الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الصَّلاة
الصَّلاةُ في اللغة: الدُّعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عليهم إِنَّ صلاتَكَ سكَنٌ لهم} (1) أي: ادعْ لهم، وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دُعي أحدكم فليُجب، فإِن كان مُفطراً؛ فليطعَم وإِن كان صائماً؛ فليصلِّ" (2).
وقال الشاعر:
تقول بنتي وقد قرَّبت مرتحلا ... يا ربِّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مِثل الذي صليت فاغتمضي ... نوماً فإِنَّ لجنب المرء مضطجعا (3).
ومعناها في اصطلاح الفقهاء: أقوالٌ وأفعالٌ مُفتَتَحةٌ بالتكبير، مختَتَمةٌ بالتسليم، بشرائطَ مخصوصةٍ، وهذا التعريف يشمل كلّ صلاةٍ مفتتحةٍ بتكبيرة الإِحرام، ومختتمةٍ بالسلام، ويخرج عنه سجود التلاوة وهو سجدة واحدة عند سماع آية من القرآن المشتملة على ما يترتّب عليه ذلك السجود من غير تكبير، أو سلام" (4).
جاء في "المغني" (1/ 376) (5): "وهي واجبةٌ بالكتاب والسنَّة والإِجماع، أمَّا الكتاب فقول الله تعالى: {وما أمروا إِلاَّ ليعبدوا الله مخلِصين
__________
(1) التوبة: 103
(2) أخرجه مسلم: 1431، وغيره.
(3) عن كتاب "المغني" (1/ 376).
(4) "الفقه على المذاهب الأربعة" (1/ 160).
(5) بحذف وتصرُّفٍ يسيرين.

(1/300)


له الدين حُنفاءَ ويقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزكاة وذلك دين القَيِّمة} (1).
وأمَّا السُّنّة؛ فقد ثبَت عن ابن عمر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "بُني الإِسلام على خمس: شهادةِ أن لا إِله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله، وإِقامِ الصَّلاة، وإيتاءِ الزكاة والحجِّ وصومِ رمضان" (2).
وأمَّا الإِجماع؛ فقد أجمعت الأمَّة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة".

فضل الصلاة ومنزلتها في الإِسلام (3)
للصلاة منزلةٌ عظيمةٌ في الإِسلام وقد ورد في ذلك آيات كثيرة والمتتبّع لآيات القرآن الكريم يرى أنَّ الله سبحانه يذكُر الصَّلاةَ ويقرِنُها بالذِّكر تارةً: {إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذِكْر الله أكبر} (4)، {قدْ أفلحَ من تزكَّى وذكَرَ اسمَ ربِه فصلَّى} (5)، {وأقم الصَّلاة لذِكْري} (6).
وتارةً يَقرِنُها بالزكاة: {وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزكاة} (7)، ومرّة بالصبر:
__________
(1) البيّنة: 5
(2) أخرجه البخاري: 8، ومسلم: 16، وغيرهما.
(3) انظر كتابي "الصلاة وأثرها في زيادة الإِيمان وتهذيب النفس".
(4) العنكبوت: 45
(5) الأعلى: 14، 15
(6) طه: 14
(7) البقرة: 110

(1/301)


{واستعينوا بالصَّبر والصَّلاة} (1)، وطوراً بالنُّسك: {فَصَلِّ لرَبِّك وانْحَرْ} (2)، {قُلْ إِنَّ صلاتي ونُسُكي ومحْيَايَ ومَمَاتي لله رَبِّ العالمينَ لا شريكَ لهُ وبِذَلِكَ أُمرتُ وأنا أوَّل المُسلمِين} (3).
وأحياناً يفتَتِح بها أعمال البر ويختتمها بها، كما في سورة "المعارج" وفي أول سورة المؤمنين: {قدَ أفلح المُؤمنُون * الذينَ هُم في صلاتهم خاشعُونَ} إلى قوله: {والذين هُم على صلواتهم يُحافظونَ * أولئكَ هُمُ الوارِثونَ * الذين يرِثونَ الفردوسَ هُم فيها خالدون} (4).
وقد بَلغَ من عناية الإِسلام بالصَّلاة، أنْ أمرَ بالمحافظة عليها في الحضر والسفَر، والأمن والخوف؛ فقال تعالى: {حافظوا على الصَلَوَات والصَّلاة الوُسطى وقوموا لله قانتين * فإِنْ خفتم فَرِجالاً أو رُكبَاناً فإِذا أمنْتم فاذكروا الله كما علَّمكم ما لم تكونوا تعلمون} (5)، وقال مُبَيِّناً كيفيَّتَها في السفر والحرب والأمن: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
__________
(1) البقرة: 45
(2) الكوثر: 2
(3) الأنعام: 162، 163
(4) المؤمنون: 1 - 11
(5) البقرة: 238، 239

(1/302)


فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1).
وقد شدَّد النكيرَ على من يُفرِّط فيها، وهدَّد الذين يُضيّعونها. فقال جلَّ شأنه: {فَخَلفَ من بعدهِم خلْفٌ أضاعوا الصَّلاةَ واتَّبعُوا الشّهواتِ فسوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (2)، وقال: {فويلٌ للمُصَلّينَ * الذينَ همْ عنْ صلاتهم ساهون} (3).
ولأنَّ الصَّلاة من الأمور الكبرى التي تحتاجِ إِلى هداية خاصّة، سأَل إِبراهيمِ عليه السلام ربّه، أن يجعله هو وذريّته مقيماً لها فقال: {رَبِّ اجعلني مُقيم الصَّلاةِ ومن ذُرّيتي ربّنا وتقبَّلْ دُعاء} (4) " (5).
وقد وردَت أحاديثُ كثيرةٌ في فضل الصَّلاة وسموّ منزلتها في الدين، منها:
__________
(1) النساء: 101 - 103
(2) مريم: 59
(3) الماعون: 4، 5
(4) إِبراهيم: 40
(5) انظر كتاب "فقه السنّة" (1/ 90 - 92) للسيد سابق -حفظه الله تعالى-.

(1/303)


حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "كنتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفَر، فأصبحْتُ يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبِرني بعمل يُدخلني الجنَّة، ويباعدني من النَّار، قال: لقد سأَلتَني عن عظيم، وإنَّه ليسير على من يسَّره الله عليه: تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتقيمُ الصَّلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، ثمَّ قال: ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة (1)، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النَّار، وصلاة الرجل في جوف الليل، قال: ثمَّ تلا: {تتجافى جُنوبُهم عن المضاجع} حتى بلغ: {يعملون} (2)، ثمَّ قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعَموده، وذِروة سَنامه؟ (3) قلتُ: بلى يا رسول الله: قال: رأس الأمر الإِسلام وعموده الصَّلاة، وذروة سَنامه الجهاد، ثمَّ قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كلِّه؟ قلت: بلى يا نبيّ اللهَ، فأخذَ بلسانه، قال: كُفَّ عليك هذا، فقلتُ: يا نبيّ الله وإِنَّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ فقال: ثَكِلَتْك (4) أمّك يا معاذ! وهل يكُبُّ النّاسَ في النَّار على وجوههم أو على مناخرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم" (5).
__________
(1) أي: يقي صاحبه ما يُؤذيه من الشهوات؛ والجُنّة: الوقاية. "النهاية".
(2) السجدة: 16 - 17
(3) الذِّروة: أعلى سَنام البعير، وذِروة كلِّ شيء أعلاه. "النهاية". السَّنام: كُتل من الشحم محدّبة على ظهر البعير والناقة، والسَّنام من كل شيء أعلاه. "الوسيط".
(4) قال في "النهاية" -بحذف-: أي: فقَدَتْك، والثُّكْل: فقْد الولد، والموت يعم كلَّ أحد، فإِذن الدعاء عليه كلا دُعاء ... ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب، ولا يُراد بها الدعاء كقوله تربت يداك ....
(5) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وهو حديث صحيح بطُرُقه، خرَّجه شيخنا في "الإرواء" (413).

(1/304)


وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوّل ما يحايسَبُ به العبد يوم القيامة الصَّلاة، فإِن صلحت؛ صلح سائر عمله، وإِنْ فسدت؛ فسد سائر عمله" (1).
وعن أبي هريرة أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أرأيتم لو أنَّ نهراً بباب أحدِكم يغتسلُ فيه كلَّ يوم خمساً؛ ما تقولُ ذلك يُبقي من درنه؟ قالوا: لا يُبقي من درنه (2) شيئاً. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا" (3).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تحترقون تحترقون (4)، فإِذا صلّيتم الصُّبحَ غَسَلَتْها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صلّيتم الظهرَ غَسَلَتها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صلّيتم العصر غَسَلَتها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صليتم المغرب غَسَلَتها، ثمَّ تحترقون تحترقون، فإِذا صلّيتم العشاء غَسَلَتها، ثمَّ تَنامون فلا يُكتبُ عليكم حتى تَستَيْقظوا" (5).
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وصححه شيخنا بمجموع طُرُقه في "الصحيحة" (1358).
(2) أي: وسخه.
(3) أخرجه البخاري: 528، ومسلم: 667
(4) الإِحراق: الإِهلاك، وهو من إِحراق النار. "النهاية". والمراد هنا: استحقاق الهلاك لاقتراف الذنوب والآثام.
(5) قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 234): رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وإسناده حسن. ورواه في "الكبير" موقوفاً عليه، وهو أشبه، ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح، وحسّنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (351).

(1/305)


وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "كان رجلان أخَوان، فهلكَ أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فَذُكِرَتْ فضيلة الأول منهما عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألم يكن الآخر مسلماً؛ قالوا: بلى، وكان لا بأس به. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وما يُدريكم ما بَلَغَتْ به صلاته؟ إِنَّما مثَل الصَّلاةِ كمثل نهرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ، بباب أحدكم، يَقْتَحم فيه كلَّ يوم خمس مرات، فما ترَون في ذلك يُبقي من درنه؟ فإِنّكم لا تدرون ما بلَغتْ به صلاته" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان رجلان من بَلِي من -قضاعة- أسلما مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستشهد أحدهما، وأُخِّر الآخرُ سنةً، فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيتُ المؤخَّرَ منهما أُدخلَ الجنَّة قبل الشهيد، فتعجّبتُ لذلك، فأصبحتُ، فذكرتُ ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ذُكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس قد صام بعده رمضانَ، وصلَّى ستةَ آلاف ركعةٍ، وكذا وكذا ركعةً، صلاةَ سنةٍ؟ " (2).
__________
(1) قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 243): رواه مالك واللفظ له، وأحمد بإِسناد حسن، والنسائي وابن خزيمة في "صحيحه" إِلا أنَّه قال: عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص قال: سمعتُ سعداً وناساً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: "كان رجلان أخوان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفِّي الذي هو أفضلهما، ثمَّ عُمِّر الآخرُ بعده أربعين ليلة، ثمَّ توفّي، فذُكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ألم يكن يصلي؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، وكان لا بأس به، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وماذا يُدريكم ما بلغَت به صلاته ... " الحديث.
قال شيخنا: "وهذا اللفظ هو عند أحمد (1534) أيضاً"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (364).
(2) قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 244): رواه أحمد بإِسناد حسن =

(1/306)


حُكم ترْك الصَّلاة
عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ بين الرجل وبين الشرك والكُفر تركَ الصَّلاة" (1).
وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة، فمَن تركها فقد كفر" (2).
وعن عبد الله بن شقيق قال: "كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يَرون شيئاً من الأعمال تركُه كفرٌ غير الصَّلاة" (3).
إِنَّ ما تقدم من النصوص ينطق بكفر تارك الصَّلاة، ولكن هل هو كفر مُخرجٌ من الملّة؟ أم هو كُفر دون كُفر؟ وهل هو كفر عمل أم كفر اعتقاد (4)؟
ومن الأمور المتفق عليها؛ أنَّ من لم يقر بوجوب الصلاة فهو كافر، بالنص
__________
= ورواه ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه" والبيهقي كلهم عن طلحة بنحوه، أطول منه. وزاد ابن ماجه وابن حبان في آخره: "فلما بينهما أبعدُ ممّا بين السماء والأرض".
وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (366).
(1) أخرجه مسلم: 82
(2) أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي ووافقهم شيخنا في "المشكاة" (574).
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2114)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (562).
(4) وانظر كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- الآتي قريباً بإِذن الله -سبحانه-.

