الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الجمعة
فضل يوم الجمعة:
1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه
أُدخل الجنّة، وفيه أُخرِج منها، ولا تقوم الساعة إلاَّ في يوم الجمعة"
(1).
2 - وعن أبي لبابة بن عبد المنذر قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إِنَّ يوم الجمعة سيّد الأيام، وأعظمها عند الله،
وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال (2): خلق الله
فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إِلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعة
لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلاَّ أعطاه؛ ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم
الساعة، ما من ملك مقرَّب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر؛
إلاَّ وهن يُشفِقن من يوم الجمعة" (3).
وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ هذا يومُ عيد، جعَله الله للمسلمين، فمن جاء
الجمعة فليغتسل، وإن كان طيبٌ فليمَسَّ منه، وعليكم بالسواك" (4).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "عُرضت الجمعة على
__________
(1) أخرجه مسلم: 854
(2) مفردها: خَلَّة: وهي الخَصلة، يُقال: فيه خَلَّه حسنة وخَلةٌ سيئة.
"الوسيط"
(3) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (888)، وحسنه شيخنا في "المشكاة"
(1363).
(4) أخرجه ابن ماجه بإِسناد حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (706).
(2/356)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ جاءه بها جبرائيل عليه السلام في كفّه كالمرآة البيضاء، في
وسطها كالنكتةِ السوداء، فقال: ما هذه يا جبرائيل؟ قال: هذه الجمعة، يعرضها
عليك ربُّك؛ لتكون لك عيداً، ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير، تكون أنت
الأوّل، وتكون اليهود والنصارى من بعدك، وفيها ساعةٌ لا يدعو أحدٌ ربَّه
فيها بخير هو له قُسِمَ، إلاَّ أعطاه، أو يتعوّذ من شرّ؛ إلاَّ دفع عنه ما
هو أعظم منه، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد ... " (1).
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها،
ويبعث يوم الجمعة زهراء منيرة، أهلها يحفُّون بها كالعروس تُهْدَى إِلى
كَريمها، تُضيءُ لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضاً، وريحهم تسطع
كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إِليهم الثقلان، ما يطرقون تعجُّباً
حتى يدخلوا الجنّة، لا يخالطهم أحد إلاَّ المؤذنون المحتسبون" (2).
الدعاء فيه:
1 - عن عبد الله بن سلام قال: "قلت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - جالس؛ إِنّا لنجد في كتاب الله في يوم الجمعة؛ ساعة لا يوافقها
عبد مؤمن يصلّي يسأل الله فيها شيئاً؛ إلاَّ قضى له حاجته. قال عبد الله:
فأشار إِلىّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعض ساعة،
فقلت: صدقت، أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال هي آخر
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" بإِسناد جيد، وانظر "صحيح الترغيب
والترهيب" (691).
(2) أخرجه ابن خزيمة والحاكم وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (706).
(2/357)
ساعات النهار، قلت: إِنّها ليست ساعة صلاة،
قال: بلى إِنّ العبد المؤمن إِذا صلى ثمَّ جلس؛ لا يحبسه إلاَّ الصلاة فهو
في الصلاة" (1).
2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ في الجُمُعة لساعة؛ لا يوافقها مسلم يسأل الله
فيها خيراً، إلاَّ أعطاه إياه" (2).
3 - عن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة؛ لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله عزّ
وجلّ شيئاً؛ إلاَّ آتاه إِيّاها، فالتمسوها آخر ساعة بعد صلاة العصر" (3).
استحباب كثرة الصلاة والسلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ليلة الجمعة ويومها:
عن أوس بن أوس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إِنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه
قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثِروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإِنَّ
صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: يا رسول الله! وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت
(4) يقولون: بليت، فقال:
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (934)، وانظر "صحيح الترغيب
والترهيب" (701).
(2) أخرجه مسلم: 852
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (926) وغيره، وانظر "صحيح الترغيب
والترهيب" (702).
(4) جاء في "النهاية" (وقد أَرَمَّتَ): قال الحربي: هكذا يرويه المحدِّثون
ولا أعرف وجهه، والصواب أَرَمَّتْ ... أو رَمِمْتَ: أي: صرْتَ رميماً وقال
غيره: إِنّما هو أرَمْتَ بوزن ضربْتَ وأصله أرمَمْتَ: أي: بَليِتَ .... قال
ابن الأثير بعد تفصيل: فإِن صحت الرواية =
(2/358)
إِنَّ الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أجساد
الأنبياء" (1).
عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أكثروا
الصلاة عليّ يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلّى عليّ صلاة؛ صلّى الله عليه
وسلّم عشرا" (2).
استحباب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلته:
عن أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما
بين الجمُعتين" (3).
وفي رواية: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين
البيت العتيق" (4). وفي رواية لأبي سعيد موقوفاً: "من قرأ سورة الكهف؛ ليلة
الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق" (5).
__________
= ولم تكن محرّفة؛ فلا يمكن تخريجه إلاَّ على لغة بعض العرب ... فيكون لفظ
الحديث: أَرَمَّتَ بتشديد الميم وفتح التاء والله أعلم.
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (925)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (889)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1301)، وانظر "الإِرواء" (4)،
و"الصحيحة" (1527)، و"صحيح الترغيب رالترهيب" (695).
(2) أخرجه البيهقي وغيره، وانظر "الصحيحة" (1407).
(3) أخرجه النسائي والبيهقي وغيرهما وانظر "الإِرواء" (626)، و"صحيح
الترغيب والترهيب" (735).
(4) أخرجه البيهقي في "شعب الإِيمان" وغيره، وانظر "الصحيحة" (2651)،
و"الإرواء" (3/ 94)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (735).
(5) أخرجه الدارمي في "سننه" وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (735).
(2/359)
الغسل والتجمّل والسواك والتطيّب:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ هذا يوم عيد، جَعَله الله للمسلمين، فمن جاء
الجمعة فليغتسل، وإِن كان طيبٌ فليمسّ منه، وعليكم بالسواك" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا كان يوم الجمعة، فاغتسل الرجل، وغسل رأسه،
تمَّ تطيّب من أطيب طيبه، ولَبِس من صالح ثيابه، ثمَّ خرج إِلى الصلاة، ولم
يُفرّق بين اثنين، ثمَّ استمع للإِمام، غُفر له من الجمعة إِلى الجمعة،
وزيادة ثلاثة أيام" (2).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (3)، وسواك، ويمسّ من
الطيب قَدَرَ عليه" (4).
وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن شيخ من الأنصار قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثٌ حقٌّ على كلّ مسلم: الغسل يوم
الجمعة والسواك ويمسّ من طيبٍ إِنْ وجد" (5).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه بإِسناد حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (706)،
وتقدّم غير بعيد.
(2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (704).
(3) أي: بلغ سنّ الاحتلام.
(4) أخرجه مسلم: 848
(5) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا في "الصحيحة" (1796).
(2/360)
وعن عبد الله بن سلام أنَّه سمع رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر في يوم الجمعة: "ما
على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة؛ سوى ثوب مهنته" (1).
وعن سلمان الفارسي قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو
يمس من طيب بيته، ثمَّ يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثمَّ يصلّي ما كتب له،
ثمَّ ينصت إِذا تكلّم الإِمام؛ إلاَّ غفر له ما بينه وبين الجمُعة الأخرى"
(2).
التبكير إِلى الجمعة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثمَّ راح فكأنما قرّب
(3) بدنة (4)، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في
الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما
قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإِذا خرج
الإِمام حضرت الملائكة يستمعون
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (954)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (898) وغيرهما، وانظر "غاية المرام" (76).
(2) أخرجه البخاري: 883، 910، وفي رواية: "وزيادة ثلاثة أيام" وانظر "صحيح
الترغيب والترهيب" (704).
(3) أي: تصدّق بها متقرباً إِلى الله تعالى، "فتح" (2/ 367).
(4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 367): "والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا
خلاف، وانظر -إِن شئت- الكتاب المشار إليه للمزيد من الفوائد".
(2/361)
الذكر" (1).
وعن أوس بن أوس الثقفي -رضي الله عنه- قال: سمعْت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، وبكّر
وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإِمام فاستمع ولم يلْغُ، كان له بكلّ
خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها" (2).
وأوّل ساعة تبدأ من طلوع الشمس في الغالب كما أفادني شيخنا -شفاه الله-،
ولكن قد يتفق أهل حيٍّ أو قرية على الصلاة في وقتٍ ما قبل الزوال؛ فعندئذ
تكون الساعة الخامسة قبل صعود الإِمام المنبر، وترتيب الساعات الباقية
معروفة. والله أعلم.
وسألت شيخنا -شفاه الله تعالى- عن أول تبكير صلاة الجمعة فقال: متى يصلّي
العيد؟ قلت: بعد ارتفاع وقت الكراهة، فقال: هذا هو.
