الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

صلاة الجماعة
حُكمها:
صلاة الجماعة واجبة على الأعيان على كلِّ مُصلٍّ، إلاَّ من عُذر، ودليل ذلك:
1 - قوله تعالى: {وإِذا كُنتَ فيهم فأقمْتَ لهم الصلاة فلتقُم طائفةٌ منهم معك} (1).
وفيه دليلان:
أحدهما: أنَّه أمَرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وهو يدلّ بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن.
الثاني: أنَّه سنّ صلاة الخوف جماعة، وسوَّغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإِنَّه لا يجوز لغير عُذر بالاتفاق، وكذلك مفارقة الإِمام قبل السلام عند الجمهور، وكذلك التخلف عن متابعة الإِمام، كما يتأخّر الصف المؤخّر بعد ركوعه مع الإِمام، إذا كان العدوّ أمامهم.
قالوا: وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فُعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبّة؛ لكان قد التزم فعل محظور مبطلٍ للصلاة، وتُركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فِعْل مستحبّ، مع أنَّه قد كان من الممكن أن يصلّوا وِحدانا صلاة تامّة فعُلم أنها واجبة (2).
__________
(1) النساء: 102
(2) قاله شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (23/ 227).

(2/200)


2 - وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واركعوا مع الراكعين} (1).
قال ابن كثير في "تفسيره": وقد استدلّ كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة.
قال القرطبي في "تفسيره" -بحذف-: "قوله تعالى: {مع الراكعين} مع: تقتضي المعيّة والجمعيّة، ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إِنَّ الأمر بالصلاة أوّلاً؛ لم يقتضِ شهود الجماعة، فأمَرهم بقوله: "مع" شهود الجماعة.
وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين: فالذي عليه الجمهور أنَّ ذلك من السُّنن المؤكدة. وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضاً على الكفاية.
وقال داود: الصلاة في الجماعة فرضٌ على كلّ أحد في خاصّته كالجمعة، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثور وغيرهم.
وقال الشافعي: "لا أرخّص لمن قدر على الجماعة؛ في ترْك إِتيانها إلاَّ مِن عُذر حكاه ابن المنذر ... ".
ثمَّ ذكر العديد من الأدلة وقال: "هذا ما احتَجّ به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضاً، وهي ظاهرة في الوجوب ... ".
3 - وما جاء في "صحيح مسلم" (653) تحت (باب يجب إِتيان المسجد على من سمع النداء) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
__________
(1) البقرة: 43

(2/201)


"أتى النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله! إِنَّه ليس لي قائد يقودُني إِلى المسجد، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُرخِّص له فيصلّي في بيته، فرخَّص له، فلمّا ولَّى دعاه فقال: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ " فقال: نعم. قال: فأجِب".
4 - وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من سمع النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلاَّ من عُذر" (1).
5 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيُحطب، ثمَّ آمرُ بالصلاة فيؤذَّنُ لها، ثمَّ آمرُ رجلا فيؤمَّ الناس، ثمَّ أُخالفُ إِلى رجالٍ فأحرِّقُ عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنَّه يجد عَِرَقاً (2) سميناً أو مِرماتين (3) حسنتين
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (645) والطبراني في "المعجم الكبير" وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (2/ 337).
(2) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 129): عَرْقاً: بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف؛ قال الخليل: العراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عرق، وفي المحكم عن الأصمعي: العرْق بسكون الراء قطعة لحم.
وقال الأزهري: العرق واحد العراق، وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق؛ فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق، ... ، يقال عرقت اللحم واعترقته وتعرقته إِذا أخذت اللحم منه نهشاً.
وفي المحكم: جمع العرق على عُراق بالضم عزيز، وقول الأصمعي هو اللائق هنا. وقال (ص 130): "وإِنّما وَصف العرق بالسِّمَن والمرماة بالحسن ليكون ثمَّ باعث نفساني على تحصيلهما. وفيه الإِشارة إِلى ذمّ المتخلّفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة".
(3) بكسر الميم وحُكي بالفتح، ما بين ظلفي الشاة.

(2/202)


لشهد العشاء" (1).
6 - وعن عبد الله بن مسعود قال: "من سرَّه أن يلقى الله غداً مُسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهنَّ، فإِنَّ الله شرع لنبيِّكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنن الهدى (2)، وإِنَّهنَّ من سنن الهدى ولو أنّكم صليتم في بيوتكم؛ كما يصلّي هذا المتخلِّف في بيته لتركْتم سُنّة نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّة نبيِّكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهَّر فيحسن الطُّهور، ثمَّ يعمد إِلى مسجد من هذه المساجد، إلاَّ كتَب الله له بكل خطوة يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجةً، ويحطّ عنه بها سيِّئةً، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلاَّ منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقامَ في الصَّفِّ" (3).
قال القرطبي -رحمه الله تعالى- عقب هذا الحديث: "فبيَّن -رضي الله عنه- في حديثه أنَّ الإِجماع سُنَّة من سُنن الهدى وترْكه ضلال، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض: اختُلف في التمالؤ على ترْك ظاهر السُّنن؛ هل يقاتَل عليها أو لا؛ والصحيح قتالهم؛ لأنَّ في التمالؤ عليها إِماتتها" انتهى.
7 - وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "ما من ثلاثةٍ في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إِلا قد استحوذَ (4) عليهم
__________
(1) أخرجه البخاري: 644، ومسلم: 651
(2) بضم السين وفتحها وهما بمعنى متقارب، أي: طرائق الهدى والصواب، قاله بعض العلماء.
(3) أخرجه مسلم: 654
(4) استحوذ: أي استولى عليهم وحواهم إِليه. "النهاية".

(2/203)


الشيطان، فعليكم بالجماعة؛ فإِنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية" (1).
قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 275): " ... فهو من الأدلّة على وجوبها، إِذ أنَّ مَن تَرَك سنّة، بل السّنن كلّها -مع المحافظة على الواجبات- لا يُقال فيه: "استحوذ عليه الشيطان ... ".
8 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كانوا ثلاثة، فليؤمّهم أحدهم، وأحقّهم بالإِمامة أقرؤهم" (2).
ففي كلمة (فليؤمّهم) لام الأمر، والأمر يفيد الوجوب إلاَّ لقرينة تصرفه، والقرائن مؤكّدة؛ لا صارفة.
9 - وجاء في صحيح البخاري: (باب وجوب صلاة الجماعة) ثمَّ قال: وقال الحسن: إِنْ منَعته أمّه عن العشاء في الجماعة شفقةً لم يُطعها.
قال الحافظ (2/ 125): "هكذا بتَّ الحُكم في هذه المسألة، وكأنَّ ذلك لقوة دليلها عنده ... ".
وقال -رحمه الله-: "وقد وجدْته بمعناه وأتمّ منه وأصرح؛ في كتاب "الصيام" للحسن بن الحسن المروزي بإِسناد صحيح عن الحسن في رجل يصوم -يعني تطوّعاً- فتأمره أمّه أن يفطر، قال: فليفطر ولا قضاء عليه، وله
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (511)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (817)، وغيرهم، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (422)، و"رياض الصالحين" (1077) بتحقيق شيخنا -حفظه الله تعالى-.
(2) أخرجه مسلم: 672

(2/204)


أجر الصوم وأجر البرّ. قيل: فتنهاه أن يصلّيَ العشاء في جماعة، قال: ليس
ذلك لها، هذه فريضة".
وقد استدلّ بعض العلماء على عدم وجوب الصلاة، ببعض الأحاديث التي تفيد صحة صلاة المنفرد (1) وأنَّ له درجة واحدة [و] هذا لا يُنافي الوجوب الذي من طبيعته أن يكون أجره مضاعفاً على أجر ما ليس بواجب؛ كما هو واضح. أفاده شيخنا في "تمام المنّة" (ص 277).
فائدة: ينبغي الحرص على الجماعة حيث كانت في المسجد أو غيره، في السفر أو الحضر.
جاء في "الأوسط" (4/ 138): "قال الشافعي: ذكر الله الأذان بالصلاة فقال: {وإِذا ناديتم إِلى الصلاة ... } (2) الآية، وقال: {إِذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إِلى ذكر الله ... } الآية (3)، وسنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان للصلوات المكتوبات، فأشبه ما وصفْتُ أن لا يحلّ ترك أن يصلّي كلّ مكتوبة في جماعة، حتى لا يخلّي جماعة مقيمون ولا مسافرون من أن يصلّي فيهم صلاة جماعة، فلا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إِتيانها إِلا من عذر".
__________
(1) انظر -إِن شئت- ما أجاب به شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن هذا في "الفتاوى" (23/ 232).
(2) تتمّتها: { ... اتَّخَذوها هُزُواً ولعباً ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون}. [المائدة: 58].
(3) الجمعة: 9

(2/205)


فضلها:
1 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفَذ بسبع وعشرين درجة" (1).
2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّفُ على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنَّه إِذا توضّأ فأحسَن الوضوء، ثمَّ خرج إِلى المسجد لا يُخرجه إلاَّ الصلاة، لم يَخْطُ خُطوة إلاَّ رُفعتْ له بها درجةٌ وحُطَّ عنه بها خطيئةٌ، فإِذا صلّى لم تَزَل الملائكة تُصلّي عليه ما دام في مصلاّه: اللهمّ صَلِّ عليه، اللهمَّ ارحمه، ولا يزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما انتظر الصلاة" (2).
3 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من غدا إلى المسجد وراح أعدّ (3) الله له نزُله (4) من الجنّة كلما غدا أو راح" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 645، ومسلم: 650
(2) أخرجه البخاري: 647
(3) أعدّ: هيأ.
(4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 148): "النّزل بضم النون والزاي المكان الذي يُهيأ للنزول فيه، وبسكون الزاي ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها، فعلى هذا "من" في قوله من الجنّة للتبعيض على الأوّل وللتبيين على الثاني، ورواه مسلم وابن خزيمة وأحمد بلفظ: "نزلا في الجنة" وهو محتمل المعنيين".
(5) أخرجه البخاري: 662، ومسلم: 669، قال الحافظ في "الفتح" (2/ 148): "المراد بالغدو: الذَّهاب وبالرواح: الرجوع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار والرواح بعد الزوال، ثمَّ قد يستعملان في كل ذَهاب ورجوع توسّعاً".

(2/206)


وانظر للمزيد كتاب "صحيح الترغيب والترهيب" (الترغيب في صلاة لجماعة).

