الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

المسح على الخفين
أولاً: المسح على الخفين.
وفيه أدلَّة عديدة؛ منها:
ما رواه عروة بن المغيرة عن أبيه؛ قال: كنتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأهويت لأنزع خفَّيه، فقال: "دعْهُما؛ فإِني أدخلتُهما طاهرتين"، فمسح عليهما (1).
وعن عبد الله بن عمر عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنَّه مسح على الخفَّين" (2).
وعن همَّام بن الحارث؛ قال: "رأيت جرير بن عبد الله بال، ثمَّ توضّأ ومسح على خفَّيه، ثمَّ قام فصلَّى، فسُئل؟ فقال: "رأيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنَع مثل هذا".
قال إِبراهيم: فكان يعْجِبُهم؛ لأنَّ جريراً كان مِن آخر من أسلم (3).
وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "بعثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريَّة، فأصابهم
__________
(1) أخرجه البخاري: 206، ومسلم: 274، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 202
(3) أخرجه البخاري: 387، ومسلم: 272، وغيرهما.
وفي "صحيح مسلم": "قال الأعمش: قال إِبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إِسلام جرير كان بعد نزول المائدة، وفيها آية الوضوء التي تفيد وجوب غسل الرجلين".
وفي "صحيح سنن النسائي" (114): "وكان إِسلام جرير قبل موت النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيسير".

(1/155)


البرد، فلمَّا قَدمِوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أمرهم أن يمسحوا على العصائب (1) والتساخين (2) " (3).
وقال الحافظ في "الفتح" (202) تعليقاً على حديث عبد الله بن عمر السابق: "نقَل ابن المنذر عن ابن المبارك؛ قال: ليس في المسح على الخُفَّين عن الصحابة اختلاف؛ لأنَّ كلَّ من رُوِيَ عنه منهم إِنكاره؛ فقد رُوِيَ عنه إِثباتُه.
وقال ابن عبد البرِّ: لا أعلم رُوي عن أحد من فقهاء السلف إِنكاره إِلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرِّحة بإِثباته.
... وقال ابن المنذر: اختلف العلماء؛ أيّهما أفضل: المسح على الخفَّين أو نزْعهما وغسل القدمين؟ قال: والذي أختاره أنَّ المسح أفضل؛ لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض. قال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السُّنن أفضل من ترْكه" اهـ.

ثانياً: المسح على الجوربين.
عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: "توضّأ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسح
__________
(1) كل ما عَصَبْتَ به رأسك من عمامة أو منديل أو خرقة. "النهاية"، وتقدّم.
(2) جاء في "النهاية": "الخفاف، ولا واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها: تسَخْان وتَسخين وتَسخن". وانظر: (باب التاء مع السين) و (السين مع الخاء). وقيل: التساخين ما يُسخَّن به القدم من خُفٍّ وجورب ونحوهما. وتقدم.
(3) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (133)، وانظر "المسح على الجوربين" (ص 23)، وتقدّم.

(1/156)


على الجوربين والنَّعلين" (1).
قال أبو داود: "ومسح على الجوربين: عليُّ بن أبي طالب، وأبو مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطَّاب، وابن عبّاس" (2).
وذكر ابن حزم عدداً كبيراً من السلف قالوا بالمسح على الجوربين؛ منهم: ابن عمر، وعطاء، وِإبراهيم النخعي، وغيرهم، وأورد عدداً من الآثار المتعلَّقة بذلك (3).
وعن يحيى البكَّاء؛ قال: "سمعْت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفَّين، وتلقَّى نافع ذلك عنه، فقال: هما بمنزلة الخفَّين" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (143)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (86)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (121)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (453)، وانظر "الإِرواء" (101).
(2) انظر "المحلَّى" (2/ 115) (مسألة 212).
(3) قال شيخنا -حفظه الله تعالى- تعليقاً على رسالة القاسمي -رحمه الله تعالى- حول هذا الموضوع (ص54): "قلت: هذه الآثار أخرجها: عبد الرزاق في "المصنف" (745 و773 و779 و781 و782)، وابن أبي شيبة أيضاً في "المصنف"، والبيهقيّ: (1/ 285)، وكثير من أسانيدها صحيح عنهم، وبعضهم له أكثر من طريق واحد، ومن ذلك طريق قتادة عن أنس أنه كان يمسح على الجوربين مثل الخفين، وسنده صحيح، رواه عبد الرزاق (779)، وهو عند ابن أبي شيبة (1/ 188) مختصراً".
(4) أخرجه ابن أبي شيبة بسند حسن عنه، وكذلك قال إِبراهيم النَّخعي، أخرجه بسند صحيح عنه. كذا في تحقيق "المسح على الجوربين" لشيخنا -حفظه الله تعالى-.