الدنو من الإِمام:
عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احضروا الذِّكر وادنوا من الإِمام، فإِنّ الرجل لا
يزال يتباعد؛ حتى يُؤخَّر في الجنّة وإنْ دخلها" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 881، 929، ومسلم: 850
(2) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسّنه النسائي وابن ماجه وغيرهم، وانظر
"صحيح الترغيب والترهيب" (687).
(3) أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (36)، وتقدّم حديث
أوس بن أوس الثقفي: " ... ودنا من الإمام".
(2/362)
عدم تخطّي الرقاب:
عن عبد الله بن بُسر قال: "جاء رجل يتخطى رقاب النّاس يوم الجمعة والنّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس فقد آذيت وآنيت (1) " (2).
تخطي الرقاب لحاجة:
عن عقبة بن الحارث قال: "صلّيت وراء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالمدينة العصر، فسلّم ثمَّ قام مسرعاً، فتخطى رقاب الناس إِلى
بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنّهم عجبوا من
سرعته فقال: ذكرت شيئاً من تبْرٍ (3) عندنا، فكرهت أن يحبسني فأُمرت
بقِسمته" (4).
مشروعية التنفّل قبلها:
1 - عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلّي بعدها ركعتين
في بيته، ويُحدّث أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يفعل ذلك" (5).
2 - وعن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"من اغتسل ثمَّ أتى الجمعة فصلّى ما قُدِّرَ له ثمَّ أنصت حتى يفرغ من
خطبته، ثمَّ يصلّيَ معه غُفر له ما بينه وبين
__________
(1) آنيت: أي: آذيت بتخطّي الرقاب وأخّرت المجيء وأبطأت. "مجمع".
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (989) وغيرهما، وانظر "صحيح
الترغيب والترهيب" (713).
(3) ما كان من الذهب غير مضروب. قاله الكرماني (5/ 198).
(4) أخرجه البخاري: 851
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (998)، وانظر "تمام المنّة" (326).
(2/363)
الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام" (1).
إِذا رأى الإِمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلّي ركعتين (2).
عن جابر بن عبد الله قال: "جاء رجل والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصلّيت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم
فاركع" (3).
وفي رواية: "إِذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب؛ فليركع ركعتين
وليتجوّز (4) فيهما" (5).
تحوُّل مَن غلبه النعاس عن مكانه:
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: "إِذا نعس أحدكم وهو في المسجد؛ فليتحوّل من مجلسه ذلك إِلى غيره"
(6).
وجوب صلاة الجمعة:
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذا نُودي للصلاة (7) من يوم
الجُمُعة
__________
(1) أخرجه مسلم: 857
(2) هذا العنوان من البخاري.
(3) أخرجه البخاري: 930، ومسلم: 875
(4) فليخفّفها ويسرع بها وهو من الجَوْز: القطع والسَّير. وانظر "النهاية".
(5) أخرجه مسلم: 875
(6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (990) وغيرهما، وانظر
"الصحيحة" (468).
(7) قال شيخنا -شفاه الله- تعليقاً على الحديث (2206) من "الضعيفة": "وقد
اختلفوا في الأذان المحرِّم للعمل: أهو الأول أم الآخر؟ والصواب أنه الذي
يكون =
(2/364)
فاسعَوا إِلى ذِكر الله وذَرُوا البيعَ
ذلكم خيرٌ لكم إِنْ كنتم تعلَمون} (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، بَيْد
أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثمَّ هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه
فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبَعٌ، اليهود غداً (2) والنصارى بعد غد (3) "
(4).
وعن عبد الله بن مسعود أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال لقوم يتخلّفون عن الجمعة: "لقد هممْتُ أن آمر رجلا يصلّي بالناس، ثمَّ
أُحَرِّقَ على رجال يتخلّفون عن الجمعة بيوتهم" (5).
وعن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على أعواد منبره: "لَينتَهينّ أقوام عن ودْعِهم
(6) الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثمَّ ليكونُنّ من الغافلين" (7).
__________
= والإمام على المنبر، لأنه لم يكن غيره في زمن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يصحّ حمل الآية على الأذان الذي لم يكن ولم
يوجد إلاَّ بعد وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
(1) الجمعة: 9
(2) أي: السبت.
(3) أي: الأحد.
(4) أخرجه البخاري: 876، ومسلم: 855، وفي رواية له برقم (856): "فكان
لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يومُ الأحد".
