الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الحيض والنِّفاس
الحيض
تعريفه: الحيض: "دم يرخيه الرّحم، إِذا بَلَغت المرأة، ثمَّ يعتادها في
أوقاتٍ معلومة" (1).
جاء في "حلية الفقهاء" (ص63): "الحيض: نزول دم المرأة لوقتها المعتاد، ومن
العرب من تُسمِّي الحائض النّفساءَ، وإِنَّما سُمِّيت بذلك لسيلان (2)
النَّفْس، والدَّم يُسمَّى نَفْساً".
قال الشاعر:
تسيلُ على حدِّ الظبات (3) نفوسُنا ... وليست على غير السيوف تَسيلُ.
وقته:
"ليس في السنَّة تحديد لسنِّ البنت التي تحيض، وينبغي أن يُنظر إِلى
__________
(1) "المغني" (1/ 313)، وانظر ما جاء في "الفتح"، و"المحلى" (2/ 220)
و"المجموع" (3/ 342).
(2) والحيض أصْله السَّيلان، قال في "القاموس": "حاضت المرأة تحيض حيضاً
ومحيضاً ومحاضاً؛ فهي حائض، وحائضة: سال دمها، والمحيض: اسم ومصدر، ومنه
الحوض؛ لأنَّ الماء يسيل إليه".
(3) مفرد الظُّبّة: وهو حدُّ السيف والسنان والخنجر وما أشبههما. وانظر
"الوسيط".
(1/260)
صفة دم الحيض الطارئ، لا سيَّما أنَّ ربط
حُكم شرعيّ بسنَة مُعيَّنة؛ قد لا يكون ربطاً بمعروف محدود.
وهناك عائلات كثيرة لا تُسجِّل في الذِّهن أو الورق سَنَة الولادة أو
الوفاة، فقد لا تعلم البنت أو الأمّ كم مضى من عمُرها، فليس من المعقول أن
يأتي الشرع بشيء لا يُمكن، وقد قال عليه الصلاة السلام: "إذا كان دم الحيض
فإِنَّه أسود يُعرَِف (1) " (2).
وإِلى هذا ذهب الدارمي وغيره، فقد قال بعد ذكر الاختلافات: "كل هذا عندي
خطأ؛ لأن المرجع في جميع ذلك إِلى الوجود (3)، فأيّ قَدْر وُجد في أيّ حال
وسنّ، كان وجب جعله حيضاً، والله أعلم" (4).
لونه:
أ- السواد: لحديث فاطمة بنت حبيش -رضي الله عنها- أنَّها كانت تُستحاض،
فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان دم
الحيض؛ فإِنَّه أسود يُعرَف؛ فأمسِكي عن الصَّلاة، فإِذا كان الآخر؛
فتوضّئي إِنما هو عرْق" (5).
__________
(1) سيأتي تخريجه بعد سطور -إِن شاء الله-.
(2) قاله لي شيخنا -حفظه الله تعالى-.
(3) أي: وجود الدم.
(4) "المجموع شرح المهذّب" (2/ 274). ونقله عنه الشيخ ابن عثيمين -حفظه
الله- في كتابه "الدماء الطبيعية للنساء" (ص 6).
(5) أخرجه أبو داود: 286، "صحيح سنن أبي داود" (263)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (350) والطحاوي في "مشكل الآثار" والدارقطني والحاكم =
(1/261)
قال في "نيل الأوطار" (1/ 342): "والحديث
فيه دلالة على أنَّه يعتبر التمييز بصفة الدَّم، فإِذا كان متصفاً بصفة
السواد فهو حيض، وإلاَّ فهو استحاضة". وبه يقول الشافعي -رحمه الله- وغيره
في حقِّ المبتدئة.
ب- الحُمرة.
بر- الصُّفرة: "وهو الماء الذي تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار" (1).
د- الكُدرة: "وهو ما كان لونه ينحو نحو السَّواد" (2)، لحديث علقمة بن أبي
علقمة عن أمِّه (3) مولاة عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: كان النِّساء
يبعَثن إِلى عائشة أمّ المؤمنين بالدِّرَجَة (4) فيها الكُرسف (5)، فيه
الصُّفرة من دم الحيض، يسألنها عن الصَّلاة، فتقول لهنَّ: لا تعجَلْن حتى
ترَيْن القصَّة (6) البيضاء -تريد بذلك الطُّهر من الحيضة-" (7).
__________
= والبيهقي، وحسّنه شيخنا في "الإِرواء" (204).
(1) قاله الحافظ في "الفتح" (1/ 426).
(2) "المعجم الوسيط".
(3) انظر ما ذكَره شيخنا في "الإرواء" (1/ 219): حول أمّ علقمة.
(4) الدِّرَجَة؛ بكسر الدال وفتح الراء، جمع دُرْج: وهو السَّفط الصغير تضع
فيه المرأة خِفَّ متاعها وطيبها، وقيل: إِنّما هو الدُّرَجَة تأنيث دُرْج
... "النهاية".
(5) القطن.
(6) هو أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحشي بها الحائض، كأنَّها قصَّة
بيضاء لا يخالطها صُفرة. وقيل: القصة شيء كالخيط الأبيض، يخرج بعد انقطاع
الدّم كله. "النهاية".
(7) أخرجه مالك وعلّقه البخاري، وصححه شيخنا -حفظه الله- في "الإرواء"
(198).
(1/262)
ومن طريق أخرى عن مولاة عائشة -رضي الله
عنها- أيضاً بلفظ: "قالت: إِذا رأتِ الدَّم فلتُمسكْ عن الصَّلاة حتى تَرى
الطُّهر أبيض كالفضَّة، ثمَّ تَسُلّ وتُصلّي" (1).