حضور النساء الجماعة في المساجد وفضل صلاتهنّ في بيوتهنّ (1)
يجوز للنساء الخروج إِلى المسجد وشهود الجماعة، بشرط اجتناب ما ثير الشهوة، ويدعو إِلى الفتنة من الزينة والطيب.
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تمنعوا نساءَكم المساجد، وبيوتهنّ خيرٌ لهنّ" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تمنعوا إِماء
الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهنّ تَفِلات (3) " (4).
وعنه -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيُّما امرأةٍ أصابت بَخُورا (5)، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" (6).
والأفضل لهنّ الصلاة في بيوتهنّ، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدّم: "وبيوتهنّ خيرٌ لهنّ".
__________
(1) هذا العنوان وما يتضمّنه بتصرف؛ من كتاب "فقه السنّة" للشيخ السيد سابق -حفظه الله تعالى-.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (530) وغيره وانظر "الإِرواء" (515).
(3) تَفلات: أي تاركات للطيب. "النهاية".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (529) وغيره وانظر "الإِرواء" (515).
(5) أصابت بَخوراً: أي ريحه.
(6) أخرجه مسلم: 444، وغيره.

(2/207)


ولحديث أمّ حميد امرأة أبي حميد الساعدي -رضي الله عنهما-: "أنّها جاءت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله! إِنّي أُحبُّ الصلاة معك؟ قال: قد علمتُ أنّكِ تُحبّين الصلاة معي، وصلاتك في بيتكِ (1) خيرٌ من صلاتكِ في حُجرتِك (2)، وصلاتكِ في حُجرتكِ خير من صلاتكِ في داركِ، وصلاتك في داركِ خيرٌ من صلاتكِ في مسجد قومكِ، وصلاتكِ في مسجد قومكِ خيرٌ من صلاتكِ في مسجدي. قال فأَمَرَتْ فبُني لها مسجدٌ في أقصى شيء من بيتها وأظلمِه، وكانت تصلّي فيه، حتى لقيَت الله عزّ وجلّ" (3).
وعن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة المرأة في بيتها؛ أفضل من صلاتها في حُجرتها، وصلاتها في مخدعها (4)؛ أفضل من صلاتها في بيتها" (5).
وانظر للمزيد إن شئت في "صحيح الترغيب والترهيب" (ترغيب النساء في الصلاة في بيوتهنّ ولزومها، وترهيبهنّ من الخروج منها).
__________
(1) في بيتك: الموضع المهيأ للنوم. "فيض".
(2) كل محلّ حُجر عليه بالحجارة. "فيض"، وفي "الوسيط": الغرفة في أسفل البيت، وفي "عون المعبود": أي صحن الدار، قال ابن الملك: أراد بالحجرة ما تكون أبواب البيوت إِليها، وهي أدنى حالاً من البيت.
(3) أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (335).
(4) مخدعها: الميم ثلاثية وهي خزانتها التي في أقصى بيتها. "فيض".
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (533)، وصححه الحاكم والذهبي، وانظر "المشكاة" (1063)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (340).

(2/208)


الترغيب في المشي إِلى المسجد الأبعد والأكثر جمعاً
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إِسباغ الوضوء على المكاره. وكثرة الخُطا إِلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط (1) " (2).
وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إِذا تطهَّر الرجل ثمَّ أتى المسجد يَرعى الصلاة، كتب له كاتباه أو كاتبه بكلِّ خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسناتٍ، والقاعدُ يرعى الصلاة كالقانت، ويُكتبُ من المصلّين، من حين يَخرُجُ من بيته حتى يرجع إِليه" (3).
وعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
__________
(1) الرّباط في الأصل: الإِقامة على جهاد العدّو بالحرب، وارتباط الخيل وإعدادها، فشبَّه به ما ذُكر من الأفعال الصالحة والعبادة. قال القُتَيبي: أصل المُرابطة أن يربط الفريقان خيولهم في ثغر، كلٌّ منهما مُعدٌّ لصاحبه فسمّى المُقام في الثغور رباطاً. ومنه قوله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: "فذلكم الرباط" أي أنَّ المواظبة على الطهارة والصلاة والعبادة، كالجهاد في سبيل الله، فيكون الرِّباط مصدر رَابَطت: أي لازَمت. وقيل الرِّباط هاهنا اسم لِما يُربَط به الشيء: أي يُشدّ، يعني أن هذه الخلال تربط صاحبها عن المعاصي وتكُفّه عن المحارم. "النهاية".
(2) أخرجه مسلم: 251
(3) أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وبعض طرقه صحيح، وابن خزيمة في "صحيحه" وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" مفرّقاً في موضعين، عن "صحيح الترغيب والترهيب" (294).

(2/209)


"لِيُبَشّرِ المشّاؤون في الظُلَّم إِلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة" (1).
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من خرج من بيته متطهراً إِلى صلاة مكتوبةٍ؛ فأجْره كأجر الحاج المحْرم، ومن خرج إِلى تسبيح الضحى (2) لا يُنْصبه (3) إلاَّ إِياه، فأجره كأجر المعتمر، وصلاةٌ على إِثر (4) صلاةٍ، لا لغوَ بينهما كتاب في عليين" (5).
وانظر للمزيد -إِن شئت- "كتاب صحيح الترغيب والترهيب" (باب الترغيب في المشي إِلى المساجد ... ).

استحباب تخفيف الإِمام:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا صلى أحدكم للنّاس فليخفّف، فإِنَّ منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلّى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء" (6).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في "صحيحه" واللفظ له والحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين". وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (314).
(2) أي: صلاة الضحى.
(3) بضمّ الياء من الإِنصاب وهو الإِتعاب، ويروى بفتح الياء [يَنصبه]: من نصبَه أي: أقامه. "عون المعبود" (2/ 185)، وتقدّم.
(4) بكسر الهمزة ثمَّ السكون، أو بفتحتين، أي: عقيبها.
(5) أخرجه أبو داود من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (315)، وتقدّم.
(6) أخرجه البخاري: 703، ومسلم: 467

(2/210)


وعن أبي مسعود -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا أيها النّاس إِنَّ منكم منفّرين فمن أمّ النّاس فليتجوّز (1)، فإِنَّ خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة" (2).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّي لأدخُل الصلاة أريد إِطالتها، فأسمع بكاء الصبيّ، فأخفّف مِن شدّة وجْد (3) أمِّه به" (4).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أيضاً قال: "ما صليتُ وراء إِمام قطّ أخفّ صلاة ولا أتمّ من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (5).
وعنه أيضاً: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوجز الصلاة ويُكْمِلها" (6).
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 201): "المراد بالايجاز مع الإِكمال: الإِتيان بأقلّ ما يمكن من الأركان والأبعاض".
وانظر للمزيد -إِن شئت- "صحيح مسلم" "كتاب الصلاة" (باب أمر الأئمّة بتخفيف الصلاة في تمام).
__________
(1) أي: يخفف.
(2) أخرجه البخاري: 704
(3) الوجد: يُطلق على الحزن وعلى الحب أيضاً، وكلاها سائغ هنا، والحُزن أظهر، أي من حُزنها واشتغال قلبها به. قاله النووي.
(4) أخرجه البخاري: 710، ومسلم: 470، وتقدّم.
(5) أخرجه البخاري: 708، ومسلم: 469
(6) أخرجه البخاري: 706

(2/211)


وروى البيهقي في "الشعب" بإِسناد صحيح عن عمر قال: "لا تبغضوا إِلى الله عباده يكون أحدكم إِماماً فيطوّل على القوم الصلاة؛ حتى يبغض إِليهم ما هم فيه" (1).

إِطالة الإِمام الركعة الأولى:
عن أبي قتادة "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطوّل في الركعة الأولى (2) من صلاة الظهر، ويقصر في الثانية، ويفعل ذلك في صلاة الصبح" (3).
وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... ويطوّل في الركعة الأولى؛ ما لا يطوّل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح" (4).
وعنه كذلك قال: "فظنَنّا أنَّه يريد بذلك أن يدرك النّاس الركعة الأولى" (5).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "لقد كانت صلاة الظهر تُقام فيذهب الذاهب إِلى البقيع، فيقضي حاجته [ثمَّ يأتي أهله فيتوضّأ]، ثمَّ
__________
(1) انظر "الفتح" (2/ 195).
(2) قال الحافظ: أي في جميع الصلوات، وهو ظاهر الحديث المذكور في الباب.
قلت: يشير إِلى تبويب البخاري -رحمه الله- بعنوان: باب يطوّل في الركعة الأولى.
(3) أخرجه البخاري: 779، ومسلم: 451
(4) أخرجه البخاري: 776
(5) أخرجه أبو داود بسند صحيح "صحيح سنن أبي داود" (718)، وابن خزيمة، وانظر "صفة الصلاة" (112).

(2/212)


يأتي ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركعة الأولى ممّا يطوّلها (1).

وجوب متابعة الإِمام وتحريم مسابقته:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "إنَّما جُعل الإمام ليؤتمّ به، فلا تختلفوا عليه، فإِذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربّنا لك الحمد، وإِذا سجد فاسجدوا، وإِذا صلى جالساً فصلّوا جلوساً أجمعون، وأقيموا الصفّ في الصلاة، فإِنَّ إقامة الصفّ من حُسن الصلاة" (2).
وعنه -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أمَا (3) يخشى أحدكم -أو لا يخشى أحدُكم- إِذا رفع رأسه قبل الإِمام؛ أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار" (4).
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فلمّا قضى الصلاة؛ أقبل علينا بوجهه فقال: "أيها النّاس! إِنّي إِمامكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف (5) " (6).
__________
(1) أخرجه مسلم: 454، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 722، ومسلم: 417
(3) أما: حرف استفتاح مِثل ألا، وهو هنا استفهام توبيخ، (فتح) (2/ 183)، وفي رواية لمسلم: 427: "ما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته قبل الإمام؛ أن يُحوّل الله صورته في صورة حمار".
(4) أخرجه البخاري: 691، ومسلم: 427
(5) أي: بالسلام.
(6) أخرجه مسلم: 426

(2/213)


وعن البراء بن عازب قال: "كنّا نصلّي خلف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِذا قال: سمع الله لمن حمده؛ لم يحْنِ أحدٌ منّا ظهره؛ حتى يضع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبهته على الأرض" (1).