(5) أخرجه مسلم: 652
(6) أي: ترْكهم.
(7) أخرجه مسلم: 865
(2/365)
وعن أبي الجعد الضَّمْري وكانت له صحبة عن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من ترك ثلاث جمع تهاوناً
بها؛ طبع الله على قلبه" (1).
وعن أسامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من ترك ثلاث جمعات من غير عُذر؛ كُتب من المنافقين" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من ترك الجمعة ثلاث جُمَع متواليات،
فقد نبذَ الإِسلام وراء ظهره" (3).
ولما تقدّم من النصوص أقول:
يجب شهود الجمُعة على كلّ مسلم، ويُستثنى من ذلك: العبد المملوك (4)،
والمرأة والصبي والمريض الذي يشقّ عليه حضورها، أو يخاف زيادة المرض أو
تأخّر البرء.
فعن طارق بن شهاب عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"الجمعة حقٌّ واجب على كل
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (928) والنسائي والترمذي
وابن ماجه، وانظر "المشكاة" (1371)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (726).
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" وحسنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب"
(728).
(3) أخرجه أبو يعلى موقوفاً بإِسناد صحيح، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"
(732).
(4) وسألت شيخنا -حفظه الله تعالى-: "هل تسقط عنه الجمعة إِذا منعَه سيده،
فقال: في الأصل تسقط الجمعة عنه".
(2/366)
مسلم في جماعة إلاَّ أربعةً: عبدٌ مملوك أو
امرأةٌ أو صبيٌّ أو مريضٌ" (1).
ويلحق بالمريض من يقوم على عنايته إِذا دعَت الحاجة إِلى ذلك، فعن إِسماعيل
بن عبد الرحمن "أنَّ ابن عمر -رضي الله عنهما- دُعي يوم الجمعة وهو يتجهّز
للجمعة إِلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو يموت، فأتاه وترَك الجمعة".
وفي رواية ... : "مرض في يوم الجمعة فركب إِليه بعد أن تعالى النهار
واقتربت الجمعة وترك الجمعة" (2)
ويستثنى من ذلك أيضاً المسافر لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس على مسافر جمعة" (3)، ولقول
عمر لأحدهم: "اخرُج؛ فإِنَّ الجمعة لا تحبس عن سفر" (4).
"وقد دلّ الاستقراء على أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- سافر هو وأصحابه في الحج وغيره، فلم يصلِّ أحدٌ منهم الجمعة مع اجتماع
الخلق الكثير" (5).
ويستثنى من ذلك أيضاً كلّ معذور أُذن له أن يترك الجماعة لعُذر المطر أو
الوحل أو البرد ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (942) وغيره وانظر"الإِرواء"
(592).
(2) كذا في "الإِرواء" (552)، وقال شيخنا فيه: أخرجه البخاري والبيهقي،
وأخرجه الحاكم ... بلفظ: "أنَّه استصرخ في جنازة سعيد بن زيد بن عمرو بن
نفيل وهو خارج من المدينة يوم الجمعة، فخرج إِليه ولم يشهد الجمعة".
(3) تقدّما في باب السفر يوم الجمعة.
(4) تقدّما في باب السفر يوم الجمعة.
(5) انظر "الإِرواء" (594).
(2/367)
فعن عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما-
أنَّه قال لمؤذِّنه في يوم مطير: إِذا قلت: "أشهد أن لا إِله إلاَّ الله،
أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلّوا في بيوتكم،
قال: فكانّ الناس استنكروا ذاك فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذا مَن هو خير
منّي؛ إِنَّ الجمعة عَزْمَة (1) وإني كرهتُ أن أُخرجكم فتمشوا في الطين
والدَّحْضِ (2) " (3).
وعن أبي المليح عن أبيه أنّه شهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - زمن الحديبية في يوم جمعة وأصابهم مطر؛ لم تبتلّ أسفل نعالهم
فأَمَرهم أن يصلّوا في رحالهم" (4).
أداء الجمعة في المسجد الجامع:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الناسُ ينتابون يومَ الجُمعة (5) من
منازلهم العوالي (6) ... " (7).
وقال عطاء (8) إِذا كنت في قرية جامعة؛ فنُوديَ بالصلاة من يوم الجمعة
__________
(1) أي: واجبة متحتمة ضد الرخصة.
(2) قال النووي: الدحض والزلل والزلق ... كله بمعنى واحد.