(1/307)


والإِجماع (1).
جاء في "النهاية": " ... ومنه الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما" لأنَّه إِمَّا أن يصدُق عليه أو يكذب، فإِن صدَق فهو كافر، وإن كذب عاد الكُفر إِليه بتكفيره أخاه المسلم.
والكُفر (2) صنفان: أحدهما الكُفر بأصل الإِيمان وهو ضدُّه، والآخر الكُفر بفَرْعٍ من فروع الإِسلام، فلا يَخْرج به عن أصْل الإِيمان.
وقيل: الكُفر على أربعة أنحاء: كُفر إِنكار، بألاَّ يعرف الله أصلاً ولا يعترف به.
وكُفر جُحود، ككُفر إِبليس، يعرف الله بقلبه ولا يُقِرّ بلسانه (3).
وكُفر عِنَاد، وهو أن يعترف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به؛ حسداً وبغياً، ككُفَر أبي جهل وأضرابه.
وكُفر نفاق، وهو أن يُقرّ بلسانه ولا يعتقد بقلبه.
قال الهروي: سُئل الأزهري عمّن يقول بخلق القرآن: أتسمِّيه كافراً؟ فقال: الذي يقوله كُفر، فأُعيد عليه السؤال ثلاثاً ويقول مِثل ما قال، ثمَّ قال في الآخر: قد يقول المسلم كُفراً.
ومنه حديث ابن عباس قيل له: " {ومن لم يحكُم بما أنزَل الله فأولئك
__________
(1) وسيأتي كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- في ذلك غير بعيد بإِذن الله -سبحانه-.
(2) انظر تقسيم ابن القيم -رحمه الله- للكفر في "مدارج السالكين" (1/ 337).
(3) بل كفره كفر إِباء واستكبار، وهو قول ابن القيم -رحمه الله- في "مدارج السالكين" (1/ 337).

(1/308)


هم الكافرون} (1) قال: هم كَفَرة، وليسو كمن كفَر بالله واليوم الآخر".
ومنه حديثه الآخر: "إِنَّ الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية، فثار بعضهم إِلى بعض بالسيوف، فأنزل الله تعالى: {وكيفَ تكفرونَ وأنتم تُتلى عليكُمْ آياتُ الله وفيكُم رسولُه} (2) ولم يكن ذلك على الكُفر بالله، ولكن على تغطيتهم ما كانوا عليه من الأُلفة والمودَّة" (3). انتهى.
قال النووي -رحمه الله- في شرح حديث مسلم المتقدّم -بحذف-: "إِنَّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصَّلاة": "وأمَّا تارك الصَّلاة فإِن كان مُنكِراً لوجوبها فهو كافر بإِجماع المسلمين، خارج من ملّة الإِسلام؛ إلاَّ أن يكون قريب عهد بالإِسلام ولم يخالط المسلمين مدّة؛ يبلغه فيها وجوب الصَّلاة عليه، وإِن كان ترَكه تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها -كما هو حال كثير من النَّاس- فقد اختلف العلماء فيه فذهب مالك والشافعي -رحمهما الله- والجماهير من السلف والخلف إِلى أنَّه لا يكفر، بل يفسق ويُستتاب، فإِنْ تاب وإِلا قتلناه حدّاً كالزاني المحصَن، ولكنَّه يُقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إِلى أنّه يكفر وهو مرويٌّ عن عليّ بن أبي طالب وهو إِحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل -رحمه الله- وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي -رضوان الله عليه- وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي
__________
(1) المائدة: 44
(2) آل عمران: 101
(3) إِنْ صحّ هذا الخبر، وهناك كلام طيب لابن كثير في هذا الموضع فارجِع إِليه -إِن شئت-.

(1/309)


-رحمهما الله- أنَّه لا يكفر ولا يقتل، بل يُعزّر ويُحبس حتى يصلّي، واحتجّ من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور وبالقياس على كلمة التوحيد، واحتجّ من قال لا يُقتل بحديث "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاَّ بإِحدى ثلاث ... " (1) وليس فيه الصَّلاة، واحتجّ الجمهور على أنَّه لا يكفَّر بقوله تعالى: {إِنَّ الله لا يغفر أن يُشرَك به ويَغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (2) وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال لا إله إلاَّ الله دخل الجنة"، "من مات وهو يعلم أن لا إِله إلاَّ الله دخل الجنَّة"، "ولا يلقى اللهَ تعالى عبدٌ بهما غير شاكٍّ فيُحجب عن الجنَّة" (3)، "حرم الله على النَّار من قال لا إِله إلاَّ الله ... " (4). وغير ذلك، واحتجّوا على قتله بقوله تعالى: {فإِنْ تابوا وأقاموا الصَّلاة وآتَوُا الزكاة فخلّوا سبيلهم} (5)، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إلاَّ الله، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم" (6).
وتأوّلوا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بين العبد وبين الكفر ترك الصَّلاة" (7)، على معنى أنَّه
__________
(1) أخرجه البخاري: 6878، ومسلم: 1676
(2) النساء: 48
(3) أخرجه مسلم: 26، 27
(4) أخرجه مسلم: 29
(5) التوبة: 5
(6) أخرجه البخاري: 25، ومسلم: 22
(7) تقدّم تخريجه.

(1/310)


يستحق بترك الصَّلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنَّه محمول على المستحلّ، أو على أنَّه قد يؤول به إِلى الكفر، أو أن فِعله فِعل الكفّار والله أعلم".
وفي "مجموع الفتاوى" (22/ 40) لشيخ الإِسلام ابن تيمية: "وسُئل -رحمه الله- عن تارك الصَّلاة من غير عُذر، هل هو مسلم في تلك الحال؟
فأجاب: أمَّا تارك الصَّلاة؛ فهذا إِن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنصّ والإِجماع، لكنْ إِذا أسلم ولم يعلم أنَّ الله أوجب عليه الصَّلاة، أو وجوب بعض أركانها؛ مِثل أن يصلّي بلا وضوء، فلا يعلم أنَّ الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلّي مع الجنابة فلا يعلم أنَّ الله أوجب عليه غُسل الجنابة، فهذا ليس بكافر إِذا لم يعلم.
وقال (ص 48): "وإِذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً، أو فاسقاً كفسّاق المسلمين؟ على قولين مشهورين؛ حُكيا روايتين عن أحمد، وهذه الفروع لم تُنقَل عن الصحابة، وهي فروع فاسدة، فإِنْ كان مقرّاً بالصَّلاة في الباطن، معتقداً لوجوبها، يمتنع أن يصرّ على تركها حتى يقتل وهو لا يصلّي، هذا لا يُعرَف من بني آدم وعادتهم؛ ولهذا لم يقع هذا قطّ في الإِسلام، ولا يعرف أنَّ أحداً يعتقد وجوبها، ويقال له: إِنْ لم تصلّ وإِلاَّ قتلناك، وهو يصرّ على تركها، مع إِقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قطّ في الإِسلام.
ومتى امتنع الرجل من الصَّلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقرّاً بوجوبها، ولا ملتزماً بفِعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلّت عليه النصوص الصحيحة.

(1/311)


كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس بين العبد وبين الكفر إلاَّ ترك الصَّلاة". رواه مسلم (1).
وقوله: "العهد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة فمن تركَها فقد كفَر". وقول عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كُفر إلاَّ الصَّلاة".
فمن كان مُصرّاً على تركها حتى يموت، لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون مسلماً مقرَّاً بوجوبها، فإِنّ اعتقاد الوجوب، واعتقاد أنّ تاركها يستحقّ القتل؛ هذا داعٍ تامٌّ إِلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإِذا كان قادراً ولم يفعل قطّ؛ علم أنَّ الداعي في حقّه لم يوجد، والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترْك بعض واجباتها، وتفويتها أحياناً.
فأمَّا من كان مُصرّاً على تركها لا يصلّي قطّ، ويموت على هذا الإِصرار والترك؛ فهذا لا يكون مسلماً؛ لكن أكثر النَّاس يصلّون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في "السنن" حديث عبادة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهنّ؛ كان له عهد عند الله أنْ يدخله الجنّة، ومن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له عهد عند الله، إِنْ شاء عذّبه وإنْ شاء غفر له" (2).
__________
(1) وتقدم تخريجه.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (410)، وغيرهما وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "المشكاة" (570)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (363) و"السنّة" لابن أبي عاصم (967).

(1/312)


فالمحافظ عليها الذي يصلّيها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى، والذي ليس يؤخّرها أحياناً عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه، كما جاء في الحديث".
وجاء (ص 53) -منه-: "وسئل عن رجل يأمره الناس بالصَّلاة ولم يصلّ فما الذي يجب عليه؟
فأجاب: إِذا لم يصلّ فإِنَّه يستتاب، فإِن تاب وإِلاَّ قُتل، والله أعلم".
ويظهر من كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- أنه قد قسم الناس إِلى أربعة أقسام:
1 - الممتنع منها حتى يُقَتل؛ كما في قوله المتقدم: "ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل؛ لم يكن في الباطن مقراً لوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين".
2 - المُصرّ على الترك؛ كما يظهر في قوله: "فمن كان مصراً على تركها حتى يموت؛ لا يسجد لله سجدةً قط؛ فهذا لا يكون مسلمأ مُقرّاً بوجوبها". بمعنى أنه يرى -رحمه الله- كُفره.
3 - الذي لا يحافظ عليها ويظهر من قوله: "لكنّ أكثر الناس يُصلّون تارة ويتركونها تارة ... " وهذا تحت المشيئة؛ لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- المشار إِليه آنفاً.
4 - المؤمنون المحافظون على الصلاة، وهم أصحاب العهد في دخول الجنّة. وبهذا يرى شيخ الإِسلام -رحمه الله- أن الامتناع من الصلاة حتى القتل،

(1/313)


أو الإِصرار على الترك؛ قرينتان للكفر، فقد قال -رحمه الله- في الممتنع: " ... لم يكن في الباطن مقرّاً بوجوبها"، وقال -رحمه الله- في المُصرّ على الترك (22/ 48): " ... فهذا لا يكون قطُّ مسلماً مقرّاً بوجوبها".
وبهذا ينحصر الخلاف في المُصرّ على الترك، وهو المُشكل في كل الأقسام، وعليه مدار البحث والنظر، وتحقيق مناط الحُكم مرتبِطٌ بتنقيح مناطه، ويعود الأمر إِلى الإِقرار بالوجوب وعدمه. وبالله التوفيق.
وجاء أيضاً في "مجموع الفتاوى" (24/ 285) -بحذف-: "وسُئل -رحمه الله- عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلّي، هل لأحد فيها أجر أم لا؟ وهل عليه إِثم إِذا ترَكها مع عِلمه أنه كان لا يصلّي؟ وكذلك الذي يشرب الخمر، وما كان يصلّي؛ هل يجوز لمن كان يعلم حاله أنْ يصلّي عليه أم لا؟
فأجاب: أمّا من كان مظهِراً للإِسلام، فإِنّه تجري عليه أحكام الإِسلام الظاهرة؛ من المناكحة، والموارثة، وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، لكن من عُلِم منه النفاق والزندقة، فإِنه لا يجوز لمن عَلِم ذلك منه الصلاة عليه؛ وإن كان مُظهِراً للإِسلام".
وقال (ص 286): "وكلّ من لم يُعلَم منه النفاق وهو مسلم؛ يجوز الاستغفار له والصلاة عليه بل يشرع ذلك".
وجاء (ص 287) منه: "وسُئل عن رجل يصلي وقتاً، ويترك الصلاة كثيراً، أو لا يصلّي هل يصلّى عليه؟

(1/314)


فأجاب: مثل هذا ما زال المسلمون يصلّون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون النفاق يصلّي المسلمون عليهم، ويُغسَّلون، وتجري عليهم أحكام الإِسلام؛ كما كان المنافقون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإِن كان من علم نفاق شخص؛ لم يجُز له أن يصلّي عليه، كما نُهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على من عَلم نفاقَه، وأمّا من شُكّ في حاله؛ فتجوز الصلاة عليه، إِذا كان ظاهره الإِسلام".
وقال ابن القيّم -رحمه الله- في كتاب "الصلاة وحُكم تاركها" (ص 38) في المسألة الأولى -وقد رجّح استتابة تارك الصلاة: المسألة الثانية: " ... أنه لا يقتل حتى يُدعى إِلى فِعلها فيمتنع".
فماذا إِذا لم يُدع ولم يُستَتب؟ وماذا إِذا لم يُهدَّد بالقتل من الحاكم، أيُحكَم عليه بالكفر، وهذا هو واقعنا مع الأسف، فتنبّه وتدبّر.
ومِثله ما جاء في "الاختيارات" (ص32) في ردّ شيخ الإِسلام -رحمه الله- على متأخري الفقهاء: " ... إِذ يمتنع أن يعتقد أنّ الله فرَضها ولا يفعلها، ويصبر على القتل؛ هذا لا يفعله أحد قطّ" وقد سبقت الإِشارة إِلى مِثل هذا، وانظر "مجموع الفتاوى" (7/ 218) فإِن فيه تفصيلاً أكثر.
وجاء في "المرقاة" (2/ 276): "فمن تركها فقد كفر: أي: أظهر الكُفر وعمل عمل أهل الكُفر فإِنّ المنافق نفاقاً اعتقادياً كافر، فلا يُقال في حقّه كَفر".
وجاء في "الصحيحة" (1/ 174) -بحذف-: "فالجمهور على أنَّه لا يكفُر بذلك، بل يفسق، وذهب أحمد -في رواية- إِلى أنَّه يكفر، وأنَّه يُقتَل ردّة لا حدّاً، وقد صحّ عن الصحابة أنَّهم كانوا لا يرون من الأعمال شيئاً ترْكه كُفر غير الصَّلاة. رواه الترمذي والحاكم.