انعقاد الجماعة بواحد مع الإِمام:
عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "بتُّ عند ميمونة، فقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتى حاجته فغسل وجهه ويديه، ثمَّ نام، ثمَّ قام فأتى القربة فأطلق شناقها (2)؛ ثمَّ توضّأ وضوءاً بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ، فصلّى فقمتُ فتمطّيتُ كراهية أن يرى أنّي كنتُ أتقيه، فتوضّأتُ، فقام يُصلّي فقمتُ عن يساره، فأخذ بأذُني فأدارني عن يمينه" (3).
وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أنَّ رجلاً دخل المسجد، وقد صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يتصدّق على ذا، فيصلّي معه" فقام رجل من القوم فصلّى معه" (4).
وفي رواية عن الحسن بلفظ: " ... أنَّ رجلاً دخل المسجد وقد صلّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال ألا رجل يقوم إِلى هذا فيصلّي معه، فقام أبو بكر فصلّى معه،
__________
(1) أخرجه البخاري: 811، ومسلم: 474
(2) الشناق: هو رباط القربة يشدّ عنقها، فشبّه بما يُشنَق به، وقيل هو ما تُعلَّق به ورجّح أبو عبيد الأوّل. "فتح" (11/ 166).
(3) أخرجه البخاري: 6316، ومسلم: 763
(4) أخرجه أحمد وأبو داود نحوه، وغيرهما وصححه شيخنا في "الإِرواء" (535).

(2/214)


وقد كان صلّى تلك الصلاة" (1).

إِدراك الإِمام:
ينبغي متابعة الإِمام على أيّ حالٍ كان؛ إِذا لم يُدرك معه تكبيرة الإِحرام.
عن عليّ ومعاذ بن جبل قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أتى أحدكم الصلاة والإِمام على حال، فليصنع كما يصنع الإِمام" (2).
وعن ابن مُغفَّل المزني قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وجدتم الإِمام ساجداً فاسجدوا، أو راكعاً فاركعوا، أو قائماً فقوموا، ولا تعتدّوا بالسجود إِذا لم تدركوا الركعة". أخرجه إِسحاق بن منصور المروزي في "مسائل أحمد وإسحاق" (3).
والمسبوق يصنع مِثل ما يصنع الإِمام فيجلس معه التشهد الأخير ولا يقوم حتى يسلّم، ثمَّ يكبّر ويتمّ ما فاته.
__________
(1) قال شيخنا في "الإرواء" (2/ 317): أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وإسناده إِلى الحسن صحيح.
(2) قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده، إلاَّ ما روي من هذا الوجه. والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: إِذا جاء الرجل والإِمام ساجد فليسجد، ولا تجزئه تلك الركعة، إِذا فاته الركوع مع الإمام. واختار عبد الله بن المبارك: أن يسجد مع الإِمام، وذكر عن بعضهم فقال: لعله لا يَرفع رأسه من تلك السجدة حتى يغفر له".
انظر "صحيح سنن الترمذي" (484)، و"المشكاة" (1142).
(3) قال شيخنا: وهذا إِسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، وانظر "الصحيحة" (1188).

(2/215)


من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا جئتم إِلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدّوها شيئاً، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة" (1).
وعن ابن مُغفّل المزني قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وجدتم الإِمام ساجداً فاسجدوا، أو راكعاً فاركعوا، أو قائماً فقوموا، ولا تعتدُّوا بالسجود إِذا لم تدركوا الركعة" (2).
وعن زيد بن وهب قال: "خرجْتُ مع عبد الله من داره إِلى المسجد، فلمّا توسَّطنا المسجد ركَع الإِمام، فكبّر عبد الله ثمَّ ركَع، وركعتُ معه، ثمَّ مشينا راكعين حتى انتهينا إِلى الصفّ حتى رفع القوم رؤوسهم، قال: فلمّا قضى الإِمام الصلاة قمتُ وأنا أرى أنّي لم أدرِك، فأخذ بيدي عبد الله، فأجلَسني وقال: إِنّك قد أدركتَ"، قال شيخنا: وسنده صحيح، وله في الطبراني طرق أخرى (3).
وعن عبد الله بن عمر قال: "إِذا جئتَ والإِمام راكع، فوضعت يديك على ركبتيك قبل أن يرفع؛ فقد أدركت".
قال شيخنا -حفظه الله- أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 94/1) من طريق
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وفي لفظ له: "من أدرك الركوع أدرك الركعة"، وانظر "الإِرواء" (496).
(2) انظر "الصحيحة" (1188).
(3) انظر "الإرواء" (2/ 263).

(2/216)


ابن جريج عن نافع عنه، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي إلاَّ أنَّه قرن مع ابن جريج مالكاً ولفظه: "من أدرك الإِمام راكعاً، فركع قبل أن يرفع الإِمام رأسه، فقد أدرك تلك الركعة".
ثمَّ قال شيخنا -حفظه الله-: "وإِسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" (2/ 279/3361) عن ابن جريج قال أخبَرني به نافع" (1).

أعذار التخلف عن الجماعة:
1 - البرد أو المطر:
عن نافع: "أنَّ ابن عمر أذَّن بالصلاة في ليلةٍ ذاتِ بردٍ وريح ثمَّ قال: ألا صلّوا في الرحال، ثمَّ قال: إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلةٌ ذاتُ بردٍ ومطر يقول: ألا صلُّوا في الرحال (2) " (3).
وعن عبد الله بن الحارث ابن عمِّ محمّد بن سيرين قال: قال ابنُ عبّاس لمؤذّنه في يومٍ مطير: إِذا قلتَ أشهد أنَّ محمداً رسول الله فلا تقُل: حيَّ على الصلاة، قل: صلّوا في بيوتكم فكأنَّ النّاس استنكروا، قال: فعَله من هو خيرٌ منّي، إِنَّ الجُمعة عَزمةٌ (4)، وإنِّي كرهتُ أن أحرجكم فتمشون في الطين
__________
(1) انظر "الإِرواء" (2/ 263). التحقيق الثاني.
(2) الرحال: يعني الدور والمساكن والمنازل، وهي جمْع رَحْل، يُقال لمنزل الإنسان ومسكنه رحله، وانتهينا إِلى رحالنا: أي: منازلنا، "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 666، ومسلم: 697
(4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 384): "استشكله الإسماعيلي فقال: لا إِخاله صحيحاً، فإِنَّ أكثر الرويات بلفظ: "أنَّها عزمة" أي: كلمة المؤذن وهي: "حي على =

(2/217)


والدَّحْض (1) " (2)

2 - العلّة:
عن محمود بن الربيع الأنصاري: "أنَّ عتبان بن مالك كان يؤمّ قومه وهو أعمى، وأنَّه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، إِنَّها تكون الضلمة والسّيل، وأنا رجلٌ ضرير البصر، فصلِّ يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مُصلّى، فجاءه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أين تحبُّ أنْ أصلّي؟ فأشار إِلى مكان من البيت، فصلّى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
وذكَره الإِمام البخاري في "كتاب الأذان" تحت (باب الرخصة في المطر والعلّة أن يصلّي في رَحله).

3 - حضور الطعام الذي يريد أكْله في الحال (4):
عن عائشة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال: "إِذا وُضع العَشاء وأُقيمت الصلاة
__________
= الصلاة" لأنَّها دعاء إِلى الصلاة تقتضي لسامعه الإِجابة، ولو كان معنى الجمعة عزمة لكانت العزيمة لا تزول بترك بقية الأذان انتهى. والذي يظهر أنَّه لم يترك بقية الأذان، وإنَّما أبدل قوله: "حي على الصلاة" بقوله: "صلّوا في بيوتكم"، والمراد بقوله: "إِن الجمعة عزمة" أى فلو تركْت المؤذّن يقول: "حي على الصلاة" لبادر من سمعه إِلى المجيء في المطر فيشقّ عليهم فأمرته أن يقول: "صلوا في بيوتكم لتعلموا أنَّ المطر من الأعذار التي تُصيّر العزيمة رخصة".
(1) الدَّحْض: الزلق.
(2) أخرجه البخاري: 901
(3) أخرجه البخاري: 667
(4) اقتباساً ممّا جاء في تبويب "صحيح مسلم".

(2/218)


فابدأوا بالعَشاء" (1).
وعن أنس بن مالك أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قُدِّم العَشاء فابدأوا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغرب، ولا تعجَلوا عن عَشائكم" (2).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وُضع عَشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعَشاء، ولا يعجل حتى يفرُغ منه" (3).
"وكان ابن عمر يوضَع له الطعام وتقام الصلاة، فلا يأتيها حض يفرُغ، وإِنَّه ليسمع قراءة الإِمام" (4).
وعن ابن عمر قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضيَ حاجته منه، وإِنْ أقيمت الصلاة" (5).
وعن أبي الدرداء قال: "من فقه المرء؛ إِقباله على حاجته حتى يُقبِل على صلاته وقلبه فارغ" (6).

4 - مدافعة الأخبثين:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة
__________
(1) أخرجه البخاري: 671، ومسلم: 558
(2) أخرجه البخاري: 672، ومسلم: 557
(3) أخرجه البخاري: 673، ومسلم: 559
(4) أخرجه البخاري: 673
(5) أخرجه البخاري: 674
(6) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به ووصله ابن المبارك في "الزهد" وانظر "مختصر صحيح البخاري" (1/ 172) لشيخنا -حفظه الله تعالى-.

(2/219)


بحضرة الطعام، ولا هو يدافِعُه الأخبثان (1) " (2).