والكدرة والصفرة لا تكون حيضاً إلاَّ في أيام الحيض، وفي غير ذلك لا تُعدّ
حيضاً؛ لحديث أمّ عطيّة "كنَّا لا نعُد الصُّفرة والكُدرة بعد الطُّهر
شيئاً" (2). فإِنَّه يدلّ بطريق المفهوم أنَّهنَّ كنَّ يعدُدْن ذلك قبل
الطهر حيضاً.
قال شيخنا في "تمام المنَّة في التعليق على فقه السنَّة" (ص 136): "والحديث
(3) وإِن كان موقوفاً؛ فله حُكم المرفوع (4) لوجوه، أقواها أنَّه يشهد له
مفهوم حديث أمّ عطيَّة المذكور في الكتاب (5) عقب هذا بلفظ: "كنَّا لا
نعدُّ الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً"، فإنَّه يدلّ بطريق المفهوم
أنَّهنَّ كنَّ يعتبرن ذلك قبل الطهر حيضاً، وهو مذهب الجمهور؛ كما قال
الشوكاني.
__________
(1) أخرجه الدارمي: (1/ 214) وإسناده حسن، وانظر "الإِرواء" (1/ 219).
(2) أخرجه أبو داود: (307)، "صحيح سنن أبي داود" (300) والدارمي، وابن ماجه
"صحيح سنن ابن ماجه" (529)، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه
الذهبي وشيخنا في "الإرواء" (199)، ورواه غيرهم أيضاً، وأخرجه البخاري:
326، ولم يذكر "بعد الطهر".
(3) أي: حديث: "كانت النساء يبعَثن إِلى عائشة بالدِّرجة فيها الكُرسف ...
".
(4) قال في "سبُل السلام" (1/ 186): " (كُنَّا) له حُكم الرفع إِلى النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن المراد: كنا في زمانه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عِلمه؛ فيكون تقريراً منه، وهذا رأْي
البخاري وغيره من علماء الحديث؛ فيكون حُجَّة".
(5) أي: "فقه السنة".
(1/263)
وكنتُ قديماً أرى أنَّ الحيض هو الدَّم
الأسود فقط، لظاهر حديث فاطمة بنت حبيش -رضي الله عنها- المذكور في الكتاب،
ثمَّ بدا لي وأنا أكتب هذه التعليقات؛ أنَّ الحقَّ ما ذكَره السيد سابق:
أنَّه الحُمرة والصُّفرة والكُدرة أيضاً قبل الطهر؛ لهذا الحديث وشاهده،
وبدا لي أيضاً أنَّه لا يعارضهما حديث فاطمة؛ لأنه وارد في دم الاستحاضة
التي اختلط عليها دم الحيض بدم الاستحاضة، فهي تُميِّز بين دم الاستحاضة
ودم الحيض بالسَّواد، فإِذا رأته تركَت الصَّلاة، وإِذا رأت غيره صلَّت،
ولا يَحتَمل الحديث غير هذا، والله أعلم".
وجاء في "المحلّى"، (2/ 229): "وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي
والشافعي وأحمد وإِسحاق وعبد الرحمن بن مهدي: الصّفرة والكُدرة في أيّام
الحيض حيض، وليست في غير أيّام الحيض حيضاً.
وقال اللَّيث بن سعد: الدَّم والصُّفرة والكُدرة في غير أيام الحيض ليس شيء
من ذلك حيضاً، وكلّ ذلك في أيام الحيض حيض".
جاء في "المغني" (1/ 349): "والصُّفرة والكُدرة في أيَّام الحيض من الحيض؛
يعني إِذا رأت في أيام عادتها صُفرة أو كُدرة فهو حيض، وإنْ رأته بعد أيام
حيضها لم يُعتدَّ به؛ نصَّ عليه أحمد وبه قال يحيى الأنصاري وربيعة ومالك
والثوري والأوزاعي وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وإسحاق".
مدَّته:
اختلف العلماء في أقلِّه وأكثره، فمِن قائل: أقلّ الحيض يوم وليلة وأكثره
خمسة عشر يوماً، وقد رُوي هذا عن عطاء بن أبي رباح وأبي ثور، وروي عن
(1/264)
أحمد أنَّ أقلَّه يوم، وأنَّ أكثره سبعة
عشر (1).
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 425): "اختلف العلماء في أقلّ الحيض وأقلّ
الطهر، ونقل الداودي أنَّهم اتفقوا على أنَّ أكثره خمسة عشر يوماً، وقال
أبو حنيفة: لا يجتمع أقل الطُّهر وأقلّ الحيض معاً، فأقل ما تنقضي به
العدَّة عنده ستون يوماً، وقال صاحباه: تنقضي في تسعة وثلاثين يوماً؛ بناءً
على أنَّ أقلَّ الحيض ثلاثة أيام، وأنَّ أقل الطّهر خمسة عشر يوماً، وأنَّ
المراد بالقُرء الحيض، وهو قول الثوري، وقال الشافعي: القُرء: الطُّهر،
وأقله خمسة عشر يوماً، وأقل الحيض يوم وليلة ... ".
"ويُذكر عن عليّ وشُريح (2) إِن امرأة جاءت ببيّنة من بطانة أهلها، ممّن
يُرضى دينُه أنَّها حاضت ثلاثاً في شهر صُدِّقت.
وقال عطاء (3): الحيض يومٌ إِلى خمسَ عشرة".
__________
(1) انظر "الشرح الكبير" (1/ 320).
