الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة المساجد
إِنّ ممّا اختصّ الله تعالى به أمّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن جعلَ لها الأرض مسجداً وطَهوراً.
عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله! أيّ مسجدٍ وُضِع في الأرض أوّل؟ قال:
"المسجد الحرام، قلت: ثمَّ أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال:
أربعون سنةً، وأينما أدركتكَ الصلاة فَصَلِّ فهو مسجد" (1).
فضل بنائها:
عن عثمان -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من بنى مسجداً لله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنّة"
(2).
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة؛ بنى الله له بيتاً في
الجنّة" (3).
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً؛ بنى
الله له بيتاً في الجنّة" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 3366، ومسلم: 520
(2) أخرجه البخاري: 450، ومسلم: 533
(3) أخرجه البزار واللفظ له، والطبراني في "الصغير" وابن حبان في "صحيحه"
وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (263). والمفحص الموضع الذي تبيض فيه
القطاة، وهي نوع من اليمام يُؤثِر الحياة في الصحراء.
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (263)، وانظر "صحيح الترغيب
والترهيب" (267).
(2/254)
فضل الصلاة في المسجد الأكثر عدداً:
عن أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده،
وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثُر؛ فهو أحبّ إِلى الله
تعالى" (1).
وعن قباث بن أشيم الليثي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "صلاة رجلين يؤمُّ أحدهما صاحبه؛ أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى
(2)، وصلاة أربعة يؤمّهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى" (3).
ما يقول الرجل إذا خرج من بيته إِلى المسجد:
عن أنس بن مالك أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"إِذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكّلتُ على الله، لا حول ولا قوة
إلاَّ بالله، قال: يُقال حينئذ: هُديت وكُفيت ووقيت، فتتنحّى له الشياطين،
فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي؟ " (4).
وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إِذا خرجَ من بيته
قال: "اللهمّ إِنّي أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلَّ أو أزِلَّ أو أُزلَّ أو
أظلِمَ أو أُظلَمَ أو أجهَلَ أو يُجهَلَ عليّ" (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (518) وانظر "المشكاة" (1066).
(2) تترى: متفرّقين.
(3) أخرجه البخاري في "التاريخ" والبزار وغيرهما وانظر "الصحيحة" (1912).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4249)، وانظر "المشكاة" (2443).
(5) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح =
(2/255)
وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-
مرفرعاً: " ... فأذّنَ المؤذّن فخرج إِلى الصلاة، وهو يقول: اللهمّ اجعل في
قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً،
واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي
نوراً، اللهمّ أعطني نوراً" (1).
والظاهر أنّه كان يقول هذا الدعاء حين الذَّهاب إِلى صلاة الفجر، كما يدّل
عليه تمام سياق الحديث.
دخول المسجد بالرِّجل اليمنى والخروج باليسرى:
عن أنس أنّه كان يقول: "من السُّنّة إِذا دخَلْت المسجد أن تبدأ رجلك
اليمنى، وإذا خرَجْت أن تبدأ برجلك اليسرى" (2).
أذكار دخول المسجد والخروج منه:
عن أبي حُميد أو أبي أُسيد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا دخل أحدكم المسجد فليُسلّم على
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ ليقل: اللهمّ افتح لي
أبواب رحمتك، فإِذا خرج فليقل: اللهمّ إِنّي أسألك من فضلك" (3).
__________
= وقال شيخنا إِسناده صحيح، انظر "المشكاة" (2442)، و"صحيح سنن أبي داود"
(4248).
(1) أخرجه البخاري: 6316، ومسلم: 763
(2) أخرجه الحاكم (1/ 218) في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه
الذهبي، وانظر "الإرواء" (93).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (440) وغيره، وهو في "صحيح مسلم"
(713)، من غير ذِكر السلام على النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-.
(2/256)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه كان إِذا دخل المسجد قال:
"أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" (1).
