الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

النجاسات
أولاً: غائط الآدمي، وبوله:
وفي ذلك أدلَّة عديدة؛ منها:
__________
(1) قال شيخنا في "مختصر البخاري": "أمّا أثر الحسن؛ فوصَله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريقين عنه نحوه، وأما أثر أبي العالية؛ فوصله أبو داود وأبو عبيد بسند صحيح عنه نحوه". وهو في "صحيح أبي داود" (87) ". وانظر "الفتح" (1/ 354).
(2) بعد أن نقل أقوال أهل العلم في المسألة.
(3) النساء: 43، والمائدة: 6

(1/24)


قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل" (1).
ولم أستدلَّ به على تخفيف طهارة بول الغلام -مع إِفادته ذلك- بل على نجاسة البول بعامَّة، والشاهد: "وبول الجارية يُغسل".
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بول الأعرابي: "دعوه، وأهريقوا على بوله ذَنوباً من ماء -أو سَجْلاً من ماء-" (2).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المُعذَّبَيْن في قبرَيهما: "كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة" (3).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وطئ أحدُكم بنعليه الأذى؛ فإِنَّ التراب له طَهور" (4).
وفي رواية: "إِذا وَطِئ الأذى بخُفَّيْه؛ فطَهورهما التراب" (5).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في خلْع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعليه في الصلاة-: قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلِّي بأصحابه؛ إِذ خَلَعَ نعليه، فوضَعَهُما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك القوم؛ ألقَوا نعالَهم، فلمَّا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتَه؛ قال: "ما حَمَلَكُم على إِلقائكم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيْتَ
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (166).
(2) أخرجه البخاري: 6128، ومسلم: 284، وغيرهما.
(3) أخرجه البخاري: 1361، ومسلم: 292، وغيرهما. ومعنى: "لا يستتر": لا يستبرئ، ولا يتطهَّر، ولا يستبعد منه.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (371)، وانظر "المشكاة" (503).
(5) أخرجه أبو داود " صحيح سنن أبي داود" (372) وغيره.

(1/25)


نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قذراً".
وقال: "إِذا جاء أحدكم إِلى المسجد، فلينْظرْ، فإِنْ رأى في نعليه قذراً أو أذى؛ فليَمْسَحْهُ، ولْيُصَلِّ فيهما" (1).
وممَّا ورد في بول الصغير الذي لم يطعم:
ما روته أم قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها-: "أنَّها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأجلسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ، فنَضَحَهُ، ولم يغسله" (2).
قال الحافظ في "الفتح" في تفسير: "لم يأكل الطعام": "المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه والتمر الذي يحنَّك به والعسل الذي يلعقه للمُداواة وغيره، فكأنَّ المراد أنَّه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال، هذا مقتضى كلام النووي في "شرح مسلم" و "شرح المهذَّب".
وقال ابن التين -كما في "الفتح"-: "يُحتمل أنَّها أرادت أنَّه لم يتقوَّت بالطَّعام، ولم يستغنِ به عن الرَّضاع".
وعن لُبابة بنت الحارث -رضي الله عنها- قالت: كان الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في حجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبال عليه، فقلتُ: اِلبَسْ ثوباً
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، انظر "صحيح سنن أبي داود" (605)، و"الإِرواء" (284).
(2) أخرجه البخاري: 223، ومسلم: 287

(1/26)


وأعطني إِزاركَ حتى أغسله. قال: "إِنَّما يُغسل من بول الأنثى، وينُضَحُ من بول الذَّكر" (1).
عن أبي السَّمح؛ قال: "كنت أخدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إِذا أراد أن يغتسل؛ قال: "ولِّني قفاك"، فأولِّيه قفاي، فأسترُه به، فأُتي بحَسَن -أو حُسين- فبال على صدره، فجئتُ أغسله، فقال: "يُغسل من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام" (2).
وعن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "يُغسل بول الجارية، ويُنضح بول الغلام؛ ما لم يطعم" (3).
وفي رواية: "قال قتادة: هذا ما لم يطعما الطعام، فإِذا طعما؛ غُسلا جميعاً" (4).
قال أبو عيسى الترمذي: "وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين من بعدهم -مِثل أحمد وإِسحاق-؛ قالوا: يُنضح بول الغلام، ويُغسل بول الجارية، وهذا ما لم يطعما، فإِذا طعما؛ غُسلا جميعاً".

ثانياً: دم الحيض:
وفيه أدلَّة عديدة؛ منها:
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (361)، وابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر "المشكاة" (501).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح أبي داود" (362) وغيره، وانظر "المشكاة" (502).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (363).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (364).

(1/27)


عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبَيْش إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! إِني امرأة أُسْتحاض فلا أطهُر، أفأدَعُ الصلاة؟ فقال: "لا؛ إِنَّما ذلك عِرْق، وليس بالحيضة، فإِذا أقبلتِ الحيضة؛ فدَعي الصلاة، وِإذا أدبرَت؛ فاغْسِلي عنك الدم وصلِّي " (1).
وعن أم قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها- قالت: سألتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض يكون في الثوب؟ قال: "حُكِّيه بضِلْع (2)، واغسليه بماء وسِدْر" (3).
وقد نقل النووي في "شرحه" (3/ 200) الإجماع على نجاسته.

ثالثاً: الودي:
وهو: "البَلَل اللَّزِج الذي يخرج من الذكر بعد البول" (4) مباشرة، وهو لا يوجب الغُسل.

رابعاً: المَذي:
وهو ماءٌ أبيض لَزج رقيق، يخرج بلا دَفْق عند الملاعبة أو تذكُّر الجماع أو إِرادته، وقد لا يحسُّ الإِنسان بخروجه، وهي من النجاسات التي يشقُّ الاحتراز
__________
(1) أخرجه البخاري: 228، ومسلم: 333، وهذا لفظه.
(2) الضِّلع: هو العود، والأصل فيه ضِلع الحيوان، فسمِّي به العود الذى يشبهه. "النهاية"، وقيل: العود الذى فيه اعوجاج.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (349)، والنسائي وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (300).
(4) كذا في "النهاية"، وقال: "هو بسكون الدال وبكسرها وتشديد الياء، وقيل: =

(1/28)


عنها، فخُفِّف تطهيرُه، ولا غُسل على من يصيبه ذلك؛ بل عليه الوضوء، ويغسل ذكَره وخصيتيه قبل ذلك، ويأخذ كفّاً من ماء، وينضح بها ثوبه.
والأدلة على ذلك ما يأتي:
عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: كنت رجلاً مذَّاء، فأمرْت رجلاً أن يسأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لمكان ابنته- فسأل، فقال: "توضأ، واغسل ذَكَرَك" (1).
وفي رواية: "إِذا وَجَدَ أحدُكم ذلك؟ فليَنْضَحْ (2) فرْجَه، وليتوضَّأ وضوءه للصلاة" (3).
وفي رواية: "ليغسل ذكَرَهُ وأنثييه" (4).
وفي رواية: "من المَذْي الوضوء، ومن المَنِيِّ الغُسْل" (5).
قال أبو عيسى الترمذي: "وهو قول عامَّة أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
= التشديد أصحّ وأفصح من السكون".
(1) أخرجه البخاري: 269، ومسلم: 306، وغيرهما.
(2) ورد النضح على معنيين: الغسل والرش.
ولما جاء في بعض الروايات بمعنى الغسل؛ تعيَّن حمل النضح عليه، وهذا ما ذهَب إليه النووي -رحمه الله-.
قلت: "وهذا بخلاف الثوب؛ فإِنَّه لم يقل بغسله للتخفيف بخلاف الفرج".
(3) انظر "صحيح سنن أبي داود" (191).
(4) انظر "صحيح سنن أبي داود" (192)، وأنثييه؛ أي: خصيتيه.
(5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (99) وغيره، وانظر "المشكاة" (311).