(1/157)


قال شيخنا الألبانيّ -حفظه الله تعالى-: "فبعْد ثبوت المسح على الجوربين عن الصحابة -رضي الله عنهم- أفلا يجوز لنا أن نقول فيمن رغبَ عنه ما قاله إِبراهيم هذا في مسحهم على الخفَّين: فمن ترك رغبةً عنه؛ فإِنَّما هو من الشيطان (1)؟!
قال أبو عيسى: "سمعتُ صالح بن محمد التِّرمذي؛ قال: سمعتُ أبا مقاتل السَّمرقندي يقول: دخَلْتُ على أبي حنيفة في مرضه الذي مات فيه، فدعا بماء فتوضّأ، وعليه جوربان، فمسح عليهما، ثمَّ قال: فعلتُ اليوم شيئاً لم أكنْ أفعله: مسحْتُ على الجوربين وهما غير منعَّلين".
وعن عطاء؛ قال: "المسح على الجوربين بمنزلة المسح على الخفَّين" (2).

ثالثاً: المسح على النَّعلين.
عن أوس بن أبي أوس الثَّقفي: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ ومسح على نعليه وقدميه، وقال عبَّاد: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى كِظامة قوم -يعني: الميضأة- (ولم يذكر مسدَّد الميضأة والكِظامة، ثمَّ اتفقا): فتوضّأ ومسح على نعليه وقدميه" (3).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 180) بإِسناد صحيح عنه؛ كما في تحقيق "المسح على الجوربين" (ص 54).
(2) صحَّح شيخنا إِسناده في تحقيق "المسح على الجوربين" (ص 63).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (145)، وانظر "المسح على الجوربين" (ص 43).

(1/158)


وعن ابن عمر، قال: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبسها (يعني: النِّعال السِّبتيَّة (1)) ويتوضّأ فيها ويمسح عليها" (2).
وثبت عن أبي ظبيان: "أنَّه رأى عليّاً -رضي الله عنه- بال قائماً، ثمَّ دعا بماء، فتوضّأ، ومسح على نعليه، ثمَّ دخل المسجد فخلعَ نعليه (3) ثمَّ صلَّى" (4).

رابعاً: المسح على الخفِّ أو الجورَب المخرَّق.
قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "وأمَّا المسح على الخفِّ أو الجورب
__________
(1) قال في "النهاية": السِّبت بالكسر: جُلود البقر المدبوغة بالقَرَظ يُتخذ منها النّعال، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّ شعرها قد سُبِتَ عنها أي: خُلق وأُزيل، وقيل: لأنها انسَبَتت بالدِّباع: أي لانت.
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من طريق ابن خزيمة، وسنده صحيح؛ وانظر كتاب "المسح على الجوربين" (ص 45). وزاد على ذلك فقال: "له طريق أخرى عن ابن عمر نحو رواية البزَّار، أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 97)، ورجاله ثقات معروفون، غير أحمد بن الحسين اللهبي، وله شاهد من حديث ابن عبَّاس: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضّأ مرّة مرّة، ومسح على نعليه"، أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (783)، والبيهقي (1/ 286)؛ من طريقين عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه. وهذا إِسناد صحيح غاية، وهو على شرط الشيخين".
(3) يُستفاد من هذا أنَّ خلع النعال والجوارب ونحو ذلك بعد المسح لا ينقض الوضوء.
(4) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" بسند صحيح. وانظر تحقيق "المسح على الجوربين" (ص 47) لشيخنا -حفضها الله تعالى-. وجاء في "تمام المنِّة" (115): "زاد البيهقيّ: "فأمّ الناس"، وِإسناده صحيح على شرط الشيخين".