(1/315)


وأنا أرى أنَّ الصواب رأي الجمهور، وأنّ ما ورَد عن الصحابة ليس نصّاً على أنَّهم كانوا يريدون بـ (الكفر) هنا الكفر الذي يُخلِّد في النار ...
ثمَّ وقفْتُ على "الفتاوى الحديثة" (84/ 2) للحافظ السخاوي، فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصَّلاة -وهي مشهورة معروفة-: "ولكن؛ كل هذا إِنَّما يُحمل على ظاهره في حقّ تاركها جاحداً لوجوبها، مع كونه ممَّن نشأ بين المسلمين؛ لأنَّه يكون حينئذ كافراً مرتدّاً بإِجماع المسلمين، فإِنْ رجع إِلى الإِسلام؛ قُبِل منه وإِلاَّ قُتل.
وأمّا من تركَها بلا عذر بل تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها؛ فالصحيح المنصوص الذي قطَع به الجمهور أنَّه لا يكفر، وأنَّه -على الصحيح أيضاً بعد إِخراج الصَّلاة الواحدة عن وقتها الضروري؛ كأن يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس، أو المغرب حتى يطلع الفجر؛ يستتاب كما يستتاب المرتدّ، ثمَّ يُقتل إِن لم يَتُب، ويُغسل ويصلَّى عليه ويُدفن في مقابر المسلمين، مع إِجراء سائر أحكام المسلمين عليه (1)، ويؤول إِطلاق الكفر عليه لكونه شاركَ الكافر في بعض أحكامه، وهو وجوب العمل؛ جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صحّ أيضاً عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "خمس صلوات كتبهنّ الله ... (فذكر الحديث، وفيه:) إِنْ شاء عذبه، وإِن شاء غفر له"، وقال أيضاً: "من مات وهو يعلم أن لا إِله إلاَّ الله؛ دخل الجنّة" إِلى غير ذلك ... ولهذا لم يزل المسلمون يَرِثون تارك الصَّلاة ويورّثونه، ولو كان كافراً؛ لم يُغفر له؛ لم يَرِث ولم يُورَث".
وقد ذكر نحو هذا الشيخ سليمان عبد الله في "حاشيته على المقنع"
__________
(1) سيأتي كلام شيخنا في إِبطال هذا؛ عما قريب -بإِذن الله تعالى-.

(1/316)


(1/ 95 - 96)، وختم البحث بقوله: "ولأنَّ ذلك إِجماع المسلمين، فإِننا لا نعلم في عصرٍ من الأعصار أحداً من تاركي الصَّلاة تُرك تغسيلُه والصَّلاة عليه، ولا مُنع ميراث موروثه، مع كثرة تاركي الصَّلاة، ولو كَفَر؛ لثبتت هذه الأحكام، وأمَّا الأحاديث المتقدمة؛ فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكافر لا على الحقيقة؛ كقوله عليه الصَّلاة والسلام: "سِباب المسلم فسوق وقتاله كُفر" (1)، وقوله: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (2)، وغير ذلك. قال الموفق: وهذا أصوب القولين".
أقول [أي: شيخنا -حفظه الله-]: نقلْت هذا النص من "الحاشية" المذكورة، ليعلم بعض متعصّبة الحنابلة أن الذي ذهَبْنا إِليه ليس رأياً لنا تفرَّدْنا به دون أهل العلم، بل هو مذهب جمهورهم، والمحققين من علماء الحنابلة أنفسهم؛ كالموفّق هذا -وهو ابن قدامة المقدسي- وغيره؛ ففي ذلك حُجّة كافية على أولئك المتعصبة، تَحْمِلُهم إِنْ شاء الله تعالى على ترك غلَوائهم، والاعتدال في حُكمهم.
بيد أنَّ هنا دقيقة قَلَّ من رأيته تنبّه لها، أو نبّه عليها، فوجب الكشفُ عنها وبيانها، فأقول:
إِنَّ التارك للصلاة كسَلاً؛ إِنَّما يصح الحكم بإِسلامه، ما دام لا يوجد هناك ما يكشف عن مكنون قلبه، أو يدلّ عليه، ومات على ذلك قبل أن يستتاب؛ كما هو الواقع في هذا الزمان، أمَّا لو خُيِّر بين القتل والتوبة بالرجوع إِلى
__________
(1) أخرجه البخاري: 48، ومسلم: 64
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2787)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1241) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2561).

(1/317)


المحافظة على الصَّلاة، فاختار القتل عليها، فقُتل؛ فهو في هذه الحالة يموت كافراً، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا تَجري عليه أحكامهم؛ خلافاً لما سبق عن السخاوي؛ لأنَّه لا يُعقل -لو كان غير جاحد لها في قلبه - أن يختار القتل عليها، هذا أمر مستحيل معروف بالضرورة من طبيعة الإِنسان، لا يحتاج إِثباته إِلى برهان". انتهى.
وكم أعجبني قول بعض طلاب العلم: "إِنَّ ممّا أخشاه أن يكون المكفّرون لتارك الصلاة مطلقاً؛ قد عظّموا الصَّلاة أكثر من الشهادتين".
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "أُمِرَ بعبد من عباد الله أن يضربَ في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجُلدَ جلدةً واحدةً، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه وأفاق قال: على ما جلدتموني؟ قالوا: إِنّك صليت صلاةً واحدةً بغير طهورٍ، ومررتَ على مظلومٍ فلم تنصره" (1).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- من فقه الحديث: قال الطحاوي عقبه: "فيه ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافراً، لأنّه لو كان كافراً لكان دعاؤه باطلاً لقول الله تعالى: {وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلال}.
ونقله عنه ابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 239)، وأقره، بل وأيده بتأويل الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة على أن معناها: "من ترك الصلاة جاحداً لها معانداً مستكبراً غير مقرّ بفرضها. وألزم من قال بكفره بها وقبلها
__________
(1) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" وغيره، وخرّجه شيخنا في "الصحيحة" (2774).

(1/318)


على ظاهرها فيهم أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني و ... و .. إِلى غير ذلك مما جاء في الأحاديث لا يُخرج بها العلماء المؤمن من الإِسلام، وإِن كان بفعل ذلك فاسقاً عندهم، فغير نكير أن تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك".
وفي "المغني" (2/ 298) بحثٌ نفيسٌ فارجِع إِليه -إِن شئت-.
ثمَّ رأيتُ ردّاً للشيخ علي الحلبي -حفظه الله- على من يقول بتكفير تارك الصلاة إِذا كان غير جاحد لوجوبها، ذكر فيه عدداً من الحجج والبراهين من ذلك:
1 - في كتاب "الجامع" (2/ 546 - 547) للخلاّل، عن إِبراهيم بن سعد الزّهري، قال: سألتُ ابن شهابٍ عن الرجل يترك الصلاة؟ قال: "إِنْ كان إِنّما يتركها أنه يبتغي ديناً غير الإِسلام قُتل، وإِنْ كان إِنّما هو فاسق من الفُسّاق، ضُرب ضرباً شديداً أو سُجن".
2 - قال الإِمام ابن المنذر في كتاب "الإِجماع" (ص 148) في مسألة تارك الصلاة: "لم أجِدْ فيها إِجماعاً" (1) أي: على كُفره.
3 - نَقَلَ الحافظ محمد بن نصر المقدسيّ عن ابن المبارك قولَه في تكفير تارك الصلاة -في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 998) -، ثمَّ قال: "فقيل
__________
(1) ومِثله ما ذَكَره في مقدّمة كتاب "حكم تارك الصلاة" لشيخنا عن الإِمام محمد ابن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- فقد قال كما في "الدُّرر السنيّة" (1/ 70) - جواباً على من قال عمّا يُكَّفَّر الرجل به؟ وعمّا يقاتَل عليه؟: "أركان الإِسلام الخمسة؛ أولها الشهادتان، ثمَّ الأركان الأربعة؛ إِذا أقرَّ بها وتركها تهاوناً، فنحن وإنْ قاتلناه على فِعلها فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نكَفّر إلاَّ ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان".

(1/319)


لابن المبارك: أيتوارثان إِنْ مات؟! أو إِن طَلَّقها يقع طلاقُهُ عليها؟ فقال: أمّا في القياس؛ فلا طلاق ولا ميراث، ولكنْ أَجْبُنُ" ...
4 - قال الإِمام ابن القيّم في "كتاب الصلاة" (ص 55): "وها هنا أصل آخر، وهو أنّ الكفر نوعان: كُفر عمل، وكُفر جحود وعناد. فكُفر الجحود: أن يكفر بما علم أنّ الرسول جاء به من عند الله جُحوداً وعناداً من أسماء الربّ وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضادُّ الإِيمان من كل وجه، وأما كُفر العمل، فينقسم إِلى ما يضادّ الإِيمان، وإِلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، وقتل النّبيّ وسّبه يضادّ الإِيمان.
وأمّا الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهو من الكفر العملي قطعاً، ولا يمكن أن يُنفى عنه اسم الكفر؛ بعد أنْ أطلقه الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنْ هو كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يُسمّي الله -سبحانه- الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويُسمّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تارك الصلاة كافراً، ولا يُطلِق عليهما اسم الكفر، وقد نفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإِيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر، وعمّن لا يأمن جاره بوائقه، وإِذا نفي عنه اسم الإِيمان، فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كُفر الجحود والاعتقاد، وكذلك قوله: "لا ترْجِعوا بعدي كُفّاراً يضربُ بعضكم رقاب بعض" (1) فهذا كُفر عمل (2) ".
__________
(1) أخرجه البخاري: 6868، ومسلم: 66
(2) قلت: ولا يخفى ما يقوله ابن القيّم -فيما يظهر من كلامه- تبعاً لشيخ الإِسلام -رحمهما الله تعالى- أنه يُعلّق الكفر على تحقُّق الترك، والإِصرار عليه؛ باعتبارهما قرينة على عدم الإِقرار بالوجوب.

(1/320)


5 - قال الإِمام الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان" (4/ 347) -بعد نقاشٍ طويلٍ في المسألة، وسَرْدٍ مستوعب لأدلة المكفِّرين، وغيرهم-: "هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمداً؛ مع الاعتراف بوجوبها. وأظهر الأقوال أدلة عندي: قول من قال إِنه كافر، وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث قول الجمهور: إِنه كُفر غير مخرج عن الملة لوجوب الجمع بين الأدلة إِذا أمكن.
وإِذا حمل الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج من الملة؛ حصل بذلك الجمع بين الأدلة والجمع واجب إِذا أمكن؛ لأن إِعمال الدليلين أولى من إِلغاء أحدهما؛ كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث.
وقال النووي في "شرح المهذب" -بعد أن ساق أدلة من قالوا إِنه غير كافر ما نصه-: "ولم يزل المسلمون يورّثون تارك الصلاة ويوَرِّثون عنه، ولو كان كافراً لم يغفر له ولم يرث ولم يورث".
من أجل هذا؛ عدّ الإِمام ابن رشد في كتابه "بداية المجتهد" (1/ 228) قول مكفّري تارك الصلاة: " ... مضاهياً لقول من يكفّر بالذنوب".
ولعلّه -من أجل ذا- قال العلامة أبو الفضل السَّكْسَكي في كتابه "البرهان" (ص 35): "إِنّ تارك الصلاة -إِذا لم يكن جاحداً- فهو مسلم -على الصحيح من مذهب أحمد- وأنّ المنصورية يسمّون أهل السنّة مرجئة؛ لأنهم يقولون بذلك، ويقولون: هذا يؤدي إِلى أن الإيمان

(1/321)


عندهم قول بلا عمل"!
6 - قال الإِمام ابن عبد البّر في "التمهيد" (4/ 236) مُلزِماً مكفّري تارك الصلاة -لمجرّد العمل-: "ويلزم من كَفَّرهم بتلك الآثار (1) وقبلها على ظاهرها فيهم: أن يكفِّر القاتل، والشاتم للمسلم، وأن يكفِّر الزاني، وشارب الخمر، والسارق، والمنتهب، ومن رغب عن نسب أبيه.
فقد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (2).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ... " (3).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإِنّه كُفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم" (4).
وقال أيضاً: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (5).
إِلى آثار مِثل هذه لا يُخرجُ بها العلماء المؤمن من الإِسلام، وإِنْ كان بفعل ذلك فاسقاً عندهم، فغير نكير أنْ تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك".
__________
(1) منها حديث بُريدة بن الخصيب -مرفوعاً-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كَفر"، وتقدّم تخريجه.
(2) أخرجه البخاري: 48، ومسلم: 64، وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري: 6810، ومسلم: 57
(4) أخرجه البخاري: 6768، ومسلم: 62
(5) تقدّم.

