الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة التَّيمُّم
تعريفه:
التيمّم لغة: القَصْد، ومنه قوله تعالى: {ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيْثَ منهُ
تُنْفِقُون} (1)، وتقول العرب: تيمّمك الله بحفظه أي: قَصَدَكَ ...
أمّا التيمّم شرْعاً: فهو القصد إِلى الصعيد (2)؛ بمسح الوجه واليدين بنيّة
استباحة الصَّلاة ونحوها (3).
ثبوت مشروعيته بالكتاب والسنَّة والإِجماع
أمّا في كتاب الله العظيم ففي قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى
أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَفُوًّا غَفُورًا} (4).
__________
(1) البقرة: 267
(2) قال ابن سفيان وأبو إِسحاق: "الصعيد: ما علا وجه الأرض، وقيل: الأرض،
وقيل: الأرض الطيِّبة، وقيل: التراب الطيِّب، والعرب تقول لظاهر الأرض
صعيد". وعن الخليل قال: "الصعيد: الأرض؛ قلَّ أو كثُر". انظر "لسان العرب"،
و"حِلية الفقهاء" (ص 59).
(3) قاله في "الفتح" (1/ 432) ونقَلَه عن عدد من العلماء.
(4) النساء: 43
(1/221)
وأمَّا في السنَّة؛ ففيه أحاديث كثيرة،
منها: ما رواه جابر بن عبد الله عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "أُعطيتُ خمساً لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرُّعب
مسيرة شهر، وجُعِلت ليَ الأرض مسجداً وطهوراً (1)؛ فأيُّما رجلٍ من أمَّتي
أدركتْه الصَّلاة فليصلِّ، وأُحلَّت لي المغانم (2) ولم تحلّ لأحدٍ قبلي،
وأُعطيت الشفاعة وكان النّبيّ يُبعث إِلى قومه خاصَّة، وبُعِثْتُ إِلى
النَّاسِ عامَّة" (3).
أمّا الإِجماع، فقد ذكَره ابن قدامة -رحمه الله- في "المُغني" (1/ 233)
فقال: "وأمَّا الإِجماع؛ فأجمعت الأمَّة على جواز التيمُّم في الجملة".
قال البخاري: "باب التيمُّم في الحضر إِذا لم يجد الماء وخاف فوت الصّلاة،
وبه قال عطاء" (4).
اختصاص أمَّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به
لحديث جابر السابق: "أُعطيتُ خمساً لم يعطهنَّ أحد قبلي" منها:
__________
(1) وجُعلت ليَ الأرضُ مسجداً؛ أي: موضع السجود؛ لا يختص السجود منها بموضع
دون غيره، ويمكن أن يكون مجازاً عن المكان المبنيّ للصلاة، وهو من مجاز
التشبيه؛ لأنَّه لمّا جازت الصلاة في جميعها؛ كانت كالمسجد في ذلك. "فتح".
جاء في "الفتح": "ويستفاد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"؛ أنّ الأصل في الأرض الطهارة، وأنَّ صحة
الصلاة لا تختصّ بالمسجد المبنيّ لذلك".
(2) وفي بعض الروايات الغنائم، ومعناهما واحد.
(3) أخرجه البخاري: 335، 438، 3122، وهذا لفظه، ومسلم: 521، وغيرهما.
(4) "الفتح" (1/ 441)، وقال الحافظ: "وقد وصله عبد الرزاق من وجه صحيح،
وابن أبي شيبة من وجه آخر ... ".
(1/222)
"وجُعلَت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً".
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 347): "وهذا التيمُّم
المأمور به في الآية؛ هو من خصائص المسلمين، وممَّا فضَّلهم الله به على
غيرهم من الأمم، ففي "الصحيحين"؛ عن جابر بن عبد الله أنَّ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُعطيتُ خمساً ... " وذكر
الحديث.
سبب مشروعيَّته
عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها استعارت من أسماءَ قِلادةً فهلكت، فبعث
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً فوجدها، فأدركتهم
الصّلاة وليس معهم ماء، فصلَّوا، فشكَوا ذلك إِلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزلَ الله آية التيمُّم، فقال أسيد بن
حُضَير لعائشة جزاكِ الله خيراً؛ فوالله ما نَزل بك أمر تكرهينه؛ إلاَّ جعل
الله ذلك لكِ وللمسلمين فيه خيراً" (1).
كيفيَّة التيمُّم
1 - النيَّة: ومحلّها القلب؛ كما تقدَّم في الوضوء والغُسل.
2 - التسمية.
3 - ضرب الكفَّين بالصعيد الطاهر، ثمَّ ينفخ فيهما، أو ينفضهما لتخفيف
التُّراب -إِن وُجد- ثمَّ يمسح بهما الوجه والكفَّين؛ كما في حديث عمَّار
بن ياسر -رضي الله عنه-: " ... إِنَّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض،
__________
(1) أخرجه البخاري: 334 و336 ومواضع أُخرى، ومسلم: 367، وغيرهما.
(1/223)
ثمَّ تنفُخ (1)، ثمَّ تمسح بهما وجهك
وكفَّيك" (2).
وموضع المسح هو الموضع الذي يُقطع منه السارق.
قال ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني" (1/ 258): "ويجب مسْح اليدين إِلى
الموضع الذي يُقطع منه السارق، أومأ أحمد إِلى هذا لما سُئل عن التيمُّم؛
فأومأ إِلى كفَّيه ولم يجاوز، وقال: قال الله تعالى: {والسَّارقُ
والسَّارِقةُ فَاقْطَعوا أَيْديَهُمَا} (3)، من أين تقطع يد السارق؟ أليس
من هاهنا، وأشار إِلى الرسغ، وقد روينا عن ابن عبَّاس نحو هذا".
4 - ملاحظة الاكتفاء بضربة واحدة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "التيمُّم ضربة للوجه والكفَّين" (4).
__________
(1) وفي بعض الروايات عند البخاري (347) وغيره: "ثمَّ نفضهما".
وسألْت شيخنا -حفظه الله- إِن كان المراد من النفخ أو النفض الإقلال من
التراب فيعمل بأيِّهما، فقال: "هو كذلك"، ثمَّ قال: "وقد لا يلزم أيٌّ
منهما لعدم وجود التراب".
(2) أخرجه البخاري: 338، ومسلم: 368، وغيرهما.
(3) المائدة: 38
(4) أخرجه أحمد، وابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو داود، والترمذي، وقال: "حديث
حسن صحيح"، وغيرهم، ومعناه في "الصحيحين"؛ كما في حديث عمّار السابق. وانظر
"الإِرواء" (161)، و"الصحيحة" (694).
(1/224)
نواقض التيمُّم
1 - ينقض التيمُّم كلَّ ما ينقض الوضوء، لأنَّه يقوم مقامه (1).
قال الحسن: "يُجزئه التيمُّم ما لم يُحدِث" (2).
قال ابن حزم في "المحلّى" (مسألة 333): "كلُّ حدث ينقض الوضوء؛ فإِنه ينقض
التيمُّم، هذا ما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإِسلام".
2 - وجود الماء لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ
الصعيد الطيِّب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإِذا وجد الماء
فليمِسَّه بشرته؛ فإِنَّ ذلك هو خير" (3).
(وفي رواية: طهور المسلم).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (مسألة 234): "وينقض التيمّم أيضاً
وجود الماء، سواء وَجَده في صلاة (4) أو بعد أن صلّى، أو قبل أن
__________
(1) انظر (باب: هل التيمُّم يقوم مقام الماء؟)
(2) ذكره البخاري معلَّقاً، وذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 446) وَصْل عبد
الرزاق، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وحمّاد بن سلمة له، وصحّح شيخنا
إِسناده في "مختصر البخارى" (1/ 96).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده"، والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو في "صحيح
سنن الترمذي" (107)، و"صحيح سنن أبي داود" (321)، وغيرهم، وصححه ابن حبان،
والدارقطني، وأبو حاتم، والحاكم، والذهبي، والنووي، وشيخنا في "الإرواء"
(153).