(1/29)


والتابعين ومن بعدهم، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق".
وعن سهل بن حُنيف -رضي الله عنه- قال: "كنتُ ألقَى من المذي شدَّة وعناء، فكنتُ أُكثر منه الغسل، فذكرْتُ ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه فقال: "إِنَّما يُجزئك من ذلك الوضوء". فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: "يكفيك أن تأخذ كفّاً من ماء، فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنَّه أصاب منه" (1).
قال الشوكاني -رحمه الله-: "فدلَّ هذا الحديث على أن مجرَّد النَّضح يكفي في رفع نجاسة المذْي، ولا يصحُّ أن يُقال هنا ما قيل في المنِيّ، إِنَّ سبب غسله كونه مستقذراً، لأنَّ مجرَّد النضح لا يزيل عين المذي كما يزيله الغسل، فظهر بهذا أنَّ نضحه واجب، وأنَّه نَجِس خُفِّف تطهيره" (2).

خامساً: الميتة:
وهي ما مات من غير تذكية أو ذبح شرعي.
ودليل نجاستها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُبِغَ الإِهاب، فقد طَهُرَ" (3).
قال الصنعاني -رحمه الله- في "سبل السلام" (1/ 52): "وأمّا الميتة؛
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (195)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (409)، و "صحيح سنن الترمذي" (100).
(2) "السيل الجرّار" (7/ 35).
(3) أخرجه مسلم: 366
والإِهاب: هو الجلد قبل أن يُدبَغ؛ فأمّا بعده؛ فلا يسمى إِهاباً.

(1/30)


فلولا أنَّه وَرَدَ "دباغ الأديم طَهوره" (1) و"أيّما إِهاب دُبغ؛ فقد طهُر" (2)؛ لقُلْنا بطهارتها إِذ الوارد في القرآن تحريم أكْلها لكن حكَمْنا بالنَّجاسة لمَّا قام عليها دليلٌ غير دليل تحريمها".
ويندرج تحتها ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة؛ لحديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما قُطِعَ من البهيمة وهي حيَّةٌ؛ فهو ميتة" (3).
ويستثنى من ذلك ميتة السمك والجراد؛ فإِنَّها طاهرة حلال أكلها؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُحِلَّتْ لنا ميتتان ودمان فأمّا الميتتان: فالحوت والجراد وأمّا الدَّمان: فالكبد والطحال" (4).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: "هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ مَيتتُه" (5).
وجلد الميتة نجس كذلك -كما لا يخفى-؛ للحديث المتقدّم: "إِذا
__________
(1) أخرجه مسلم: 366
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" والترمذي والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3955) وانظر "غاية المرام" (28).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" وأبو داود والترمذي والحاكم في "مستدركه" وحسّنه شيخنا في "غاية المرام" (41).
(4) أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (1118).
(5) تقدّم في (باب المياه).

(1/31)


دُبِغَ الإِهاب؛ فقد طَهُر".
وتقدّم في هذا المعنى بعض النصوص غير بعيد.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "تُصدِّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمرَّ بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "هلاَّ أخذْتم إِهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟. فقالوا: إِنَّها مَيتة. فقال: "إِنَّما حَرُم أكلُها" (1).
فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهُر"؛ يدلُّ على نجاسته قبل الدِّباغة؛ كما هو بيِّن.

سادساً: لحم الخنزير:
قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لَعِبَ بالنَّرْدَشير (3)؛ فكأنَّما صَبَغَ يده في لحم خنزير ودمه" (4).

سابعاً: الكلب:
ومن الأدلة على نجاسته:
__________
(1) أخرجه البخاري: 1492، 2221، 5531، ومسلم: 363، وهذا لفظه.
(2) الأنعام: 145
(3) النَّرد: اسم أعجمي معرَّب. وشير: بمعنى: حلو. "النهاية". وتعرف في بلاد الشام بـ (لعبة الطاولة).
(4) أخرجه مسلم: 2260، والبخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود، وغيرهم.

(1/32)


قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شَرِبَ الكلب في إِناء أحدكم؛ فليَغْسِلْهُ سبعاً" (1).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهور (2) إِناء أحدكم إِذا وَلَغَ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات، أولاهنَّ بالتراب" (3).

ثامناً: لحم السباع (4):
ومن أدلة نجاستها ما يرويه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدوابِّ والسباع فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان الماء قُلَّتين؛ لم يحمل الخَبَث" (5) وفي لفظ: "لم ينجِّسْه شيء" (6).

تاسعاً: لحم الحمار:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه جاءٍ، فقال: أُكِلَتِ الحُمُر ثم جاءه جاءٍ فقال: أُكِلَت الحُمر ثم جاءه جاءٍ، فقال: أُفْنِيَتِ الحُمُر فأمَر منادياً فنادى في النَّاس: "إِنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن
__________
(1) أخرجه البخاري: 172 ومسلم: 279 وغيرهما.
(2) قال في "سُبُل السلام": "قال في "الشرح الأظهر": فيها ضمّ الطاء ويقال بفتحها؛ لغتان".
(3) أخرجه مسلم: 279 وأبو داود: 71 وغيرهما.
(4) انظر للمزيد -إِن شئت- (سؤر السباع).
(5) أخرجه جمع من الأئمة وانظر "صحيح سنن أبي داود" (56) و"المشكاة" (477) وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (23) وتقدم.
(6) وهو عند ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (418) وأحمد وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (23) وتقدّم.

