الموسوعة الفقهية الكويتية

نِكَاحُ الشِّغَارِ

انْظُرْ: مَهْرٌ، نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.

(41/324)


نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ النِّكَاحِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا.
أَمَّا النِّكَاحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ: فَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي وَرَدَ مِنَ الشَّارِعِ نَهْيٌ عَنْهُ (1) .

أَنْوَاعُ الأَْنْكِحَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَحُكْمُ كُل نَوْعٍ:
الأَْوَّل: نِكَاحُ الرَّايَاتِ:
2 - نِكَاحُ الرَّايَاتِ هُوَ: أَنَّ الْعَاهِرَاتِ وَالْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ وَعَلاَمَاتٍ لِيَعْلَمَ الْمَارُّ بِهَا عُهْرَهُنَّ، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَل عَلَيْهِنَّ لاَ يَمْنَعْنَ مَنْ يَجِيءُ إِلَيْهِنَّ، وَقَدِ اسْتُدِل لِتَحْرِيمِ وَإِبْطَال هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّكَاحِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَذَرُوا ظَاهِرَ
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن، والتعريفات للجرجاني، وكشف الأسرار للنسفي 1 / 97، والبحر المحيط للزركشي 2 / 426، والتلويح 1 / 216.

(41/325)


الإِْثْمِ (1) } قَال السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: ظَاهِرُ الإِْثْمِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ مِنَ الزَّوَانِي، وَقَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ قِيل: مَعْنَى (ظَاهِرُ الإِْثْمِ) هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الزِّنَا الظَّاهِرِ (2)
وَبِحَدِيثِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُل إِلَى الرَّجُل وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُل يَقُول لاِمْرَأَتِهِ - إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا -: أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُل الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَل ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ: يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُول لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ
__________
(1) سورة الأنعام / 120
(2) تفسير القرطبي 7 / 74، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 270، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 182 - 185، والحاوي الكبير 11 / 7.

(41/325)


وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ الرَّجُل. وَنِكَاحٌ رَابِعٌ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَل عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَتْهُ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ " (1) .

الثَّانِي: نِكَاحُ الرَّهْطِ:
3 - نِكَاحُ الرَّهْطِ هُوَ أَنَّ النَّفَرَ مِنَ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْقَبَائِل كَانُوا يَشْتَرِكُونَ فِي إِصَابَةِ الْمَرْأَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَنْ رِضًا مِنْهَا وَتَوَاطُؤٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا وَيَكُونُ عَدَدُهُمْ - كَمَا نَصَّ الْحَدِيثُ - مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ: وَلَمَّا كَانَ هَذَا النِّكَاحُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ ضَبْطِ الْعَدَدِ الزَّائِدِ لِئَلاَّ يَنْتَشِرَ. حَتَّى إِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ أَلْحَقَتْهُ بِمَنْ تُرِيدُ مِنْهُمْ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْهُ (2) .
__________
(1) حديث: " أن النكاح في الجاهلية. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 182 ط السلفية)
(2) فتح الباري 9 / 182 - 183، والحاوي الكبير 11 / 7، 8

(41/326)


الثَّالِثُ: نِكَاحُ الاِسْتِبْضَاعِ:
4 - وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَصُورَتُهُ: قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: مَعْنَى اسْتَبْضِعِي مِنْهُ أَيِ اطْلُبِي مِنْهُ الْمُبَاضَعَةَ، وَالْمُبَاضَعَةُ: الْمُجَامَعَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبُضْعِ وَهُوَ الْفَرْجُ، أَيِ اطْلُبِي مِنْهُ الْجِمَاعَ اكْتِسَابًا مِنْ مَاءِ الْفَحْل لِتَحْمَلِي مِنْهُ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ فِي الشَّجَاعَةِ أَوِ الْكَرَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .

الرَّابِعُ: نِكَاحُ الشِّغَارِ:
5 - سَبَقَ تَعْرِيفُ نِكَاحِ الشِّغَارِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا فِي مُصْطَلَحِ (شِغَار ف 1) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الإِْسْلاَمِ (2) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشِّغَارِ " وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ (3) .
__________
(1) فتح الباري 9 / 185، والحاوي الكبير 11 / 7،8
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 332، وجواهر الإكليل 1 / 284، 311، والحاوي الكبير للماوردي 11 / 443 وما بعدها، وفتح الباري 9 / 162 - 164، ومغني المحتاج 3 / 142 وما بعدها، وكشاف القناع 5 / 92 - 94
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 162 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1034 ط الحلبي)

(41/326)


وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ شِغَارَ فِي الإِْسْلاَمِ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يَبْذُل الرَّجُل لِلرَّجُل أُخْتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ " (1) .
وَلِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " لاَ جَلَبَ وَلاَ جَنَبَ وَلاَ شِغَارَ فِي الإِْسْلاَمِ " (2) . وَبِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يَنْكِحَ هَذِهِ بِهَذِهِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، بُضْعُ هَذِهِ صَدَاقُ هَذِهِ وَبُضْعُ هَذِهِ صَدَاقُ هَذِهِ " (3) .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا النِّكَاحِ، وَفِي الْعِلَّةِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ مِنْ
__________
(1) حديث: " لا شغار في الإسلام. . . ". أخرجه الطبراني في الأوسط (4 / 19 - ط المعارف) . وابن ماجه دون تفسير الشغار (1 / 606 ط الحلبي) ، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 333 ط دار الجنان)
(2) حديث عمران بن حصين: (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام ". أخرجه أحمد (4 / 443 ط الميمنية) ، والترمذي (3 / 422 ط الحلبي) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
(3) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار. . . ". أخرجه البيهقي (7 / 200 ط دائرة المعارف العثمانية) ، ومسلم (2 / 1035 ط الحلبي) دون تفسير الشغار إلى آخره

(41/327)


أَجْلِهَا، وَفِي الصُّوَرِ الَّتِي يَشْمَلُهَا نِكَاحُ الشِّغَارِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ لاَ يَصِحُّ.
وَصُورَتُهُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُول الرَّجُل لآِخَرَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الأُْخْرَى، وَيَقْبَلُهُ الآْخَرُ بِقَوْلِهِ: تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ وَزَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى مَا ذَكَرْتَ، لِلأَْحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ (1) . وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَصُوَرِهِ.
6 - فَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ: هِيَ خُلُوُّ النِّكَاحِ عَنِ الصَّدَاقِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 307، والشرح الصغير وبهامشه حاشية الصاوي 2 / 388،446 والحاوي الكبير للماوردي 11 / 443 - 448، وفتح الباري 9 / 162 - 164، ومغني المحتاج 3 / 142 - 143، وكشاف القناع 5 / 92 - 93
(2) جواهر الإكليل 1 / 284،311، والشرح الصغير 2 / 388 - 389، مغني المحتاج 3 / 142

(41/327)


وَأَنْوَاعُ الشِّغَارِ وَصُوَرُهُ عِنْدَهُمْ ثَلاَثَةٌ:

النَّوْعُ الأَْوَّل: صَرِيحُ الشِّغَارِ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُول لآِخَرَ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي، يَشْتَرِطُ أَنْ لاَ يُسَمِّيَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا وَأَنْ يَكُونَ تَزْوِيجُ إِحْدَاهُمَا تَزْوِيجَ الأُْخْرَى، وَأَنْ يُجْعَل تَزْوِيجُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرًا لِلأُْخْرَى، فَهَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ وَيُفْسَخُ أَبَدًا، أَيْ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ، وَفَسْخُهُ يَكُونُ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ، لِلاِخْتِلاَفِ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنَّهُ قِيل بِصِحَّتِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَهِيَ: كُل نِكَاحٍ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ فَفَسْخُهُ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ، وَلِهَذَا فَالتَّحْرِيمُ بِهَذَا النِّكَاحِ كَالتَّحْرِيمِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَالْمَرْأَةُ تَحْرُمُ عَلَى أُصُول الرَّجُل وَفُصُولِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُصُولُهَا، لأَِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبَنَاتِ يُحَرِّمُ الأُْمَّهَاتِ، لاَ فُصُولَهَا، لأَِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الأُْمَّهَاتِ لاَ يُحَرِّمُ الْبَنَاتِ، فَإِذَا دَخَل بِالأُْمِّ حَرُمَتِ الْبِنْتُ وَنَحْوُهَا مِنَ الْفُصُول. وَيَحْصُل بِهَذَا النِّكَاحِ كَذَلِكَ الإِْرْثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل الْفَسْخِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: كُل نِكَاحٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْخِلاَفُ خَارِجَ الْمَذْهَبِ، وَلَوْ فِي مَذْهَبٍ انْقَرَضَ إِذَا كَانَ قَوِيًّا فَهُوَ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي التَّحْرِيمِ وَالإِْرْثِ، وَفَسْخُهُ بِطَلاَقٍ.
أَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْفَسْخِ فَلاَ إِرْثَ

(41/328)


بَيْنَهُمَا وَلَوْ دَخَل بِهَا أَوْ كَانَتِ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً، لأَِنَّهُ طَلاَقٌ بَائِنٌ (1)

النَّوْعُ الثَّانِي: وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُول الرَّجُل لآِخَرَ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ أَوْ أُخْتَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي أَوْ أُخْتِي بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَيُسَمَّى هَذَا النِّكَاحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَجْهَ الشِّغَارِ، وَهُوَ فَاسِدٌ وَيُفْسَخُ قَبْل الدُّخُول وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِالأَْكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْل، سَوَاءٌ تَسَاوَى الْمَهْرُ أَمْ لَمْ يَتَسَاوَيَا.
وَمَدَارُ الْفَسَادِ فِيهِ عَلَى تَوَقُّفِ تَزْوِيجِ إِحْدَاهُمَا عَلَى تَزْوِيجِ الأُْخْرَى، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ، بَل عَلَى وَجْهِ الْمُكَافَأَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفِ نِكَاحِ إِحْدَاهُمَا عَلَى نِكَاحِ الأُْخْرَى، أَوْ وَقَعَ عَلَى سَبِيل الاِتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفِ نِكَاحِ إِحْدَاهُمَا عَلَى نِكَاحِ الأُْخْرَى جَازَ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا وَجْهَ الشِّغَارِ، لأَِنَّهُ شِغَارٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَمَّى لِكُلٍّ مِنْهُمَا صَدَاقًا فَلَيْسَ بِشِغَارٍ، لِعَدَمِ خُلُوِّ الْعَقْدِ عَنِ الصَّدَاقِ، وَمِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى حَيْثُ شَرَطَ تَزْوِيجَ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى فَهُوَ شِغَارٌ،
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 284، 311، والشرح الصغير 2 / 388 - 389،446 وحاشية الدسوقي 2 / 239 - 240، 307 - 358

(41/328)


فَكَانَتِ التَّسْمِيَةُ فِيهِمَا كَ ـ لاَ تَسْمِيَةَ (1) .

النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُول أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ أَوْ أُخْتَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي بِلاَ مَهْرٍ، وَيُسَمَّى هَذَا بِالْمُرَكَّبِ مِنْ صَرِيحِ الشِّغَارِ وَمِنْ وَجْهِ الشِّغَارِ.
فَالْمُسَمَّى لَهَا تُعْطَى حُكْمَ وَجْهِ الشِّغَارِ فَيُفْسَخُ نِكَاحُهَا قَبْل الْبِنَاءِ وَلاَ شَيْءَ لَهَا، وَيَثْبُتُ نِكَاحُهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ بِالأَْكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْل، وَغَيْرُ الْمُسَمَّى لَهَا تُعْطَى حُكْمَ صَرِيحِ الشِّغَارِ فَيُفْسَخُ نِكَاحُهَا أَبَدًا، أَيْ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ وَلَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ صَدَاقُ الْمِثْل وَلاَ شَيْءَ لَهَا قَبْلَهُ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ إِذَا دَخَل بِهَا فِي جَمِيعِ الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ كَمَا يُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ (2) .
7 - وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ فِي مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ عَنِ الشِّغَارِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ الاِشْتِرَاكُ فِي الْبُضْعِ، لأَِنَّ بُضْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَصِيرُ مَوْرِدَ الْعَقْدِ، وَجَعْل الْبُضْعِ صَدَاقًا مُخَالِفٌ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 284،311، والشرح الصغير 2 / 388 - 389،446، وحاشية الدسوقي 2 / 239 - 240، 307 - 308
(2) حاشية الدسوقي 2 / 239 - 240، 307 - 308، والشرح الصغير على أقرب المسالك وبهامشه حاشية الصاوي 2 / 388، 446 - 447، وجواهر الإكليل 1 / 284، 311

(41/329)


لإِِيرَادِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَمُقْتَضَاهُ، فَالنَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى النِّكَاحِ دُونَ الصَّدَاقِ، لأَِنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لاَ يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ، لأَِنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ نَحْوِهِمَا.
وَقِيل: الْعِلَّةُ فِي بُطْلاَنِ نِكَاحِ الشِّغَارِ: التَّعْلِيقُ وَالتَّوْقِيفُ، فَكَأَنَّهُ يَقُول: لاَ يَنْعَقِدُ لَكَ نِكَاحُ بِنْتِي حَتَّى يَنْعَقِدَ لِي نِكَاحُ بِنْتِكَ، لأَِنَّ فِيهِ تَزْوِيجَ كُلٍّ مِنَ الْوَلِيَّيْنِ بِنْتَهُ لآِخَرَ بِشَرْطِ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ (1) .
وَضَعَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا وَعَوَّل عَلَى الْخَبَرِ، قَال الشَّيْخُ الشِّرْبِينِيُّ: وَهُوَ أَسْلَمُ.
وَصُورَةُ نِكَاحِ الشِّغَارِ الْمُتَّفَقِ عَلَى بُطْلاَنِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُول الْوَلِيُّ لآِخَرَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي مَثَلاً عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الأُْخْرَى فَيَقْبَل الآْخَرُ بِقَوْلِهِ: تَزَوَّجْتُهَا وَزَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى مَا ذَكَرْتَ (2) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَال شَيْخُنَا فِي شَرْحِ
__________
(1) الحاوي للماوردي 11 / 443 - 448، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 162 - 164، وتحفة المحتاج 7 / 225 - 226، ومغني المحتاج 3 / 143
(2) تحفة المحتاج 7 / 255، ومغني المحتاج 3 / 142

(41/329)


التِّرْمِذِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ: وَلاَ يَكُونُ مِنَ الْبُضْعِ شَيْءٌ آخَرُ، لِيَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الْمَذْهَبِ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ بَعْدَ أَنِ اسْتَدَل عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ بِالأَْحَادِيثِ وَبِالْقِيَاسِ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَلَّكَ الزَّوْجَ بُضْعَ بِنْتِهِ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ ارْتَجَعَهُ مِنْهُ بِأَنْ جَعَلَهُ مِلْكًا لِبِنْتِ الزَّوْجِ بِالصَّدَاقِ، وَهَذَا مُوجِبٌ لِفَسَادِ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُهَا مِلْكًا لِفُلاَنٍ، وَلأَِنَّهُ جَعَل الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ لِغَيْرِ الْمَعْقُودِ لَهُ وَجَعَل الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلاً، وَلأَِنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا جُعِلَتْ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا فَبَطَل أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بَطَل أَنْ تَكُونَ مُعَوَّضًا كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ، كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ ثَوْبِي مَثَلاً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِبَيْعِ دَارِكَ (1) .
وَهُنَاكَ صُوَرٌ اخْتَلَفَ فِيهَا عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ هَل هِيَ مِنْ صُوَرِ الشِّغَارِ فَيَبْطُل النِّكَاحُ أَوْ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَيَصِحُّ فِيهَا النِّكَاحُ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي مَثَلاً عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَلَمْ يَجْعَل الْبُضْعَ صَدَاقًا لَهَا أَوْ لإِِحْدَاهُمَا بِأَنْ سَكَتَ عَنْهُ فَقَبِلَهُ الآْخَرُ فَالأَْصَحُّ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ - صِحَّةُ هَذَا
__________
(1) فتح الباري 9 / 162 - 163، ومغني المحتاج 3 / 142 - 143، وتحفة المحتاج 7 / 255 والحاوي الكبير للماوردي 11 / 443 - 448

(41/330)


النِّكَاحِ، لِعَدَمِ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ وَذَلِكَ لاَ يُفْسِدُ النِّكَاحَ وَلَكِنْ يُفْسِدُ الْمُسَمَّى وَيَجِبُ لِكُل وَاحِدَةٍ مَهْرُ الْمِثْل.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ. قَال الأَْذْرُعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَال الْبُلْقَيْنِيُّ: مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ مُخَالِفٌ لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَلِنُصُوصِ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (1)
ب - وَمِنْهَا: مَا لَوْ سَمَّيَا مَالاً مَعَ جَعْل الْبُضْعِ صَدَاقًا لَهُمَا كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَأَلْفُ دِينَارٍ صَدَاقُ الأُْخْرَى، فَيَبْطُل عَقْدُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الأَْصَحِّ لِوُجُودِ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِل الشِّغَارِ الَّتِي يَفْسُدُ فِيهَا النِّكَاحَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِيهَا.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ يَصِحُّ النِّكَاحَانِ اعْتِبَارًا بِالاِسْمِ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَفْسِيرِ صُورَةِ الشِّغَارِ، وَلاَ يُسَمَّى مَعَ الْمَهْرِ الْمَذْكُورِ شِغَارًا خَالِيًا عَنِ الْمَهْرِ، وَيَكُونُ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا، لِفَسَادِ الصَّدَاقِ (2) .
ج - وَمِنْهَا: أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 142 - 143، وتحفة المحتاج 7 / 255، والحاوي الكبير للماوردي 11 / 443 - 448، وفتح الباري 9 / 162 - 164
(2) المراجع السابقة

(41/330)


تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ بِنْتِكَ صَدَاقٌ لِبِنْتِي فَيَصِحُّ النِّكَاحُ الأَْوَّل وَهُوَ نِكَاحُ بِنْتِهِ فِي الأَْصَحِّ، وَيَبْطُل النِّكَاحُ الثَّانِي وَهُوَ نِكَاحُهُ لِبِنْتِ صَاحِبِهِ، لأَِنَّ الاِشْتِرَاكَ حَصَل فِي بُضْعِهَا، لاَ فِي بُضْعِ بِنْتِهِ، وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يَصِحُّ نِكَاحُ بِنْتِهِ أَيْضًا، لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ.
د - وَمِنْهَا: أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ بِنْتِي صَدَاقٌ لاِبْنَتِكَ فَيَبْطُل نِكَاحُ بِنْتِهِ، لأَِنَّهُ جَعَل بُضْعَهَا مُشْتَرِكًا وَصَحَّ نِكَاحُهُ عَلَى بِنْتِ صَاحِبِهِ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَجْعَل بُضْعَهَا مُشْتَرِكًا.
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ: لاَ يَصِحُّ نِكَاحُهُ عَلَى بِنْتِ صَاحِبِهِ لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ (1) .
8 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَكَرُوا أَنَّ مِنْ صُوَرِ نِكَاحِ الشِّغَارِ الْبَاطِلَةِ: أَنْ يَقُول لِلآْخَرِ: زَوَّجْتُكَ وَلِيَّتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي وَلِيَّتَكَ وَسَكَتَ عَنِ الْمَهْرِ، فَأَجَابَهُ الآْخَرُ بِمِثْل كَلاَمِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ وَلِيَّتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي وَلِيَّتَكَ وَلاَ مَهْرَ لَهُمَا.
وَمِنْهَا: أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ وَلِيَّتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي وَلِيَّتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الأُْخْرَى.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 143، وتحفة المحتاج مع الحاشيتين 7 / 255، والحاوي للماوردي 11 / 446 - 447، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 162 وما بعدها

(41/331)


وَمِنْهَا: أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي مَثَلاً عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَمِائَةُ دِينَارٍ مَهْرُ الأُْخْرَى، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ فَاسِدٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا فَرَّقَا فِي الشِّغَارِ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ " (1) ، وَلأَِنَّهُ جَعَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ سَلَفًا فِي الآْخَرِ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَال: بِعْنِي ثَوْبَكَ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ ثَوْبِي، وَلَيْسَ فَسَادُ هَذَا النِّكَاحِ مِنْ قِبَل التَّسْمِيَةِ، بَل مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَافَقَهُ عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَلأَِنَّهُ شَرْطُ تَمْلِيكِ الْبُضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ جَعَل تَزْوِيجَهُ إِيَّاهَا مَهْرًا لِلأُْخْرَى، فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهَا بِشَرْطِ انْتِزَاعِهَا مِنْهُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ وَمَهْرُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِينَارٍ مَثَلاً. أَوْ قَال: وَمَهْرُ ابْنَتِي مِائَةٌ وَمَهْرُ ابْنَتِكَ خَمْسُونَ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ فَيَصِحُّ النِّكَاحَانِ بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عَلَى الصَّحِيحِ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْصُل فِي هَذَا الْعَقْدِ تَشْرِيكٌ وَإِنَّمَا حَصَل
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار ". سبق تخريجه ف هـ

(41/331)


فِيهِ شَرْطٌ بَطَل الشَّرْطُ وَصَحَّ النِّكَاحُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا عَنْ بُضْعِ الأُْخْرَى، فَإِنْ جَعَل الْمُسَمَّى دَرَاهِمَ وَبُضْعَ الأُْخْرَى لَمْ يَصِحَّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيل: يَبْطُل الشَّرْطُ وَحْدَهُ، وَمَحَل الصِّحَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى غَيْرَ قَلِيلٍ حِيلَةً، سَوَاءٌ كَانَ مَهْرَ الْمِثْل أَوْ أَقَل، فَإِنْ كَانَ قَلِيلاً حِيلَةً لَمْ يَصِحَّ، لِبُطْلاَنِ الْحِيَل عَلَى تَحْلِيل مُحَرَّمٍ. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا صَحَّ وَلَوْ حِيلَةً، وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى تَبَعًا لِلتَّنْقِيحِ تَقْتَضِي فَسَادَهُ، وَصِحَّةُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِشُرُوطِهَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَال الْخِرَقِيُّ بِبُطْلاَنِ هَذَا النِّكَاحِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُسَمِّيَ لإِِحْدَاهُمَا مَهْرًا دُونَ الأُْخْرَى فَيَصِحُّ نِكَاحُ مَنْ سَمَّى لَهَا الْمَهْرَ وَيَفْسُدُ نِكَاحُ مَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا، لأَِنَّ فِي نِكَاحِ الْمُسَمَّى لَهَا تَسْمِيَةً وَشَرْطًا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَمَّى لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا. وَقَال أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَفْسُدُ نِكَاحُهُمَا (1) .
9 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَصُورَتُهُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ غَيْرَهُمَا عَلَى أَنْ يُزَوِّجَ الآْخَرُ بِنْتَهُ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ حَرِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِهِمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلٍّ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 93 - 94، وشرح منتهى الإرادات 2 / 666 - 667، والإنصاف 8 / 159 - 161

(41/332)


مِنْهُمَا صَدَاقَ الأُْخْرَى وَلاَ مَهْرَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ هَذَا، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْل، لأَِنَّهُ سَمَّى فِيهِ مَا لاَ يَصْلُحُ صَدَاقًا، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْمَهْرِ، لأَِنَّ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُسَمَّى الشِّغَارِ، فَأَصْل الشُّغُورِ الْخُلُوُّ، وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْل إِخْلاَئِهِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَاكْتِفَائِهِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ مِنَ الْمَال عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْل لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، كَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ أَوْ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهَا. فَإِذَا وَجَبَ مَهْرٌ لَمْ يَبْقَ شِغَارٌ، أَوِ النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالْكَرَاهَةُ لاَ تُوجِبُ الْفَسَادَ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُخْل النِّكَاحَ مِنَ الصَّدَاقِ، أَوْ لَمْ يَجْعَل بُضْعَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقَ الأُْخْرَى بِأَنْ قَال مَثَلاً: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ فَقَبِل الآْخَرُ أَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ بِنْتِي صَدَاقًا لِبِنْتِكَ فَلَمْ يَقْبَل الآْخَرُ ذَلِكَ بَل زَوَّجَهُ بِنْتَهُ وَلَمْ يَجْعَل لَهَا صَدَاقًا،أَوْ سَمَّيَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا صَدَاقًا لَمْ يَكُنْ هَذَا النِّكَاحُ شِغَارًا، بَل نِكَاحًا صَحِيحًا اتِّفَاقًا. قَال فِي حَاشِيَةِ الشَّلَبِيِّ نَقْلاً عَنِ الْغَايَةِ: وَالشِّغَارُ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ مِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ صَدَاقٌ فِي الْحَال وَلاَ فِي الثَّانِي، وَهُوَ مِنَ الشُّغُورِ وَهُوَ الْخُلُوُّ،

(41/332)


فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى فِيهِ فَأَيْنَ الْخُلُوُّ؟ وَكَذَا إِذَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (1) .