من هو الأحقّ بالإِمامة:
عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يؤمُّ القوم أقرؤهم (3) لكتاب الله فإِنْ كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم بالسنّة، فإِنْ كانوا في السنّة سواءً، فأقدمهم هجرة، فإِنْ كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمهم سِلْماً (4)، ولا يَؤُمَّنَّ الرجل الرّجل في سلطانه، ولا يقعدْ في بيته على تَكرِمَته (5) إلاَّ بإِذنه"
__________
(1) الأخبثان: البول والغائط.
(2) أخرجه مسلم: 560
(3) أقرؤهم: أي: أكثرهم قرآناً وحفظاً وجمعاً له؛ كما في حديث عمرو بن سلمة قال: لمّا كانت وقعة أهل الفتح بادر [بادر: أي: سابق وعجل بذلك.] كلُّ قوم بإِسلامهم، وبدر أبي قومي بإِسلامهم، فلمّا قدم قال: جئتكم والله من عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقّاً، فقال: صلّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلّوا صلاة كذا في حين كذا، فإِذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم، وليؤمّكم أكثركم قرآناً، فنَظروا، فلم يكن أحدٌ أكثر قرآناً منّي، لِما كنتُ أتلَّقى من الرُّكبان [الركبان: جمع راكب: وجمع الراكب: رُكّاب ورُكوب ورُكبان، والراكب في الأصل: هو راكب الإِبل خاصّة، ثمَّ اتُّسع فيه، فأطلق على كلّ من ركب دابّة، ذكره بعض العلماء.]، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابنُ ستّ أو سبع سنين، وكانت عليَّ بُردةٌ كنتُ إِذا سجدتُ تقلصّت [أي ارتفعت وتكشّفت] عنّي، فقالت امرأةٌ من الحي: ألا تُغطّون عنّا إِست قارئكم، فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً، فما فَرِحت بشيء فَرحي بذلك القميص". أخرجه البخاري: 4302
(4) سلماً: أي إِسلاماً.
(5) تكرمته: هو الموضع الخاص لجلوس الرجل، من فراشٍ وسرير؛ ممّا يعدُّ لإكرامه، وهي تفعلة من الكرامة. "النهاية". في رواية لمسلم (673): لا يؤمُّ القوم =

(2/220)


قال الأشجُّ في روايته: مكان سِلماً سِنّاً" (1).
ولفظه كما في "صحيح سنن أبي داود" (546): "وكنتُ غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فانطلق أبي وافداً إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفرٍ من قومه، فعلّمهم الصلاة فقال: "يؤمُّكم أقرؤكم"، وكنتُ أقرأَهم، لما كنت أحفظ، فقدّموني فكنت أؤمّهم وعليّ بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إِذا سجدت تكشَّفت عنّي".
وفي لفظ آخر في "صحيح سنن أبي داود" (548) أيضاً: "فلمّا أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله، من يؤمّنا؟ قال: "أكثركم جمعاً للقرآن" أو "أخذاً للقرآن" قال: فلم يكن أحد من القوم جمَع ما جمْعته".
هذا وقد أفاد هذا الحديث أنَّ صاحب الدار والإِمام الراتب ونحوهما أحقّ بالإِمامة وأولى إلاَّ أن يأذنا، وعن نافع قال: "أقيمت الصلاة في مسجد بطائفة من المدينة، ولابن عمر قريباً من ذلك المسجد أرض يعملها، وإمام ذلك المسجد مولى له، ومسكن المولى وأصحابه ثمّة، قال: فلمّا سمعهم عبد الله جاء ليشهَد معهم الصلاة، فقال له المولى صاحب المسجد: تقدّم فصلِّ، فقال عبد الله: أنت أحقّ أن تصلي في مسجدك مني، فصلّى المولى"، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي (3/ 126) وسنده حسن. انظر "الإِرواء": (522).
__________
= أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءةً، فإِن كانت قراءتهم سواءً فليؤمّهم أقدمهم هجرةً، فإِنْ كانوا في الهجرة سواءً فليؤمّهم أكبرهم سنّاً، ولا تؤُمَّنَّ الرّجل في أهله ولا في سلطانه، ولا تجلس على تكرمته في بيته، إلاَّ أن يأذن لك أو بإِذنه".
(1) أخرجه مسلم: 673

(2/221)


متى تصحّ إِمامتهم (1):
كلّ من صحَّت صلاته لنفسه؛ صحت صلاته لغيره، وهذا ثابتٌ بالاستقراء وفي العناوين الآتية زيادة بيانٍ بإِذن الله تعالى:

إِمامة الصبي:
تصحّ إِمامة الصبيّ المميّز، بل هو الأولى في الإِمامة إِذا كان أقرأ القوم، وقد تقدّم حديث عمرو بن سلِمة وأنَّه كان يؤمّ قومه وهو ابن ست أو سبع سنين.

إِمامة الأعمى:
عن أنس "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف ابن أمّ مكتوم يؤم الناس وهو أعمى" (2).

إِمامة المعذور بالصحيح:
لا بأس بإِمامة المعذور بالصحيح، إِذا توفّرت فيه شروط الأحقّ بالإِمامة.
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المنّة" (ص 285) ردّاً على من يقول بكراهة إِمامة المعذور بصحيح أو عدم صحتها: "لا وجه للكراهة به عدم الصحة إِذا توفرت فيه شروط الأحَقّ بالإِمامة، ولا نرى فرقاً بينه وبين الأعمى الذي لا يمكنه الاحتراز من البول احتراز البصير، والقاعد العاجز عن القيام، وهو ركن، لأنّ كلاًّ منهما قد فعَل ما يستطيع، و {لا يُكلِّف الله نَفْساً
__________
(1) سألت شيخنا -شفاه الله تعالى- "هل أنتم مع من يقول: كلّ من صحّت صلاته لنفسه؛ صحّت صلاته لغيره، مع كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع فقال: نعم".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (555) والبيهقي وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (530).

(2/222)


إلاَّ وُسْعَها} (1). وللإِمام الشوكاني بحث هامّ في صحّة الصلاة وراء المسلم الفاسق، والصبي غير البالغ، وناقص الصلاة والطهارة وغيرهم، فراجِعه في كتابه "السيل الجرّار" (1/ 247 - 255)، فإِنَّه نفيس جداً". انتهى.
قلت: قال الشوكاني في المصدر المذكور آنفاً: وأمّا ناقص الطهارة؛ فلا دليلَ يدلّ على المنع أصلاً، فيصحّ أن يؤمّ المتيمّمُ متوضِّئاً، ومَن ترك غُسل بعض أعضاء وضوئه لعذرٍ بغيره ونحوهما، ولا يحتاج إِلى الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب، فإِنَّ الدليل على المانع كما عرفْت والأصل الصحّة".

إِمامة الجالس بالقادر على القيام وجلوسه معه:
عن أنس بن مالك: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركِب فرساً فصُرع عنه فجُحش (2) شقه الأيمن فصلّى صلاةً من الصلوات وهو قاعد فصلّينا وراءه قعوداً، فلمّا انصرف قال: إِنَّما جُعل الإِمام ليؤتمَّ به، فإِذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً، فإِذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإِذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربَّنا ولك الحمد، وإذا صلّى قائماً فصلّوا قياماً، وإذا صلّى جالساً فصلُّوا جُلُوساً أجمعون" (3) " (4).
__________
(1) البقرة: 286
(2) فجُحش: أي: انخدش جلده وانقشر.
(3) أخرجه البخاري: 689، ومسلم: 412
(4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 180) -بتصرف-: "كذا في جميع الطرق في "الصحيحين" بالواو إلاَّ أنَّ الرواة اختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة، فقال بعضهم: =

(2/223)


إِمامة المتنفّل بالمفترض:
عن جابر بن عبد الله: "أنَّ معاذ بن جبل كان يصلّي مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمَّ يرجع فيؤم قومه" (1).
فكانت صلاته مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فريضة، وصلاته بقومه تطوّعاً وتنفّلاً، ولهم فريضة.

إِمامة المفترض بالمتنفّل:
وعن محجن بن الأذرع قال: "أتيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فحضرت الصلاة فصلّى، فقال لي: ألا صليتَ؟ قال: قلت: يا رسول الله قد صليت في الرحل، ثمَّ أتيتك، قال: فإِذا فعلْتَ، فصلِّ معهم واجعلها نافلة" (2).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجُلاً يُصلي وحده فقال: "ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلِّي معه" (3).
وعن يزيد بن الأسود: "أنَّه صلّى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو غلام شابٌّ، فلمّا صلّى إِذا رجلان لم يصلّيا في ناحية المسجد، فدعا بهما فجيء بهما ترعد
__________
= أجمعين -بالياء- والأول: (أجمعون) تأكيد لضمير الفاعل في قوله صلّوا، والثاني: (أجمعين): نصب على الحال أي: جلوساً مجتمعين ... ".
(1) أخرجه البخاري: 700، ومسلم: 465
(2) أخرجه أحمد وغيره وصححه شيخنا بشواهد تقوّيه كما في "الإِرواء" (534).
(3) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (537) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (535).

(2/224)


فرائصهما (1) فقال: ما منعكما أن تصليّا معنا؟ قالا: قد صلّينا في رحالنا، فقال: لا تفعلوا، إِذا صلّى أحدكم في رَحله ثمَّ أدرك الإِمام ولم يُصلِّ فليصلِّ معه، فإِنَّها له نافلة" (2).

إِمامة المتوضّئ بالمتيمّم والمتيمّم بالمتوضّئ:
يُقدّم الأقرأ لكتاب الله تعالى في الإِمامة سواءٌ أكان متيمّماً أو متوضئاً لعموم النصّ المتقدّم: "يؤمّ القوم اقرؤهم لكتاب الله ... ". وكذا المقيم بالمسافر والمسافر بالمقيم ... الخ.
وقد أمّ عمرو بن العاص أصحابه -رضي الله عنهم- وهو جنُب، وكان قد احتلم وأشفق على نفسه أن يهلك إِذا اغتسل، فعنه قال: "احتلمْتُ في ليلة باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقْتُ إِن اغتسلت أن أهْلِكَ، فتيمّمت، ثمَّ صلّيت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنبٌ؟ فأخبرتُه بالذي منَعني من الاغتسال، وقلت: إِني سمعْت الله يقول: {ولا تَقْتُلوا أنْفُسَكُم إِنَّ الله كان بِكُم رحيماً} (3)، فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقُل شيئاً" (4).
__________
(1) الفرائص: جمع فريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها أي: ترجف من الخوف. "النهاية". وسبب ارتعاد فرائصهما؛ ما اجتمع في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الهيبة العظيمة والحرمة الجسيمة؛ لكلّ من رآه مع كثرة تواضعه. "عون" (2/ 199).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (538) وغيره، وانظر "الإِرواء" (534).
(3) النساء: 29
(4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (323) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (154)، وأخرجه البخاري معلَّقاً.

(2/225)


إِمامة المسافر بالمقيم:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صلّى عمر بأهل مكة الظهر، فسلّم في ركعتين، ثمَّ قال: أتمّوا صلاتكم يا أهل مكة فإِنا قوم سَفْر" (1).

إِذا اقتدى المسافر بالمقيم أتمّ:
عن موسى بن سلمة الهُذليّ قال: "سألتُ ابن عباس كيف أصلّي إِذا كنتُ بمكة، إِذا لم أصلِّ مع الإِمام؟ فقال: ركعتين سنّة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
قال شيخنا في "الإِرواء" (3/ 22): "وروى البيهقي بسند صحيح عن أبي مجلز قال: قلتُ لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم - يعني المقيمين- أتجزيه الركعتان أو يصلّي بصلاتهم؟ قال: فضحك وقال: يصلّي بصلاتهم".
وسئل ابن عبّاس: "ما بال المسافر يصلّي ركعتين حال الانفراد وأربعاً إِذا ائتمّ بمقيم، فقال: تلك السنّة". صححه شيخنا في "الإِرواء" (571).
__________
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" وعبد الرزاق في "مصنفه" (4369) وغيرهما، وقال لي شيخنا -شفاه الله تعالى وعافاه-: هذا في حُكم المرفوع؛ لأنّ عمر -رضي الله عنه- فعَل ذلك في عدد كبير من الصحابة، ولا سيّما أنّه رُوي مرفوعاً وفيه ضعف.
ثمَّ قال شيخنا -شفاه الله تعالى- "فعلى الإِمام أن يُسلم عن يمينه سرّاً ويسمعهم قوله: "أتمّوا صلاتكم فإِنا قوم سَفر" لأن ما رُوي عن عمر؛ يفهم أنّه لم يُسمع سلامه والحكمة ظاهرة، فإِنّه إِذا سلّم سلّم الناس معه".
(2) أخرجه مسلم: 688

(2/226)


إِمامة الرجل بالنّساء:
وفيه أحاديث منها الحديث المتقدّم: " ... وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أوّلها".