(2) قال شيخنا في "المختصر" (1/ 91): "وصله الدارمي (1/ 212 - 213) بسندٍ
صحيح عنهما به نحوه، وفيه قصَّة". وسياق هذه القصّة ما رواه الشعبي أنَّه
"جاءت امرأة إِلى عليّ تُخاصِم زوجها طلقها، فقالت: حِضت في شهر ثلاث
حِيَض، تطهر عند كلِّ قرء، وتصلّي جاز لها، وإلاَّ فلا، قال علي: قالون".
قال الحافظ (1/ 425): قال "وقالون بلسان الروم: أحسنت، فهذا ظاهر في أنَّ
المراد أن يشهد له بأنَّ ذلك وقع منها".
(3) قال الحافظ (1/ 425): وصله الدارمي بإِسناد صحيح، قال: أقصى الحيض خمس
عشرة، وأدنى الحيض يوم".
وقال شيخنا في "المختصر" (1/ 91): وصله الدارمي (1/ 210 - 211) مفرّقاً =
(1/265)
والحقّ أنَّه لم يأتِ في تحديد مدّة الحيض
ما ينهض للاحتجاج، وتحديد ذلك يعود للمرأة، ويكون على حالات، كما سيأتي
قريباً -إِن شاء الله تعالى-.
قال في "المغني" (1/ 321): "ولنا أنَّه ورد في الشرع مطلقاً من غير تحديد،
ولا حدَّ له في اللغة ولا في الشريعة؛ فيجب الرّجوع فيه إِلى العُرف
والعادة ... ".
ثمَّ ذكر حالات نادرة عن علماء السلف في الحيض والطهر.
ثمَّ قال: " ... وقولهنَّ يجب الرجوع إِليه لقوله تعالى: {ولا يحلّ لهنَّ
أن يكتُمن ما خَلَقَ الله في أرحامهنَّ} (1) فلولا أنَّ قولهنَّ مقبول ما
حرَّم عليهنَّ الكِتمَان، وجرى ذلك مجرى قوله: {ولا تكتموا الشَّهادة} (2)
... ".
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 425) بعد إِيراد قوله تعالى: {ولا يحلّ لهنَّ أن
يكتُمن ما خَلَقَ اللهُ في أرحامهنَّ}: "وقد روى الطبري بإِسناد صحيح عن
الزُّهري قال: بلغنا أنَّ المراد بما خلق الله في أرحامهن: الحمل والحيض؛
فلا يحلّ لهنَّ أن يكتمن ذلك لتنقضي العدَّة، ولا يملك الزوج الرجعة إِذا
كانت له.
وروى أيضاً بإِسناد حسن عن ابن عمر قال: "لا يحلّ لها إِنْ كانت حائضاً أن
تكتم حَيْضتها، ولا إِن كانت حاملاً أن تكتم حَمْلَها".
__________
= نحوه، وسند "اليوم" حسن، وسند الباقي صحيح.
(1) البقرة: 228
(2) البقرة: 283
(1/266)
ومطابقة الترجمة للآية؛ من جهة أنَّ الآية
دالَّة على أنَّها يجب عليها الإِظهار، فلو لم تُصدَّقْ فيه لم يكن فيه
فائدة.
قال معتمر عن أبيه: سألتُ ابنَ سيرين عن المرأة ترى الدَّم بعد قُرئها
بخمسة أيّام؟ قال: النِّساء أعلم بذلك" (1).
__________
(1) ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 425) وَصْل الدارمي له وصحح شيخنا إِسناده
في "المختصر" (1/ 91).
(1/267)
النِّفاس
تعريفه:
هو سيلان الدَّم من رَحِم المرأة بسبب الولادة (1).
مدَّته:
أكثره أربعون يوماً لحديث أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كانت المرأة من
نساء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد في النِّفاس
أربعين ليلة؛ لا يأمرها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بقضاء صلاة النِّفاس" (2).
وعنها بلفظ: "كانت النفساء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً، أو أربعين ليلة ... " (3).
قال أبو عيسى الترمذي: "أجمع أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومن بعدهم، على أنَّ النُّفساء تَدَعُ
الصَّلاة أربعين يوماً؛ إِلا أن ترى
__________
(1) مضى في (باب الحيض)،" ... سُمِّيت بذلك لسيلان النّفس، والدم يُسمى
نفْساً".
جاء فى "كفاية الأخيار" (1/ 75): وفي اصطلاح الفقهاء ... ويسمّى هذا الدّم
نفاساً؛ لأنَّه يخرج عَقِب نفَس.
(2) أخرجه أبو داود والحاكم، وصحح النووي إِسناده في "المجموع"، ووافقه
الذهبي، وحسَّن شيخنا إِسناده في "الإرواء" (201).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (304)، والترمذي والدارمي وابن
ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وأحمد، وهو في "الإرواء" (201).
(1/268)
الطُّهر قبل ذلك؛ فإِنَّها تغتسل وتصلّي،
فإِذا رأت الدَّم بعد الأربعين؛ فإِنَّ أكثر أهل العلم قالوا لا تدَع
الصَّلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر الفقهاء، وبه يقول سفيان الثوري وابن
المبارك والشافعي وأحمد وإِسحاق".
وقال أبو عبيد: "وعلى هذا جماعة النَّاس، وروي هذا عن عمرو بن عباس وعثمان
بن أبي العاص وعائذ بن عمرو وأنس وأمّ سلمة -رضي الله عنهم- وبه قال الثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي ... " (1).
وليس لأقلّه حدٌّ؛ أي وقت رأت الطُّهر اغتسلت وهي طاهر. وبهذا قال الثوري
والشافعي.
وقال مالك والأوزاعي وأبو عبيد: "إِذا لم ترَ دماً تغتسل وتصلّي".
