الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

السترة
حُكمها:
السترة واجبة على الإمام والمنفرد وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تُصلِّ إلاَّ إِلى سُترة، ولا تَدع أحداً يمرُّ بين يديك، فإِنْ أبى فلتقاتِله؛ فإِنَّ معه القرين (1) " (2).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّى أحدكم إِلى سترة؛ فليدْنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (3).
ولا يعني قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّى أحدكم إِلى سترة" جواز الصلاة إِلى غير سترة؛ إِذ مفهوم الحديث: أنَّ من صلّى إِلى سترة ولم يدْنُ منها فهو مُعرّضٌ لقطع صلاته من قِبَل الشيطان، فكيف بمن لم يصلِّ إِلى سترة!
قال شيخنا في "تمام المِنّة" (ص 300): وإنَّ ممّا يؤكدّ وجوبها أنها سبب شرعي لعدم بطلان الصلاة بمرور المرأة البالغة والحمار والكلب الأسود، كما صحّ ذلك في الحديث، ولمنع المار من المرور بين يديه، وغير ذلك من الأحكام المرتبطة بالسترة، وقد ذهب إِلى القول بوجوبها الشوكاني في "نيل الأوطار" (3/ 2)، و"السيل الجرار" (1/ 176)، وهو الظاهر من
__________
(1) في الحديث: "ما منكم من أحد إلاَّ وقد وكلّ به قرينه من الجن". أخرجه مسلم: 2814، وغيره.
(2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" بسند جيد. وانظر "صفة الصلاة" (ص 82).
(3) أخرجه أبو داود والبزار والحاكم وصحّحه، ووافقه الذهبي والنووي. وانظر "صفة الصلاة" (ص 82).

(2/275)


كلام ابن حزم في "المحلى" (4/ 8 - 15).

السُّترة في الكعبة والمسجد الحرام:
عن صالح بن كيسان قال: رأيت ابن عمر يصلّي في الكعبة، ولا يدع أحداً يمر بين يديه (1).
وعن يحيى بن أبي كثير قال: رأيت أنس بن مالك دخل المسجد الحرام، فركز شيئاً، أو هيأ شيئاً يصلّي إليه (2).

بمَ تتحقّق؟
تتحقق السترة بالأُسطوانة:
فعن يزيد بن أبي عبد قال: "كان سلمة بن الأكوع يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة التي عِند المصحف (3). فقلت له: يا أبا مسلم! أراك تتحرّى الصلاة عند هذه الأُسطوانة، قال: رأيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرّى الصلاة عندها" (4). والعصا المغروزة، فإِن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان إِذا صلّى [في فضاء ليس فيه شيء يستتر به] غرَز بين يديه حربة فصلّى إِليها والناس وراءه" (5). وتتحقق السترة
__________
(1) أخرجه أبو زرعة في "تاريخ دمشق" وابن عساكر بسند صحيح وانظر "الضعيفة" تحت الحديث (928).
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" بسند صحيح، وانظر "الضعيفة" تحت الحديث (928).
(3) وفي رواية لمسلم: "مكان المصحف".
(4) أخرجه مسلم: 509
(5) أخرجه البخاري: 494، ومسلم: 501 وانظر "صفة الصلاة" لأجل الزيادة (ص83).

(2/276)


كذلك بالراحلة يعرّضها (1) فيصلّي إليها، فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يعرّض راحلته فيصلّي إِليها" (2).
وبالشجرة " فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى مرّة إِلى شجرة" (3). وبالجدار (4) وبالسرير (5) وما هو مثل مؤخرة الرحل -وهو أقلّ ما يجزئ- لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا وضع أحدكم بين يديه مثلُ مؤخِرة الرحل فليصلِّ ولا يبالِ من مرَّ وراء ذلك" (6).

سترة الإِمام سترة من خلفه:
قال البخاري (باب سترة الإِمام سترة مَن خَلفه) وذكر تحته حديث ابن عباس برقم (493): "أقبلتُ راكباً على حمارٍ أتانٍ (7) وأنا يومئذ قد ناهزْتُ الاحتلام ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي بالناس بمنى إِلى غير جدار (8)، فمررتُ بين
__________
(1) يعرِّض: بتشديد الراء: أي: يجعلها عَرضاً.
(2) أخرجه البخاري: 507
(3) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح. وانظر "صفة الصلاة" (ص 83).
(4) لحديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- الآتي قريباً -إِن شاء الله- بلفظ: "كان بين مصلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الجدار ممرّ شاة".
(5) لحديث عائشة -رضي الله عنها-: " ... والله لقد رأيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي وإنّي على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة". أخرجه البخاري: 514، ومسلم: 512
(6) أخرجه مسلم: 499
(7) الحمارة الأنثى. "النهاية".
(8) لا يستلزم أن يكون إِلى غير سُترة، إِذ كل جدار سُترة، وليس كل سترة جداراً، وتبويب البخاري -رحمه الله- يدلّ عليه بالتأمّل، إِذ كيف يتحدّث عن سترة الإِمام =

(2/277)


يدي بعض الصفّ، فنزلتُ وأرسلتُ الأتانَ تَرتَع ودخلتُ في الصفّ، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد" (1).
ثمَّ أورد البخاري (2) -رحمه الله- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلّي إِليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمِن ثَمَّ اتخذها الأمراء".
وذكر بعده (3) حديث عون بن أبي جحيفة قال: "سمعت أبي أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى بهم بالبطحاء -وبين يديه عَنَزَة (4) - الظهر ركعتين والعصر ركعتين تَمُرُّ بين يديه (5) المرأة والحمار".