المرأة تؤمّ أهل دارها:
"كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزور أمّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث في بيتها، وجعَل لها مؤذناً يؤذّن لها، وأمَرَها أن تؤمّ أهل دارها" (1).

إِمامة المرأة بالنّساء:
عن رائطة الحنفية "أنّ عائشة -رضي الله عنها- أمّت نسوةً في المكتوبة؛ فأمّتهنّ بينهنّ وسطاً" (2).
وفي رواية: "أمّتهنّ وقامت بينهنّ في صلاةٍ مكتوبة" (3).
وله شاهد من رواية حجيرة بنت حصين قالت: "أمّتنا أم سلمة في صلاة العصر قامت بيننا" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (553) وغيره وانظر "الإِرواء" (493).
(2) أخرجه عبد الرزاق (3/ 141)، والدارقطني (1/ 404)، والبيهقي (3/ 131)، وانظر "تمام المنّة" (ص 154).
(3) انظر "مصنف عبد الرزاق" (5086).
(4) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" وغيره. قال شيخنا -شفاه الله تعالى- في "تمام المنة" (ص154): وبالجملة فهذه الآثار صالحة للعمل بها ولا سيما وهي مؤيَّدة بعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما النساء شقائق الرجال". [أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (216)، التحقيق الثاني والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (98)، وانظر "المشكاة" (441)]، وانظر للمزيد مصنف عبد الرزاق (باب المرأة تؤمّ النساء) وفيه آثار كثيرة =

(2/227)


الصلاة خلف الفاسق والمبتدع والإِمام الجائر ومن يكرهه المأمومون:
عن ابن عمر "أنَّه كان يصلّي خلف الحجّاج" (1).
وقال البخاري في "صحيحه": "باب إِمامة المفتون والمبتدع، وقال الحسن: صلِّ وعليه بدعته" (2).
وروى البخاري (695) أيضاً عن عبيد الله بن عدي بن خيار: "أنَّه دخل
__________
= عن السلف، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 430).
(1) صححه شيخنا في "الإِرواء" (525) وقال: "قال الحافظ في "التلخيص" (128): رواه البخاري في حديث، قلت: -أي: شيخنا حفظه الله- ولم أجده عنده حتى الآن، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف" (2/ 84/2): نا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عمير بن هانئ قال: "شهدتُ ابن عمر والحجّاج محاصِر ابن الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضَر الصلاة مع هؤلاء".
قلت [أي: شيخنا -حفظه الله-]: وهذا سند صحيح على شرط الستة". ثمَّ أخرج عن زيد بن أسلم أن ابن عمر كان في زمان الفتنة؛ لا يأتي أمير إلاَّ صلى خلفه، وأدّى إِليه زكاة ماله وسنده صحيح". انتهى.
وعن مسلم قال: كنّا مع عبد الله بن الزبير والحجّاج يُحاصر عبد الله بن الزبير، وكان عبد الله بن عمر يصلّي مع ابن الزبير فإِذا فاتته الصلاة مع عبد الله سمع أذان مؤذن الحجاج انطلق فصلّى مع الحجاج فقيل: يا أبا عبد الرحمن: تصلي مع عبد الله بن الزبير، والحجاج؟ فقال: إِذا دعونا إِلى الله أجبناهم وإذا دعونا إِلى الشيطان تركناهم، فقلت: يا أبتاه: وما تعني الشيطان؟ قال: القتال". انظر "الأوسط" (4/ 115) لابن المنذر.
(2) كذا رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، وانظر "كتاب الأذان" (باب: 56). قال شيخنا -حفظه الله -: وقد وصَله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن هشام بن =

(2/228)


على عثمان بن عفّان وهو محصور فقال: إِنّك إِمام عامّة ونزل بك ما ترى، ويصلّي لنا إِمام فتنة ونتحرّج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإِذا أحسَن الناس فأحسِنْ معهم، وإِذا أساؤوا فاجتنب إِساءتهم".
قال الشوكاني: في "السيل الجرار" (1/ 247): الفاسق من المسلمين المتعبّدين بالتكاليف الشرعية من الصلاة وغيرها، فمن زعم أنَّه قد حصَل فيه مانع من صلاحيته لإِمامة الصلاة مع كونه قارئاً عارفاً؛ بما يحتاج إِليه في صلاته، فعليه تقرير ذلك المانع بالدليل المقبول الذي تقوم به الحُجّة، وليس في المقام شيءٌ من ذلك أصلاً؛ لا من كتاب ولا من سنَّة ولا قياس صحيح، فعلى المنصِف أن يقوم في مقام المنع؛ عند كلّ دعوى يأتي بها بعض أهل العلم في المسائل الشرعية.
وما استُدلّ به على المنع من تلك الأحاديث الباطلة المكذوبة، فليس ذلك من دأب أهل الإِنصاف، بل هو صُنع أرباب التعصّب والتعنّت.
وإِذا عرفتَ هذا فلا تحتاج إِلى الاستدلال على جواز إِمامة الفاسق في الصلاة، ولا إِلى معارضة ما يسَتَدِلّ به المانعون، فليس هنا ما يصلح للمعارضة وإيراد الحجج، وبيان ما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأُمراء المشتهرين بظلم العباد والإِفساد في البلاد.
نَعم يحسُن أن يجعل المصلّون إِمامَهم من خيارهم، ولكن ليس محلُّ النزاع إِلا كونه لا يصلح أن يكون الفاسق ومن في حُكمه إِماماً، لا في كون
__________
= حسان أنَّ الحسن سئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة؟ فقال الحسن: صلِّ خلفه، وعليه بدعته. كما في "فتح الباري" (2/ 158) والسند صحيح.

(2/229)


الأولى أن يكون الإِمام من الخيار، فإِنّ ذلك لا خلاف فيه".
وأمّا مَن أمّ قوماً يكرهونه، فقد أخبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ صلاته غير مقبولة. فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإِمام قوم وهم له كارهون" (1). أي: كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله لا كراهة لأمر دنيوي. وانظر "التحفة" (2/ 344).

تنبيه:
استدلّ بعض العلماء على أنَّ القرشيّ مقدّم في إِمامة الصلاة على غيره، كما هو مقدّم في الإِمامة الكبرى لحديث: "الأئمة من قريش" (2).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى وعافاه- في "الإِرواء" تحت الحديث السابق: وفي هذا الاستدلال نظر عندي، لأنَّ الحديث بمجموع ألفاظه ورواياته لا يدلّ إِلا على الإِمامة الكبرى، فإِنّ في حديث أنس وغيره: "ما عملوا فيكم بثلاث: ما رحموا إِذا استرحموا، وأقسطوا، إِذا قسموا، وعدلوا إِذا حكموا". فهذا نصٌّ في الإِمامة الكبرى، فلا تدخل فيه الإِمامة الصغرى، لا سيما وقد ورد في البخاري وغيره؛ أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدَّم سالماً مولى أبي حذيفة في إِمامة الصلاة ووراءه جماعة من قريش".
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (295)، وانظر "المشكاة" (1122)، و"غاية المرام" (248).
(2) حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (520) وقد أخرجه جمع من الأئمّة.

(2/230)


الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال (1):
عن هلب [والد قبيصة] أنّه صلّى مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان ينصرف عن شقّيه" (2).
وعن الأسود قال: قال عبد الله: "لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أنَّ حقّاً عليه أن لا ينصرف إلاَّ عن يمينه، لقد رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيراً ينصرف عن يساره" (3).
وكان أنس ينفتِل عن يمينه وعن يَساره ويعيب على من يتوخّى -أو من يَعمِد- الانفتال عن يمينه (4).
قال النووي -رحمه الله في "شرحه" (5/ 220): "في حديث أنس "أكثر ما رأيت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينصرف عن يمينه"، وفي رواية: "كان ينصرف عن يمينه" وجه الجمع بينهما أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كلّ واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدلَّ على جوازهما، ولا كراهة في واحد منهما، وأمّا الكراهة التي اقتضاها كلام ابن مسعود، فليست
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح البخاري".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (919)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (246)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (757).
(3) أخرجه البخاري: 852، ومسلم: 707
(4) أخرجه البخاري معلّقاً مجزوماً به (كتاب الأذان) "باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال". وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 338): "وصله مسدّد في "مسنده الكبير".

(2/231)


بسبب أصل الانصراف عن اليمين أو الشمال، وإنّما هي في حقّ من يرى أنّ ذلك لا بد منه فإِنّ من اعتقد وجوب واحد من الأمرين مخطئ، ولهذا قال: يرى أنّ حقّا عليه فإِنما ذمّ من رآه حقّا عليه.
ومذهبنا أنه لا كراهة في واحد من الأمرين، لكن يستحبّ أن ينصرف في جهة حاجته؛ سواء كانت عن يمينه أو شماله، فإِن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها؛ فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين في باب المكارم ونحوها، هذا صواب الكلام في هذين الحديثين وقد يقال فيهما خلاف الصواب والله أعلم". وللحافظ تفصيلٌ طيب في "الفتح" (2/ 338) فارجع إِليه -إِن شئت-.

مُكث الإِمام (1) في مصلاّه بعد السلام (2):
عن أمّ سلمة أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكُث في مكانه يسيراً. قال ابن شهاب: "فنُرى والله أعلم؛ لكي ينفُذ من ينصرف من النساء" (3).
وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإِكرام". قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله".
__________
(1) قال العيني في "عمدة القاري" (6/ 138): "أي: تأخّره في مصلاّه أي: موضعه الذي صلّى فيه الفرض بعد السلام، أي: بعد فراغه من الصلاة بالسلام".
(2) هذا العنوان من "صحيح البخاري".
(3) أخرجه البخاري: 849

(2/232)


وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا سلّم لم يقعد إلاَّ مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإِكرام"، وفي رواية ابن نمير: "يا ذا الجلال والإِكرام".