الْخَامِسُ: نِكَاحُ الْخِدْنِ:
10 - الْخِدْنُ: هُوَ الصَّدِيقُ لِلْمَرْأَةِ يَزْنِي بِهَا سِرًّا. وَذَاتُ الْخِدْنِ مِنَ النِّسَاءِ: هِيَ الَّتِي تَزْنِي سِرًّا. وَقِيل: ذَاتُ الْخِدْنِ هِيَ الَّتِي تَزْنِي بِوَاحِدٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعِيبُ الإِْعْلاَنَ بِالزِّنَى وَلاَ تَعِيبُ اتِّخَاذَ الأَْخْدَانِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ جَمِيعَ ذَلِكَ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيَسْتَحِلُّونَ مَا خَفِيَ مِنْهُ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ بِقَوْلِهِ {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (2) } ، وَزَجَرَ عَنِ الْوَطْءِ إِلاَّ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ " (3) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 332 - 333، وتبيين الحقائق وبهامشه حاشية الشلبي 2 / 145، وانظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 163 - 164
(2) سُورَةُ الأَْنْعَامِ / 151
(3) أَحْكَام الْقِرَان لِلْجَصَّاصِ 2 / 168، وَالْجَامِع لأَِحْكَامِ الْقُرْآنِ 5 / 143، 7 / 74، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 1 / 516، 2 / 46، 270، وَفَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 9 / 184

(41/333)


وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ (1) } : كَانَتِ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَشْهُورَاتٍ، وَمُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ. وَكَانُوا بِعُقُولِهِمْ يُحَرِّمُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا وَيُحِلُّونَ مَا بَطَنَ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْجَمِيعِ (2)

السَّادِسُ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ:
11 - نِكَاحُ الْمُتْعَةِ هُوَ قَوْل الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ: أُعْطِيكِ كَذَا عَلَى أَنْ أَتَمَتَّعَ بِكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَدَّرَ الْمُتْعَةَ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الأَْمْثِلَةِ السَّابِقَةِ، أَوْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ كَقَوْلِهِ: أُعْطِيكِ كَذَا عَلَى أَنْ أَتَمَتَّعَ بِكِ مَوْسِمَ الْحَجِّ أَوْ مَا أَقَمْتُ فِي الْبَلَدِ أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ، فَإِذَا انْقَضَى الأَْجَل الْمُحَدَّدُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلاَقٍ.
وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ مِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ مُبَاحًا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ حُرِّمَ (3) ، لِحَدِيثِ
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 25
(2) أَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 1 / 516، 2 / 46، 270.
(3) الْبَدَائِع 2 / 272 - 273، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 151، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 387، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 238، 239، وَفَتْح الْبَارِي 9 / 167 وَمَا بَعْدَهَا، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 96، وَالإِْنْصَاف 8 / 163، وَشَرْح صَحِيح مُسْلِم 9 / 153 وَمَا بَعْدَهَا

(41/333)


عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ " (1) ، ثُمَّ رَخَّصَ فِيهِ عَامَ الْفَتْحِ، لِحَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ أَبَاهُ غَزَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ مَكَّةَ قَال: فَأَقَمْنَا بِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ (ثَلاَثِينَ بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) فَأَذِنَ لَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ " (2) ثُمَّ حُرِّمَ فِيهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ حُرِّمَ أَبَدًا لِحَدِيثِ سَبْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ حَرَّمَ أَبَدًا " (3) ، قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ: لاَ أَعْلَمُ شَيْئًا
__________
(1) حَدِيث عَلِيٍّ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (الْفَتْح 9 / 166 - ط السَّلَفِيَّة)
(2) حَدِيث الرَّبِيع بْن سَبْرَة: " أَنَّ أَبَاهُ غَزَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 1024 - ط الْحَلَبِيّ) ،
(3) حَدِيث " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. . . ". أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق الصَّنْعَانِيّ فِي الْمُصَنَّفِ (7 / 50 4) وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (7 / 203 - 204 الْمَعْرِفَة) بِرِوَايَةِ عَبْد الْعَزِيز بْن عُمَر عَنْ رَبِيع بْن سَبْرَة عَنْ أَبِيهِ قَال الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ عَبْد الْعَزِيز فَرَاوِيَة الْجُمْهُور عَنِ الرَّبِيع بْن سَبْرَة أَ

(41/334)


حُرِّمَ ثُمَّ أُبِيحَ ثُمَّ حُرِّمَ إِلاَّ الْمُتْعَةَ (1) وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى حُرْمَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَبُطْلاَنِ عَقْدِهِ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا حَدِيثُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الاِسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَل سَبِيلَهُ، وَلاَ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا " (2) ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتْعَةِ وَقَال: إِنَّمَا كَانَتْ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلَمَّا نَزَل النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ نُسِخَتْ " (3)
__________
(1) فَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 9 / 166 - 174، وَشَرْح صَحِيح مُسْلِم لِلنَّوَوِيِّ 9 / 153 - 162، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 151، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 142، وَالْحَاوِي للماوردي 11 / 449 - 455.
(2) حَدِيث الرَّبِيع بْن سَبْرَة: " أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 1025 ط الْحَلَبِيّ)
(3) حَدِيث: " نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتْعَةِ ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَْوْسَطِ (15 / 165ط الْمَعَارِف) ، وَالْبَيْهَقِيّ (7 / 207 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) ، وَالْحَازِمِي فِي الاِعْتِبَارِ (ص 187 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) وَقَال الْحَازِمِي: هَذَا حَدِيث غَرِيب مِنْ هَذَا الْوَجْهِ

(41/334)


وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرَّمَ - أَوْ هَدَمَ - الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ " (1) بِمَعْنَى أَنَّ الْمُتْعَةَ تَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ طَلاَقٍ وَلاَ فُرْقَةٍ وَلاَ يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، مِمَّا دَل عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ فِيهَا زَوْجَةً لِلرَّجُل.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (2) } فَالَّتِي اسْتَمْتَعَ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً وَلاَ مِلْكَ يَمِينٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُتْعَةِ لَوْمٌ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ، كَانَ الرَّجُل يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ، فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ
__________
(1) حَدِيث: " حَرَّمَ - أَوْ هَدَمَ - الْمُتْعَة. . . ". أَخْرَجَهُ ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (الإِْحْسَان بِتَرْتِيبٍ صَحِيح ابْن حِبَّانَ 6 / 178) ، وَالْبَيْهَقِيّ (7 / 207 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذِكْر الْحَافِظِ ابْن حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي (9 / 170) أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالاً، حَيْثُ أَعُلْهُ بِرَاوِيَيْنِ فِي إِسْنَادِهِ
(2) سُورَة الْمُؤْمِنُونَ / 5، 6

(41/335)


وَتُصْلِحُ لَهُ شَأْنَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الآْيَةُ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُل فَرْجٍ سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ حَرَامٌ " (1) .
وَلأَِنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ لاِقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ، بَل شُرِعَ لأَِغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ يُتَوَسَّل بِهِ إِلَيْهَا، وَاقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُتْعَةِ لاَ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى الْمَقَاصِدِ فَلاَ يُشْرَعُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ (2)
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ فِي النِّكَاحِ لأَِنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّل الآْيَةِ وَآخِرِهَا هُوَ النِّكَاحُ، فَإِنَّ اللَّهَ
__________
(1) أَثَر ابْن عَبَّاسٍ: " إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَة فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ. . . . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 421 ط الْحَلَبِيّ) ، وَالْبَيْهَقِيّ (7 / 205 - 206 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) ، وَقَال الْحَافِظُ ابْنَ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (9 / 172ط السَّلَفِيَّة) : إِسْنَادُهُ ضَعِيف، وَهُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلَّةِ إِبَاحَتِهَا
(2) الْبَدَائِع 2 / 272 - 273، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 387، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 164 - 155، وَفَتْح الْبَارِي شَرْح صَحِيح الْبُخَارِيّ 9 / 166 - 174، وَشَرْح مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ 9 / 153 - 162، وَالْحَاوِي للماوردي 11 / 449 - 458، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 142، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 96 - 98.

(41/335)


تَعَالَى ذَكَرَ أَجْنَاسًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَوَّل الآْيَةِ فِي النِّكَاحِ، وَأَبَاحَ مَا وَرَاءَهَا بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ (1) } أَيْ بِالنِّكَاحِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ (2) } أَيْ غَيْرَ مُتَنَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ وَقَال تَعَالَى فِي سِيَاقِ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ (3) } ذَكَرَ النِّكَاحَ لاَ الإِْجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ، فَيُصْرَفُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} إِلَى الاِسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ.
وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْوَاجِبِ أَجْرًا فَنَعَمْ، الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ يُسَمَّى أَجْرًا قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (4) } أَيْ مُهُورَهُنَّ وَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ (5) } .
وَالأَْمْرُ بِإِيتَاءِ الأَْجْرِ بَعْدَ الاِسْتِمْتَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لاَ يَدُل عَلَى جَوَازِ الإِْجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ وَهُوَ الْمُتْعَةُ لأَِنَّ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَال: (فَآتَوْهُنَّ
__________
(1) سُورَة النِّسَاء / 24
(2) سُورَة النِّسَاء / 24
(3) سُورَة النِّسَاء / 25
(4) سُورَة النِّسَاء / 25
(5) سُورَة الأَْحْزَابِ / 50

(41/336)


أُجُورَهُنَّ إِذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُمْ) أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الاِسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (1) } أَيْ إِذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الآْيَةِ الإِْجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِمَا ذُكِرَ مِنَ الآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} نَسَخَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " الْمُتْعَةُ بِالنِّسَاءِ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلاَقِ وَالصَّدَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَوَارِيثِ " (2) وَالنِّكَاحُ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْحُقُوقُ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَلاَ يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْمُتْعَةِ (3)

الْقَوْل الثَّانِي: حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَطَاءٌ وَطَاوُوسٌ، وَبِهِ قَال ابْنُ جُرَيْجٍ،
__________
(1) سُورَة الطَّلاَقِ / 1
(2) أَثَر ابْن مَسْعُود: " الْمُتْعَة بِالنِّسَاءِ مَنْسُوخَة نُسْخَتِهَا آيَة الطَّلاَقِ. . . ". أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق الصَّنْعَانِيّ فِي الْمُصَنَّفِ (7 / 50 5) وَالْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (7 / 207 الْمَعْرِفَة)
(3) الْبَدَائِع 2 / 272 - 273، وَفَتْح الْبَارِي 9 / 173 - 174، وَالْحَاوِي الْكَبِير 11 / 449، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 146 وَمَا بَعْدَهَا، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 644.

(41/336)


وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (2) } وَالاِسْتِدْلاَل بِهَا مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الاِسْتِمْتَاعَ وَلَمْ يَذْكُرِ النِّكَاحَ، وَالاِسْتِمْتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الأَْجْرِ وَالْمُتْعَةِ عَقْدَ الإِْجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الأَْجْرِ بَعْدَ الاِسْتِمْتَاعِ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ أَوَّلاً ثُمَّ يُمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ فَدَلَّتِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ (3)
كَمَا اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بِقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ " (4) .
__________
(1) الْمُغْنِي 10 / 46 ط هَجَرَ.
(2) سُورَة النِّسَاء / 24
(3) الْبَدَائِع 2 / 272، 273.
(4) أَثَر عُمَر بْن الْخَطَّابِ: " مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . ". أَخْرَجَهُ سَعِيد بْن مَنْصُور (الْقِسْم الأَْوَّل مِنَ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ / 210 ط عِلْمِي بِرَيِّسٍ) ، وَصَرْح ابْن قِيَم ا

(41/337)


قَالُوا: فَأُخْبِرْنَا بِإِبَاحَتِهِمَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا ثَبَتَ إِبَاحَتُهُ بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ بِهِ تَحْرِيمٌ بِالاِجْتِهَادِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " (1) } .
وَبِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: " كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الأَْيَّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى نَهَى عَنْهُ عُمَرُ " (2) .
وَلأَِنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ، فَصَحَّ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ كَالإِْجَارَةِ، وَلأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ إِبَاحَتُهُ
__________
(1) قَوْل ابْن مَسْعُود: " كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاء. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (8 / 276 ط السَّلَفِيَّة) ، وَمُسْلِم (2 / 1022 ط الْحَلَبِيّ) ، وَاللَّفْظ لِمُسْلِم
(2) حَدِيث: " كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 1023 ط الْحَلَبِيّ)

(41/337)


بِالإِْجْمَاعِ فَلَمْ يُنْتَقَل عَنْهُ إِلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ (1)
12 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ صَحَّ التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لِلْمُتْعَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِحَدِيثِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ قَال: فَأَقَمْنَا بِهَا خَمْسَ عَشَرَ، فَأَذِنَ لَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَال: " فَلَمْ أَخْرُجْ حَتَّى حَرَّمَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2) .
وَمُخَالَفَةُ بَعْضٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي حُجِّيَّتِهِ وَلاَ قَائِمَةٍ لَنَا بِالْمَعْذِرَةِ عَنِ الْعَمَل بِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ حَفِظُوا التَّحْرِيمَ وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ ثَلاَثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا، وَاللَّهِ لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا تَمَتَّعَ وَهُوَ مُحْصَنٌ إِلاَّ رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ " (3) .
__________
(1) الْبَدَائِع 2 / 272 - 273، وَفَتْح الْبَارِي 9 / 173 - 174، وَالْحَاوِي الْكَبِير 11 / 449، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 146 وَمَا بَعْدَهَا، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 644.
(2) حَدِيث سَبْرَة الْجَهْنَيْ: " أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْح مَكَّةَ. . . ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 1024 ط الْحَلَبِيّ)
(3) حَدِيث عُمَر: " إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ ثَلاَثًا. . . ". أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 631 ط الْحَلَبِيّ) ، وَقَال الْبُوصَيْرِيّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (1 / 342 - ط دَار الْجِنَان) : هَذَا إِسْنَاد فِيهِ مَقَال

(41/338)


رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: حَرَّمَ أَوْ - هَدَمَ - الْمُتْعَةَ النِّكَاحُ وَالطَّلاَقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمِيرَاثُ " (1) .
وَوَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: " خَرَجْنَا وَمَعَنَا النِّسَاءُ اللاَّتِي اسْتَمْتَعْنَا بِهِنَّ. . . فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُنَّ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " (2) .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ. فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ " (3) ، بِأَنَّ مُؤَدَّى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ إِبَاحَةُ الْمُتْعَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَائِرِ الأَْخْبَارِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ أُبِيحَتْ فِي وَقْتٍ ثُمَّ
__________
(1) حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ: " حَرَم أَوْ - هَدَمَ - الْمُتْعَة الطَّلاَق وَالْعِدَّة وَالْمِيرَاث ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه ف (11)
(2) حَدِيث جَابِر: " خَرَجْنَا وَمَعَنَا النِّسَاء اللاَّتِي اسْتَمْتَعْنَا بِهِنَّ. . . ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَْوْسَطِ (1 / 510 - 511 ط الْمَعَارِف) ، وَقَال الهيثمي فِي الْمَجْمَعِ (4 / 264 ط مَكْتَبَة الْقُدْسِيّ) : رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَْوْسَطِ، وَفِيهِ صَدَقَة بْن عَبْد اللَّه وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَغَيْره، وَضِعْفه أَحْمَد وَجَمَاعَة، وَبَقِيَّة رِجَالِهِ رِجَال الصَّحِيحِ
(3) حَدِيث ابْن مَسْعُود: " كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه ف (11)

(41/338)


حُرِّمَتْ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ التَّارِيخِ فَأَخْبَارُ الْحَظْرِ قَاضِيَةٌ عَلَيْهَا لأَِنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْحَظْرِ مِنَ الإِْبَاحَةِ وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَيَا لَكَانَ الْحَظْرُ أَوْلَى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُتْعَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالطَّلاَقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ (1) وَقَال الْجَصَّاصُ: قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ فَلَوْ كَانَتِ الإِْبَاحَةُ بَاقِيَةً لَوَرَدَ النَّقْل بِهَا مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَلَعَرَّفَتْهَا الْكَافَّةُ وَلَمَا اجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا لَوْ كَانَتِ الإِْبَاحَةُ بَاقِيَةً، فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مُنْكِرِينَ لإِِبَاحَتِهَا مُوجِبِينَ لِحَظْرِهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بَدْيًا بِإِبَاحَتِهَا دَل ذَلِكَ عَلَى حَظْرِهَا بَعْدَ الإِْبَاحَةِ وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُ تَجْرِيدُ الْقَوْل فِي إِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ حِينَ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُهَا بِتَوَاتُرِ الأَْخْبَارِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَإِبَاحَتِهِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ وَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ الأَْخْبَارُ فِيهِ مِنْ كُل نَاحِيَةٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ إِلَى قَوْل الْجَمَاعَةِ فَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُهُ فِي الْمُتْعَةِ.
وَيَدُل عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَرَفَتْ نَسْخَ
__________
(1) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 151 ط رَابِطَة الأَْوْقَاف الإِْسْلاَمِيَّة.

(41/339)


إِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَال فِي خُطْبَتِهِ: " مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا " وَقَال فِي خَبَرٍ آخَرَ: " لَوْ تَقَدَّمْتُ فِيهَا لَرَجَمْتُ " فَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْل عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لاَ سِيَّمَا فِي شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوا إِبَاحَتَهُ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلاَ يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ إِبَاحَتِهِ فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لأَِمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيَانًا وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الاِنْسِلاَخِ مِنَ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ مَنْ عَلِمَ إِبَاحَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتْعَةِ ثُمَّ قَال هِيَ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخِ لَهَا فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَظْرَهَا بَعْدَ الإِْبَاحَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَال عُمَرُ مُنْكَرًا وَلَمْ يَكُنِ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ثَابِتًا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَارُّوهُ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِ الْمُتْعَةِ، إِذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ (1)
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
__________
(1) أَحْكَام الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ 2 / 151 - 152.

(41/339)


يَقُول بِجَوَازِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْهَا فَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهَا (1)
وَقَال الْمَازِرِي: ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ كَانَ جَائِزًا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ ثَبَتَ بِالأَْحَادِيثِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ نُسِخَ، وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلاَّ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ (2)

صِيغَةُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ:
13 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ فِي بُطْلاَنِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بَيْنَ اسْتِعْمَال لَفْظِ الْمُتْعَةِ وَلَفْظِ الزَّوَاجِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَقَّتَيْنِ فَإِذَا قَال مَثَلاً: أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلاً فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ وَيُسَمُّونَهُ النِّكَاحَ لأَِجَلٍ أَوِ الْمُؤَقَّتَ (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ بَاطِلٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُول لاِمْرَأَةٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْمَوَانِعِ: أَتَمَتَّعُ بِكِ كَذَا مُدَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَثَلاً، أَوْ يَقُول: أَيَّامًا أَوْ مَتِّعِينِي نَفْسَكِ أَيَّامًا أَوْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ أَيَّامًا بِكَذَا مِنَ الْمَال. قَال شَيْخُ الإِْسْلاَمِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ: أَنْ يُذْكَرَ الْمُؤَقَّتُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَفِي الْمُتْعَةِ أَتَمَتَّعُ أَوْ أَسْتَمْتِعُ، يَعْنِي مَا اشْتَمَل عَلَى مَادَّةِ مُتْعَةٍ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ
__________
(1) تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 132 - 133.
(2) صَحِيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ 9 / 179.
(3) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 238، 239، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 142.

(41/340)


عَدَمُ اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ فِي الْمُتْعَةِ وَتَعْيِينُ الْمُدَّةِ، وَفِي الْمُؤَقَّتِ الشُّهُودُ وَتَعْيِينُهَا، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ لاَ دَلِيل لِهَؤُلاَءِ عَلَى تَعْيِينِ كَوْنِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الَّذِي أَبَاحَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَرَّمَهُ هُوَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَادَّةُ (م ت ع) لِلْقَطْعِ مِنَ الآْثَارِ بِأَنَّ الْمُتَحَقِّقَ لَيْسَ إِلاَّ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنْ بَاشَرَ هَذَا الْمَأْذُونَ فِيهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَاطِبَهَا بِلَفْظِ أَتَمَتَّعُ وَنَحْوِهِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ مَعْنَاهُ، فَإِذَا قَال: تَمَتَّعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسْوَةِ فَلَيْسَ مَفْهُومُهُ قُولُوا أَتَمَتَّعُ بِكِ، بَل أَوْجِدُوا مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ الْمَشْهُورُ: أَنْ يُوجِدَ عَقْدًا عَلَى امْرَأَةٍ لاَ يُرَادُ بِهِ مَقَاصِدَ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الْقَرَارِ لِلْوَلَدِ وَتَرْبِيَتِهِ بَل إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ يَنْتَهِي الْعَقْدُ بِانْتِهَائِهَا أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِمَعْنَى بَقَاءِ الْعَقْدِ مَا دُمْتُ مَعَكِ إِلَى أَنْ أَنْصَرِفَ عَنْكِ فَلاَ عَقْدَ. وَالْحَاصِل أَنَّ مَعْنَى الْمُتْعَةِ عَقْدٌ مُؤَقَّتٌ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَيَدْخُل فِيهِ مَا بِمَادَّةِ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ أَيْضًا فَيَكُونُ النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ وَأُحْضِرَ الشُّهُودُ وَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الَّتِي تُفِيدُ التَّوَاطُؤُ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَلَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الآْثَارِ لَفْظٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ بَاشَرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِلَفْظِ: تَمَتَّعْتُ بِكِ وَنَحْوِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1)
__________
(1) فَتْح الْقَدِير 3 / 246 - 247.

(41/340)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ لِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ صُوَرًا هِيَ:
أ - أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ.
ب - أَنْ يَشْتَرِطَ طَلاَقَ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ بِوَقْتٍ كَقَوْل الْوَلِيِّ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي شَهْرًا أَوْ سَنَةً إِلَى انْقِضَاءِ الْمَوْسِمِ أَوْ إِلَى قُدُومِ الْحَاجِّ وَشِبْهِهِ.
ج - أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ طَلاَقَ الْمَرْأَةِ بِوَقْتٍ بِقَلْبِهِ.
د - أَنْ يَقُول الزَّوْجُ: أَمْتِعِينِي نَفْسَكِ، فَتَقُول: أَمْتَعْتُكَ نَفْسِي بِلاَ وَلِيٍّ وَلاَ شُهُودٍ (1)

الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ:
14 - يَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلاَنِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ آثَارٌ نُبَيِّنُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - لاَ يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ طَلاَقٌ وَلاَ إِيلاَءٌ وَلاَ ظِهَارٌ وَلاَ يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا وَلاَ لِعَانٌ وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ إِحْصَانٌ لِلرَّجُل وَلاَ لِلْمَرْأَةِ وَلاَ تَحْصُل بِهِ إِبَاحَةٌ لِلزَّوْجِ الأَْوَّل لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلاَثًا. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلاَنِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا (2)
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 96، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 5 / 128، وَانْظُرِ الإِْنْصَاف 8 / 163 - 164.
(2) الْبَدَائِع 2 / 273، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 282، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 387، وَالْحَاوِي للماوردي 11 / 455، كَشَّاف الْقِنَاع 5 / 97، وَالْمُغْنِي 6 / 645.

(41/341)


ب - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَى الرَّجُل فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنَ الْمَهْرِ وَالْمُتْعَةِ وَالنَّفَقَةِ مَا لَمْ يَدْخُل بِالْمَرْأَةِ، فَإِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْل وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُسَمًّى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّ ذِكْرَ الأَْجَل أَثَّرَ خَلَلاً فِي الصَّدَاقِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَخَل بِهَا فَلَهَا الأَْقَل مِمَّا سَمَّى لَهَا وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا إِنْ كَانَ ثَمَّةَ مُسَمًّى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُسَمًّى فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْل بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا بِالدُّخُول الْمُسَمَّى لأَِنَّ فَسَادَهُ لِعَقْدِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ اللَّخْمِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1)
ج - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لَحِقَ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ، لأَِنَّ لَهُ شُبْهَةُ الْعَقْدِ وَالْمَرْأَةُ تَصِيرُ بِهِ فِرَاشًا. وَتُعْتَبَرُ مُدَّةُ النَّسَبِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُول
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 330، وَالشَّرْح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي 2 / 387، وَالْحَاوِي الْكَبِير 11 / 455، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 97، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ مَعَ الشَّرْح 2 / 238 - 239، وَالإِْنْصَاف 8 / 305، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 5 / 128.

(41/341)


عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1)
د - وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُل بِالدُّخُول فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أُصُولِهِمَا وَفُرُوعِهِمَا (2)

عُقُوبَةُ الْمُتَمَتِّعِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ تَعَاطَى نِكَاحَ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ لأَِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالشُّبْهَةُ هُنَا هِيَ شُبْهَةُ الْخِلاَفِ، بَل يُعَزَّرُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ لاِرْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، لأَِنَّهُ ثَبَتَ نَسْخُهُ.
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 330، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 238 - 239، وَالْحَاوِي الْكَبِير 11 / 455، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 387، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 97.
(2) الْحَاوِي الْكَبِير 11 / 455، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 274، وَالدُّسُوقِيّ 2 / 251، 252، وَالإِْنْصَاف 8 / 116.

(41/342)


وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا جَاءَ فِي فَتْحِ الْمُعِينِ - بِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِذَا عُقِدَ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَإِنْ عُقِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَجَبَ الْحَدُّ إِنْ وَطِئَ (1)

السَّابِعُ: النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ:
16 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُؤَقَّتَ هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ بِذِكْرِ لَفْظِ التَّزَوُّجِ فِي الْمُؤَقَّتِ دُونَ الْمُتْعَةِ، وَكَذَا بِالشَّهَادَةِ فِيهِ دُونَ الْمُتْعَةِ، وَفِي الْمُحِيطِ: كُل نِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ مُتْعَةٌ، وَقَال زُفَرُ: لاَ تَكُونُ الْمُتْعَةُ إِلاَّ بِلَفْظِهَا.
وَفَرْقٌ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ لاَ يَبْلُغَانِهِ، أَوْ يَكُونَ إِلَى أَجَلٍ يَبْلُغَانِهِ. فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً إِلَى أَجَلٍ لاَ يَبْلُغَانِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو الْحَسَنِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْبَلْقِينِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أُجِّل النِّكَاحُ بِأَجَلٍ لاَ
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 2 / 149، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 239، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 387، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 5 / 144، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج مَعَ حَاشِيَة الشرواني 7 / 224، وَالْحَاوِي 11 / 455، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 97.

(41/342)


يَبْلُغَانِهِ صَحَّ النِّكَاحُ كَأَنَّهُ ذَكَرَ الأَْبَدَ، لأَِنَّ النِّكَاحَ الْمُطْلَقَ لاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الإِْطْلاَقِ لاَ يَضُرُّ. قَال الْبَلْقِينِيُّ: وَفِي نَصِّ الأُْمِّ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَجَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلاً عَنْ شَمْسِ الأَْئِمَّةِ الْحُلْوَانِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا سَمَّيَا مَا يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُمَا لاَ يَعِيشَانِ إِلَيْهِ كَأَلْفِ سَنَةٍ يَنْعَقِدُ - أَيِ النِّكَاحُ - وَيَبْطُل الشَّرْطُ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَوْ خُرُوجِ الدَّجَّال أَوْ نُزُول عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مَا لَوْ قَال زَوَّجْتُكَهَا مُدَّةَ حَيَاتِكَ أَوْ حَيَاتِهَا لأَِنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بَل يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ عَدَا الْبَلْقِينِيِّ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْمُؤَقَّتَ إِلَى أَجَلٍ لاَ يَبْلُغَانِهِ بَاطِلٌ.
فَإِنْ أُجِّل إِلَى أَجَلٍ يَبْلُغَانِهِ كَمَا لَوْ قَال أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ نِكَاحٌ فَاسِدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (عَدَا زُفَرَ) وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ بِاعْتِبَارِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ صُوَرِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) الْبَدَائِع 2 / 273، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 283، وَحَاشِيَة الصَّاوِي مَعَ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ 2 / 387، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 142، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج مَعَ حَوَاشِيهَا 7 / 224، وَالْفُرُوع 5 / 245.

(41/343)


عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لَكَانَ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَقَّتًا بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَبَّدًا، وَلاَ سَبِيل إِلَى الأُْولَى لأَِنَّ هَذَا مَعْنَى الْمُتْعَةِ إِلاَّ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ مَعَانِيهَا لاَ الأَْلْفَاظُ كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَْصِيل إِنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُهَا وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ وَجْهَ لِلثَّانِي لأَِنَّ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْبُضْعِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
وَقَال زُفَرُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: النِّكَاحُ جَائِزٌ وَهُوَ مُؤَبَّدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لاَ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، فَبَطَل الشَّرْطُ وَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، كَمَا إِذَا قَال: تَزَوَّجْتُكِ إِلَى أَنْ أُطَلِّقَكِ إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ (1)

الثَّامِنُ: النِّكَاحُ بِنِيَّةِ الطَّلاَقِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ بِنِيَّةِ الطَّلاَقِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ جُزِمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِنِيَّةِ الطَّلاَقِ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ سَوَاءٌ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَمْ لاَ. وَذَلِكَ لِخُلُوِّ هَذَا الْعَقْدِ
__________
(1) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 2 / 215، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 273 - 274، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 238، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 7 / 224، وَالإِْنْصَاف 8 / 163.

(41/343)


مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ، وَلاَ يَفْسُدُ بِالنِّيَّةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لاَ يَفْعَل وَيَفْعَل مَا لاَ يَنْوِي، وَلأَِنَّ التَّوْقِيتَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّفْظِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ هَذَا النِّكَاحُ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَبْطَلَهُ، وَلأَِنَّ كُل مَا صَرَّحَ بِهِ أَبْطَل كُرِهَ إِذَا أَضْمَرَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالأَْوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى بُطْلاَنِ هَذَا النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ (1) وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بِهْرَامُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا فَهِمَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ الأَْمْرَ الَّذِي قَصَدَهُ الرَّجُل فِي نَفْسِهِ (2)

التَّاسِعُ: النِّكَاحُ بِشَرْطِ الطَّلاَقِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ بِشَرْطِ الطَّلاَقِ:
__________
(1) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 283، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 2 / 239، وَالشَّرْح الصَّغِير مَعَ حَاشِيَةِ الصَّاوِي 2 / 387، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 457، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 183، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 645، وَالْبَحْر الرَّائِق 3 / 116، وَمُطَالَب أُولِي النُّهَى 5 / 128، وَالإِْنْصَاف 8 / 163، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 97
(2) الزُّرْقَانِيّ مَعَ حَاشِيَة الْبُنَانِيّ 3 / 190، وَحَاشِيَة العدوي عَلَى الرِّسَالَةِ 2 / 47 - 49، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 239.

