الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

إِزالة النجاسات
أولاً: حكم إِزالة النجاسة:
وحكم إِزالة النجاسات فرض.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "وإِزالة النجاسة وكل ما أمَر الله تعالى بإِزالته فرض".
__________
(1) أخرجه البخاري: 5782

(1/60)


وقال: "وهذه المسألة تنقسم أقساماً كثيرة، يجمعها أنَّ كلَّ شيء أمَر الله تعالى على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باجتنابه أو جاء نصٌّ بتحريمه أو أمَر كذلك بغسله أو مسْحه؛ فكلُّ ذلك فرض يعصي مَن خالفه؛ لما ذكرنا قَبْل مِنْ أَنَّ طاعته تعالى وطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض" (1).

ثانياً: قاعدة جليلة جامعة في تطهير النجاسات:
جاء في "السيل الجرَّار" (1/ 42): "والواجب اتِّباع الدليل في إِزالة عين النجاسة، فما ورد فيه الغَسْل حتى لا يبقى منه لون ولا ريح ولا طعم؛ كان ذلك هو تطهيره. وما ورَد فيه الصبُّ أو الرشُّ أو الحتُّ أو المسح على الأرض أو مجرَّد المشي في أرض طاهرة؛ كان ذلك هو تطهيره.
وقد ثبت في السنَّة أنً النعل الذي يصيبه القذر يطهَّر بالمسح، وهو من المغلَّظة اصطلاحاً، وكذلك ورد في الثوب إِذا أصابه القذر عند المشي على أرض قذرة أنَّه يطهِّره المرور على أرض طاهرة" (2).

ثالثاً: تطهير النجاسات:
1 - العَذِرة (الغائط):
وتُزال عند الاستنجاء بالماء أو الحجارة ونحوه:
أمّا الماء:
فلقوله تعالى: {فيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا} (3).
__________
(1) "المحلَّى" (مسألة 120).
(2) هناك تفصيلات طيبة (ص 46 وما بعدها)، فارجع إِليها -إِن شئت-.
(3) التوبة: 108

(1/61)


وقد نزلت هذه الآية في أهل قِباء؛ لأنهم كانوا يستنجون بالماء؛ كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "نزلت هذه الآية في أهل قِباء: {فيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا} ". قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية" (1).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرج لحاجته؛ أجيء أنا وغلام معنا إِداوة (2) من ماء؛ يعني: يستنجي به" (3).
وأمّا الحجارة:
فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" (4).
وعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا ذهب أحدُكم إِلى الغائط؛ فليستطب بثلاثة أحجار؛ فإِنَّها تجزئ عنه" (5).
وأمّا ما يسدُّ عن الحجارة؛ كالورق ونحوه؛ فإِنَّه مستنبَط من عدَّة نصوص؛ منها:
ما يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: اتَّبعتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرج
__________
(1) أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وهو في "صحيح سنن أبي داود" (34)، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (45).
(2) إناء صغير من جلد؛ كما تقدَّم.
(3) أخرجه البخاري: 150، وتقدَّم.
(4) أخرجه مسلم: 262
(5) أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، وصحّحه شيخنا -حفظه الله- في "الإرواء" (44).

(1/62)


لحاجته. فكان لا يلتفت، فدنوتُ منه، فقال: "ابغني أحجاراً أستنفض بها - أو نحوه-، ولا تأتني بعظم ولا روث" (1).
فنهيُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العظم والرَّوث دالٌّ على جواز ما سواهما ممّا تزال به النجاسة، ولو لم يَجُزْ هذا؛ لقال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابغني أحجاراً أستنفض بها" وسكت، أو قال: ولا تأتني بغيرها؛ بيدَ أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ولا تأتني بعظم ولا روث".
ومن المعلوم أنَّ النجاسات محصورة؛ بخلاف الأعيان الطاهرة؛ فإِنَّها غير ْمحصورة، فحصْر النهي عن العظم والروث يدلُّ على جواز استعمال غيرهما.
وقد علَّل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبب هذا النهي، فقال: "لا تستنجوا بالرَّوث ولا بالعظام؛ فإِنَّه زاد إِخوانكم من الجنِّ" (2).
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " ... وهذا كما أنَّه لمَّا أمر بالاستنجاء بالأحجار؛ لم يختصَّ الحجر؛ إِلا لأنَّه كان الموجود غالباً، لا لأنَّ الاستجمار بغيره لا يجوز، بل الصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغيره؛ كما هو أظهر الروايتين عن أحمد؛ لنهيه عن الاستجمار بالروث
__________
(1) أخرجه البخاري: 155
قال الحافظ في "الفتح -بحذف يسير-: "ابغِني؛ بالوصل من الثلاثي؛ أي: اطلب لي، وفي رواية بالقطع؛ أي: أعنِّي على الطَّلب، يُقال: أبغيتك الشيء؛ أي: أعَنْتُك على طلبه، والوصل أليق بالسياق".
ومعنى أستنفض: "أستخرج بها وأستنجي، والنفض: هزّ الشيء ليطير غباره".
(2) أخرجه الترمذي وغيره، وروى مسلم نحوه، وانظر "الإِرواء" (46).

