتْ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَلاَ يَتَسَرَّى، أَوْ شَرَطَ لَهَا طَلاَقَ ضَرَّتِهَا أَوْ بَيْعَ أَمَتِهِ، فَهَذَا النَّوْعُ صَحِيحٌ لاَزِمٌ لِلزَّوْجَةِ بِمَعْنَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا بِعَدَمِهِ، لِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَشَرَطَ لَهَا دَارَهَا ثُمَّ أَرَادَ نَقْلَهَا، فَخَاصَمُوهُ إِلَى عُمَرَ

(41/307)


رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: لَهَا شَرْطُهَا، فَقَال الرَّجُل: إِذَنْ يُطَلِّقْنَنَا، فَقَال عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَلأَِنَّهُ شَرَطَ لَهَا مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً لاَ تَمْنَعُ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ فَكَانَ لاَزِمًا.
وَالشَّرْطُ الصَّحِيحُ لاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بَل يُسَنُّ؟ لأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَ لأََجْبَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الزَّوْجَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُجْبِرْهُ بَل قَال: لَهَا شَرْطُهَا، فَإِنْ لَمْ يَفِ الزَّوْجُ بِشَرْطِهَا فَلَهَا الْفَسْخُ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَثَرِ عُمَرَ، وَلأَِنَّهُ شَرْطٌ لاَزِمٌ فِي عَقْدٍ فَثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِهِ، كَالرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي الْبَيْعِ.
وَحَيْثُ قُلْنَا تُفْسَخُ فَبِفِعْلِهِ مَا شَرَطَ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ لاَ بِعَزْمِهِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَ كَفِعْلِهِ، وَالْفَسْخُ عَلَى التَّرَاخِي.
وَلاَ تَلْزَمُ هَذِهِ الشُّرُوطُ إِلاَّ فِي النِّكَاحِ الَّذِي شُرِطَتْ فِيهِ، فَإِنْ بَانَتِ الْمُشْتَرِطَةُ مِنْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيَةً لَمْ تَعُدِ الشُّرُوطُ، لأَِنَّ زَوَال الْعَقْدِ زَوَالٌ لِمَا هُوَ مُتَرَبِّطٌ بِهِ.
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُخْرِجَهَا مِنْ مَنْزِل أَبَوَيْهَا، فَمَاتَ الأَْبُ أَوِ الأُْمُّ بَطَل الشَّرْطُ، لأَِنَّ الْمَنْزِل صَارَ لأَِحَدِهِمَا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُمَا، فَاسْتَحَال إِخْرَاجُهَا مِنْ مَنْزِل أَبَوَيْهَا، فَبَطَل الشَّرْطُ. وَلَوْ تَعَذَّرَ سَكَنُ الْمَنْزِل الَّذِي اشْتَرَطَتْ سُكْنَاهُ - بِخَرَابٍ وَغَيْرِهِ - سَكَنَ بِهَا الزَّوْجُ

(41/308)


حَيْثُ أَرَادَ، وَسَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفَسْخِ، لأَِنَّ الشَّرْطَ عَارِضٌ - وَقَدْ زَال - فَرَجَعْنَا إِلَى الأَْصْل، وَالسُّكْنَى مَحْضُ حَقِّهِ، وَقَال ابْنُ تَيْمِيَةَ: فِيمَنْ شَرْطُهَا لَهَا أَنْ يُسْكِنَهَا بِمَنْزِل أَبِيهِ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ طَلَبَتْ سُكْنَى مُنْفَرِدَةً وَهُوَ عَاجِزٌ: لاَ يَلْزَمُهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ بَل وَلَوْ كَانَ قَادِرًا.
وَلَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ وَكِسْوَتَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً صَحَّ الشَّرْطُ وَكَانَتْ مِنَ الْمَهْرِ، وَظَاهِرُهُ إِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْمُدَّةَ لَمْ يَصِحَّ لِلْجَهَالَةِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ فَاسِدٌ، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يُبْطِل النِّكَاحَ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ وَلاَ مَهْرَ بَيْنَهُمَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشِّغَارِ " (1) .
وَتَفْصِيل مَا يَكُونُ بِهِ الشِّغَارُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ،
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 162 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1034 ط عيسى الحلبي) .

(41/308)


وَأَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شِغَار ف وَمَا بَعْدَهَا، وَنِكَاح مَنْهِيّ عَنْهُ ف 5 - 9) .

الثَّانِي: نِكَاحُ الْمُحَلِّل، بِأَنْ يَتَزَوَّجَ رَجُلٌ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا بِشَرْطِ أَنَّهُ مَتَى أَحَلَّهَا لِلأَْوَّل طَلَّقَهَا، أَوْ لاَ نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، أَوِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَهَذَا النِّكَاحُ حَرَامٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ " (1) وَالتَّفْصِيل فِي (تَحْلِيل ف 6 - 11) .

الثَّالِثُ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ إِلَى مُدَّةٍ، أَوْ يَقُول: أَمْتِعِينِي نَفْسَكِ فَتَقُول: أَمْتَعْتُكَ نَفْسِي، لاَ بِوَلِيٍّ وَلاَ شَاهِدَيْنِ، لِمَا رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ " (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاح مَنْهِيّ عَنْهُ ف 11 - 15) .

الرَّابِعُ: إِذَا شَرَطَ نَفْيَ الْحِل فِي نِكَاحٍ، بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لاَ تَحِل لَهُ، فَلاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحل والمحلل له ". أخرجه الترمذي (3 / 419 ط الحلبي) وقال: حسن صحيح
(2) حديث سبرة الجهني: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم الفتح عن متعة النساء ". أخرجه مسلم (2 / 1026 - ط عيسى الحلبي) .