(41/344)


فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ لاَ يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلاَقُ مُحَدَّدًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ كَشَهْرٍ أَوْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِمَجْهُولٍ كَأَنْ يَشْتَرِطَ طَلاَقَهَا إِنْ قَدِمَ أَبُوهَا مَثَلاً، لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فَأَبْطَلَهُ، وَلأَِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ بَقَاءِ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ.
وَذَهَبُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ بِشَرْطِ الطَّلاَقِ صَحِيحٌ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ - مَثَلاً - جَازَ النِّكَاحُ، لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الْقَاطِعِ يَدُل عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ مُؤَبَّدًا وَبَطَل الشَّرْطُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ أَنْ لاَ يُسَافِرَ بِهَا (1)

الْعَاشِرُ: نِكَاحُ الْمُحَلِّل:
19 - نِكَاحُ الْمُحَلِّل يَتَأَتَّى فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلاَثًا فَلاَ تَحِل لِزَوْجِهَا الأَْوَّل إِلاَّ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أ - أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ.
ب - أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ آخَرُ زَوَاجًا صَحِيحًا.
ج - أَنْ يَدْخُل بِهَا الزَّوْجُ الْجَدِيدُ دُخُولاً حَقِيقِيًّا بِأَنَّ تَغِيبَ حَشَفَتُهُ أَوْ قَدْرُهَا فِي فَرْجِهَا.
__________
(1) الْبَحْر الرَّائِق 3 / 116، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة 1 / 283، وَالْبَدَائِع 2 / 273، وَانْظُرِ الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 646، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 183.

(41/344)


د - أَنْ يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ الآْخَرُ.
هـ - أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ (1)
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ نِكَاحِ الْمُحَلِّل إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهَا:

الأُْولَى: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطٍ إِذَا أَحَلَّهَا بِإِصَابَةٍ لِلزَّوْجِ الأَْوَّل فَلاَ نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، لِحَدِيثِ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحِل وَالْمُحَلَّل لَهُ (2) وَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: هُوَ الْمُحَلِّل، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ (3)
__________
(1) كِفَايَة الأَْخْيَار 2 / 109، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 455، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 646، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 415 وَمَا بَعْدَهَا، وَابْن عَابِدِينَ 2 / 537 وَمَا بَعْدَهَا.
(2) حَدِيث: " لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحَل وَالْمُحَلِّل لَهُ ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 419 ط الْحَلَبِيّ) ، وَقَال: هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح. وَصَحَّحَهُ ابْن الْقَطَّان وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ كَمَا فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ (3 / 170 ط شَرِكَة الطِّبَاعَةِ الْفَنِّيَّةِ)
(3) حَدِيث: " ألا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ. . . ". أَخْرَجَهُ ابْن مَاجَهْ (1 / 622 - 623 ط الْحَلَبِيّ) ، وَالْحَاكِم (2 / 199 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ النِّظَامِيَّة) وَصَحَّحَهُ.

(41/345)


وَلِمَا رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ قَال: " سَمِعْتُ عُمَرَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُول: وَاللَّهِ لاَ أُوتَى بِمُحِلٍّ وَلاَ مُحَلَّلٍ لَهُ إِلاَّ رَجَمْتُهُمَا " (1) وَلأَِنَّهُ إِلَى مُدَّةٍ أَوْ فِيهِ شَرْطٌ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، بَل أَغْلَظُ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ مُدَّتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الإِْصَابَةَ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِالْفَسَادِ أَخَصَّ.
وَلأَِنَّهُ نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ انْقِطَاعُهُ قَبْل غَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلاً (2)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحَلِّل بِكُل صُوَرِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمًا إِذَا كَانَ بِشَرْطِ التَّحْلِيل كَأَنْ يَقُول: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَنْ أُحِلَّكِ لِلأَْوَّل، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ.
وَخَالَفَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى
__________
(1) أَثَر عُمَر: (وَاللَّه لاَ أَوُتَى. . . ". عَزَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ابْنُ قُدَامَة فِي الْمُغْنِي (9 / 55 ط هَجَرَ) إِلَى الأَْثْرَمِ وَأَخْرَجَهُ سَعِيد بْن مَنْصُور (الْقِسْم الثَّانِي مِنَ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ / 51 ط عِلْمِي بِرَسٍّ) بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظِ.
(2) الْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 456، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 182، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 646، وَبُلُوغ الْمَرَام وَشَرْحه سُبُل السَّلاَمِ 3 / 246، وَكِفَايَة الأَْخْيَار 2 / 109، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 94.

(41/345)


فَسَادَ النِّكَاحِ فِيهَا لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ وَلاَ تَحِل لِزَوْجِهَا الأَْوَّل (1)

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الأَْوَّل طَلَّقَهَا فَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَأَبِي يُوسُفَ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يَمْنَعُ دَوَامَ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ التَّأْقِيتَ. وَلِحَدِيثِ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحِل وَالْمُحَلَّل لَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ وَبُطْلاَنِ الشَّرْطِ (2) ، لأَِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لاَ يُطَلِّقَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَلأَِنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ تَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا شُرِطَ فِيهِ الإِْحْلاَل أَوْ لاَ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَيَدْخُل كَمَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (3) } إِلاَّ أَنَّهُ كَرِهَ النِّكَاحَ بِهَذَا الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ السَّكَنُ وَالتَّوَالُدُ وَالتَّعَفُّفُ، لأَِنَّ ذَلِكَ
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 540 وَمَا بَعْدَهَا.
(2) الْبَدَائِع 3 / 187، وَالشَّرْح الصَّغِير 3 / 413، وَالْحَاوِي 11 / 457، وَالإِْنْصَاف 8 / 161، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 94
(3) سُورَة الْبَقَرَة / 230

(41/346)


يَقِفُ عَلَى الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى إِلْحَاقِ اللَّعْنِ بِالْمُحَلِّل فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا إِلْحَاقُ اللَّعْنِ بِالْمُحَلَّل لَهُ فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي هَذَا النِّكَاحَ، لِقَصْدِ الْفِرَاقِ وَالطَّلاَقِ دُونَ الإِْبْقَاءِ وَتَحْقِيقِ وَمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمُسَبِّبُ شَرِيكُ الْمُبَاشِرِ فِي الإِْثْمِ وَالثَّوَابِ فِي التَّسَبُّبِ لِلْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ بَاشَرَ مَا يُفْضِي إِلَى الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَكْرَهُهُ مِنْ عَوْدِهَا إِلَيْهِ - أَيِ الْمَرْأَةِ - مِنْ مُضَاجَعَةِ غَيْرِهِ إِيَّاهَا وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهَا وَهُوَ الطَّلَقَاتُ الثَّلاَثُ، إِذْ لَوْلاَهَا لَمَا وَقَعَ فِيهِ فَكَانَ إِلْحَاقُهُ اللَّعْنَ بِهِ لأَِجْل الطَّلَقَاتِ (1)
وَقَدْ أَوَّل الْحَنَفِيَّةُ اللَّعْنَ الْوَارِدَ فِي شَأْنِ الْمُحَلِّل بِتَأْوِيلاَتٍ أُخْرَى مِنْهَا: أَنَّ اللَّعْنَ عَلَى مَنْ شَرَطَ الأَْجْرَ عَلَى التَّحْلِيل، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاللَّعْنُ عَلَى هَذَا الْحَمْل أَظْهَرُ، لأَِنَّهُ كَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى عَسْبِ التَّيْسِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَيُقَرِّبُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ سَمَّى الْمُحَلِّل بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَزَّازِيِّ: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَتِ الْمُطَلَّقَةُ نَفْسَهَا مِنَ الثَّانِي بِشَرْطِ أَنْ
__________
(1) الْبَدَائِع 3 / 187 - 188، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 457، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 183.

(41/346)


يُجَامِعَهَا وَيُطْلِقَهَا لِتَحِل لِلأَْوَّل قَال الإِْمَامُ: النِّكَاحُ وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ حَتَّى إِذَا أَبَى الثَّانِي طَلاَقَهَا أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَحَلَّتْ لِلأَْوَّل (1) .

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَوَاطَأَ الْعَاقِدَانِ قَبْل الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الأَْوَّل طَلَّقَهَا ثُمَّ عَقَدَ بِذَلِكَ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّرْطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ، لِخُلُوِّهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى طَلاَقَهَا لِغَيْرِ الإِْحْلاَل أَوْ مَا لَوْ نَوَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَبْطُل بِمَا شُرِطَ لاَ بِمَا قُصِدَ (2) .
قَال مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلاَثًا وَكَانَ مِسْكِينٌ أَعْرَابِيٌّ يَقْعُدُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: هَل لَكَ فِي امْرَأَةٍ تَنْكِحُهَا فَتَبِيتَ مَعَهَا اللَّيْلَةَ، فَتُصْبِحَ فَتُفَارِقَهَا؟ فَقَال: نَعَمْ، وَكَانَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّكَ إِذَا أَصْبَحْتَ
__________
(1) الْبَدَائِع 3 / 187، وَرَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 2 / 540 - 541
(2) الْبَدَائِع 2 / 187، وَحَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 2 / 540، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 457، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 183، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 646، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 95

(41/347)


فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ لَكَ فَارِقْهَا، فَلاَ تَفْعَل فَإِنِّي مُقِيمَةٌ لَكَ مَا تَرَى، وَاذْهَبْ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَتَوْهُ وَأَتَوْهَا، فَقَالَتْ: كَلِّمُوهُ أَنْتُمْ جِئْتُمْ بِهِ، فَكَلَّمُوهُ، فَأَبَى وَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ، فَقَال: الْزَمِ امْرَأَتَكَ فَإِنْ رَابُوكَ بِرَيْبٍ فَائْتِنِي، وَأَرْسَل إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَشَتْ فَنَكَّل بِهَا، ثُمَّ كَانَ يَغْدُو إِلَى عُمَرَ وَيَرُوحُ فِي حُلَّةٍ فَيَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَاكَ يَا ذَا الرُّقْعَتَيْنِ حُلَّةً تَغْدُو فِيهَا وَتَرُوحُ " (1) فَقَدْ أَمْضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا النِّكَاحَ وَلَمْ يَرَ فِيهِ بَأْسًا حَيْثُ تَقَدَّمَ فِيهِ الشَّرْطُ عَلَى الْعَقْدِ (2) .
إِلاَّ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَبْطَلَهُ، وَلأَِنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَكَّل بِالْمَرْأَةِ الَّتِي سَفَّرَتْ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ فِي الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ فَدَل عَلَى كَرَاهَتِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُسْتَحَبٌّ، وَأَنَّ الرَّجُل الْمُحَلِّل مَأْجُورٌ فِيهِ إِذَا فَعَلَهُ لِقَصْدِ الإِْصْلاَحِ، لاَ مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا إِلاَّ
__________
(1) أَثَر ابْن سِيرِين: " أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا. . . ". أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيّ فِي الأُْمِّ (10 / 274 - ط دَار قُتَيْبَة) .
(2) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 647 - 648، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 457، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 95

(41/347)


أَنَّ السُّرُوجِيَّ أَوْرَدَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، لأَِنَّ الثَّابِتَ عَادَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا، أَيْ فَيَصِيرُ شَرْطُ التَّحْلِيل كَأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِحَدِيثِ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحِل وَالْمُحَلَّل لَهُ (1) وَلأَِنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّحْلِيل فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُفْسَخُ أَبَدًا بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ (2) قَال الدُّسُوقِيُّ: وَمَحَل فَسَادِ النِّكَاحِ إِذَا قَصَدَ الْمُحَلِّل تَحْلِيلَهَا مَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ مَنْ يَرَى صِحَّتَهُ كَشَافِعِيٍّ وَإِلاَّ كَانَ صَحِيحًا، لأَِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الْمَسَائِل الاِجْتِهَادِيَّةِ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ وَيُصَيِّرُ الْمَسْأَلَةَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا (3) .

الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ قَبْل الْعَقْدِ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ فَنَوَى الْمُحَلِّل فِي الْعَقْدِ غَيْرَ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ كَأَنْ يَقْصِدَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، أَوْ نَوَى إِمْسَاكَهَا وَعَدَمَ فِرَاقِهَا إِنْ أَعْجَبَتْهُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ، لأَِنَّهُ خَلاَ عَنْ
__________
(1) حَدِيث: " لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحَل. . . ". سَبَقَ تَخْرِيجه ف 19
(2) الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 258 - 259، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 413، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 645، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 94، وَالْحَاوِي الْكَبِير 11 / 457.
(3) مِنْ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ 2 / 258

(41/348)


شَرْطِ التَّحْلِيل وَنِيَّةِ التَّحْلِيل كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ. قَال الْحَنَابِلَةُ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَل حَدِيثُ ذِي الرُّقْعَتَيْنِ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيل وَلاَ أَنَّهُ نَوَاهُ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُحَلِّل إِنْ نَوَى التَّحْلِيل مَعَ نِيَّةِ إِمْسَاكِهَا عِنْدَ الإِْعْجَابِ بِأَنْ نَوَى مُفَارَقَتَهَا إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ وَإِمْسَاكَهَا إِنْ أَعْجَبَتْهُ فَإِنَّهُ لاَ يُحِلُّهَا وَهُوَ نِكَاحٌ فَاسِدٌ: لاِنْتِفَاءِ نِيَّةِ الإِْمْسَاكِ عَلَى الدَّوَامِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ النِّكَاحِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ (1) .

الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّل:

أَوَّلاً: حِل الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ الأَْوَّل:
20 - يَرَى مَنْ قَال بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّل حَسَبَ الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مِنْ حِل الاِسْتِمْتَاعِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَثُبُوتِ الإِْحْصَانِ وَالنَّسَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْثَارِ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ نِكَاحَ الْمُحَلِّل فَاسِدًا فِي الصُّوَرِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فَيَثْبُتُ فِيهِ عِنْدَهُمْ سَائِرُ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَلاَ يَحْصُل بِهِ الإِْحْصَانُ وَلاَ الإِْبَاحَةُ لِلزَّوْجِ الأَْوَّل.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحِل لِلزَّوْجِ الأَْوَّل فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّل الْفَاسِدِ إِذَا
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 87 - 88، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 183، وَالْجُمَل عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ 4 / 187، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 258، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 413، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 648، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 95

(41/348)


ذَاقَتْ عُسَيْلَةَ الْمُحَلِّل وَذَاقَ عُسَيْلَتَهَا (1) .

ثَانِيًا: هَدْمُ الطَّلَقَاتِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّل يَهْدِمُ طَلَقَاتِ الزَّوْجِ الأَْوَّل الثَّلاَثَ. وَالتَّفْصِيل فِي (تَحْلِيل ف 12) .

حَادِيَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمُحْرِمِ
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لاَ يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً أَوْ وَلِيًّا عَقَدَ النِّكَاحَ لِمَنْ يَلِيهِ أَوْ وَكِيلاً عَقَدَ النِّكَاحَ لِمُوَكِّلِهِ وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ وَلاَ يَخْطُبُ (3) . وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلاَ
__________
(1) الْحَاوِي للماوردي 11 / 458، وَالْمُغْنِي 6 / 649
(2) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 239، وَالْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ 135، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ 11 / 459 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 156 - 157، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 649، 3 / 332 - 333، وَكَشَّاف الْقِنَاع 2 / 441 - 443، وَالإِْنْصَاف 2 / 492
(3) حَدِيثُ: " لاَ يَنْكِحُ الْمُحَرَّم وَلاَ يَنْكِحُ وَلاَ يَخْطُبُ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 1030 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(41/349)


يُزَوَّجُ (1) ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا مِنْهُ امْرَأَتَهُ " (2) ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا " (3) وَلِمَا رُوِيَ عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَفَرَّقَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا " (4) وَلأَِنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ الإِْحْرَامُ كَالْوَطْءِ (5) .
__________
(1) حَدِيث: " لاَ يَتَزَوَّجُ الْمُحَرَّم وَلاَ يُزَوِّجُ ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ (3 / 261 ط دَار الْمَحَاسِن) مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(2) أَثَر عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مِنْ تَزَوُّجٍ وَهُوَ مَحْرَم. . . ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ (5 / 66 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة)
(3) أَثَر عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا ". أَخْرَجَهُ مَالِك (الْمُوَطَّأُ 1 / 349 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَطَفَانِ بْن طَرِيف الْمَرِّي أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوُّج امْرَأَةٍ وَهُوَ مَحْرَم فَر
(4) أَثَر شَوْذَب: " أَنَّهُ تَزَوُّجٌ وَهُوَ مَحْرَم. . . ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ (5 / 66 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة)
(5) الدُّسُوقِيّ 2 / 239، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص 135، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 459 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 156، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 649، 3 / 332

(41/349)


وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ: الاِعْتِبَارُ بِحَالَةِ الْعَقْدِ لاَ بِحَالَةِ الْوَكَالَةِ، فَلَوْ وَكَّل مُحْرِمٌ حَلاَلاً فَعَقَدَ النِّكَاحَ بَعْدَ حِلِّهِ مِنَ الإِْحْرَامِ صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ لِوُقُوعِهِ حَال حِل الْوَكِيل وَالْمُوَكَّل، وَلَوْ وَكَّل حَلاَلٌ حَلاَلاً فَعَقَدَ الْوَكِيل النِّكَاحَ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ هُوَ أَوْ مُوَكِّلُهُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْعَقْدِ. وَقِيل: يَصِحُّ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّل لَمْ يَنْعَزِل وَكِيلُهُ بِإِحْرَامِهِ، فَإِذَا حَل الْمُوَكِّل كَانَ لِوَكِيلِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ لَهُ لِزَوَال الْمَانِعِ، وَقِيل يَنْعَزِل.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ زَوَّجَ الْمُحْرِمُ غَيْرَهُ صَحَّ سَوَاءٌ كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلاً، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لأَِنَّ النِّكَاحَ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، لِدَوَاعِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ لِلْحَجِّ وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ فِي هَذَا النِّكَاحِ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ (1) .
وَنِكَاحُ الْمُحْرِمِ بِصُوَرِهِ الْمُخْتَلِفَةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا عِنْدُ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَيُفْسَخُ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ بِطَلْقَةٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ
__________
(1) كَشَّاف الْقِنَاع 2 / 442، وَالإِْنْصَاف 3 / 492، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 3 / 332 - 333

(41/350)


الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ نِكَاحٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ حَتَّى وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُحْرِمَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ (2) . وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الإِْحْرَامُ كَالرَّجْعَةِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا وَقِيل تَنْزِيهًا، لأَِنَّ الْمُحْرِمَ فِي شُغُلٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ عُقُودِ الأَْنْكِحَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شَغْل قَلْبِهِ عَنْ إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِطْبَةٍ وَمُرَاوَدَاتٍ وَدَعْوَةٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ، وَيَتَضَمَّنُ تَنْبِيهَ النَّفْسِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ (3) .

ثَانِيَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ وَالْمَرِيضَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الْمَرِيضِ وَالْمَرِيضَةِ:
__________
(1) الدُّسُوقِيّ 2 / 239، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص 135، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 459 وَمَا بَعْدَهَا، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 3 / 649، وَكَشَّاف الْقِنَاع 2 / 441 - 443، وَالإِْنْصَاف 3 / 492
(2) حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوُّج مَيْمُونَة وَهُوَ مَحْرَم ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم (2 / 1031 ط الْحَلَبِيّ)
(3) رَدّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدَّرِّ الْمُخْتَارِ 2 / 290 - 291، وَالْحَاوِي الْكَبِير للماوردي 11 / 459 وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 3 / 332

(41/350)


فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَنْكِحَ جَمِيعَ مَا أَحَل اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَرْبَعًا وَمَا دُونَهُنَّ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَمِنْهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالِي: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ (2) } وَلِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَال: " كَانَتِ ابْنَةُ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ، فَحَدَثَ أَنَّهَا عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ، فَطَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يُجَامِعَهَا، فَمَكَثَتْ حَيَاةَ عُمَرَ وَبَعْضَ خِلاَفَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ لِتُشْرِكَ نِسَاءَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ " (3) .
وَلأَِنَّ النِّكَاحَ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ لِلإِْنْسَانِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النِّكَاحِ شَرْعًا، وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ
__________
(1) الْبَدَائِع 7 / 225، وَالأُْمّ لِلإِْمَامِ الشَّافِعِيّ 4 / 103 وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 326
(2) سُورَة النِّسَاء / 3
(3) أَثَر نَافِع مَوْلَى ابْن عُمَر: " كَانَتِ ابْنَة حَفْص بْن الْمُغِيرَة. . . ". أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيّ فِي الأُْمِّ (8 / 293 - ط دَار قُتَيْبَة)

(41/351)


صَرْفِ مَالِهِ إِلَى حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الأَْغْذِيَةِ وَالأَْدْوِيَةِ.
وَلأَِنَّهُ نِكَاحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ بِشَرْطِهِ فَيَصِحُّ كَحَال الصِّحَّةِ، وَلأَِنَّ " عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ثَلاَثَ نِسْوَةٍ أَصْدَقَ كُل وَاحِدَةٍ أَلْفًا لِيُضَيِّقَ بِهِنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيُشْرِكْنَهَا فِي مِيرَاثِهَا فَأُجِيزَ ذَلِكَ " (1) .
قَال الْجُمْهُورُ: وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ النِّكَاحِ ثَبَتَ كَذَلِكَ صِحَّةُ الصَّدَاقِ وَاسْتِحْقَاقُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِرْثَ الآْخَرِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَنَصَّ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ مُضَارَّةً لِيُنْقِصَ إِرْثَ غَيْرِهَا وَأَقَرَّتْ بِهِ لَمْ تَرِثْهُ، وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ وَلاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا.
وَقَال رَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: النِّكَاحُ صَحِيحٌ وَالصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُل هُوَ الْمَرِيضَ أَمِ الْمَرْأَةُ (2) .
__________
(1) أَثَر عَبْد الرَّحْمَن بْن أَمِ الْحَكَم: " تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ثَلاَثَ نِسْوَة. . . ". أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيّ فِي الأُْمِّ (8 / 293 - ط دَار قُتَيْبَة)
(2) الْبَدَائِع 7 / 225، وَالأُْمّ لِلشَّافِعِيِّ 4 / 103، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 326، وَالْفُرُوع لاِبْن مُفْلِح 5 / 48، وَالإِْنْصَاف 7 / 358

(41/351)


وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّهُ يَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَا مَرِيضَيْنِ مَرَضًا مُخَوِّفًا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْمَوْتُ عَادَةً. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا هَذَا الْمَرَضَ وَالآْخَرُ صَحِيحًا.
فَالْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ أَذِنَ الْوَرَثَةُ أَوِ احْتَاجَ الْمَرِيضُ إِلَيْهِ لِلنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِهِ وَارِثًا.
وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ النِّكَاحُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الْمَرِيضُ أَوْ أَذِنَ الْوَارِثُ وَهَذَا الَّذِي شَهَرَهُ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ.
وَعَلَى الأَْوَّل - وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ - لَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ الْمُخَوِّفِ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بِهِمَا مَعًا فُسِخَ قَبْل الدُّخُول وَبَعْدَهُ مَا لَمْ يَصِحَّ الْمَرِيضُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ قَبْل الدُّخُول بِهَا فَلاَ صَدَاقَ لَهَا وَلاَ مِيرَاثَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الدُّخُول فَلَهَا الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى. وَلاَ مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا.
إِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ الْمُتَزَوِّجُ فِي مَرَضِهِ الْمُخَوِّفِ قَبْل فَسْخِ النِّكَاحِ - سَوَاءٌ دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل - عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ: الأَْقَل مِنَ الْمُسَمَّى مِنْ صَدَاقِ الْمِثْل. . . وَأَمَّا إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ قَبْل مَوْتِهِ وَقَبْل الدُّخُول فَلاَ شَيْءَ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا فُسِخَ بَعْدَ الدُّخُول، ثُمَّ مَاتَ أَوْ

(41/352)


صَحَّ كَانَ لَهَا الْمُسَمَّى تَأْخُذُهُ مِنْ ثُلُثِهِ مَبْدَءًا إِنْ مَاتَ، وَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ إِنْ صَحَّ (1) .
أَمَّا إِذَا صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْهُمَا أَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل، وَيَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ الصَّدَاقُ الَّذِي سَمَّى.
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَيُّ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا مَرَضًا مُخَوِّفًا حَال عَقْدِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ لاَ يَتَوَارَثَانِ بِهِ إِلاَّ أَنْ يُصِيبَهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى فِي ثُلُثِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَصَبَةِ.
وَقَال الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ: إِنْ قَصَدَ الإِْضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَإِلاَّ فَهُوَ صَحِيحٌ (2) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مَرَضِ الْمَوْتِ ف 21) .

ثَالِثَ عَشَرَ: نِكَاحُ السِّرِّ:
أ - حَقِيقَةُ نِكَاحِ السِّرِّ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) الشَّرْح الصَّغِير 2 / 427، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ 2 / 276
(2) الْمُدَوَّنَة الْكُبْرَى 2 / 246 - 247، وَالشَّرْح الصَّغِير عَلَى أَقْرَبَ الْمَسَالِك 2 / 387، 426، 427، وَمَوَاهِب الْجَلِيل لِلْحَطَّابِ 3 / 450، 481، 482، وَالدُّسُوقِيّ 2 / 240، 276، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 326

(41/352)


وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ هُوَ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ الشُّهُودُ، أَمَّا مَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلاَنِيَةٍ لاَ نِكَاحَ السِّرِّ، إِذِ السِّرُّ إِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سِرًّا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (1) ، مَفْهُومُهُ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الإِْظْهَارُ، وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يُشْتَرَطْ إِظْهَارُهُ كَالْبَيْعِ.
وَأَخْبَارُ الإِْعْلاَنِ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ مِثْل: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ (2) ، يُرَادُ بِهَا الاِسْتِحْبَابُ، بِدَلِيل أَمْرِهِ فِيهَا بِالضَّرْبِ بِالدُّفِّ وَالصَّوْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الإِْعْلاَنُ. أَوْ يُحْمَل الأَْمْرُ بِالإِْعْلاَنِ فِي النِّكَاحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِعْلاَنُهُ بِالشَّهَادَةِ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَكْتُومًا مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودٌ، أَمْ كَيْفَ يَكُونُ مُعْلَنًا مَا خَلاَ مِنْ بَيِّنَةٍ وَشُهُودٍ؟
__________
(1) حَدِيث: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بَوْلِي وَشَاهِدِي عَدَل ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ (7 / 125 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة، وَقَال المناوي فِي فَيْض الْقَدِير (6 / 438) : قَال الذَّهَبِيّ فِي الْمُهَذَّبِ: إِسْنَادُهُ صَحِيح
(2) حَدِيث: " أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاح وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ (3 / 389 - 390 ط الْحَلَبِيّ) ، ثُمَّ قَال التِّرْمِذِيّ عَنْ أَحَدِ رُوَاته وَهُوَ عِيسَى بْن مَيْمُون: يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ

(41/353)


وَلأَِنَّ إِعْلاَنَ النِّكَاحِ وَالضَّرْبَ عَلَيْهِ بِالدُّفِّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لاَعْتُبِرَ حَالَةَ الْعَقْدِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَأَمَّا نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ فَالْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْهُ الشُّهُودُ بِدَلِيل " أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَقَال: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ، وَلاَ أُجِيزُهُ، وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ " (1) . وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ طَرِيقَتَانِ:

الأُْولَى: طَرِيقَةُ الْبَاجِيِّ وَهِيَ اسْتِكْتَامُ غَيْرِ الشُّهُودِ كَمَا لَوْ تَوَاصَى الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيُّ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى الشُّهُودَ بِذَلِكَ أَمْ لاَ.

الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ ابْنِ عَرَفَةَ وَهِيَ مَا أَوْصَى الشُّهُودَ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى غَيْرَهُمْ عَلَى كَتْمِهِ أَمْ لاَ.
وَلاَ بُدَّ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي هُوَ الزَّوْجَ سَوَاءٌ انْضَمَّ لَهُ غَيْرُهُ كَالزَّوْجَةِ أَمْ لاَ.
__________
(1) أَثَر عُمَر: " أَنَّهُ أَتَى بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، إِلاَّ رَجُل وَامْرَأَة ". أَخْرَجَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأِ (2 / 535 ط الْحَلَبِيّ)

(41/353)


وَهَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْكِتْمَانُ بِسَبَبِ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِهِ كَأَنْ يَأْخُذَ الظَّالِمُ مَثَلاً مَالاً أَوْ غَيْرَهُ فَالْوَصِيَّةُ عَلَى كَتْمِهِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ، كَمَا أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ نِكَاحَ سِرٍّ أَيْضًا إِذَا كَانَ الإِْيصَاءُ بِكَتْمِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ (1) .