قال في "المغني" (1/ 359): "ولنا أنَّه لم يَرِد في الشرع تحديده؛ فيرجع
فيه إِلى الوجود، وقد وُجد قليلاً وكثيراً ... ".
قال لي شيخنا -حفظه الله تعالى-: "تمكُث المرأة أربعين يوماً نفساء، وإذا
استمرَّ الدَّم بعد ذلك تُعدّ مستحاضة، وإذا طهُرت قبل الأربعين؛ فقد طهُرت
إِذا رأت القصَّة البيضاء؛ كما هو معروف بالحيض".
حُكم النفاس حُكم الحيض في كلّ شيء
قال في "المحلّى" (مسألة 261): "ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض؛ هذا
لا خلاف فيه عن أحد ...
وحكمه حُكم الحيض في كلّ شيء، لقولِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعائشة:
__________
(1) "المغني" (1/ 358).
(1/269)
"أنَفِسْتِ؟ قالت: نعم"، فسمَّى الحيض
نفاساً؛ وكذلك الغُسل منه واجب بإِجماع".
ما يحرُم على الحائض والنّفساء
1 - الصّلاة (1): وتقدَّم حديث أمّ سلمة -رضي الله عنها- في ذلك، وفي حديث
فاطمة بنت حبيش: " ... فإِذا أقبلَت الحيضة فاتركي الصَّلاة".
2 - الطَّواف: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة -رضي
الله عنها- حين حاضت: "هذا
شيء كَتَبَه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي
بالبيت حتى تطهري" (2).
قال في "سبل السلام" (1/ 190): "وفيه دليل على أنَّ الحائض يصحّ منها جميع
أفعال الحج غير الطواف بالبيت، وهو مُجمَع عليه".
3 - الصَّوم (3): لحديث أبي سعيد الخُدريّ -رضي الله عنه- قال: " خرج رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أضحى -أو في فطرٍ - إِلى
المصلّى، فمرّ على النساء فقال: يا معشر النَّساء تصدَّقن، فإِني أُريتكنَّ
أكثر أهل النَّار،
__________
(1) انظر "المنتقى" (باب الحائض لا تصوم ولا تصلي وتقضي الصوم دون الصلاة)،
"نيل الأوطار" (1/ 353) وأيضاً (باب سقوط الصلاة عن النفساء) (1/ 359).
وقال في "سبل السلام" (1/ 189) بعد حديث أبي سعيد: "وهو إِخبار يفيد
تقريرها على ترك الصوم والصلاة، وكونهما لا يجِبان عليها، وهو إِجماع في
أنهما لا يجِبان حال الحيض، ويجب قضاء الصوم لأدلة أُخر".
(2) أخرجه البخاري: 305، ومسلم: 1211
(3) انظر الحاشية المتقدمة في التعليق على الأمر الأول "الصلاة".
(1/270)
فقلن: وبمَ يا رسول الله؟ قال: تُكثرن
اللّعنَ وتكفُرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقْل ودين أذهب لِلُبّ الرجل
الحازم من إِحداكنّ، قُلن: وما نقصان ديننا وعقْلنا يا رسول الله؟ قال:
أليس شهادة المرأة مِثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان
عَقْلها، أليس إِذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان
دينها" (1).
قال في "نيل الأوطار" (1/ 354): "نقلَ ابن المنذر والنووي وغيرهما إِجماع
المسلمين؛ على أنَّه لا يجب على الحائض قضاء الصَّلاة، ويجب عليها قضاء
الصيام ... ".
وقال النووي -رحمه الله تعالى- في "المجموع" (2/ 351): "ونقل الترمذي وابن
المنذر وابن جرير وآخرون الإِجماع؛ أنَّها لا تقضي الصَّلاة وتقضي الصوم
... ".
وقال -رحمه الله- أيضاً في "المجموع" (2/ 351): "قال أبو جعفر في كتابه
"اختلاف الفقهاء": أجمعوا على أنَّ عليها اجتناب كلّ الصلوات فرْضها
ونفلها، واجتناب جميع الصيام فرضه ونفله، واجتناب الطواف فرضه ونفله، وإنها
إِن صلَّت أو صامت أو طافت؛ لم يجزها ذلك عن فرضٍ كان عليها".
4 - الوطء: قال الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً
__________
(1) أخرجه البخاري: 304، ومسلم: 79
(1/271)
فاعتزلوا النِّساء في المحيض ولا تقربوهنَّ
حتى يطُهُرن فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمَركُم الله إِنَّ الله يُحبّ
التَّوابين ويحبّ المتطهرين} (1).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من أتى حائضاً أو امرأة في دُبُرها، أو كاهناً فصدَّقه
بما يقول؛ فقد كفَر بما أُنزل على محمَّد" (2).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنَّ اليهود كانوا إِذا حاضت المرأة
فيهم؛ لم يُؤاكلوها ولم يجامعوهنّ (3) في البيوت، فسأل أصحاب النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن
المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النِّساء في المحيض ... } إِلى آخر الآية".
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اصنعوا كلّ شيء
إلاَّ النّكاح".
فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدَع من أمرنا شيئاً إلاَّ
خالفَنا فيه" (4).
قال في "المحلّى" (2/ 220): "أمَّا امتناع الصَّلاة، والصوم، والطواف،
والوطء في الفرج في حال الحيض؛ فإِجماع متيقّن مقطوع به، لا خلاف بين
__________
(1) البقرة: 222
(2) انظر "صحيح سنن أبي داود" (3304)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (522)، و"صحيح
سنن الترمذي" (116) وانظر "آداب الزفاف" (105).