(1/63)


والرِّمَّةَ (1) وقال: "إِنهما طعام إِخوانكم من الجنِّ" فلمّا نهى عن هذين تعليلاً بهذه العلَّة؛ عُلم أنَّ الحكم ليس مختصاً بالحجر، وإلاَّ لم يحتج إِلى ذلك" (2). وذكر نحوه الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (1/ 256).
وقال الشوكاني -رحمه الله- في "الدراري المضية": "وإِذا لم توجد الأحجار؛ فغيرها يقوم مقامها للضرورة؛ ما لم يكن ذلك الغير ممَّا ورد النهي عنه؛ كالروثة والرجيع (3) والعظم ... " (4).
وتُطهّر العَذِرة من النِّعال بالتُّراب:
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وطئ أحدُكم بنعليه أذى؛ فإِنَّ التراب له طَهور" (5).
وفي رواية: "إِذا وطئ الأذى بخُفَّيه؛ فطَهورهما التراب" (6).

2 - دم الحيض:
وتطهير دم الحيض من الثوب بحكِّه بضِلع وغَسْله بماء وسِدْر أو صابون ونحوه، ثم ينضح الماء في سائر الثوب:
__________
(1) أي: العظم البالي.
(2) "الفتاوى" (21/ 205).
(3) أي: الرَّوث.
(4) (1/ 40 - 41).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (371) وغيره، وانظر "المشكاة" (503). وتقدَّم.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (372)، والحاكم في "المستدرك". وتقدم.

(1/64)


لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حُكِّيه بضِلْع، واغسليه بماء وسِدْر" (1).
وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "سمعت امرأة تسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثوبها؛ إِذا طَهُرت من حيضها؛ كيف تصنع به؟
قال: إِن رأيتِ فيه دماً؛ فحُكِّيه، ثم اقرصيه بماء، ثم انضحي في سائره، فصلِّي فيه" (2).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الصحيحة" (299): "في هذه الرواية زيادة: "ثم انضحي في سائره"، وهي زيادة هامَّة؛ لأنَّها تبيِّن أنَّ قوله في رواية هشام: "ثم لتنضحه"؛ ليس المراد نضح مكان الدم، بل الثوب كله.
ويشهد له حديث عائشة قالت: "كانت إِحدانا تحيض، ثمَّ تقرص الدَّم من ثوبها عند طهرها، فتغسله، وتنضح على سائره، ثمَّ تصلِّي فيه" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنَّ خولة بنت يَسار -رضي الله عنها- أتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله! إِنَّه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: "إِذا طَهُرْتِ؛ فاغسليه، ثمَّ صلِّي فيه".
__________
(1) الضِّلع: العود الذي فيه اعوجاج، وتقدَّم معناه وتخريج الحديث في (باب النجاسات).
(2) أخرجه أبو داود، والدارمي -والسياق له- والبيهقي وسنده حسن؛ كما في "الصحيحة" (1/ 539) تحت رقم (299).
وهو في "صحيح البخاري" (307) بلفظ: "إِذا أصاب ثوب إحداكنَّ الدم من الحيضهّ؛ فلتَقْرصه، ثمَّ لتنضَحْه بماء، ثمَّ لتصلِّي فيه".
(3) أخرجه البخاري: 308 وابن ماجه، والبيهقي: (2/ 406 - 407).