ب - حُكْمُ نِكَاحِ السِّرِّ:
25 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَاءً عَلَى حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نِكَاحٌ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الإِْشْهَادِ عَلَيْهِ لِخَبَرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحِ ف 16) .
وَأَمَّا نِكَاحُ السِّرِّ حَسَبَ حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُهُ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْل الدُّخُول كَمَا يُفْسَخُ أَيْضًا إِذَا دَخَل وَلَمْ يُطِل، فَإِنْ دَخَل وَطَال لَمْ يُفْسَخْ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلاَفًا لاِبْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قَال: يُفْسَخُ بَعْدَ الدُّخُول وَالطُّول، وَالطُّول فِي
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 253، وَالْحَاوِي 11 / 86، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 66، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 236، 237، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 382، وَالْمُغْنِي 6 / 538
(2) حَدِيث: " لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيّ. . . ". تَقَدَّمَ تَخْرِيجه ف 24

(41/354)


وَقْتِ نِكَاحِ السِّرِّ يَعُودُ إِلَى الْعُرْفِ، لاَ بِوِلاَدَةِ الأَْوْلاَدِ وَهُوَ مَا يَحْصُل فِيهِ الظُّهُورُ وَالاِشْتِهَارُ عَادَةً.
وَالْفَسْخُ فِيهِ بِطَلاَقٍ لأَِنَّهُ مِنَ الأَْنْكِحَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَيُعَاقَبُ الزَّوْجَانِ فِي نِكَاحِ السِّرِّ إِنْ دَخَلاَ وَلَمْ يُعْذَرَا بِجَهْلٍ وَلَمْ يَكُونَا مَجْبُورَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلاَ أَوْ دَخَلاَ وَلَكِنْ عُذِرَا بِالْجَهْل فَلاَ عِقَابَ عَلَيْهِمَا، وَلاَ عِقَابَ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ إِذَا كَانَا مَجْبُورَيْنِ وَحِينَئِذٍ الْعِقَابُ عَلَى وَلِيِّهِمَا.
وَيُعَاقَبُ كَذَلِكَ الشُّهُودُ إِنْ حَصَل دُخُولٌ وَلَمْ يُعْذَرُوا بِجَهْلٍ وَلَمْ يَكُونُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْكِتْمَانِ (1) .
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ سَأَل ابْنَ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ نَكَحَ سِرًّا وَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ فَقَال: إِنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَاعْتَدَّتْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَعُوقِبَ الشَّاهِدَانِ بِمَا كَتَمَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُهَا، ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا حِينَ تَنْقَضِي عَدَّتُهَا نَكَحَهَا عَلاَنِيَةً. . . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلاَ صَدَاقَ لَهَا وَنَرَى أَنْ يُنَكِّلَهُمَا الإِْمَامُ
__________
(1) الدُّسُوقِيّ 2 / 236 - 237، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 283 - 284، وَالْمُدَوَّنَة الْكُبْرَى 2 / 194، وَالْحَاوِي الْكَبِير 11 / 84 - 86، وَالْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَة 6 / 538، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 66، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 253

(41/354)


بِعُقُوبَةٍ وَالشَّاهِدَيْنِ بِعُقُوبَةٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ نِكَاحُ السِّرِّ (1) وَنِكَاحُ السِّرِّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَعَ صِحَّتِهِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ عُقِدَ النِّكَاحُ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَأَسَرُّوهُ أَوْ تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ كُرِهَ ذَلِكَ وَصَحَّ النِّكَاحُ. وَمِمَّنْ كَرِهَ نِكَاحَ السِّرِّ الْمُوصَى فِيهِ بِالْكِتْمَانِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُرْوَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَالشَّعْبِيُّ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ. وَبِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (2) . وَإِلَى عَدَمِ صِحَّةِ نِكَاحِ السِّرِّ الَّذِي أَوْصَى فِيهِ الشُّهُودَ بِكِتْمَانِهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (3) .

رَابِعَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ:
26 - مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ،
__________
(1) الْمُدَوَّنَة الْكُبْرَى 2 / 194.
(2) بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 253، وَالْحَاوِي 11 / 86، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 66، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ 2 / 236، 237، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 382، وَالْمُغْنِي 6 / 538
(3) الْمُغْنِي 6 / 538

(41/355)


وَمِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ) .

(41/355)


نَكْثٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - النَّكْثُ لُغَةً مَصْدَرُ نَكَثَ يُقَال: نَكَثَ الْعَهْدَ وَالْحَبْل يَنْكُثُهُ نَكْثًا: نَقَضَهُ، وَنَكَثَ الرَّجُل الْعَهْدَ نَكْثًا مِنْ بَابِ قَتَل: نَقَضَهُ وَنَبَذَهُ، قَال تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (1) } .
وَالنَّكْثُ: نَقْضُ مَا تَعْقِدُهُ وَتُصْلِحُهُ مِنْ بَيْعَةٍ وَغَيْرِهَا. وَالنَّكْثُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ نَقْضُ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّقْضُ:
2 - النَّقْضُ لُغَةً مِنْ نَقَضْتُ الْحَبْل نَقْضًا: حَلَلْتُ بَرْمَهُ، وَمِنْهُ يُقَال: نَقَضْتُ مَا أُبْرِمُهُ إِذَا
__________
(1) سُورَة التَّوْبَة / 12
(2) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالنِّهَايَة لاِبْنِ الأَْثِيرِ وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 8 / 81

(41/356)


أَبْطَلْتَهُ، وَالنَّقْضُ إِفْسَادُ مَا أَبْرَمْتَ مِنْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّكْثِ وَالنَّقْضِ: أَنَّ النَّقْضَ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى إِبْطَال الْمُبْرَمِ مِنْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَمَّا النَّكْثُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ فَقَطْ، وَلِذَا كَانَ كُل نَكْثٍ نَقْضًا وَلَيْسَ كُل نَقْضٍ نَكْثًا.

ب - النَّبْذُ:
3 - النَّبْذُ لُغَةً مَصْدَرُ نَبَذَ، يُقَال: نَبَذْتُهُ نَبْذًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: أَلْقَيْتُهُ فَهُوَ مَنْبُوذٌ، وَصَبِيٌّ مَنْبُوذٌ مَطْرُوحٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّبِيذُ، لأَِنَّهُ يُنْبَذُ أَيْ يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَنَبَذْتُ الْعَهْدَ: نَقَضْتُهُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّكْثِ وَالنَّبْذِ: أَنَّ النَّبْذَ أَعَمُّ مِنَ النَّكْثِ، فَكُل نَكْثٍ نَبْذٌ وَلَيْسَ كُل نَبْذٍ نَكْثًا.

ج - الْغَدْرُ:
4 - الْغَدْرُ لُغَةً مَصْدَرُ غَدَرَ، يُقَال غَدَرَ بِهِ غَدْرًا
__________
(1) انْظُرْ: لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْقَامُوس الْمُحِيط
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَانْظُرْ: لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَمُعْجَم مَقَايِيس اللُّغَة ط عِيسَى الْحَلَبِيّ

(41/356)


مِنْ بَابِ ضَرَبَ: نَقَضَ عَهْدَهُ، فَالْغَدْرُ ضِدُّ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّكْثِ وَالْغَدْرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِ.

د - الْعَهْدُ:
5 - الْعَهْدُ لُغَةً: الْوَصِيَّةُ، وَالذِّمَّةُ، وَالأَْمَانُ، وَالْمَوْثِقُ، وَالْيَمِينُ يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُل (2) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّكْثِ وَالْعَهْدِ أَنَّ النَّكْثَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا سُبِقَ بِعَهْدٍ، لأَِنَّ مَحَل النَّكْثِ هُوَ الْمَعْهُودُ عَلَيْهِ.

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّكْثِ:
لِلنَّكْثِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ وَآخَرُ وَضْعِيٌّ.

أ - الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلنَّكْثِ:
6 - النَّكْثُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ
__________
(1) انْظُرْ: الْقَامُوسُ الْمُحِيطُ، وَلِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ
(2) انْظُرْ: لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْقَامُوس الْمُحِيط

(41/357)


لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (1) } ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل وَيُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (2) } ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (3) } ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ (4) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعْطَى بَيْعَةً ثُمَّ نَكَثَهَا لَقِيَ اللَّهَ وَلَيْسَتْ مَعَهُ يَمِينُهُ (5) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَعُ
__________
(1) سُورَة التَّوْبَة / 12
(2) سُورَة الْبَقَرَة / 27
(3) سُورَة الْفَتْحِ / 10
(4) حَدِيث: " لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ. . . ". أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ (3 / 135، 154، 210، 251 ط الميمنية) وَابْن حِبَّانَ (الإِْحْسَان 1 / 422 ط مُؤَسَّسَة الرِّسَالَة) وَقَال الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (1 / 96) : رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّار والطبراني فِي الأَْوْسَطِ وَفِيهِ هِلاَلٌ وَثَّقَهُ ابْن مَعِينٍ وَغَيْرُهُ وَضِعْفُهُ النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ
(5) حَدِيث: " مَنْ أَعْطَى بَيْعَة. . . ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَْوْسَطِ (10 / 45 ط مَكْتَبَة الْمَعَارِفِ - الرِّيَاض) وَذَكَرَهُ الهيثمي فِي مَجْمَع الزَّوَائِد (5 / 225 ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ) وَقَال: فِيهِ مُوسَى بْن سَعْد مَجْهُول، وَذِكْره ابْن حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (13 / 205 ط السَّلَفِيَّة) وَعَزَاهُ إِلَى الطَّبَرَانِيّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ

(41/357)


خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا (1) . وَتَفْصِيلٌ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَدَرَ ف 5، 6، بَيْعَةٌ ف 13، عَهَدَ ف 6) .

ب - الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ لِلنَّكْثِ:
7 - نَكْثُ الْعَهْدِ جَعْلَهُ الشَّارِعُ سَبَبًا لِنَبْذِ الْعَهْدِ وَتَرْكِهِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (2) } ، فَنَكْثُ الْعَهْدِ مِنْ جَانِبِ الْمُشْرِكِينَ وَالطَّعْنُ فِي الدِّينِ جَعْلَهَا الشَّارِعُ سَبَبًا لِقِتَال أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَنَبْذِ عَهْدِهِمْ. هَذَا وَقَدْ جَعَل الشَّارِعُ الْحَكِيمُ مُجَرَّدَ الْخَوْفِ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ مِنْ جَانِبِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ سَبَبًا فِي نَبْذِ عَهْدِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (3) } .
__________
(1) حَدِيث: " أَرْبَع خِلاَل مَنْ كُنَّ. . . ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ (فَتْح الْبَارِي 6 / 279 ط السَّلَفِيَّة)
(2) سُورَة التَّوْبَة / 12
(3) سُورَة الأَْنْفَال / 58

(41/358)


انْظُرْ (خِيَانَة ف 11، 12) .
8 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَدْءِ قِتَال غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ قَبْل إِعْلاَمِهِمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ إِذَا نَقَضَ الْمُعَاهَدُونَ مِنْ أَهْل الْهُدْنَةِ الْعَهْدَ، وَكَذَا نَقَضَ أَهْل الذِّمَّةِ عَهْدَهُمْ.
يُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 44، غَدَرَ ف 6، نَقَضَ ف 8، هُدْنَةٌ) .

النَّكْثُ فِي الْيَمِينِ:
9 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ النَّكْثِ فِي الْيَمِينِ بِاخْتِلاَفِ أَنْوَاعِ الْيَمِينِ (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ، وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ) .
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَان ف 102 - 118، حَنِثَ ف 7 - 12) .

(41/358)


نُكُولٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - النُّكُول فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ نَكَل - بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا - كَضَرَبَ وَنَصَرَ وَعَلِمَ: نَكَصَ وَجَبِنَ، وَيُقَال: نَكَل الرَّجُل عَنِ الأَْمْرِ وَعَنِ الْعَدُوِّ وَعَنِ الْيَمِينِ يَنْكُل نُكُولاً: إِذَا جَبُنَ عَنْهُ، وَنَكَّلَهُ عَنِ الشَّيْءِ - بِتَشْدِيدِ الْكَافِ - إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَالنَّاكِل: الْجَبَانُ الضَّعِيفُ، وَالنَّكَل - بِفَتْحِ الْكَافِ - مِنَ التَّنْكِيل وَهُوَ الْمَنْعُ وَالتَّنْحِيَةُ عَمَّا يُرِيدُهُ الإِْنْسَانُ، وَمِنْهُ النُّكُول فِي الْيَمِينِ، وَهُوَ الاِمْتِنَاعُ مِنْهَا، وَتَرْكُ الإِْقْدَامِ عَلَيْهَا (1) . وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَ ابْنُ عَرَفَةَ النُّكُول: بِأَنَّهُ امْتِنَاعُ مَنْ وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ مِنْهَا (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْيَمِينُ:
2 - الْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ: الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ.
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ، تَاج الْعَرُوسِ، الْقَامُوس الْمُحِيط، مُخْتَار الصِّحَاح " نَكَّل "
(2) شَرْح مَنَحَ الْجَلِيل 4 / 335

(41/359)


وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَقْوِيَةُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْخَبَرِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ (1) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالنُّكُول أَنَّ الْيَمِينَ تُفِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ فِي الْحَال بِخِلاَفِ النُّكُول.

ب - الإِْقْرَارُ:
3 - الإِْقْرَارُ لُغَةً: الاِعْتِرَافُ
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ (2) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ النُّكُول وَالإِْقْرَارِ أَنَّ النُّكُول بَدَلٌ عَنِ الإِْقْرَارِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

حَقِيقَةُ النُّكُول:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ النُّكُول عَلَى أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ:

الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ النُّكُول بَذْلٌ (3) ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ، أَمَّا مَا لاَ يَسْتَحْلَفُ فِيهِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْفَيْءُ فِي الإِْيلاَءِ وَالرِّقِّ وَالاِسْتِيلاَدِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلاَءِ
__________
(1) التَّعْرِيفَات للجرجاني، الْقَوَاعِد لِلْبَرَكَتِي، وَالاِخْتِيَارِ 4 / 46
(2) تَبْيِين الْحَقَائِقِ 5 / 2، وَالشَّرْح الصَّغِير 3 / 525، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 2 / 238
(3) الْبَذْل: يَقْصِدُ بِهِ قَطْعُ الْخُصُومَةِ بِدَفْعِ مَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ كَمَا قَال بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ تَرَكَ الْمُنَازَعَةَ وَالإِْعْرَاضَ عَنْهَا كَمَا قَال بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ. (نَتَائِج الأَْفْكَارِ وَالْعِنَايَة عَلَى الْهِدَايَةِ 6 / 165)

(41/359)


وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ فَلاَ يَحْتَمِل الْبَذْل فَلاَ تَحْتَمِل النُّكُول وَاسْتُدِل عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَمِينَ لاَ تَبْقَى وَاجِبَةً مَعَ النُّكُول، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ إِقْرَارًا، لأَِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ النَّاكِل كَاذِبًا فِي إِنْكَارِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ صَادِقًا فِيهِ لَمَا امْتَنَعَ مِنَ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ، فَكَانَ نُكُولُهُ إِقْرَارًا، وَيُحْتَمَل كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَذْلاً، لأَِنَّ الْعَاقِل الدَّيِّنَ كَمَا يَتَحَرَّجُ عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، يَتَحَرَّجُ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالطَّعْنِ بِالْيَمِينِ بِبَذْل الْمُدَّعَى بِهِ، إِلاَّ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْبَذْل أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الإِْقْرَارِ، لأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِهِ إِقْرَارًا تَكْذِيبُ النَّاكِل فِي إِنْكَارِهِ السَّابِقِ، وَلَوْ جُعِل بَذْلاً لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ ذَلِكَ، بَل تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِلاَ تَكْذِيبٍ، فَكَأَنَّ النَّاكِل قَال لِلْمُدَّعِي: لَيْسَ هَذَا لَكَ وَلَكِنِّي لاَ أَمْنَعُكَ عَنْهُ وَلاَ أُنَازِعُكَ فِيهِ، فَيَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَكْذِيبٍ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ (1) .

الْقَوْل الثَّانِي: يَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النُّكُول فِيمَا يَحْتَمِل الإِْقْرَارَ بِهِ شَرْعًا إِقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ سَوَاءٌ احْتَمَل الْبَذْل أَوْ لاَ (2) .
__________
(1) الْهِدَايَة وَنَتَائِج الأَْفْكَارِ وَالْعِنَايَة 6 / 162، 163 وَبَدَائِع الصَّنَائِع 8 / 3928، 3929
(2) الْهِدَايَة، وَنَتَائِج الأَْفْكَارِ (تَكْمِلَة فَتْح الْقَدِير) 6 / 163 - 165، وَالْعِنَايَة 6 / 163، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 8 / 3928

(41/360)


وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ النُّكُول إِقْرَارٌ: بِأَنَّهُ يَدُل عَلَى كَوْنِ النَّاكِل كَاذِبًا فِي إِنْكَارِهِ السَّابِقِ، إِذْ لَوْلاَ ذَلِكَ لأََقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إِقَامَةً لِلْوَاجِبِ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ نُكُولُهُ إِقْرَارًا دَلاَلَةً، إِلاَّ أَنَّهُ دَلاَلَةٌ قَاصِرَةٌ فِيهَا شُبْهَةُ الْعَدَمِ، لأَِنَّهُ فِي نَفْسِهِ سُكُوتٌ وَهَذِهِ الأَْشْيَاءُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَاصِرٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ (1) .

الْقَوْل الثَّالِثُ: قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ النُّكُول لَيْسَ كَالإِْقْرَارِ وَلاَ يُعْتَبَرُ بَيِّنَةً بَل تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَهَذَا هُوَ أَيْضًا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ دَعَاوَى التُّهْمَةِ، أَمَّا دَعَاوَى التُّهْمَةِ فَالنُّكُول فِيهَا عِنْدَهُمْ تُعْتَبَرُ كَالإِْقْرَارِ فِي الْمَشْهُورِ (2) ، وَالْمُرَادُ بِدَعْوَى التُّهْمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الدَّعْوَى الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَحَل اتِّهَامٍ وَشَكٍّ كَالصُّنَّاعِ وَالسُّرَّاقِ.

الْقَوْل الرَّابِعُ: إِنَّ النُّكُول كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ كَالإِْقْرَارِ بِالْحَقِّ أَوْ بِذَلِكَ الْحَقِّ، وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى جَعْل النَّاكِل مُقِرًّا بِالْحَقِّ مَعَ إِنْكَارِهِ لَهُ، وَلَيْسَ النُّكُول كَبَذْل الْحَقِّ، لأَِنَّ الْبَذْل قَدْ يَكُونُ تَبَرُّعًا وَلاَ تَبَرُّعَ هُنَا (3) .
__________
(1) الْهِدَايَة وَنَتَائِج الأَْفْكَارِ وَالْعِنَايَة 6 / 163، 164، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 8 / 3928، 3929
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 477، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج 10 / 220، وَالدُّسُوقِيّ 4 / 232، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 220، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 5 / 218
(3) كَشَّاف الْقِنَاع 6 / 339، وَالْفُرُوع 6 / 478

(41/360)


الْقَضَاءُ بِالنُّكُول:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُول عَلَى أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ:

5 - الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ (عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ بَعْضِهِمْ فِي الدَّعَاوَى الَّتِي يُقْضَى بِهِ فِيهَا) . رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيٍّ، وَعُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَشُرَيْحٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لإِِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الدَّعَاوَى الْمَالِيَّةِ، وَأَمَّا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ فَإِنَّ السَّارِقَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْمَال، فَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْمَال الْمَسْرُوقِ وَلاَ يُقْطَعُ.
وَأَمَّا فِي دَعَاوَى الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَوِ الأَْطْرَافِ فَلاَ يُقْضَى بِالنُّكُول فِيهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَكِنْ يُقْضَى بِالأَْرْشِ وَالدِّيَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يُقْضَى بِالنُّكُول فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ لاَ بِالْقِصَاصِ وَلاَ بِالدِّيَةِ وَإِنَّمَا يُحْبَسُ النَّاكِل حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ.
وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُول لأَِنَّ الأَْطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الأَْمْوَال فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْل بِخِلاَفِ الأَْنْفُسِ فَيُقْضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَبِالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ.

(41/361)


وَأَمَّا الْحُدُودُ: كَالزِّنَا، وَالشُّرْبِ، فَلاَ يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُول عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُدُودِ لاَ يُقْضَى فِيهِ بِشَيْءٍ، وَلاَ يُسْتَحْلَفُ الْقَاذِفُ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ، وَقِيل: إِنْ نَكَل عَنِ الْحَلِفِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ. وَأَمَّا التَّعَازِيرُ فَيُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُول عِنْدَهُمْ جَمِيعًا. وَلاَ يُقْضَى بِالنُّكُول فِي اللِّعَانِ عِنْدَهُمْ. فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى تَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ، أَوِ الرَّجْعَةِ أَوِ الْفَيْءِ فِي الإِْيلاَءِ، أَوِ الرِّقِّ، أَوِ الاِسْتِيلاَدِ، أَوِ النَّسَبِ، أَوِ الْوَلاَءِ، فَلاَ يُقْضَى بِالنُّكُول فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ، وَيُسْتَحْلَفُ فِيهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ وَيُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُول إِنْ نَكَل عَنِ الْحِلِفِ (1) .
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ فِي دَعْوَى التُّهْمَةِ: كَأَنْ يُتَّهَمَ شَخْصٌ بِسَرِقَةِ مَال غَيْرِهِ، فَلاَ يَحْلِفُ الطَّالِبُ وَإِنَّمَا تُوَجَّهُ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ،
__________
(1) الْهِدَايَة وَنَتَائِج الأَْفْكَارِ وَالْعِنَايَة 6 / 162، 168، 0 17، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 8 / 3934، 3936، 3937، وَحَاشِيَة رَدّ الْمُحْتَارِ 5 / 549، 550

(41/361)


فَإِنْ نَكَل قَضَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ وَغَرَمَ الْمَال الْمَسْرُوقَ. وَقَال ابْنُ جَزِيٍّ: إِذَا أَتَى الْمُدَّعِي بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَدْلٍ فَلاَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي الأَْمْوَال أَوْ فِي الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي الأَْمْوَال أَوْ فِيمَا يَئُول إِلَيْهَا حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيِّنَ الْعَدَالَةِ وَقُضِيَ لَهُ، وَإِنْ شَهِدَ لَهُ امْرَأَتَانِ حَلَفَ مَعَهُمَا، فَإِنْ نَكَل الْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ أَوِ الْمَرْأَتَيْنِ انْقَلَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الطَّلاَقِ أَوْ فِي الْعِتَاقِ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ وَوَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَل فَقَال أَشْهَبُ: يُقْضَى عَلَيْهِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يُحْبَسُ سَنَةً لِيُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، فَإِنْ تَمَادَى عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْهُمَا خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَقَال سَحْنُونٌ: يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَإِنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ أَوِ الرَّجْعَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَانَ الشَّاهِدُ كَالْعَدَمِ.
وَقَال: إِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لِمَنْ لاَ تَصِحُّ مِنْهُ الْيَمِينُ. كَالصَّغِيرِ وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَقِيل يُوقَفُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيَمْلِكَ أَمْرَ نَفْسِهِ وَيُسْتَحْلَفُ حِينَئِذٍ فَإِنْ حَلَفَ وَجَبَ لَهُ الْحَقُّ وَإِنْ نَكَل حَلَفَ

(41/362)


الْمَطْلُوبُ حِينَئِذٍ وَبَرِئَ فَإِنْ نَكَل أُخِذَ الْحَقُّ مِنْهُ (1) . وَالأَْصْل الْمُقَرَّرُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي وَلاَ يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالنُّكُول، لَكِنْ قَدْ يَتَعَذَّرُ رَدُّ الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ مِنَ الأَْصْحَابِ مَنْ يَقُول بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُول كَمَنْ طُولِبَ بِزَكَاةٍ فَادَّعَى دَفْعَهَا إِلَى سَاعٍ آخَرَ، أَوْ غَلِطَ خَارِصٌ، أَوْ مُسْقِطًا آخَرَ، سُنَّ تَحْلِيفُهُ، فَإِنْ نَكَل لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا إِذَا أَلْزَمْنَاهُ الْيَمِينَ عَلَى رَأْيٍ فَنَكَل وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْيَمِينِ لِعَدَمِ انْحِصَارِ الْمُسْتَحَقِّ، فَالأَْصَحُّ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ الضَّعِيفِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ لاَ لِلْحُكْمِ بِالنُّكُول بَل لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى مِلْكِ النِّصَابِ وَالْحَوْل عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال ابْنُ الْقَاصِّ - وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ - هُوَ حُكْمٌ بِالنُّكُول وَسَبَبُهُ الضَّرُورَةُ (2) . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ رُوِيَ عَنْ
__________
(1) شَرْح مَنَحَ الْجَلِيل 4 / 335، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ مَعَ حَاشِيَةِ العدوي 2 / 312، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة لاِبْنٍ جُزِيَ ص 298 ط دَار الْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ - بَيْرُوت، وَالدُّسُوقِيّ 4 / 295، 296، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 6 / 387
(2) مُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 479، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 4 / 343، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 12 / 47 - 49، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 360

(41/362)


أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَال بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى مَالاً، أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَال، وَأَمَّا الدَّعَاوَى غَيْرُ الْمَالِيَّةِ وَالَّتِي لاَ يُقْصَدُ بِهَا الْمَال فَلاَ يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُول، هَذَا هُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَلِهَذَا فَلاَ يُقْضَى بِالنُّكُول فِي دَعَاوَى الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ أَوْ مَا دُونَهَا، وَدَعَاوَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى: كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْضَى بِالنُّكُول فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَنُقِل عَنْهُ الْقَوْل بِأَنَّهُ يُقْضَى بِالنُّكُول فِي الْقَذْفِ، فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَذَفَهُ وَاسْتُحْلِفَ الْقَاذِفُ فَنَكَل، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ لَهُ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يُقْضَى فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا بِالنُّكُول (1) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْمَنْقُول وَالْمَعْقُول، أَمَّا الْمَنْقُول فَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (2) ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
__________
(1) الْمُغْنِي 9 / 235، 237، و 7 / 445، وَكَشَّاف الْقِنَاع 6 / 143، 339، الطَّرْق الْحِكَمِيَّة - 116، وَالإِْنْصَاف 11 / 254، 255
(2) حَدِيث: " الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (10 / 252 - ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) ، وَحُسْن إِسْنَاده ابْن حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (5 / 283 - ط السَّلَفِيَّة)

(41/363)


بِلَفْظِ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) . وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْهُمَا أَنَّ لَفْظَةَ " عَلَى " فِي الْحَدِيثَيْنِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ، فَأَفَادَا وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَمُقْتَضَى إِيجَابِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَانْحِصَارِهَا فِي جَانِبِهِ أَنَّهُ إِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَل قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُول. وَمَا رُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلاَمًا لَهُ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَال الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي. فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَال الرَّجُل: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ لَقَدْ بَاعَهُ الْغُلاَمُ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ " (2) .
__________
(1) حَدِيث: " الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ". أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (10 / 252 - ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة)
(2) أَثَر: " أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر بَاعَ غُلاَمًا لَهُ. . . ". أَخْرَجَهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأِ (2 / 613 - ط دَار الْحَلَبِيِّ)

(41/363)


وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَال: " كُنْتُ قَاضِيًا بِالْبَصْرَةِ فَاخْتَصَمَتْ إِلَيَّ امْرَأَتَانِ فِي سِوَارٍ، فَطَلَبْتُ الْبَيِّنَةَ مِنَ الْمُدَّعِيَةِ فَلَمْ أَجِدْ، وَعَرَضْتُ الْيَمِينَ عَلَى الأُْخْرَى فَنَكَلَتْ، فَكَتَبْتُ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَوَرَدَ كِتَابُهُ: أَنْ أَحْضِرْهُمَا وَاتْل عَلَيْهِمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) } ، ثُمَّ اعْرِضِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهَا فَإِنْ نَكَلَتْ فَاقْضِ عَلَيْهَا. وَمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ الْمُنْكِرَ طُلِبَ مِنْهُ رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَقَال لَهُ: " لَيْسَ لَكَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ وَقَضَى بِالنُّكُول بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَال لَهُ عَلِيٌّ: قَالُونَ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ بِلُغَةِ أَهْل الرُّومِ بِمَعْنَى: أَصَبْتَ ". وَمَا رَوَى مُغِيرَةُ عَنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَال: " نَكَل رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ عَنِ الْيَمِينِ، فَقَضَى عَلَيْهِ، فَقَال الرَّجُل: أَنَا أَحْلِفُ، فَقَال شُرَيْحٌ: قَدْ مَضَى قَضَائِي " (2) ، وَقَدْ كَانَتْ قَضَايَا شُرَيْحٍ
__________
(1) سُورَة آل عِمْرَانَ / 77
(2) أَثَر الْحَارِث: " نَكَّل رَجُلٌ عِنْد شُرَيْح. . . ". أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة فِي الْمُصَنَّفِ (6 / 50 3 - ط الدَّار السَّلَفِيَّة)

(41/364)


لاَ تَخْفَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ (1) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي قَبْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْجَوَابُ، وَهُوَ جَوَابٌ يُوَصِّلُهُ إِلَى حَقِّهِ وَهُوَ الإِْقْرَارُ، فَإِذَا فَوَّتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ حَوَّلَهُ الشَّرْعُ إِلَى الْيَمِينِ خَلَفًا عَنْ أَصْل حَقِّهِ، فَإِذَا مَنَعَهُ الْحَلِفَ يَعُودُ إِلَيْهِ أَصْل حَقِّهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِ الْحَلِفِ شَرْعًا إِلاَّ بِإِيفَاءِ مَا هُوَ أَصْل الْحَقِّ (2) . وَإِنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ عِنْدَ نُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيُقْضَى لَهُ بِمَا ادَّعَى بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَيْهِ، وَدَلاَلَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ إِنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ عَارَضَهُ النُّكُول، لأَِنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِي إِنْكَارِهِ، فَلَمَّا نَكَل زَال الْمَانِعُ لِلتَّعَارُضِ، فَظَهَرَ صِدْقُ دَعْوَاهُ (3) . وَبِأَنَّ نُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَل عَلَى كَوْنِهِ بَاذِلاً، إِنْ كَانَ النُّكُول بَذْلاً، أَوْ مُقِرًّا بِالْحَقِّ إِنْ كَانَ النُّكُول إِقْرَارًا، إِذْ لَوْلاَ ذَلِكَ لأََقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ إِقَامَةً لِلْوَاجِبِ - لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ - وَدَفْعًا لِضَرَرِ الدَّعْوَى عَنْ نَفْسِهِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ كَوْنِهِ
__________
(1) الْمَبْسُوط 17 / 34، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 8 / 3935
(2) الْمَبْسُوط 17 / 35
(3) بَدَائِع الصَّنَائِع 8 / 3935

(41/364)


بَاذِلاً إِنْ تَرَفَّعَ أَوْ مُقِرًّا إِنْ تَوَرَّعَ، لأَِنَّ التَّرَفُّعَ أَوِ التَّوَرُّعَ إِنَّمَا يَحِل إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ (1) . وَبِأَنَّ الدَّعْوَى لَمَّا صَحَّتْ مِنَ الْمُدَّعِي، فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُخَيَّرُ بَيْنَ بَذْل الْمَال وَبَيْنَ الْيَمِينِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُمَا - وَأَحَدُهُمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ دُونَ الآْخَرِ - نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِيمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، وَهَذَا لأَِنَّ تَمْكِينَهُ مِنَ الْمُنَازَعَةِ شَرْعًا مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَحْلِفَ، فَإِذَا أَبَى ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ تَارِكًا لِلْمُنَازَعَةِ بِتَفْوِيتِ شَرْطِهَا، فَكَأَنَّهُ قَال: لاَ أُنَازِعُكَ فِي هَذَا الْمَال، فَيَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ أَخْذِهِ، لأَِنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلاَ مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ (2) . وَبِأَنَّ الْيَمِينَ بَيِّنَةٌ فِي الْمَال، فَحُكِمَ فِيهَا بِالنُّكُول، كَمَا لَوْ مَاتَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ فَوَجَدَ الإِْمَامُ فِي تَذْكِرَتِهِ دَيْنًا لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ فَطَالَبَهُ بِهِ، فَأَنْكَرَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ، فَنَكَل، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْيَمِينَ لاَ تُرَدُّ (3) .

6 - الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ وَإِنَّمَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ قَضَى لَهُ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ، وَإِنْ نَكَل انْقَطَعَتِ الْمُنَازَعَةُ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ بَعْضِهِمْ فِي الدَّعَاوَى الَّتِي يُقْضَى بِهِ فِيهَا.
__________
(1) الْعِنَايَة 6 / 158، 159
(2) الْمَبْسُوط 17 / 35
(3) الْمُغْنِي 9 / 236

(41/365)


رُوِيَ هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ الأَْسْوَدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَوْلاَنِ فِي ذَلِكَ، أَحَدُهُمَا: رَدُّ الْيَمِينِ مُطْلَقًا عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي مُتَّهَمًا رَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. وَالْقَوْل بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ، وَهِيَ الَّتِي يَدَّعِي فِيهَا الْمُدَّعِي عِلْمَهُ بِصِفَةِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ وَقَدْرِهِ، بِأَنْ يَقُول لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَتَحَقَّقُ أَنَّ لِي عِنْدَكَ دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا، إِذَا نَكَل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْحَلِفِ فِي الدَّعْوَى الْمَالِيَّةِ، أَوْ تِلْكَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْمَال، كَالْخِيَارِ وَالأَْجَل، إِذَا لَمْ يُقِرَّ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ، وَلَمْ تَكُنْ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ بِحَقِّهِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ فِي نُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى التُّهْمَةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُول الْمُدَّعَى

(41/365)


عَلَيْهِ، قَال: وَقَدْ صَوَّبَهُ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ وَإِنَّمَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْمَنْقُول وَالْمَعْقُول، أَمَّا الْمَنْقُول فَمِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ (2) } أَيْ بَعْدَ الاِمْتِنَاعِ مِنَ الأَْيْمَانِ الْوَاجِبَةِ، فَدَل عَلَى نَقْل الأَْيْمَانِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ (3) . وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ (4) . وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ نُكُول الْمُدَّعَى
__________
(1) حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ للدردير 4 / 232، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة العدوي عَلَيْهِ 2 / 312، وَمَوَاهِب الْجَلِيل 6 / 220، وَالْمُهَذَّب 2 / 336، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 12 / 43، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 357، وَالْمُغْنِي 9 / 235، وَالْكَافِي لاِبْنِ قُدَامَةَ 4 / 514، وَالإِْنْصَافِ 11 / 254، وَالطَّرْقِ الْحِكَمِيَّة ص 115، 116
(2) سُورَة الْمَائِدَة / 108
(3) مَغْنَى الْمُحْتَاج 4 / 477
(4) حَدِيث ابْن عُمَر: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدَّ الْيَمِين عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ. . . ". أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ (4 / 100 - ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة)

(41/366)


عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ قَدْ يَكُونُ لِجَهْلِهِ بِالْحَال وَتَوَرُّعِهِ عَنِ الْحَلِفِ عَلَى مَا لاَ يَتَحَقَّقُهُ، أَوْ لِلْخَوْفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْيَمِينِ، أَوْ تَرَفُّعًا عَنْهَا مَعَ عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ فِي إِنْكَارِهِ، فَلاَ يَكُونُ النُّكُول حُجَّةً فِي الْقَضَاءِ مَعَ الشَّكِّ وَالاِحْتِمَال، وَلاَ يَتَعَيَّنُ بِنُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُدَّعِي، فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ لَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ دَلِيلاً عِنْدَ عَدَمِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ (1) .

7 - الْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهُ لاَ يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ، وَلاَ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ النَّاكِل حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لاَ أَدَعُهُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَيَأْخُذُ هَذَا الْحُكْمَ بَعْضُ الْمَسَائِل عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى وَلِيُّ الدَّمِ الْقَتْل الْعَمْدَ أَوِ الْخَطَأَ عَلَى جَمِيعِ أَهْل الْمَحَلَّةِ أَوْ بَعْضِهِمْ لاَ بِأَعْيَانِهِمْ، فَنَكَلُوا عَنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، إِذْ يُحْبَسُ هَؤُلاَءِ حَتَّى يَحْلِفُوا أَوْ يُقِرُّوا، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِمْ وَلاَ تُرَدُّ الأَْيْمَانُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ
__________
(1) بَدَائِع الصَّنَائِع 8 / 3935، وَالْمُغْنِي 9 / 235، 236، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 477

(41/366)


بِهَا فَنَكَل عَنِ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ لأَِنَّ الْيَمِينَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لاَ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الدِّيَةُ، بِدَلِيل أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ، وَلِهَذَا قَال الْحَارِثُ بْنُ الأَْزْمَعِ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتُحَلِّفُنَا وَتُغَرِّمُنَا؟ فَقَال: نَعَمْ " (1) .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَال: فَبِمَ يَبْطُل دَمُ هَذَا؟ " (2) فَإِذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا فَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الأَْدَاءِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، كَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ، بِخِلاَفِ الْيَمِينِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا بَل هِيَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمَال الْمُدَّعَى، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، بَل إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ، أَوَلاَ تَرَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقِرَّ وَبَذَل الْمَال لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهَهُنَا لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا وَلَمْ يُقِرُّوا وَبَذَلُوا الدِّيَةَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُمُ الْقَسَامَةُ فَدَل أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَيُجْبَرُونَ عَلَيْهَا بِالْحَبْسِ (3) .
__________
(1) أَثَر: " أَتُحَلِّفُنَا وَتُغَرِّمُنَا؟ . . . ". أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي شَيْبَة فِي الْمُصَنَّفِ (9 / 381 - نَشْر الدَّار السَّلَفِيَّة - بمبي)
(2) أَثَر عُمَر: " فَبِمَ يُبْطِل دَم هَذَا؟ ". أَوْرَدَهُ الْعَيْنِيّ فِي الْبِنَايَةِ (10 / 341 ط دَار الْفِكْرِ) وَعَزَاهُ إِلَى الْكَرْخِيّ فِي مُخْتَصَرِهِ
(3) الْبَدَائِع 10 / 4742، 4743، وَالْفُرُوع 6 / 479

(41/367)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَكَل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَمُوتَ فِي السِّجْنِ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَفِي الْجَلاَّبِ: إِنْ طَال حَبْسُهُ بِالزِّيَادَةِ عَنْ سَنَةٍ ضُرِبَ مِائَةً وَأُطْلِقَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَرِّدًا وَإِلاَّ خُلِّدَ فِي السِّجْنِ. وَفِي وَجْهٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسَائِل الَّتِي يُتَعَذَّرُ فِيهَا رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالَّتِي مِنْهَا: مَا إِذَا مَاتَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ فَادَّعَى الْقَاضِي أَوْ مَنْصُوبُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَجَدَهُ فِي تَذْكِرَتِهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَكَل عَنِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ بِالْحَقِّ أَوْ يَحْلِفَ، وَمِنْهَا: مَا لَوِ ادَّعَى وَصِيُّ الْمَيِّتِ عَلَى وَارِثِهِ أَنَّ الْمُوَرِّثَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ مَثَلاً فَأَنْكَرَ الْوَارِثُ وَنَكَل عَنِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَسَابِقَتِهَا.
وَالْقَوْل بِحَبْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ أَحَدُ وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي غَيْرِ الْمَال، أَوْ فِيمَا لاَ يُقْصَدُ بِهِ الْمَال (1) .
__________
(1) الْهِدَايَة وَنَتَائِج الأَْفْكَارِ 6 / 170، 8 / 388، 390، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 10 / 4742، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 12 / 49، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 8 / 360، وَالْمُغْنِي 9 / 239، 237، وَالْكَافِي 4 / 514 وَالْفُرُوع 6 / 478، وَالدُّسُوقِيّ 4 / 296

(41/367)


الأَْيْمَانُ الَّتِي لاَ تُرَدُّ بِالنُّكُول:
8 - ثَمَّةَ أَيْمَانٌ لاَ تُرَدُّ بِالنُّكُول عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَتَتَمَثَّل هَذِهِ الأَْيْمَانُ فِيمَا يَلِي:
أ - يَمِينُ التُّهْمَةِ، لأَِنَّهَا تَجِبُ لِلْمُدَّعِي إِذَا كَانَ اتِّهَامُهُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَبْنِيًّا عَلَى الشَّكِّ، إِذِ الشَّاكُّ لاَ يَحْلِفُ.
ب - الْيَمِينُ الْمُؤَكَّدَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُطْلَبُ مِنَ الْمُدَّعِي مَعَ تَوَافُرِ الْبَيِّنَةِ إِذَا شَكَّ الْقَاضِي فِي عَدَالَةِ الشُّهُودِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَائِبًا، وَسَبَبُ عَدَمِ صِحَّةِ الرَّدِّ: أَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ رَدُّ الْيَمِينِ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِهِ الْبَيِّنَةَ بِالْيَمِينِ، وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْهُ.
ج - يَمِينُ الْقَذْفِ، لِعَدَمِ جَوَازِ الْحَدِّ بِرَدِّ الْيَمِينِ.
د - الْيَمِينُ الْمُتَمِّمَةُ، وَهِيَ يَمِينُ الْمُدَّعِي مَعَ وُجُودِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَسَبَبُ عَدَمِ صِحَّةِ رَدِّهَا أَنَّهَا تَنُوبُ عَنِ الشَّهَادَةِ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ.
هـ - يَمِينُ اللِّعَانِ: لأَِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلاَ تَرُدُّهَا الْمَرْأَةُ إِذْ وُضِعَتْ لِدَرْءِ حَدِّ الزِّنَا عَنْهَا.
و الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهَا، فَإِذَا نَكَل الْمُدَّعِي عَنِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ يَتَعَلَّل بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَطْلُبْ مُهْلَةً لأَِدَاءِ الْيَمِينِ

(41/368)


سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ لاَ تُرَدُّ (1) .
__________
(1) الْهِدَايَة وَفَتْح الْقَدِير 3 / 251، وَبَدَائِع الصَّنَائِع 5 / 2141، 2143، كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة العدوي عَلَيْهِ 2 / 101، وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل 4 / 138، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ 8 / 356، وَمُغْنِي الْمُحْتَاج 4 / 478، وَنِهَايَة الْمُحْتَاجِ 7 / 121، وَالْمُغْنِي 7 / 444، 446، وَالْكَافِي 3 / 291

(41/368)


نَمَاء
التَّعْرِيفُ:
ا - النَّمَاءُ لُغَةً: الزِّيَادَةُ مِنْ نَمَى يَنْمَى نَمْيًا وَنُمِيًّا وَنَمَاءً: زَادَ وَكَثُرَ (1) ، وَالنَّمَاءُ الرَّيْعُ، وَنَمَى الإِْنْسَانُ سَمِنَ، وَالنَّامِيَةُ مِنَ الإِْبِل السَّمِينَةِ يُقَال نَمَتِ النَّاقَةُ إِذَا سَمِنَتْ (2) . وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى النَّمَاءِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الرَّيْعُ:
2 - الرَّيْعُ لُغَةً: مِنْ رَاعَ الطَّعَامُ وَغَيْرُهُ يَرِيعُ رَيْعًا وَرُيُوعًا وَرِيَاعًا وَرَيَعَانًا وَأَرَاعَ وَرَيَّعَ، كُل ذَلِكَ زَكَا وَزَادَ، وَالرَّيْعُ: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ (4) .
__________
(1) لِسَان الْعَرَبِ
(2) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْقَامُوس الْمُحِيط، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير
(3) فَتْح الْقَدِير مَعَ الْهِدَايَةِ 2 / 113، 114 ط دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ، وَالْمَبْسُوطِ 2 / 164 ط دَار الْمَعْرِفَة
(4) لِسَان الْعَرَبِ، وَالْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْقَامُوس الْمُحِيط

(41/369)


وَالرَّيْعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَائِدَةُ وَالدَّخْل الَّذِي يَحْصُل مِنَ الشَّيْءِ وَالْغَلَّةُ كَذَلِكَ (1) . وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّمَاءِ وَالرَّيْعِ هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَكُل رَيْعٍ يُعَدُّ نَمَاءً وَلَيْسَ كُل نَمَاءٍ رَيْعًا.

ب - الْكَسْبُ:
3 - الْكَسْبُ لُغَةً: الرِّبْحُ مِنْ كَسَبْتُ مَالاً: رَبِحْتُهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْفِعْل الْمُفْضِي إِلَى اجْتِلاَبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ (3) . وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّمَاءِ وَالْكَسْبِ أَنَّ الْكَسْبَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّمَاءِ.

أَقْسَامُ النَّمَاءِ:
يَنْقَسِمُ النَّمَاءُ إِلَى تَقْسِيمَاتٍ عِدَّةٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

التَّقْسِيمُ الأَْوَّل: بِاعْتِبَارِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا:
4 - النَّمَاءُ بِاعْتِبَارِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الأَْوَّل: نَمَاءٌ مَشْرُوعٌ، وَهُوَ مَا كَانَ مُقْتَصِرًا
__________
(1) حَاشِيَة ابْن عَابِدِينَ 3 / 421، 5 / 444، وَالشَّرْح الصَّغِير 2 / 305 ط الْحَلَبِيّ
(2) الْمِصْبَاح الْمُنِير، وَالْقَامُوس الْمُحِيط
(3) التَّعْرِيفَات للجرجاني

(41/369)


عَلَى الْوَسَائِل الْمَشْرُوعَةِ نَحْوَ التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ مَعَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا الشَّرْعِيَّةِ.

الثَّانِي: نَمَاءٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهُوَ مَا كَانَ طَرِيقُ النَّمَاءِ فِيهِ مُحَرَّمًا كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالتِّجَارَةِ بِالْخَمْرِ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ أَحْكَامٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِنْمَاء ف 16) .

التَّقْسِيمُ الثَّانِي: بِاعْتِبَارِ كَوْنِ النَّمَاءِ طَبِيعِيًّا أَوْ غَيْرَ طَبِيعِيٍّ.
5 - النَّمَاءُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الأَْوَّل: نَمَاءٌ طَبِيعِيٌّ كَالسَّمْنِ وَالْوَلَدِ.

الثَّانِي: نَمَاءٌ نَاتِجٌ بِعَمَلٍ نَحْوَ الْكَسْبِ وَالْبِنَاءِ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ أَحْكَامٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِنْمَاء ف 17، زِيَادَة ف 5) .

التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ: بِاعْتِبَارِ الاِتِّصَال وَالاِنْفِصَال.
6 - النَّمَاءُ مِنْ حَيْثُ الاِتِّصَال وَالاِنْفِصَال يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الأَْوَّل: نَمَاءٌ مُتَّصِلٌ كَالْوَبَرِ وَالسَّمْنِ.

الثَّانِي: نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ أَحْكَامٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَادَة ف 5) .

(41/370)


التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ: حَقِيقِيٌّ وَتَقْدِيرِيٌّ:
7 - يَنْقَسِمُ النَّمَاءُ إِلَى حَقِيقِيٍّ وَتَقْدِيرِيٍّ:

الأَْوَّل: النَّمَاءُ الْحَقِيقِيُّ: هُوَ الزِّيَادَةُ بِالتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُل وَالتِّجَارَاتِ.

الثَّانِي: النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ: هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِكَوْنِ الْمَال فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ نَائِبِهِ (1) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّمَاءِ:
يَتَعَلَّقُ بِالنَّمَاءِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ - النَّمَاءُ فِي الزَّكَاةِ:
أَوَّلاً: اشْتِرَاطُ النَّمَاءِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
8 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَال أَنْ يَكُونَ الْمَال نَامِيًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاة ف 27) .

ثَانِيًا: زَكَاةُ نَمَاءِ الْمَال أَثْنَاءَ الْحَوْل:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَحْصُل لِلْمَال الْمُزَكَّى أَثْنَاءَ الْحَوْل، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُزَكَّى بِتَزْكِيَةِ الأَْصْل، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يُزَكَّى لِحَالِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 7
(2) الاختيار 1 / 100 وينظر المنتقى 2 / 94، 113، والمجموع 5 / 290، والروض المربع 1 / 107

(41/370)


وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة ف 30) .

ب - النَّمَاءُ فِي الصَّدَاقِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَمَاءِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الأَْصْل.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمَرْأَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زِيَادَة ف 24) .

ج - النَّمَاءُ فِي الْبَيْعِ:
أَوَّلاً: نَمَاءُ الْمَبِيعِ وَأَثَرُهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ:
11 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ نَمَاءَ الأَْصْل يَمْنَعُ رَدَّ الْمَبِيعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ وَيَسْرِي هَذَا الْمَنْعُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّيَادَةِ (النَّمَاءِ) سِوَى الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ اتِّفَاقًا وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَلَى خِلاَفٍ.
انْظُرْ: مُصْطَلَحَ (خِيَار الشَّرْط ف 35 - 37) .

ثَانِيًا: نَمَاءُ الْمَبِيعِ فِي الْمُرَابَحَةِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا نَمَا الْمَبِيعُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ الأَْصْل فَيَكُونُ مُرَابَحَةً، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَتْبَعُهُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُرَابَحَة ف 9) .

(41/371)


ثَالِثًا: تَلَفُ نَمَاءِ الْمَبِيعِ:
13 - إِذَا تَلِفَ نَمَاءُ الْمَبِيعِ أَوْ هَلَكَ وَهُوَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَهَل يُعَدُّ الْبَائِعُ ضَامِنًا لِتَلَفِ أَوْ هَلاَكِ هَذَا النَّمَاءِ أَمْ لاَ؟ خِلاَفٌ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ. انْظُرْ تَفْصِيلَهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 19، وَضَمَان ف 33) .

د - نَمَاءُ الْمَرْهُونِ:
14 - إِذَا نَمَا الْمَرْهُونُ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا تَتْبَعُ الأَْصْل وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُول النَّمَاءِ فِي الرَّهْنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ، وَقَال آخَرُونَ: لاَ يَدْخُل فِي الرَّهْنِ كَالأَْصْل (الْمَرْهُونِ) . تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَادَة ف 22) ، وَمُصْطَلَحِ (رَهْن ف 15) .

هـ - نَمَاءُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:
15 - إِذَا نَمَا الْمَشْفُوعُ فِيهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً فَإِنَّهَا تَكُونُ لِلشَّفِيعِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَادَة ف 21) .

و نَمَاءُ الْمَغْصُوبِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ نَمَاءِ الْمَغْصُوبِ هَل يُضْمَنُ ضَمَانُ الْغَصْبِ فَيَضْمَنَهَا

(41/371)


الْغَاصِبُ بِالتَّلَفِ كَالأَْصْل أَمْ أَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلاَ يُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي؟ خِلاَفٌ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَان ف 23، وَغَصْب ف 12، 18) .

ز - نَمَاءُ التَّرِكَةِ:
17 - نَمَاءُ التَّرِكَةِ وَنِتَاجُهَا إِذَا حَصَل بَيْنَ الْوَفَاةِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ هَل يُضَمُّ إِلَى التَّرِكَةِ لِمَصْلَحَةِ الدَّائِنِينَ أَمْ هُوَ لِلْوَرَثَةِ؟
خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّرِكَةَ قَبْل وَفَاءِ الدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا هَل تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ أَمْ لاَ؟
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَرِكَة ف 14، وَزِيَادَة ف 25) .

ح - نَمَاءُ الْمَوْهُوبِ:
18 - إِذَا نَمَا الْمَوْهُوبُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَمَاءً مُنْفَصِلاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَمَاءً مُتَّصِلاً، فَإِنْ كَانَ نَمَاءً مُنْفَصِلاً كَالثَّمَرَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.
وَإِنْ كَانَ نَمَاءً مُتَّصِلاً كَانَ مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَادَة ف 24، هِبَة) .

(41/372)


نَمِيمَةٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي النَّمِيمَةِ لُغَةً: السَّعْيُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْفِتْنَةِ، يُقَال: نَمَّ الرَّجُل الْحَدِيثَ نَمًّا مِنْ بَابَيْ قَتَل وَضَرَبَ سَعَى بِهِ لِيُوقِعَ فِتْنَةً أَوْ وَحْشَةً فَالرَّجُل نَمٌّ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ وَنَمَّامٌ مُبَالَغَةٌ وَالاِسْمُ النَّمِيمَةُ وَالنَّمِيمُ أَيْضًا (1) .
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ نَقْل الْكَلاَمِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الإِْفْسَادِ.
وَعَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ: بِأَنَّهَا كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ كَرِهَهُ الْمَنْقُول عَنْهُ أَوِ الْمَنْقُول إِلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَشْفُ بِالْقَوْل أَوِ الْكِتَابَةِ أَوِ الرَّمْزِ أَوِ الإِْيمَاءِ أَوْ نَحْوِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْقُول مِنَ الأَْقْوَال أَوِ الأَْعْمَال، وَسَوَاءٌ كَانَ عَيْبًا أَوْ غَيْرَهُ، فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ: إِفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ (2) .
__________
(1) المصباح المنير
(2) ابن عابدين 1 / 378 وكفاية الطالب الرباني 2 / 329 والقليوبي وعميرة 4 / 319، وإحياء علوم الدين 3 / 156

(41/372)


الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْغِيبَةُ:
2 - الْغِيبَةُ لُغَةً: مِنَ الاِغْتِيَابِ، وَاغْتَابَهُ اغْتِيَابًا: إِذَا ذَكَرَهُ بِمَا يَكْرَهُ مِنَ الْعُيُوبِ وَهُوَ حَقُّ، وَالاِسْمُ الْغِيبَةُ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلاً فَهُوَ الْغِيبَةُ فِي بُهْتٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ: أَنَّ النَّمِيمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْغِيبَةِ، لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَكْرَهُ الْمُغْتَابُ، بِخِلاَفِ النَّمِيمَةِ فَإِنَّهَا نَقْل الْكَلاَمِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى آخَرَ، سَوَاءٌ فِيمَا يَكْرَهُهُ أَوْ لاَ يَكْرَهُهُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - النَّمِيمَةُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمُحَرَّمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ كُل حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (3) } . وَقَوْلُهُ جَل شَأْنُهُ: {وَيْلٌ لِكُل هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (4) } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ
__________
(1) المصباح المنير
(2) إحياء علوم الدين 3 / 140
(3) سورة القلم / 10، 11
(4) سورة الهمزة / 1

(41/373)


يَدْخُل الْجَنَّةَ نَمَّامٌ (1) . وَقَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ (2) . وَالْقَتَّاتُ النَّمَّامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَال: يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرَةٍ، وَإِنَّهُ لِكَبِيرٌ، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْل، وَكَانَ الآْخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ (3) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ النَّمِيمَةَ مُحَرَّمَةٌ وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ بِحِلِّهَا أَوْ جَوَازِهَا.
وَعَدَّهَا الْفُقَهَاءُ مِنَ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يُقْصَدِ الإِْفْسَادُ بَيْنَ النَّاسِ (4) .
__________
(1) حديث: " لا يدخل الجنة نمام ". أخرجه مسلم (1 / 101 ط عيسى الحلبي) من حديث حذيفة رضي الله عنه
(2) حديث " لا يدخل الجنة قتات ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 472 ط السلفية) .
(3) حديث ابن عباس " أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع صوت إنسانين يعذبان. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 472 ط السلفية) ومسلم (1 / 240 - 241 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ للبخاري
(4) ابن عابدين 1 / 378 وكشاف القناع 6 / 420 والقليوبي وعميرة 4 / 369 وحاشية الشرقاوي 1 / 47 ومغني المحتاج 4 / 437

(41/373)


مَا يَجِبُ عَلَى النَّمَّامِ:
4 - يَجِبُ عَلَى النَّمَّامِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى فِعْلِهِ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة ف 4) . وَقَال الشِّيرَازِيُّ: يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلاَةِ وَمِنَ الْكَلاَمِ الْقَبِيحِ (1) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: " لأََنْ أَتَوَضَّأَ مِنَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَوَضَّأَ مِنَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ " (2) . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَلاَ يَتَوَضَّأُ مِنَ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا " (3) ، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " الْحَدَثُ حَدَثَانِ حَدَثُ اللِّسَانِ وَحَدَثُ الْفَرْجِ وَأَشَدُّهُمَا حَدَثُ اللِّسَانِ " (4) .
__________
(1) المجموع للنووي 2 / 62.
(2) أثر ابن مسعود " لأن أتوضأ من الكلمة. . . ". أخرجه الطبراني في الكبير (9 / 284 ط وزارة الأوقاف العراقية) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 254 ط القدسي) : رجاله موثوقون
(3) أثر عائشة: " يتوضأ أحدكم من الطعام. . . ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1 / 127 ط المجلس الأعلى) .
(4) أثر ابن عباس: " الحدث حدثان: حدث. . . ". قال النووي في المجموع (2 / 62 - ط المنيرية) : رواه البخاري في كتاب الضعفاء وأشار إلى تضعيفه

(41/374)


قَال النَّوَوِيُّ: وَحَمَل الشِّيرَازِيُّ هَذِهِ الآْثَارَ عَلَى الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ غَسْل الأَْعْضَاءِ الْمَعْرُوفَةِ، وَكَذَلِكَ حَمَلَهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَال ابْنُ الصَّبَّاغِ: الأَْشْبَهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا غَسْل الْفَمِ، وَكَذَا حَمَلَهَا الْمُتَوَلِّي عَلَى غَسْل الْفَمِ، وَحَكَى الشَّاشِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ كَلاَمَ ابْنِ الصَّبَّاغِ ثُمَّ قَال: وَهَذَا بَعِيدٌ بَل ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، قَال: وَالْمَعْنَى يَدُل عَلَيْهِ لأَِنَّ غَسْل الْفَمِ لاَ يُؤَثِّرُ فِيمَا جَرَى مِنَ الْكَلاَمِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا كَمَا ثَبَتَ فِي الأَْحَادِيثِ، فَحَصَل أَنَّ الصَّحِيحَ أَوِ الصَّوَابَ اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْكَلاَمِ الْقَبِيحِ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَقَوْل الزُّورِ وَالْفُحْشِ وَأَشْبَاهِهَا (1) .

مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النَّمِيمَةَ:
5 - يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النَّمِيمَةَ أُمُورٌ:

الأُْولَى: أَنْ لاَ يُصَدِّقَهُ، لأَِنَّ النَّمَّامَ فَاسِقٌ وَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (2) } .
__________
(1) المجموع للنووي 2 / 62
(2) سورة الحجرات / 6

(41/374)


الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْصَحَ لَهُ وَيُقَبِّحَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) } ، وَيَذْكُرَ لَهُ قَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ (2) ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَل عَلَيْهِ رَجُلٌ فَذَكَرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَقَال لَهُ عُمَرُ: إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ، فَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْل هَذِهِ الآْيَةِ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (3) } . وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْل الآْيَةِ: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (4) } . وَإِنْ شِئْتَ عَفْوَنَا عَنْكَ، فَقَال الرَّجُل: الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ أَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا. وَقَال مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَحْنُ نَرَى أَنَّ قَبُول السِّعَايَةِ شَرٌّ مِنَ السِّعَايَةِ، لأَِنَّ السِّعَايَةَ دَلاَلَةٌ وَالْقَبُول إِجَازَةٌ وَلَيْسَ مَنْ دَل عَلَى شَيْءٍ فَأَخْبَرَ بِهِ كَمَنْ قَبِلَهُ وَأَجَازَهُ، فَاتَّقُوا السَّاعِيَ فَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ لَكَانَ لَئِيمًا فِي صِدْقِهِ حَيْثُ لَمْ يَحْفَظِ الْحُرْمَةَ وَلَمْ يَسْتُرِ الْعَوْرَةَ.
وَقَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ
__________
(1) سورة لقمان / 17.
(2) حديث " ألا أنبئكم ما العضه؟ . ". أخرجه مسلم (4 / 2012 ط عيسى الحلبي) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) سورة الحجرات / 6
(4) سورة القلم / 11

(41/375)


أَصْحَابِي شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ (1) ، وَقَال رَجُلٌ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إِنَّ الأَْسْوَارِيَّ مَا يَزَال يَذْكُرُكَ فِي قَصَصِهِ بِشَرٍّ، فَقَال لَهُ عَمْرٌو: يَا هَذَا مَا رَعَيْتَ حَقَّ مُجَالَسَةِ الرَّجُل حَيْثُ نَقَلْتَ إِلَيْنَا حَدِيثَهُ، وَلاَ أَدَّيْتَ حَقِّي حِينَ أَعْلَمْتَنِي عَنْ أَخِي مَا أَكْرَهُ، وَلَكِنْ أَعْلِمْهُ أَنَّ الْمَوْتَ يَعُمُّنَا وَالْقَبْرَ يَضُمُّنَا وَالْقِيَامَةَ تَجْمَعُنَا وَاللَّهَ تَعَالَى يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَبْغَضَهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ بَغِيضٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَجِبُ بُغْضُ مَنْ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى.

الرَّابِعُ: أَنْ لاَ تَظُنَّ بِالْمَنْقُول عَنْهُ السُّوءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (2) } .

الْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَحْمِلَكَ مَا حُكِيَ لَكَ عَلَى التَّجَسُّسِ وَالْبَحْثِ لِتَتَحَقَّقَ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا (3) }

السَّادِسُ: أَنْ لاَ تَرْضَى لِنَفْسِكَ مَا نَهَيْتَ
__________
(1) حديث لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 710 ط الحلبي) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وقال: حديث غريب من هذا الوجه.
(2) سورة الحجرات / 12
(3) سورة الحجرات / 12.

(41/375)


النَّمَّامَ عَنْهُ وَلاَ تَحْكِي نَمِيمَتَهُ فَتَقُول: فُلاَنٌ حَكَى لِي كَذَا وَكَذَا فَتَكُونَ نَمَّامًا وَمُغْتَابًا، وَتَكُونَ قَدْ أَتَيْتَ مَا عَنْهُ نَهَيْتَ (1) .
__________
(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 / 133 وإحياء علوم الدين 3 / 152 - 153، والأذكار النووية ص 539 وما بعدها

(41/376)


نهاريات

التَّعْرِيفُ:
1 - النَّهَارِيَّاتُ لُغَةً: جَمْعُ نَهَارِيَّةٍ، وَالنَّهَارِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى النَّهَارِ.
وَمِنْ مَعَانِي النَّهَارِيَّةِ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنَّهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُل عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْل (1) .

الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِتَزَوُّجِ النَّهَارِيَّاتِ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمِ الشَّرْطُ.
وَصُورَةُ هَذَا الزَّوَاجِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْل.
قَال صَاحِبُ الْبَحْرِ: يَنْبَغِي أَلاَّ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ لاَزِمًا عَلَيْهَا، وَلَهَا أَنْ تَطْلُبَ الْمَبِيتَ فِي اللَّيْل، لِمَا عُرِفَ فِي بَابِ الْقَسْمِ مِنْ أَنَّ اللَّيْل هُوَ الأَْصْل فِي الْقَسْمِ، وَالنَّهَارَ تَبَعٌ لَهُ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 294

(41/376)


هَذَا إِذَا كَانَتْ لَهَا ضَرَّةٌ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا نَهَارًا، وَفِي اللَّيْل عِنْدَ الضَّرَّةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ ضَرَّةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا طَلَبُ الْمَبِيتِ فِي اللَّيْل خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ وَظِيفَتُهُ فِي اللَّيْل كَالْحَارِسِ (1) .
3 - هَذَا وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ " نَهَارِيَّاتٌ " تَسْمِيَةً حَنَفِيَّةً وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا فِيمَا تَيَسَّرَ لَنَا فِي مَرَاجِعَ لِلْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى إِلاَّ أَنَّ الْمَعْنَى مُقَرَّرٌ فِي الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ وَلُزُومِهِ أَوْ عَدَمِ لُزُومِهِ.
وَقَالُوا: إِنْ وَافَقَ الشَّرْطُ مُقْتَضَى عَقْدِ النِّكَاحِ كَشَرْطِ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ، أَوْ لَمْ يُوَافِقْ مُقْتَضَى النِّكَاحِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَشَرْطِ أَنْ لاَ يَأْكُل إِلاَّ كَذَا لَغَا هَذَا الشَّرْطُ وَصَحَّ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَمْ يُخِل بِمَقْصُودِهِ الأَْصْلِيِّ كَشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ لاَ نَفَقَةَ لَهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَفَسَدَ الشَّرْطُ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا.
أَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْل صَحَّ الْعَقْدُ وَفَسَدَ الشَّرْطُ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَعُودُ إِلَى مَعْنًى زَائِدٍ فِي الْعَقْدِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 294، وفتح القدير 2 / 386، وتبيين الحقائق 2 / 116، والبحر الرائق 3 / 116

(41/377)


لاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ فِي الْعَقْدِ وَلاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِهِ، فَلَمْ يَبْطُل الْعَقْدُ بِهِ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِيهِ صَدَاقًا مُحَرَّمًا، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْل بِالْعِوَضِ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَالْعِتْقِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 226، وكشاف القناع 5 / 98

(41/377)


نَهْبٌ

التَّعْرِيفُ:
1 - النَّهْبُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ نَهَبْتُهُ - مِنْ بَابِ نَفْعٍ - وَانْتَهَبْتُهُ انْتِهَابًا فَهُوَ مَنْهُوبٌ، وَالنُّهْبَةُ مِثَال غُرْفَةٍ، وَالنُّهْبَى - بِزِيَادَةِ أَلِفِ التَّأْنِيثِ - اسْمٌ لِلْمَنْهُوبِ، وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَى ثَانٍ، فَيُقَال: أَنْهَبْتُ زَيْدًا الْمَال، وَيُقَال أَيْضًا: أَنْهَبْتُ الْمَال إِنْهَابًا: إِذَا جَعَلْتَهُ نَهْبًا يُغَارُ عَلَيْهَا، وَهَذَا زَمَانُ النَّهْبِ أَيِ الاِنْتِهَابِ، وَهُوَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَال وَالْقَهْرُ.
وَالاِنْتِهَابُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَنْ شَاءَ، وَالإِْنْهَابُ: إِبَاحَتُهُ لِمَنْ شَاءَ. وَالنَّهْبُ: الْغَارَةُ وَالسَّلْبُ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ نُثِرَ شَيْءٌ مِنْ أَمْلاَكٍ فَلَمْ يَأْخُذُوهُ، فَقَال " مَا لَكَمَ لاَ تَنْتَهِبُونَ (2) .
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير والنظم المستعذب شرح غريب المهذب 2 / 277.
(2) حديث: " مالكم لا تنتهبون. . . ". أخرجه الطبراني في الكبير (2 / 98 ط العراق) وضعف إسناده ابن حجر في الفتح (9 / 222 ط السلفية)

(41/378)


وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ النَّهْبَ بِمَعْنَيَيْنِ:

الأَْوَّل: النَّهْبُ بِمَعْنَى الأَْخْذِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَلاَنِيَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الاِنْتِهَابُ: أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْءَ عَلَى وَجْهِ الْعَلاَنِيَةِ قَهْرًا مِنْ ظَاهِرِ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ.
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُنْتَهِبَ بِأَنَّهُ الَّذِي يَأْخُذُ الشَّيْءَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ.
وَعَرَّفَ الْحَنَابِلَةُ الْمُنْتَهِبَ بِأَنَّهُ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ فَيَأْخُذُ الْمَال عَلَى وَجْهِ الْغَنِيمَةِ (1) .

وَالثَّانِي: النَّهْبُ: الأَْخْذُ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي أَبَاحَهُ صَاحِبُهُ كَالأَْشْيَاءِ الَّتِي تُنْثَرُ فِي الْوَلاَئِمِ (2) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِخْتِلاَسُ:
2 - التَّعْرِيفُ: الاِخْتِلاَسُ مَأْخُوذٌ مِنْ: خَلَسْتُ الشَّيْءَ خِلْسَةً: اخْتَطَفْتُهُ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ، وَاخْتَلَسَهُ كَذَلِكَ.
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 5 / 139، وحاشية ابن عابدين 3 / 199، والنظم المستعذب على هامش المهذب 2 / 277، ومطالب أولي النهى 6 / 228، والمغني 9 / 145
(2) الخطاب 4 / 6

(41/378)


وَالْخَلْسُ: الأَْخْذُ فِي نُهْزَةٍ وَمُخَاتَلَةٍ، قَال الْجَوْهَرِيُّ: خَلَسْتُ الشَّيْءَ وَاخْتَلَسْتُهُ وَتَخَلَّسْتُهُ إِذَا اسْتَلَبْتَهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ جَهْرًا هَارِبًا بِهِ سَوَاءٌ جَاءَ الْمُخْتَلِسُ جِهَارًا أَوْ سِرًّا (2)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّهْبِ وَالاِخْتِلاَسِ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ - هُوَ سُرْعَةُ الأَْخْذِ فِي جَانِبِ الاِخْتِلاَسِ بِخِلاَفِ النَّهْبِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ (3) وَكِلاَهُمَا أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

ب - الْغَصْبُ:
3 - الْغَصْبُ لُغَةً: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا وَقَهْرًا وَالاِغْتِصَابُ مِثْلُهُ، يُقَال: غَصَبَهُ مِنْهُ وَغَصَبَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (4) .
وَفِي اصْطِلاَحِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ أَخْذُ مَال الْغَيْرِ قَهْرًا تَعَدِّيًا بِلاَ حِرَابَةٍ (5) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ بِفِعْلٍ فِي الْمَال (6) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب
(2) الشرح الصغير 4 / 476، والقليوبي 3 / 26، والعناية بهامش فتح القدير 5 / 136
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 199.
(4) لسان العرب والمصباح المنير
(5) الدسوقي 3 / 442، والمغني 5 / 238، والقليوبي 3 / 26
(6) البدائع 7 / 143

(41/379)


وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالنَّهْبِ: أَنَّ كِلَيْهِمَا أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلاَّ أَنَّ الْغَصْبَ أَعَمُّ مِنَ النَّهْبِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حُضُورِ صَاحِبِهِ بِخِلاَفِ النَّهْبِ.

ج - السَّرِقَةُ:
4 - السَّرِقَةُ لُغَةً: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْرِ خُفْيَةً يُقَال: سَرَقَ مِنْهُ مَالاً وَسَرَقَهُ مَالاً: أَخَذَ مَالَهُ خُفْيَةً فَهُوَ سَارِقٌ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: أَخْذُ الْعَاقِل الْبَالِغِ نِصَابًا مُحْرَزًا أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ - مِلْكًا لِلْغَيْرِ - لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالنَّهْبِ: أَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ، أَمَّا النَّهْبُ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلاَنِيَةً بِحُضُورِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

د - الْحِرَابَةُ:
5 - الْحِرَابَةُ لُغَةً مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ السِّلْمِ، يُقَال: حَارَبَهُ مُحَارِبَةً وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - وَهُوَ السَّلْبُ. يُقَال حَرَبَ فُلاَنًا مَالَهُ أَيْ سَلَبَهُ، فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ (3) .
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط ومختار الصحاح
(2) الاختيار 4 / 102، والقليوبي 4 / 186، والخرشي 8 / 91، ومغني المحتاج 4 / 158
(3) لسان العرب

(41/379)


وَالْحِرَابَةُ اصْطِلاَحًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ - الْبُرُوزُ لأَِخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ لإِِرْعَابٍ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ (1) ،
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّهْبِ وَالْحِرَابَةِ بِالنِّسْبَةِ لأَِخْذِ الْمَال: أَنَّ كِلَيْهِمَا أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلاَّ أَنَّ الْحِرَابَةَ تَعْتَمِدُ عَلَى عَدَمِ الْغَوْثِ خِلاَفًا لِلنَّهْبِ (2) .

مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّهْبِ مِنْ أَحْكَامٍ:
الْمَعْنَى الأَْوَّل: النَّهْبُ بِمَعْنَى أَخْذِ الشَّيْءِ قَهْرًا عَلَى وَجْهِ الْعَلاَنِيَةِ.
يَتَعَلَّقُ بِالنَّهْبِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحْكَامٌ مِنْهَا:

أ - حُكْمُ النَّهْبِ:
6 - أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ مَالِكِهِ وَرِضَاهُ حَرَامٌ، فَلاَ يَجُوزُ غَصْبُهُ وَلاَ نَهْبُهُ وَلاَ سَرِقَتُهُ وَلاَ الاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْل مَال النَّاسِ بِالْبَاطِل، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ فَقَال: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَال النَّاسِ بِالإِْثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (3) } .
__________
(1) البدائع 7 / 90، وجواهر الإكليل 2 / 294، والقليوبي 4 / 199، وكشاف القناع 6 / 149، 150
(2) القليوبي 4 / 199
(3) سورة البقرة / 188

(41/380)


وَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (1) } .
وَلِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا (2) .
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الأَْنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ " (3) .
وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: مَنِ انْتَهَبَ فَلَيْسَ مِنَّا (4) .
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِين
__________
(1) سورة النساء / 2
(2) حديث: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 573 ط السلفية) من حديث ابن عباس
(3) حديث: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهبى. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 119 ط السلفية)
(4) حديث: " من انتهب فليس منا ". أخرجه الترمذي (3 / 422 ط الحلبي) من حديث عمران بن حصين وقال: حسن صحيح

(41/380)


يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: اتَّفَقَ أَهْل السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ مَالٍ قَل أَوْ كَثُرَ أَنَّهُ يُفَسَّقُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَخْذُهُ (2) .
7 - وَقَدِ اعْتَبَرَ ابْنُ حَجْرٍ الْهَيْتَمِيُّ الاِسْتِيلاَءَ عَلَى أَمْوَال الْغَيْرِ ظُلْمًا مِنَ الْكَبَائِرِ (3) وَاسْتَدَل بِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَْرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ (4) .
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: لاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ
__________
(1) حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 119 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 76 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري
(2) فتح الباري 12 / 58، 59 والقرطبي 2 / 337 - 341، والفواكه الدواني 2 / 375 - 376، والزواجر 1 / 261
(3) الزواجر 1 / 261
(4) حديث: " من أخذ من الأرض شبرا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 3 - 1ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر

(41/381)


رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَال الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ " (1) .

ب - عُقُوبَةُ النَّهْبِ:
8 - النَّهْبُ جَرِيمَةٌ وَمَعْصِيَةٌ لاَ حَدَّ فِيهَا، قَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ (2) وَلاَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا سَرِقَةٌ أَوْ حِرَابَةٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الَّتِي تَجِبُ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ (3) .

ج - مُقَاوَمَةُ الْمُنْتَهِبِ:
9 - مُقَاوَمَةُ الْمُنْتَهِبِ مَشْرُوعَةٌ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (4) وَذَلِكَ لأَِنَّ حِفْظَ الْمَال
__________
(1) حديث: " لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه " أخرجه أحمد (5 / 425 ط الميمنية) وابن حبان في الصحيح (الإحسان 13 / 316 ط مؤسسة الرسالة) ، واللفظ لأحمد
(2) حديث: " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع " أخرجه الترمذي من حديث جابر بن عبد الله (4 / 52 ط الحلبي) وقال: حسن صحيح
(3) التبصرة 2 / 105، 200
(4) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد " أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 123 ط السلفية) ومسلم (1 / 125 ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو

(41/381)


مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَمَنْ تَعْرَّضَ لِغَيْرِهِ لاِنْتِهَابِ مَالِهِ فَحَاوَل صَاحِبُ الْمَال مَنْعَهُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قِتَالُهُ، فَإِنْ قُتِل صَاحِبُ الْمَال فَهُوَ شَهِيدٌ وَإِنْ قُتِل الْمُنْتَهِبُ فَهُوَ هَدَرٌ (1) ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَال: فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ، قَال: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَال: فَقَاتِلْهُ، قَال: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَال: فَأَنْتَ شَهِيدٌ، قَال: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَال: هُوَ فِي النَّارِ (2) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَفْعِ الصَّائِل عَلَى الْمَال وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، انْظُرْ مُصْطَلَحَ (صِيَال ف 12) .

د - أَثَرُ النَّهْبِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
لِلنَّهْبِ أَثَرٌ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ:

أَوَّلاً: الاِلْتِقَاطُ زَمَنَ النَّهْبِ:
10 - إِذَا كَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ نَهْبٍ وَفَسَادٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْتِقَاطِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَمْلُوكَةِ الضَّالَّةِ الَّتِي تَقْوَى عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (ضَالَّة ف 3 - 6) .
__________
(1) فتح الباري 5 / 123، 124
(2) حديث: " أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي. . . " أخرجه مسلم (1 / 124 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة

(41/382)


ثَانِيًا: أَثَرُ النَّهْبِ فِي الإِْيدَاعِ:
أ - قَبُول الْوَدِيعَةِ زَمَنَ النَّهْبِ:
11 - الإِْيدَاعُ مَشْرُوعٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَقَبُول الْوَدِيعَةِ جَائِزٌ، وَيُسْتَحَبُّ قَبُولُهَا لِمَنْ يَثِقُ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ لأَِنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَقَدْ يَجِبُ الْقَبُول وَالإِْيدَاعُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: كَمَا يَقَعُ فِي زَمَنِ النَّهْبِ مِنَ الإِْيدَاعِ عِنْدَ ذَوِي الْبُيُوتِ الْمُحْتَرَمَةِ (1) .

ب - إِيدَاعُ الْمُودِعِ غَيْرَهُ زَمَنَ النَّهْبِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَوْدَعَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ ضُمِنَ. فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَمَا إِذَا كَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ نَهْبٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُودِعَهَا عِنْدَ ثِقَةٍ مَضْمُونٍ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ إِلَيْهِمَا، دَفَعَهَا إِلَى الْقَاضِي الْحَاكِمِ الأَْمِينِ، أَوْ يُوصِي بِهَا إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَاضِيًا (حَاكِمًا) دَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ أَوْ يُوصِي بِهَا إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ، ضُمِنَ لِتَقْصِيرِهِ. وَقَال
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 432، ومغني المحتاج 3 / 79، والروضة 6 / 324، وكشاف القناع 4 / 166، 167

(41/382)


ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَجُوزَ لَهُ إِيدَاعُهَا لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحْفَظَ لَهَا وَأَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهَا (1) . وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (وَدِيعَة، وَضَمَان ف 49، 67) .

ج - ادِّعَاءُ تَلَفِ الْوَدِيعَةِ بِالنَّهْبِ:
13 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا طَالَبَ الْمَالِكُ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ فَادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ التَّلَفَ، فَلَوْ كَانَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ ضَيَاعٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ لِتَعَذُّرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِنِ ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ التَّلَفَ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَحَرِيقٍ وَغَرَقٍ وَغَارَةٍ وَنَحْوِهَا كَنَهْبِ جُيُوشٍ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يُعْرَفْ مَا ادَّعَاهُ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي الْهَلاَكِ بِهِ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوِ الاِسْتِفَاضَةِ نُظِرَ، إِنْ عُرِفَ عُمُومُهُ وَلَمْ يُحْتَمَل سَلاَمَةُ الْوَدِيعَةِ صُدِّقَ بِلاَ يَمِينٍ، لأَِنَّ ظَاهِرَ الْحَال يُغْنِيهِ عَنِ الْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عُمُومُهُ، وَاحْتُمِل أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ الْوَدِيعَةَ صُدِّقَ بِالْيَمِينِ.
وَإِنْ لَمْ يُذْكُرْ سَبَبُ التَّلَفِ، صُدِّقَ بِالْيَمِينِ وَلاَ يُكَلَّفُ بَيَانَ سَبَبِهِ. وَإِذَا نَكَل الْمُودَعُ عَنِ
__________
(1) تكملة ابن عابدين 2 / 239، والدسوقي 4 / 424، وكشاف القناع 4 / 169، 174، والروضة 6 / 327، ومغني المحتاج 3 / 81

(41/383)


الْيَمِينِ حَلَفَ الْمَالِكُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْحَلِفِ وَاسْتَحَقَّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُقْبَل مِنْهُ دَعْوَى التَّلَفِ بِذَلِكَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِوُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ ضَمِنَهَا لأَِنَّهُ لاَ تَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِهِ.
وَيَكْفِي فِي ثُبُوتِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ الاِسْتِفَاضَةُ (1) .

ثَالِثًا: أَثَرُ النَّهْبِ فِي الْقَرْضِ:
14 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا رَدَّ الْمُقْتَرِضُ الْقَرْضَ فَإِنْ كَانَ الزَّمَنُ زَمَنَ نَهْبٍ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُهُ، وَإِنْ أَحْضَرَهُ زَمَنَ الأَْمْنِ وَجَبَ قَبُولُهُ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ حَتَّى وَلَوْ تَضَرَّرَ الْمُقْتَرِضُ، لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْمُقْرِضُ أَجَلاً فِي الْقَرْضِ لِغَرَضِ مَنْفَعَةٍ لَهُ - كَزَمَنِ نَهْبٍ - وَالْمُسْتَقْرِضُ مَلِيءٌ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الأَْصَحِّ لِمَا فِيهِ مِنْ جَرِّ الْمَنْفَعَةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ (2) .
__________
(1) الروضة 6 / 346، وكشاف القناع 4 / 179
(2) حاشية الجمل 3 / 260، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 224، ومغني المحتاج 2 / 120، وكشاف القناع 3 / 319، 320

(41/383)


وَلَمَّا كَانَتِ السَّفْتَجَةُ هِيَ إِقْرَاضٌ لِسُقُوطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَفْتَجَة ف 3) .

رَابِعًا: دَعْوَى الاِنْتِهَابِ:
15 - جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: إِذَا أَغَارَ قَوْمٌ عَلَى بَيْتِ رَجُلٍ فَأَخَذُوا مَا فِيهِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ مَا أَخَذُوا، لَكِنْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ غَارُوا عَلَيْهِ وَانْتَهَبُوا، فَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: الْقَوْل قَوْل الْمُنْتَهِبِ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَال مُطَرِّفٌ وَابْنُ كِنَانَةَ وَابْنُ حَبِيبٍ: الْقَوْل قَوْل الْمُنْتَهَبِ مِنْهُ مَعَ يَمِينِهِ فِيمَا يُشْبِهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَالْحَمْل عَلَى الظَّالِمِ.
وَقَال مَالِكٌ فِيمَنْ دَخَل عَلَيْهِ السُّرَّاقُ فَسَرَقُوا مَتَاعَهُ وَانْتَهَبُوا مَالَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَنَازَعَهُمْ وَحَارَبَهُمْ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ عَرَفَهُمْ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ، أَهْوَ مُصَدَّقٌ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالسَّرِقَةِ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا، أَوْ تَرَى أَنْ يُكَلَّفَ الْبَيِّنَةَ؟
قَال: هُوَ مُصَدَّقٌ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَغَرَّمَهُمْ عُمَرُ بِقَوْلِهِ وَنَكَّلَهُمْ عُقُوبَةً مُوجِعَةً وَلَمْ يُكَلِّفْهُ الْبَيِّنَةَ (1) .
وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ انْتَهَبَ صُرَّةً ثُمَّ قَال كَانَ فِيهَا كَذَا، وَقَال رَبُّهَا: بَل كَذَا
__________
(1) التبصرة 2 / 82 ط الكتب العلمية

(41/384)


فَالْقَوْل قَوْل الْمُنْتَهِبِ بِيَمِينِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَال عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا طَرَحَ الْمُنْتَهِبُ الصُّرَّةَ فِي مُتْلِفٍ وَلَمْ يَدْرِ كَمْ فِيهَا، أَوْ لَمْ يَطْرَحْهَا وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهَا، أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْمُنْتَهِبِ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَال مُطَرِّفٌ وَابْنُ كِنَانَةَ وَأَشْهَبُ فِي هَذَا وَشِبْهِهِ: إِنَّ الْقَوْل قَوْل الْمُنْتَهَبِ مِنْهُ إِذَا ادَّعَى مَا يُشْبِهُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ، يُرِيدُونَ: وَيَحْلِفُ (1) .