(4) قال شيخنا -حفظه الله-: "فإِذا وجد الماء فليُمسَّه بشرته، تشمل من كان
في الصلاة أيضاً".
(1/225)
يصلي ... ".
قال في "المغني" (1/ 270): وإِذا وجد المتيمّم الماء وهو في الصلاة؛ خرج
فتوضّأ أو اغتسل إِن كانْ جُنُباً واستقبل الصلاة.
قال: وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر
... وقال أيضاً: "ولنا قوله عليه السلام: "الصعيد الطيّب وضوء المسلم، وإنْ
لم يجد الماء عشر سنين، فإِذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك". أخرجه أبو داود
والنسائي؛ دلَّ بمفهومه على أنَّه لا يكون طهوراً عند وجود الماء، وبمنطوقه
على وجوب إِمساسه جلده عند وجوده، لأنَّه قدِرَ على استعمال الماء؛ فبطل
تيمُّمه كالخارج من الصلاة، ولأنَّ التيمُّم طهارة ضرورة، فبطلت بزوال
الضرورة ... ".
ما يُتيمَّم به وعدم اشتراط التراب:
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (1).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا}، نكرة في سياق الإِثبات، كقوله: {إِنَّ الله يأمُرُكمْ أن
تذْبَحوا بقَرَةً} (2)، وقوله: {فَتحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (3)، وقوله:
{فصِيَامُ ثلاثَة أيَّامٍ في
__________
(1) النساء: 43
(2) البقرة: 67
(3) النساء: 92
(1/226)
الحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذا رَجعْتُم} (1)،
وقوله: {فَمَنْ لم يجِدْ فَصيامُ ثلاثَةِ أيامٍ} (2)، وهذه تسمّى مطلقة،
وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، فيدلّ ذلك على أنّه
يتيمّم أيّ صعيد طيّب اتفق، والطيِّب هو الطاهر، والتُّراب الذي ينبعث مراد
من النصّ بالإِجماع، وفيما سواه نزاع سنذكره إِن شاء الله تعالى (3).
قال يحيى بن سعيد: "لا بأس بالصلاة على السَّبْخة (4) والتيمّم بها" (5).
وفي حديث عائشة الطويل: " ... قد أُريت دار هجرتكم رأيت سَبْخةً ذات نخْل
بين لابتين وهما الحرَّتان" (6).
قال ابن خزيمة عقب الحديث السابق في "صحيحه" (1/ 134): "ففي قول النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُريت سبْخة ذات نخل بين لابتين؛
وإعلامه إِيَّاهم أنها دار هجرتهم -وجميع المدينة، كانت هجرتهم- دلالة على
أنَّ جميع المدينة سبخة، ولو كان التيمُّم غير جائز بالسّبخة وكانت
السَّبخة على ما توهَّم بعض أهل عصرنا، أنَّه من البلد الخبيث، بقوله:
{والذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا}، لكان قول هذه المقالة أنَّ أرض
المدينة خبيثة لا طيِّبة، وهذا قول بعض أهل العناد لمَّا ذمَّ أهل المدينة،
فقال: إِنها خبيثة فاعلم أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-
__________
(1) البقرة: 196
(2) المائدة: 89
(3) "الفتاوى" (21/ 348).
(4) بتسكين الباء، وفي بعض النسخ بفتحها. هي الأرض المالحة لا تكاد تُنبت.
(5) أخرجه البخاري معلّقاً بصيغة الجزم ولم يخرجه الحافظ.
(6) أخرجه البخاري: 2297، والحرّة: الأرض ذات الحجارة السُّود.
(1/227)
سمّاها طيبة -أو طابة- فالأرض: السبخة هي
طيبة على ما أخبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
المدينة طيبة، وإِذا كانت طيبة وهي سبخة؛ فالله عزّ وجلّ قد أمر بالتيمّم
بالصعيد الطيب في نصِّ كتابه، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قد أعلم أن المدينة طيبة -أو طابة- مع إِعلامهم إِياهم أنها
سبخة، وفي هذا ما بان وثبت أنَّ التيمُّم بالسباخ جائز".
أمَّا تسمية طابة؛ فقد وردت في البخاري (1872) كما في حديث أبي حُميد -رضي
الله عنه- قال: "أقبَلنْا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- من تبوك؛ حتى أشرَفْنا على المدينة فقال: هذه طابة".
وروى مسلم (1385) وغيره عن جابر بن سمرة وقد قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ الله تعالى سمّى المدينة طابة".
وأما تسمية طَيْبَة؛ فقد ثبتت في "صحيح مسلم" (1384) أيضاً عن زيد بن ثابت
-رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"إِنها طَيْبَة (يعني: المدينة) وإِنِّها تنفي الخبث كما تنفي النّار خَبث
الفضة".
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 364): "وأمّا الصعيد ففيه
أقوال؛ فقيل: يجوز التيمُّم بكلِّ ما كان من جنس الأرض، وإِن لم يعلَق
بيده، كالزرنيخ (1)، والنُّورة (2)، والجصّ (3)، وكالصخرة الملساء، فأمّا
ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمُّم به، وهو قول أبي حنيفة،
__________
(1) في "المحيط": حَجَر معروف، منه أبيض وأحمر وأصفر.
(2) في "الوسيط": حجر الكلس.
(3) الجَصّ: ما يُبنى به وهو معرّب. "مختار الصحاح".
(1/228)
ومحمّد يوافقه، لكن بشرط أن يكون مُغبراً؛
لقوله: (منه) (1).
وقيل: يجوز بالأرض، وبما اتّصل بها حتى بالشَّجر، كما يجوز عنده وعند أبي
حنيفة بالحجر والمدر (2)، وهو قول مالك، ...
وقيل: لا يجوز إلاَّ بتراب طاهر، له غبار يعلق باليد، وهو قول أبي يوسف
والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
واحتج هؤلاء بقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيدِيكم منه}، وهذا لا يكون إلاَّ
فيما يعلق بالوجه واليد، والصَّخر لا يعلق لا بالوجه ولا باليد، واحتجُّوا
بقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جُعلت لي الأرض
مسجداً، وجُعلت تربتها طَهوراً". قالوا: فعمَّ الأرض بحُكم المسجد، وخصّ
تربتها -وهو ترابها- بحُكم الطهارة.
واحتجّ الأولون بقوله تعالى: {صعيداً}، قالوا: والصَّعيد هو الصَّاعد على
وجه الأرضِ، وهذا يعمُّ كلَّ صاعد؛ بدليل قوله تعالى: {وإِنَّما لجاعِلُون
ما عليها صعِيداَ جُرُزاً} (3)، وقوله: {فَتُصبحَ صعيداً زلقاً} (4).
واحتجّ من لم يخصّ الحكم بالتراب بأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "جُعلت لي
__________
(1) قال شيخنا -حفظه الله-: " ... وهذه الآية ينبغي أن تُفهم من خلال
السُّنَّة كما قال تعالى: {وأَنْزَلْنا إِليك الذِّكرَ لِتُبيِّنَ للنَّاسِ
ما نزَلَ إِليهم} النحل: 44، فالدّم حرام في كتاب الله وكذلك الميتة، وبيّن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يحرم من ذلك، فلا
بدَّ من ضمّ السُّنّة للقرآن؛ لتكون النتيجة صحيحة وكاملة".
(2) أي: الطين المتماسك. "النهاية".
(3) الكهف: 8
(4) الكهف: 40
(1/229)
الأرض مسجداً وطَهوراً؛ فأيّما رجل من
أمّتي أدركتْهُ الصلاة فليصلِّ"، وفي رواية: "فعنده مسجده وطَهوره". فهذا
يُبيِّن أنّ المسلم في أيّ موضع كان عنده مسجده وطهوره.
ومعلوم أنَّ كثيراً من الأرض ليس فيها تراب حرث، فإِن لم يجُز التيمُّم
بالرّمل؛ كان مخالفاً لهذا الحديث، وهذه حجة من جوَّز التيمُّم بالرمل دون
غيره، أو قرن بذلك السّبخة؛ فإِنَّ من الأرض ما يكون سبخة، واختلاف
التُّراب بذلك كاختلافه بالألوان؛ بدليل قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إِنَّ الله خلق آدم من قبضة قبَضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر
الأرض؛ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسّهل والحزَن،
والخبيث والطيب" (1).