(1/33)


لحوم الحُمُر الأهليَّة؛ فإِنَّها رجس". فأُكْفِئت القُدور وإِنَّها لتفور باللحم" (1)

عاشراً: الجَلاَّلة (2):
فقد ثبت في حديث ابن عمر: أنه قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الجلاَّلة وألبانها" (3).
وقال عبد الله بن أبي أوفى: " ... تحدَّثنا أنّما حرَّمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبته من أجل أنها تأكل العَذِرة" (4).
وثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّه كان إِذا أراد أكل الجلاَّلة حبَسها ثلاثاً (5).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلَّى" (6): "وألبان الجلاَّلة حرام، وهي الإِبل التي تأكل الجلَّة -وهي العَذِرة- والبقر والغنم كذلك، فإِن مُنعت من أكلها حتى سقط عنها اسم الجلاَّلة؛ فألبانها حلال طاهرة".
__________
(1) أخرجه البخاري: 5528، ومسلم: 1940، وغيرهما.
(2) جاء في "النهاية" ونحوه في "اللسان": "الجَلاَّلة من الحيوان: التي تأكل العَذِرة، والجِلَّة: البعر، فوضَع موضع العَذِرة، يقال: جلَّت الدابَّة الجِلَّة واجْتَلَتْها، فهي جالَّة وجلاَّلة، إِذا التقطتْها". وفي "مختار الصحاح": "جلَّ البعر: التقطه، ومنه سمِّيت الدابَّة التي تأكل العَذِرة: الجَلاَّلة".
(3) أخرجه أبو داود، وغيره، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (2503).
(4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2585).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه، وانظر "الإِرواء" (2505).
(6) انظر "المحلَّى" (مسألة 140).

(1/34)


وأمّا الدَّجاج؛ فلا حرج في أكله، ولو أكَل الأقذار (1)، وقد ثبت أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكلهُ؛ كما في حديث زَهْدَم؛ قال:
"كنَّا عند أبي موسى الأشعري -وكان بيننا وبين هذا الحيِّ من جَرْم إِخاء - فأُتِي بطعام فيه لحم دجاج، وفي القوم رجُل جالس أحمر، فلم يدْنُ من طعامه، فقال: ادْنُ؛ فقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل منه. قال: إِنّي رأيته يأكل شيئاً فقذِرته، فحَلَفْتُ أن لا آكله ... (وذكر الحديث) " (2).
والبيض أيضاً يحمل نفس الحكم (3).

حادي عشر: عظام وشَعْر وقَرْن ما يُحكم بنجاسته:
لأنها تتغذَّى بالنجاسة؛ إِلا إِذا قَبِلت الدِّباغ (4).

الأسْآر (5)
وتُقسَم إِلى قسمين:

القسم الأول: الأسآر الطاهرة:
وتندرج تحتها الأنواع الآتية:
__________
(1) انظر "الفتح" (9/ 646) للمزيد من الفائدة.
(2) أخرجه البخاري: 5518، ومسلم: 1649، وغيرهما.
(3) استفدته من شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-.
(4) أفادنيه شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-.
(5) جمع سؤر، وهو فضلة الشرب وبقيَّته.

(1/35)


1 - سؤر الآدمي:
قال ابن قدامة في "المغني" (1) -في معرض كلامه عن سؤر الآدمي-: " ... فهو طاهر، وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً، عند عامّة أهل العلم ... ".
وفي ذلك أدلَّة؛ منها:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... إنَّ المؤمن لا ينجس" (2).
وفي رواية: "إنَّ المسلم لا ينجس" (3).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فقال: يا عائشة! ناوليني الثوب". فقالت: إني حائض. فقال: "إنَّ حيضتك ليست بيدك"، فناولَتْهُ (4).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنتُ أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ (5) وأنا
__________
(1) انظر (سؤر الآدمي وعرَقه).
(2) تقدم تخريجه في (الماء المستعمل).
(3) أخرجه البخاري: 283، ومسلم: 372
(4) أخرجه مسلم: 299
(5) جاء في "الفتح" (2/ 129): "عَرْقاً -بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف-.
قال الخليل: العُراق: العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم؛ فهو عرق. =

(1/36)


حائض، ثمَّ أناولُه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيضع فاه على موضع فيَّ" (1).
وهذا صريح في طهارة فم وسؤر الحائض.
وعن عبد الله بن سعد -رضي الله عنه- قال: سألتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مواكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها" (2).
وقد أورده الترمذي -رحمه الله- في (باب: مواكلة الحائض وسؤرها).
وأما القول بطهارة سؤر الكافر؛ فللأسباب الآتية:
أولاً: التمشي مع القاعدة المعروفة: "الأصل في الأعيان الطهارة".
ثانياً: مخالطة المسلمين للمشركين وإباحة ذبائحهم والزواج منهم، ولا نعلم أنَّهم كانوا يغسلون شيئاً ممّا أصابته أبدانهم أو ثيابهم (3).
وأما قول الله تعالى: {إِنَّما المُشْرِكون نَجَس} (4)؛ فلا يُراد منها نجاسة الأبدان.
__________
= وفي المحكم عن الأصمعي: العَرْق -بسكون الراء-: قطعة لحم. وقال الأزهري: العَرق واحد العراق، وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق، فيُكسر ويُطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق، ويتشمس العظام، يقال: عرَقت اللحم واعترقْتُه وتعرَّقته: إِذا أخذت اللحم منه نهشاً".
ومما قال ابن الأثير في "النهاية": "العَرْق: العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم".
(1) أخرجه مسلم: 300
(2) انظر "صحيح سنن ابن ماجه" (531) و"صحيح سنن الترمذي" (114).
(3) قاله السيد سابق -حفظه الله تعالى- بمعناه في "فقه السنَّة" (سؤر الآدمي).
(4) التوبة: 28

(1/37)


قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره ": وأما نجاسة بدنه؛ فالجمهور على أنَّه ليس البدن والذات؛ لأنَّ الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ... ".
وقال ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير في علم التفسير" (1): والثالث: أنَّه لمّا كان علينا اجتنابهم كما تُجتَنَب الأنجاس؛ صاروا بحُكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو صحيح".

2 - سؤر ما يؤكل لحمه:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: إِنِّي لَتَحْت ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسيل عليَّ لعابُها، فسمعته يقول: "إِنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ ألا لا وصيَّة لوارث" (2).
جاء في "سُبل السلام" (1/ 53): "والحديث دليل على أنَّ لعاب ما يؤكل لحمه طاهر. قيل: وهو إِجماع. وهو أيضاً الأصل، فذِكْر الحديث بيانٌ للأصل، ثمَّ هذا مبنيٌّ على أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علِم سيلان اللُّعاب عليه؛ ليكون تقريراً".
قال أبو بكر بن المنذر: "أجمع أهلُ العلم -لا اختلاف بينهم- أنَّ سُؤر ما يؤكل لحمُه طاهر؛ يجوزُ شربُه والتطهر به" (3).
ويرى أهل العلم طهارة روث ما يؤكل لحمه؛ فالقول بطهارة سؤره أولى.
__________
(1) وقد نَقَلَ ثلاثة أقوال في الآية.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2194)، والترمذي والدارقطني وغيرهم، وانظر "الإرواء" (6/ 89).
(3) الأوسط (1/ 299) (المسألة 76).