(3) أي: لم يخالطوهنّ ولم يساكنوهنّ في بيت واحد. "النووي".
(4) أخرجه مسلم: 302، وغيره.
(1/272)
أحدٍ من أهل الإِسلام فيه".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (21/ 624): "وطء الحائض لا
يجوز باتّفاق الأئمّة ... ".
ما يحلُّ للرجل من الحائض
"يجوز التمتع بما دون الفرج من الحائض، وفيه أحاديث:
الأول: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... واصنعوا كلّ شيء
إلاَّ النكاح (1) " (2). الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر إِحدانا إِذا كانت حائضاً
أن تتَّزر، ثمَّ يُضاجعها زوجها، وقالت مرَّة: يباشرها (3) " (4).
الثالث: عن بعض أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت:
إِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان إِذا أراد من
الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً [ثمَّ صنعَ ما أراد] " (5).
__________
(1) أي: الجماع.
(2) تقدمّ تخريجه.
(3) المراد هنا وطء المرأة خارج الفرج.
(4) البخاري: 302، ومسلم: 293، وأبو عوانة في "صحيحه"، وأبو داود وهذا
لفظه.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (242) والسياق له، وسنده صحيح على
شرط مسلم، وصححه ابن عبد الهادي، وقوّاه ابن حجر، والبيهقي (1/ 314)
والزيادة له. كذا قال شيخنا -حفظه الله- في "آداب الزفاف" (ص 125).
(1/273)
وقالت الصهباء بنت كريم: قلت لعائشة: "ما
للرجل من امرأته إِن كانت حائضاً؟ قالت: كلّ شيء إلاَّ الجماع (1) " (2).
وعن عمِّ حرام بن حكيم أنَّه سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "لك ما فوق الإِزار"
(3).
وجاء في "المغني" (1/ 350): "ويستمتع من الحائض بما دون الفرج".
قال في "سبل السلام" (1/ 188): " ... فأمَّا لو جامع وهي حائض؛ فإِنَّه
يأثم إِجماعاً ... ".
وذكر ابن حزم في "المحلّى" (2/ 249): حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّها
قالت: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ناوليني
الخُمرة (4) من المسجد،
__________
(1) قال شيخنا في "آداب الزفاف" (ص 224): رواه ابن سعد (8/ 485) وقد صحّ
عنها مِثله في الصائم، وبيانه في "الأحاديث الصحيحة" (220 و221).
(2) انظر "آداب الزفاف" (ص123 - 125) طبعة "المكتبة الإِسلامية"،
والتخريجات كذلك، من نفس الكتاب.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (197).
(4) جاء في "شرح النووي" (3/ 210): "أمّا الخُمْرة -فبضم الخاء وإسكان
الميم- قال الهروي وغيره: هي هذه السجَّادة، وهي ما يضع عليه الرجل جزء
وجهه في سجوده؛ من حصير أو نسيجة من خُوص [ورق النّخل وما شابهه] ... وقال
الخطابي: هي سجادة يسجد عليها المصلي ... وسُميت خمرة لأنَها تخمر الوجه:
أي: تغطيه وأصل التخمير التغطية، ومنه خمار المرأة، والخَمر لأنها تغطي
العقل".
(1/274)
فقلت: إِنّي حائض. فقال: "تناوَليها؛
فإِنَّ الحيضة ليست في يدك" (1).
وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضاً، قال: بينما رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد فقال: "يا عائشة! ناوليني الثوب"،
فقالت: إِني حائض.
فقال: "حيضتك ليست في يدك، فناولتْه" (2).
ثمَّ قال -رحمه الله-: فهما دليل أن لا يجتنب إلاَّ الموضع الذي فيه الحيضة
وحده.
ونقل شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/ 624) اتفاق الأئمّة على
تحريم وطء الحائض، كما تقدّم.
كفّارة من جامع الحائض
على من جامع الحائض أن يتصدَّق بدينار أو نصف دينار؛ لحديث عبد الله بن
عباس -رضي الله عنهما- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدَّق بدينار أو نصف دينار" (3).
__________
(1) أخرجه مسلم: 298، وغيره.
(2) أخرجه مسلم: 291، وغيره.
(3) أخرجه أصحاب السنن "صحيح سنن أبي داود" (237)، و"صحيح سنن النسائي"
(278)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (523). والطبراني في "المعجم الكبير" وابن
الأعرابي في "معجمه" والدارمي والحاكم والبيهقي بإِسناد صحيح على شرط
البخاري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وابن دقيق العيد، وابن التركماني،
وابن القيّم، وابن حجر العسقلاني، كذا في "آداب الزفاف" (ص 122) ا. هـ.
قلت: والظاهر أن دينار الذهب 4.25 غم -والله تعالى أعلم-.
(1/275)
قال شيخنا في "آداب الزفاف" (ص 123): "قال
أبو داود في "المسائل" (26): "سمعت أحمد سُئل عن الرجل يأتي امرأته وهي
حائض؛ قال: ما أحسن حديث عبد الحميد فيه! (قلت: يعني: هذا).
قلت: وتذهب إِليه؟ قال: نعم؛ إِنَّما هو كفَّارة.
قلت: فدينار أو نصف دينار؟ قال: كيف يشاء".
وذهب إِلى العمل بالحديث جماعةٌ آخرون من السلف؛ ذكر أسماءهم الشوكاني في
"النيل" (1/ 244) وقوَّاه.
قلت: -أي شيخنا حفظه الله- ولعلَّ التمييز بين الدينار ونصف الدينار، يعود
إِلى حال المتصدّق من اليسار أو الضّيق؛ كما صرَّحت بذلك بعض روايات
الحديث؛ وإِنْ كان سنده ضعيفاً، والله أعلم".