عن فاطمة الكبرى قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إِذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلّم وقال: ربِّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي
أبواب رحمتك، وإِذا خرج صلّى على محمّد وسلّم وقال: ربّ اغفر لي ذنوبي
وافتح لي أبواب فضلك" (2).
فضل المشي إِلى المساجد:
عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من
غدا إِلى المسجد وراح أعدّ (3) الله له نزُله (4) من الجنّة؛ كلمّا غدا أو
راح (5) " (6).
استحباب المشي إِلى المساجد بالسكينة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إِذا
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (441)، وانظر "الكلم الطيب" (65).
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (259) وانظر "تمام المنّة" (ص 290).
(3) أعدّ: هيّأ.
(4) نزله: بضم النون والزاى: المكان الذي يهيأ للنزول فيه وبسكون الزاي: ما
يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها. "فتح" (2/ 148).
(5) غدا أو راح: الأصل في الغدوّ: المضي من بكرة النهار والرواح: بعد
الزوال، ثمَّ قد يستعملان في كلّ ذهاب ورجوعٍ توسُّعًا.
(6) أخرجه البخاري: 662، ومسلم: 669، وتقدّم.
(2/257)
أقيمت الصلاة فلا تأتُوها تسعَون، وأتوها
تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا" (1).
وعنه أيضاً قال: "إِذا سمعتم الإِقامة فامشوا إِلى الصلاة وعليكم بالسكينة
والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتمّوا" (2).
تحية المسجد:
عن أبي قتادة أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"إذا دخل أحدُكُم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (3).
ما جاء في الصلاة في المساجد الثلاثة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا تشدُّ الرحال (4) إلاَّ إِلى ثلاثة مساجد: المسجد
الحرام، ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسجد
الأقصى" (5).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي
__________
(1) أخرجه البخاري: 908، ومسلم: 602
(2) أخرجه البخاري: 636، ومسلم: 602
(3) أخرجه البخاري: 444، ومسلم: 714
(4) قال القرطبي: هو أبلغ من صريح النهي؛ كأنّه قال: لا يستقيم أن يقصد
بالزيارة إلاَّ هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختصّت.
والرحال: جمْع رحل وهو للسفر كالسرج للفرس، وكنّى بشدّ الرحال عن السفر
لأنّه لازِمه. "فتح": (3/ 64).
(5) أخرجه البخاري: 1189، ومسلم: 1397
(2/258)
هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ
المسجد الحرام" (1).
وعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد
الحرام؛ وصلاة في المسجد الحرام؛ أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" (2).
وعن عبد الله بن عمرو عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "لمّا فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثاً:
حُكماً يُصادف حُكمه، ومُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألاَّ يأتي هذا
المسجد أحدٌ، لا يريد إلاَّ الصلاة فيه، إلاَّ خرج من ذنوبه كيومَ ولدته
أمّه، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمّا اثنتان
فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة" (3). وعن أُسيد بن ظُهير قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة في مسجد قُباء
كعمرة" (4).
تواضع بنائها والنهي عن زخرفتها:
عن أنس أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تقوم
الساعة؛ حتى يتباهى الناسُ في المساجد" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1190، ومسلم: 1394
(2) أخرجه أحمد وغيره بإِسناد صحيح وصححه جمْع ذكَرهم شيخنا في "الإرواء"
(1129)، وانظر "صحيح سنن ابن ماجه" (1155).
(3) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1156) وغيرهما.
(4) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1159)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (267) وغيرهم.
(5) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (432)، والنسائي =
(2/259)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أُمرت بتشييد المساجد، قال ابن عباس:
لتزخرفنّها كما زخرَفَت اليهود والنصارى" (1).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا زخرفتم مساجدكم وحلّيتم مصاحفكم فالدمار
عليكم" (2).
وعن نافع أنّ عبد الله أخبره "أنَّ المسجد كان على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبنيّاً باللِّبن وسقفه الجريدُ (3) وعمدُه
(4) النخيل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً" (5).