(1/65)


فقالت: فإِنْ لم يخرج الدَّم؟ قال: "يكفيك غسل الدم، ولا يضرُّك أثره" (1).
قال الشوكاني -رحمه الله-: "ويستفاد من قوله: "لا يضرُّك أثره": أنَّ بقاء أثر النجاسة الذي عسُرت إِزالته: لا يضرُّ، لكن بعد التغيير بزعفران أو صفرة أو غيرهما، حتى يذهب لون الدم؛ لأنَّه مستقذر، وربَّما نسَبها من رآه إِلى التقصير في إِزالته" (2).

3 - الإِناء الذي ولغ فيه الكلب:
ويكون ذلك بغسله سبع مرات أولاهنَّ بالتراب.
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طَهور إِناء أحدكم إِذا ولَغَ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات
أولاهنَّ بالتراب" (3).

4 - البول:
ويُطهَّرُ البول عموماً بالغَسْل:
ومن الأدلة على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... وبول الجارية يُغسل" (4).
__________
(1) عن "صحيح سنن أبي داود" (351).
(2) " نيل الأوطار" (1/ 50).
(3) أخرجه مسلم: 279، وتقدَّم. وورد في "صحيح البخاري" بلفظ: "إِذا شرب الكلب في إِناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً"، وتقدَّم.
وقد وردت في بعض الروايات: "السابعة بالتراب"،وهذا القول شاذٌّ، والأرجح: "الأولى بالتراب". وانظر "صحيح سنن أبي داود" (66).
(4) تقدَّم.

(1/66)


وأمّا إِذا كان بول ذَكَر رضيع لم يَطْعَم؛ فيخفَّف فيه بالنَّضح كما تقدَّم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث السابق: "بَوْل الغلام يُنْضَح".
وكما في حديث أمِّ قيس بنت مِحْصَن -رضي الله عنها-: "أنَّها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأجْلَسَه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حِجْره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغْسِلْه" (1).
وكذلك حديث أبي السَّمح -رضي الله عنه- قال: كنتُ أخدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إِذا أراد أن يغتسل؛ قال: "ولِّني قفاك"، فأوليّه قفاي، فأستره به، فأُتي بحسن -أو حسين-، فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: "يُغْسَل من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام" (2).
وأمّا الأرض التي يصيبها البول:
فيَتِمُّ تطهيرها بأخذ ما بيل عليه من التراب وإلقائه، ثمَّ يُصبُّ على مكانه الماء.
فعن أبي هريرة: "أنَّ أعرابياً دخل المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس، فصلَّى ركعتين، ثمَّ قال: اللهمَّ ارحَمْني ومحمَّداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد تحجَّرتَ واسعاً" (3)، ثمَّ لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إِليه، فنهاهم النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "إِنَّما بُعِثْتم ميسِّرين، ولم تُبْعَثوا معسِّرين، صبُّوا عليه سَجْلاً من ماء أو قال: ذَنوباً من ماء) " (4).
__________
(1) تقدَّم.
(2) تقدَّم.
(3) أي: ضيَّقْتَ ما وسَّعه الله، وخصَّصْتَ به نفسك دون غيرك. "النهاية".
(4) أخرجه البخاري: 220، ومسلم: 284 وأبو داود -وهذا لفظه- وغيرهم.

(1/67)


وفي رواية عبد الله بن معقل بن مقرِّن؛ قال: "صلَّى أعرابي مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بهذه القصة، وقال فيه): قال -يعني: النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --: "خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء" (1).

5 - إِزالة الأذى من الذيل (2) والثَّوب:
عن أمِّ ولد لإِبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: "أنَّها سألت أم سلمة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إِنِّي إِمرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذِر، فقالت أمّ سلمة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُطهِّره ما بعده" (3).
وعن امرأة من بني عبد الأشهل -رضي الله عنها- قالت: "قلتُ: يا رسول
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (367).
وقال أبو داود: وهو مرسَل؛ ابن معقِل لم يدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
قال شيخنا -حفظه الله-: "قلتُ: وهو مرسل صحيح الإِسناد، ورجاله كلهم ثقات، رجال الشيخين، وقد جاء مرسلاً وموصولاً من طرق أخرى، فالحديث بهما صحيح".
ومن الطرق الموصولة التي ذكَرها شيخنا طريق أنس: أنَّ أعرابياً بال في المسجد، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احفِروا مكانه، ثمَّ صبُّوا عليه ذَنوباً من ماء".
وهذا إِسنادٌ رجالُه ثقات؛ كما قال الحافظ في "تلخيص الحبير" (1/ 37).
عن "صحيح سنن أبي داود" الأصل من نسخة شيخنا -حفظه الله تعالى-.
قلتُ: وذكر الحافظ في "الإِصابة" (3/ 142) رقم (6643) أنَّه عبد الله بن مُغفَّل.
(2) الذيل: آخر كل شيء، وذيل الإِزار والثوب: ما جُرَّ. "القاموس المحيط".
(3) صحيح بما بعده، وانظر "صحيح سنن أبي داود " (369)، و"المشكاة" (504).