علوّ الإِمام أو المأموم:
عن أبي مسعود الأنصاري قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإِمام فوق شيء والناس خلفه -يعني: أسفل منه-" (1).
وعن همام أنَّ حذيفة أمَّ الناس بالمدائن على دكان (2)، فأخذَ أبو مسعود بقميصه فجبَذه، فلمّا فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنّهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مدَدْتني (3) (4) فإِذا كان للإِمام مصلحة من ارتفاعه على المأموم؛ لتعليمٍ ونحوه فجائز كما في حديث أبي حازم بن دينار: "أنَّ رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعديّ، وقد امتروا (5) في المنبر مِمَّ
__________
(1) أخرجه الدارقطني وسكت عنه الحافظ في "التلخيص" وقال شيخنا في "تمام المنّة": وإسناده حسن.
(2) في رواية لأبي داود "صحيح سنن أبي داود" (558): "والناس أسفل منه".
(3) أي: اتبعتك حين أخذْت على يدي وجذَبتني.
(4) أخرجه الشافعي في "الأم" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (557) والحاكم وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (2/ 331).
(5) قال الحافظ (2/ 397): "امتروا: من المماراة وهي المجادلة، وقال الكرماني: من الامتراء وهو الشك، ويؤيد الأوّل قوله في رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عند مسلم: "أن تماروا، فإِنّ معناه تجادلوا، قال الراغب: الامتراء والمماراة: المجادلة، ومنه {فلا تُمارِ فيهم إلاَّ مراءً ظاهرًا}، وقال أيضاً: المِرية: التردد في الشيء ... ".

(2/233)


عُودُه؟ فسألوه عن ذلك فقال: والله إِنّي لأعرف ممّا هو، ولقد رأيته أوّل يوم وُضِعَ، وأوّل يوم جلس عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى فُلانة -امرأة قد سمّاها سهل- مُرِي غُلامك النّجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهنّ إِذا كلّمتُ الناس، فأَمَرَتْه فعمِلها طرْفاء (1) الغابة، ثمَّ جاء بها فأرسلت إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بها فوضعت ها هنا. ثمَّ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى عليها، وكبّر وهو عليها، ثمَّ ركع وهو عليها، ثمَّ نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثمَّ عاد، فلمّا فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنّما صنعتُ هذا لتأتموا، ولتعلموا صلاتي" (2).
وينبغي على المأموم ألأَ يصلّي على ظهر المسجد أو خارجه مقتدياً بالإِمام إلاَّ مِن عُذر؛ كامتلاء المسجد.
قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (282) رداً على من يطلق الجواز مستدلاً ببعض الآثار: "يقابل هذه الآثار آثار أخرى عن عمر والشعبي وإبراهيم، عند ابن أبي شيبة (2/ 223)، وعبد الرزاق (3/ 81 - 82): أنَّه ليس له ذلك إِذا كان بينه وبين الإمام طريق ونحوه. ولعلّ ما في الآثار الأولى محمول على العذر، كامتلاء المسجد كما قال هشام بن عروة: "جئت أنا وأبي مرة، فوجدنا المسجد قد امتلأ، فصلّينا بصلاة الإِمام في دارٍ عند المسجد بينهما طريق". رواه عبد الرزاق (3/ 82) بسند صحيح عنه.
وليس بخافٍ على الفقيه أنّ إِطلاق القول بالجواز ينافي الأحاديث الآمرة بوصل الصفوف وسدّ الفرج، فلا بد من التزامها والعمل بها إلاَّ لعذر، ولهذا
__________
(1) أي: من شجرها. قاله الكرماني.
(2) أخرجه البخاري: 917، ومسلم: 544

(2/234)


قال شيخ الإِسلام في "مجموع الفتاوى" (23/ 410): "ولا يصفّ في الطرقات والحوانيت مع خلوّ المسجد، ومن فَعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطّيه، ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة؛ فإِن هذا لا حرمة له.
قال: فإِن امتلأ المسجد بالصفوف صفّوا خارج المسجد، فإِذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحّت صلاتهم. وأمّا إِذا صفّوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه؛ لم تصحّ صلاتهم في أظهر قولي العلماء. وكذلك إِذا كان بينهم وبين الصفوف حائط، بحيث لا يرون الصفوف، ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة، فإِنّه لا تصحّ صلاتهم في الأظهر، وكذلك من صلّى في حانوته والطريق خال لم تصحّ صلاته، وليس له أن يقعد في الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به، بل عليه أن يذهب إِلى المسجد، فيسد الأوّل فالأول فالأول"".

اقتداء المأموم بالإِمام مع الحائل لعُذر:
قال الإِمام البخاري في (كتاب الأذان) (باب إِذا كان بين الإِمام وبين القوم حائط أو سترة): وقال الحسَن: لا بأس أن تصلّي وبينك وبينه نهر (1).
وقال أبو مِجلَز: "يأتمّ بالإِمام، وإنْ كان بينهما طريق أو جدار إِذا سمع تكبير الإِمام" (2).
ويُحمل ذلك كله على وجود العذر لوجوب تسوية الصفوف وتراصّها
__________
(1) قال الحافظ: لم أره موصولاً.
(2) وصله ابن أبي شيبة وعبد الزراق بإِسنادين عنه - انظر "الفتح" (2/ 214)، و"مختصر البخاري": (1/ 184).

(2/235)


-والله تعالى أعلم-.

حُكم الائتمام بمن ترك شرطاً أو رُكناً:
إِذا ترَك الإِمام شرطاً أو رُكناً بطَلت صلاته وصلاة من ائتمّ به، أمّا إِذا لم يعلم المأمومون ذلك، فإِنَّ صلاتهم صحيحة، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يصلّون لكم (1)، فإِنْ أصابوا فلكم (2)، وإِن أخطأوا (3) فلكم وعليهم (4) " (5).
__________
(1) أي: الأئمّة.
(2) أي: لكم ثواب صلاتكم.
(3) وإن أخطأوا: أي: ارتكبوا الخطيئة، ولم يُرِد به الخطأ المقابل للعمد لأنّه لا إِثم فيه. "الفتح".
(4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 188) بحذف: "قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إِذا خيف منه. ووجَّه غيره قوله إِذا خيف منه، بأن الفاجر إِنّما يؤمّ إِذا كان صاحب شوكة. وقال البغوي في "شرح السنّة": فيه دليل على أنه إِذا صلى بقوم مُحدِثاً أنّه تصح صلاة المأمومين وعليه الإِعادة. واستدل به غيره على أعمّ من ذلك وهو صحة الاَئتمام بمن يخلّ بشيء من الصلاة، ركناً كان أو غيره إِذا أتمّ المأموم، وهو وجه عند الشافعية بشرط أن يكون الإِمام هو الخليفة أو نائبه، والأصح عندهم صحة الاقتداء إلاَّ بمن علم أنّه ترك واجباً، ومنهم من استدلّ به على الجواز مطلقاً بناء على أنّ المراد بالخطأ ما يقابل العمل، قال: ومحل الخلاف في الأمور الاجتهادية كمن يصلّي خلف من لا يرى قراءة البسملة، ولا أنّها من أركان القراءة، ولا أنها آية من الفاتحة، بل يرى أنّ الفاتحة تجزئ بدونها قال: فإن صلاة المأموم تصح إِذا قرأ هو البسملة لأن غاية حال الإِمام في هذه الحالة أن يكون أخطأ. وقد دل الحديث على أنَّ خطأ الإِمام لا يؤثّر في صحة صلاة المأموم إِذا أصاب".
(5) أخرجه البخاري: 694

(2/236)


وعن عمر أنّه صلى بالنّاس الصبح ثمّ خرج إِلى الجُرُف، فأهراق الماء، فوجد في ثوبه احتلاماً، فأعاد الصلاة، ولم يُعدِ الناس".
قال شيخنا في "الإِرواء" (533): وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي.

الاستخلاف:
للإمام أن يستخلف غيره ليستكمل المأمومون الصلاة، إِذا عَرض له عُذر أو طرأ له طارئ، لمرض مفاجئ ألمَّ به ونحوه.
ففي "صحيح البخاري" (3700): في قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- قال: عمرو بن ميمون بعد أن طُعن -رضي الله عنه-: " ... وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأمّا نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله، فصلّى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة".
وإذا لم يخشَ الإِمام الفتنة وذكر أنه على غير وضوء، أو على جنابة، والمتوضّأ قريب؛ فإِنه يشير للمأمومين أن مكانكم، ثمَّ يتوضّأ ويأمهم.
فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخَل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أنْ مكانكم، ثمَّ جاء ورأسه يقطر، فصلى بهم" (1).
وفي رواية: قال في أوّله: فكبّر، وقال في آخره: فلما قضى الصلاة، قال: "إِنّما أنا بشر، وإني كنتُ جنباً".
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (213).

(2/237)


وهذا بعد أن كبّر وقد ورد في الصحيحين. حالة أخرى غير هذه (1)، وهي تذكُّرُه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه على جنابة قبل أن يكبّر.
فعن أبي هريرة "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وقد أقيمت الصلاة وعدّلت الصفوف، حتى إِذا قام في مُصلاه انتظرنا أن يكبّر، انصرف قال: على مكانكم، فمكثنا على هيئتنا، حتى خرج إِلينا ينطُف (2) رأسه ماءً وقد اغتسل" (3).
أمّا إِذا وجد الإِمام في ثوبه احتلاماً بعد الانتهاء من الصلاة أو تذكّر أنّه على غير وضوء، فعليه أن يعيد وليس على الناس إِعادة، فقد رُوي عن عمر أنه صلّى بالناس الصبح ثمَّ خرج إِلى الجُرُف فأهراق الماء، فوجَد في ثوبه احتلاماً، فأعاد الصلاة ولم يُعدِ الناس، وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعليّ (4).

موقف الإِمام والمأموم:
أين يقف المأموم الواحد من الإِمام؟
يقف عن يمين الإِمام لحديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال:
صلّيتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فقُمت عن يساره، فأخَذَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) انظر "مختصر البخاري" (ص 78) رقم (158).
(2) أي: يقطر.
(3) أخرجه البخاري: 639، ومسلم: 605
(4) انظر "الإِرواء" (533)، و"الأوسط" (4/ 213)، وفي "مصنف عبد الرزاق" (2/ 348). عدد من الآثار في هذا.