وآدم إِنّما خُلق من تراب، والتُّراب الطيب والخبيث، الذي يخرج بإِذن ربّه،
والذي خبُث لا يخرج إلاَّ نكدا، لا يجوز التيمُّم به فعُلم أنَّ المراد
بالطيِّب الطاهر، وهذا بخلاف الأحجار والأشجار؛ فإِنها ليست من جنس التراب،
ولا تعلق باليد، بخلاف الزرنيخ والنورة، فإِنها معادن في الأرض، لكنها لا
تنطبع كما ينطبع الذهب والفضة والرصاص والنحاس". اهـ.
قال ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (1/ 200) في هديه في التيمُّم:
"وكذلك كان يتيمّم بالأرض التي يصلَّي عليها؛ تراباً كانت أو سبخة أو
رملاً، وصحَّ عنه أنه قال: "حيثما أدْركَتْ رجلاً من أمتي الصلاة فعنده
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات"، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديث
حسن صحيح، وغيرهم كما في "الصحيحة" (1630) والنص الذي ذكره شيخ الاِسلام
-رحمه الله- نحوه.
(1/230)
مسجدُه وطَهوره" (1).
وهذا نصٌّ صريح في أنّ من أدركته الصلاة في الرّمل؛ فالرمل لى طهور، ولمّا
سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك، قطعوا تلك الرّمال في طريقهم وماؤهم في غاية
القلَّة، ولم يُروَ عنه أنَّه حملَ معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد
من أصحابه، مع القطع بأنَّ في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض
الحجاز وغيره، ومن تدبَّر هذا؛ قطع بأنَّه يتيمّم بالرمل، والله أعلم، وهذا
قول الجمهور".
قال في "نيل الأوطار" (1/ 328): "ويؤيد حمْل الصعيد على العموم تيمّمه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحائط ... ".
وقال أيضاً: "قال ابن دقيق العيد: "ومن خصّص التيمُّم بالتراب، يحتاج إِلى
أن يقيم دليلاً يخص به هذا العموم (2) ... " (3).
وسألتُ شيخنا -حفظه الله- عن اشتراط بعض العلماء الغبار والتراب في
التيمُّم فقال:
"إِنَّ الغبار ليس من شروط الصعيد، والصعيد هو وجه الأرض، فيشمل الصخرة
والرمل والتراب.
والصخرة التي هطلت عليها الأمطار فلا غبار عليها، فهل حين التيمُّم بها
__________
(1) أخرجه أحمد وإسناده حسن، وله شواهد عديدة ذكرها شيخنا في "الإرواء"
(285).
(2) أي: عموم حديث: "فأينما أدركَت رجلاً من أمّتي الصلاة ... "
(3) "نيل الأوطار" (1/ 329).
(1/231)
حقَّق قوله تعالى: {فتيمَّموا صَعِيداً
طيِّباً} (1) أم لا؟
وكذلك الأرض الرملية سواء مُطرت أم لم تُمطر؛ عند الضرب فلا غبار عليها،
فهذا تكليف بما لا يُطاق.
ثمَّ ذكر سفر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة
إِلى تبوك وأكثرها رملية، ولم يصطحب عليه الصلاة السلام معه تراباً عند
سفره.
ومن اشترط التراب فقد أوجب على المسافرين الذين يجتازون تلك المناطق؛ أن
يصطحبوا معهم التراب.
وهذا يتناسب مع قاعدة: "يسِّروا ولا تعسِّروا"؛ وهو المُطابق لمزيَّة ما
خَصَّه الله تعالى للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله:
"أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحد قبلي: نُصرت بالرُّعب مسيرة شهر، وجعلت لي
الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ ... "
(2). فإِذا أدركته في الرِّمال فهل يبحث عن الغُبار؟ واشتراط خروج شيء من
الممسوح غير وارد" (3). وخلاصة القول: يجوز التيمُّم بالصعيد الطيّب سواء
كان له غبار أم لا، وسواء كان تراباً أم لا، كما يجوز التيمُّم بالسبخة
والرمال والجدار والصخرة الملساء ونحو ذلك، والله أعلم.
من يستباح له التيمُّم:
يُستباح التيمُّم لمن أحدث حدثاً أصغر أو أكبر، سواء كان في سفر أو
__________
(1) النساء: 43
(2) تقدّم.
(3) كذا قاله شيخنا -حفظه الله تعالى- بمعناه.
(1/232)
حضر، للأسباب الآتية:
1 - إِذا لم يجد الماء، لقوله تعالى: { ... فَلَمْ تَجِدوا مَاءً
فَتَيَمَّموا صَعِيداً طيباً} (1).
ولحديث عمران بن حصين "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- رأى رجلاً معتزلاً لم يُصلِّ في القوم، فقال: يا فلان! ما منَعك أن تصلي
في القوم، فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد
فإِنَّه يكفيك" (2).
ولحديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإِن لم يجد الماء عشر
سنين، فإِذا وجد الماء فليُمسّه بشره (3) فإِنَّ ذلك خير" (4).
ويدخل في معنى عدم وجود الماء؛ بُعده أو وجوده في بئر عميقة، أو صعوبة
استخراجه لفقد الحبل أو الدلو، أو وجود حيوان مفترس عنده أو عدوّ آدمي؛
بحيث يتعذَّر الانتفاع به أو إِذا احتاجه لشُرب (5) أو لعجن، أو طبخ" أو
__________
(1) النساء: 43
(2) أخرجه البخاري: 348، ومسلم: 682 نحوه.
(3) في بعض كتب الحديث بشرته، والمعنى واحد، قال في "مختار الصحاح":
البشرة، والبشر: ظاهر جلد الإنسان.
(4) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (107)، وأبو داود "صحيح سنن
أبي داود" (321)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (311)، وانظر "المشكاة"
(530)، و"الإِرواء" (153)، وتقدّم.
(5) قال ابن حزم في "المحلى" (مسألة 242): ومن كان معه ماءٌ يسير يكفيه =
(1/233)
إِزالة نجاسة.
قال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يُناوله: "يتيمّم" (1).
جاء في "المغني" (1/ 238): "ومن حال بينه وبين الماء سبع أو عدو أو حريق أو
لص فهو كالعادم، ولو كان الماء بمجمع الفساق، تخاف المرأة على نفسها منهم
فهي عادمة ... ".
وفيه أيضاً (1/ 239): "ومن كان مريضاً لا يقدر على الحركة ولا يجد من
يناوله الماء، فهو كالعادم ... ".
قال في "الدراري" (1/ 85): "فإِنَّ من تعذّر عليه استعمال الماء فهو عادم
للماء، إِذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع؛ فمن كان يشاهد ماءً في قعر بئر
يتعذّر عليه الوصول إِليه بوجه من الوجوه؛ فهو عادم.
2 - إِذا خشي الضرر من استعمال الماء؛ لمرض أو جرح أو شدَّة برودة، وكان
عاجزاً عن تسخينه؛ لقوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم إنَّ اللهَ كان
بكم رحيماً} (2).
وعن جابر قال: "خرجنا في سفر؛ فأصاب رجلاً منّا حجر، فشجّه في رأسه، ثمَّ
احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمُّم؟
__________
= لشربه فقط؛ ففرْضه التيمُّم، لقوله الله تعالى: {ولا تقتُلُوا أَنْفسكُم}
[النساء: 29]
(1) أورده البخاري معلّقاً بصيغة الجزم، ووصَله إِسماعيل القاضي في
"الأحكام" من وجه صحيح كما ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 441).
(2) النساء: 29
(1/234)
فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على
الماء، فاغتسل فمات، فلمّا قدِمنا على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أُخبر بذلك فقال: قتلوه قتَلهم الله، ألا سألوا إِذ لم يعلموا؛
فإِنّما شفاء العِيّ السؤال" (1).
وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات
السلاسل، فأشفَقتُ إِن اغتسلتُ أن أهلِك، فتيمَّمْتُ، ثمَّ صلّيت بأصحابي
الصبح، فذكروا ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:
"يا عمرو! صلّيت بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال،
وقلت: إِني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنْفُسَكم إِنَّ اللهَ كان بكم
رحيماً}.
فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئاً" (2).
وفي رواية: "فغسَل مغابنه وتوضّأ وضوءه للصلاة، ثمَّ صلّى بهم، فذكر نحوه
... " (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (325)، وابن ماجه، والدارقطنيّ،
وصححه ابن السكن كما في "الدراري المضية" (1/ 821)، و"المشكاة" (531).
وقال شيخنا في "تمام المنة" (131): "هذا الحديث ضعَّفه البيهقي والعسقلاني
وغيرهما، لكن له شاهد من حديث ابن عباس يرتقي به إِلى درجة الحسن ... ".
(2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (323)، والدارقطنيّ، وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي أيضاً وغيرهم، وعلّقه البخاري (1/ 95)،
وقواه الحافظ ابن حجر كما في "الفتح" (1/ 454)، وصححه شيخنا وذكر أنه على
شرط مسلم، وانظر "الإِرواء" (154).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (324)، والدارقطني وغيرهما، وانظر
"الإِرواء" (154).
(1/235)
وقال البخاري: (باب إِذا خاف الجُنُب على
نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش يتيمّم). وأورد حديث عمرو بن العاص
مُعلّقاً بصيغة التمريض.
هل يتيمّم من خاف فوت الرفقة؟
أجاز ذلك ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (2/ 165) (المسألة 229) وغيره.
وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى- عن ذلك فقال: "إِنَّ خوف فَوْت الرفقة مسألة
مطاطة، فربما فوت الرفقة عرَّض للهلاك، فله أن يتيمّم، وربما لم يؤدِّ ذلك
إِلى ضرر، وإِنّما هو مجرّد فقْد الصحبة، فقد يكون خوف فوت الصحبة عذراً
وقد لا يكون، والشخص نفسه هو الذي يقدّر ذلك لا المفتي".
التيمُّم لردِّ السلام في الحضر أو السفر بوجود الماء:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أقبلتُ أنا وعبد الله بن يسار مولى
ميمونة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى دخَلنا على
أبي جُهيم بن الحارث بن الصِّمّة الأنصاري، فقال أبو الجُهيم: "أقبَل
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو بئر جَمَل (1) فلقيه
رجل فسلَّم عليه، فلم يردّ عليه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثمَّ ردَّ عليه
السلام" (2).
قال ابن خزيمة (1/ 139) في "صحيحه" -عقب الحديث السابق-:
__________
(1) موضع معروف في المدينة.
(2) أخرجه البخاري: 337، ومسلم: 369، وغيرهما.
(1/236)
(باب استحباب التيمُّم في الحضر لرد السلام
وإِن كان الماء موجوداً).
تيمّم المريض:
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1).
ويتيمّم المريض إِذا وجدَ مشقَّة أو حرجاً في الوضوء بالماء أو الغسل به،
أو خشي زيادة علة أو مرض.
وتقدّم قول الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يُناوله: "يتيمّم" (2).
قال ابن حزم في "المحلى" (2/ 158) (مسألة 224): "لا يتيمّم من المرضى إِلا
من لا يجد الماء، أو من عليه مشقَّة وحرج في الوضوء بالماء، أو في الغسل
به، أو المسافر الذي لا يجد الماء الذي يقدر على الوضوء به أو الغسل به".
ثمَّ ذكر الآية السابقة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/ 399): "والذي عليه الجمهور:
أنَّه لا يُشترط فيه خوف الهلاك؛ بل من كان الوضوء يزيد مرضه، أو
__________
(1) المائدة: 6
(2) أورده البخاري معلقاً، ووصله إِسماعيل القاضي في "الأحكام" من وجه
صحيح، وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الحسن وابن سيرين قالا: "لا يتيمّم
ما رجا أن يقدر على الماء في الوقت، ومفهومه يوافق ما قبله". "الفتح" (1/
441)، وتقدّم.
(1/237)
يؤخر برْأه يتيمّم، وكذلك في الصيام
والإِحرام، ومن يتضرَّر بالماء لبرد؛ فهو كالمريض عند الجمهور".
تيمُّم المسافر:
قال الله تعالى: {وإِن كنتم مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جَاء أحَدٌ منْكُم
مِنَ الغائِطِ أو لامَسْتُمِ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدوا مَاءً فَتَيَمَّموا
صَعِيداً طَيِّباً} (1).
قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 28): "أجمع كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم؛
على أن المسافر إِذا خشي على نفسه العطش ومعه مقدار ما يتطهَّر به من
الماء؛ أنَّه يُبقي ماءَه للشرب ويتيمّم.
رويَ هذا القول عن علي وابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس وقتادة
والضحاك".
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/ 350): "اتفق المسلمون على
أنّه إِذا لم يجد الماء في السفر تيمّم وصلَّى إِلى أن يجد الماء، فإِذا
وجد الماء فعليه استعماله.
وكذلك يتيمّم الجنب، ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف؛ إِلى أنَّه
يتيمّم إِذا عدم الماء في السفر إِلى أن يجد الماء، فإِذا وجده كان عليه
استعماله".
وقال -رحمه الله-: "والمسافر إنّما يتيمّم إِذا لم يجد الماء" (2).
__________
(1) النساء: 43
(2) "الفتاوى" (21/ 398).
(1/238)
وقال -رحمه الله- أيضاً: "كما أن المسافر
قد لا يكون معه إِلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابِّه، فهذا عند الجمهور عادم
للماء فيتيمّم" (1).
تيمّم الجُنُب:
قال الله- عزّ وجلّ-: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (2).
وعن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: "جاء رجل إِلى عمر بن الخطَّاب فقال:
إِني أجنبتُ فلم أصب الماء، فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكرُ
أنَّا كنّا في سفر أنا وأنت، فأمّا أنت فلم تُصلِّ، وأمَّا أنا فتمعَّكْتُ
(3) فصلّيتُ، فذكرتُ للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان يكفيك هذا" فضرب
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفيه الأرض ونفخ (4)،
فيهما، ثمَّ مسح بهما وجهه وكفَّيه" (5).
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 399).
(2) النساء: 43
(3) أي: تمرَّغْت، وجاءت هذه في إِحدى روايات البخاري: 347، ومسلم: 368،
وكأنَّ عمَّار استعمل القياس في هذه المسألة، لأنَّه لما رأى أن التيمُّم
إِذا وقع بدل الوضوء على هيئة الوضوء؛ رأى أنَّ التيمُّم عن الغُسل يقع على
هيئة الغُسل. "الفتح".
ويُستفاد من هذا الحديث: وقوع اجتهاد الصحابة في زمن النّبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن المجتهد لا لوم عليه إِذا بذل وُسعه
وِإن لم يصب الحق، وأنَه إِذا عمل بالاجتهاد لا تجب عليه الإِعادة. "الفتح"
أيضاً.
(4) استدلَّ بالنفخ على استحباب تخفيف التراب. "فتح".
(5) أخرجه البخاري: 338، ومسلم: 368
(1/239)
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: "وقد
ثبت تيمُّم الجنب في أحاديث صحاح وحِسَان كحديث عمَّار بن ياسر -رضي الله
عنه- وهو في "الصحيحين"، وحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- وهو في
البخاري، وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص وصاحب الشجَّة -رضي الله عنهم- وهو
في "السنن" ... " (1).
وقال ابن حزم -رحمه الله-: "ويتيمّم الجُنُب والحائض، وكلّ من عليه غُسل
واجب؛ كما يتيمّم المُحدِث ولا فرق" (2).
وقال ابن قدامة -رحمه الله- عن تيمّم الجُنُب: " ... وهو قول جمهور
العلماء: منهم علي وابن عباس وعمرو بن العاص وأبو موسى وعمّار، وبه قال
الثوري ومالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي ... "
(3).