وفى "صحيح البخاري" معلّقاً بصيغة الجزم (6): "وأمر عمر ببناء المسجد وقال:
أَكِنَّ (7) الناس من المطر، وإيّاك أن تُحمرَ أو تُصَفرَ فتفتن الناس وقال
__________
= "صحيح سنن النسائي" (665)، وابن ماجه، وانظر "المشكاة" (719).
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (431)، وانظر "المشكاة" (718).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وعبد الله ابن المبارك في "الزهد"،
وانظر "الصحيحة" (1351).
(3) الجريد: الذي يُجرد ويُزال عنه الخوص [أي: الورق] ولا يسمّى جريداً ما
دام عليه الخوص، وانظر "مختار الصحاح".
(4) وعَمَده: بفتح أوله وثانيه ويجوز ضمهما، قال الحافظ في "الفتح": (1/
540): أي: أقامه بعماد ودعمه". والعماد: خشبة تقوم عليها الخيمة. "الوسيط".
(5) أخرجه البخاري: 446
(6) انظر "الفتح" (1/ 539).
(7) من الكِنّ: وهو ما يرُدّ الحرّ والبرد من الأبنية والمساكن، ومعنى أكن
النّاس من المطر: أي: صُنهم واحفظهم. "النهاية".
(2/260)
أنس: يتباهون بها ثمَّ لا يعْمُرونها إلاَّ
قليلا".
الترغيب في تنظيفها وتطهيرها وتجنيبها الأقذار والروائح الكريهة وما جاء في
تجميرها (1):
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ امرأة سوداء كانت تقُمُّ (2) المسجد،
ففقدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل عنها بعد
أيامٍ، فقيل له: إِنّها ماتت. فقال: فهلا آذنتموني؟ فأتى قبرها، فصلى
عليها" (3).
وفي رواية: "إِنّ امرأة كانت تلقط الخِرَق والعِيدان من المسجد" (4).
وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتَّخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن نُنظّفها"
(5).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببناء المساجد في الدُّور، وأن تُنظّف وتُطيّب" (6).
وعن أنس بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ
__________
(1) أي: تبخيرها، والعنوان من "كتاب الترغيب والترهيب" للمنذري.
(2) تقمّ: أي: تكنّس.
(3) أخرجه البخاري: 460، ومسلم: 956، وابن ماجه بإِسناد صحيح واللفظ له،
وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (272).
(4) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (272).
(5) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (274).
(6) أخرجه أحمد وغيره، وصحّحه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (275).
(2/261)
جاء أعرابيّ، فقام يبول في المسجد، فقال
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَهْ مَهْ (1)،
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تُزرموه (2)
دعوه، فتركوه حتّى بال، ثمَّ إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دعاه فقال له: إِنَّ هذه المساجد لا تَصْلُح لشيء من هذا البول
ولا القَذَر، إِنّما هي لذِكر الله عزّ وجلّ، والصلاة وقراءة القرآن، أو
كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فأمَر رجلاً
من القوم فجاء بدلو من ماءٍ فشنّه (3) عليه" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قام أحدُكم إِلى الصلاة فلا يبصُق أمامه، فإِنّما
يُناجي الله ما دام في مصلاّه، ولا عن يمينه؛ فإِنَّ عن يمينه مَلَكاً،
وليبصُق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنُها" (5).
وعن جابر بن عبد الله أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "من أكلَ ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو قال: فليعتزل مسجدنا- وليقعد
في بيتها، أنَّ (6) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي
بقدرٍ فيه خَضِرات (7) من بقولٍ فوجد لها ريحاً، فسأل فأُخبر بما فيها من
البُقول فقال: قرّبوها -إِلى بعض أصحابه كان معه- فلمّا رآه كره أكلها قال:
__________
(1) اسم فعل أمر مبني على السكون معناه: اكفُف.
(2) أي: لا تقطعوا عليه بوله.
(3) فشنّه: أي: صبّه.
(4) أخرجه البخاري: 220، 6128، ومسلم: 284 وهذا لفظه.