(41/309)


لاِشْتِرَاطِهِ مَا يُنَافِيهِ، أَوْ عَلَى ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ غَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أَوْ إِذَا رَضِيَتْ أُمُّهَا، أَوْ إِذَا رَضِيَ فُلاَنٌ، لأَِنَّ ذَلِكَ وَقَفَ النِّكَاحَ عَلَى شَرْطٍ، وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ كَالْبَيْعِ، وَيَصِحُّ: زَوَّجْتُ، وَقَبِلْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّكَاحِ: إِذَا شَرَطَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي الْمَهْرِ، أَوْ شَرَطَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَدَمَ الْوَطْءِ، أَوْ شَرَطَتْ إِنْ جَاءَ بِالْمَهْرِ فِي وَقْتِ كَذَا وَإِلاَّ فَلاَ نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، أَوْ شَرَطَ الزَّوْجُ عَدَمَ الْمَهْرِ، أَوِ النَّفَقَةِ، أَوْ قَسَمَ لَهَا أَقَل مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ إِنْ أَصْدَقَهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَصْدَقَ أَوْ بِبَعْضِهِ، أَوْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَعْزِل عَنْهَا، أَوْ شَرَطَتْ أَنْ لاَ يَكُونَ عِنْدَهَا فِي الْجُمُعَةِ إِلاَّ لَيْلَةً، أَوْ لاَ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا إِلَيْهِ أَوْ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إِذَا أَرَادَتِ انْتِقَالاً، أَوْ أَنْ يَسْكُنَ بِهَا حَيْثُ شَاءَتْ أَوْ حَيْثُ شَاءَ أَبُوهَا أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ شَرَطَتْ أَنْ تَسْتَدْعِيَهُ لِلْجِمَاعِ وَقْتَ حَاجَتِهَا أَوْ وَقْتَ إِرَادَتِهَا، أَوْ شَرَطَ لَهَا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْل فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا يَبْطُل الشَّرْطُ لأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَيَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ حُقُوقٍ تَجِبُ بِالْعَقْدِ قَبْل انْعِقَادِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ قَبْل الْبَيْعِ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ لأَِنَّ

(41/309)


هَذِهِ الشُّرُوطَ تَعُودُ إِلَى مَعْنًى زَائِدٍ فِي الْعَقْدِ لاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِهِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْل بِالْعِوَضِ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَالْعِتْقِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَ رَجَلٌ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَبَانَتْ كِتَابِيَّةً، أَوْ قَال الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْمُسْلِمَةَ فَبَانَتْ كَافِرَةً كِتَابِيَّةً فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ شَرَطَ صِفَةً مَقْصُودَةً فَبَانَتْ بِخِلاَفِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَهَا حُرَّةً فَبَانَتْ أَمَةً.
وَإِنْ شَرَطَهَا كَافِرَةً فَبَانَتْ مُسْلِمَةً، أَوْ أَمَةً فَبَانَتْ حُرَّةً، أَوْ ذَاتَ نَسَبٍ فَبَانَتْ أَشْرَفَ، أَوْ عَلَى صِفَةٍ دَنِيَّةٍ فَبَانَتْ أَعْلَى مِنْهَا فَلاَ خِيَارَ لَهُ لأَِنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ خَيْرٍ فِيهَا.
وَإِنْ شَرَطَهَا بِكْرًا فَبَانَتْ ثَيِّبًا، أَوْ جَمِيلَةً نَسِيبَةً أَوْ بَيْضَاءَ أَوْ طَوِيلَةً، أَوْ شَرَطَ نَفْيَ الْعُيُوبِ الَّتِي لاَ يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ - كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالصَّمَمِ وَالشَّلَل وَنَحْوِهِ - فَبَانَتْ بِخِلاَفِ مَا شَرَطَ فَلَهُ الْخِيَارُ نَصًّا، لأَِنَّهُ شَرَطَ وَصْفًا مَقْصُودًا فَبَانَتْ بِخِلاَفِهِ، وَلاَ يَصِحُّ فَسْخٌ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ إِلاَّ بِحُكْمِ حَاكِمٍ لأَِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ (1) .

آثَارُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ:
الآْثَارُ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ خَاصَّةً بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
__________
(1) كشاف القناع 5 / 90 - 99.

(41/310)


أَوَّلاً: الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
أ - الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ:
137 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعَاشَرَةَ بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيَلْزَمُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُعَاشَرَةُ الآْخَرِ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الصُّحْبَةِ الْجَمِيلَةِ، وَكَفِّ الأَْذَى، وَأَنْ لاَ يُمَاطِل بِحَقِّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ، وَلاَ يُظْهِرَ الْكَرَاهَةَ لِبَذْلِهِ، بَل يَبْذُلُهُ بِبِشْرٍ وَطَلاَقَةٍ، وَلاَ يُتْبِعَهُ مِنَّةً وَلاَ أَذًى، لأَِنَّ هَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (1) } وَقَوْلِهِ {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (2) } قَال أَبُو زَيْدٍ: تَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيكُمْ، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنِّي لأَُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وَحَقُّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلرِّجَال عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (3) } .
وَيُسَنُّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْسِينُ الْخُلُقِ لِصَاحِبِهِ، وَالرِّفْقُ لَهُ، وَاحْتِمَال أَذَاهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
__________
(1) سورة النساء / 19.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) سورة البقرة / 228.

(41/310)


وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (1) } قِيل: الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ هُوَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، قَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مُعَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ بِالتَّلَطُّفِ لِئَلاَّ تَقَعَ النَّفْرَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَ إِقَامَةِ هَيْبَةِ الزَّوْجِ لِئَلاَّ تَسْقُطَ حُرْمَتُهُ عِنْدَهَا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قِيل: الْمُعَاشَرَةُ بِالْفَضْل وَالإِْحْسَانِ قَوْلاً وَفِعْلاً وَخُلُقًا، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَِهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَِهْلِي " (3) .