(1/68)


الله! إِنَّ لنا طريقاً إِلى المسجد مُنْتِنة، فكيف نفعل إِذا مُطرنا؟ قال: "أليس بعدها طريق هى أطيب منها؟ ". قالت: قلتُ: بلى. قال: "فهذه بهذه" (1).

6 - الوَدْي:
ويُطهَّر بالغَسْل.

7 - المَذْي:
يُطهَّر ما لامس الفرج منه والأنثيين بالغَسْل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليغسل ذكره وأنثييه" (2).
ويُطهره من الثياب بالنضح والرش:
كما في حديث سهل بن حُنيف -رضي الله عنه-: ... فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: "يكفيك أن تأخذ كفّاً من ماء، فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه أصاب منه" (3).

8 - جلد الميتة:
ويكون ذلك بدبغها:
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُبِغ الإِهاب؛ فقد طهُر" (4).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيّما إِهاب دُبِغ فقد طَهُر" (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (370). وانظر "المشكاة" (512).
(2) تقدَّم.
(3) تقدَّم.
(4) أخرجه مسلم: 366، وتقدَّم.
(5) تقدَّم في (باب النجاسات).

(1/69)


9 - إِذا وقع الفأر في السمن ونحوه:
يُلقي الفأر وما حوله، ويؤكَل السمن وما شابهه، هذا إِذا لم يكن في السمن المتبقِّي أثر لنجاسة في طعمٍ أو لونٍ أو رائحة، وإلاَّ؛ ألْقى ما تبقَّى.
وحُكم السَّمْن أو الزَّيْت؛ كحُكم الماء ولا فرق، وضابط الأمر يرتبط ببقاء أثرٍ للنَّجاسة أم لا.
ولا فرق بين القول في الجامد والمائع؛ إِلا من هذا الباب، وهو بقاء الأثر أو عدمه والله أعلم.
قال الزُّهري: "لا بأس بالماء ما لم يغيِّره طعمٌ أو ريحٌ أو لونٌ" (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن ميمونة: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن فأرة سقطت فىِ سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم" (2).
وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن الزيت إِذا كان في بئر، ووقع فيه نجاسة، فما الحكم إِذا كان دون القُلَّتين؟
فأجاب -رحمه الله-: "إِذا كان أكثر مِن القُلَّتين؛ فهو طاهر عند جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ...
__________
(1) أورده البخاري في "صحيحه" (كتاب الوضوء باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء) معلَّقاً بصيغة الجزم، ووصَله ابن وهب في "جامعه" عن يونس عنه.
وروى البيهقي معناه من طريق أبي عمرو -وهو الأوزاعي- عن الزهري. كذا في "الفتح".
(2) أخرجه البخاري: 235، وغيره.

(1/70)


والأظهر أنَّه إِذا لم يكن للنجاسة فيه أثر، بل استهلكت فيه، ولم تغيِّر له لوناً ولا طعماً ولا ريحاً؛ فإِنَّه لا ينجُس، والله أعلم" (1).

10 - إِذا كان الماء كثيراً ووقعت فيه نجاسة:
إِن كان الماء لم يتغيَّر بالنجاسة؛ فهو طاهر، وِإنْ كانت عين النجاسة باقية؛ أُخِذَتْ منه ونُزِحَتْ وأُلقِيَت، وبهذا يكون سائر الماء طاهراً.
جاء في "الفتاوى": "وسُئل -رحمه الله- عن بئر وقع فيه كلب أو خنزير أو جمل أو بقرة أو شاة، ثمَّ مات فيها، وذهَب شعره وجلده ولحْمه، وهو فوق القُلَّتين؛ فكيف يُصنع به؟
فأجاب: الحمد لله، أي بئر وقع فيه شيء ممَّا ذكر أو غيره: إِنْ كان الماء لم يتغيَّر بالنجاسة؛ فهو طاهر، فإِن كانت عين النجاسة باقية؛ نُزِحَتْ منه وأُلقِيَتْ، وسائر الماء طاهر ...
وأمّا إِنْ كان الماء قد تغيَّر بالنجاسة؛ فإِنَّه يُنْزَحُ منه حتى يطيب، وإن لم يتغيَّر الماء؛ لم يُنْزَحْ منه شيء ... (وذكر حديث بئر بُضاعة) " (2).