(5) أخرجه البخاري: 416، ومسلم: 552
(6) يجوز فيها الكسر والفتح.
(7) أي: بقول واحد ها خَضِرة. "النهاية".
(2/262)
كُلْ، فإِني أُناجي من لا تُناجى" (1).
وفي رواية: "من أكل البصل والثوم والكرّاث (2) فلا يقربنَّ مسجدنا فإِنّ
الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم" (3).
وخطب عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة، فقال: " ... ثمَّ إِنّكم أيها الناس
تأكلون شجرتين لا أراهما إلاَّ خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا وجد ريحمها من الرجل في
المسجد أمَرَ به فأُخرج إِلى البقيع، فمن أكلهما فليُمتْهما طبخاً" (4).
أمّا ما لم يكن للمرء فيه كسب ولا هو يملك إِزالته كالبخر، فإِنَّه لا يلحق
بالروائح الكريهة، والشارع الحكيم إِنّما منع أكل الثوم وغيره من حضور
المساجد والحصول على فضيلة الجماعة؛ عقوبةً له على عدم مبالاته بإِيذاء
المؤمنين والملائكة المقرّبين، فلا يجوز أن يحرم من هذه الفضيلة صاحب
الأبْخَرُ ونحوه لما ذكرناه من الفارق. عن "تمام المنّة": (ص 295) ملخّصاً.
كراهة نشْد الضالة والبيع والشراء في المسجد:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"من سمع رجلاً ينشد
__________
(1) أخرجه البخاري: 855، ومسلم: 564
(2) الكُرّاث: عشب ذو بصلة أرضية له رائحة قوية. الوسيط -بحذف-.
(3) أخرجه مسلم: 564
(4) أخرجه أحمد، ومسلم: 567 وغيرهما.
(2/263)
ضالَّةً (1) في المسجد، فليقل: لا ردَّها
الله عليك. فإِنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا" (2).
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه أنَّ رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إِلى
الجمل الأحمر. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا
وجدْتَ إِنّما بُنيت المساجد لما ُبُنِيَت له" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح
الله تجارتك" (4).
وفي رواية: "وإِذا رأيتم من ينشد فيه ضالّة فقولوا: لا ردّ الله عليك" (5).
عدم رفع الصوت فيها:
عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنَّه اطلع من
بيته والناس يصلّون يجهرون بالقراءة، فقال لهم: إِنَّ المصلّي يُناجي ربّه،
فلينظر بما يُناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" (6).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "اعتكف رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) يطلب ما ضاع له.
(2) أخرجه مسلم: 568
(3) أخرجه مسلم: 569
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1066) والدارمي وابن خزيمة في
"صحيحه" (1305) وغيرهم، وصححه شيخنا في "الإرواء" (1295).
(5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1066) والدارمي وابن خزيمة في
"صحيحه" (1305) وغيرهم، وصححه شيخنا في "الإرواء" (1295).
(6) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وغيره، وانظر "الصحيحة" (1603).
(2/264)
في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في
قُبّةٍ له، فكشف الستور وقال: ألا إِنّ كلكم مناجٍ ربّه، فلا يؤذينَّ بعضكم
بعضاً، ولا يرفعنَّ بعضكم على بعض بالقراءة. أو قال: في الصلاة" (1).
ويجوز التحدّث بما هو مباح في المسجد، حتى لو صاحبه تبسّم وضَحك؛ لحديث
سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سَمُرهّ: أكنتَ تجالس رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، كثيراً. كان لا يقوم من مُصلاه
الذي يُصلّي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإِذا طلعت الشمس قام،
وكانوا يتحدثون. فيأخذون في أمر الجاهلية. فيضحكون ويتبسَّم" (2).