ب - اسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالآْخَرِ:
138 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَحِل لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الاِسْتِمْتَاعُ بِالآْخَرِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
__________
(1) سورة النساء / 36.
(2) القرطبي 5 / 97، والمهذب 2 / 66، 67، وبدائع الصنائع 2 / 334، وكشاف القناع 5 / 184، 185.
(3) حديث: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ". أخرجه الترمذي (5 / 709 ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: حسن غريب صحيح

(41/311)


نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَحِل لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الاِسْتِمْتَاعُ بِالآْخَرِ، كَمَا يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ صَاحِبِهِ وَكَذَا لَمْسُهُ (1) لِحَدِيثِ: " احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ " (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ الأَْصْلِيَّةِ حِل وَطْءِ الزَّوْجِ لِزَوْجِهِ إِلاَّ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالإِْحْرَامِ وَفِي الظِّهَارِ قَبْل التَّكْفِيرِ، قَال تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (3) } ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ " (4) وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الإِْنْكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ ضَمٌّ وَتَزْوِيجٌ لُغَةً فَيَقْتَضِي الاِنْضِمَامَ وَالاِزْدِوَاجَ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 123، 134، والمغني 6 / 557.
(2) حديث: " احفظ عورتك. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 304 ط حمص) ، والترمذي (5 / 110 ط الحلبي) ، من حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه وقال الترمذي: حديث حسن
(3) سورة المؤمنون / 5، 6.
(4) حديث: " اتقوا الله في النساء. . . ". أخرجه مسلم (2 / 889 - ط عيسى الحلبي) من حديث جابر رضي الله عنه

(41/311)


ذَلِكَ إِلاَّ بِحِل الْوَطْءِ وَالاِسْتِمْتَاعِ، وَحِل الاِسْتِمْتَاعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ كَمَا تَحِل لِزَوْجِهَا فَزَوْجُهَا يَحِل لَهَا، قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ (1) } وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إِلاَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ مَانِعَةٍ مِنَ الْوَطْءِ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالإِْحْرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِالْوَطْءِ، لأَِنَّ حِلَّهُ لَهَا حَقُّهَا، كَمَا أَنَّ حِلَّهَا لَهُ حَقُّهُ، وَإِذَا طَالَبَتْهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ.
وَأَضَافَ الْكَاسَانِيُّ: وَمِنَ الأَْحْكَامِ الأَْصْلِيَّةِ لِلنِّكَاحِ الصَّحِيحِ حِل النَّظَرِ وَالْمَسِّ مِنْ رَأْسِهَا - أَيِ الزَّوْجَةِ - إِلَى قَدَمَيْهَا فِي حَال الْحَيَاةِ، لأَِنَّ الْوَطْءَ فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ فَكَانَ إِحْلاَلُهُ إِحْلاَلاً لِلْمَسِّ وَالنَّظَرِ مِنْ طَرِيقِ الأَْوْلَى (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَحِل لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ النَّظَرُ لِسَائِرِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَتَّى
__________
(1) سورة الممتحنة / 10.
(2) بدائع الصنائع 2 / 331.

(41/312)


نَظَرُ الْفَرْجِ، وَيَحِل بِالنِّكَاحِ وَالْمِلْكِ لِلأُْنْثَى تَمَتَّعٌ بِغَيْرِ وَطْءِ دُبُرٍ (1) .

ج - الإِْرْثُ:
139 - مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ التَّوَارُثُ، فَيَرِثُ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ كَمَا تَرِثُ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مَتَى تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِيرَاثَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ (2) } .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْث ف 36 - 38) .

د - حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ:
140 - تَحْرُمُ الزَّوْجَةُ عَلَى آبَاءِ الزَّوْجِ وَأَجْدَادِهِ وَأَبْنَائِهِ وَفُرُوعِ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ أُمَّهَاتُ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ نَزَلْنَ، لأَِنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَأُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، كَمَا تَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل زَوْجَةُ الأَْبِ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 341.
(2) سورة النساء / 12.

(41/312)


وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ مِنَ الْعَصَابَاتِ أَوْ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، وَكَذَلِكَ تَحْرُمُ زَوْجَةُ الْفَرْعِ وَإِنْ سَفَل.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُحَرِّمَات النِّكَاحِ ف 9، 12، 23) .

هـ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ:
141 - يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ فِي الزَّوْجِيَّةِ الصَّحِيحَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مَتَى تَوَافَرَتْ سَائِرُ شُرُوطِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَب ف11) .

ثَانِيًا: حُقُوقُ الزَّوْجِ:
142 - حُقُوقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِهَا عَلَيْهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَال عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (2) } ، قَال الْجَصَّاصُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنَّ الزَّوْجَ مُخْتَصٌّ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ مِثْلُهُ (3) .
__________
(1) حديث: " الولد للفراش ". أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 292 - ط السلفية) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 374 - ط دار الكتاب العربي - بيروت.

(41/313)


وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلرِّجَال عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الزَّوْجَ مُفَضَّلٌ عَلَيْهَا، مُقَدَّمٌ فِي النِّكَاحِ فَوْقَهَا (&# x661 ;) .
وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ:

أ - طَاعَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا:
143 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (2) } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَال عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (3) } ، وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ طَاعَةِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ لاَ تَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّهُ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل " (4) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 88 - ط دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي - القاهرة.
(2) سورة النساء / 34.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) حديث: " لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل ". أخرجه أحمد (1 / 131 ط الميمنية) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال أحمد شاكر في لتعليق عليه (2 / 248 ط دار المعارف) : إسناده صحيح

(41/313)


وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَاعَة ف 10 وَمَا بَعْدَهَا، عِشْرَة ف 12، زَوْج ف 2) .

ب - تَسْلِيمُ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ:
144 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً لِلْجِمَاعِ وَتَسَلَّمَتْ مُعَجَّل صَدَاقِهَا وَطَلَبَ الزَّوْجُ تَسَلُّمَهَا وَجَبَ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَسْلِيم ف 19، 20، زَوْج ف 3، عِشْرَة ف 8 - 14) .

ج - عَدَمُ إِذْنِ الزَّوْجَةِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ لِمَنْ يَكْرَهُ دُخُولَهُ:
145 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ لأَِحَدٍ يَكْرَهُ دُخُولَهُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ " (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِشْرَة ف 16، زَوْج ف 4) .