متى يجوز إِتيان الحائض إِذا طهُرت؟
قال في "روح المعاني" (2/ 122): " {حتى يطهُرن} والغاية انقطاع الدَّم عند
الإِمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- فإنْ كان الانقطاع لأكثر مدَّة الحيض
حلَّ القربان بمجرَّد الانقطاع، أو إِنْ كان لأقلّ منها لم يحلّ إلاَّ
بالاغتسال، أو ما هو في حُكمه من مضيّ وقت الصَّلاة، وعند الشافعية هي
الاغتسال بعد الانقطاع، قالوا: ويدلُّ عليه صريحاً قراءة حمزة والكسائي
وعاصم في رواية ابن عباس (يطَّهرن) -بالتشديد- أى: (يتطهَّرن) والمراد به:
يغتسلن، لا لأنَّ الاغتسال معنى حقيقي للتطهير؛ كما يوهمه بعض عباراتهم
-لأنَّ استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام المجيد
(1/276)
والأحاديت؛ على ما لا يخفى على المتتبّع
-بل لأنَّ صيغة المبالغة يُستفاد منها الطهارة الكاملة، والطهارة الكاملة
للنساء عن المحيض هو الاغتسال- فلمَّا دلّت قراءة التشديد على أنَّ غاية
حرمة القربان هو الاغتسال، -والأصل في القراءات التوافق- حُملت قراءة
التخفيف عليها، بل قد يُدّعى أنَّ الطهر يدلّ على الاغتسال أيضاً، بحسب
اللغة.
ففي "القاموس" طهُرت المرأة: انقطع دمها، واغتسلت من الحيض كتطهَّرت.
وأيضاً قوله تعالى: {فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ} يدلّ التزاماً على أنَّ
الغاية هي الاغتسال، لأنَّه يقتضي تأخّر جواز الإِتيان عن الغسل، فهو
يُقوّي كون المراد بقراءة التخفيف الغُسل لا الانقطاع، وربما يكون قرينة
على التجوز في الطهر، بحمله على الاغتسال إِن لم يسلّم ما تقدّم، وعلى فرض
عدم التسليم هذا وذاك، والرجوع إِلى القول بأنَّ قراءة التخفيف من الطهر،
وهو حقيقة في انقطاع الدم لا غير، ولا تجوُّز ولا قرينة، وقراءة التشديد من
التطهر، ويستفاد منه الاغتسال".
وقال البغوي -رحمه الله- (1/ 197): تطهَّرن: يعني: اغتسلن.
قال في "المغني" (1/ 353): "فإِن انقطع دمها فلا توطأ حتى تغتسل".
وجملته أنَّ وطء الحائض قبل الغسل حرام، وإِن انقطع دمها في قول أكثر أهل
العلم.
قال ابن المنذر: هذا كالإِجماع منهم، وقال أحمد بن محمد المروزي: "لا أعلم
في هذا خلافاً ... ".
(1/277)
ولنا قول الله تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى
يطهُرن فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمَركم الله} يعني: إِذا اغتسلن هكذا
فسَّره ابن عباس، ولأنَّ الله تعالى قال في الآية: {ويحبُّ المتطهِّرين}
فأثنى عليهم، فيدلّ على أنَّه فِعْل منهم؛ أثنى عليهم به، وفِعْلهم هو
الاغتسال؛ دون انقطاع الدم، فشَرط لإِباحة الوطء شرطين:
انقطاع الدم والاغتسال، فلا يباح إلاَّ بهما؛ كقوله تعالى: {وابتلوا
اليتامى حتى إِذا بَلَغُوا النكاح فإِنْ آنستم منهم رُشْداً فادفعُوا
إِليهم أموالَهم} (1)، لمّا اشترط لدفع المال عليهم بلوغ النكاح والرّشد،
لم يُبَح إلاَّ بهما، كذا هاهُنا، ولأنها ممنوعة من الصلاة لحدث الحيض، فلم
يُبَح وطؤها كما لو انقطع لأقل الحيض، وما ذكروه من المعنى منقوض؛ بما إِذا
انقطع لأقل الحيض، ولأنَّ حدث الحيض آكد من حدث الجنابة، فلا يصحّ قياسه
عليه.
جاء في "الفتاوى" (21/ 624): "أمَّا المرأة الحائض إِذا انقطع دمها؛ فلا
يطؤها زوجها حتى تغتسل إِذا كانت قادرة على الاغتسال، وإلا تيمَّمت كما هو
مذهب جمهور العلماء، كمالك وأحمد والشافعي.
وهذا معنى ما يُروى عن الصحابة حيث روي عن بضعة عشر من الصحابة -منهم
الخلفاء- أنَّهم قالوا: في المعتدَّة هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة
الثالثة.
والقرآن يدلُّ على ذلك، قال الله تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهُرن فإِذا
__________
(1) النساء: 6
(1/278)
تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله} (1).
قال مجاهد: {حتى يطهُرن} يعني: ينقطع الدَّم، {فإِذا تطهَّرن}: اغتسلن
بالماء، وهو كما قال مجاهد.
وإِنَّما ذكر الله غايتين على قراءة الجمهور، لأنَّ قوله: {حتى يطهُرن}
غاية التحريم الحاصل بالحيض، وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره، فهذا
تحريم يزول بانقطاع الدَّم، ثمَّ يبقى الوطء بعد ذلك جائزاً بشرط الاغتسال،
لا يبقى محرَّماً على الإِطلاق، فلهذا قال: {فإذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث
أمركُم الله}.