هل التيمُّم إِلى المناكب والآباط صحيح؟
قال إِسحاق بن إِبراهيم بن مخلد الحنظليّ: "حديث عمّار في التيمُّم
للوجه والكفين: هو حديث حسن صحيح، وحديث عمّار: تيمّمنا مع النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى المناكب والآباط؛ ليس هو بمخالف
لحديث الوجه والكفين، لأنَّ عمّاراً لم يذكر أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَرهم بذلك، وِإنّما قال: فعلْنا كذا وكذا. فلما سأل
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَره بالوجه والكفين،
فانتهى إِلى ما علّمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"الوجه والكفين".
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 400).
(2) "المحلى" (المسألة 249).
(3) "المغني" (1/ 261).
(1/240)
والدليل على ذلك: ما أفتى به عمّار بعد
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التيمُّم أنَّه قال:
"الوجه والكفين" ففي هذا دلالة على أنَّه انتهى إِلى ما علمه النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلَّمه إِلى "الوجه والكفين" (1).
التيمُّم ضربة أم ضربتان؟
قد تقدّم حديث عمّار -رضي الله عنه-: "التيمُّم ضربة للوجه والكفَّين" وما
في معناه، وفيه إِفادة الاقتصار على الضربة الواحدة للوجه والكفين.
قال في "الدراري المضَيَّة" (1/ 85): "وقد ذهب إِلى كون التيمُّم ضربة
واحدة للوجه والكفين الجمهور ... ".
قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 185): "واعلم أنّه قد روي هذا الحديث (2) عن
عمّار بلفظ ضربتين؛ كما وقع في بعض طُرقه، وكل ذلك معلول لا يصحّ.
قال الحافظ في "التلخيص" (ص56): وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة
عن عمّار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وقد جمع البيهقي
طُرق حديث عمَّار فأبلغ".
ثمَّ قال شيخنا: "وفي الضربتين أحاديث أخرى، وهي معلولة أيضاً كما بيّنه
الحافظ في "التلخيص" وحقَّقْتُ القول على بعضها في "ضعيف سنن أبي داود" (58
و59) " (3).
__________
(1) "سنن الترمذي" (باب التيمُّم).
(2) أي حديث عمّار: "التيمّم ضربة للوجه والكفين".
(3) "الإِرواء" (1/ 186).
(1/241)
هل التيمُّم يقوم مقام الماء؟
قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (21/ 352): "وتنازعوا هل يقوم (1) مقام
الماء، فيتيمّم قبل الوقت، كما يتوضّأ قبل الوقت، ويصلّي به ما شاء من فروض
ونوافل، كما يصلّي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء؟
على قولين مشهورين، وهو نزاع عمليّ ... ".
وقال -رحمه الله تعالى-: "وهذا القول هو الصحيح (2)، وعليه يدّل الكتابُ
والسنّة والاعتبار؛ فإِن الله جعَل التيمُّم مُطهِّراً؛ كما جعَل الماء
مطهِّراً، فقال تعالى: { ... فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (3) فأخبر تعالى
أنَّه يريد أن يُطهِّرنا بالتراب؛ كما يطهِّرنا بالماء" (4).
وقال -رحمه الله-: "ولنا أنّه قد ثبت بالكتاب والسنّة أنَّ التراب طهور،
كما أنَّ الماء طهور، وقد قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "الصَّعيد الطيِّب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإِذا وجدت
الماء فأمِسّه بشرتك، فإِن ذلك خير" (5). فجعله مطهِّراً عند عدم الماء
مطلقاً، فدلَّ على أنَّه مطهّر للمتيمّم،
__________
(1) أي: التيمُّم.
(2) أي: أنَّ التيمّم يقوم مقام الماء.
(3) المائدة: 6
(4) "الفتاوى" (21/ 436).
(5) تقدّم.
(1/242)
وإِذا كان قد جعل المتيمّم مطهراً؛ كما أن
المتوضئ مطهر، ولم يقيّد ذلك بوقت، ولم يقُل إِنَّ خروج الوقت يبطله، كما
ذكر أنّه يبطله القدرة على استعمال الماء، دلّ ذلك على أنّه بمنزلة الماء
عند عدم الماء، وهو موجب الأصول، فإِنَّ التيمُّم بدل عن الماء، والبدل
يقوم مقام المُبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلاً له في صفته، كصيام
الشهرين؛ فإِنّه بدل عن الإِعتاق، وصيام الثلاث والسبع؛ فإِنّه بدل عن
الهَدي في التمتُّع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفّارة اليمين؛ فإِنّه بدل
عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المُبدل ... " (1).
وقال -رحمه الله- أيضاً: "والشارع حكيم إِنّما يُثبت الأحكام ويبطلها
بأسباب تُناسبها، فكما لا يُبطل الطهارة بالأمكنة؛ لا يبطل بالأزمنة
وغيرها؛ من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع" (2).
وقال -رحمه الله- أيضاً: "والتيمّم كالوضوء فلا يبطل تيمّمه إلاَّ ما يبطل
الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناءً على قولنا، وقول من
وافَقنا على التوقيت في مسح الخفّين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة،
فإِنَّ هذا مذهب الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد" (3).
وقال -رحمه الله- كذلك: "وِإذا كان تطهّر قبل الوقت (4)، كان قد
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 353، 354).
(2) "الفتاوى" (21/ 361).
(3) "الفتاوى" (21/ 362).
(4) أي: بالتيمّم.
(1/243)
أحسن، وأتى بأفضل ممّا وجب عليه، وكان
كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدَّى أكثر من الواجب في الزّكاة وغيرها،
وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كلّه حسَن إِذا لم يكن
محظوراً؛ كزيادة ركعة خامسة في الصلاة.
والتيمّم مع عدم الماء حسَن ليس بمحرّم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة
ولمسّ المصحف وقراءة القرآن" (1).
وذكر -رحمه الله- "أنَّ هذا هو مذهب أبي حنيفة، وهو قول سعيد بن المسيّب،
والحسن البصري، والزهري، والثوري، وغيرهم، وهو إِحدى الروايتين عن أحمد بن
حنبل" (2).
قال ابن حزم -رحمه الله-: "والمتيمّم يصلي بتيمّمه ما شاء من الصلوات:
الفرض والنوافل ما لم ينتقض تيمّمه بحدَث أو بوجود الماء؛ وأمّا المريض؛
فلا ينتقض طهارته بالتيمّم إلاَّ ما ينقض الطهارة من الأحداث فقط؛ وبهذا
يقول أبو حنيفة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وداود.
وروينا أيضاً: عن حمّاد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: يصلي
الصلوات كلها بتيمّم واحد مِثل الوضوء ما لم يُحدث.
وعن معمر قال: سمعتُ الزهري يقول: التيمُّم بمنزلة الماء، يقول: يصلّي به
ما لم يُحدِث.
وعن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: صلّ بتيمّم واحد الصلوات كلها ما
__________
(1) "الفتاوى" (21/ 363).
(2) "الفتاوى" (21/ 352).
(1/244)
لم تُحدِث، هو بمنزلة الماء. وهو قول يزيد
بن هارون، ومحمد بن علي بن الحسين وغيرهم" (1).
وقال -رحمه الله- أيضاً: "والتيمّم جائز قبل الوقت وفي الوقت، إِذا أراد أن
يصلي به نافلة أو فرضاً كالوضوء ولا فرق؛ لأنَّ الله تعالى أمر بالوضوء
والغسل والتيمّم عند القيام إِلى الصلاة، ولم يقُل تعالى: إِلى صلاة فرض
دون النافلة؛ فكلّ مريد الصلاة: فالفرض عليه أن يتطهّر لها بالغسل إِن كان
جنباً، وبالوضوء أو التيمُّم إِن كان محدثاً؛ فإِذ ذلك كذلك، فلا بد لمريد
الصلاة من أن يكون بين تطهره وبين صلاته مُهلة من الزمان؛ فإِذ لا يمكن غير
ذلك فمن حدّ في قدْر تلك المهلة حدّاً فهو مبطل؛ لأنه يقول من ذلك ما لم
يأت به قرآن ولا سنّة ولا إِجماع ولا قياس ولا قول صاحب؛ فإِذ هذا كما
ذكَرنا؛ فلا ينقض الطهارة بالوضوء ولا بالتيمّم: طول تلك المهلة ولا
قِصَرها وهذا في غاية البيان، والحمد لله رب العالمين" (2).