(1/322)


7 - قال الإِمام عبد الحقِّ الإِشبيلي في كتابه "الصلاة والتهجّد" (ص 96): " ... وذهب سائر المسلمين من أهل السنّة -المحدثين وغيرهم- إِلى أن تارك الصلاة متعمداً، لا يكفر بتركها، وأنه أتى كبيرة من الكبائر إِذ كان مؤمناً بها، مُقرّاً بفرضها، وتأولوا قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول عمر، وقول غيره ممن قال بتكفيره، كما تأولوا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (1)، وغير ذلك مما تأوّلوه، ومن قال بقتل تارك الصلاة من هؤلاء، فإِنما قال: يقتل حدّاً، ولا يقتل كفراً، وإِلى هذا ذهب مالك والشافعي وغيرهما.
8 - ويقول الحافظ العراقي في "طرح التثريب" (2/ 149): "وذهب جمهور أهل العلم إِلى أنه لا يكفر بترك الصلاة -إِذا كان غير جاحد لوجوبها-، وهو قول بقية الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد بن حنبل -أيضاً-". انتهى كلام الشيخ علي الحلبي -حفظه الله-.
قلتُ: ومهما يكن مِن أمر؛ فإِنه لا ينبغي أن نختلف في هذه المسألة، أو نجعل فيها ولاءً وبراءً -إِذ الخلاف شرٌّ- وهذه من مسائل الاجتهاد، والذي ينبني على هذه المسألة أمران:
1 - أمْرٌ يتعلّق بجزاء تارك الصلاة عند اللَّه -تعالى- أيخلُد في النّار أم لا؟ وليس لنا من هذا الأمر شيء.
2 - وأمْرٌ يتعلق بإِجراء الأحكام عليه في الدنيا، وينقسم إِلى قسمين:
أ- ما ينبني عليه من إِجراء أحكام الكافر؛ كمنع الميراث، وتطليق زوجته، وعدم دفنه في مقابر المسلمين عند موته ... إِلخ.
__________
(1) تقدّم تخريجه.

(1/323)


وهذا لم يمض عليه عَمَلُ مَن قبلنا، ومن هم خيرٌ منا، وتقدم الكلام فيه.
ب- ما ينبني عليه من الاستتابة إِذا امتنع؛ من قتل، ونحن نعلم -مع الأسف- غياب هذا، والعجز عنه.
ولو تحقق هذا؛ لانتهى ما طال حوله الجدل، فلنتآلف ولتجتمع قلوبنا، ولنعمل للإِسلام؛ ليأتي اليوم الذي نفرح فيه؛ بتطبيق أحكامه، وهذا من أبرزها، وبالله التوفيق.

على مَن تجب؟
تجب الصَّلاة على المسلم العاقل البالغ؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النّائم حتى يستيقظ، وعن المُبتَلى حتى يبرَأ (1)، وعن الصّبيّ حتى يكبُر (2) " (3).

صلاة الصبيّ
تقدَّم حديث عائشة -رضي الله عنها-: "رفع القلم ... " ويتضمّن ذلك الصبيّ حتى يكبر أو يحتلم.
بيْد أنَّ عدم الوجوب لا يُعفي وليَّه أن يأمره بها حين يبلغ سبْع سنين، وأن يُعاقبه بالضّرب على ترْكها حين يبلغ عشراً، كما في الحديث: "مُرُوا أولادكم بالصَّلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرِّقوا
__________
(1) وفي رواية: "وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق"، انظر "الإِرواء" (297).
(2) وفي رواية: "حتى يحتلم". المصدر السابق.
(3) أخرجه أبو داود وغيره وقال الحاكم: صحيح عى شرط مسلم ووافقه الذهبي وكذا شيخنا في "الإرواء" (297).

(1/324)


بينهم في المضاجع" (1).

عدد الفرائض
وفرائض الصَّلاة في اليوم والليلة خمس كما في حديث طلحة بن عبيد الله: "أنَّ أعرابياً جاء إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثائر الرأس فقال: يا رسولَ الله أخبِرني ماذا فرض الله عليَّ من الصَّلاة، فقال: الصلوات الخمس إلاَّ أن تطوَّع شيئاً، فقال: أخبِرني ما فرَض الله عليَّ من الصيام. فقال: شهر رمضان إلاَّ أن تطوَّع شيئاً، فقال: أخبِرني بما فرض الله عليَّ من الزكاة، فقال: فأخبَره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرائع الإِسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوّع شيئاً، ولا أنقُص ممَّا فرض الله عليَّ شيئاً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إِنْ صدق، أو دخل الجنَّة إِن صدق" (2).

مواقيت الصَّلاة
قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً (3)} (4).
قال في "المغني" (1/ 378): "أجمعَ المسلمون على أنَّ الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت محددةٍ".
__________
(1) أخرجه ابن أبى شيبة في "المصنف" وأبو داود والدارقطني والحاكم والبيهقي وأحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح خرَّجه شيخنا في "الإِرواء" (247)، وانظر "تمام المنة" (ص 139).
(2) أخرجه البخاري: 1891، ومسلم: 11، وغيرهما.
(3) النساء: 103
(4) جاء في "تفسير ابن كثير": قال ابن مسعود: "إِنَّ الصلاة وقتاً كوقت الحجّ، وقال زيد بن أسلم: (كتاباً موقوتاً): مُنجَّماً: كلّما مضى نجم جاء نجم، يعني: كلما مضى وقت جاء وقت".

(1/325)


وقد بيّنَت الأحاديث هذه المواقيت؛ كما في حديث عبد الله بن عمرو، أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقتُ الظهر إِذا زالت الشمس وكان ظلُّ الرَّجلِ كطوله، ما لم يحضُر العصر، ووقت العصر ما لم تصفَرَّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إِلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس، فإِذا طلعت الشمس فأمسِك عن الصَّلاة، فإِنَّها تطلع بين قرنيْ شيطانٍ" (1).
وكذلك حديث جابر: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه جبريلُ عليه السلام فقال: قم فصلِّه، فصلّى الظهر حين زالت الشمس، ثمَّ جاءه العصر فقال: قم فصلّه فصلّى العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه، ثمَّ جاءه المغرب فقال: قم فصلّه، فصلّى المغرب حين وجبت (2) الشمس، ثمَّ جاءه العشاء فقال: قم فصلّه، فصلّى العشاء حين غاب الشفَق، ثمَّ جاءه الفجر فقال: قم فصلِّه، فصلَّى الفجر حين برق الفجر أو قال: سطع الفجر، ثمَّ جاء من الغد للظهر فقال: قم فصلّه، فصلّى الظهر حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله، ثمَّ جاءه العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثليه، ثمَّ جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يَزُل عنه. ثمَّ جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل، فصلّى العشاء، ثمَّ جاء حين أسفر (3) جداً، فقال له: قم فصلّه، فصلّى الفجر ثمَّ قال: ما بين هذين
__________
(1) أخرجه مسلم:612
(2) أصل الوجوب: السقوط والوقوع، والمراد هنا: الغروب.
(3) أسفر الصبح: إِذا انكشف وأضاء والمراد: تأخيرها إِلى أن يطلع الفجر الثاني ويتحقّقه، وقيل إِن الأمر بالإِسفار خاصٌّ في الليالي المقمرة؛ لأنَّ أول الصبح لا يتبيّن فيها فأُمروا بالإِسفار احتياطاً. "النهاية" بتصرف.

(1/326)


وقتٌ" (1)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ للصلاة أولاً وآخراً، وإنّ أوّل وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإنّ أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها، وإِنّ آخر وقتها حين تصفرّ الشمس، وإنّ أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإِنّ أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإِنّ أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإِنَّ آخر وقتها حين تطلع الشمس" (2).

وقت الظُّهر (3)

عن عبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقت الظهر إِذا زالت
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (488) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (127) والدارقطني والحاكم وعنه البيهقي وأحمد، وقال الحاكم: "حديث صحيح مشهور" ووافقه الذهبي، وشيخنا الألباني، وانظر "الإِرواء" (250).
(2) أخرجه الترمذي والطحاوي في "شرح المعاني" والدارقطني في "السنن" وغيرهم، وخرّجه شيخنا في "الصحيحة" (1696).
(3) قال في "المغني" (1/ 378): "بدأ الخرقي بذِكر صلاة الظهر؛ لأنَّ جبريل بدأ بها حين أمّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس وجابر، وبَدأ بها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين علَّم الصحابة مواقيتَ الصلاة في حديث بريدة وغيره، وبدأ بها الصحابة حين سُئلوا عن الأوقات في حديث أبي برزة وجابر وغيرهما". انتهى.
قلتُ: لكن بدأت بعض الألفاظ بصلاة الفجر، كما في "صحيح مسلم" (612).
فعن عبد الله بن عمرو أنَّ نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا صلّيتم الفجر فإِنَّه وقت إِلى أنْ يطلع =

(1/327)


الشمس، وكان ظلّ الرجل كطوله، ما لم يحضُر العصر" (1).
يبدأ وقت الظهر حين تزول الشمس عن بطن السماء ووسطها، ويستمرّ ذلك حتى يصير ظلّ كلّ شيء مثله، باستثناء فيء (2) الزوال.
وأجمع أهل العلم على أن أوّل وقت الظهر زوال الشمس، قاله ابن المنذر وابن عبد البرّ، وقد تظاهرَت الأخبار بذلك ... (3).
قال في "المغني" (1/ 380): "ومعنى زوال الشمس: ميلها عن كبد
__________
= قرن الشمس الأول، ثمَّ إِذا صليتم الظهر فإِنه وقتٌ إِلى أن يحضر العصر، فإِذا صلّيتم العصر فإِنَّه وقتٌ إِلى أن تصفر الشمس، فإِذا صليتم المغرب فإِنَّه وقتٌ إلى أن يسقط الشفق، فإِذا صليتم العشاء فإِنَه وقتٌ إِلى نصف الليل".
وورد في "صحيح مسلم" (612): عن عبد الله بن عمرو أيضاً مرفوعاً بلفظ: "وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول ... " ولكن أحاديث الابتداء بوقت صلاة الظهر أكثر.
واستحسن شيخ الإسلام ابن تيمية: كما في "الاختيارات" (ص 33): أن يُبدَأ بالفجر؛ لأنَّ الصلاة الوسطى هي العصر، وإنَّما تكون الوسطى إِذا كان الفجر هو الأوّل.
(1) أخرجه مسلم: 612
(2) قال في "النهاية": " ... وأصْل الفيء الرجوع، يُقال: فاء يفي فئةً وفُيوءاً؛ كأنه كان في الأصل لهم فرجع إِليهم، ومنه قيل للظلِّ الذى يكون يعد الزوال: فيء، لأنَّه يرجع من جانب الغرب إِلى جانب الشرق".
قال النووي: "والفيء لا يكون إلاَّ بعد الزوال، وأمّا الظلّ فيُطلق على ما قبل الزوال وبعده، وهذا قول أهل اللغة". وقال الحافظ في "الفتح" (6/ 326): "والفيء يكون من عند زوال الشمس، ويتناهى بمغيبها".
(3) انظر "الأوسط" (2/ 326)، و"المغني" (1/ 378).

(1/328)


السماء، ويُعرف ذلك بطول ظلّ الشخص بعد تناهي قِصَره، فمن أراد معرفة ذلك فليُقدّر ظلّ الشمس، ثمَّ يصبر قليلاً ثمَّ يقدّره ثانياً، فإِنْ كان دون الأول فلم تَزُل، وإن زاد ولم ينقص فقد زالت، وأمَّا معرفة ذلك بالأقدام فتختلف باختلاف الشهور والبلدان، فكلّما طال النهار قصر الظل، وإِذا قصر طال الظلّ، فكلّ يوم يزيد أو ينقص".
جاء في "عون المعبود" (3/ 300): "قال الشيخ عبد القادر الجيلاني في "غنية الطالبين": فإِذا أردت أن تعرف ذلك؛ فقِس الظل بأن تنصب عموداً أو تقوم قائماً في موضع الأرض مستوياً معتدلاً، ثمَّ علِّم على منتهى الظل؛ بأن تخط خطاً، ثم انظر أينقص أو يزيد، فإِن رأيته ينقص؛ علمْتَ أنّ الشمس لم تَزُل بعد، وإِنْ رأيته قائماً لا يزيد ولا ينقص؛ فذلك قيامها وهو نصف النهار، لا تجوز الصلاة حينئذ، فإِذا أخذ الظل في الزيادة؛ فذلك زوال الشمس، فقِس من حدّ الزيادة إِلى ظلّ ذلك الشيء الذي قست به طول الظل، فإِذا بلغ إِلى آخر طوله؛ فهو وقت آخر الظهر".
وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- موضّحاً دخول وقت الظهر (1): "لو وضَعْنا شاخصاً وراقبْنا ظلّه حتى صار الظلّ 2 سم مثلاً، وبعد ذلك لم يطُل أكثر من ذلك ولم يقصُر، ثمَّ تحرَّك حتى صار مثلاً 2 سم و1 ملم، فهذا اسمه فيء الزوال، بمعنى زالت الشمس عن وسط السماء، ودخل وقت الظهر".
__________
(1) قاله لي هكذا بمعناه حين طلبْتُ منه توضيحاً عمليّاً لذلك.