(1/159)


المخرَّق؛ فقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً؛ فأكثرهم يمنع منه، على خلاف طويل بينهم، تراه في مبسوطات الكتب الفقهيَّة و"المحلَّى"، وذهبَ غيرُهم إِلى الجواز، وهو الذي نختاره.
وحجَّتنا في ذلك أنَّ الأصل الإِباحة، فمن منع واشترط السَّلامة من الخرق أو وضع له حدّاً؛ فهو مردود؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلُّ شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل"، متفق عليه (1).
وأيضاً؛ فقد صحَّ عن الثَّوريِّ: أنَّه قال: امسحْ عليها ما تعلَّقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلاَّ مخرَّقة، مشقَّقة، مرقَّعة؟! أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (753)، ومن طريقه البيهقيُّ (1/ 283).
وقال ابن حزم (2/ 100): فإِن كان في الخفَّين أو فيما لبس على الرجلين خرقٌ صغيرٌ أو كبيرٌ طولاً أو عرضاً، فظهر منه شيء من القدم -أقلّ القدم أو أكثرها أو كلاهما- فكل ذلك سواء، والمسح على كلِّ ذلك جائز، ما دام يتعلَّق بالرجلين منهما شيء، وهو قول سفيان الثوريِّ وداود وأبي ثور وإسحاق ابن راهويه ويزيد بن هارون.
ثمَّ حكى أقوال العلماء المانعين منه على ما بيّنها من اختلاف وتعارُض، ثمَّ ردَّ عليها، وبين أنَّها ممّا لا دليل عليها سوى الرأي، وختم ذلك بقوله:
لكنَّ الحقَّ في ذلك ما جاءت به السنَّة المبيِّنة للقرآن؛ من أنَّ حُكم القدمين اللَّتين ليس عليهما شيء ملبوسٌ يمسح عليه أن يُغسلا، وحُكمهما إِذا كان عليهما شيء ملبوس أن يُمسح على ذلك الشيء، بهذا جاءت السنَّة،
__________
(1) أخرجه البخاري: 2735، ومسلم: 1504

(1/160)


{وما كان ربّكَ نَسِيّاً} (1)، وقد عَلِم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ أمرَ بالمسح على الخفَّين وما يُلبس في الرجلين، ومُسِحَ على الجوربين: أنَّ من الخفاف والجوارب وغير ذلك ممَّا يُلبس على الرجلين المخرَّق خرقاً فاحشاً أو غير فاحش وغير المخرَّق، والأحمر والأسود والأبيض، والجديد والبالي، فما خصَّ -عليه السلام- بعض ذلك دون بعض، ولو كان حكمُ ذلك في الدين يختلف؛ لما أغفله الله تعالى أن يوحي به، ولا أهمَله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المفترض عليه البيان، حاشا له من ذلك، فصحَّ أنَّ حُكم المسمح على كلِّ حال، والمسح لا يقتضي الاستيعاب في اللغة التي بها خوطِبْنا.
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "اختياراته" (ص 13): ويجوز المسح على اللَّفائف في أحد الوجهين، حكاه ابن تميم وغيره، وعلى الخفِّ المخرَّق ما دام اسمه باقياً والمشي فيه ممكناً، وهو قديم قولَي الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء.
قلت: ونسبه الرَّافعي في "شرح الوجيز" (2/ 370) للأكثريَّة، واحتجَّ له بأنَّ القول بامتناع المسح يُضيِّق باب الرخصة، فوجب أن يمسح، ولقد أصاب -رحمه الله-" (2) اهـ.
وأخيراً أقول: إِنَّ إِيراد هذه الاشتراطات التي ليست من الدين في شيء تجعلنا نردُّ رخصة الله علينا، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّ الله يحبُّ أن تؤتى رخصُه
__________
(1) مريم: 64
(2) "إِتمام النصح في أحكام المسح" (84 - 86).

(1/161)