وقال في موطن آخر (22/ 33): "وكلّ ما يباح بالماء يباح بالتيمّم".
وذكَر لي شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى- " أنَّ كلَّ أحكام التيمُّم
تنسحب على أحكام الوضوء، إلاَّ أن وجود الماء يُبطله". اهـ.
والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر المستحاضة أن تتوضّأ
لكلّ صلاة؛ ولم يأمر مَن فقَد الماء أن يتيمّم لكلّ صلاة.
والخلاصة: إِن التيمُّم بدل من الماء عند عدمه؛ فيباح به الصلاة وغيرها،
__________
(1) "المحلّى" (2/ 175).
(2) "المحلى" (2/ 180) (المسألة 237).
(1/245)
ويصلّي بالتيمّم الواحد ما تيسَّر له من
الفرائض والنوافل، كما لا يشترط دخول الوقت فيتيمّم قبل دخول الوقت، ولا
يبطل بخروج الوقت.
اشتراط طهارة الصعيد للمتيمّم:
لا بُدَّ من طهارة الصعيد للمتيمّم وإِنْ ضرب بيده غير طاهر لم يجْزه،
لقوله تعالى: {فَتَيَمَّموا صَعِيداً طيباً}. والنجس ليس بطيّب.
وفي الحديث: "جُعلت لي كلّ أرض طيبة مسجداً وطهوراً" (1).
قال في "المغني" (1/ 260) (2): "وإن كان ما ضرب بيده غير طاهر لم يجزه.
لا نعلم في هذا خلافاً، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.
ولنا قول الله تعالى: {فَتَيَمَّموا صَعِيداً طيِّباً} والنجس ليس بطيِّب،
ولأن التيمُّم طهارة، فلم يَجُز بغير طاهر كالوضوء ... ".
جواز تيمّم جماعة من موضع واحد:
يجوز تيمّم جماعة من موضع واحد؛ لأنَّ القول بطهورية الصعيد المستعمل؛
كالقول بطهورية الماء المستعمل (3).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" والضياء، ورواه ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 12)،
وابن الجارود بإِسناد صحيح عن أنس كما ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 438)
(كتاب: التيمُّم)، وقال شيخنا: إِسناده صحيح على شرط مسلم، وهو في
"الإرواء" (152) التحقيق الثاني.
(2) بحذف يسير.
(3) تقدّم.
(1/246)
قال في "المغني" (1/ 260): "ويجوز أن
يتيمّم جماعة من موضع واحد بغير خلاف؛ كما يجوز أن يتوضّأ جماعة من حوض
واحد ... ".
إِذا كان التراب على بساط أو ثوب؛ فلا مانع من التيمُّم به، وذكر ذلك ابن
خزيمة في "صحيحه" (1/ 132).
صحَّة اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم:
لحديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقد أمَّ قومه بعد أن تيمّم من الجنابة
كما تقدّم (1). وبه استدلَّ الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 325).
وأيضاً لأنَّ التيمُّم يقوم مقام الماء مطلقاً كما تقدّم.
وجاء في البخاري: "وأَمَّ ابن عباس وهو متيمّم" (2).
قال مالك في "الموطأ": "من قام إِلى الصلاة فلم يجد ماءً فعمل بما أمره
الله به من التيمُّم، فقد أطاع الله عزّ وجلّ، وليس الذي وجد الماء بأطهر
منه ولا أتمّ صلاة؛ لأنهما أُمِرا جميعاً؛ فكلُّ عمل بما أمره الله عزّ
وجلّ به؛ وإِنّما العمل بما أمر الله تعالى به من الوضوء؛ لمن وجد الماء
والتيمّم لمن لم يجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة".
عدم الإِعادة لمن صلّى بالتيمّم وإِن لم يفت الوقت:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رجلان في سفر،
__________
(1) ذكره البخاري معلّقاً بصيغة الجزم، وقال الحافظ في "الفتح" (1/ 446):
"وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح".
(2) انظر الحاشية السابقة.
(1/247)
فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمّما
صعيداً طيباً فصلَّيا، ثمَّ وجد الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة
والوضوء، ولم يُعِد الآخر، ثمَّ أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعد: "أصبْت السنّة وأجزأَتْك
صلاتك"، وقال للذي توضّأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" (1).
وهذا يُرجِّح عدم الإِعادة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لمن لم يُعِد، "أصبْتَ السنّة وأجزأتك صلاتك"، وهذا يُفهم أن الثاني قد
أخطأ السنّة، وأما أجر المرتين؛ فعلى الصلاة وإِعادتها بالاجتهاد، والله
أعلم.
وبعد أن عرفْنا السُّنّة الصحيحة في هذا الأمر؛ فلا يجوز لنا أن نُخالف
عنها. وفي الحديث: "لا تُصلّوا صلاة في يوم مرتين" (2).
قال في "نيل الأوطار" (1/ 325) -تعليقاً على حديث عمرو بن العاص رضي الله
عنه-: استدل بهذا الحديث الثوري ومالك وأبو حنيفة وابن المنذر، على أنَّ
مَن تيمّم لشدة البرد وصلّى لا تجب عليه الإِعادة، لأنَّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمره بالإِعادة، ولو كانت واجبة لأمره
بها، ولأنَّه أتى بما أُمر به وقدر عليه، فأشبه سائر من يصلّي بالتيمّم ...
".
وعن عمران قال: "كنّا في سفَر مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وإِنَّا أسرينا حتى كُنّا في آخر الليل؛ وقعنا وقعة ولا وقعةَ
أحلى عند المسافر منها، فما أيقَظَنا إلاَّ حرّ الشمس، فذكر بعض الحديث
وقال: ونودي بالصلاة فصلّى بالناس، فلما
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (327)، وابن السكن وغيرهما، وانظر
"المشكاة" (533).
(2) أخرجه أحمد، وغيره وإسناده حسن كما قال شيخنا في "المشكاة" (1157)،
وصححه النووي وابن السكن، وهو في "صحيح سنن أبي داود" (540).
(1/248)
انفتل من صلاته؛ إِذا هو برجل معتزلٍ، لم
يصلِّ مع القوم قال: ما منعك يا فلان أن تصلّي مع القوم؟ قال: أصابتني
جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد، فإِنَّه يكفيك.
ثمَّ سار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاشتكى إِليه
الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً كان يُسمِّيه أبو رجاء -نسيهُ عَوْفٌ-
ودعا عليّاً فقال: اذهبا فابتغيا الماء بين مزادتين (1) أو سطيحتين من ماء
على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة
ونفرْنا خُلُوفاً (2)، قالا لها: انطلقي إِذاً، قالت: إِلى أين؟ قالا: إِلى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت: الذي يُقال له
الصَّابيُّ.
قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي فجاءا بها إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحدَّثاه الحديث قال: فاستنزلوها عن بعيرها ودعا
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإِناء ففُرّغ فيه من أفواه
المزادتين أو سطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العزاليَ (3)، ونودي في الناس
اسقوا واستقوا، فسقى مَن شاء واستقى مَن شاء، وكان آخر ذاك أن أعطي الذي
أصابته الجنابة إِناء من ماء، قال: اذهب فأفرِغه عليك" (4).
__________
(1) المزادة: بفتح الميم: قربة كبيرة يزاد فيها جلد من غيرها، وتسمّى أيضاً
السطيحة، وجاء في "النهاية": السطيحة من المزاد: ما كان من جلدين قوبل
أحدهما بالآخر، فسُطح عليه وتكون صغيرة وكبيرة، وهي من أواني المياه.
(2) " ... أي أنَّ رجالها تخلفوا لطلب الماء ... قال ابن فارس: الخالف:
المستقي، ويقال أيضاً لمن أناب، ولعلّه المراد هنا، أي أنَّ رجالهما غابوا
عن الحيّ". "فتح".