ويشرع إِنشاد الشعر المشتمل المعاني الحسنة، المتضمّن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ونحو ذلك، فعن عبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشعر بمنزلة الكلام، حسنُه كحسن
الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام" (3).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: "الشِّعر حسَن ومنه قبيح، فخُذ
بالحسن، ودع القبيح، ولقد رُوّيت من شعر كعب بن مالك أشعاراً؛ منها القصيدة
فيها أربعون بيتاً ودون ذلك" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود وإسناده صحيح على شرط الشيخين وانظر "صحيح سنن أبي
داود" (1183)، و"الصحيحة" (1603).
(2) أخرجه مسلم: 670
(3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وغيره، وهو صحيح لغيره كما في
"الصحيحة" (447).
(4) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وانظر "الصحيحة" (447).
(2/265)
وعن أبي هريرة "أنَّ عمر مرّ بحسّان وهو
ينشد الشعر في المسجد، فلحَظَ إِليه فقال: قد كنتُ أنشِدُ؛ وفيه مَن هو
خيرٌ منك، ثمَّ التفت إِلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعْتَ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: أجِبْ عنّي اللهمّ أيِّده بروح
القُدُس؟ قال: اللهمّ نعم" (1).
هل يُباح الأكل والشرب والنوم فيها؟
عن عبد الله بن الحارث قال: "كنّا نأكل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد الخبز واللحم" (2).
وعن سهل بن سعد قال: "ما كان لعليّ اسم أحبّ إِليه من أبي تراب، وإنْ كان
لفرح به إِذا دُعي بها، جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بيتَ فاطمة فلم يَجِد عليّاً في البيت، فقال: أين ابن عمّك؟ فقالت: كان
بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج، فلم يَقِلْ عندي. فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإِنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول
الله، هو في المسجد راقدٌ، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو مضطجعٌ؛ قد سقط رداؤه عن شقِّه فأصابه تراب، فجعل رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسحه عنه وهو يقول: قم أبا
تُراب، قم أبا تراب" (3).
قال البخاري: "وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عُكْل على النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانوا في الصُّفَّة (4)، وقال عبد
الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصُّفَّة
__________
(1) أخرجه البخاري: 453، ومسلم: 2485
(2) أخرجه ابن ماجه وصحح شيخنا إِسناده في "تمام المنّة" (ص 295).
(3) أخرجه البخاري: 6280، ومسلم: 2409
(4) الصُّفّة: موضع مظلل في المسجد النبوي، كانت تأوي إِليه المساكين. =
(2/266)
الفقراء" (1).
وعن نافع قال: "أخبرني عبد الله بن عمر أنَّه كان ينام وهو شاب أعزب، لا
أهل له في مسجد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
عدم اتخاذ المساجد طُرُقاً:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا المساجد طُرُقاً إلاَّ لذِكر أو صلاة" (3).
النهي عن تشبيك الأصابع عند الخروج إلى الصلاة:
عن كعب بن عُجْرة أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "إِذا توضّأ أحدُكم فأحسَن وضوءه، ثمَّ خرجَ عامداً إِلى المسجد؛ فلا
يشبكنّ بين أصابعه، فإِنَّه في صلاة" (4).
الصلاة بين السواري:
عن معاوية بن قرّة عن أبيه قال: "كُنّا نُنهى أن نصفَّ بين السواري على عهد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونُطرد عنها طرداً" (5).
__________
= "فتح" (1/ 535).
(1) تقدّم موصولاً من هذا الكتاب (1/ 50).
(2) أخرجه البخاري: 440
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وغيره، وانظر "الصحيحة" (1001).
(4) أخرجه أحمد والترمذي. وانظر "الإِرواء" (2/ 100)، و"الصحيحة" (3/ 284).
(5) أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة وغيرهم، وقال الحاكم صحيح الإِسناد ووافقه
الذهبي وانظر "الصحيحة" (335).
(2/267)
قال شيخنا في "الصحيحة" (335) بحذف وتصرف:
"وله شاهد من حديث أنس بن مالك يتقوّى به، ويرويه عبد الحميد بن محمود قال:
"صلّيت مع أنس بن مالك يوم الجمعة، فدُفِعنا إِلى السواري، فتقدّمنا
وتأخّرنا، فقال أنس: كنّا نتّقي هذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (1).