كما يكره أن تُؤتى معصيتُه" (1)!
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "ومعلومٌ أنَّ الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها عن فتقٍ أو خرقٍ، لا سيما مع تقادُم عهدها، وكان كثير من الصحابة فقراء، لم يكن يمكنهم تجديد ذلك.
ولما سُئِل النّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصَّلاة في الثَّوب الواحد، فقال: "أوَ لكلِّكم ثوبان" (2)؟! وهذا كما أنَّ ثيابهم كان يكثر فيها الفتق والخرق حتى يحتاج لترقيع؛ فكذلك الخفاف" (3).
وقال -رحمه الله-: "وكان مقتضى لفْظه أنَّ كلَّ خفٍّ يلبسه النَّاس ويمشون فيه؛ فلهم أن يمسحوا عليه، وإن كان مفتوحاً أو مخروقاً؛ من غير تحديد لمقدار ذلك؛ فإِنَّ التحديد لا بدَّ له من دليل" (4).
وقال -رحمه الله- أيضاً: "وأيضاً؛ فأصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين بلَّغوا سنَّته
وعملوا بها؛ لم يُنْقَل عن أحدٍ منهم تقييد الخفِّ بشيء من القيود، بل أطلقوا المسح على الخفّين، مع علمهم بالخفاف وأحوالها، فعُلم أنَّهم كانوا قد فهموا عن نبيِّهم جواز المسح على الخفّين مطلقاً.
وأيضاً؛ فكثير من خفاف النّاس لا يخلو من فتق أو خرق يظهر منه بعض القدم، فلو لم يجز المسح عليها؛ بطل مقصود الرخصة، لا سيِّما والذين
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وسنده صحيح على شرط مسلم، وانظر "الإِرواء" (564).
(2) أخرجه البخاري: 358، ومسلم: 515، وغيرهما.
(3) "الفتاوى" (21/ 174).
(4) "الفتاوى" (21/ 174).

(1/162)


يحتاجون إِلى لُبس ذلك هم المحتاجون" (1).
وقال (ص183) (2): "وإنْ قالوا بأنَّ المسح إِنَّما يكون على مستور أو مغطَّى ونحو ذلك؛ كانت هذه كلّها عبارات عن معنى واحد، وهو دعوى رأس المسألة بلا حُجَّة أصلاً، والشارع أمرَنا بالمسح على الخفّين مطلقاً، ولم يقيِّدْه، والقياس يقتضي أنَّه لا يقيَّد".
وقال (ص212 و213) (3): " ... ولفظ الخفِّ يتناول ما فيه من الخرق وما لا خرق فيه، لا سيَّما والصحابة كان فيهم فقراء كثيرون، وكانوا يسافرون، وإذا كان كذلك؛ فلا بدَّ أن يكون في بعض خفافهم خروق، والمسافرون قد يتخرَّق خفُّ أحدهم، ولا يمكنه إِصلاحه في السَّفر، فإِن لم يجز المسح عليه؛ لم يحصل مقصود الرخصة" اهـ.
ولو كان هناك استثناء أو منع؛ -لبيَّنه الشرع؛ كما هو شأن الأضحية-، فلمَّا لم يبلُغْنا شيء من هذا؛ دلَّ على أنَّ المسح يظلُّ على إِطلاقه، والمخرَّق جزء من هذا المطلق.

خامساً: المسح على اللفائف.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " ... فإِنْ قيل: فيلزم من ذلك جواز المسح على اللفائف، وهو أن يلفَّ الرجل لفائف من البرد أو خوف الحفاء أو من جراح بهما ونحو ذلك.
قيل: في هذا وجهان، وذكَرهما الحلواني، والصواب أنَّه يمسح على
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 175).
(2) "الفتاوى" المجلد (21).
(3) "الفتاوى" المجلد (21).

(1/163)


اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخفّ والجورب؛ فإِنَّ تلك اللفائف تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزْعها ضرر: إِمَّا إِصابة البرد، وإمّا التأذِّي بالحفاء، وإِمّا التأذي بالجراح، فإِذا جاز المسح على الخفّين والجوربين؛ فعلى اللفائف بطريق الأولى" (1).

سادساً: أحكام تتعلَّق بالمسح على الخفَّين.
1 - خلْع الممسوح عليه هل ينقض الوضوء؛
قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "اختلف العلماء فيمن خلَع الخفَّ ونحوه بعد أن توضّأ ومسح عليه على ثلاث أقوال:
الأوَّل: أنَّ وضوءه صحيح ولا شيء عليه.
الثاني: أنَّ عليه غسل رجليه فقط.
الثالث: أنَّ عليه إِعادة الوضوء.
وبكلٍّ من هذه الأقوال قد قال به طائفة من السَّلف، وقد أخرج الآثار عنهم بذلك: عبد الرزاق في "المصنَّف" (1/ 210/809 - 813)، وابن أبي شيبة (1/ 187 - 188)، والبيهقيّ (1/ 289 - 290).
ولا شكَّ أنَّ القول الأول هو الأرجح؛ لأنَّه المناسب لكون المسح رخصة وتيسيراً من الله، والقول بغيره ينافي ذلك؛ كما قال الرافعي في المسألة التي قبلها؛ كما تقدّم، ويترجّح على القولين الآخرين بمرجِّح آخر، بل مرجِّحين:
__________
(1) "مجموع الفتاوى" (21/ 184 - 185).