11 - الماء القليل إِذا تنجَّس يطهُر بالمكاثرة:
وذلك حتى لا يبقى أثرُ ريحٍ أو طعمٍ أو لونٍ لنجاسة، وهذا إِذا تعذَّر التخلُّص من النجاسة؛ لظرف المكان ونحوه، إِذ الأصل إِزالة هذه النجاسة ونضْحها.
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 529).
(2) "الفتاوى" (21/ 38 - 39).

(1/71)


12 - حبل الغسيل:
أما حبْل الغسيل؛ فيطهر إِذا صَعُبَ غسْله بالشمس والريح.
"وإن كان سِلكاً يمكنه مسْحه؛ فليَفْعَل" (1).

13 - إِذا استحالت النجاسة في الماء ولم يبق لها أثر؛ فإِنَّ الماء طهور:
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- (2): والصواب هو القول الأول (3)، وأنه متى عُلم أنَّ النجاسة قد استحالت؛ فالماء طاهر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وكذلك في المائعات كلِّها، وذلك لأنَّ الله تعالى أباح الطيِّبات وحرَّم الخبائث، والخبيث متميِّز عن الطيِّب بصفاته، فإِذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيِّب دون الخبيث؛ وجَبَ دخولُه في الحلال دون الحرام.
وأيضاً؛ فقد ثبَت من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قيل له: أتتوضأ من بئر بُضاعة (وهي بئر يلقى فيها الحِيَض (4) ولحوم الكلاب
والنتن)؟ فقال: "الماء طهور لا ينجِّسه شيء" (5).
__________
(1) هذا مما استفدته من شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-.
(2) "الفتاوى" (21/ 32 - 33).
(3) وقد ذكر خمسة أقوال في المسألة، وقال في الأول: "لا ينجس".
(4) الحِيَض: بكسر الحاء وفتح الياء جمع حيضة -بكسر الحاء وسكون الياء: هي الخرقة التي تستعمل في دم الحيض، وانظر "تحفة الأحوذي" (1/ 204).
(5) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (60) وغيرهما، وتقدَّم. وانظر "الإرواء" (14).

(1/72)


وهذا اللفظ عامٌّ في القليل والكثير، وهو عامٌّ في جميع النجاسات.
وأمَّا إِذا تغيَّر بالنجاسة؛ فإِنما حرُم استعماله؛ لأنَّ جرْم النجاسة باقٍ، ففي استعماله استعمالها؛ بخلاف ما إِذا استحالت النجاسة؛ فإِنَّ الماء طَهور، وليس هناك نجاسةٌ قائمة.
ومما يبيِّن ذلك؛ أنَّه لو وقع خمر في ماء، واستحالت، ثمَّ شربها شارب؛ لم يكن شارباً للخمر، ولم يجب عليه حدُّ الخمر، إِذ لم يبقَ شيء من طعْمها ولونها وريحها، ولو صُبَّ لبن امرأة في ماء، واستحال، حتى لم يبقَ له أثر، وشرب طفلٌ ذلك الماء؛ لم يَصِرْ ابنها من الرضاعة بذلك.
وأيضاً؛ فإِنَّ هذا باق على أوصاف خلقته، فيدخل في عموم قوله تعالى: { ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}؛ فإِنَّ الكلام إِنَّما هو فيما لم يتغيَّر بالنجاسة؛ لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه".
وبه قال الشوكاني -رحمه الله- في "السيل الجرَّار".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 611): " ... وعلى هذا؛ فدخان النار الموقدة بالنجاسة طاهر، وبخار الماء النَّجس الذي يجتمع في السقف طاهر".
"وسئل -رحمه الله- عن استحالة النجاسة؛ كرماد السِّرجين (1) والزّبل النَّجس تصيبه الريح والشمس فيستحيل تراباً؛ فهل تجوز الصلاة عليه أم لا؟
فذَكَر أنَّ فيها قولين في مذهب مالك وأحمد، أحدهما أنَّ ذلك طاهر، وهو قول أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم، وهذا القول هو الراجح.
__________
(1) أى: الزّبل.