وهذا الحديث نصٌّ صريح في ترك الصف بين السواري، وأنّ الواجب أن يتقدّم أو
يتأخّر؛ إلاَّ عند الاضطرار؛ كما وقع لهم.
وعن ابن مسعود أنَّه قال: "لا تصفُّوا بين السواري". وقال البيهقي: "وهذا
-والله أعلم- لأنّ الأسطوانة تحول بينهم وبين وصل الصف" (2).
وقال مالك: "لا بأس بالصفوف بين الأساطين إِذا ضاق المسجد". انتهى.
ويستدلّ بعضهم على جواز الصلاة بين السواري بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-
قال: "دخل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت وأسامة بن
زيد وعثمان ابن طلحة وبلال فأطال، ثمَّ خرج، كنت أول الناس دخل على أَثَره،
فسألت بلالاً: أين صلّى؟ قال: بين العمودين المقدّمين" (3). وبما رواه
أيضاً أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة
وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحَجَبِيُّ، فأغلقها عليه ومكث فيها.
فسألتُ بلالا حين خرج: ما صنَع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؟ قال:
__________
(1) قال شيخنا -حفظه الله- أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان،
والحاكم، وغيرهم بسند صحيح؛ كما بيّنته في "صحيح أبي داود" (677).
(2) أخرجه ابن القاسم في "المدونة" (1/ 106)، والبيهقي (3/ 104) من طريق
أبي إِسحاق عن معدي كرب.
(3) أخرجه البخاري: 504، ومسلم: 1329
(2/268)
جعل عموداً عن يساره وعموداً عن يمينه
وثلاثة أعمدة وراءه. وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثمَّ صلّى. وقال لنا
إِسماعيل: حدَّثني مالك وقال: عمودين عن يمينه" (1).
وهذا بعيد جدّاً، وإِنما يستدلّ به للإِمام والمنفرد، لذلك بوّب له البخاري
-رحمه الله- بقوله: (باب الصلاة بين السواري في غير جماعة).
النهي عن التزام مكان خاص من المسجد:
عن عبد الرحمن بن شبل قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن نَقْرة الغراب (2) وافتراش السبُع (3) وأن يوطن الرجل
المكان في المسجد، كما يُوطِن البعير (4) " (5).
وسألت شيخنا -شفاه الله- هل ترون هذا للتحريم، فقال: نعم.
قال ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 130): من سبق إلى مكان من
__________
(1) أخرجه البخاري: 505، ومسلم: 1329
(2) نَقْرة الغراب: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكُث فيه إلاَّ قَدْر وضع
الغراب منقاره فيما يريد أكْله، "النهاية".
(3) افتراش السبُع: هو أن يبسُط ذراعيه في السجود ولا يرفعهما عن الأرض؛
كما يبسُط الكلب والذئب ذراعيه، والافتراش: افتعال؛ من الفرش والفراش.
"النهاية".
(4) يوطن البعير: قيل: معناه أن يألف الرجل مكاناً معلوماً من المسجد
مخصوصاً به؛ يصلّي فيه كالبعير لا يأوي إِلى مَبْرَك قد أوطنه واتخذَه
مُناخاً. "النهاية" بحذف.
(5) أخرجه أحمد وابن خزيمة وأبو داود والنسائي وغيرهم، وحسنه شيخنا لغيره
في "الصحيحة" (1168).
(2/269)
المسجد فهو أحق به ما دام ثابتاً فيه،
فإِذا زال عنه زال حقه، إِذ ليس أحد أحق به من أحد، قال الله عزّ وجلّ:
{وأن المساجد لله} (1) الآية. وقال: {إِنما يعمر مساجد الله من آمن بالله
واليوم الآخر} (2).
المواضع المنهي عن الصلاة فيها:
1 - الصلاة في المقبرة:
عن أبي سعيد عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأرض
كلّها مسجد إلاَّ الحمّام والمقبرة" (3).