(1/329)


وانظر ما قاله ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 328) تحت (باب ذكر معرفة الزوال).

الإِبراد بصلاة الظهر عند الحرّ
عن أبي ذرّ -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال: أبرِد، ثمَّ قال: أبرِد، حتى فاء الفيء -يعني للتلول (1) - ثمَّ قال: أبردوا بالصَّلاة؛ فإِنَّ شدّة الحرّ من فيح (2) جهنّم" (3).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: "قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبردوا بالصَّلاة، فإِنَّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم" (4).
قال في "المغني" (1/ 400): "وقال القاضي: إِنَّما يُستحبُّ الإِبراد بثلاثة شروط: شدّة الحرّ، وأن يكون في البلدان الحارّة ومساجد الجماعات، فأمَّا من صلاّها في بيته، أو في مسجدٍ بفناء بيته؛ فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي؛ لأنَّ التأخير إِنَّما يُستحبّ لينكسر الحرّ ويتسع في
__________
(1) جمع تلّ: وهو ما ارتفع من الأرض عمّا حوله، وهو دون الجبل، وتُجمع أيضاً على تِلال وأتلال، وانظر "الوسيط".
(2) الفيح: سطوع الحر وفورانه، وفاحت القدر غلت. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 3258، ومسلم: 616، قال النووي (3/ 119): "ومعنى قوله رأَينا فيء التّلول: أنَّه أخّر تأخيراً كثيراً؛ حتى صار للتلول فيءٌ، والتلولُ مُنبطحة غير منتصبة، ولا يصير لها فيءٌ في العادة؛ إلاَّ بعد زوال الشمس بكثير".
(4) أخرجه البخاري: 3259، ومسلم: 615

(1/330)


الحيطان، ويكثر السعي إِلى الجماعات، ومن لا يصلّي في جماعة لا حاجة به إِلى التأخير".
واختلف العلماء في غاية الإِبراد: قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (2/ 20) (1): "وقد اختلف العلماء في غاية الإِبراد، فقيل: حتى يصير الظلّ ذراعاً بعد ظلّ الزوال، وقيل: رُبع قامة، وقيل: ثلثها وقيل: نصفها، وقيل: غير ذلك. ونزلها المازري على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنَّه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتدّ إِلى آخر الوقت".

وقت صلاة العصر
ويبدأ حين يكون ظلّ الشيء مثله مع فيء الزوال، ويمتدّ إِلى غروب الشمس.
قال لي شيخنا -حفظه الله تعالى- في بيان وقت العصر في درس عمليّ: "قلنا في بيان صلاة الظهر أنَّ طول الشاخص 1م مثلاً وفيء الزوال 2سم و1 ملم، فمتى يكون وقت العصر؟
عندما يصير هذا الظلّ طوله 1م و2سم و1ملم، فالشاخص الذي قلنا إِنَّ طوله 1م، يصير ظلّه على الأرض 1م و2سم و1ملم وهو فيء الزوال". انتهى.
وفي ذلك أحاديث منها حديث جابر المتقدّم وفيه: " ... ثمَّ جاءه العصر فقال: قُم فصلِّه، فصلَّى العصر حين صار ظلّ كل شيء مثليه".
وكذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
__________
(1) ونقله السيد سابق -حفظه الله- في "فقه السنة" (1/ 99).

(1/331)


" ... ومن أدرك ركعة (1) قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (2).
وفي رواية: "إِذا أدرك أحدكم سجدةً (3) من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتمّ صلاته" (4).

الترهيب من ترك صلاة العصْر
عن أبي المَليح قال: كنّا مع بريدة في غزوةٍ في يوم ذي غيم، فقال: بكِّروا بصلاة العصر، فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ترك صلاة العصر فقد حَبِط عمله" (5).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذى تفوتُه صلاة العصر كأنَّما وُتِرَ (6) أهلَه وماله" (7).
__________
(1) سيأتي الكلام حولها في (باب من أدرك ركعة من صلاة الفجر أو العصر).
(2) أخرجه البخاري: 579، ومسلم: 608
(3) سيأتي الكلام حولها في (باب من أدرك ركعة من صلاة الفجر أو العصر).
(4) أخرجه البخاري: 556 من حديث أبي هريرة، ومسلم: 609 من حديث عائشة -رضي الله عنهما-.
(5) أخرجه البخاري: 553، 594، وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية، "الإِرواء" (255).
(6) قال في "الفتح": "وُتِر أهله: هو بالنصب عند الجمهور على أنَه مفعول ثانٍ لوُتِر، وأُضمر في (وُتِر) مفعول لم يسمّ فاعله، وهو عائد على الذي فاتَتْه، فالمعنى: أصيب بأهله وماله، وهو متعدٍّ إِلى مفعولين ... ".
(7) أخرجه البخاري: 552، ومسلم: 626، وغيرهما.

(1/332)


تعجيلها عند الغيم
لقول بريدة السابق حين غزا في يوم ذي غيمْ: "بكّروا بصلاة العصر ... ".

صلاة العصر هي الصَّلاة الوسطى
قال الله تعالى: {حافِظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} (1).
وعن عليّ -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الخندق: "ملأ الله عليهم بيوتهم، وقبورهم ناراً؛ كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" (2).
وفي رواية: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ... " (3).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "حَبَسَ المشركون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة العصر، حتى احمرَّت الشمس أو اصفرَّت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر؛ ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً"، أو قال: "حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً" (4).
قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 368): "ويُقال: إِنها سُمّيت وسطى
__________
(1) البقرة: 238
(2) أخرجه البخاري: 4111، ومسلم: 627
(3) أخرجه مسلم: 627
(4) أخرجه مسلم: 628

(1/333)


لأنها بين صلاتين في الليل، وصلاتين في النهار".

وقت صلاة المغرب
ويبدأ وقت صلاة المغرب إِذا غابَ جميع قُرص الشمس، ويستمرّ إِلى مغيب الشّفق (1) الأحمر، وتقدَّم حديث مسلم (612): "فإِذا صلّيتم المغرب؛ فإِنَّه وقْتٌ إِلى أن يسقُط الشّفق".
ويُستحبّ التعجيل بصلاة المغرب وفي ذلك نصوص عديدة منها:
1 - ما رواه سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي المغرب إِذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب" (2).
2 - عن أبي أيوب -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلّوا صلاة المغرب مع سقوط الشمس" (3).
3 - ما رواه رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: "كُنّا نصلّي المغرب مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينصرف أحدُنا؛ وإِنَّه ليُبصر مواقع نَبْلِه" (4).
جاء في "المغني" (1/ 390): "وإِذا غابت الشمس وجَبَت المغرب، ولا يُستحبّ تأخيرها إِلى أن يغيب الشّفق، أمَّا دخول وقت المغرب بغروب
__________
(1) قال في "النهاية": الشفق من الأضداد؛ يقع على الحُمرة التي تُرى في المغرب بعد مغيب الشمس، وبه أخذَ الشافعي، وعلى البياض الباقي في الأفق الغربي بعد الحمرة المذكورة، وبه أخذَ أبو حنيفة.
(2) أخرجه البخاري: 561، ومسلم: 636
(3) أخرجه الطبراني وغيره وخرجه شيخنا في "الصحيحة" (1915).
(4) أخرجه البخاري: 559، ومسلم: 637

(1/334)


الشمس؛ فإِجماع أهل العلم لا نعلم بينهم خلافاً فيه، والأحاديث دالّة عليه وآخره مغيب الشّفق، وبهذا قال الثوري وإِسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وبعض أصحاب الشافعي، وقال مالك والأوزاعي والشافعي: ليس لها إلاَّ وقت واحد عند مغيب الشمس؛ لأن جبريل عليه السلام صلاّها بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليومين لوقت واحد في بيان مواقيت الصَّلاة".

التعجيل بصلاة المغرب:
لما تقدّم من النصوص:
وقال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 369): "وأجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ التعجيل بصلاة المغرب أفضل، وكذلك نقول".

وقت العشاء
يبدأ وقت صلاة العشاء حين يغيب الشّفق، ويمتدّ إلى نصف الليل، وتقدَّم حديث جابر -رضي الله عنه-: " ... فصلّى العشاء حين غاب الشّفق ... "، إِلى قوله: "ثمَّ جاء من الغد ... ثمَّ جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثُلث الليل، فصلّى العشاء ... ثمَّ قال: ما بين هذين وقْت".
وفي الحديث: "إِذا ملأ الليل بطن كلِّ وادٍ فصلّ العشاء الآخرة" (1).

استحباب تأخير العشاء عن أوّل وقْتها
وفيه أحاديثُ عديدة، منها:
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وهو ثابت بمجموع طرقه، وانظر "الصحيحة" (1520).

(1/335)


حديث أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- يصف صفة صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
المكتوبة- قال: "وكان يستحِبُّ أن يؤخّر من العشاء التي تدْعونها العَتَمةَ" (1).
وعن حميد قال: "سُئل أنسٌ: هل اتخذ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتَماً؟ قال: أخّرَ ليلةً صلاة العشاء إِلى شطر الليل، ثمَّ أقبلَ علينا بوجهه، فكأني أنظر إِلى وبيص (2) خاتمه، قال: إِنّ الناس قد صلَّوا وناموا، وإِنَّكَم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها" (3).
وعن عائشة؛ قالت: "أَعْتَم (4) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة حتى ذهب عامّة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثمَّ خرج فصلّى، فقال: "إِنَّه لَوَقتها؛ لولا أن أشقَّ على أمّتي" (5).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشقَّ على أمّتي، لأمَرْتهم أن يُؤخّروا العشاء إِلى ثلث الليل أو نصفه" (6).
وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن عليّ قال: قدم الحجّاج فسأَلنا جابر
__________
(1) ووردَ معلقاً في البخاري: (1/ 150)، وموصولاً (547)، وانظر مسلم: 647
(2) أي: بريق.
(3) رواه البخاري: 5869، ومسلم: 640
(4) أي: أخر صلاة العشاء حتى اشتدّت عتمة الليل وظُلمته.
(5) أخرجه مسلم: 638، وغيره.
(6) أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وهو في "صحيح سنن ابن ماجه" (565)، وصحّح شيخنا إِسناده في "المشكاة" (611).

(1/336)


ابن عبد الله فقال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي الظهرَ بالهاجرةِ (1)، والعصر والشمس نقيةٌ، والمغرب إِذا وجبتْ، والعشاء أحياناً وأحياناً: إِذا رآهم اجتمعوا عجّلَ، وإذا رآهم أبطأوا أخَّر، والصبح -كانوا أو كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بغَلَس" (2).
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 48) عقب الحديث (567): " ... فعلى هذا من وجد به قوّةً على تأخيرها، ولم يغلِبه النوم ولم يشقّ على أحد من المأمومين؛ فالتأخير في حقّه أفضل، وقد قرّر النووي ذلك في "شرح مسلم"، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعيّة وغيرهم والله أعلم.
ونقل ابن المنذر عن الليث وإِسحاق؛ أنَّ المستحبّ تأخير العشاء إِلى قبل الثُلث، وقال الطحاوي: يُستحبُّ إِلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم: التعجيل أفضل، وكذا قال في "الإِملاء" وصحّحه النووي وجماعة وقالوا: إِنَّه ممَّا يُفتي به على القديم، وتعقب بأنَّه ذكره في "الإِملاء" وهو من كُتُبه الجديدة، والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، ومن حيث النظر التفصيل والله أعلم".
قلت: "ولعلّ ذلك يتبع ما بالحيّ والجماعة من قوّة؛ يُراعى فيها أضعفهم؛ حرصاً على صلاة الجماعة.
__________
(1) قال في "النهاية": "والهجير والهاجرة: اشتداد الحرّ نصف النّهار". وأشار الحافظ في "الفتح" (2/ 42) أنَّه عقبَ الزوال؛ حين اشتداد الحرّ، وذلك في معرض مناقشة بعض الأقوال.
(2) أخرجه البخاري: 560، ومسلم: 646

(1/337)


فربّما استدعى الأمر إِلى عدم التأخير مُطلقاً لظروف المصلِّين، وربما كان المصلّون قلَّةً في مسجدٍ ما، يستطيعون تأخير الصلاة إِلى ثلث الليل أو قبله أو بعده، ويراعى في ذلك الانتفاع من وقت الانتظار في العبادة والطاعة، والله أعلم".
ولابن المنذر في "الأوسط" (2/ 369) كلام نفيس في هذا فارجع إِليه -إِن شئت-.