وهذا كقوله: {فإِن طلَّقها فلا تحلُّ له من بعدُ حتى تَنكحَ زوجاً غيره}
(2).
فنكاح الزوج الثاني غاية التحريم الحاصل بالثلاث، فإِذا نَكَحت الزوج
الثاني زال ذلك التحريم، لكن صارت في عصمة الثاني؛ فحرمت لأجل حقّه، لا
لأجل الطَّلاق الثلاث، فإِذا طلَّقها جاز للأوَّل أن يتزوَّجها.
وقد قال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله: {فإذا تطهَّرن} أي: غسلْن فرجهنّ،
وليس بشيء، لأنَّ الله قد قال: {وإِن كنتم جُنُباً فاطَّهروا} (3)؛
فالتطهّر في كتاب الله هو الاغتسال، وأمَّا قوله: {إنَّ الله يحبّ
التَّوابين ويُحبُّ
__________
(1) البقرة: 222
(2) البقرة: 230
(3) المائدة: 6
(1/279)
المتطهِّرين} (1) فهذا يدخل فيه المغتسل
والمتوضئ والمستنجي، لكن التطهّر المقرون بالحيض؛ كالتطهر المقرون
بالجنابة، والمراد به الاغتسال.
وأبو حنيفة -رحمه الله- يقول: إِذا اغتسلت، أو مضى عليها وقت صلاة، أو
انقطع الدَّم لعشرة أيام حلَّت؛ بناءً على أنَّه محكوم بطهارتها في هذه
الأحوال، وقول الجمهور هو الصواب كما تقدَّم، والله أعلم".
وجاء في الكتاب السابق أيضاً (ص624): "وسئل رحمه الله عن إِتيان الحائض قبل
الغسل، وما معنى قول أبي حنيفة: فإِن انقطع الدَّم لأقل من عشرة أيام، لم
يَجُزْ وطؤها حتى تغتسل؟ وإِن انقطع دمها لعشرة أيام جاز وطؤها قبل الغسل؟
وهل الأئمة موافقون على ذلك؟
فأجاب: أمَّا مذهب الفقهاء؛ كمالك والشافعي وأحمد فإِنَّه لا يجوز وطؤها
حتى تغتسل، كما قال تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهُرن فإِذا تطهَّرن
فأتوهنَّ من حيثُ أمركم الله}، وأمَّا أبو حنيفة فيجوِّز وطأها إِذا انقطع
لأكثر الحيض، أو مرَّ عليها وقت الصَّلاة فاغتسلت، وقول الجمهور هو الذي
يدلّ عليه ظاهر القرآن والآثار".
وقد رأيت قول شيخ الإِسلام -رحمه الله- المتقدِّم قد رجَّح عدم الوطء إلاَّ
بعد الاغتسال، حين قال -رحمه الله-: "وقال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله:
{فإِذا تطهّرن} أي: غسلن فروجهنَّ، وليس بشيء؛ لأنَّ الله قد قال: {وإِن
كنتم جُنُباً فاطَّهروا}.
فالتطهُّر في كتاب الله هو الاغتسال، وأمَّا قوله: {إِنَّ الله يحبُّ
التوَّابين
__________
(1) البقرة: 222
(1/280)
ويحبُّ المتطهِّرين}، فهذا يدخل فيه
المغتسل والمتوضئ والمستنجي، لكن التطهّر المقرون بالحيض؛ كالتَّطهر
المقرون بالجنابة والمراد به الاغتسال".
قلت: وزاد هذا الترجيح عندي ما جاء في "اللسان": "طَهَرت المرأة وطَهُرت
وطَهِرت: اغتسلت من الحيض وغيره".
وطهُرت المرأة وهي طاهر: انقطع عنها الدَّم ورأت الطُّهر فإِذا اغتسلت؛ قيل
تطهَّرت واطَّهَّرت، قال الله عزَّ وجلَّ: {وإِن كنتم جُنُباً
فاطَّهَّروا}.
وروى الأزهري عن أبي العباس أنَّه قال في قوله عزَّ وجلّ: {ولا تقربوهنَّ
حتى يطُهرن فإِذا تطهَّرن فأتوهنَّ من حيث أمركم الله} وقرأ: {حتى
يطَّهَّرْن}، قال أبو العبّاس والفرّاء: "يطّهّرن لأنَّ من قرأ: {يطْهرن}
أراد: انقطاع الدَّم، فإِذا تطهَّرن اغتسلن؛ فصيَّر معناهما مختلفاً،
والوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد؛ يُريد بهما جميعاً الغسل، ولا يحلّ
المسيس إِلا بالاغتسال، وتُصدِّق ذلك قراءة ابن مسعود: {حتى يَتَطهَّرْن}
".
وقال ابن الأعرابي: "طَهَرت المرأة هو الكلام، قال: ويجوز طهُرت، فإِذا
تَطَهَّرن: اغتسلن. وقال: تطهَّرت المرأة: اغتسلت".
وخلاصة القول: عدم جواز إِتيان الحائض إِذا طهُرت إِلا بعد الاغتسال (1).
__________
(1) انتهيت إِلى هذا وأنا أعلم من شيخنا، أنه يرى جواز إتيان المرأة قبل
الاغتسال بعد الطهر من الحيض أو النفاس؛ كما في الطبعة الأولى من الطبعة
الجديدة من "آداب الزفاف" سنة 1409هـ. ثم سألته "هل رأيتم غير ذلك؟ "،
فقال: "نعم، يَطْهُرن غير يَطَّهْرن، فلا بد من الاغتسال".