(1/38)


3 - سؤر الهرة:
عن كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أنَّ أبا قتادة دخل فسكبت له وَضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى (1) لها الإِناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظرُ إِليه. فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلتُ: نعم. فقال: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّها ليست بنَجَس، إِنَّها من الطَوَّافين عليكم والطَوَّافات" (2).
وعن داود بن صالح بن دينار التمَّار عن أمه: أنَّ مولاتها أرسلَتها بهريسة (3) إِلى عائشة، فوجدَتها تصلِّي، فأشارت إِليَّ أن ضعيها، فجاءت هرَّة، فأكَلت منها، فلمَّا انصرفتْ، أكَلت من حيث أكَلت الهرة. فقالت: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّها ليست بنَجَس، إِنَّما هي من الطوَّافين عليكم"، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضَّأ بفضلها (4).
وفي طهارة سؤر الهرة قال الترمذي -رحمه الله-: "وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومَن بعدهم؛ مِثل: الشافعي وأحمد
__________
(1) أي: أمال.
(2) أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما. وانظر "صحيح سنن أبي داود" (68).
وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" تحت (173): " ... وكذا صحَّحه البخاري والعقيلي والداراقطني؛ كما في تلخيص الحافظ ... ".
(3) في "لسان العرب": " الهرْس: الدق، ومنه الهريسة، وقيل: الهريس: الحب المهروس قبل أن يُطبخ، فهو الهريسة ... ".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (69).

(1/39)


وإسحاق؛ لم يَروْا بسؤر الهرَّة بأساً".

القسم الثاني: الأسآر النَّجسة:
ويدخل في ذلك:

1 - سؤر الكلب:
ومن الأدلَّة على ذلك:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا شَرِب الكلب في إِناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً" (1).
وفي رواية: "إِذا ولَغَ الكلب في إِناء أحدكم؛ فليُرِقْه، ثمَّ ليغسله سبع مرار" (2).
قال بعض أهل العلم: "ولو كان سؤره طاهراً؛ لم تَجُزْ إِراقته، ولا وَجَب غسْله".
وجاء في "سُبل السلام": "والإِراقة إِضاعة مال، فلو كان الماء طاهراً؛ لَما أمر بإِضاعته، إِذ قد نهى عن إِضاعة المال، وهو ظاهر في نجاسة فمه" (3).
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "طَهور إِناء أحدكم إِذا ولَغ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات، أولاهنَّ بالتراب" (4).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهور"؛ تدلُّ على نجاسة سؤر الكلب؛ كما قال بعض أهل
__________
(1) أخرجه البخاري: 172، ومسلم: 279 وغيرهما، وتقدَّم.
(2) أخرجه مسلم: 279
(3) (كتاب الطهارة، طهور إِناء أحدكم ... ).
(4) أخرجه مسلم: 279، وغيره وتقدَّم.

(1/40)


العلم.

2 - سؤر الحمار:
ودليل ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أنس -رضي الله عنه- قال: " أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه جاءٍ، فقال: أُكِلَتِ الحُمُر، ثم جاءه جاءٍ، فقال: أُكلَت الحُمر، ثم جاءه جاءٍ، فقال: أُفْنِيَت الحُمُر، فأمَر منادياً، فنادى في النَّاس: "إِنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحم الحُمُر الأهليَّة؛ فإِنَّها رجس". فأُكْفِئت القُدور وِإنَّها لتفور باللحم" (1).
وفي رواية (2): فأمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا طلحة، فنادى: إِنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر؛ فإِنَّها رِجْس أو نَجَس".
وقال الترمذي -رحمه الله- في "سننه": "باب: سؤر الحمار (وأورد الحديث السابق) ".

3 - سؤر الخنزير:
قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (3).
واستدلَّ من استدل من العلماء على نجاسة لحم الحمار بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
__________
(1) أخرجه البخاري: 5528، ومسلم: 1940، وغيرهما، وتقدّم.
(2) أخرجه مسلم: 1940
(3) الأًنعام: 145

(1/41)


"فإِنها رجس" (1)؛ فالخنزير بهذا الوصف أولى.
وكلُّ شيء ثبتت نجاسة لحمه؛ يُحْكَم بنجاسة سؤره.
وكلّ شيء لا يؤكل لحمه -سوى الهِرّ-؛ يُحْكم بنجاسة سؤره" (2).

4 - سؤر السباع (3):
ومن أدلَّة ذلك ما يرويه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سُئل
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدوابِّ والسباع؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان الماء قُلَّتين؛ لم يَحْمِل الخَبَث" (4).
وفي لفظ: "لم يُنَجِّسْهُ شيء" (5).
قال شيخنا الألباني -حفظه الله- في "تمام المنَّة" (6): " ... قال ابن التُّركماني في "الجوهر النقي" (1/ 250): وظاهر هذا يدلُّ على نجاسة سؤر السباع، إذ لولا ذلك؛ لم يكن لهذا الشرط فائدة، ولكان التقييد به ضائعاً.
وذكَر النووي نحوه في "المجموع" (1/ 173) " ... اهـ
__________
(1) تقدَّم تخريجه.
(2) انظر "نيل الأوطار" (باب نجاسة لحم الحيوان الذي لا يُؤكل إِذا ذبح).
(3) في "اللسان": "السَّبُع: يقع على ما له ناب من السباع ويعدو على الناس والدواب فيفترسها؛ مثل: الأسد والذئب والنمر والفهد وما أشبهها ... ".
وقيل: "السَّبُع من البهائم العادية: ما كان ذات مخلب".
(4) تقدم.
(5) تقدم.
(6) (ص 47) ( ... ومن السؤر).

(1/42)


قلتُ: والذي جاء في "المجموع": "واحتجَّ مَن منَع الطهارة بسؤر السباع بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ النّبيَّ سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدوابِّ؟ فقال: "إِذا كان الماء قُلَّتين؛ لم ينجس". قالوا: فدلَّ على أنَّ لورود السباع تأثيراً في تنجيس الماء ... ".