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور
أنبيائهم مسجداً، قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أخشى (4) أن
يُتَّخذ مسجداً" (5).
وعنها أيضاً أنَّ أمّ سلمة ذَكَرت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كنيسة رأتها بأرض الحبشة يُقال لها: مارية، فذكَرت له ما رأت
فيها من الصّور، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"أولئك قومٌ إِذا مات فيهم العبد الصالح -أو الرجل الصالح- بنوا على قبره
__________
(1) الجنّ: 18
(2) التوبة: 18
(3) أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وغيرهم وقال شيخنا: وهذا إِسناد صحيح
على شرط الشيخين، وانظر "الإِرواء" تحت الحديث (287).
(4) قال الحافظ ابن حجر: "وكأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم
أنه مرتحِل من ذلك المرض، فخاف أن يُعظَّم قبره كما فعل من مضى، فلعن
اليهود والنصارى إِشارة إِلى ذمّ من يفعل فِعلهم".
(5) أخرجه البخاري: 1330، ومسلم: 531
(2/270)
مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصُّور، أولئك
شرار الخلق عند الله" (1).
قال شيخنا -حفظه الله-: "الذي يمكن أن يُفهَم من هذا الاتخاذ [أي: اتخاذ
القبور مساجد]، إِنما هو ثلاث معان:
الأول: الصلاة على القبور، بمعنى السجود عليها.
الثاني: السجود إِليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
الثالث: بناء المساجد عليها، وقصْد الصلاة فيها" (2).
ولا فرق فيما قلنا بين المقبرة فيها قبر أو أكثر.
قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 298): قال: [أي: شيخ الإِسلام
-رحمه الله تعالى-] في "الاختيارات العلمية": "ولا تصحّ الصلاة في المقبرة
ولا إِليها، والنهي عن ذلك إِنّما هو سدّ لذريعة الشرك، وذكر طائفة من
أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة، لأنه لا يتناوله اسم
المقبرة، وإنّما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً (3)، وليس في كلام أحمد وعامّة
أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند
قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قُبر فيه، لا أنه جمْع
قبر، وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة ممّا حول القبور لا يصلى
فيه، فهذا يعين أنّ المنع يكون متناولاً لحرمة القبر المنفرد وفنائه
__________
(1) أخرجه البخاري: 434، ومسلم: 528
(2) انظر للمزيد والتفصيل "تحذير الساجد" (ص 21).
(3) ويردّ على هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصلوا
إِلى قبر ولا تصلوا على قبر" أخرجه الطبراني في "الكبير" وغيره، وانظر
"الصحيحة" (1016).
(2/271)
المضاف إليه، وذكر الآمدي وغيره أنه لا
تجوز الصلاة فيه، أي: المسجد الذي قبلته إِلى القبر حتى يكون بين الحائط
وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد".
2 - الحمّام:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الأرض كلّها مسجد إلاَّ الحمام والمقبرة" (1).
فائدة: وقد ورد في بعض النصوص النهيُ عن الصلاة في مواطن معيّنة، كالصلاة
في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق وأعطان الإِبل وفوق ظهر بيت الله، وقد
بيّن شيخنا ضعف هذا الحديث في "تمام المنّة" (ص 299) -بحذف- وقال رادّاً
على الشيخ السيد سابق -حفظهما الله تعالى-.
" ... قلت: فذَكَر المواضع المذكورة، ثمَّ نقل عن الترمذي تضعيفه الحديث،
وأقرّه على ذلك، وهو الصواب كما هو مُبيّن في "الإرواء" (287)، فعادت
الدعوى بدون دليل صحيح، فكان على المؤلّف أن يورد أحاديث أخرى صحيحة تشهد
للحديث، ولو في بعض مفرداته:
فمنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأرض كلها مسجد؛
إلاَّ المقبرة والحمام".
ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا حضرت الصلاة فلم
تجدوا إلاَّ مرابض الغنم وأعطان الإِبل فصلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في
أعطان الإِبل" (2).