(2/238)


برأسي من ورائي، فجعلني عن يمينه" (1).
وفي المسند من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر الليل فصلّيتُ خلفه، فأخَذ بيدي فجرّني فجعلني حذاءه" (2).
"ووقف رجل وراء عمر، فقرَّبه حتى جعلَه حذاءه عن يمينه" (3).
قال شيخنا في "الصحيحة" تحت رقم (606): "وفي الحديث من الفقه أنَّ الرجل الواحد إِذا اقتدى بالإِمام وقَف حذاءه عن يمينه، لا يتقدّم عنه ولا يتأخر، وهو مذهب الحنابلة كما في "منار السبيل" (1/ 128)، وإليه جنح البخاري؛ فقال في "صحيحه": "باب يقوم عن يمين الإِمام بحذائه سواءً إِذا كانا اثنين".
وذكَر الحافظ في "الفتح" أثراً من طريق ابن جريج قال: "قلت لعطاء: الرجل يُصلّي مع الرجل، أين يكون منه؟ قال: إِلى شقّه الأيمن. قلت: أيحاذي به حتى يصفّ معه، لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم، قلت: أتحبّ أن يساويه، حتى لا تكون بينهما فُرجة؛ قال: نعم".

أين تقف المرأة من الإِمام؟
تقف خلف الرجال وفيه أحاديث صحيحة من ذلك؛ حديث أبي هريرة
__________
(1) أخرجه البخاري: 726، ومسلم: 763، بلفظ: "فأخَذَ بيدي فأدارني عن يمينه".
(2) إِسناده صحيح على شرط الشيخين عن "الصحيحة" (606).
(3) أخرجه مالك وانظر "الصحيحة" (606).

(2/239)


-رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "خير صفوف الرّجال أوّلها، وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرُّها أوّلها" (1).
والمراد بالحديث: صفوف النساء اللواتي يصليّن مع الرجال، أمّا إِذا صلّين متميّزات، لا مع الرجال، فهنّ كالرجال، خير صفوفهن أولها وشرّها آخرها، قاله النووي -رحمه الله-.
فائدة: لا بأس من وقوف الصبيان مع الرجال إِذا كان في الصفّ متسع، وصلاة اليتيم مع أنس وراءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّة في ذلك. قاله شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 284).

من ركع دون الصف:
إِذا كبّر المأموم خلف الصف، ثمَّ دخله وأدرك فيه الركوع مع الإِمام، فقد أدرك تلك الركعة وصحَّت صلاته لحديث أبي بكرة -رضي الله عنه-: "أنَّه انتهى إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فرَكع قبل أن يصل إِلى الصف، فذكر ذلك للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصاً ولا تعُد (2) " (3).
والذي يبدو أنَّ النهي عن إِسراعه في المشي؛ كما في رواية لأحمد (5/ 42) من طريق أخرى عن أبي بكرة أنّه جاء والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، فسمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوت نعل أبي بكرة وهو يحضر (أي: يعدو) يريد أن يدرك
__________
(1) أخرجه مسلم: 439، وتقدّم.
(2) ولا تعُد: قال الحافظ في "الفتح" (2/ 268): "ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوّله وضم العين من العَود".
(3) أخرجه البخاري: 783، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (634، 635).

(2/240)


الركعة، فلما انصرف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ قال: من الساعي؟ قال أبو بكرة: أنا. قال: "زادك الله حِرصاً ولا تعُدْ"، وإِسناده حسن في المتابعات، وقد رواه ابن السكن في "صحيحه" نحوه، وفيه قوله: "انطلقتُ أسعى ... "، وأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من الساعي ... "، ويشهد لهذه الرواية رواية الطحاوي من الطريق الأولى بلفظ: "جئت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف ... " الحديث وإِسناده صحيح، فإِنّ قوله: "حفَزَني النفَس، معناه: اشتدّ من الحفز وهو الحثّ والإِعجال وذلك كنايةً عن العدو. انظر "الصحيحة" تحت الحديث (230).
وقال شيخنا في الاستدراكات: "ثمَّ وجدتُ ما يؤيدُ هذه الترجمة من قول راوي الحديث نفسه؛ أبي بكرة الثقفيّ -رضي الله عنه- كما يؤكّد أنَّ النّهي فيه: "لا تعُدْ" لا يعني الركوع دون الصفّ، والمشي إليه، ولا يشملُ الاعتداد بالركعةِ؛ فقد روى علي بن حجر في "حديثه" (1/ 17/1): حدّثنا إِسماعيل بن جعفر المدني: حدّثنا حميد، عن القاسم بن ربيعة، عن أبي بكرة -رجل كانت له صحبة- أنَّه كان يخرج من بيته فيجد الناس قد ركعوا، فيركع معهم، ثمَّ يدرج راكعاً حتّى يدخل في الصفّ، ثمَّ يعتدُّ بها.
قلت: وهذا إِسنادٌ صحيح، ورجاله كلُهم ثقات، وفيه حجّةٌ قويّة أنَّ المقصود بالنهي إِنّما هو الإِسراع في المشي، لأنَّ راوي الحديث أدرى بمرويّه من غيره، ولا سيّما إِذا كان هو المخاطب بالنهي، فخُذها؛ فإِنّها عزيزةٌ، قد لا تجدها في المطوّلات من كتب الحديث والتخريج، وبالله التوفيق".

(2/241)


عن عطاء أنَّه سمع ابن الزبير على المنبر يقول: "إِذا دَخَل أحدكم المسجد والناسُ ركوع، فليركع حين يدخل، ثمَّ يدبّ راكعاً حتى يدخل في الصف، فإِنَّ ذلك السُّنّة" (1).
قال شيخنا: وممّا يشهد لصحّته عمل الصحابة به من بعد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو بكر الصدّيق وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير.
ثمَّ ذكر بعض الآثار في ذلك:
1 - منها ما رواه أبو أمامة بن سهل بن حُنيف؛ أنّه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد والإِمام راكع، فمشى حتّى أمكنه أن يصل الصف وهو راكع، كبّر فركع، ثمَّ دبّ وهو راكع حتى وصَل الصف. رواه البيهقي، وسنده صحيح.
2 - وما رواه زيد بن وهب قال: "خرجتُ مع عبد الله -يعني: ابن مسعود- من داره إِلى المسجد، فلمّا توسَّطنا المسجد، ركع الإِمام، فكبّر عبد الله وركع وركعت معه، ثمَّ مشينا راكعين حتى انتهينا إِلى الصف حين رفع القوم رؤوسهم، فلمّا قضى الإِمام الصلاة؛ قمتُ وأنا أرى أنّي لم أُدرِك، فأخذ عبد الله بيدي وأجلسني، ثمَّ قال: إِنك قد أدركْت" (2).
3 - ومنها ما رواه عثمان بن الأسود قال: "دخلتُ أنا وعبد الله بن تميم المسجد، فركع الإِمام، فركعتُ أنا وهو، ومَشينا راكعين حتى دخلْنا الصفّ،
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" والطبراني في "الأوسط" وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (229).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنّف"، وكذا عبد الرزاق، والطحاوي في "شرح المعاني"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والبيهقي في "سننه" بسند صحيح، وله عند الطبراني طرق أخرى.

(2/242)


فلمّا قضينا الصلاة؟ قال لي عمرو: الذي صنعتَ آنفاً ممّن سمعتَه؟ قلتُ: من مجاهد. قال: قد رأيتُ ابن الزّبير فعَله. أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً، وسنده صحيح".
والخلاصة أنَّ ركوع المأموم قبل رفْع الإِمام رأسه ثمَّ دخوله في الصف من السنّة لعمل كبار الصحابة وخطبة ابن الزبير بحديثه على المنبر في أكبر جمْع يخطب عليهم في المسجد الحرام، وإعلانه أنَّ ذلك من السنّة؛ دون أن يعارضه أحد (1)، وأنَّ النهي في الحديث السابق إِنّما يتضمّن الإِسراع، وبه يقول الإِمام أحمد -رحمه الله- فقد قال أبو داود في "مسائله" (ص 35): "سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف، ثمَّ مشى حتى دخل الصف، وقد رفع الإِمام قبل أن ينتهي إِلى الصف؟ قال: تجزئه ركعة، وإنْ صلّى خلف الصف وحده أعاد الصلاة" (2).
وبه يقول ابن خزيمة فقد قال في "صحيحه": (باب الرخصة في ركوع المأموم قبل اتصاله بالصف، ودبيبه راكعاً حتى يتصل بالصفّ في ركوعه). والله تعالى أعلم.

صلاة المنفرد خلف الصف:
وما تقدّم من دبيب المأموم راكعاً، ثمَّ دخوله في الصف؛ أمرٌ غير صلاة المنفرد خلف الصف، فقد نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلّي الرجل خلف الصفّ وحده.
__________
(1) انظر "الصحيحة" (1/ 459) -إِن شئت للمزيد من التفصيل-.
(2) عن "تمام المنّة" (ص 285).

(2/243)


فعن وابصة " أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً يصلّي خلف الصفّ وحده، فأمَره أن يعيد الصلاة" (1).
وعن علي بن شيبان -وكان من الوفد- قال: "خرجنا حتى قدمنا على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبايعناه. وصلّينا خلفه. ثمَّ صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلاً فرداً يصلّي خلف الصف، قال: فوقف عليه نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين انصرف قال: "اسْتَقْبِلْ صلاتك؛ لا صلاة للذي خلف الصفّ"" (2).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الإِرواء" (2/ 329): "وجملة القول أن أمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل بإِعادة الصلاة، وأنَه لا صلاة لمن يصلّي خلف الصف وحده، صحيح ثابت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طُرُق.
وأمّا أمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل بأن يجرّ رجلاً من الصف لينضمّ إِليه؛ فلا يصحّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ".
وقال شيخنا -حفظه الله-: "إِذا لم يستطع الرجل أن ينضمّ إِلى الصفّ، فصلّى وحده، فهل تصحّ صلاته، الأرجح الصحة، والأمر بالإِعادة محمول على من لم يستطع القيام بواجب الانضمام.
وبهذا قال شيخ الإِسلام ابن تيمية كما بيّنته في "الأحاديث الضعيفة" المائة العاشرة".
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (633) والترمذي والطحاوي وغيرهم، وانظر "الإرواء" (541).
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (822) والطحاوى وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وانظر "الإِرواء" تحت الحديث (541).