ما يُظنّ أنَّه نجس وليس كذلك
أولاً: المَنِيّ (1):
ومن الأدلَّة على طهارته ما يأتي:
ما يرويه علقمة والأسود؛ أنَّ رجلاً نزل بعائشة -رضي الله عنها- فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: "إِنَّما كان يجزئك إِنْ رأيته أن تغسل مكانه، فإِن لم ترَ؛ نضَحْتَ حوله، ولقد رأيتُني أفركه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرْكاً فيصلي فيه" (2).
وفي رواية: "لقد رأيتُني وإِنِّي لأحكُّه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يابساً بظُفُري" (3).
ولو كان المنيُّ نجساً؛ لما صلَّى النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثوبه ذلك.
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- عن الفرك: "وهو قول غير واحد من
__________
(1) وقد قال بعض أهل العلم بنجاسته، ولكن المتأمّل في النصوص وفقهها وأقوال أهل العلم يطمئنّ -إِن شاء الله تعالى- لطهارته.
(2) أخرجه مسلم: 288، وغيره.
(3) عن "صحيح مسلم": 290

(1/43)


أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء؛ مِثل: سفيان، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق؛ قالوا في المنِيِّ يصيب الثوب: يجزئه الفَرْك، وإِن لم يُغْسَل".
جاء في "السيل الجرَّار": "وقد ثبت من حديث عائشة -رضي الله عنها- عند مسلم وغيره أنها كانت تفرك المنيَّ من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي (1)، ولو كان نجساً؛ لنزَلَ عليه الوحي بذلك؛ كما نزل عليه الوحي بنجاسة النعال الذي صلَّى فيه" (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أفرك المنيَّ من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا كان يابسا، ً وأمسحه أو أغسله -شكَّ الحُميدي- إذا كان رطباً" (3).
وتردُّد الحميدي بين المسح والغسل لا يضرُّ؛ فإِنَّ كلَّ واحد منهما
__________
(1) ليس في "صحيح مسلم" كما نبَّه أحد الأخوة، وِإنما هو في: "صحيح ابن خزيمة" (290)، وصحّحه شيخنا.
(2) يشير بذلك اٍلى حديث أبي سعيد -رحمه الله- قال: "بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي بأصحابه؛ إِذ خلَع نعليه، فوضعَهما عن يساره، فخَلَعَ الناس نعالَهم، فلمّا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته؛ قال: ما حمَلكم على إِلقائكم نعالكم؟ ". قالوا: رأيناك ألقيت نعلك فألقينا نعالنا. قال: "إِنَّ جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً". أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "الإرواء" (284)، وتقدّم.
(3) أخرجه أبو عوانة، والطحاوي، والدارقطني؛ كما في "الإِرواء" (180)، وقال شيخنا -حفظه الله-: "وإسناده صحيح على شرط الشيخين".

(1/44)


ثابتٌ (1).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلت (2) المنيَّ من ثوبه بعِرْق الإِذخِر (3)، ثم يصلِّي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابساً، ثم يصلِّي فيه" (4).
وعن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّه قال في المنيِّ يصيب الثوب: "أمِطْه عنك -قال أحدهم- بعودٍ أو إِذخِرة؛ فإِنَّما هو بمنزلة البصاق والمخاط" (5).
قال ابن حزم في "المحلَّى" المسألة (131): "والمنيُّ طاهر في الماء كان أو في الجسد أو في الثوب، ولا تجب إِزالته، والبصاق مثله، لا فرق".
وجاء في "سبل السلام" (1/ 55): "وقالت الشافعيَّة: المنيُّ طاهر، واستدلُوا على طهارته بهذه الأحاديث (6).
__________
(1) من قول شيخنا -حفظه الله- في "الإِرواء" (180).
(2) أي: يميطه. وفي "المحيط": "أخرجه بيده".
والسلت: يأتي بمعنى المسح أيضاً.
(3) هو حشيش طيب الريح.
(4) أخرجه أحمد وغيره، وإسناده حسن؛ كما في "الإِرواء" (180). ورواه ابن خزيمة في "صحيحه".
(5) سنده صحيح على شرط الشيخين، وهو منكر مرفوعاً؛ كما في "الضعيفة" (948).
(6) يريد أحاديث الفرك والحتّ ونحوها.

(1/45)


قالوا: وأحاديث غَسله محمولة على النَّدب وليس الغَسْل دليل النجاسة؛ فقد يكون لأجل النظافة وإِزالة الدَّرن ونحوه، قالوا: وتشبيهه بالبُزاق والمخاط دليل على طهارته أيضاً، والأمر بمسحه بخرقة أو إِذخِرة لأجل إِزالة الدَّرن المستكره بقاؤه في ثوب المصلي، ولوكان نجساً؛ لما أجزأ مسْحه".
وقد ورد غَسْل المنيّ؛ كما في بعض النصوص:
كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أغسل الجنابة من ثوب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيخرُجُ إِلى الصلاة، وإِنَّ بُقَعَ الماء في ثوبه" (1).
وعنها -رضي الله عنها- أيضاً: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان يغسل المنيَّ ثمَّ يخرج إِلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغَسْل فيه" (2).
وقال أبو عيسى -رحمه الله-: "وحديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّها غسلت منيَّاً من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليس بمخالف لحديث الفَرْك؛ لأنَّه وإن كان الفرك يجزئ؛ فقد يستحبُّ للرَّجل أن لا يرى على ثوبه أثره".
وقال ابن حزم في "المحلَّى" (مسألة 131): "وأمّا حديث سليمان بن
يسار (3)؛ فليس فيه أمْر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغَسْله، ولا بإِزالته، ولا بأنَّه نجس،
__________
(1) أخرجه البخاري: 229
(2) أخرجه مسلم: 289
(3) وقد تقدَّم بلفظ: "كان يغسل المنيَّ ثمَّ يخرج إِلى الصلاة في ذلك الثوب ... ".

(1/46)


وإِنَّما فيه أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغسله، وأنَّ عائشة -رضي الله عنها- كانت تغسله وأفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست على الوجوب".
ثمَّ ذكر -رحمه الله- حديث أنس بن مالك -رحمه الله- في حكِّ البزاق باليد من المسجد.
ولفْظه -كما في البخاري (405) -: عن أنس: "أنَّ النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في القِبْلة، فشقَّ ذلك عليه، حتى رُئي في وجهه، فقام، فحكَّه بيده .. ".
قال ابن حزم -رحمه الله-: "فلم يكن هذا دليلاً عند خصومنا على نجاسة النخامة، وقد يغسل المرء ثوبه ممّا ليس نجساً".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 605): "وبالجملة؛ فخروج اللبن من بين الفرث والدم: أشبه شيء بخروج المنيِّ من مخرج البول" (1).
وقال -رحمه الله-: ومن المعلوم أنَّه لم ينقُل أحد أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أحداً من الصحابة بغَسْل المنيّ من بدنه وثوبه، فعُلم يقيناً أنَّ هذا لم يكن واجباً عليهم، وهذا قاطع لمن تدبَّره" (2).
وقال الحافظ في "الفتح": " ... لا معارضة بين حديثي الغَسْل والفَرْك؛
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 603)، وله بحث نفيس في طهارة المني والردّ على من يقول بنجاسته (ص 589 وما بعدها) من مجلد (21).
(2) "الفتاوى" (21/ 605).

(1/47)


لأنَّ الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المنيِّ؛ بأن يُحْمل الغَسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب".
قال: "وهذه طريقة الشافعيِّ وأحمد وأصحاب الحديث" (1).