__________
(1) تقدّم.
(2) أخرجه أحمد والدارمي وابن ماجه وغيرهم بسند صحيح على شرط الشيخين من
حديث أبي هريرة.
(2/272)
ولا أعلم حديثاً صحيحاً في النهي عن الصلاة
في المواطن الأخرى، ولا يجوز القول ببطلانها فيها إلاَّ بنص عنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليعلم".
ما جاء في الصلاة في البِيَع (معابد النصارى) ونحوها:
جاء في "صحيح البخاري" تحت (باب الصلاة في البِيعة) وقال عمر - رضي الله
عنه-: "إِنا لا ندخلُ كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصُّور، وكان ابن
عباس يصلّي في البيعة إِلاَّ بيعةً فيها تماثيل" (1).
والذي قد بدا لي أنَّ الأصل جواز الصلاة في مِثل هذه المعابد إِذا أُمنت
الفتنة وخلت من التماثيل وأرى في زماننا هذا المنع للعامّة من باب سدّ
الذريعة -والله تعالى أعلم-.
ما جاء في الصلاة في مواضع الخسف (2) والعذاب:
قال البخاري تحت (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب): ويذكر أنَّ علياً
-رضي الله عنه- كره الصلاة بخسف بابل (3).
__________
(1) كذا أورده معلّقاً بصيغة الجزم وقال الحافظ: "وهذا الأثر وصَله عبد
الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: لمّا قدم عمر الشام صنع له رجل من
النصارى طعاماً، وكان من عظمائهم وقال: أحبّ أن تجيئني وتُكرمني. فقال له
عمر: إِنّا لا ندخُل كنائسكم من أجل الصُّور التي فيها، يعني: التماثيل.
(2) قال الحافظ: "المراد بالخسف هنا ما ذكر الله تعالى في قوله: {فأتى الله
بنيانهم من القواعد فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم} ". النحل: 26
(3) أخرجه البخاري معلّقاً غير مجزوم به، وقال الحافظ: "وهذا الأثر رواه
ابن أبي شيبة من طريق عبد الله ابن أبي المُحِلّ قال: "كنّا مع عليّ؛
فمرَرْنا على الخسف الذى ببابل؛ فلم يصلِّ حتى أجازه" أي تعدّاه".
(2/273)
ثمَّ ذكر حديث عبد الله بن عمر (1) (برقم:
433) أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا
تدخلوا على هؤلاء المعذّبين؛ إلاَّ أن تكونوا باكين، فإِن لم تكونوا باكين
فلا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم" (2).
الصلاة في الكعبة:
عن ابن عمر قال: دخل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت
وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال فأطال، ثمّ خرج، كنت أوّل الناس دخل
على أَثرِه، فسألتُ بلالاً: أين صلّى؟ قال: بين العمودين المقدّمين" (3).
وفي رواية لابن عمر أيضاً أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحَجَبيّ،
فأغلقها عليه ومكث فيها. فسألت بلالا حين خرج: ما صنع النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: جعل عموداً عن يساره وعموداً عن يمينه
وثلاثة أعمدة وراءه. وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثمَّ صلّى، وقال لنا
إِسماعيل: حدثني مالك وقال: عمودين عن يمينه" (4).
وعن نافع أنَّ عبد الله كان إِذا دخل الكعبة مشى قِبلَ وجهه حين يدخل، وجعل
الباب قِبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبل وجهه قريباً من
ثلاثة أذرع صلّى يتوخّى المكان الذي أخبره به بلال أنَّ النّبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى فيه. قال: وليس على أحدنا بأس إِن صلّى
في أي نواحي البيت شاء" (5).
__________
(1) هو في مسلم: 2980
(2) أخرجه مسلم: 2980
(3) أخرجه البخاري: 504، ومسلم: 1329، وتقدّم.
(4) أخرجه البخاري: 505، ومسلم: 1329، وتقدّم.
(5) أخرجه البخاري: 506
(2/274)
|