د - عَدَمُ خُرُوجِ الزَّوْجَةِ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ:
146 - مِنْ حَقَّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ
__________
(1) حديث: " فأما حقكم على نسائكم. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 467 ط الحلبي) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه وقال. حسن صحيح.

(41/314)


تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ خَرَجَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ فَقَدِ ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اشْتَرَطُوا فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ صَالِحًا لِلْبَقَاءِ فِيهِ، وَأَلاَّ يُوجَدَ سَبَبٌ يُجِيزُ لَهَا الْخُرُوجَ مِنَ الْبَيْتِ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِحَدِيثِ: " أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَقَال: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلاَئِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى تَرْجِعَ " (1) .

هـ - سَفَرُ الزَّوْجِ بِامْرَأَتِهِ:
147 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِامْرَأَتِهِ، وَالاِنْتِقَال بِهَا إِلَى حَيْثُ يَنْتَقِل، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيل:
فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الأَْحْوَال الَّتِي يَحِقُّ فِيهَا لِلزَّوْجِ السَّفَرُ بِزَوْجَتِهِ:
قَال الْكَمَال: إِذَا أَوْفَاهَا مَهْرَهَا أَوْ كَانَ مُؤَجَّلاً نَقَلَهَا إِلَى حَيْثُ شَاءَ مِنْ بِلاَدِ اللَّهِ، وَكَذَا إِذَا وَطِئَهَا بِرِضَاهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
__________
(1) حديث: " ما حق الزوج على الزوجة. . . ". أخرجه البزار (كشف الأستار 2 / 177 ط مؤسسة الرسالة) ، من حديث عبد الله بن عباس، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4 / 307 ط القدسي) وقال: فيه حسين بن قيس، هو ضعيف، وبقية رجاله ثقات

(41/314)


وَمُحَمَّدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ (1) } .
وَقِيل: لاَ يُخْرِجُهَا إِلَى بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهَا لأَِنَّ الْغَرِيبَ يُؤْذَى، وَاخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، قَال ظَهِيرُ الدِّينِ الْمِرْغِينَانِيُّ: الأَْخْذُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنَ الأَْخْذِ بِقَوْل الْفَقِيهِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} ، وَأَفْتَى كَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ بِقَوْل الْفَقِيهِ لأَِنَّ النَّصَّ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْمُضَارَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} بَعْدَ {أَسْكِنُوهُنَّ} وَالنَّقْل إِلَى غَيْرِ بَلَدِهَا مُضَارَّةٌ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} مِمَّا لاَ مُضَارَّةَ فِيهَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ جَوَانِبِ مِصْرِهَا وَأَطْرَافِهِ وَالْقُرَى الْقَرِيبَةِ الَّتِي لاَ تَبْلُغُ مُدَّةَ سَفَرٍ، فَيَجُوزُ نَقْلُهَا مِنَ الْمِصْرِ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَمِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى الْمِصْرِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إِذَا أَوْفَاهَا الْمُعَجَّل وَالْمُؤَجَّل وَكَانَ رَجُلاً مَأْمُونًا فَلَهُ نَقْلُهَا (2) .
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَفْصِيل حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ:
قَال الدَّرْدِيرُ: إِنْ لَمْ يُسَلِّمِ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ الْمُعَيَّنَ أَوْ حَال الصَّدَاقِ الْمَضْمُونِ فَلَهَا مَنْعُ
__________
(1) سورة الطلاق / 6
(2) الهداية وفتح القدير 3 / 250، وانظر رد المحتار 2 / 360.

(41/315)


نَفْسِهَا مِنَ الدُّخُول حَتَّى تَسْلِيمِهِ لَهَا، وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا مِنَ الْوَطْءِ بَعْدَ الدُّخُول، وَلَهَا الْمَنْعُ مِنَ السَّفَرِ مَعَهُ قَبْل الدُّخُول إِلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا مَا حَل مِنَ الْمَهْرِ أَصَالَةً أَوْ بَعْدَ التَّأْجِيل، هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُل وَطْءٌ وَلاَ تَمْكِينٌ مِنْهُ، فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا لَهُ - وَطِئَ أَوْ لَمْ يَطَأْ - فَلَيْسَ لَهَا مَنْعٌ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَطْءٍ وَلاَ سَفَرٍ مَعَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَإِنَّمَا لَهَا الْمُطَالَبَةُ فَقَطْ وَرَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ كَالْمَدِينِ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَحِقَّ الصَّدَاقَ مِنْ يَدِهَا بَعْدَ الْوَطْءِ فَلَهَا الْمَنْعُ بَعْدَ الاِسْتِحْقَاقِ حَتَّى تَقْبِضَ عِوَضَهُ، لأَِنَّ مِنْ حُجَّتِهَا أَنْ تَقُول: مَكَّنْتُهُ حَتَّى يُتِمَّ الصَّدَاقَ لِي وَلَمْ يُتِمَّ، وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَمْكِينِهَا بَعْدَ الاِسْتِحْقَاقِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا بَدَلَهُ إِنْ غَرَّهَا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ، بَل وَلَوْ لَمْ يُغْرِهَا لاِعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِأَنْ وَرِثَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ السَّفَرُ مَعَ زَوْجِهَا، إِلاَّ أَنَّ لَهَا حَبْسَ نَفْسِهَا لِتَقْبِضَ الْمَهْرَ الْمُعَيَّنَ وَالْحَال، لاَ الْمُؤَجَّل لِرِضَاهَا بِالتَّأْجِيل (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِلزَّوْجِ السَّفَرُ بِزَوْجَتِهِ حَيْثُ
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 434، 435، وجواهر الإكليل 1 / 307، والشرح الكبير والدسوقي 2 / 297، 298.
(2) حاشية القليوبي 3 / 277.