(1/73)


وقال -رحمه الله-: فأمَّا الأرض إذا أصابها نجاسة؛ فمن أصحاب الشافعي وأحمد من يقول: أنَّها تطهُر، وإن لم يقل بالاستحالة؛ ففي هذه المسألة مع مسألة الاستحالة ثلاثة أقوال، والصواب الطهارة في الجميع" (1).

رابعاً: هل الماء متعيّن في إِزالة النجاسة:
الماء متعيّن لإِزالة النجاسة؛ إلاَّ ما ورد فيه النصُّ؛ كالثوب يطهِّره المرور على أرض طاهرة، والنِّعال بالتراب ... ونحو ذلك.
قال شيخنا الألباني -حفطه الله-؛ -بعد حديث "حُكِّيه بضِلْع، واغسليه بماء وسِدْر" (2) -: يُستفاد من هذه الأحاديث أحكام كثيرة، أذكر أهمَّها:
.... أنَّ النجاسات إِنَّما تُزال بالماء دون غيره من المائعات؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة دم الحيض، ولا فرق بينه وبينها اتِّفاقاً، وهو مذهب الجمهور، ومذهب أبو حنيفة إِلى أنَّه يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر.
قال الشوكاني: والحقُّ أنَّ الماء أصْلٌ في التطهير؛ لوصفه بذلك كتاباً وسُنَّةً مطلقاً غير مقيَّد، لكن القول بتعيُّنه وعدم إِجزاء غيره يردُّه (3).
مسْح النعل، وفرْك المنيِّ (4) وإماطته بإِذخِرة ...
__________
(1) انظر "الفتاوى" (21/ 478 و479).
(2) تقدَّم في (باب إِزالة النجاسة).
(3) "نيل الأوطار" (ص 48 و49).
(4) ومضى الكلام حول طهارة المنيّ.

(1/74)


وأمثال ذلك كثير، فالإِنصاف أن يُقال: إِنَّه يطهَّر كلُّ فرد من أفراد النجاسات المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النصُّ، لكنَّه إِنْ كان ذلك الفرد المحال عليه هو الماء؛ فلا يجوز العدول إِلى غيره؛ للمزيَّة التي اخُتصَّ بها، وعدم مساواة غيره له فيها، وإنْ كان ذلك الفرد غير الماء؛ جاز العدول عنه إِلى الماء لذلك، وإنْ وجد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع الإِحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهِّرات، بل مجرد الأمر بمطلق التطهير، فالاقتصار على الماء هو اللاَّزم؛ لحصول الامتثال به؛ للقَطع، وغيره مشكوك فيه، وهذه طريقة متوسِّطة بين القولين، لا محيص من سلوكها".
قال شيخنا: "وهذا هو التحقيق، فشُدَّ عليه بالنَّواجذ.
وممَّا يدلُّ على أنَّ غير الماء لا يجزئ في دم الحيض: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الثاني: "يكفيك الماء"؛ فإِنَّ مفهومه أنَّ غير الماء لا يكفي، فتأمَّل" (1).
قال الحافظ تعليقاً على حديث عليٍّ -رحمه الله-: "كنتُ رجلاً مذَّاء": "واستدلَّ به ابن دقيق العيد على تعيُّن الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأنَّ ظاهره يعيِّن الغسل، والمعيَّن لا يقع الامتثال إلا به، وهذا ما صحَّحه النوويُّ في "شرح مسلم"" (2).
وقال الشوكاني -رحمه الله- في "الدَّراري المضيَّة" (1/ 30):
__________
(1) " الصحيحة" فقه الحديث رقم (300).
(2) "الفتح" (1/ 379).

(1/75)


"ويطهُرُ ما تنجَّس بغسله حتى لا يبقى عينٌ ولا لونٌ ولا ريحٌ ولا طعمٌ، والنَّعل بالمسح، والاستحالة مطهِّرة؛ لعدم وجود الوصف المحكوم عليه، وما لا يمكن غسله؛ فبالصبِّ عليه أو النَّزح منه حتى لا يبقى للنجاسة أثر، والماء هو الأصل في التطهير، فلا يقوم غيره مقامه؛ إلا بإِذن من الشارع".