(1/164)


الأوَّل: أنَّه موافق لعمل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقد قدَّمْنا بالسند الصحيح عنه: "أنَّه أحدث، ثمَّ توضّأ ومسَح على نعليه، ثمَّ خلعَهما، ثمَّ صلى".
والآخر: موافقته للنَّظر الصحيح؛ فإِنَّه لو مسَح على رأسه، ثمَّ حلق؛ لم يجب عليه أن يُعيد المسح بله الوضوء.
وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في "اختياراته" (ص 15): "ولا ينتقض وضوء الماسح على الخفِّ والعمامة بنزعهما، ولا بانقضاء المدَّة، ولا يجب عليه مسح رأسه، ولا غسل قدميه، وهو مذهب الحسن البصريِّ؛ كإِزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد، وقول الجمهور".
وهو مذهب ابن حزم أيضاً، فراجِع كلامه في ذلك ومناقشته لمن خالف؛ فإِنَّه نفيس. "المحلّى" (2/ 105 - 109) (1) " اهـ.
قال البخاري في "صحيحه" (2): "وقال الحسن: إنْ أخذَ من شعره وأظفاره أو خلَعَ خفَّيه، فلا وضوء عليه".
__________
(1) "إِتمام النصح في أحكام المسح" (86 - 88).
(2) (كتاب الوضوء) (1/ 55).
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 281): "التعليق عنه -أي؛ الحسن- للمسألة الأولى: وصَله سعيد بن منصور وابن المنذر بإِسناد صحيح"، وتقدّم في (باب ما يظن أنَّه ينقض الوضوء).

(1/165)


ونقَل ابن المنذر الإِجماع على ذلك (1).

2 - انتهاء مدَّة المسح هل ينقض الوضوء؟
قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: "للعلماء في ذلك أقوال، أشهرها قولان في مذهب الشافعي:
الأوَّل: يجب استئناف الوضوء.
الثاني: يكفيه غَسل القدمين.
والثالث: لا شيء عليه، بل طهارته صحيحة، يصلّي بها ما لم يُحْدث. قاله النَّووي -رحمه الله-.
قلت: وهذا القول الثالث أقواها، وهو الذي اختاره النَّووىِ، خلافاً لمذهبه، فقال -رحمه الله- (1/ 527): وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصريِّ وقَتادة وسليمان بن حرب، واختاره ابن المنذر، وهو المختار الأقوى، وحكاه أصحابنا عن داود.
قلت: وحكاه الشعراني في "الميزان" (1/ 150) عن الإِمام مالك، وحكى النَّووي عنه غيره؛ فليحقَّق، وهو الذي ذهب إِليه شيخ الإِسلام ابن تيمية كما تراه في كلامه السابق في المسألة الثالثة (ص92) تبعاً لابن حزم، وذكر هذا في القائلين به إِبراهيم النخعي وابن أبي ليلى.
ثمَّ قال (2/ 94): وهذا هو القول الذي لا يجوز غيره؛ لأنَّه ليس في شيء
__________
(1) انظر "الفتح" (كتاب الوضوء، تحت باب 34)، وتقدّم أيضاً في نفس الباب السابق.

(1/166)


من كتب الأخبار أنَّ الطَّهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء، ولا عن بعضها، بانقضاء وقت المسح، وإِنَّما نهى -عليه السلام- عن أن يمسح أحدٌ أكثر من ثلاث للمسافر أو يوم وليلة للمقيم، فمن قال غير هذا؛ فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه، وقوَّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يقل، فمن فعل ذلك واهماً؛ فلا شيء عليه، ومن فعَل ذلك عامداً بعد قيام الحجة عليه؛ فقد أتى كبيرة من الكبائر، والطهارة لا ينقضها إلاَّ الحدث، وهذا قد صحّت طهارته ولم يُحْدِث، فهو طاهر، والطاهر يصلّي ما لم يُحْدِث أو ما لم يأت نصٌّ جليٌّ فيِ أنَّ طهارته انتقضت وإِنْ لم يُحدِث، وهذا الذي انقضى وقت مسْحه لم يُحْدِث ولا جاء نصٌّ في أنَّ طهارته انتقضت؛ لا عن بعض أعضائه، ولا عن جميعها؛ فهو طاهرٌ يصلِّي حتى يُحْدِث، فيخلع خفَّيه حينئذ، وما على قدميه، ويتوضّأ، ثمَّ يستأنف المسح توقيتاً آخر، وهكذا أبداً. وبالله تعالى التوفيق" (1).