(3) جمع العزلاء، وهو فم المزادة الأسفل. "النهاية".
(4) أخرجه البخاري مطولاً: 344، وابن خزيمة مختصراً: 271
(1/249)
قال ابن خزيمة -بعد أن ذكَر هذا الحديث-:
"ففي هذا الخبر أيضاً دلالة على أنَّ المتيمّم إِذا صلّى بالتيمّم، ثمَّ
وجد الماء فاغتسَل إِنْ كان جُنباً أو توضّأ إِن كان مُحدِثاً -لم يجب عليه
إِعادة ما صلّى بالتيمّم. إِذ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لم يأمر المصلي بالتيمّم؛ لمّا أمره بالاغتسال بإِعادة ما صلّى بالتيمّم"
(1).
جاء في "المحلّى" (2/ 165): "وعن مالك عن نافع أنَّه أقبل مع ابن عمر من
الجرف، فلما أتى المربد لم يجد ماء، فنزل فتيمّم بالصعيد، وصلّى ثمَّ لم
يُعِد تلك الصلاة (2)، وهو قول داود وأصحابنا".
قال ابن قدامة في "المغني" (1/ 243): "إِنْ تيمّم في أول الوقت وصلّى
أجزأه؛ وإِنْ أصاب الماء في الوقت". وأورد حديث: "لك الأجر مرتين" (3).
شراء الماء للوضوء وعدم التيمُّم:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فمنهم من رأى جواز شراء الماء للوضوء،
ومنهم من لم ير للنصوص المانعة من بيع الماء (4).
والراجح الجواز؛ لقول الله تعالى: { ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا} (5).
"وهذا واجبٌ فإِنَّ القدرة على ثمن العين؛ كالقدرة على العين" (6).
__________
(1) "صحيح ابن خزيمة" (1/ 137).
(2) انظر "الموطأ" (48) رواية محمد بن الحسن الشيباني.
(3) تقدّم.
(4) منهم ابن حزم في "المحلى" (2/ 182) (مسألة 241).
(5) النساء: 43
(6) قاله ابن قدامة في "المغني" (1/ 240).
(1/250)
قال في "المغني" (1/ 240): "وإِنْ وجَده
يباع بثمن مِثْله في موضعه أو زيادة يسيرة يقدر على ذلك؛ مع استغنائه عنه
لقوَّته ومؤنة سفره لزِمَه شراؤه، وإِنْ كانت الزّيادة كثيرة تجحف بماله؛
لم يلزم شراؤه لأنَّ عليه ضرراً ... ".
وقال لي شيخنا الألباني -حفظه الله تعالى-: "من شأن الشخص أن يبذُل المال
في الأمور الدنيوية؛ فهذا أولى".
هل هناك مسافة معيَّنة في البحث عن الماء؟
لم يرِدْ في هذا نصٌّ معين، وسأَلتُ شيخنا -حفظه الله تعالى- عن ذلك فأجاب:
"إِنَّ ضابط الأمر هو الاستطاعة والقدرة وعدم خروج الوقت في البحث".
مَن وجد ما يكفي بعض طهارته يستعمله ويتيمّم للباقي:
قال الله تعالى: {فاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُم} (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أمرْتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (2).
قال الإِمام الشوكاني -رحمه الله- عقب هذا الحديث في "نيل الأوطار" (1/
329): "هذا الحديت أصْلٌ من الأصول العظيمة، وقاعدة من قواعد الدين
النّافعة، وقد شهد له صريح القرآن، قال الله تعالى:
__________
(1) التغابن: 16
(2) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337، وغيرهما.
(1/251)
{فاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُم} فلك
الاستدلال بالحديث على العفو عن كلّ ما خرج عن الطاقة، وعلى وجوب الإِتيان
لما دَخل تحت الاستطاعة من المأمور به، وأنَّه ليس مجرَّد خروج بعضه عن
الاستطاعة موجب للعفو عن جميعه.
وقد استدلّ به المصنف على وجوب استعمال الماء الذي يكفي لبعض الطهارة وهو
كذلك".
وفي بعض ألفاظ روايات حديث عمرو بن العاص المعروف: "فَغَسل مغابنه وتوضّأ
وضوءه للصلاة، ثمَّ صلّى بهم، فذكر نحوه، ولم يذكر التيمُّم" (1).
قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي، عن حسّان بن عطية، قال فيه:
"فتيمّم".
قال في "المغني" (1/ 261): "إِذا كان به قرْح أو مرض مخوف وأجنب فخشي على
نفسه إِن أصاب الماء غسَلَ الصحيح من جسده، وتيمّم لما لم يُصبه الماء".
الصلاة بدون وضوء أو تيمّم:
من كان محبوساً أو مصلوباً وحِيل بينه وبين التراب والماء؛ فليصلِّ كما هو.
عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت،
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (324)، والدارقطني وغيرهما وانظر
"الإِرواء" (154)، وتقدم.
(1/252)
فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجلاً فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلَّوا، فشكَوا
ذلك إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزل الله آية
التيمُّم ... " (1).
قال البخاري -رحمه الله- (باب إِذا لم يجد ماءً ولا تُراباً) (2)، وأورد
حديث عائشة -رضي الله عنها-.
قال ابن رشيد تعليقاً على تبويب البخاري السابق: "كأنّ المصنف نزَّل فقْد
شرعيَّة التيمُّم منزلة فقد التراب بعد شرعيَّة التيمُّم، فكانَّه يقول:
حُكْمهم في عدم المطهّر -الذي هو الماء خاصّة- كحكمنا في عدم المطهّرَيْن:
الماء والتراب، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة؛ لأنَّ الحديث ليس فيه
أنّهم فقدوا التراب، وإِنّما فيه أنّهم فقدوا الماء فقط؛ ففيه دليل على
وجوب الصلاة لفاقد الطهورَين، ووجهُهُ أنّهم صلَّوا معتقدين وجوب ذلك، ولو
كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور المحدِّثين وأكثر أصحاب مالك
... " (3).
قال ابن حزم في "المحلّى" (2/ 188): "ومن كان محبوساً في حضر أو سفر بحيث
لا يجد تراباً ولا ماء، أو كان مصلوباً وجاءت الصلاة -فليصلِّ كما هو،
وصلاته تامّة ولا يعيدها- سواءٌ وُجد الماء في الوقت أو لم يجده إلاَّ
__________
(1) أخرجه البخاري: 336، ومسلم: 367، وغيرهما، وتقدّم.
(2) انظر "صحيح البخارى" (1/ 92).
(3) انظر "الفتح" (1/ 440).
(1/253)
بعد الوقت".
برهان ذلك قول الله تعالى: {فاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُم} (1).
وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وسْعَها} (2)، وقول رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه
ما استطعتم" (3)، وقوله تعالى: {وقد فَصَّل لكم ما حرَّم عليكُم إِلاَّ ما
اضطررتم إِليه} (4).
فصحّ بهذه النصوص أنَّه لا يلزمنا من الشرائع إِلا ما استطعنا، وأنَّ ما لم
نستطعه فساقطٌ عنّا. وصحّ أنَّ الله تعالى حرّم علينا ترك الوضوء أو
التيمُّم للصلاة؛ إلاَّ أن نضطرَّ إِليه، والممنوع من الماء والتراب مضطرٌّ
إِلى ما حُرّم عليه من ترْك التطهُّر بالماء أو التراب، فسقط عنّا تحريم
ذلك عليه، وهو قادر على الصلاة بتوفيتها أحكامها وبالإِيمان، فبقي عليه ما
قَدِر عليه، فإِذا صلّى كما ذكَرنا، فقد صلّى كما أمَره الله تعالى، ومن
صلّى كما أمره الله تعالى؛ فلا شيء عليه ... ".
وجاء في "المنتقى" (1/ 237): (باب الصلاة بغير ماء ولا تراب عند الضرورة)
وأورد الحديث نفسه.
__________
(1) التغابن: 16
(2) البقرة: 286
(3) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337، وغيرهما، وتقدّم.