(41/315)


شَاءَ، إِلاَّ أَنْ تَشْتَرِطَ بَلَدَهَا، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ بِنِسَائِهِمْ، فَإِنِ اشْتَرَطَتْ بَلَدَهَا فَلَهَا شَرْطُهَا لِحَدِيثِ: " إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ " (1) ، وَإِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ سَفَرٌ بِهَا بِلاَ إِذْنِ سَيِّدِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهَا نَهَارًا عَلَى سَيِّدِهَا، وَلَيْسَ لِسَيِّدٍ سَفَرٌ بِأَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ بِلاَ إِذْنِ الزَّوْجِ لأَِنَّهُ يُفَوِّتُ حَقَّهُ مِنْهَا (2) .

و خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا:
148 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ خِدْمَةِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا، وَالأَْوْلَى لَهَا فِعْل مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ خِدْمَةِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا دِيَانَةً لاَ قَضَاءً.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةَ زَوْجِهَا فِي الأَْعْمَال الْبَاطِنَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجَةِ بِمِثْلِهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِشْرَة ف 18، خِدْمَة ف 18) .
__________
(1) حديث: " إن أحق الشرط أن يوفى به. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1036 - ط عيسى الحلبي) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه
(2) مطالب أولي النهى 5 / 258.

(41/316)


ز - تَأْدِيبُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ:
149 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ تَأْدِيبَ زَوْجَتِهِ لِنُشُوزِهَا وَمَا يَتَّصِل بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (1) } .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَأْدِيب ف 4، 8، 11، عِشْرَة ف 10، زَوْج ف 7، نُشُوز ف 12 وَمَا بَعْدَهَا) .

ح - الطَّلاَقُ: 150 - إِنْهَاءُ النِّكَاحِ بِالطَّلاَقِ حَقٌّ لِلزَّوْجِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَالأَْصْل فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الإِْبَاحَةُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِيهِ الْحَظْرُ، لَكِنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ بِحَسَبِ مَا يُرَافِقُهُ مِنْ قَرَائِنَ وَأَحْوَالٍ.
وَفِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .

ثَالِثًا: حُقُوقُ الزَّوْجَةِ:
يُرَتِّبُ عَقْدُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ حُقُوقًا لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا هِيَ:

أ - الْمَهْرُ:
151 - يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ
__________
(1) سورة النساء / 34.

(41/316)


الْمَهْرُ لِلزَّوْجَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْوُجُوبُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (1) } .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُرِيدِ النِّكَاحِ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ " (2) ، وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَهْر ف 3) .

ب - النَّفَقَةُ:
152 - تَجِبُ لِلزَّوْجَةِ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (3) } ، وَقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " (4) .
__________
(1) سورة النساء / 4.
(2) حديث: " التمس ولو خاتما من حديد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 175 ط السلفية) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه
(3) سورة البقرة / 233.
(4) حديث: " اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن. . . ". تقدم تخريجه فقرة (138) .

(41/317)


وَفِي شُرُوطِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ، وَمِقْدَارِهَا، وَمَا تَتَوَقَّفُ بِهِ، وَمَا تَسْقُطُ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة) .

ج - إِخْدَامُ الزَّوْجَةِ:
153 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِخْدَامُهَا، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَلأَِنَّ هَذَا مِنْ كِفَايَتِهَا وَمِمَّا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خِدْمَة ف 7 وَمَا بَعْدَهَا) .

د - الْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
154 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُل أَنْ يَعْدِل فِي الْقَسْمِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، وَأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: " إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُل امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِل بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ " (1) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 438 ط الحلبي) ، والحاكم (2 / 186 ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(41/317)


وَفِي الْقَسْمِ، وَمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْعَدْل فِيهِ، وَعِمَادُهُ مُدَّتُهُ، وَالزَّوْجُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، وَالزَّوْجَةُ الَّتِي تَسْتَحِقُّهُ، وَقَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهُ، فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَائِل الْقَسْمِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَسْم بَيْنَ الزَّوْجَاتِ ف هـ وَمَا بَعْدَهَا) .

هـ - الْبَيَاتُ عِنْدَ الزَّوْجَةِ:
155 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ بَيَاتِ الزَّوْجِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ أَوْ عَدَمِ تَقْدِيرِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْبَيَاتُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ وَإِنَّمَا يُسَنُّ لَهُ ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِشْرَة ف 23) .

و إِعْفَافُ الزَّوْجَةِ:
156 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ يَقُومَ بِإِعْفَافِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَطَأَهَا حَتَّى تَعِفَّ بِالْوَطْءِ الْحَلاَل عَنِ الْحَرَامِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ وَطْءِ الرَّجُل امْرَأَتَهُ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَزْل عَنِ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَزْل ف 35، وَطْء، عِشْرَة ف 22) .

(41/318)


آثَارُ النِّكَاحِ غَيْرِ الصَّحِيحِ:
157 - عَقْدُ النِّكَاحِ غَيْرُ الصَّحِيحِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَوْفِ أَرْكَانَهُ وَشُرُوطَ انْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ.
وَالْفُقَهَاءُ يُقَسِّمُونَ عَقْدَ النِّكَاحِ - كَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ - إِلَى صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي يَشْمَل - عِنْدَهُمُ - الْبَاطِل وَالْفَاسِدَ (1) .
وَعَقْدُ النِّكَاحِ غَيْرُ الصَّحِيحِ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِذَاتِهِ أَثَرٌ شَرْعِيٌّ إِلاَّ إِذَا أَعْقَبَهُ دُخُولٌ، فَإِنْ أَعْقَبَهُ دُخُولٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الآْثَارِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ - وُجُوبُ الْمَهْرِ:
158 - يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ بِالدُّخُول فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، لأَِنَّ الدُّخُول بِالْمَرْأَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ أَوِ الْمَهْرَ، وَحَيْثُ انْتَفَى الْحَدُّ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ الْمَهْرَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَهْر ف 3، 45) .

ب - وُجُوبُ الْعِدَّةِ:
159 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 286 ط دار الكتب العلمية - بيروت، والمنثور في القواعد للزركشي 3 / 7، ط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وروضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة ص 31، ط السلفية بالقاهرة (1385 هـ) .