3 - هل تنْزَع الخفاف من جنابة؛
نعم؛ تُنْزَع؛ لحديث صفوان بن عسَّال، قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمُرُنا إِذا كنَّا سَفْراً أن لا ننزِعَ خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنَّ؛ إلاَّ من جنابة، ولكنْ من غائط وبول ونوم" (2).

4 - اللبس على طهارة شرطٌ للمسح.
لحديث المغيرة -رضي الله عنه- قال: "كنتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرٍ،
__________
(1) "تمام النصح في أحكام المسح" (ص92 و93).
(2) أخرجه مسلم: 276، وغيره، وتقدم.

(1/167)


فأهويْتُ لأنزعَ خفَّيه، فقال: "دعْهُما؛ فإِنِّي أدخلتُهما طاهرتين"، فمسح عليهما" (1).

5 - محلُّ المسح.
يمسح على ظهر الخفَّين أو النعلين أو الجوربين، ويجوز مسح أيِّ جزء تُغْسَل فيه القدم خلا أسفلها (2).
عن المغيرة بن شعبة -رضى الله عنه-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يمسح على الخُفَّين"، وقال: "على ظهر الخُفَّين" (3).
وعن علي -رضي الله عنه- قال: "لو كان الدِّين بالرَّأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خُفَّيْه" (4).

6 - مدَّة المسح، ومتى تبدأ؟
مدّة المسح ثلاثة أيام ولياليهنَّ للمسافر، ويوم وليلة للمقيم.
عن شُريح بن هانئ؛ قال: أتيتُ عائشة أسألها عن المسح على الخفَّين؟
فقالت: عليك بابن أبي طالب؛ فسَلهُ؛ فإِنَّه كان يسافر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فسألناه؛ فقال: "جَعَلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ للمسافر، ويوماً
__________
(1) أخرجه البخاري: 206، ومسلم: 274 نحوه، وغيرهما، وتقدّم.
(2) العبارة الأخيرة استفدتها من شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (146) وغيره وانظر "الإرواء" (101).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (147)، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وغيرهم. وصحّح الحافظ إِسناده في "التلخيص". وانظر "الإِرواء" (103).

(1/168)


وليلةً للمقيم" (1).
وعن خُزيمة بن ثابت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: "المسح على الخُفَّين للمسافر ثلاثة أيَّام، وللمقيم يوم وليلة" (2).
وعن صفوان بن عسَّال؛ قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرُنا إِذا كُنَّا سَفْراً أن لا ننزعَ خفافنا ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ؛ إلاَّ من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (3).
قال أبو عيسى التِّرمذي: "وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومَن بعدهم من الفقهاء؛ مثل: سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق؛ قالوا: يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهنَّ".
ويبدأ التوقيت من المسح بعد الحدث على القول الراجح.
قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: " ... فالأحاديث الصحيحه التي رواها جمع من الصحابة في "صحيح مسلم" والسنن الأربعة والمسانيد وغيرها؛ ففيها أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمر بالمسح، وفي بعضها: رخَّص في المسح، وفي غيرها: جَعَل المسح للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثةٌ أيام ولياليهن، ومن
__________
(1) أخرجه مسلم: 276
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (142)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (83)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (448)، وانظر "المسح على الجوربين" (ص 88).
(3) أخرجه أحمد، وهو في "صحيح سنن الترمذي" (84)، و"صحيح سنن النسائي" (122)، و"الإِرواء" (104)، وتقدم.