ثانياً: الخمر:
وذلك لأنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، وليس هناك من دليل على نجاستها.
أمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2).
فإِن كلمة "رجْس" تعني النجاسة الحُكمية لا الحسِّيَّة، وإلاَّ لَزمنا من ذلك أن نحكم بنجاسة الأنصاب والأزلام.
وكذلك التحريم لا يقتضي النجاسة، وإلا لزِمنا الحكم بنجاسة الأمهات والبنات والأخوات والعمَّات ... لأنَّ الله تعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ ... } (3) الآية.
والطعام المسروق يحرُم أكْله، ولا يُقال بنجاسته.
جاء في "سُبُل السلام" (1/ 52): "والحقّ أنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، وأنَّ التحريم لا يلازم النجاسة؛ فإِنَّ الحشيشة محرَّمة طاهرة، وكذا المخدِّرات والسموم القاتلة لا دليل على نجاستها، وأمَّا النجاسة؛ فيلازمها
__________
(1) انظر "الفتح" (1/ 332). وذكره الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 67).
(2) المائدة: 90
(3) النساء: بعض الآية 23

(1/48)


التحريم، فكلُّ نجس محرَّم، ولا عَكْس، وذلك لأنَّ الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكمٌ بتحريمها؛ بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإِنَّه يحرُم لُبْس الحرير والذهب، وهما طاهران ضرورة شرعية وِإجماعاً".
وجاء في "الدراري المضيَّة" (1) (1/ 28): "ولو كان مجرَّد تحريم الشيء مستلزماً لنجاسته لكان مِثل قوله تعالى: {حُرِّمتْ عَليكُمْ أمَّهاتُكُم ... } إِلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها، وهي طاهرة بالاتِّفاق كالأنصاب (2) والأزلام (3) وما يُسكر من النباتات والثمرات بأصل الخِلقة.
فإِن قلتَ: إِذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيَّته يدلُّ على أنَّه نجس كما قلتَ في نجاسة الروثة ولحم الخنزير؛ فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله تعالى: {إِنَّما الخَمْرُ والميْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ} (4)؟!
قلتُ: لمَّا وقع الخمر هنا مقترناً بالأنصاب والأزلام؛ كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرجسية إِلى غير النجاسة الشرعية.
وهكذا قوله تعالى: {إِنَّما المُشْركونَ نَجَسٌ} (5)؛ لمّا جاءت الأدلَّة
__________
(1) باختصار يسير.
(2) هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها. "تفسير ابن كثير".
(3) هي قداح كانوا يستقسمون بها. "تفسير ابن كثير".
(4) المائدة: 90
(5) التوبة: 28

(1/49)


الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين؛ كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم والتوضُّؤ في آنيتهم والأكل فيها؛ كان ذلك دليلاً على أنَّ المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية".
وجاء في "السيل الجرَّار" (1/ 35): "وليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسُّك به ... ".
ثمَّ ذكر أن الرِّجْس في آية المائدة إِنَّما هو الحرام وليس النجس؛ بدلالة السياق.

ثالثاً: روث وبول ما يؤكل لحمه:
عن أنس -رحمه الله- قال: "قدِم أناس من عُكْل أو عُرَيْنة، فاجْتَوَوا (1) المدينة، فأمرهم النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلقاح (2)، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلمَّا صحُّوا، قَتَلوا راعيَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستاقوا النَّعم، فجاء الخبر في أوَّل النهار، فبعَثَ في آثارهم، فلما ارتفع النهار؛ جيء بهم، فأَمَر، فقَطَع أيدِيَهم وأرجُلَهم، وسُمِّرت (3) أعينُهم، وأُلقوا في الحَرَّة (4) يَستسْقون فلا
__________
(1) أي: كرهوا المقام فيها لتضرّرهم بالإِقامة. قال ابن العربي: الجوى: داء يأخذ من الوباء، وهي بمعنى: استوخموا، وقد جاءت في رواية أخرى للبخاري: 4192، بهذا اللفظ.
(2) أى: فأمرهم أن يلحقوا بها. واللِّقاح: النُّوق ذوات الألبان، واحدها لِقْحة بكسر اللام وِإسكان القاف، وقال أبو عمرو: يقال لها ذلك إِلى ثلاثة أشهر، ثمَّ هي لَبون. "فتح".
(3) سُمّرت: لغة في السَّمل، وهو فقء العين بأي شيء كان، وقد يكون من المسمار، يريد أنَّهم كُحلوا بأميال قد أُحميت. "فتح".
(4) الحرَّة: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة.

(1/50)


يُسقون".
قال أبو قِلابة: "فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد أيمانِهم وحاربوا الله ورسولَه" (1).
قال الإِمام أبو البركات ابن تيمية -رحمه الله-: " ... فإِذا أُطْلِق الإِذن في ذلك (2)، ولم يشترط حائلاً يقي من الأبوال، وأُطلق الإِذن في الشرب لقوم حديثي العهد بالإِسلام، جاهلين بأحكامه، ولم يأمر بغَسْل أفواههم وما يصيبهم منها؛ لأجل صلاة ولا غيرها، مع اعتيادهم شربها؛ دلَّ ذلك على مذهب القائلين بالطهارة" (3).
وقال -رحمه الله-: "فتحليل التداوي بها دليل على طهارتها، فأبوال الإِبل وما يلحق بها طاهرة" (4).
وقال: "والظاهر طهارة الأبوال والأزبال من كل حيوان يؤكل لحمه؛ تمسُّكاً بالأصل، واستصحاباً للبراءة الأصلية، والنجاسة حُكم شرعيٌّ ناقل عن الحُكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة، فلا يُقبل قول مدَّعيها إلا بدليل يصلُح للنقل عنهما، ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلاً كذلك ... " (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 233، ومسلم: 1671
(2) أي: الشرب من هذه الأبوال.
(3) "نيل الأوطار" (1/ 62).
(4) "نيل الأوطار" (1/ 60).
(5) "نيل الأوطار" (1/ 61).

(1/51)


واستدلَّ بهذا الحديث من قال بطهارة بول ما يُؤكل لحمه (1).
واستدلوا معه أيضاً بقول ابن مسعود -رحمه الله-: "إِنَّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم" (2)، وذلك أنَّ التحليل يستلزم الطهارة (3).
وفي الحديث: "صلّوا في مرابض الغنم (4)، ولا تصلُّوا في أعطان الإِبل (5) " (6).
وفي بعض الروايات: "فإِنَّها خُلقت من الشياطين" (7).
وعن جابر بن سَمُرة -رضي الله عنهما-: أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أأتوضَّأ من لحوم الغنم؟ قال: "إِن شئت؛ فتوضأ، وإن شئت؛ فلا توضَّأ".
__________
(1) انظر "نيل الأوطار" (1/ 60).
(2) إِسناده صحيح موقوفاً على ابن مسعود -رضي الله عنه- وعلَّقه البخاري بصيغة الجزم (كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، "الفتح" (78)، وقال شيخنا الألباني في "الصحيحة" تحت رقم (1633): "إِسناده صحيح".
(3) ولكنَّ التحريم لا يستلزم النجاسة؛ كما تقدَّم.
(4) جمع مَربِض -بفتح الميم وكسر الباء- وهو المأوى والمقرّ.
(5) جمع عَطن؛ قيل: موضع إِقامتها عند الماء خاصّة، وقيل: هو مأواها المطلق، وسواء كان هذا أو ذاك؛ فالأبوال والأرواث حاصلة.
(6) أخرجه الترمذي، وقال "حديث حسن صحيح" وانظر "الإرواء" (176). و"المشكاة" (739)، والنهي عن الصلاة في أعطان الإبِل لا يقتَضي القولَ بنجاستِها؛ كما لا يخفى.
(7) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (623)، وانظر "الإِرواء" (176).