(41/318)


الْمَرْأَةِ الْمَدْخُول بِهَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة ف 47) .

ج - ثُبُوتُ النَّسَبِ:
160 - يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فِي الْجُمْلَةِ، احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ، وَإِحْيَاءً لَهُ، وَلِعَدَمِ تَضْيِيعِهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نَسَب 12 - 13) .

د - ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ:
161 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالدُّخُول فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ الْفَاسِدِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مُحَرِّمَات النِّكَاحِ ف 12) .

نِكَاحُ الْكُفَّارِ:
162 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ صَحِيحٌ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ (1) } سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَتَهُ وَلَوْ كَانَ نِكَاحُهُمْ فَاسِدًا لَمْ تَكُنِ امْرَأَتَهُ حَقِيقَةً.
__________
(1) سورة القصص / 9.

(41/319)


وَلِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (1) } سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَتَهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةً لَمْ تَكُنِ امْرَأَتَهُ حَقِيقَةً، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ سُنَّةُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَهُمْ عَلَى شَرِيعَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ غَيْرِ سِفَاحٍ " (2) وَلأَِنَّ الْقَوْل بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ يُؤَدِّي إِلَى أَمْرٍ قَبِيحٍ، وَهُوَ الطَّعْنُ فِي نَسَبِ كَثِيرٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، لأَِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ وُلِدَ مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ وَمَا أَفْضَى إِلَى قَبِيحٍ ثَبَتَ فَسَادُهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ نِكَاحُ أَهْل الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ، لأَِنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِذْ هُوَ تَكْذِيبُ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - فِيمَا أَنْزَل عَلَى رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (3) } وَاخْتِلاَفُهُمْ فِي شَرَائِعِهِمْ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلاَفِ كُل فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ، وَذَا لاَ يَمْنَعُ جَوَازَ نِكَاحِ
__________
(1) سورة المسد / 4.
(2) حديث: " خرجت من نكاح غير سفاح " أخرجه الطبري في التفسير (11 / 56 ط دار المعرفة) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7 / 190 ط دائرة المعارف) من حديث محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم مرسلا
(3) سورة الكافرون / 6.

(41/319)


بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ كَذَا هَذَا (1) .
وَكُل نِكَاحٍ جَازَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - وَهُوَ الَّذِي اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ - فَهُوَ جَائِزٌ بَيْنَ أَهْل الذِّمَّةِ، وَأَمَّا مَا فَسَدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأَْنْكِحَةِ فَإِنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ فِي حَقِّهِمْ: مِنْهَا مَا يَصِحُّ وَمِنْهَا مَا يَفْسُدُ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا قَوْل أَصْحَابِنَا الثَّلاَثَةِ، وَقَال زُفَرُ: كُل نِكَاحٍ فَسَدَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَسَدَ فِي حَقِّ أَهْل الذِّمَّةِ حَتَّى لَوْ أَظْهَرُوا النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ، وَيُحْمَلُونَ عَلَى أَحْكَامِنَا، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْنَا، وَكَذَا إِذَا أَسْلَمُوا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا: لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا أَوْ أَسْلَمَا، بَل يُقَرَّانِ عَلَيْهِ.
وَجْهُ قَوْل الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: أَنَّنَا أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ إِلاَّ مَا اسْتَثْنَى مِنْ عُقُودِهِمْ كَالزِّنَا، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَثْنًى فَيَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ.
وَوَجْهُ قَوْل زُفَرَ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَقَدِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا، وَرَضُوا بِهَا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ طَلَّقَ الْكَافِرُ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ أَسْلَمَا مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ لَمْ تَحِل بِهِ إِلاَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 272، ومواهب الجليل 3 / 478، والدسوقي 2 / 267، ومغني المحتاج 3 / 193، ومطالب أولي النهى 5 / 155.
(2) بدائع الصنائع 2 / 310، 311.

(41/320)


بِمُحَلِّلٍ، لأَِنَّا إِنَّمَا نَعْتَبِرُ حُكْمَ الإِْسْلاَمِ، أَمَّا إِذَا تَحَلَّلَتْ فِي الْكُفْرِ فَيَكْفِي فِي الْحِل (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حُكْمُ نِكَاحِ الْكُفَّارِ كَنِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَجِبُ بِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، مِنْ نَحْوِ نَفَقَةٍ، وَقَسْمٍ، وَمَهْرٍ، وَصِحَّةِ إِيلاَءٍ، وَوُقُوعِ طَلاَقٍ وَخُلْعٍ، وَإِبَاحَةٍ لِزَوْجَةِ أَوَّل إِذَا كَانَ الأَْوَّل طَلَّقَهَا ثَلاَثًا وَكَانَ الثَّانِي وَطِئَهَا، وَإِحْصَانٍ إِذَا وَطِئَهَا، لأَِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَحَارِمِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ طَلَّقَ كَافِرٌ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْل وَطْءِ زَوْجٍ آخَرَ لَهَا لَمْ يُقَرَّا عَلَيْهِ لَوْ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَقَل مِنْ ثَلاَثٍ ثُمَّ أَسْلَمَا فَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا، لَكِنْ يُقَرُّ الْكُفَّارُ عَلَى أَنْكِحَةٍ مُحَرَّمَةٍ مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهَا وَلَمْ يَتَرَافَعُوا إِلَيْنَا، لأَِنَّ مَا لاَ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِهِمْ، فَلاَ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ.
فَإِنْ أَتَانَا الْكُفَّارُ قَبْل عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمْ عَقَدْنَاهُ عَلَى حُكْمِنَا كَأَنْكِحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَتَوْنَا بَعْدَهُ مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ عَلَى نِكَاحٍ لَمْ نَتَعَرَّضْ لِكَيْفِيَّةِ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُبَاحُ لِلزَّوْجِ عِنْدَ الإِْتْيَانِ إِلَيْنَا أُقِرَّا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُبَاحُ عِنْدَئِذٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 193، 195، وتحفة المحتاج 7 / 333، ونهاية المحتاج 2 / 292.