آخر وقت للعشاء
تعدَّدت الأقوال في آخر وقت للعشاء، فمنهم مَن قال: إِنَّ العشاء يمتدُّ إِلى طلوع الفجر الثاني، ومنهم من قال: إِنّه يمتدّ إِلى ثُلث الليل، ومنهم من قال: إِلى نصف الليل.
ومنهم من قال: وقت الاختيار إِلى ثلث الليل، ووقت الضرورة إِلى طلوع الفجر الثاني.
واستدلّ من قال بامتداد العشاء إِلى طلوع الفجر الثاني بحديث "مسلم" (681): " ... أما إِنّه ليس في النّوم تفريط، إِنَّما التفريطُ على من لم يُصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأُخرى ... ".
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص140): " ... ولا دليل فيه على ما ذهبوا إِليه، إِذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق من أجل ذلك وإِنّما لبيان إِثم من يؤخِّر الصلاة حتى يخرجها عامداً عن وقتها مطلقاً؛ سواء كان يعقبها صلاة أخرى مِثل العصر مع المغرب، أوْ لا، مِثْل الصبح مع الظهر، ويدلّ على ذلك أنّ الحديث ورَد في صلاة الفجر؛ حين فاتتْه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع

(1/338)


أصحابه وهم نائمون في سَفَر لهم، واستعظَم الصحابة -رضي الله عنهم- وقوع ذلك منهم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم: "أما لكم فيَّ أُسوة؟ " ثمَّ ذكَر الحديث.
كذلك هو في "صحيح مسلم" وغيره، فلو كان المراد من الحديث ما ذهبوا إِليه من امتداد وقت كل صلاة إِلى دخول الأخرى، لكان نصّاً صريحاً على امتداد وقت الصبح إِلى وقت الظهر، وهم لا يقولون بذلك، ولذلك اضطروا إِلى استثناء صلاة الصبح من ذلك، وهذا الاستثناء على ما بينّا من سبب الحديث يعود عليه بالإِبطال؛ لأنَّه إِنَّما ورَد في خصوص صلاة الصبح، فكيف يصحّ استثناؤها؟! فالحقّ أنَّ الحديث لم يَرِد من أجل التحديد، بل لإِنكار تعمُّد إِخراج الصلاة عن وقتها مطلقاً، ولذلك قال ابن حزم في "المحلّى" (3/ 233) مجيباً على استدلالهم المذكور:
"هذا لا يدلّ على ما قالوه أصلاً، وهم مُجمِعون معَنا أنَّ وقت صلاة الصبح لا يمتدّ إِلى وقت صلاة الظهر، فصحّ أنَّ هذا الخبر لا يدل على اتّصال وقْت كلّ صلاة بوقت التي بعدها، وإِنَّما فيه معصية من أخَّرَ صلاةً إِلى وقْتِ غيرها فقط، سواءٌ اتصل آخر وقتها بأول الثانية أمْ لم يتَّصل، وليس فيه أنّه لا يكون مفرِّطاً أيضاً من أخَّرها إِلى خروج وقتها، وإِن لم يدخُل وقتُ أخرى، ولا أنّه يكون مُفرِّطاً، بل هو مسكوت عنه في هذا الخبر، ولكن بيانه في سائر الأخبار التي فيها نصٌّ على خروج وقتِ كلِّ صلاة، والضرورة توجبُ أنَّ من تعدَّى بكل عمل وقته الذي حدَّه الله تعالى لذلك العمل؛ فقد تعدّى حدود الله، وقال تعالى: {ومن يتَعَدَّ حدودَ الله فأولئكَ هم الظالمون} (1) ".
وإذ قد ثَبت أنّ الحديث لا دليل فيه على امتداد وقت العشاء إِلى الفجر،
__________
(1) البقرة: 229

(1/339)


فإِنَّه يتحتّم الرجوع إِلى الأحاديث الأخرى التي هي صريحة في تحديد وقت العشاء مِثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ووقت صلاة العشاء إِلى نصف الليل الأوسط ... ". رواه "مسلم" (612) وغيره.
وقد مضى بتمامه في الكتاب، ويؤيّده ما كتب به عمر بن الخطاب إِلى أبي موسى الأشعري: " ... وأَن صلِّ العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وإنْ أخَّرْت فإِلى شطْر الليل، ولا تكن من الغافلين". أخرجه مالك والطحاوي وابن حزم، وسنده صحيح.
فهذا الحديث دليل واضح على أنَّ وقت العشاء إِنّما يمتدّ إِلى نصف الليل فقط، وهو الحقّ، ولذلك اختارَه الشوكاني في "الدرر البهية"، فقال: " ... وآخر وقت صلاة العشاء نصف الليل"، وكذا في "السيل الجرّار" (1/ 183) وتبِعه صديق حسن خان في "شرحه" (1/ 69 - 70)، وقد رُوي القول به عن مالك كما في "بداية المجتهد"، وهو اختيار جماعة من الشافعية كأبي سعيد الاصطخري وغيره. انظر "المجموع" (3/ 40).
فخلاصة الأمر أنَّ وقت صلاة العشاء؛ يمتدّ إلى نصف الليل فقط، وحديث "مسلم" (612) المتقدم عُمدة في ذلك وفيه: " ... ووقت صلاة العشاء إِلى نصف الليل الأوسط ... " وبالله التوفيق.

فائدة:
ينتهي الليل بطلوع الفجر الصادق، قال الله تعالى: {وكلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِن الخَيْطِ الأسْوَدِ من الفَجْر} (1). فالخيط
__________
(1) البقرة: 187

(1/340)


الأسود آخر الليل، والخيط الأبيض أول الفجر.

وقت صلاة الصبح
يبدأ وقت صلاة الصبح حين يطلُع الفجر الصّادق، ويمتدّ إِلى طلوع الشمس.
جاء في "المغني" (1/ 395): "وإذا طلَع الفجر الثاني وجَبَت صلاة الصبح، والوقت مُبقىً إِلى ما قبل أنْ تطلُع الشمس، ومن أدرَك منها ركعةً قبل أن تطلُع فقد أدرَكها وهذا مع الضرورة.
وجملته: إِنَّ وقت الصبح يدخل بطلوع الفجر الثاني إِجماعاً، وقد دلَّت عليه أخبار المواقيت وهو البياض المستطير (1) المنتشر في الأفق، ويُسمَّى الفجر الصادق؛ لأنَّه صدقَك عن الصبح وبيَّنه لك، والصبحُ ما جمع بياضاً وحمرةً، ومنه سُمِّي الرجل الذي في لونه بياض وحمرة أصبح، فأمَّا الفجر الأول: فهو البياض المستدق صُعُداً (2) من غير اعتراض، فلا يتعلّق به حكم، ويُسمَّى الفجر الكاذب".
__________
(1) الفجر المستطير: هو الذي انتشر ضوؤه واعترض في الأفق، بخلاف المستطيل. ومنه حديث بني قريظة:
وهان على سراة بني لؤيٍّ ... حريقٌ بالبويرة مستطير
أي: منتشر متفرّق، كأنه طار في نواحيها. "النهاية".
(2) أي: طولاً.

(1/341)


التغليس (1) بصلاة الفجر

يستحبُّ التغليس بصلاة الفجر؛ بأن تُصلّى في أوّل وقتها، كما تدلّ على ذلك الأحاديث الصحيحة، منها:
حديث أبي مسعود البدري: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى الصبح مرّة بغلس، ثمَّ صلّى مرّة أخرى فأسفَر بها، ثمَّ كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إِلى أن يسفر" (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنَّ نساءُ المؤمنات يشهدنَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر مُتَلَفِّعاتٍ بمروطهنَّ، ثمَّ ينقلبنَ إِلى بيوتهنَّ حين يقضين الصلاة؛ لا يعرفهنَّ أحدٌ من الغَلَس" (3).
__________
(1) الغَلس: ظُلمة آخر الليل كما تقدّم، والمراد بالتغليس هنا: المبادرة بصلاة الفجر في أوّل وقتها.
(2) أخرجه أبو داود بسند حسن كما قال النووي وابن حبان في "صحيحه" (378) وصححه الحاكم والخطابي والذهبي وغيرهم، كما بيّنه شيخنا -حفظه الله تعالى- في "صحيح سنن أبي داود" (378)، وقال: "والعمل بهذا الحديث هو الذي عليه جماهير العلماء؛ من الصحابة والتابعين والأئمّة المجتهدين ... "، وانظر "الضعيفة" (2/ 372).
ومعنى إِلى أن يُسفر: "أي: ينكشف ويُضيء فلا يُشَكُّ فيه، وسيأتي شرحه قريباً -إِن شاء الله- في حديث: "أسفروا بالفجر ... "، وقال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 381): "وقال بعضهم: معروف في كلام العرب قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها، وأسفري عن وجهك، أي: اكشفي".
(3) أخرجه البخاري: 578، ومسلم: 645، وغيرهما.
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 55): " (كنَّ): قال الكرماني: هو مِثل (أكلوني =

(1/342)


وفي رواية: "وما يعرف بعضنا وجوه بعض" (1).
ولا يُعارض هذا الحديث قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسفروا (2) بالفجر؛ فإِنَّه أعظم
__________
= البراغيث) لأنَّ قياسه الإِفراد وقد جُمِع. قوله (نساء المؤمنات): تقديره نساء الأنفس المؤمنات أو نحوها، ذلك حتى لا يكون من إِضافة الشيء إلى نفسه، وقيل: إِنَّ (نساء) هنا بمعنى الفاضلات، أي: فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم، أي: فضلاؤهم. وقوله (لا يعرفهن أحد)، قال الداودي: معناه: لا يُعرفن أنساء أم رجال، أى: لا يظهر للرائي إلاَّ الأشباح خاصّة، وقيل: لا يُعرف أعيانهن فلا يُفرّق بين خديجة وزينب، وضعّفه النووي بأنّ المتلفّعة في النهار لا تعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة، وتعقّب بأن المعرفة إِنما تتعلق بالأعيان، فلو كان المراد الأول لعبَّر بنفي العِلم، وما ذكر من أن المتلفّعة بالنهار لا تُعرف عينُها فيه نظر، لأنَّ لكلّ أمرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مُغطّى.
وقال الباجي: هذا يدلّ على أنهنّ كنّ سافرات، إِذ لو كنَّ متنقّبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهنّ لا الغلس.
قلت: وفيه ما فيه، لأنَّه مبني على الاشتباه الذي أشار إِليه النووي، وأمّا إِذا قلنا إِنَّ لكل واحدة منهن هيئة غالباً فلا يلزم ما ذكر. والله أعلم.
والمروط: جمع مِرط بكسر الميم وهو كساء معلم من خز أو صوف أو غير ذلك، وقيل: لا يسمى مِرْطاً؛ إلاَّ إِذا كان أخضر، ولا يلبسه إلاَّ النساء، وهو مردود بقوله مِرْط من شعر أسود، وقوله: ينقلبن أي: يرجعن".
(1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" بسند صحيح عنها. عن " جلباب المرأة المسلمة" (ص 66).
(2) أسفر الصبح إِذا انكشف وأضاء. قالوا: يُحتمل أنهم حين أمرهم بتغليس صلاة الفجر في أوّل وقتها؛ كانوا يصلّونها عند الفجر الأوّل حرصاً ورغبةً، فقال: أسفِروا بها =

(1/343)


للأجر" (1).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (2/ 55): "وأمّا ما رواه أصحاب السنن وصحّحه غير واحد من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسفِروا بالفجر فإِنَّه أعظم للأجر"، فقد حَمَله الشافعي وغيره على أنَّ المراد بذلك تحقُّق طلوع الفجر، وحَمله الطحاوي على أنَّ المراد الأمر بتطويل القراءة فيها؛ حتى يخرج من الصلاة مُسفِراً، وأبعَدَ من زَعمَ أنَّه ناسخ للصلاة في الغلس".
وقال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" (1/ 286): "قال الترمذي عقب الحديث: وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين الإِسفار بصلاة الفجر. وبه يقول سفيان الثوري. وقال الشافعي وأحمد وإِسحاق: معنى الإِسفار: أن يتضح الفجر، فلا يُشكّ فيه، ولم يرو أنَّ معنى الإِسفار تأخير الصَّلاة".
قلت [الكلام لشيخنا -حفظه الله-]: "بل المعنى الذي يدل عليه مجموع ألفاظ الحديث إِطالة القراءة في الصَّلاة حتى يخرج منها في الإِسفار، ومهما أسفَر فهو أفضل وأعظم للأجر؛ كما هو صريحُ بعضِ الألفاظ المتقدمة، فليس معنى الإِسفار إِذن هو الدخول في الصَّلاة في وقت الأِسفار؛ كما هو
__________
= أي: أخّروها إِلى أن يطلع الفجر الثاني وتتحققوه. وقيل: إِن الأمر بالإسفار خاصٌ في الليالي المقمرة؛ لأنَّ أوّل الصبح لا يتبّين فيها، فأُمروا بالأِسفار احتياطاً. "النهاية" بحذف يسير.
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والدارمي وغيرهم، وهو حديث صحيح خرَّجه شيخنا في "الإرواء" (258)، وذكر له طُرقاً وشواهد عديدة.