(1/52)


قال: أتوضَّأ من لحوم الإِبل؟ قال: "نعم؛ فتوضَّأ من لحوم الإِبل". قال: أصلِّي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". قال: أصلِّي في مبارك الإِبل؟ قال: "لا" (1).
جاء في "الفتاوى": "وسُئل عن بول ما يؤكل لحمه؛ هل هو نجس؟
فأجاب: أمّا بول ما يؤكل لحمه وروث ذلك، فإِنَّ أكثر السلف على أنَّ ذلك ليس بنجس وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما، ويُقال: إِنَّه لم يذهب أحد من الصحابة إِلى تنجيس ذلك، بل القول بنجاسة ذلك قول مُحْدَث، لا سَلَف له من الصحابة، وقد بَسَطنا القول في هذه المسألة في كتاب مفرد، وبيَّنَّا فيه بضعة عشر دليلاً شرعيّاً، وأنَّ ذلك ليس بنجس، والقائل بتنجيس ذلك ليس معه دليل شرعيٌّ على نجاسته أصلاً" (2).
وجاء فيه أيضاً: " ... أنَّ هذه الأعيان لو كانت نجسة؛ لبيَّنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يبيِّنْه؛ فليست نجسة، وذلك لأنَّ هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها، ومباشرتهم لكثير منها، خصوصاً الأمَّة التي بُعِث فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإِنَّ الإِبِل والغنم غالب أموالهم، ولا يزالون يُباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم، مع كثرة الاحتفاء فيهم.
فلو كانت نجسة يجب غسل الثياب والأبدان والأواني منها، وعدم مخالطته، ويمنع من الصلاة مع ذلك، ويجب تطهير الأرض ممَّا فيه ذلك إِذا صُلّي فيها، ويحرُم شرب اللبن الذي يقع فيه بعْرها، وتُغسل اليد إِذا أصابها البول أو رطوبة البعر، إِلى غير ذلك من أحكام النجاسة؛ لوجب أن يبيِّن النّبيّ
__________
(1) أخرجه مسلم: 360
(2) انظر "الفتاوى" (21/ 613) وما بعدها.

(1/53)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بياناً تحصل به معرفة الحكم، ولو بيَّن ذلك؛ لنُقِل جميعه أو بعضه؛ فإِنَّ الشريعة وعادة القوم توجب مِثل ذلك، فلمَّا لم ينقل ذلك؛ عُلِم أنَّه لم يبيِّن لهم نجاستها.
وعدم ذِكْر نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها وعدم النَّهي عنه، والتقرير دليل الإِباحة، ومِن وجْه أنّ مِثل هذا يجب بيانه بالخطاب، ولا تُحال الأمّة فيه على الرَّأي؛ لأنَّه من الأصول، لا من الفروع ... " (1).
وجاء فيه أيضاً: "ومتى قام المقتضي للتحريم أو الوجوب ولم يذكُروا وجوباً ولا تحريماً؛ كان إِجماعاً منهم على عدم اعتقاد الوجوب والتحريم، وهو المطلوب، وهذه الطريقة معتمدة في كثير من الأحكام" (2).
وفيه أيضاً: " ... وهو إِجماع الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها، مع القطع ببولها وروثها على الحنطة، ولم ينكر ذلك منكر، ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحدٌ، ولا احترز عن شيء ممَّا في البيادر؛ لوصول البول إِليه، ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة" (3).
وفيه أيضاً: "ما ثبت واستفاض من أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على راحلته، وأدخَلها المسجد الحرام الذي فضَّله الله على جميع بقاع الأرض، ومعلوم أنَّه
__________
(1) انظر "الفتاوى" (21/ 578 وما بعدها) بحذف يسير.
(2) انظر "الفتاوى" (21/ 581).
(3) "الفتاوى" (21/ 583 و 584)؛ بحذف يسير.

(1/54)


ليس على الدواب من العقل ما تمنع به من تلويث المسجد المأمور بتطهيره؛ للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود، فلو كانت أبوالها نجسة؛ لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس ... " (1).
قال ابن عباس: "طاف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعيره" (2).
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "شكوت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفتُ، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ يصلّي إِلى جنب البيت، وهو يقرأ: {والطُّور وكِتابٍ مَسْطورٍ} (3) " (4).
قال ابن بطال: "في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يؤكل لحْمها المسجد إِذا احتيج إِلى ذلك؛ لأنَّ بولها لا ينجسه؛ بخلاف غيرها من الدواب" (5).
قال البخاري -رحمه الله-: "وصلّى أبو موسى في دار البريد والسِّرْقين
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 573 و 574)؛ بحذف يسير.
(2) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في "كتاب الصلاة" ووصله في "كتاب الحج" برقم (1607) من حديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "طاف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجّة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن" ورواه مسلم: 1272
والمحجن: عصا محنيَّة الرأس، والحجن: الاعوجاج.
(3) الطور: 1 - 2
(4) أخرجه البخاري: 1619
(5) "الفتح" تحت الحديث (464).

(1/55)


والبَرِّيَّة إِلى جنبه، فقال: ها هنا وثمَّ سواء" (1).

رابعاً: الدماء سوى دم الحيض والنفاس:
كنت قد تكلّمتُ في (باب النجاسات) عن نجاسة دم الحيض، وأما سائر الدِّماء؛ فطاهرة، سواء كان دم إِنسان أو دم مأكول اللحم من الحيوان؛ لأنَّ الأصل في الأعيان الطهارة، والبراءة الأصلية مستصحبة، فلا يُترك هذا الأصل إلا بنصٍّ صحيح.
ومن الأدلة على ذلك:
قصّة ذلك الصحابي الأنصاري الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلّي، فاستمرَّ في صلاته والدماء تسيل منه، وذلك في غزوة ذات الرقاع (2).
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (كتاب الوضوء، باب أبوال الإِبِل والدواب والغنم ومرابضها).
قال الحافظ: "وهذا الأثر وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة له".
والسِّرقين: هو الزّبل، ويُقال له: السِّرجين بالجيم. والبرية: الصحراء، منسوبة إِلى البر.
ودار البريد المذكورة: موضع بالكوفة، كانت الرسل تنزل فيه إِذا حضرت من الخلفاء إِلى الأمراء، وكان أبو موسى أميراً على الكوفة في زمن عمر وفي زمن عثمان، وكانت الدار في طرف البلد، ولهذا كانت البرِّيَّة إِلى جنبها.
وقال المطرزي: البريد في الأصل: الدابَّة المرتبة في الرباط، ثمَّ سمّي به الرسول المحمول عليها، ثمَّ سُمّيت به المسافة المشهورة. "الفتح".
ومعنى سواء: يريد أنَّهما متساويان في صحة الصلاة. "الفتح" أيضاً.
(2) أخرجه أبو داود وغيره من حديث جابر بسند حسن؛ كما في "الصحيحة" (300).