الْمَعْنَى الثَّانِي: النَّهْبُ بِمَعْنَى الأَْخْذِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُبَاحِ:
16 - مَثَّل الْفُقَهَاءُ لاِنْتِهَابِ الشَّيْءِ الْمُبَاحِ بِمَا يُنْتَهَبُ مِمَّا يُنْثَرُ فِي الْعَرَائِسِ وَالْمَوَالِدِ مِنْ سُكَّرٍ وَجَوْزٍ وَلَوْزٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَخْذِ مَا يُنْثَرُ فِي هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: بِالإِْبَاحَةِ وَقَال بَعْضُهُمْ: بِالْكَرَاهَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (انْتِهَاب ف 7، 9) .
__________
(1) التبصرة 2 / 123
(2) ابن عابدين 3 / 324، والتاج والإكليل 4 / 6، والقليوبي 3 / 299، والمغني 7 / 12، 13

(41/384)


نَهْرٌ
التَّعْرِيفُ:
ا - النَّهْرُ فِي اللُّغَةِ: مَجْرَى الْمَاءِ الْعَذْبِ وَالْمَاءِ الْجَارِي الْمُتَّسِعِ، وَالْجَمْعُ نُهُرٌ بِضَمَّتَيْنِ وَأَنْهُرٌ، وَالنَّهَرُ - بِفَتْحَتَيْنِ - لُغَةٌ، وَالْجَمْعُ أَنْهَارٌ، ثُمَّ أُطْلِقَ النَّهْرُ عَلَى الأُْخْدُودِ مَجَازًا لِلْمُجَاوَرَةِ، فَيُقَال: جَرَى النَّهْرُ، وَجَفَّ النَّهْرُ، وَالأَْصْل جَرَى مَاءُ النَّهْرِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ النَّهْرُ: هُوَ الْمَجْرَى الْوَاسِعُ لِلْمَاءِ فَوْقَ السَّاقِيَةِ (2) ، فَهُوَ مَجْرًى كَبِيرٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْكِرَى فِي كُل حِينٍ (3) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَحْرُ:
2 - الْبَحْرُ فِي اللُّغَةِ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ، مِلْحًا كَانَ أَوْ عَذْبًا، وَهُوَ خِلاَفُ الْبَرِّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لَعُمْقِهِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط
(2) المعجم الوسيط، وقواعد الفقه للبركتي، وغريب القرآن للأصفهاني
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 285

(41/385)


وَاتِّسَاعِهِ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْمِلْحِ حَتَّى قَل فِي الْعَذْبِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَكَانٌ وَاسِعٌ جَامِعٌ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ، إِلاَّ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ لِلْمَاءِ الْمَالِحِ، أَمَّا النَّهْرُ فَهُوَ لِلْمَاءِ الْعَذْبِ.

ب - الْبِئْرُ:
3 - الْبِئْرُ فِي اللُّغَةِ: الْقَلِيبُ، وَهُوَ مِنْ بَأَرَ، أَيْ حَفَرَ.
وَالْبِئْرُ: حُفْرَةٌ عَمِيقَةٌ يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْمَاءُ أَوِ النِّفْطُ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النُّتَفِ:
أَنَّ الْبِئْرَ هِيَ الَّتِي لَهَا مَوَادٌّ مِنْ أَسْفَلِهَا، ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ لَهَا مِيَاهٌ تَمُدُّهَا وَتَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهَا (4) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَجْمَعٌ لِلْمَاءِ، إِلاَّ أَنَّ النَّهْرَ مَجْرًى وَاسِعٌ، وَالْبِئْرَ حُفْرَةٌ عَمِيقَةٌ.
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص13
(3) لسان العرب، والمفردات في غريب القرآن، والمعجم الوسيط
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 144

(41/385)


أَقْسَامُ النَّهْرِ:
4 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّهْرَ بِاعْتِبَارِ الْمِيَاهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ، أَوْ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأَحَدٍ كَمَا عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ كَنَهْرِ النِّيل وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ.

وَالثَّانِي: نَهْرٌ مَمْلُوكٌ لِشَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ (1) وَلِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلاً: النَّهْرُ الْعَامُّ (غَيْرُ الْمَمْلُوكِ) :
5 - النَّهْرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ لأَِحَدٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا كَالنِّيل وَالْفُرَاتِ لاَ يَتَأَتَّى تَزَاحُمُ النَّاسِ عَلَى مَائِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهِ وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ (2) .
وَيَخْتَلِفُ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا يَلِي:

أ - النَّهْرُ الْعَظِيمُ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ:
6 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ عَظِيمًا لاَ يَتَأَتَّى تَزَاحُمُ النَّاسِ فِيهِ، كَنَهْرِ النِّيل وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ، فَلِكُل إِنْسَانٍ
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 14، والمغني 5 / 583، وروضة الطالبين 5 / 304، 305، 307، وأسنى المطالب 2 / 454، 455، والدسوقي 4 / 74، وكشاف القناع 4 / 198، 199
(2) المغني 5 / 583، وأسنى المطالب 2 / 454

(41/386)


أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَشْرَبَ وَيَسْقِيَ دَوَابَّهُ مَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لأَِحَدٍ فِي الْمَاءِ وَلاَ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ، وَلأَِنَّ الْمَاءَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى عَلَى الإِْبَاحَةِ (1) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلإَِ وَالنَّارِ (2) .
وَلِكُل أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَشُقَّ مِنْ هَذِهِ الأَْنْهَارِ نَهْرًا إِلَى أَرْضِهِ، بِأَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الإِْمَامِ، فَلَهُ أَنْ يَشُقَّ إِلَيْهَا نَهْرًا، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ وَلاَ لأَِحَدٍ مَنْعُهُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ، وَلَهُ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى وَدَالِيَةً وَسَانِيَةً إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْنْهَارَ لَمْ تَدْخُل تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ فَلاَ يَثْبُتُ الاِخْتِصَاصُ بِهَا لأَِحَدٍ فَكَانَ النَّاسُ فِيهَا سَوَاءً، وَكُل وَاحِدٍ بِسَبِيلٍ مِنَ الاِنْتِفَاعِ، لَكِنْ بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ كَالاِنْتِفَاعِ بِطَرِيقِ الْعَامَّةِ.
فَإِنْ أَضَرَّ بِالنَّهْرِ أَوْ بِعَامَّةِ النَّاسِ كَأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ وَيُفْسِدَ حُقُوقَ النَّاسِ، أَوْ
__________
(1) البدائع 6 / 192، وتكملة فتح القدير 9 / 12 وأسنى المطالب 2 / 454، وحاشية الدسوقي 4 / 74 والخرشي 7 / 76، 77، وكشاف القناع 4 / 199، ومغني المحتاج 2 / 373،
(2) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث. . . ". أخرجه الطبراني في معجمه كما في نصب الراية (4 / 294 - ط المجلس العلمي) ، وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 153 - ط دار الكتب العلمية)

(41/386)


يَنْقَطِعَ الْمَاءُ عَنِ النَّهْرِ الأَْعْظَمِ أَوْ يَمْنَعَ جَرَيَانَ السُّفُنِ فَلِكُل وَاحِدٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتِبًا مَنْعُهُ، لأَِنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ (1) .
وَقَدْ سُئِل أَبُو يُوسُفَ عَنْ نَهْرِ مَرْوَ وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ أَحْيَا رَجُلٌ أَرْضًا كَانَتْ مَوَاتًا فَحَفَرَ لَهَا نَهْرًا فَوْقَ مَرْوَ مِنْ مَوْضِعٍ لَيْسَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إِلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ فَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ يَدْخُل عَلَى أَهْل مَرْوَ ضَرَرٌ فِي مَائِهِمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَضُرُّهُمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ، وَسُئِل أَيْضًا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ كُوًى مَعْرُوفَةٌ هَل لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا؟ فَقَال: إِنْ زَادَ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لاَ يَضُرُّ بِأَهْل النَّهْرِ فَلَهُ ذَلِكَ (2) .

ب - النَّهْرُ الصَّغِيرُ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّهْرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ صَغِيرًا يَتَزَاحَمُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ
__________
(1) البدائع 6 / 192، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 282، وكشاف القناع 4 / 199، وروضة الطالبين 5 / 306، والدسوقي 4 / 74
(2) البدائع 6 / 192

(41/387)


فَلِمَنْ فِي أَوَّل النَّهْرِ (أَيْ أَعْلاَهُ) أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبِ، ثُمَّ يُرْسِل الْمَاءَ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ مِنَ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الأَْرَاضِي كُلِّهَا (1) .
وَالأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل، فَقَال الأَْنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ فَقَال: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَال: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، فَقَال الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأََحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ " (2) } .
وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 204، ومنح الجليل 4 / 30، وروضة الطالبين 5 / 305، ومغني المحتاج 2 / 373، والمهذب 1 / 435، والمغني 5 / 583، وكشاف القناع 4 / 98
(2) حديث عبد الله بن الزبير " أن رجلا من الأنصار خاصم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 34 ط السلفية) ومسلم (4 / 1829 - 1830)

(41/387)


يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِل الْمَاءَ تَسْهِيلاً عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا قَال الأَْنْصَارِيُّ مَا قَال اسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ (1) .
وَقَدْ رَوَى عُبَادَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْل مِنَ السَّيْل أَنَّ الأَْعْلَى فَالأَْعْلَى يَشْرَبُ قَبْل الأَْسْفَل، وَيُتْرَكُ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسَل الْمَاءُ إِلَى الأَْسْفَل الَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي سَيْلٍ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِبٍ، أَنَّ الأَْعْلَى يُرْسَل إِلَى الأَْسْفَل وَيُحْبَسُ قَدْرَ كَعْبَيْنِ (3) .
وَإِذَا سَقَى الأَْوَّل وَلَمْ يَفْضُل شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ، أَوْ سَقَى الثَّانِي وَلَمْ يَفْضُل شَيْءٌ، فَلاَ شَيْءَ لِمَنْ بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا فَضَل،
__________
(1) المغني 5 / 584
(2) حديث عبادة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في شرب النخل من السيل. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 830 - ط الحلبي) ، وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 155 - ط العلمية) بالانقطاع في سنده
(3) حديث: " قضى في سيل مهزوز ومذنب. . . " أخرجه الحاكم (2 / 62 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 155 - ط العلمية) : أعله الدارقطني بالوقف

(41/388)


فَهُوَ كَالْعُصْبَةِ مَعَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ فِي الْمِيرَاثِ (1) .
وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا انْخِفَاضٌ وَارْتِفَاعٌ، أَيْ كَانَ بَعْضُهَا مُرْتَفِعًا وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضًا فَإِنَّهُ يَسْقِي كُل نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ لأَِنَّهُمَا لَوْ سَقَيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الأَْرْضِ الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفِضُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدَّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفِعُ (2) .
وَإِذَا سَقَى الأَْعْلَى، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى سَقْيِ أَرْضِهِ مَرَّةً أُخْرَى قَبْل انْتِهَاءِ سَقْيِ الأَْرَاضِي كُلِّهَا فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الأَْرَاضِي لِيَحْصُل التَّعَادُل (3) .
هَذَا هُوَ الأَْصْل فِي هَذَا وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ مَنْ فِي أَعْلاَ النَّهْرِ بِالسَّقْيِ فَيَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ حَتَّى يَصِل إِلَى كَعْبِهِ ثُمَّ يُرْسِلَهُ إِلَى مَنْ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 198، والمغني 5 / 583، ومنح الجليل 4 / 30، ومغني المحتاج 2 / 377، والمهذب 1 / 435
(2) مغني المحتاج 2 / 374، والروضة 5 / 305، وكشاف القناع 4 / 198، والمغني 5 / 584، وجواهر الإكليل2 / 204
(3) روضة الطالبين 5 / 306، وكشاف القناع 4 / 199

(41/388)


يَلِيهِ، وَهَكَذَا كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، إِذَا كَانَ إِحْيَاؤُهُمْ مَعًا، أَوْ أَحْيَا الأَْعْلَى قَبْل غَيْرِهِ، أَوْ جَهِل الْحَال (1) .
8 - أَمَّا لَوْ كَانَ مَنْ فِي أَسْفَل النَّهْرِ هُوَ الَّذِي سَبَقَ بِالإِْحْيَاءِ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي السَّقْيِ، ثُمَّ مَنْ أَحْيَا بَعْدَهُ، وَهَكَذَا لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّقْيِ هُوَ السَّبْقُ إِلَى الإِْحْيَاءِ لاَ إِلَى أَوَّل النَّهْرِ (2) .
بَل قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الأَْسْفَل أَسْبَقَ إِحْيَاءً فَهُوَ الْمُقَدَّمُ، بَل لَهُ مَنْعُ مَنْ أَرَادَ إِحْيَاءَ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى النَّهْرِ وَسَقْيَهُ مِنْهُ عِنْدَ الضِّيقِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الرَّوْضَةِ وَصَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ، لِئَلاَّ يُسْتَدَل بِقُرْبِهِ بَعْدُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ مَنْ وَلِيَهُ فِي الإِْحْيَاءِ وَهَكَذَا، وَلاَ عِبْرَةَ حِينَئِذٍ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّهْرِ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالأَْعْلَى: الْمُحْيِي قَبْل الثَّانِي وَهَكَذَا، لاَ الأَْقْرَبُ إِلَى النَّهْرِ (3) .
وَقَيَّدَ سَحْنُونُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَل تَقْدِيمِ الأَْسْفَل السَّابِقِ فِي الإِْحْيَاءِ عَلَى الأَْعْلَى الْمُتَأَخِّرِ فِي الإِْحْيَاءِ إِذَا خِيفَ عَلَى زَرْعِ الأَْسْفَل الْهَلاَكُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فِي السَّقْيِ، وَإِلاَّ قُدِّمَ الأَْعْلَى الْمُتَأَخِّرُ فِي الإِْحْيَاءِ عَلَى
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 17، ونهاية المحتاج 5 / 350، ومغني المحتاج 2 / 374، وكشاف القناع 4 / 199
(2) كشاف القناع 4 / 199
(3) نهاية المحتاج 5 / 355

(41/389)


الأَْسْفَل، وَالَّذِي حَقَّقَهُ مُصْطَفَى الرِّمَاحِيُّ أَنَّ الأَْسْفَل يُقَدَّمُ إِذَا تَقَدَّمَ فِي الإِْحْيَاءِ وَلَوْ لَمْ يُخَفْ عَلَى زَرْعِهِ بِتَقْدِيمِ الأَْعْلَى (1) .

قَدْرُ مَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ قَبْل إِرْسَالِهِ إِلَى الآْخَرِ.
قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَظَرْنَا فِي قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ " فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ " (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِيمَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ وَجْهَيْنِ:
قَال: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَدْرِ السَّقْيِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ، وَقَدْ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي كُل الأَْزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ، لأَِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْرْضِ وَبِاخْتِلاَفِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَبِوَقْتِ الزِّرَاعَةِ وَبِوَقْتِ السَّقْيِ (3) .
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ ذَكَرَ أَنَّ كَلاَمَ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ الْمَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ) مَحْمُولٌ عَلَى أَرْضٍ يَكْفِيهَا ذَلِكَ، أَمَّا الأَْرْضُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 74
(2) المغني 5 / 584
(3) روضة الطالبين 5 / 305

(41/389)


الَّتِي لاَ تَكْفِيهَا إِلاَّ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ كَغَالِبِ مَزَارِعِ الْيَمَنِ فَتُسْقَى إِلَى حَدِّ كِفَايَتِهَا عَادَةً مَكَانًا وَزَمَانًا، وَقَدِ اخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، قَال الأَْذْرُعِيُّ: وَهُوَ قَوِيٌّ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّيُّ.
10 - وَهَل الْمُرَادُ بِالْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ يُحْبَسُ الْمَاءُ إِلَيْهِمَا الأَْسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوِ الأَْعْلَى كَمَا قَالُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ؟ الظَّاهِرُ الأَْوَّل، وَالْمَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُعْتَدِل أَوِ الْغَالِبِ، لأَِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْتَفِعُ كَعْبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْخَفِضُ وَيَدْنُو مِنْ أَسْفَل الرِّجْل وَالأَْقْرَبُ الأَْوَّل (1) .
وَقَال مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْبِسُ الأَْعْلَى مِنَ الْمَاءِ مَا بَلَغَ الْكَعْبَ وَيُرْسِل مَا زَادَ عَلَيْهِ لِلَّذِي يَلِيهِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الأَْظْهَرُ. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يُرْسِل جَمِيعَ الْمَاءِ وَلاَ يَحْبِسُ شَيْئًا مِنْهُ (أَيْ بَعْدَ سَقْيِ أَرْضِهِ (2)) .

ثَانِيًا: النَّهْرُ الْخَاصُّ (الْمَمْلُوكُ) وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ
11 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لِشَخْصٍ، كَأَنْ شَقَّ شَخْصٌ لِنَفْسِهِ نَهْرًا مِنَ الأَْنْهَارِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ أَصْبَحَ مَالِكًا لَهُ وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ لِسَقْيِ أَرْضِهِ وَدَوَابِّهِ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ أَوْ سَقْيُ أَرْضٍ
__________
(1) حاشية الرملي على أسنى المطالب 2 / 454، تحفة المحتاج مع الحواشي 6 / 230
(2) منح الجليل 4 / 29، 30

(41/390)


أَوْ شَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ (1) .
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ سَقَى أَرْضَهُ أَوْ زَرَعَهُ مِنْ نَهْرِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ - سَوَاءٌ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ أَوْ لاَ - لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يُؤَدِّبْهُ السُّلْطَانُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ (2) .
وَلَكِنْ لِلْغَيْرِ حَقُّ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ وَدَوَابِّهِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ بِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَالشَّفَةُ إِذَا كَانَتْ تَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلاً صَغِيرًا وَفِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاشِي كَثْرَةٌ تَقْطَعُ الْمَاءَ، قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَمْنَعُ، وَقَال أَكْثَرُهُمْ: يَمْنَعُ لِلضَّرَرِ وَجُزِمَ بِالثَّانِي فِي الْمُلْتَقَى (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِمَالِكِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعَ مَا لِلشُّرْبِ وَالاِسْتِعْمَال وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَلَوْ بِدَلْوٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ لاَ يُدْلِي أَحَدٌ فِيهِ دَلْوًا (4) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 282، والأم 4 / 49، ومنح الجليل 4 / 25، 26، 29، وروضة الطالبين 5 / 307، والمغني 5 / 589، 590، وكشاف القناع 4 / 199
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 282
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 282
(4) الروضة 5 / 307، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 455

(41/390)


وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنَ الْجَدَاوِل وَالأَْنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إِذَا كَانَ السَّقْيُ لاَ يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ، إِقَامَةً لِلإِْذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ، ثُمَّ قَال: لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالأَْوْقَافِ الْعَامَّةِ فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ، وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِكُل أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي لِشُرْبِهِ وَغَسْلِهِ وَغَسْل ثِيَابِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا لَمْ يَدْخُل إِلَيْهِ فِي مَكَانٍ مَحُوطٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يَحِل لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْل مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيل. . . " (2) . وَعَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَال: " يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِل مَنْعُهُ؟ قَال: الْمَاءُ، قَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِل مَنْعُهُ؟ قَال: الْمِلْحُ، قَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِل
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 375
(2) حديث أبي هريرة: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 34 - ط السلفية) ، ومسلم (5 / 34 - ط الحلبي) ، واللفظ للبخاري

(41/391)


مَنْعُهُ؟ قَال: أَنْ تَفْعَل الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ (1) . فَأَمَّا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ كَسَقْيِ الْمَاشِيَةِ الْكَثِيرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَإِنْ فَضَل الْمَاءُ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ لَمْ يَلْزَمْ بَذْلُهُ (2) .

ثَالِثًا: النَّهْرُ دَاخِل الْمِلْكِ:
12 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ دَاخِل مِلْكِ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُول فِي أَرْضِهِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ (3) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُهُ كَالآْتِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالآْبَارِ وَالْعُيُونِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبِهِ بَل هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي
__________
(1) حديث بهيسة عن أبيها: " يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ . . . . . ". أخرجه أبو داود (3 / 750 - ط حمص) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 154 - ط العلمية) عن عبد الحق وابن القطان أنهما أعلاه بجهالة بهيسة
(2) المغني 5 / 589، 590، وشرح منتهى الإرادات 2 / 467
(3) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 5 / 282، 283، والبدائع 6 / 189، والاختيار 3 / 71، ومنح الجليل 4 / 24، 25، وأسنى المطالب 2 / 455، ومغني المحتاج 2 / 375، وشرح منتهى الإرادات 2 / 461

(41/391)


أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ، لَكِنْ لَهُ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهِ، لأَِنَّ الْمَاءَ فِي الأَْصْل خُلِقَ مُبَاحًا لِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ (1) وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي الإِْبَاحَةَ، فَلَوْ كَانَ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ مِنَ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَاشِيَتِهِ مِنَ الدُّخُول فِي مِلْكِهِ، لأَِنَّ الدُّخُول إِلَى أَرْضِهِ إِضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُول يَجِدُ مَاءً بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً بِقُرْبِهِ وَاضْطُرَّ لِلدُّخُول وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ الْهَلاَكَ فَيُقَال لِصَاحِبِ النَّهْرِ: إِمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُول لِيَأْخُذَ الْمَاءَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكْسِرَ ضَفَّةَ النَّهْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَ الْمَاءَ إِلَيْهِ وَتُعْطِيَهُ بِنَفْسِكَ. فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ وَمَنَعَهُ مِنَ الدُّخُول فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذَ قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ، وَالأَْصْل فِيهِ مَا رُوِيَ " أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَال: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ " (2) .
__________
(1) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث. . . " تقدم تخريجه ف 6
(2) الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 5 / 282، 283، والبدائع 6 / 189، والآثار لأبي يوسف 2 / 199

(41/392)


وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا كَانَ مِنَ الْمَاءِ فِي أَرْضٍ مُتَمَلَّكَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِثْل بِئْرٍ يَحْفِرُهَا أَوْ عَيْنٍ يَسْتَخْرِجُهَا، أَوْ غَيْرَ مُسْتَنْبَطٍ غَدِيرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَيَحِل لَهُ بِيعُهُ وَمَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ إِلاَّ بِثَمَنٍ، إِلاَّ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ لاَ ثَمَنَ مَعَهُمْ وَيَخَافُ عَلَيْهِمُ الْهَلاَكَ إِنْ مَنَعَهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ.
فَإِنْ مَنَعَهُمْ فَعَلَيْهِمْ مُجَاهَدَتُهُ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَال ابْنُ يُونُسَ: وَاجِبٌ عَلَى كُل مَنْ خَافَ عَلَى مُسْلِمٍ الْمَوْتَ أَنْ يُحْيِيَهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ عَلَى أَصْحَابِ الْمِيَاهِ بَيْعُهَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ بِمَا تُسَاوِي، وَلاَ يَشْتَطُّوا عَلَيْهِمْ فِي ثَمَنِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ لاَ ثَمَنَ مَعَهُمْ وَجَبَتْ مُوَاسَاتُهُمْ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُتْبِعُوا بِالثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ بِبَلَدِهِمْ، لأَِنَّهُمُ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ سَبِيلٍ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الزَّكَاةِ لِوُجُوبِ مُوَاسَاتِهِمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمِيَاهُ الْمُخْتَصَّةُ بِبَعْضِ النَّاسِ وَهِيَ مِيَاهُ الآْبَارِ وَالْقَنَوَاتِ، كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوِ انْفَجَرَ فِيهِ عَيْنٌ مَلَكَهَا وَمَلَكَ مَاءَهَا فِي الأَْصَحِّ، إِذِ الْمَاءُ يُمْلَكُ، وَهُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل الْفَاضِل مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ
__________
(1) منح الجليل 4 / 24، 25

(41/392)


غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَعَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ (1) .
وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَاءَ، لِخَبَرِ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ وَسَوَاءٌ مَلَكَ الْمَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ لاَ، لاَ يَلْزَمُهُ بَذْل مَا فَضَل عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَيَجِبُ بَذْل الْفَاضِل مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَالْفَاضِل عَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَذْلُهُ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ الزَّرْعِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، وَقِيل: يَجِبُ بَذْلُهُ لِلزَّرْعِ كَالْمَاشِيَةِ، وَقِيل: لاَ يَجِبُ لِلْمَاشِيَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْبَذْل لِلْمَاشِيَةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ كَلأٌَ مُبَاحٌ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً مَبْذُولاً لَهُ وَلَمْ يُحْرِزْهُ فِي إِنَاءٍ وَنَحْوِهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجِبُ بَذْلُهُ. وَحَيْثُ وَجَبَ الْبَذْل لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِ فَإِنْ صَحَّ بَيْعُ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ، لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْل الْمَاءِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمَاءِ التَّقْدِيرُ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ لاَ بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْمَاءَ لِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ، وَمَا فَضَل مِنْ مَائِهِ الَّذِي لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَدِرْعِهِ يَجِبُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيْرِهِ وَزَرْعِهِ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 455
(2) مغني المحتاج 2 / 375، وأسنى المطالب 2 / 455، 456

(41/393)


لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لاَ تَمْنَعُوا فَضْل الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْل الْكَلإَِ (1) .
وَهَذَا مَا لَمْ يَجِدْ رَبُّ الْبَهَائِمِ أَوِ الزَّرْعِ مَاءً مُبَاحًا فَيَسْتَغْنِي بِهِ فَلاَ يَجِبُ الْبَذْل لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْبَاذِل لِلْمَاءِ يَتَضَرَّرُ فَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَذْل دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَالِبُ الْمَاءِ يُؤْذِي صَاحِبَهُ بِدُخُولِهِ فِي أَرْضِهِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَمْنَعَهُ دَفْعًا لِلأَْذَى (2) .

رَابِعًا: النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَحَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ:
13 - إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَشُقَّ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى أَوْ دَالِيَةً أَوْ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً أَوْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ أَوْ يَسُوقَ نَصِيبَهُ إِلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى إِلاَّ بِرِضَا شُرَكَائِهِ لأَِنَّهُمْ قَدْ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ (3) .
وَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ
__________
(1) حديث: " لا تمنعوا فضل الماء. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 31 - ط السلفية) ، ومسلم (أمم 3 / 1198) ، واللفظ للبخاري
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 461
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 285، وروضة الطالبين 5 / 307، 308، وأسنى المطالب 2 / 455، وكشاف القناع 4 / 200

(41/393)


الْخَانِيَّةِ أَنَّ النَّهْرَ إِذَا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْقِيَ بُسْتَانَهُ أَوْ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَإِنْ أَذِنُوا إِلاَّ وَاحِدًا أَوْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ غَائِبٌ لاَ يَسَعُ الرَّجُل أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ (1) .
وَفِي الأُْمِّ: لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً كَانَ لَهُمْ مِيَاهٌ بِبَادِيَةٍ فَسَقَوْا مِنْهَا وَاسْتَقَوْا وَفَضَل مِنْهَا شَيْءٌ، فَجَاءَ مَنْ لاَ مَاءَ لَهُ يَطْلُبُ أَنْ يَشْرَبَ أَوْ يَسْقِيَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ مَعَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمَاءِ - وَإِنْ قَل - مَنْعُهُ إِيَّاهُ إِنْ كَانَ فِي عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ، لأَِنَّهُ فَضْل مَاءٍ يَزِيدُ وَيُسْتَخْلَفُ (2) .

كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ مَاءِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ:
14 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي حَفْرِ النَّهْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَاءِ هَذَا النَّهْرِ فِي شُرْبِهِ وَسَقْيِ أَرْضِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ فِي الاِنْتِفَاعِ جَازَ ذَلِكَ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 282.
(2) الأم 4 / 49
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 285، والهداية 4 / 106، ومنح الجليل 4 / 31، وحاشية الدسوقي 4 / 74، وجواهر الإكليل 2 / 204، 205، وروضة الطالبين 5 / 307، 311، وأسنى المطالب 2 / 455، والمغني، 5 / 586، 588، وكشاف القناع 4 / 199

(41/394)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمَ الشُّرَكَاءُ مَاءَ النَّهْرِ بِالْمُهَايَأَةِ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ حَقُّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا، مِثْل أَنْ يَجْعَلُوا لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ حِصَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ أَنْ يَجْعَلُوا لِوَاحِدٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَال، وَلِلآْخَرِ مِنَ الزَّوَال إِلَى الْغُرُوبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ اقْتَسَمُوهُ بِالسَّاعَاتِ وَأَمْكَنَ ضَبْطُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ جَازَ إِذَا تَرَاضَوْا بِهِ، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لاَ يَتَجَاوَزُهُمْ، أَوْ أَنْ يَسْقِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَوْمًا، أَوْ بَعْضُهُمْ يَسْقِي يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ يَسْقِي أَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ (1) ، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (2) } .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَإِذَا اقْتَسَمُوا بِالْمُهَايَأَةِ جَازَ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ رَجَعَ وَقَدْ أَخَذَ نَوْبَتَهُ قَبْل أَنْ يَأْخُذَ الآْخَرُ نَوْبَتَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَوْبَتِهِ مِنَ النَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ نَوْبَتَهُ فِيهَا (3) .
وَقِيل: تَلْزَمُ الْمُهَايَأَةُ لِيَثِقَ كُل وَاحِدٍ بِالاِنْتِفَاعِ، وَقِيل: لاَ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ بِالْمُهَايَأَةِ،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 375، 376، وروضة الطالبين 5 / 307، 311، وأسنى المطالب 2 / 455، والمهذب 1 / 435، وكشاف القناع 4 / 200، والمغني 5 / 588.
(2) سورة الشعراء / 155
(3) مغني المحتاج 2 / 376، وأسنى المطالب 2 / 455.

(41/394)


لأَِنَّ الْمَاءَ يَقِل وَيَكْثُرُ، وَتَخْتَلِفُ فَائِدَةُ السَّقْيِ بِالأَْيَّامِ (1) .
15 - وَإِنْ تَشَاحَّ الشُّرَكَاءُ فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ أَوْ ضَاقَ عَنْهُمْ قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ.
وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ - كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - بِنَصْبِ نَحْوِ خَشَبَةٍ أَوْ حَجَرٍ فِي عُرْضِ النَّهْرِ مُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، مَوْضُوعَةٍ بِمُسْتَوٍ مِنَ الأَْرْضِ، وَفِيهَا ثُقُبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ النَّهْرِ، لأَِنَّهُ طَرِيقٌ فِي اسْتِيفَاءِ كُل وَاحِدٍ حِصَّتَهُ.
فَإِنْ كَانَتْ أَمْلاَكُهُمْ مُسْتَوِيَةً فَوَاضِحٌ.
وَإِنْ كَانَتْ أَمْلاَكُهُمْ مُخْتَلِفَةً قَسَّمَ الْمَاءَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ النِّصْفُ وَلآِخَرَ الثُّلْثُ وَلآِخَرَ السُّدْسُ فَإِنَّهُ يَجْعَل فِي الْخَشَبَةِ سِتَّ ثُقُبٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلاَثَةُ ثُقُوبٍ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلْثِ اثْنَانِ يَصُبَّانِ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ السُّدْسِ وَاحِدٌ يَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ (2) .
وَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ الْخُمُسَانِ، وَالْبَاقِي لاِثْنَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ، جَعَل فِي الْخَشَبَةِ عَشَرَةَ ثُقُوبٍ، لِصَاحِبِ الْخَمْسِينَ أَرْبَعَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الآْخَرِينَ ثَلاَثَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ.
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 311
(2) مغني المحتاج 2 / 375، وكشاف القناع 4 / 199، 200، والمغني 5 / 586.

(41/395)


وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَشَرَةٍ، لِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ أَرَاضٍ قَرِيبَةٌ مِنْ أَوَّل النَّهْرِ، وَلِخَمْسَةٍ أَرَاضٍ بَعِيدَةٌ جَعَل لأَِصْحَابِ الأَْرْضِ الْقَرِيبَةِ خَمْسَةَ ثُقُوبٍ لِكُل وَاحِدٍ ثُقْبٌ، وَجَعَل لِلْبَاقِينَ خَمْسَةً تَجْرِي فِي النَّهْرِ حَتَّى تَصِل إِلَى أَرْضِهِمْ، ثُمَّ تُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً أُخْرَى (1) .
وَمَا حَصَل لأَِحَدِهِمْ فِي سَاقِيَتِهِ تَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا أَحَبَّ، فَكُل وَاحِدٍ يَصْنَعُ بِنَصِيبِهِ مَا شَاءَ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ كَانَ الشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الاِنْتِفَاعُ بِسَقْيِ الأَْرَاضِي فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الأَْعْلَى مِنْهُمْ لاَ يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكَرَ النَّهْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ (3) .
فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ (4) الأَْعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ فَلاَ يَسْكُرُ بِمَا
__________
(1) المغني 5 / 586
(2) الهداية 4 / 106
(3) كشاف القناع 4 / 200، ومغني المحتاج 2 / 375.
(4) سكرت النهر سكرا من باب قتل: سددته، والسكر بكسر السين ما يسد به (المصباح) .

(41/395)


يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ كَالطِّينِ وَغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ إِضْرَارًا بِهِمْ بِمَنْعِ مَا فَضَل مِنَ السَّكْرِ عَنْهُمْ، إِلاَّ إِذَا رَضُوا بِذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ الشُّرْبُ إِلاَّ بِالسَّكْرِ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَهْل الأَْسْفَل حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَهُ لأَِهْل الأَْعْلَى أَنْ يَسْكُرُوا.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَهْل أَسْفَل النَّهْرِ أُمَرَاءٌ عَلَى أَهْل أَعْلاَهُ حَتَّى يَرْوُوا ". لأَِنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْل الأَْعْلَى مِنَ السَّكْرِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَزِمَكَ طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُكَ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى: قَال شَيْخُ الإِْسْلاَمِ: وَاسْتَحْسَنَ مَشَايِخُ الأَْنَامِ قَسْمَ الإِْمَامِ بِالأَْيَّامِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَصْطَلِحُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِلاَ سَكْرٍ يَقْسِمُ الإِْمَامُ بَيْنَهُمْ بِالأَْيَّامِ فَيَسْكُرُ كُلٌّ فِي نَوْبَتِهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَقَطْعُ التَّنَازُعِ وَالْخِصَامِ، إِذْ لاَ شَكَّ أَنَّ لِكُل شَرِيكٍ فِي هَذَا الْمَاءِ حَقًّا، فَتَخْصِيصُ أَهْل الأَْسْفَل بِهِ حِينَ قِلَّةِ الْمَاءِ فِيهِ ضَرَرٌ لأَِهْل الأَْعْلَى، كَذَا تَخْصِيصُ أَهْل الأَْعْلَى بِهِ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُل، فَلِذَا اسْتَحْسَنُوا مَا ذَكَرُوا وَارْتَضَوْهُ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 286.

(41/396)


وَلَوْ كَانَتْ قِسْمَةُ الْمَاءِ وَقَعَتْ بِالْكِوَى - بِكَسْرِ الْكَافِ جَمْعُ كَوَّةٍ بِفَتْحِهَا: الثُّقْبُ - فَأَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَقْسِمَ بِالأَْيَّامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلأَِنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ أَرْضِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ أَوْ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ قُسِّمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ بِقِلْدٍ (2) ، وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى إِعْطَاءِ كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَإِذَا قُسِّمَ الْمَاءُ بِالْقِلْدِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى اخْتِلاَفُ كَثْرَةِ الْجَرْيِ وَقِلَّتِهِ، فَإِنَّ جَرْيَهُ عِنْدَ كَثْرَتِهِ أَقْوَى مِنْ جَرْيِهِ عِنْدَ قِلَّتِهِ، فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لأَِهْل الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي التَّبْدِئَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بِالتَّقْدِيمِ قُدِّمَ (3) .
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 285، والهداية 4 / 107
(2) القلد هو القدر الذي يثقب ويملأ ماء (الدسوقي 4 / 74، 75) قال ابن دريد: هو الحظ من الماء، وقال ابن قتيبة: هو سقي الزرع وقت حاجته، وقال عليش: هو في استعمال الفقهاء: عبارة عن الآلة التي يتوصل بها لإعطاء كل ذي حظ من الماء حظه من غير نقص ولا زيادة.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 74، 75

(41/396)


مُؤْنَةُ كِرَى الأَْنْهَارِ (عِمَارَتُهَا وَإِصْلاَحُهَا) :
16 - الأَْنْهَارُ إِمَّا عَامَّةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لأَِحَدٍ أَوْ خَاصَّةٌ مَمْلُوكَةٌ لِشَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ.
وَيَخْتَلِفُ مَنْ يَتَحَمَّل كِرَى الأَْنْهَارِ وَإِصْلاَحَهَا بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ النَّهْرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أَوَّلاً: الأَْنْهَارُ الْعَامَّةُ:
17 - كَرْيُ (1) ، الأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ كَالنِّيل وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَكُونُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال، لِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) .
وَتَكُونُ الْمُؤْنَةُ مِنْ مَال الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ، لأَِنَّ الْعُشُورَ وَالصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ
__________
(1) كري النهر: حفره وإخراج طينه (لسان العرب) ، والكري تعبير الحنفية، ويعبر الشافعية بالعمارة، ويعبر الحنابلة بالإكراء والإصلاح.
(2) حديث: " الخراج بالضمان ". أخرجه أبو داود (3 / 780 - ط حمص) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (3 / 54 - ط العلمية)

(41/397)


يَكُونُ كَرْيُهُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا أَجْبَرَ الإِْمَامُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إِحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، إِذْ هُمْ لاَ يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، قَال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: " لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلاَدَكُمْ " (1) .
إِلاَّ أَنَّ الإِْمَامَ يُخْرِجُ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَل وَيُطِيقُهُ، وَيَجْعَل مُؤْنَتَهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لاَ يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَفْعَل فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ، لأَِنَّهُ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الْقِتَال، وَيَجْعَل مُؤْنَتَهُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ، كَذَا هَاهُنَا.
وَلَوْ خِيفَ مِنْ هَذِهِ الأَْنْهَارِ الْغَرَقُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إِصْلاَحُ مَسَنَاتِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال (2) .

ثَانِيًا: الأَْنْهَارُ الْمَمْلُوكَةُ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْنْهَارَ الْمَمْلُوكَةَ يَكُونُ كَرْيُهَا وَإِصْلاَحُهَا وَعِمَارَتُهَا عَلَى مَنْ
__________
(1) أثر عمر - رضي الله تعالى عنه - " لو تركتم لبعتم أولادكم ". قال العيني في البناية (9 / 472) : لم أقف عليه في الكتب المشهورة في كتب الحديث، وإنما ذكره أصحابنا في كتبهم ولم أدر من أين أخذوه.
(2) الهداية وتكملة فتح القدير 9 / 14، 15 - ط دار إحياء التراث العربي، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 284، والبدائع 6 / 192، والروضة 5 / 306، وأسنى المطالب 2 / 454، 455.

(41/397)


يَمْلِكُونَهَا، لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ (1) .

كَيْفِيَّةُ الْكَرْيِ وَالإِْصْلاَحِ:
19 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلاَحِهِ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ كَرْيُ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلاَحُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِحَسَبِ مِلْكِهِمْ فِيهِ.
وَيُوَضِّحُ الْحَنَابِلَةُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الإِْصْلاَحُ فَيَقُولُونَ: إِذَا كَانَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَقْرَبَ إِلَى أَوَّلِهِ مِنْ بَعْضٍ اشْتَرَكَ الْكُل فِي كَرْيِهِ وَإِصْلاَحِهِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الأَْوَّل، ثُمَّ إِذَا وَصَلُوا فَلاَ شَيْءَ عَلَى الأَْوَّل بَعْدَ ذَلِكَ لاِنْتِهَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ، لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَيَشْتَرِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الثَّانِي ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ مِنْ بَعْدِ الثَّانِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الثَّالِثِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كُلَّمَا انْتَهَى الْعَمَل إِلَى مَوْضِعِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَهُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 284، والبدائع 6 / 192، والهداية وشروحها 9 / 15، 16، والدسوقي 3 / 365، والحطاب 5 / 144، وروضة الطالبين 5 / 308، وأسنى المطالب 2 / 455، وكشاف القناع 3 / 414، 415، و 4 / 200، ومطالب أولي النهى 4 / 20 4 / 205

(41/398)


شَيْءٌ لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِهِ.
فَإِنْ كَانَ يَفْضُل عَنْ جَمِيعِهِمْ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى مَصْرَفٍ فَمُؤْنَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، لاِشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُمْ عَلَيْهِ كَأَوَّلِهِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: مُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلاَهُ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَرِئَ مِنْ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ، وَيُوَضِّحُ ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ فَيَقُول: بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ عَشَرَةً فَعَلَى كُلٍّ عُشْرُ الْمُؤْنَةِ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَهِيَ عَلَى التِّسْعَةِ الْبَاقِينَ أَتْسَاعًا لِعَدَمِ نَفْعِ الأَْوَّل فِيمَا بَعْدَ أَرْضِهِ، وَهَكَذَا فَمَنْ فِي الآْخِرِ أَكْثَرُهُمْ غَرَامَةً لأَِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ إِلاَّ إِذَا وَصَل الْكَرْيُ إِلَى أَرْضِهِ وَدُونَهُ فِي الْغَرَامَةِ مَنْ قَبْلَهُ إِلَى الأَْوَّل وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ فِي الأَْعْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُل مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إِلَى مَشْرَبِ أَوَّلِهِمْ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْكُل، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلاَ مِلْكَ لِصَاحِبِ الأَْعْلَى فِيهِ إِنَّمَا لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ حَقُّ تَسْيِيل الْمَاءِ فِيهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى صَاحِبِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 364، 4 / 204، 205، والمغني 5 / 590، وكشاف القناع 3 / 415.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 5 / 284.

(41/398)


الْمِلْكِ لاَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: الْكَرْيُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ مِنْ أَوَّل النَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ لاِشْتِرَاكِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ، وَقَال الصَّاحِبَانِ بِحِصَصِ الشُّرْبِ وَالأَْرَضِينَ كَمَا يَسْتَوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لأَِنَّ لِصَاحِبِ الأَْعْلَى حَقًّا فِي الأَْسْفَل لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى تَسْيِيل مَا فَضَل مِنَ الْمَاءِ فِيهِ (2) .
20 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَيْسَ عَلَى أَهْل الشَّفَةِ مِنَ الْكَرْيِ شَيْءٌ، لأَِنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلاَ مِلْكَ لأَِهْل الشَّفَةِ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ، بَل لَهُمْ حَقُّ شُرْبِ الْمَاءِ وَالسَّقْيِ لِلدَّوَابِّ فَقَطْ، وَلأَِنَّهُمْ لاَ يُحْصُونَ، لأَِنَّهُمْ أَهْل الدُّنْيَا جَمِيعًا (3) .

امْتِنَاعُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْكَرْيِ وَالإِْصْلاَحِ:
21 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ كَرْيٍ وَإِصْلاَحٍ
__________
(1) البدائع 2 / 192.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 284، والهداية 4 / 105، والبدائع 6 / 192، وروضة الطالبين 5 / 308، وأسنى المطالب 2 / 455.
(3) البدائع 6 / 191، 192، وابن عابدين 5 / 284.

(41/399)


وَعِمَارَةٍ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ. لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ مَا إِذَا امْتَنَعَ حَدُّ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْكَرْيِ وَالإِْصْلاَحِ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الآْبِيَ يُجْبَرُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لاَ يُجْبَرُ الآْبِي وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
22 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ النَّهْرَ الْمَمْلُوكَ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَامٍّ، وَخَاصٍّ.
وَالْفَاصِل بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ خَاصٌّ، وَمَا لاَ تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ عَامٌّ. وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ، فَقِيل: الْخَاصُّ مَا كَانَ لِعَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقِيل: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِمَا دُونَ الأَْرْبَعِينَ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِنْ كَانَ لأَِرْبَعِينَ فَهُوَ نَهْرٌ عَامٌّ، وَجَعَل بَعْضُهُمُ الْحَدَّ الْفَاصِل فِي الْمِائَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الأَْلْفِ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَامٌّ، وَأَصَحُّ مَا قِيل فِيهِ: أَنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ فَيَخْتَارُ مِنَ الأَْقَاوِيل أَيَّ قَوْلٍ شَاءَ، وَقِيل: الْخَاصُّ مَا لاَ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ.
قَال الإِْتْقَانِيُّ: وَلَكِنَّ أَحْسَنَ مَا قِيل فِيهِ: إِنْ

(41/399)


كَانَ النَّهْرُ لِدُونِ مِائَةٍ فَالشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ وَإِلاَّ فَعَامَّةٌ (1) .
23 - وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَامًّا وَأَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَضَرَرُ الآْبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلاَ يُعَارَضُ بِهِ.
وَإِذَا أَرَادَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ الْعَامِّ أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الاِنْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الأَْرَاضِي وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الآْبِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَلاَ يُجْبَرُ الآْبِي لأَِنَّهُ مَوْهُومٌ، بِخِلاَفِ الْكَرْيِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ.
24 - أَمَّا النَّهْرُ الْخَاصُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْكِرَى.
فَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْكِفَايَةِ: قِيل: يُجْبَرُ الآْبِي وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ الإِْسْكَافِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أُجْبِرَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْخِزَانَةِ، وَقِيل: لاَ يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيِّ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ كُل الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكَرْيِ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لاَ يُجْبِرُهُمُ الإِْمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوِ امْتَنَعُوا
__________
(1) الكفاية على الهداية 9 / 15، وحاشية ابن عابدين 5 / 284.

(41/400)


عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ، وَقَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يُجْبِرُهُمُ الإِْمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشَّفَةِ فِي النَّهْرِ (1)
25 - وَعَلَى الْقَوْل بِعَدَمِ جَبْرِ الآْبِي إِذَا أَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ وَقَامَ الْبَاقُونَ بِالْكَرْيِ، فَهَل يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ مُؤْنَةِ مَا أَنْفَقُوا؟ قَالُوا: إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعُوا عَلَى الآْبِي.
نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَمَرَ الْبَاقِينَ بِكَرْيِ نَصِيبِ الآْبِي عَلَى أَنْ يَسْتَوْفُوا مُؤْنَةَ الْكَرْيِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الشُّرْبِ مِقْدَارَ مَا يَبْلُغُ قِيْمَةَ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي، هَل يَرْجِعُونَ عَلَى الآْبِي بِقِسْطِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَيُمْنَعُ الآْبِي مِنْ شُرْبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ؟ قِيل: نَعَمْ، وَقِيل: لاَ.
وَذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِل أَنَّ الأَْوَّل قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَثَلُهُ فِي التَّتَارَخَانِيَّةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ تَرْجِيحَ لأَِحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ مَفْهُومَ كَلاَمِ الدُّرِّ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 284، والهداية وشروحها 9 / 15، والبناية في شرح الهداية 9 / 474.

(41/400)


كَالْهِدَايَةِ وَالتَّبْيِينِ وَغَيْرِهِمَا تَرْجِيحُ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي (1) .
26 - وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى شَرِيكٍ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ أَنْ يُعَمِّرَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ جَمِيعَ حِصَّتِهِ إِنْ أَبَى التَّعْمِيرَ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الشُّرَكَاءَ فِي الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ فَإِنَّ مَنْ أَبَى الْعِمَارَةَ مِنَ الشُّرَكَاءِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ أَمْ لاَ، وَيُقَال لِلشَّرِيكِ: عَمِّرْ إِنْ شِئْتَ وَلَكَ مَا حَصَل مِنَ الْمَاءِ بِعِمَارَتِكَ، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: هُوَ إِمَّا كُل الْمَاءِ إِنْ كَانَ التَّخْرِيبُ أَذْهَبَ كُل الْمَاءِ وَحَصَل الْمَاءُ بِالتَّعْمِيرِ، أَوْ مَا زَادَ مِنْهُ بِالْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ قَدْرَ مَا أَنْفَقْتَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ صَاحِبُكَ الآْبِي بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَال ابْنُ نَافِعٍ: يُجْبَرُ الشَّرِيكُ عَلَى الْبَيْعِ إِنْ أَبَى الْعِمَارَةَ إِنْ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَرَجَّحَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ (2) .
وَجَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: إِذَا احْتَاجَتْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ بَيْنَ شُرَكَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِمْ إِلَى الْكَنْسِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 284، والهداية وشروحها 9 / 15.
(2) الدسوقي 3 / 365، 509، والحطاب 5 / 144.

(41/401)


لِقِلَّةِ مَائِهَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمُ الْكَنْسَ وَأَبَى الآْخَرُونَ. - وَفِي تَرْكِ الْكَنْسِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَاءِ وَانْتِقَاصٌ، وَالْمَاءُ يَكْفِي أَوْ لاَ يَكْفِي إِلاَّ الَّذِينَ أَرَادُوا الْكَنْسَ خَاصَّةً - فَلِلَّذِينِ أَرَادُوا الْكَنْسَ أَنْ يَكْنِسُوا ثُمَّ يَكُونُوا أَوْلَى بِالَّذِي زَادَ فِي الْمَاءِ لِكَنْسِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يَكْنِسْ حَتَّى يُؤَدُّوا حِصَّتَهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فَيَرْجِعُوا إِلَى أَخْذِ حِصَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَاءِ (1)
27 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ فِي النَّهْرِ وَالْقَنَاةِ وَالْبِئْرِ فَفِي الْجَدِيدِ لاَ إِجْبَارَ عَلَيْهِ كَمَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الأَْرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلأَِنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ.
وَفِي الْقَدِيمِ يُجْبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَصِيَانَةً لِلأَْمْلاَكِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنِ التَّعْطِيل.
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَْصْحَابِ هُوَ الْجَدِيدُ.
وَصَحَّحَ صَاحِبُ الشَّامِل الْقَدِيمَ وَأَفْتَى بِهِ الشَّاشِيُّ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الأَْقْيَسُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ، وَقَال: وَالاِخْتِيَارُ إِنْ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مَضَارَّةٌ أَجْبَرَهُ، وَإِنْ كَانَ لإِِعْسَارٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ.
__________
(1) الحطاب 5 / 144.

(41/401)


وَلَوْ أَنْفَقَ الشَّرِيكُ عَلَى تَعْمِيرِ النَّهْرِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالدُّولاَبِ وَالْبَكَرَةِ وَالآْلاَتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ - وَهُوَ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ - فَأَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، أَوْ أُذِنَ لِلشَّرِيكِ فِي الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَلَوِ اسْتَقَل بِهِ الشَّرِيكُ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيل: قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ: نَعَمْ، وَالْجَدِيدُ: لاَ، وَقِيل: يَرْجِعُ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلاَنِ (2) .
28 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ لِحَقِّ شُرَكَائِهِ (3) أَيْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ وَيَأْخُذُ مِنْ مَال الْمُمْتَنِعِ النَّقْدَ وَيُنْفِقُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُمْتَنِعِ نَقْدٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عَرْضَهُ وَأَنْفَقَ مِنْ ثَمَنِهِ مَعَ شَرِيكِهِ بِالْمُحَاصَّةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ لِنَحْوِ تَغْيِيبِ مَالِهِ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ كَنَفَقَةٍ نَحْوَ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ عَمَّرَ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 218، ومغني المحتاج 2 / 190.
(2) روضة الطالبين 4 / 217.
(3) كشاف القناع 3 / 415، ومطالب أولي النهى 3 / 364، وشرح منتهى الإرادات 2 / 272.

(41/402)


الشَّرِيكُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَنْهُ (1) .
وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ فَلَيْسَ لِلشُّرَكَاءِ مَنْعُهُ وَالْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُعَمِّرُ لأَِنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكِهِمَا وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْل الطِّينِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ، وَرُجُوعُ الْمُعَمِّرِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا سَبَقَ (2) .

حُكْمُ مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ:
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأَْرْضِ الَّتِي يَنْكَشِفُ عَنْهَا مَاءُ النَّهْرِ هَل تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي هَذِهِ الأَْرْضَ؟ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي الأَْرْضَ الَّتِي انْكَشَفَ عَنْهَا النَّهْرُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُل مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ جَزَرَ مَاءُ الأَْنْهَارِ الْعِظَامِ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عَنْ أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ، لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إِلَى مَكَانِهِ وَلاَ يَجِدَ إِلَيْهِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 414، ومطالب أولي النهى 3 / 363.
(2) كشاف القناع 3 / 415، ومطالب أولي النهى 3 / 364، وشرح منتهى الإرادات 4 / 272.

(41/402)


سَبِيلاً فَيُحْمَل عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ، حَتَّى لَوْ أَمِنَ الْعَوْدَ، أَوْ كَانَ بِإِزَائِهَا مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لاَ يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْل الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُمَلَّكُهُ إِذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الاِخْتِلاَفِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الإِْمَامِ فِي الإِْحْيَاءِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ (1) .
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ، وَقَدْ سُئِل عَنْ أَرْضٍ انْكَشَفَ عَنْهَا الْبَحْرُ هَل تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمَنْ تَلِيهِ أَوْ لِمَنْ دَخَل الْبَحْرُ أَرْضَهُ؟ أَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ تَلِيهِ ثُمَّ قَال: وَذَلِكَ هُوَ قَوْل عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَعَلَيْهِ حَمْدِيسُ، وَبِهِ الْفَتْوَى وَالْقَضَاءُ، وَقَال سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَمُطَرِّفٌ: تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ الْبَحْرُ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوِ انْحَسَرَ مَاءُ النَّهْرِ عَنْ جَانِبٍ مِنْهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ لأَِحَدٍ كَالنَّهْرِ وَحَرِيمِهِ.
وَلَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ فِي مَال الْمَصَالِحِ.
نَعَمْ، لِلإِْمَامِ دَفْعُهُ لِمَنْ يَرْتَفِقُ بِهِ بِمَا لاَ يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 192
(2) فتح العلى المالك 2 / 237.

(41/403)


وَمِثْلُهُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ فِي الْبَحْرِ، وَيَجُوزُ زَرْعُهُ وَنَحْوَهُ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِحْيَاءَهُ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَلاَ الْغِرَاسُ وَلاَ مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثُمَّ نَضَبَ عَنْهَا وَبَيْنَ أَرْضٍ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ وَلَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لأَِحَدٍ.
جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلاَ يُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ مَا نَضَبَ أَيْ غَارَ عَنْهُ الْمَاءُ مِمَّا كَانَ مَمْلُوكًا وَغَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ، بَل هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُلاَّكِهِ قَبْل غَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُمْ أَخْذُهُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُزِيل مِلْكَهُمْ عَنْهُ.
أَمَّا مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ وَالرَّقَاقِ (2) مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَلِكُل أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ بَعُدَتْ أَوْ قَرُبَتْ كَمَوَاتٍ، قَال الْحَارِثِيُّ: مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ، وَقَال فِي التَّنْقِيحِ: لاَ يُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ، وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ
__________
(1) حاشية القليوبي 3 / 89.
(2) قال في الكشاف: الرقاق - بفتح الراء -: أرض لينة أو رمال يضل بعضها ببعض، وقال بعضهم: أرض مستوية لينة التراب تحتها صلابة، وفي لسان العرب: الرقاق - بالفتح -: الأرض السهلة المنبسطة المستوية اللينة التراب تحت صلابة، وقال الأصمعي: الرقاق: الأرض اللينة من غير رمل.

(41/403)


مُوسَى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا، لأَِنَّ فِيهَا ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الآْخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ، وَلأَِنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلأَِ وَالْحَطَبِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ (1) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنَ النَّبَاتِ، قَال: إِذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ فِيهِ نَبَاتٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لاَ تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْل أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (إِحْيَاء ف 11) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 188.
(2) المغني 5 / 576.

(41/404)