(4) الأنعام: 119
(1/254)
هل يتيمّم إِذا كان قادراً على استعمال
الماء، وخشي خروج الوقت باستعماله؟
قال شيخنا في الردِّ على الشيخ السيد سابق -حفظهما الله تعالى-: "والذي
يتبيَّن لي خلافه (1)، وذلك لأنَّه من الثابت في الشريعة أنَّ التيمُّم
إِنّما يشرع عند عدم وجود الماء بنصِّ القرآن الكريم، وتوسَّعت في ذلك
السنّة المطهرة فأجازَتْه لمرض أو برد شديد كما ذكَره المؤلّف، فأين الدليل
على جوازه مع قدرته على استعمال الماء؟
فإِن قيل: هو خشية خروج الوقت، قلتُ: هذا وحده لا يصلُح دليلاً، لأنَّ هذا
الذي خشي خروج الوقت له حالتان لا ثالث لهما: إِمّا أن يكون ضاق عليه الوقت
بكسبه وتكاسُله، أو بسببٍ لا يملكه مِثل النَّوم والنسيان، ففي هذه الحالة
الثانية؛ فالوقت يبتدئ من حين الاستيقاظ أو التذكُّر بقدر ما يتمكن من أداء
الصلاة فيه كما أُمِر، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
"من نسي صلاة أو نام عنها فكفَّارتها أن يصلِّيها إِذا ذكرها". أخرجه
الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم، فقد جعل الشارع الحكيم لهذا المعذور وقتاً
خاصّاً به، فهو إِذا صلّى كما أمر، يستعمل الماء لغسله أو وضوئه، فليس يخشى
عليه خروج الوقت، فثبَت أنّه لا يجوز له أن يتيمّم، وهو اختيار شيخ
الإِسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات" (ص12)، وذكَر في "المسائل
الماردينية" (ص 65) أنَّه مذهب الجمهور.
وأمّا في الحالة الأولى؛ فمن المسلَّم أنَّه في الأصل مأمور باستعمال الماء
__________
(1) أي: أنَه لا يجوز التيمّم؛ لأن الشيخ السيد سابق -حفظه الله- يرى جواز
ذلك، كما في "فقه السنّة" (1/ 79).
(1/255)
وأنه لا يتيمّم، فكذلك يجب عليه في هذه
الحالة أن يستعمل الماء، فإِنْ أدرك الصلاة فبها، وإِنْ فاتته فلا يلومنّ
إلاَّ نفسه، لأنَّه هو الذي سعى إِلى هذه النتيجة.
هذا هو الذي اطمأنّت إِليه نفسي، وانشرح له صدري، وإِنْ كان شيخ الإِسلام
وغيره قالوا: إِنّه يتيمّم ويصلِّي (1)، والله أعلم.
ثمَّ رأيت الشوكاني كأنّه مال إِلى هذا الذي ذكَرته فراجع "السيل الجرّار"
(1/ 126 - 127) " (2) انتهى.
قلت: قال الشوكاني -رحمه الله- في "الدراري المضيّة" (1/ 86):
"وأمّا ما قيل من أنّ فوات الصلاة باستعمال الماء وإِدراكها بالتيمّم سبب
من أسباب التيمُّم؛ فليس على ذلك دليل؛ بل الواجب استعمال الماء، وهو إِن
كان تراخيه عن تأدية الصلاة إِلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير كالنوم
والسهو ونحوهما؛ فلم يوجب الله تعالى عليه إِلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت
بالطهور الذي أوجبه الله تعالى عليه، وإِن كان التراخي لا لعذر إِلى وقت لو
استعمل الوضوء فيه؛ لخرج الوقت فعليه الوضوء، وقد باء بإِثم المعصية".
هل يُكره لعادم الماء جماع زوجته؟
لا يُكره ذلك لقول أبي ذرّ للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"كنت أعزُب (3) عن الماء، ومعي
__________
(1) قد سبق قوله -رحمه الله- في "الاختيارات"، ولكنّه في عدة مواطن من
"الفتاوى" رجَّح الرأي الآخر.
(2) انظر "تمام المنَّة" (132، 133).
(3) أي: أُبعِد. "النهاية".
(1/256)
أهلي؛ فتصيبني الجنابة، فأصلّي بغير طهور،
فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنصف النهار وهو في
رهطٍ من أصحابه، وهو في ظلِّ المسجد، فقال: أبو ذرّ؟ فقلت: نعم، هلكْتُ يا
رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قلت: إِنّي كنتُ أعزب عن الماء، ومعي أهلي
فتصيبني جنابة، فأصلّي بغير طهور.
فأمر لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء، فجاءت به
جارية سوداء بعُس (1) يتخضخض ما هو بملآن، فتستَّرْتُ إِلى بعيري فاغتسلْت،
ثمَّ جئتُ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا
ذر إِنَّ الصعيد الطيّب طَهور، وإِن لم تجد الماء إِلى عشر سنين، فإذا
وجدْتَ الماء فأمسَّه جِلدك" (2).
وروي عن ابن عبّاس في الرجل يكون مع أهله في السفر وليس معهم ماء؛ فلم ير
بأساً أن يغشى أهله ويتيمّم (3).
قال ابن المنذر -رحمه الله-: "وبهذا القول نقول؛ لأنَّ الله تعالى أباح وطي
الزوجة وملك اليمين، فما أباح فهو على الإِباحة، لا يجوز حظْر ذلك ولا
المنع منه إلاَّ بسنّةٍ أو إِجماع، والممنوع منه: حال الحيض والإِحرام
والصيام،
__________
(1) العُسّ: القدح الكبير وجمعه عِساس وأعساس. "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (322) وأحمد والترمذي، وانظر
"المشكاة" (530)، والشطر الأخير منه تقدم تخريجه.
قال في "نيل الأوطار" (1/ 326): "وذِكْر العشر سنين لا يدّل على عدم جواز
الاكتفاء بالماء بعدها؛ لأنَّ ذِكرها لم يُرَد به التقييد، بل المبالغة؛
لأن الغالب عدم فُقدان الماء وكثرة وجدانه لشدة الحاجة إِليه، فعدَمُ
وجدانه إنِّما يكون يوماً أو لبعض يوم.
(3) "الأوسط" (2/ 17).
(1/257)
وحال المظاهر قبل أن يكفّر، وما وقع بتحريم
الوطي منه بحجَّة، فأمّا كل مختلف فيه في ذلك، فمردود إِلى أصل إِباحة
الكتاب الوطي، قال الله تعالى: {فإِذا تَطَهَّرنَ فَأْتُوهنَّ من حَيْثُ
أَمَرَكم الله} (1).
وقد جعل التيمُّم طهارة لمن لم يجد الماء، ولا فرق بين من صلّى بوضوء عند
وجود الماء، وبين من صلّى بتيمّم حيث لا يجد الماء؛ إِذ كلٌّ مؤدِ ممَّا
فُرضَ عليه" (2).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (2/ 192) (مسألة 247): "ومن كان في
سفر ولا ماء معه، وكان مريضاً يشقّ عليه استعمال الماء؛ فله أن يُقبِّل
زوجته ويطأها، وهو قول ابن عباس وجابر بن زيد والحسن البصري وسعيد بن
المسيب، وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل
وإِسحاق وداود وجمهور أصحاب الحديث". وذكَر أقوالاً وتفصيلات أخرى لبعض
السلف.
وبوَّب لذلك أبو البركات -رحمه الله- في "منتقى الأخبار" (1/ 325): (باب
الرُّخصة في الجماع لعادم الماء) وذكر حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
قال لي شيخنا -حفظه الله تعالى- بعد إِيراد حديث أبي ذر -رضي الله عنه-
فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإِن لم تجد الماء إِلى عشر
سنين"؛ يُفهِم أنَّه لا يمكن
__________
(1) البقرة: 222.
(2) "الأوسط" (2/ 17).
(1/258)
أن يترك جِماعها في هذه المدّة؛ فلمن لم
يجد الماء في غير سفر أن يجامع أهله فيتيمّم".
(1/259)
|