(1/56)


قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "ومن الظاهر أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِم بها؛ لأنَّه يبعُد أن لا يطَّلع على مِثل هذه الواقعة العظيمة، ولم يُنْقَل أنَّه أخبره بأنّ صلاته بطلت؛ كما قال الشوكاني (1/ 165) " (1).
وكذلك قول الحسن -رحمه الله تعالى-: "ما زال المسلمون يصلُّون في جراحاتهم" (2).
وعن محمد بن سيرين عن يحيى الجزَّار؛ قال: "صلى ابن مسعود -رضي الله عنه- وعلى بطنه فرث ودم جزور نحرها، ولم يتوضَّأ" (3).
وصحَّ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أيضاً: "أنَّه نحر جزوراً، فتلطَّخ بدمها وفرْثها، ثمَّ أقيمت الصلاة، فصلى ولم يتوضَّأ" (4).
فائدة:
إِنَّ القائلين بنجاسة الدماء ليس عندهم حُجَّة؛ إِلا أنَّه محرَّم بنصّ القرآن، فاستلزموا من التحريم التنجيس؛ كما فعلوا تماماً في الخمر، ولا يخفى أنَّه لا يلزم من التحريم التنجيس؛ بخلاف العكس؛ كما بيّنه الصنعاني في "سبل
__________
(1) انظر "الصحيحة" تحت رقم (300).
(2) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (كتاب الوضوء، باب من لم يرَ الوضوء إلاَّ من المخرَجيْن).
(3) أخرجه عبد الرزاق في "الأمالي" (2/ 51/1) وغيره، وِإسناده صحيح؛ كذا في "الصحيحة" (تحت رقم 300).
(4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/ 125)، وغيره؛ كما في "تمام المنّة" (ص 52).

(1/57)


السلام" ثمَّ الشوكاني وغيرهما ... " (1).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- "وجملة القول: أنَّه لم يَرِد دليل فيما نعلم على نجاسة الدم على اختلاف أنواعه؛ إلا دم الحيض، ودعوى الاتفاق على نجاسته منقوضة بما سبق من النقول، والأصل الطهارة، فلا يُتْرَك إلاَّ بنص صحيح يجوز به ترْك الأصل، وإِذ لم يَرِدْ شيء من ذلك؛ فالبقاء على الأصل هو الواجب، والله أعلم" (2).
وذكر نحوه الشوكاني -رحمه الله- في "السيل الجرَّار" (3) و"الدَّراري المضيَّة" (4).

خامساً: رطوبات فرج المرأة:
وذلك لاستصحاب البراءة الأصلية؛ كما تقدَّم مراراً ذِكر هذه القاعدة، ولا أعلم أحداً من أهل العلم ذكَرها في النجاسات.
واحتجَّ الشَّيخُ الموفَّقُ وغيره على طهارة رطوبة فرجِ المرأة: بأنَّ منيَّ الرَّجل عند الجماع يخالطُ منيَّ المرأة، ولو كان منيُّها نجساً؛ لما اكتفى منه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفرك. "الفتح" (شرح الحديث 230).
__________
(1) انظر فقه حديث (300) من "الصحيحة".
(2) انظر "الصحيحة" تحت رقم (301).
(3) (1/ 44).
(4) (1/ 25 - 26).

(1/58)


سادساً: قيء الآدمي:
إِذِ الأصل الطهارة، فلا يُنقل عنها إلا بدليل.
قال الشوكاني في "السيل الجرَّار" (1/ 43): "قد عرَّفناك في أول كتاب الطهارة أنَّ الأصل في جميع الأشياء الطهارة، وأنَّه لا يَنْقُل عن ذلك إلاَّ ناقلٌ صحيح صالح للاحتجاج به غيرَ معارض بما يرجُح عليه أو يساويه، فإِنْ وجدنا ذلك؛ فبها ونعمت، وإِنْ لم نجدْ ذلك كذلك؛ وَجَب علينا الوقوف في موقف المنع، ونقول لمدَّعي النجاسة:
هذه الدعوى تتضمَّن أنَّ الله سبحانه أوجب على عباده واجباً هو غسل هذه العين التي تزعم أنَّها نجسة، وأنَّه يمنع وجودها صحة الصلاة بها؛ فهات الدليل على ذلك".
ولم يذكره -رحمه الله- في النجاسات في "الدرر البهية" (1).
وإلى طهارة قيء الآدمي ذهب شيخنا الألباني في "تمام المنة" (2).

سابعاً: عرق الجنب والحائض:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقِيَه في بعض طريق المدينة وهو جُنُب، فانخَنَسْتُ منه، فذهب فاغتسل ثمَّ جاء، فقال: "أين كنت يا أبا هريرة؟ ". قال: كنتُ جُنُباً، فكرهتُ أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقال: "سبحان الله! إِنَّ المسلم لا ينجس" (3).
__________
(1) وانظر "تمام المنَّة" (53).
(2) (ص 53).
(3) أخرجه البخاري: 283، ومسلم: 371 نحوه، وتقدّم.

(1/59)


وبوَّب البخاري في "صحيحه" باباً في ذلك، فقال: "باب عرق الجُنُب، وأن المسلم لا ينجُسُ".

ثامناً: ميتة ما لا نفس له سائلة:
كالذُّباب والنَّمل والعنكبوت ونحو ذلك ... وذلك لأنَّ الأصل في الأعيان الطهارة والبراءة الأصلية مستصحبة.
وفي الحديث: "إِذا وقع الذُّباب في إِناء أحدكم؛ فلَيغْمِسْه كلَّه، ثمَّ ليطْرَحْه؛ فإِنَّ في إِحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء" (1).
وإِنَّما أمر بغمس الذباب كلّه حفاظاً على الطعام أو الشراب، وفيه دليل الطهارة.
وممَّن قال بطهارة ما لا نفس له سائلة: أبو البركات مجد الدين ابن تيمية في "منتقى الأخبار"، والشوكاني في شرحه "نيل الأوطار" (1/ 68).
والصنعاني في "سبل السلام" (1/ 36).