(41/320)


- كَذَاتِ مَحْرَمٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ أَوْ حُبْلَى، أَوْ كَانَ النِّكَاحُ شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً لَمْ تَمْضِ أَوِ اسْتِخْدَامُ نِكَاحِ مُطَلَّقَتِهِ ثَلاَثًا وَلَوْ مُعْتَقِدًا حِلَّهَا - فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّهُ حَالٌ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَمَنَعَ اسْتِدَامَتَهُ، كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ وَلَوِ اسْتَوْفَتْ شُرُوطَ الصِّحَّةِ فِي الصُّورَةِ لاِنْتِفَاءِ كَوْنِ الزَّوْجِ مُسْلِمًا، وَقِيل: صَحِيحَةٌ، وَفَصَّل بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: إِنِ اسْتَوْفَتْ شُرُوطَ الصِّحَّةِ كَانَتْ صَحِيحَةً وَإِلاَّ كَانَتْ فَاسِدَةً، وَعِنْدَ الْجَهْل تُحْمَل عَلَى الْفَسَادِ لأَِنَّهُ الْغَالِبُ، وَاسْتُظْهِرَ هَذَا الْقَوْل، وَكَوْنُ إِسْلاَمِ الزَّوْجِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ مَحِلُّهُ إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً.
وَالْقَوْل بِأَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ فَاسِدَةٌ مُطْلَقًا، أَوْ مَا لَمْ تَسْتَوْفِ الشُّرُوطَ - مَعَ أَنَّا لاَ نَتَعَرَّضُ لَهُمْ، وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا إِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ، أَوْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا - فَائِدَتُهُ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْل بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ مُطْلَقًا لاَ يَجُوزُ لَنَا تَوَلِّيهَا، وَعَلَى الْقَوْل بِالتَّفْصِيل يَجُوزُ لَنَا تَوَلِّيهَا إِنْ كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِ الصِّحَّةِ.
وَكُل نِكَاحٍ يَكُونُ فِي الشِّرْكِ جَائِزًا بَيْنَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ وَكَانَ الزَّوْجُ قَدْ
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 155 - 157.

(41/321)


دَخَل بِزَوْجَتِهِ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ نِكَاحَ أَهْل الشِّرْكِ لَيْسَ كَنِكَاحِ أَهْل الإِْسْلاَمِ (1)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ نِكَاحَ الْكُفَّارِ مَوْقُوفٌ، إِنْ أَسْلَمُوا وَقُرِّرُوا عَلَيْهِ تَبَيَّنَا صِحَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَرَّرُوا تَبَيَّنَّا فَسَادَهُ (2) .

انْتِهَاءُ النِّكَاحِ:
يَنْتَهِي النِّكَاحُ وَتَنْفَصِمُ عُقْدَتُهُ بِأُمُورٍ: مِنْهَا مَا يَكُونُ فَسْخًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ يَرْفَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ وَاسْتِمْرَارَهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ طَلاَقًا أَوْ فِي حُكْمِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:

أ - الْمَوْتُ:
163 - تَنْحَل رَابِطَةُ الزَّوْجِيَّةِ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ.
وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّكَاحِ الَّذِي انْتَهَى بِالْمَوْتِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَرِثُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا، وَأَنَّ الزَّوْجَةَ تَحُدُّ وَتَعْتَدُّ إِنْ تُوُفِّيَ الزَّوْجُ، وَيَحُل مَا أُجِّل مِنْ صَدَاقِهَا إِنْ كَانَ الْمُتَوَفَّى أَحَدُهُمَا. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَاد ف 9 وَمَا بَعْدَهَا، إِرْث ف 35 - 38، عِدَّة ف 8، 17 - 20، 58، 61، مَهْر ف 31، مَوْت) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 267، ومواهب الجليل 3 / 478، ومغني المحتاج 3 / 193.
(2) مغني المحتاج 3 / 193.

(41/321)


ب - الطَّلاَقُ:
164 - الطَّلاَقُ هُوَ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَال أَوِ الْمَآل بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالنِّكَاحُ الَّذِي يَرْفَعُهُ الطَّلاَقُ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَصْل مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلاَقِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَبِالسُّنَّةِ وَبِالإِْجْمَاعِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الأَْصْلِيِّ لِلطَّلاَقِ هَل هُوَ الإِْبَاحَةُ أَوِ الْحَظْرُ؟ كَمَا بَيَّنُوا مَسَائِلَهُ بَيَانًا وَافِيًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .

ج - الْخُلْعُ:
165 - الْخُلْعُ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ مَقْصُودٍ لِجِهَةِ الزَّوْجِ، بِلَفْظِ خُلْعٍ أَوْ طَلاَقٍ.
وَالْخُلْعُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِهِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (1) } ، وَبِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ - فِي أَوَّل خُلْعٍ وَقَعَ فِي الإِْسْلاَمِ -: " اقْبَل الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " (2) ، وَبِإِجْمَاعِ
__________
(1) سورة البقرة / 229.
(2) حديث: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 395 ط السلفية)

(41/322)


الصَّحَابَةِ وَالأُْمَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَجَوَازِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْخُلْعِ وَمَسَائِلَهُ بَيَانًا شَافِيًا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خُلْع ف 9 وَمَا بَعْدَهَا) .

د - الإِْيلاَءُ:
166 - إِذَا أَصَرَّ الزَّوْجُ الْمُولِي عَلَى عَدَمِ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ الَّتِي حَدَّدَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) } ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، بَل لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي فَيَأْمُرَ الزَّوْجَ بِالْفَيْءِ، فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِتَطْلِيقِهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل طَلَّقَهَا عَلَيْهِ الْقَاضِي.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِيلاَء ف 17 وَمَا بَعْدَهَا) .