(1/281)
مسائل تتعلق في غسل الحائض والنّفساء
1 - نقْض المرأة شعرها عند غسل المحيض:
كما في حديث عائشة -رضي الله عنها-: " ... فأدركني يوم عرفة وأنا حائض،
فشكوت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "دعي
عمرتك وانقضي رأسكِ، وامتَشِطي وأهلّي بحجٍّ، ففعلْت" (1).
2 - استحباب استعمال المُغتَسِلة من الحيض فِرصة من مسِك في موضع الدَّم:
عن منصور بن صفية عن أمّه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سأَلَت امرأةٌ
(2) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف تغتسل من حيضتها؟
قال: "فذَكرت أنَّه علَّمها كيف تغتسل، ثمَّ تأخذ فِرصة من مِسك (3)،
فتَطهَّر بها.
قالت: كيف أتطهَّر بها؟ قال: "تطهَّري بها سبحان الله! " (4) واستَتر
(وأشار
__________
(1) أخرجه البخاري: 317، ومسلم: 1211، وتقدّم.
(2) هي أسماء بنت شَكَل، كما في بعض روايات مسلم.
(3) جاء في "النهاية": "الفِرصة -بكسر الفاء-: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة،
يُقال: فَرَصْت الشيء إِذا قطعته، والممسّكة: المُطيّبة بالمِسك؛ يتتبَّع
بها أثر الدم؛ فيحصل منه الطيب والتنشيف".
قال النووي: "واختلف العلماء في الحكمة في استعمال المسك، فالصحيح المختار
الذي قاله الجماهير من أصحابنا وغيرهم، أنَّ المقصود باستعمال المِسك؛
تطييب المحلّ، ودفع الرائحة الكريهة".
(4) قال النووي -رحمه الله- قد قدّمنا أنَّ -سبحان الله- في هذا الموضع =
(1/282)
لنا سفيانُ بن عيينة بيده على وجهه)، قال:
قالت عائشة: واجتذبْتُها إِليَّ، وعرفتُ ما أراد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: تتبَّعي بها أثر الدَّم" (1).
كيف تغتسل الحائض أو النفساء؟
عن عائشة -رضي الله عنها- "أنَّ أسماء سألَت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غُسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إِحداكنَّ ماءَها
وسدْرتها فتطهَّر؛ فتُحسن الطُّهور، ثمَّ تصب على رأسها؛ فتدلُكُه دلكاً
شديداً؛ حتى تبلغ شؤون (2) رأسها، ثمَّ تصبّ عليها الماء، ثمَّ تأخذ فِرصة
ممسّكة؛ فتطَهَّر بها".
فقالت أسماء: وكيف تطَهَّر بها؟ فقال: سبحان الله! تطَّهّرين بها".
فقالت عائشة (كأنَّها تخفي ذلك): تَتَبَّعين أثر الدَّم (3).
__________
= وأمثاله؛ يراد به التّعجُّب، وكذا لا إِله إلاَّ الله، ومعنى التعجّب
هنا؛ كيف يخفى مِثل هذا الظاهر؛ الذي لا يحتاج الإِنسان في فهمه إِلى فكر.
(1) أخرجه البخاري: 314، 315، 7357، ومسلم: 332، وغيرهما، وتقدّم.
قال الحافظ: "وفي هذا الحديث من الفوائد: التسبيح عند التعجُّب، واستحباب
الكنايات فيما يتعلّق بالعورات، وفيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي
يُحتشم منها، وفيها الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة،
وتكرار الجواب لإفهام السائل، وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي عليه،
إِذا عرف أن ذلك يُعجبه، وفيه الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل، وفيه صحّة
العرْض على المحدّث؛ إِذا أقرّه ولم يُقل عقبه نعم، وفيه الرّفق بالمتعلّم،
وإقامة العُذر لمن لا يَفهم، وفيه حُسن خُلُقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وعظيم حلمه وحيائه". "الفتح". بحذف يسير.
(2) قال في "النهاية": عظامه وطرائقه وتواصيل قبائله، وهي أربعة بعضها فوق
بعض.
(3) أخرجه مسلم: 332، وأصله في البخاري: 314، 315، 7357، وانظر الحديث
السابق.
(1/283)
كيف تُطهِّر الحائض ثوبها؟
تطهِّر الحائض ثوبها بحكة بضِلَع (1)، وتغسله بماء وسِدْر أو صابون أو نحوه
من المنظّفات، ثمَّ تنضح الماء في سائر الثوب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حُكّيه بضِلَع واغسليه بماء وسِدْر" (2).
وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "سمعتُ امرأة تسأل رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثوبها إِذا طهُرت من محيضها، كيف
تصنع به؟
قال: إِنْ رأيت فيه دماً فحُكّيه، تمَّ اقرصيه بماء، ثمَّ انضحي في سائره؛
فصلّي فيه".
قال شيخنا في "الصحيحة" تحت (رقم 299): "في هذه الرواية زيادة: "ثمَّ انضحي
في سائره"، وهي زيادة هامَّة؛ لأنها تبيِّن أنَّ قوله في رواية هشام: "ثمَّ
لتنضحه" ليس المراد نضْح مكان الدَّم بل الثوب كلّه.
ويشهد له حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت إحدانا تحيض، ثمَّ تقرص
الدَّم من ثوبها عند طُهْرها فتغسله، وتنضح سائره، ثمَّ تصلّي فيه" (3).
__________
(1) أي بعود، والأصل فيه ضلع الحيوان، فسمّي به العود الذي يُشبهه، وقد
تسكّن اللام تخفيفاً. "النهاية".
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (349)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (281)، والدارمي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (511) وغيرهم،
وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (300) وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري: 308
(1/284)
|