(1/344)


مشهور عن الحنفية، لأنَّ هذا خلاف السنّة الصحيحة العملية التي جرى عليها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما تقدَّم في الحديث الذي قبله، ولا هو التحقّق من دخول الوقت كما هو ظاهر كلام أولئك الأئمّة، فإِنَّ التحقق فرْض لا بد منه، والحديث لا يدلّ إلاَّ على شيء هو أفضل من غيره، لا على ما لا بدّ منه كما هو صريح قوله: " ... فإِنَّه أعظم للأجر"، زِدْ على ذلك أنَّ هذا المعنى خلاف قوله في بعض ألفاظ الحديث: " ... فكلّما أصبحتم بها فهو أعظم للأجر".
وخلاصة القول؛ أنَّ الحديث إِنّما يتحدّث عن وقت الخروج من الصلاة، لا الدخول، فهذا أمر يُستفاد من الأحاديث الأخرى، وبالجمع بينها وبين هذا: نستنتج أنَّ السنَّة الدخول في الغلس والخروج في الإِسفار، وقد شرح هذا المعنى الإِمام الطحاوي في "شرح المعاني"، وبيّنه أتمّ البيان بما أظهر أنَّه لم يُسبَق إِليه، واستدلّ على ذلك ببعض الأحاديث والآثار، وختم البحث بقوله: فالذي ينبغي الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإِسفار؛ على موافقة ما روينا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه. وهو قول أبي حنيفة وأيي يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله تعالى-.
وقد فاتهَ -رحمه الله- أصرح حديث يدلّ على هذا الجمع؛ منْ فِعْله عليه الصلاة والسلام وهو حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي، .. الصُّبح إِذا طلَع الفجر إِلى أن ينفسح البصر".
أخرجه أحمد بسند صحيح كما تقدَّم بيانه في آخر تخريج الحديث السابق. وقال الزيلعي (1/ 239): "هذا الحديث يُبطلِ تأويلهم الإِسفار بظهور الفجر" وهو كما قال -رحمه الله تعالى-". انتهى ولشيخ الإِسلام

(1/345)


كلام مهم في "الفتاوى" (22/ 95) فارجع إِليه -إِن شئت-.

من أدرَك ركعة من صلاة الفجر أو العصر
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرَك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرَك الصبح، ومن أدرَك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرَك العصر" (1).
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أدرَك أحدُكم سجدةً من صلاة العصر قبل أن تغرُب الشمس، فليُتمَّ صلاته، وإذا أدرَك سجدةً من صلاة الصُّبح قبل أن تطلع الشمس، فليتمّ صلاته" (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أدرَك من العصر سجدةً قبل أن تغرب الشمس؛ أو من الصبح قبل أنْ تطلع، فقد أدرَكها" (3) والسجدة إِنَّما هي الركعة (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 579، ومسلم: 608
(2) أخرجه البخاري: 556
(3) أخرجه مسلم: 609، وغيره.
(4) قوله: "والسجدة إِنما هي الركعة" مُدرجة في الحديث ليست من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال شيخنا في "الإِرواء" (تحت الحديث 252): "وهي مُدرجةٌ في الحديث ليست من كلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الحافظ في "التلخيص" (ص65): قال المحبّ الطبري في "الأحكام": ويُحتمل إِدراج هذه اللفظة الأخيرة.
قلت: -أي: شيخنا حفظه الله -: "وهو الذي أُلقيَ في نفسي وتبيّن لي بعد أن تتبعتُ مصادر الحديث فلم أجدها عند غير مسلم. والله أعلم".

(1/346)


وجاء في "صحيح البخاري" (556) (كتاب مواقيت الصلاة) "باب من أدرَك ركعةً من العصر قبل الغروب"، وأورد فيه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "إِذا أدرَك أحدكم سجدةً ... ".
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 38): "قوله (باب من أدرَك ركعةً من العصر قبل الغروب) أورد فيه حديث أبي سلمة عن أبي هريرة: "إِذا أدرَك أحدكم سجدةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتمّ صلاته، فكأنَّه أراد تفسير الحديث، وأنَّ المراد بقوله: "فيه سجدة"، أي: ركعة.
وقد رواه الإِسماعيلي من طريق حسين بن محمد عن شيبان بلفظ: "من أدرَك منكم ركعة" فدلّ على أنَّ الاختلاف في الألفاظ وقَع من الرواة، ... و [في] رواية مالك في أبواب وقت الصبح بلفظ: "من أدرَك ركعة" ولم يُختَلف على راويها في ذلك، فكان عليها الاعتماد. وقال الخطابي: "المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إِنّما يكون تمامها بسجودها فسُمّيت على هذا المعنى سجدة"".
قال شيخنا في "الإِرواء" (1/ 275): " ... وقد أخرجه البيهقي (1/ 378) من طريق محمد بن الحسين بن أبي الحنين حدثنا الفضل يعني ابن دكين به، بلفظ: "إِذا أدرك أحدكم أوّل سجدة ... " بزيادة "أوّل" في الموضعين.
... فثبتَ مما ذكَرْنا أنَّ هذه الزيادة صحيحة ثابتة في الحديث، وهي تعيِّن أنَّ المراد من الحديث إدراك الركوع مع السجدة الأولى؛ كما سبَق بيانه، وما يترتّب عليه من رفْع الخلاف الفقهي في الحديث الذي قبله"،

(1/347)


أي: حديث: "من أدرَك ركعةً من الصبح ... ".

الأوقات التي ورَد النّهي عن الصَّلاة فيها
لقد ورَد النهي عن الصَّلاة في عِدّه مواطن، وهي ما يأتي:
1 - بعد صلاة الفجر حتى تطلُع الشمس.
2 - وحين طلوعها حتى ترتفع قدر رمح.
3 - وحين استوائها.
4 - وحين تميل إِلى الغروب.
5 - وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس؛ وذكر بعض العلماء جواز ذلك قبل اصفرار الشمس، كما سيأتي إِن شاء الله.
ودليل ذلك:
حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة بعد صلاة العصر حتَّى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتَّى تطلع الشمس" (1).
__________
(1) أخرجه البخاري: 586، ومسلم: 827
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (63 - 65) بحذف يسير: "فقد نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت الغروب، مُعلِّلاً ذلك النهي: بأنّها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنَّه حينئذ يسجُد لها الكفار. ومعلوم أنَّ المؤمن لا يقصد السجود إلاَّ لله تعالى، وأكثر النّاس قد لا يعلمون أنَّ طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أنَّ الكفار يسجدون لها، ثمَّ إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهى عن الصلاة في هذا الوقت حَسماً لمادّة المشابهة بكلّ طريق. =

(1/348)


وحديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- في قصة إِسلامه، وفيه: "فقلتُ: يا نبي الله! أخبِرني عمَّا علَّمك الله وأجهلُهُ، أخبرْني عن الصلاة؟ ".
قال: "صلِّ صلاة الصبح. ثمَّ أقْصِرْ عن الصَّلاة حتى تطلع الشمس حتَّى ترتفع، فإِنّها تطلعُ حين تطلعُ بين قرْني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثمَّ صلِّ فإِنَّ الصَّلاة مشهودةٌ محضورةٌ (1) حتَّى يستقلَّ الظِّلُّ بالرمح (2). ثمَّ أقصِرْ
__________
= ... وكان فيه تنبيهٌ على أنَّ كلّ ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها ممّا يكون كفراً أو معصية بالنية؛ يُنهى المؤمنون عن ظاهره، وإنْ لم يقصدوا به قصْد المشركين سدّاً للذريعة، وحسماً للمادة"، ولهذا نهَى عن الصلاة إِلى ما عُبد من دون الله في الجملة، وإِن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا يُنهى عن السجود لله بين يدي الرّجل، وإن لم يقصد الساجد ذلك، لِمَا فيه من مُشابهة السجود لغير الله.
فانظر كيف قَطَعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات، وكما لا يُصلّي إِلى القبلة التي يُصلون إِليها؛ كذلك لا يصلّي إِلى ما يُصلّون له؛ بل هذا أشدّ فساداً، فإِنَّ القبلة شريعة من الشرائع، قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء، أمَّا السجود لغير الله وعبادته؛ فهو مًحرّم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله، كما قال سبحانه وتعالى: {واسألْ من أرسَلْنا من قبلِك من رُسُلنا أجعَلْنا من دون الرحمن آلهةً يُعبدون}. [الزخرف: 45].
(1) أي: تشهدها الملائكة وتحضرها.
(2) قال النووي -رحمه الله-: أى: يقوم مقابله في جهة الشمال؛ ليس مائلاً إِلى المغرب ولا إِلى المشرق، وهذه حالة الاستواء، وفي الحديث التصريح بالنهي عن الصلاة حينئذ حتى تزول الشمس، وهو مذهب الشافعي وجماهير العلماء، واستثنى الشافعي حالة الاستواء يوم الجمعة.
وقال في "النهاية": أي: حتى يبلغ ظلّ الرمح المغروس في الأرض أدنى غاية القلَّة والنقص؛ لأنَّ ظلَّ كل شيء في أوّل النّهار يكون طويلاً، ثمَّ لا يزال ينقص حتى يبلغ أقصره =

(1/349)


عن الصَّلاة. فإِنَّ حينئذ تُسْجَرُ جهنم (1) فإِذا أقبل الفيءُ فَصَلِّ (2). فإِن الصَّلاة مشهودةٌ محضورةٌ، حتَّى تصلِّي العصر ثمَّ أقصِر عن الصَّلاة (3) حتَّى تغرب الشمس. فإِنّها تغرُب بين قرني شيطانٍ، وحينئذ يسجد لها الكفار" (4).
وعن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلِّي فيهنّ، أو أن نقبرَ فيهنّ موتانا (5): حين تطلعُ الشمس بازغةً (6) حتى ترتفع، وحين يقوم قائمُ الظهيرة (7) حتى تميل
__________
= وذلك عند انتصاف النهار، فإِذا زالت الشمس عاد الظِّل يزيد، وحينئذ يدخل وقت الظهر، وتجوز الصلاة ويذهب وقت الكراهة. وهذا الظّل المتناهي في القِصَر هو الذي يسمّى ظلَّ الزوال، أي: الظل الذي تزول الشمس عن وسط السماء، وهو موجود قبل الزيادة. فقوله: "يستقل الرّمح بالظل" هو من القلة لا من الإِقلال والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع والاستبداد، يقال: تقلل الشيء، واستقله، وتقالَّه: إِذا رآه قليلا.
(1) أي: توقد إِيقاداً بليغاً. "شرح النووي".
(2) أقبل الفيء: ظهر إِلى جهة الشرق، والفيء مختصّ بما بعد الزّوال، وأمّا الظلّ فيقع على ما قبل الزوال وبعده. "شرح النووي".
(3) أي: أمسِكْ وكفّ.
(4) أخرجه مسلم: 832، وغيره.
(5) قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنة" (ص 143): [الواجب] تأخير دفْن الجنازة حتى يخرج وقت الكراهة، إلاَّ إِذا خيف تغيّر الميت، وهو قول الحنابلة كما ذكره المؤلف [أي: السيد سابق -حفظه الله-] في كتاب "الجنائز".
(6) البزوغ: ابتداء طلوع الشمس، يقال: بزغت الشمس، وبزغ القمر وغيرهما: إِذا طلعَت. "النهاية".
(7) أي: قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابّته: أي: وقَفَت =

(1/350)


الشمس، وحين تضَيَّف (1) الشمس للغروب حتى تغرب" (2).
أمّا الصلاة بعد العصر؛ فقد ذكر بعض العلماء جوازها قبل اصفرار الشمس؛ لحديث عليّ -رضي الله عنه-: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصَّلاة بعد العصر إلاَّ والشمس مرتفعة" (3).
وعن المقدام بن شريح عن أبيه قال: "سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر؛ فقالت: صلِّ، إِنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قومك أهل اليمن عن الصلاة إِذا طلعت الشمس" (4).
__________
= والمعنى: أنَّ الشمس إذا بَلَغَت وسط السماء أبطأت حركة الظلّ إِلى أن تزول، فيحسب النّاظر المتأمل أنها قد وقفت وهي سائرة؛ لكن سيراً لا يظهر له أثر سريع؛ كما يظهر قبل الزوال وبعده، فيُقال لذلك الوقوف المشاهد: قامَ قائم الظهيرة. "النهاية".
ويستثنى من ذلك التطوّع يوم الجمعة، كما سيأتي إِن شاء الله تعالى، وقال شيخنا في "تمام المنة" (ص143): "وفيه أحاديث كثيرة؛ تراجع في "زاد المعاد" و"إِعلام أهل العصر بحُكم ركعتي الفجر" للعظيم آبادي وغيرهما".
قال النووي: حال استواء الشمس، ومعناه: حين لا يبقى للقائم فى الظهيرة ظلٌّ في المشرق ولا في المغرب.
(1) أي: تميل، يُقال: ضاف عنه يضيف. وانظر "النهاية".
(2) أخرجه مسلم: 831، وغيره.
(3) أخرجه أبو داود والنسائي وأبو يعلى في "مسنده" وغيرهم، وهو حديث صحيح خرَّجه شيخنا في "الصحيحة" (200).
(4) قال شيخنا -شفاه الله- في "الضعيفة" تحت الحديث (945): "وسنده صحيح على شرط مسلم".