هـ - اللِّعَانُ:
167 - إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُتَلاَعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا " (2)
__________
(1) سورة البقرة / 266، 227
(2) حديث: " المتلاعنان إذا تفرقا. . . ". أخرجه الدارقطني (3 / 276 ط دار المحاسن للطباعة) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 251 - ط المجلس العلمي) عن ابن عبد الهادي أنه جود إسناده

(41/322)


وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْفُرْقَةِ الَّتِي تَقَعُ بِاللِّعَانِ، هَل تَقَعُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، أَمْ لاَ بُدَّ لِوُقُوعِهَا مِنْ حُكْمِ الْقَاضِي؟ وَهَل تَتَوَقَّفُ عَلَى مُلاَعَنَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ؟ وَهَل هِيَ طَلاَقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ وَهَل الْحُرْمَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى اللِّعَانِ مُؤَبَّدَةٌ بِحَيْثُ لاَ تَحِل الْمَرْأَةُ لِمَنْ لاَعَنَهَا وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، أَوْ هِيَ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَنْتَهِي إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ الْمُلاَعِنُ نَفْسَهُ؟ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (فُرْقَة ف 12، لِعَان ف 23، 24) .

و إِعْسَارُ الزَّوْجِ:
168 - إِعْسَارُ الزَّوْجِ قَدْ يَكُونُ بِصَدَاقِ زَوْجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِنَفَقَتِهَا.
فَإِذَا أُعْسِرَ بِالصَّدَاقِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ بِهَذَا الإِْعْسَارِ أَقْوَالٌ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ بِذَلِكَ، وَلِلزَّوْجَةِ قَبْل الدُّخُول مَنْعُ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مُعَجَّل صَدَاقِهَا. وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ التَّفْرِيقَ بِإِعْسَارِ الزَّوْجِ عَنْ مُعَجَّل الصَّدَاقِ إِعْسَارًا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ مَا لَمْ يَدْخُل الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ.

(41/323)


وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وُجُوهٌ وَأَقْوَالٌ.
أَمَّا إِذَا أُعْسِرَ الزَّوْجُ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، وَثَبَتَ إِعْسَارُهُ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ التَّفْرِيقَ بِذَلِكَ فُرِقَّ بَيْنَهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِعْسَار ف 14، 19، طَلاَق ف 79 - 86، فُرْقَة ف 8) .

ز - الرِّدَّةُ:
169 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حِيل بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَقْرَبُ الزَّوْجُ الزَّوْجَةَ وَلاَ يَخْلُو بِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَيْنُونَتِهَا مِنْهُ؟ هَل تَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَهَل تَكُونُ طَلاَقًا أَوْ فَسْخًا؟
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رِدَّة ف 44، فُرْقَة ف 10) .

ح - غَيْبَةُ الزَّوْجِ:
170 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ غَيْبَةِ الزَّوْجِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَحَقَّقَ مَوْتُ الزَّوْجِ أَوْ يَمْضِيَ مِنَ الزَّمَنِ مَا لاَ يَعِيشُ إِلَى مِثْلِهِ غَالِبًا. وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حَالاَتِ الْغَيْبَةِ، وَبَيَّنُوا حُكْمَ كُل قِسْمٍ مِنْهَا.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (غَيْبَة ف 3، طَلاَق ف 87 وَمَا بَعْدَهَا، فُرْقَة ف 7، مَفْقُود ف 4) .

(41/323)


ط - فَوْتُ الْكَفَاءَةِ:
171 - إِذَا تَخَلَّفَتِ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُونَهَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَهُمْ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا، أَمَّا مَنْ لاَ يَعْتَبِرُونَ الْكَفَاءَةَ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالأَْوْلِيَاءِ، فَإِنْ تَخَلَّفَتِ الْكَفَاءَةُ لاَ يَبْطُل النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، بَل يَجْعَلُهُ عُرْضَةً لِلْفَسْخِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كَفَاءَة ف 21) .

ي - التَّحْرِيمُ الطَّارِئُ بِالرَّضَاعِ:
172 - الرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ الَّذِي يَطْرَأُ عَلَى النِّكَاحِ يَقْطَعُهُ، كَمَا يَمْنَعُ الرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ قَبْل النِّكَاحِ انْعِقَادَهُ وَابْتِدَاءَهُ، لأَِنَّ أَدِلَّةَ التَّحْرِيمِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ رَضَاعٍ مُقَارِنٍ وَبَيْنَ طَارِئٍ عَلَيْهِ. وَمَتَى ثَبَتَ الرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسَيْهِمَا، وَإِلاَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فَاسِدٌ.
وَهَذَا الرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ قَدْ يَقْتَضِي مَعَ قَطْعِهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، وَقَدْ لاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَضَاع ف 27، مُحَرِّمَات النِّكَاحِ ف 15) .

ك - الْعَيْبُ الَّذِي يُثْبِتُ الْخِيَارَ:
173 - إِذَا وَجَدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ - وَقَدِ اسْتَوْفَى عَقْدُ النِّكَاحِ أَرْكَانَهُ وَشُرُوطَهُ - بِصَاحِبِهِ عَيْبًا مِنَ

(41/324)


الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يَسْبِقْ عِلْمُهُ بِهَذَا الْعَيْبِ قَبْل الْعَقْدِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ اطِّلاَعِهِ عَلَيْهِ، وَاكْتَمَلَتِ الشُّرُوطُ اللاَّزِمَةُ لِلتَّفْرِيقِ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِهَذَا الزَّوْجِ - فِي الْجُمْلَةِ - فَسْخُ الْعَقْدِ وَرَدُّ النِّكَاحِ بِهَذَا الْعَيْبِ.
وَقَدْ أَحْصَى الْفُقَهَاءُ الْعُيُوبَ الَّتِي يُفَرَّقُ بِهَا وَبَيَّنُوهَا، كَمَا فَصَّلُوا شُرُوطَ التَّفْرِيقِ بِهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَمَنْ تَكُونُ بِهِ هَذِهِ الْعُيُوبُ هَل هُوَ الزَّوْجُ وَحْدَهُ أَوْ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ؟ وَنَوْعُ الْفُرْقَةِ بِالْعَيْبِ، وَمَا تَقَعُ بِهِ هَذِهِ الْفُرْقَةُ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَق ف 93 - 107) .