دنوّ المصلي من السترة واقترابه منها:
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم: "إِذا صلّى أحدكم إِلى سترةٍ فليدْنُ منها".
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: "كان بين مصلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين
__________
= أنها سترة من خلفه، ويوردُ حديثاً ليس للإِمام فيه سُترة! ونقل الحافظ في "الفتح" (1/ 572) قول النووي في "شرح مسلم" -في كلامه على فوائد هذا الحديث-: فيه أنّ سترة الإمام سترة لمن خلفه.
(1) أخرجه مسلم: 504
(2) وأخرجه مسلم: 501
(3) وأخرجه مسلم: 503
(4) العَنَزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئاً. "النهاية".
(5) أي: بين العَنَزَة والقبلة، لا بينه وبين العَنَزَة، كما ذكر الحافظ في "الفتح".

(2/278)


الجدار ممرّ الشاة" (1).
"وكان بينه وبين الجدار الذي قِبَل وجهه قريباً من ثلاثة أذرع" (2).

تحريم المرور بين يدي المصلِّي ودفْع المارّ ومقاتلته ومنع بهيمة الأنعام ونحوها من ذلك:
جاء في "صفة الصلاة" (ص 83، 84): " ... وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدَع شيئاً يمرّ بينه وبين السترة، فقد "كان يصلّي، إِذ جاءت شاة تسعى بين يديه؛ فساعاها (3) حتى ألزق بطنه بالحائط، [ومرَّت من ورائه] " (4).
و"صلّى صلاة مكتوبة فضمَّ يده، فلما صلّى قالوا: يا رسول الله! أحدَث في الصلاة شيء؟ قال: (لا؛ إلاَّ أنَّ الشيطان أراد أن يمرَّ بين يدي، فخنقتُه حتى وجدْت برد (5) لسانه على يدي، وأيم الله لولا ما سبقني إِليه أخي سليمان؛ لارتُبط إِلى سارية من سواري المسجد، حتى يطيف به ولدان أهل المدينة، [فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل] " (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 496، ومسلم: 508 وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 506
(3) أي: سابقَها.
(4) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(5) أي: ريق. "المحيط".
(6) أخرجه أحمد والدارقطني والطبراني بسند صحيح، قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: وهذا الحديث قد ورد معناه في "الصحيحين" وغيرهما عن جمْع من الصحابة.

(2/279)


وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا صلّى أحدكم إِلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه؛ فليدفع في نحره، [وليدرأ ما استطاع] (وفي رواية: فليمنعه، مرّتين)، فإِنْ أبى فليقاتله، فإِنّما هو شيطان" (1).
وكان يقول: "لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه" (2).

ما يقطع الصلاة:
إِذا لم يتخذ المصلي سترة؛ فإِنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود لحديث أبي ذرّ -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام أحدكم يصلّي، فإِنَّه يستره إِذا كان بين يديه مثل آخِرةِ الرَّحْل. فإِذا لم يكن بين يديه مِثلُ آخِرةِ الرَّحْل، فإِنَّه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود". قلت: يا أبا ذرّ ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي! سألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان" (3).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "تمام المِنّة" (ص 307): " ... ووجَبَ القول بأن الصلاة يقطعها الأشياء المذكورة عند عدم السترة.
__________
(1) أخرجه البخاري: 509، ومسلم: 507، والرواية الأخرى لابن خزيمة (1/ 94/1).
(2) أخرجه البخاري: 510، ومسلم: 507
(3) أخرجه مسلم: 510

(2/280)


وهو مذهب إِمام السنّة أحمد بن حنبل -رحمه الله- وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية".

لا يجزئ الخطّ في السترة
لا يجزئ الخطّ في السُّترة، ولا أعلم فيه حديثاً ثابتاً، وما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صلّى أحدكم؛ فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإِنْ لم يَجد شيئاً؛ فلينصب عصاً، فإِن لم يكن من عصاً؛ فليخُطّ خطاًّ، ولا يضرّه ما مرّ بين يديه".
وممّا قاله شيخنا في "تمام المنّة" (ص 300): "الحديث ضعيف الإِسناد لا يصحّ وإِن صحّحه مَن ذكرهم المؤلف، فقد ضعّفه غيرهم، وهم أكثر عدداً، وأقوى حُجة، ولا سيّما وأحمد قد اختلف في الرواية عنه فيه، فقد نقَل الحافظ في "التهذيب" عنه أنه قال: "الخطّ ضعيف".
وذكر في "التلخيص" تصحيح أحمد له نقلاً عن "الاستذكار" لابن عبد البرّ، ثم عقَّب على ذلك بقوله: "وأشار إِلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم".
وقال مالك في "المدوّنة": "الخط باطل".