(1/351)


قال شيخنا في "الصحيحة" (1/ 342) بعد حديث "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس": "فهذا مطلق، يقيّده حديث عليّ -رضي الله عنه- وإلى هذا أشار ابن حزم -رحمه الله- بقوله المتقدِّم: "وهذه زيادة عدْل لا يجوز ترْكها".
ثمَّ قال البيهقي: "وقد رُوي عن علي -رضي الله عنه- ما يخالف هذا. وروي ما يوافقه".
ثمَّ ساق هو والضياء في "المختارة" (1/ 185) من طريق سفيان قال: أخبَرني أبو إِسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي ركعتين في دبر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ، إلاَّ الفجر والعصر".
قلتُ -أي: شيخنا حفظه الله تعالى-: "وهذا لا يخالف الحديث الأوّل إِطلاقاً، لأنَّه إنما ينفي أن يكون النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى ركعتين بعد صلاة العصر، والحديث الأوّل لا يُثبِت ذلك حتى يُعارَض بهذا، وغاية ما فيه أنَّه يدلّ على جواز الصَّلاة بعد العصر إِلى ما قبل اصفرار الشمس، وليس يلزم أن يفعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أثبت جوازه بالدليل الشرعي كما هو ظاهر.
نعم، قد ثبَت عن أمّ سلمة وعائشة -رضي الله عنهما- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى ركعتين سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر، وقالت عائشة: إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم عليها بعد ذلك، فهذا يُعارض حديث عليّ الثاني، والجمع بينهما سهْل، فكلٌّ حَدَّث بما عَلِم، ومن عَلِم حُجَّةٌ على من لم يعلم، ويظهر أنَّ علياً -رضي الله عنه- عَلِم فيما بعد من بعض الصحابة ما نفاه في هذا الحديث،

(1/352)


فقد ثبَت عنه صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر، وذلك قول البيهقي: "وأمّا الذي يوافقه ففيما أخبَرنا ... " ثمَّ ساق من طريق شعبة عن أبي إِسحاق عن عاصم بن ضمرة قال: "كُنّا مع عليّ -رضي الله عنه- في سفر فصلَّى بنا العصر ركعتين، ثمَّ دخل فسطاطه (1) وأنا أنظر، فصلّى ركعتين".
ففي هذا أنَّ عليّاً -رضي الله عنه- عَمِل بما دلّ عليه حديثه الأوّل من الجواز.
وروى ابن حزم (3/ 4) عن بلال مُؤذِّن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لم ينه عن الصلاة إلاَّ عند غروب الشمس".
قلت: وإِسناده صحيح، وهو شاهد قويّ لحديث عليّ -رضي الله عنه- وأمّا الركعتان بعد العصر، فقد روى ابن حزم القول بمشروعيّتهما عن جماعةٍ من الصحابة، فمن شاء فليرجع إِليه.
وما دلَّ عليه الحديث من جواز الصلاة ولو نفلاً بعد صلاة العصر وقبل إصفرار الشمس، هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في هذه المسألة التي كثُرت الأقوال فيها، وهو الذي ذهب إِليه ابن حزم تبعاً لابن عمر -رضي الله عنهما- كما ذكره الحافط العراقي وغيره، فلا تكن ممّن تغرّه الكثرة، إذا كانت على خلاف السُنَّة.
ثمَّ وجَدْتُ للحديث طريقاً أخرى عن عليّ -رضي الله عنه- بلفظ: "لا تصلُّوا بعد العصر، إلاَّ أن تُصلّوا والشمس مرتفعة". أخرجه الإمام أحمد (1/ 130): حدثنا إِسحاق بن يوسف: أخبرنا سفيان عن أبي إِسحاق عن
__________
(1) الفُسطاط: -بالضم والكسر- المدينة التي فيها مجتمع الناس. "النهاية".

(1/353)


عاصم عن عليّ -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: فذكره.
قلت: وهذا سند جيّد، ورجاله كلّهم ثقات رجال الشيخين غير عاصم وهو ابن ضمرة السلولي وهو صدوق. كما في "التقريب".
قلت: فهذه الطريق مما يُعطي الحديث قوّة على قوّة، لا سيما وهي من طريق عاصم الذي روى عن عليّ أيضاً أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلّي بعد العصر، فادّعى البيهقي من أجل هذه الرواية إِعلال الحديث، وأجَبْنا عن ذلك بما تقدّم، ثمَّ تأكَّدْنا من صحة الجواب حين وقَفْنا على الحديث من طريق عاصم أيضاً. فالحمد لله على توفيقه" اهـ.
ثمَّ وجدت لابن المنذر في "الأوسط" (2/ 388 - 391) كلاماً مفيداً في ذلك.
قال -رحمه الله- (ص 388): "قد ثبتت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنهيه عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، فكان الذي يوجبه ظاهر هذه الأحاديث عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوقوف عن جميع الصلوات بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، فدّلت الأخبار الثابتة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنَّ النهي إِنّما وقع في ذلك على وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، فممّا دلّ على ذلك حديث عليّ بن أبي طالب، وابن عمر، وعائشة -رضي الله عنهم-، وهي أحاديث ثابتة بأسانيد جياد، لا مطعن لأحد من أهل العلم فيها. ثمَّ ساقها بأسانيده.
ثمَّ قال (ص390): (ذِكر الأخبار الدالة على إِباحة صلاة التطوّع بعد

(1/354)


صلاة العصر) ثمَّ ذكر حديث أم سلمة قالت: "دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر فصلّى ركعتين فقلت: يا رسول الله إِن هذه صلاة ما كنت تصليها؟ قال: قدم وفد بني تميم فحبسوني عن ركعتين كنت أركعهما بعد صلاة الظهر" (1).
وقال بعد ذلك: "قد ثبت أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بعد العصر صلاة كان يصليها بعد الظهر شغل عنها وهي صلاة تطوع، فإِذا جاز أن يتطوع بعد العصر بركعتين جاز أن يتطوع المرء ما شاء من التطوع إِذا اتقى الأوقات التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التطوع فيها، مع أنا قد روينا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإِسناد ثابت لا أعلم لأحد من أهل العلم فيه مقالاً، أنّه كان يصلي بعد العصر ركعتين".
وذكر تحته عدداً من الأحاديث منها: حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "والله ما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين عندي بعد العصر قط" (2).
وحديث الأسود بن يزيد ومسروق يقولان: "نشهد على عائشة أنها قالت: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندي في يومي إلاَّ صلاها، تعني ركعتين بعد العصر" (3).
__________
(1) أخرجه أحمد في "المسند" (10/ 179) برقم (26577)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (563، 564) ونحوه في "صحيح البخاري" (1233)، و"صحيح مسلم" (834).
(2) أخرجه البخاري: 591، ومسلم: 835
(3) أخرجه البخاري: 593، ومسلم: 835

(1/355)


التطوّع حين الإِقامة
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاَّ المكتوبة" (1).
وعن ابن بُحينة -رضي الله عنه- قال: أقيمت صلاة الصبحِ فرأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلّي والمؤذن يُقيم، فقال: "أتُصلِّي الصبح أربعاً" (2).
وعن عبد الله بن سَرجِس قال: "دخل رجلٌ المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الغداة فصلّى ركعتين في جانب المسجد، ثمَّ دخل مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا سلَّمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا فلان! بأيِّ الصلاتين اعتددتَ؟ أبصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا؟ " (3).
ولا يعني هذا أن يقطع كل مصلٍّ صلاته حين يسمع الإِقامة، إِذ الأمر يختلف من إِمام إِلى إِمام، ومن مُصلٍّ إِلى مُصلٍّ، فربّما كان المصلّي في حالٍ يُرجّح فيها أنه يُدرك التكبيرة الأولى لصلاة الفريضة، أو كان آخر في وسط الصلاة، وقد عَهِد من إمامه الانتظار لتسوية الصفوف وسدّ الفُرج، فيتسنّى له استكمال صلاته مع استعجال غير مُخلٍّ، فهذا وذاك لا يقطعان الصلاة، أمَّا إِذا رجّح المصلّي فوات تكبيرة الإِحرام لأنَّه في بداية صلاته، أو لاستعجال إمامه بالتكبير دون تسوية الصفوف؛ فعليه أن يُبادر بالفريضة ويدَع ما سواها. سمعتُه من شيخنا -حفظه الله-.
__________
(1) أخرجه أحمد ومسلم: 710، وأصحاب السنن.
(2) أخرجه البخاري: 663، ومسلم: 711، وهذا لفظه.
(3) أخرجه مسلم: 712

(1/356)


صلاة ما له سبب وقت الكراهة
ذهب بعض أهل العلم إِلى جواز صلاة ما له سبب؛ كتحيّة المسجد وسُنّة الوضوء بعد الصبح وعند اصفرار الشمس، واستدلُّوا بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنَّة الظهر بعد صلاة العصر، وغير ذلك من النصوص. وجاء في "الفتاوى" (23/ 178) باختصارٍ وتصرُّف: "في أوقات النهي، والنزاع في ذوات الأسباب، وغيرها. فإِن للناس في هذا الباب اضطراباً كثيراً.
فنقول: قد ثبت بالنص والإِجماع أنّ النهي ليس عاماً لجميع الصلوات، فإِنّه قد ثبت في "الصحيحين" عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك -وفي لفظ- فيتم صلاته -وفي لفظ- سجدة".
وكلها صحيحة وكذلك قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك -وفي لفظ-: فليتم صلاته -وفي لفظ-: سجدة" (1).
وفي هذا أمره بالركعة الثانية من الفجر عند طلوع الشمس. وفيه أنه إِذا صلى ركعة من العصر عند غروب الشمس صحت تلك الركعة، وهو مأمور بأن يَصل إِليها أخرى.
وقد ثبت أن أبا بكر الصديق قرأ في الفجر بسورة البقرة. فلمّا سلّم، قيل له: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
فهذا خطاب الصديق للصحابة يبين أنها لو طلعت لم يضرهم ذلك، ولم تجدهم غافلين، بل وجدتهم ذاكرين الله.
وفي حديث جبير مرفوعاً: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا
__________
(1) انظر "الإِرواء" (252) و (253).

(1/357)


البيت وصلّى أية ساعة من ليل أو نهار" (1).
فهذا العموم لم يخص منه صورة لا بنص ولا إِجماع، وحديث النهي مخصوص بالنص والإِجماع، والعموم المحفوظ راجح على العموم المخصوص. والبيت ما زال الناس يطوفون به، ويصلون عنده مِن حين بناه إِبراهيم الخليل، وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه قبل الهجرة يطوفون به، ويصلون عنده، وكذلك لما فتحت مكة كثر طواف المسلمين به، وصلاتهم عنده. ولو كانت ركعتا الطواف منهياً عنها في الأوقات الخمسة لكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن ذلك نهياً عاماً، لحاجة المسلمين إِلى ذلك، ولكان ذلك ينقل، ولم ينقل مسلم أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك، مع أن الطواف طرفي النهار أكثر وأسهل.
وفي النهي تعطيلٌ لمصالح ذلك الطواف والصلاة. وذوات الأسباب إِنما دعا إِليها داع؛ لم تفعل لأجل الوقت؛ بخلاف التطوع المطلق الذي لا سبب له، وحينئذ فمفسدة النهي إِنما تنشأ ممّا لا سبب له دون ما له السبب، ولهذا قال في حديث ابن عمر: "لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها" (2). وانظر الكتاب المذكور للمزيد من الفوائد.
__________
(1) أخرجه الترمذي والنسائي والدارمي وغيرهم، وخرجه شيخنا في "الإِرواء" (481).
(2) أخرجه البخاري: 582، ومسلم: 828

(1/358)