(2/244)


تسوية الصفوف (1):
أمَر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتسوية الصفوف في عديد من الأحاديث منها:
1 - حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "خرَج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يُتمّون الصفوف الأُوَل، ويتراصّون في الصف" (2).
2 - عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استووا ولا تختلفوا؛ فتختلفَ قلوبكم" (3).
3 - عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: "لتسوّن صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم" (4).
4 - عن أنس -رضي الله عنه- قال: "أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصّوا، فإِنّي أراكم من وراء ظهري" (5).
5 - عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "سوُّوا
__________
(1) انظر للمزيد كتابي "تسوية الصفوف وأثرها في حياة الأمّة".
(2) أخرجه مسلم: 430
(3) أخرجه مسلم: 432
(4) أخرجه البخاري: 717، ومسلم: 436
(5) أخرجه البخاري: 719

(2/245)


صفوفكم، فإِنّ تسوية الصفِّ من تمام الصلاة" (1).
وفي رواية لأنس أيضاً -رضي الله عنه- قال: "سوُّوا صفوفكم، فإِن تسوية الصفوف من إِقامة الصلاة" (2).
وفي رواية: "فإِنّ إِقامة الصفِّ من حُسن الصلاة" (3).

الترغيب في وصل الصفوف والتخويف من قطعها:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقيموا الصفوف، فإِنّما تصفّون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدّوا الخلل، ولينوا بأيدي إِخوانكم (4)، ولا تذروا فُرجات للشيطان ومن وصل صفاً؛ وصَله الله، ومن قطع صفاً؟ قطَعه الله عزّ وجلّ" (5).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سدّ فرجة؛ رفعه الله بها درجة، وبنى له بيتاً في الجنّة" (6).
__________
(1) أخرجه مسلم: 433
(2) أخرجه البخاري: 723
(3) أخرجه البخاري: 722، ومسلم: 435
(4) قال أبو داود تحت الحديث (666): "ومعنى ولينوا بأيدي إِخوانكم": إِذا جاء رجل إِلى الصفّ فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كلّ رجل منكبه حتى يدخل في الصف".
(5) أخرجه أحمد، وأبو داود والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (743)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (492).
(6) أخرجه أبو داود، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (502).

(2/246)


وفي الحديث: "خِياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أعظم أجراً؛ مِن خطوة مشاها رجل إِلى فرجة في الصف فسدّها" (1).

كيف نسوِّي صفوفنا؟
يبيّن لنا أنس -رضي الله عنه- كيف كانت تسوية الصفوف في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: "وكان أحدنا يلزق مَنكِبه بمَنكِب صاحبه، وقدمه بقدمه" (2).
وفي قول للنعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه" (3).
ولا بد أن نحاذي بين المناكب والأعناق لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وحاذوا بالأعناق" (4).
وقوله عليه السلام: "وحاذوا بين المناكب" (5). يُفهم مما سبق؛ أن
__________
(1) أخرجه البزار بإِسناد حسن، وابن حبان في "صحيحه" كلاهما بالشطر الأول، ورواه بتمامه الطبراني في "الأوسط" قاله المنذري في "الترغيب والترهيب"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (501)، و"الصحيحة" (2533).
(2) أخرجه البخاري: نحوه (725).
(3) أخرجه أبو داود وابن حبان وأحمد وقال شيخنا: وسنده صحيح، وانظر تفصيله في "الصحيحة" تحت الحديث (32).
(4) جزء من حديث رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (491).
(5) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (492).

(2/247)


تسوية الصفوف وتراصها تعني:
1 - لصق مَنكِب المصلي بمَنكِب صاحبه، وقدمه بقدمه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه.
2 - مراعاة المحاذاة بين المناكب والأعناق والصدور، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا مَنكِب على مَنكِب، ولا صدر على صدر، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تختلف صدوركم، فتختلف قلوبكم" (1).

التوكيل في تسوية الصفوف:
وجاء في "الموطأ" (1/ 158): حدّثني مالك عن عمّه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنّه قال: كنت مع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقامت الصلاة، وأنا أكلّمه في أن يفرض لي، فلم أزل أكلّمه، وهو يسوّي الحصباء بنعله، حتى جاءه رجال، قد كان وكَّلَهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أنَّ الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثمَّ كبّر (2).

الترغيب في الصف الأول وميامن الصفوف والترهيب من تأخُّر الرجال إِلى أواخر صفوفهم:
عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خير صفوف الرجال أوّلها، وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أوّلها" (3).
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (510).
(2) وهو صحيح كما أخبَرني بذلك شيخنا الألباني -حفظه الله-.
(3) أخرجه مسلم: 440، وتقدّم.

(2/248)


عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول؛ ثمّ لم يجدوا إلاَّ أن يستَهِموا (1) عليه لاستَهموا ... " (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال قوم يتأخّرون عن الصف الأول حتى يؤخّرهم الله في النار" (3).
وفي رواية (4): حتى يخلفهم الله في النار.
وعن البراء بن عازب قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إِنَّ الله وملائكته يصلّون على الصفوف الأُوَل" (5).
وعنه -رضي الله عنه- قال: "كُنّا إِذا صلّينا خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحبَبنا أن نكون عن يمينه" (6).

التبليغ خلف الإِمام:
يحسن التبليغ خلف الإِمام إِذا دعت الحاجة إِليه، وقد يجب إِذا تعذّر متابعة الإِمام في ركوعه وسجوده، لضعف الصوت؛ إِذ ما لا يتمّ الواجب إلاَّ به
__________
(1) يستهموا: أي: يقترعوا.
(2) أخرجه البخاري: 615، ومسلم: 437
(3) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (507).
(4) لابن خزيمة وابن حبان، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (507).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (618) وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (510).
(6) أخرجه مسلم: 709

(2/249)


فهو واجب.

متى يقوم الناس للإِمام؟
إِذا كان الإِمام مع المصلين في المسجد قاموا إِذا قام، وإن كانوا ينتظرون خروجه ومجيئه قاموا إِذا رأوه ولا يقوموا حتى يروه لحديث أبي قتادة أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت" (1).

هل يشرع تكرار الجماعة في المسجد الواحد؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطبُّ، ثمَّ آمرُ بالصلاة فيؤذن لها، ثمَّ آمرُ رجلاً فيؤم النّاس، ثمَّ أخالف إِلى رجال فأحرِّق عليهم بيوتهم" (2).
ولو جاز تداركُها في جماعة أخرى؛ لما كان لتحريق النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معنى.
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله أقبَل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجَد الناس قد صلَّوا، فمال إِلى منزله، فجمع أهله فصلّى بهم" (3).
* ووجه الدلالة منه: أنّه لو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهه؛ لما
__________
(1) أخرجه البخاري: 637، ومسلم: 604، وانظر ما جاء في "الأوسط" (4/ 168).
(2) أخرجه البخاري: 644، ومسلم: 651
(3) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وحسنّه شيخنا في "تمام المنّة" (ص 155).

(2/250)


ترَك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل المسجد النبوي * (1).
قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 156): "وأحسن ما وقفْتُ عليه من كلام الأئمّة في هذه المسألة هو كلام الإِمام الشافعي -رضي الله عنه- ولا بأس مِن نقْله مع شيء من الاختصار، ولو طال به التعليق، نظراً لأهميته، وغفلة أكثر الناس عنه، قال -رضي الله عنه- في "الأم" (1/ 136): "وإِنْ كان لرجلٍ مسجد يجمع فيه، ففاتته الصلاة، فإِنْ أتى مسجد جماعة غيره كان أحبّ إِليّ، وإِنْ لم يأته وصلّى في مسجده منفرداً، فحسن، وإذا كان للمسجد إِمامٌ راتب، ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة، صلّوا فرادى، ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فإِن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإِنما كرهت ذلك لهم لأنّه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم، وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إِنما كان لتفرقة الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إِمام الجماعة، فيتخلّف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإِذا قُضيت دخلوا فجمّعوا، فيكون بهذا اختلاف وتفرُّق الكلمة، وفيهما المكروه، وإِنما أكره هذا في كلّ مسجد له إِمام ومؤذن، فأمّا مسجد بُني على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذّن راتب، ولا يكون له إِمام راتب ويصلّي فيه المارّة، ويستظلّون، فلا أكره ذلك، لأنّه ليس فيه المعنى الذي وصفتُ مِن تفرُّق الكلمة، وأن يرغب رجالٌ عن إِمامة رجل فيتخذون إِماماً غيره، قال: وإنّما معني أن أقول: صلاة الرجل لا
__________
(1) ما بين نجمتين أفدته من "إِعلام العابد بحكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد" للشيخ مشهور حسن -حفظه الله تعالى-.

(2/251)


تجوز وحده وهو يقدر على الجماعة بحال تفضيل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يقل: لا تجزي المنفرد صلاته، وأنَّا قد حفظنا أن قد فاتت رجالاً معه الصلاة، فصلّوا بعلمه منفردين، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا، وأن قد فاتت الصلاة في الجماعة قوماً فجاؤوا المسجد فصلّى كل واحد منفرداً، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا في المسجد، فصلّى كل واحد منهم منفرداً، وإِنما كرهوا لئلا يجمعوا في مسجد مرتين".
وما علقه الشافعي عن الصحابة قد جاء موصولاً عن الحسن البصري قال: "كان أصحاب محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا دخلوا المسجد وقد صُلِّي فيه صلَّوا فرادى".
رواه ابن أبي شيبة (2/ 223). وقال أبو حنيفة: "لا يجوز إِعادة الجماعة في مسجد له إِمام راتب". ونحوه في "المدوّنة" عن الإِمام مالك.
وبالجملة؛ فالجمهور على كراهة إِعادة الجماعة في المسجد بالشرط السابق، وهو الحقّ، ولا يعارض هذا الحديث المشهور: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلّي معه"، وسيأتي في الكتاب (ص 277)، فإِنّ غاية ما فيه حضُّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد الذين كانوا صلّوا معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجماعة الأولى أن يصلّي وراءه تطوعاً، فهي صلاة متنفِّل وراء مفترض، وبحْثُنا إِنما هو في صلاة مفترض وراء المفترض، فاتتهم الجماعة الأولى، ولا يجوز قياس هذه على تلك لأنه قياس مع الفارق من وجوه:
الأول: أن الصورة الأولى المختلف فيها لم تنقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا إِذناً ولا تقريراً مع وجود المقتضى في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما أفادته رواية الحسن البصري.

(2/252)


الثاني: أن هذه الصورة تؤدي إِلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة، لأن الناس إِذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة يستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنها لا تفوتهم، يتأخّرون، فتقلّ الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه، وليس شيء من هذا المحذور في الصورة التي أقرّها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فثبت الفرق، فلا يجوز الاستدلال بالحديث على خلاف المتقرر من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". انتهى.
وقد فصّل أخي الشيخ مشهور حسن -حفظه الله- المسألة تفصيلاً دقيقاً في كتابه النفيس السابق الذّكر فارجع إِليه- إن شئت-.

(2/253)