(1/169)


الواضح جدّاً أنَّ الحديث كالنَّصِّ على ابتداء مدة المسح من مباشرة المسح، وهو كالنصٍّ أيضاً على ردِّ القول الأوَّل؛ لأنَّ مقتضاه -كما نصُّوا عليه في الفروع- أنَّ من صلَّى الفجر قبيل طلوع الشمس، ثمَّ أحدث عند الفجر من اليوم الثاني، فتوضّأ ومسح لأوَّل مرة لصلاة الفجر؛ فليس له المسح بعدها! فهل يصدق على مثل هذا أنَّه مسح يوماً وليلة؟!
أمَّا على القول الثاني الرَّاجح؛ فله أن يمسح إِلى قبيل الفجر من اليوم الثالث، بل لقد قالوا أغرب ممَّا ذكرنا: فلو أحدث ولم يمسح حتى مضى من بعد الحدث يوم وليلة أو ثلاثة إِن كان مسافراً؛ انقضت المدَّة، ولم يجُز المسح بعد ذلك حتّى يستأنف لبساً على طهارة، فحرموه من الانتفاع بهذه الرخصة؛ بناء على هذا الرأي المخالف للسنَّة!
ولذلك لم يسَع الإِمام النَّوويّ إلاَّ أن يخالف مذهبه -وهو الحريص على أنْ لا يخالفه ما وجد إِلى ذلك سبيلاً- لقوَّة الدَّليل، فقال -رحمه الله تعالى- بعد أن حكى القول الأوَّل ومن قال به (1/ 487)؛ قال: وقال الأوزاعي وأبو ثور: ابتداء المدَّة من حين يمسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد وداود، وهو المختار الراجح دليلاً، واختاره ابن المنذر، وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وحكى الماورديُّ والشاشيُّ عن الحسن البصريِّ أنَّ ابتداءها من اللبس" (1).
وقال شيخنا -حفظه الله تعالى-: " .. روى عبد الرزاق في "المصنَّف" (1/ 209/807) عن أبي عثمان النَّهدي؛ قال: "حضرتُ سعداً وابن عمر يختصمان إِلى عمر في المسح على الخفَّين، فقال عمر: يمسح عليهما إِلى
__________
(1) "تمام النصح" (89 و90).

(1/170)


مِثل ساعته من يومه وليلته.
قلت: وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو صريح في أنَّ المسح يبتدئ من ساعة إِجرائه على الخفِّ إِلى مثلها من اليوم والليلة، وهو ظاهر كلِّ الآثار المرويَّة عن الصحابة في مدَّة المسح فيما عَلِمنا" (1).

هل يشرع المسْح على الجبيرة ونحوها؟
قال البيهقي: لا يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء يعني باب المسح على العصائب والجبائر.
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (2/ 103) (مسألة 209): "ومن كان على ذراعيه أو أصابعه أو رجليه جبائر أو دواء ملصق لضرورة؛ فليس عليه أن يمسح على شيء من ذلك؛ وقد سقط حُكم ذلك المكان؛ فإِن سقط شيء من ذلك بعد تمام الوضوء؛ فليس عليه إِمساس ذلك المكان بالماء؛ وهو على طهارته ما لم يحدث -: برهان ذلك-: قول الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إِلاَّ وسعها} (2) وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم؟ " (3).
فسقط بالقرآن والسنّة كل ما عجز عنه المرء، وكان التعويض منه شرعاً، والشرع لا يلزم إلاَّ بقرآن أو سنّة، ولم يأت قرآن ولا سنّة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله، فسقط القول بذلك".
__________
(1) "تمام النصح" (91 و92).
(2) البقرة: 286
(3) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337

(1/171)


ثمَّ بيَّن ضعف بعض الأحاديث التي ذُكرت في الموضوع، وأجاب عن أثر ابن عمر المتقدّم بأنّه فِعْل منه لا إِيجاباً بالمسح، وقد صحّ عنه أنّه كان يُدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغُسل ولا يشرع ذلك، فضلاً عن أن يكون فرضاً (1).
وسألتُ شيخنا -حفظه الله- عن هذا فقال: "نعم، ونزيد أنّه قد ثبت المسح على الجبيرة عن بعض الصحابة، وإنْ كنّا لا نتبنّى ذلك لِما سبق؛ فلا نحجّر على الناس أن يفعلوا ذلك".
قلت: "من باب احترام الرأي!، فقال -حفظه الله-: نعم".
__________
(1) انظر "تمام المنة" (ص134)، و"الإرواء" (1/ 142).

(1/172)