(3) أخرجه البخاري: 616، ومسلم 699 وهذا لفظه، وتقدّم.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (932)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (764)، وانظر "الإرواء" (2/ 341).
(5) أي: أتونها ويقصدونها، وفي "الفتح" أي: يحضرونها نوباً، وفي رواية:
يتناوبون.
(6) هي القرى التي حول المدينة على أربعة أميال فصاعداً منها.
(7) أخرجه البخاري: 902، ومسلم: 847
(8) قال عطاء: وصَله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه.
(2/368)
فحقٌّ عليك أن تشهدها، سمعْتَ النداء أو لم
تسمعه (1)، وكان أنس (2) -رضي الله عنه- في قصره أحياناً يُجمِّعُ،
وأحياناً لا يُجمِّع، وهو بالزاوية (3) على فرسخين".
وجاء في "الإِرواء" (3/ 81) برقم (625) -بحذف-: "حديث أنَّ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه لم يقيموا إلاَّ جمعة واحدة"،
صحيح متواتر كذا قال ابن الملقن في "البدر المنير" (ق 52/ 1) ويعني:
التواتر المعنوي، وإلاَّ فإِنّي لا أعرف حديثاً واحداً بهذا اللفظ، وما أظن
المؤلّف أراد أنَّ هذا اللفظ وارد، بل هو مأخوذ بالاستقراء كما قال الحافظ
في "التلخيص" (ص 132) قال: فلم يكن بالمدينة مكان يجمع فيه إِلا مسجد
المدينة، وبهذا صرّح الشافعي فقال: "ولا يُجمع في مصر وإن عظُم، ولا في
مساجد إِلا في مسجد واحد، وذلك لأنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، والخلفاء بعده لم يفعلوا إلاَّ كذلك". وروى ابن المنذر عن ابن
عمر أنّه كان يقول: لا جمعة إلاَّ في المسجد الأكبر الذي يُصلّي فيه
الإِمام، وروى أبو داود في "المراسيل" عن بكير بن الأشج أنَّه كان بالمدينة
تسعة مساجد مع مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يسمع أهلها
تأذين بلال، فيصلّون في مساجدهم، زاد يحيى بن يحيى في روايته: "ولم يكونوا
يصلّون في شيء من تلك المساجد إلاَّ في مسجد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". أخرجه البيهقي في "المعرفة".
__________
(1) يُفهم جواز عدم تلبية نداء الصلوات المكتوبة إِذا لم يسمعها.
(2) وكان أنس -إِلى قوله- لا يُجمّع: وصله مسدد في مسنده الكبير عن أبي
عوانة عن حميد بهذا. "فتح" (2/ 385).
(3) الزاوية: موضع ظاهر البصرة معروف، كانت فيه وقعه كبيرة بين الحجاج وابن
الأشعث. "فتح" (2/ 385).
(2/369)
ويشهد له صلاة أهل العوالي مع النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة كما في "الصحيح" ... ".
وقتها:
قال شيخنا في "الأجوبة النافعة" (ص20 - 25) -بتصرف-: للأذان المحمدي وقتان:
الأول: بعد الزوال مباشرة، وعند صعود الخطيب.
والآخر: قبل الزوال عند صعود الخطيب أيضاً، وهذا مذهب أحمد بن حنبل -رحمه
الله- وغيره.
أما الأوّل فدليله حديث السائب بن يزيد: "أنّ الأذان كان أوله حين يجلس على
المنبر" (1). فهذا صريح في أنّ الأذان كان حين قيام سبب الصلاة، وهو زوال
الشمس عن وسط السماء، مع جلوس الإِمام على المنبر في ذلك الوقت، ويشهد لهذا
[ما ثبت] عن سعد القَرَظ مؤذّن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - "أنَّه كان يؤذّن يوم الجمعة على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذا كان الفيء مثل الشراك (2) " (3). أخرجه
ابن ماجه (1/ 342)، والحاكم: (3/ 607).
__________
(1) أخرجه البخاري: 912، وخرّجه شيخنا وجمع ألفاظه وطرقه وزياداته في
"الكتاب المشار إِليه" (ص 8).
(2) الشراك: أحد سُيور النعل التي تكون على وجهها، وقدْره ها هنا ليس على
معنى التحديد، ولكن زوال الشمس لا يبين إلاَّ بأقلّ ما يُرى من الظلّ ...
والظلّ يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. "النهاية".
(3) وذلك يكون أول ما يظهر زوال الشمس وهو المراد. قاله أبو الحسن السندي
على ابن ماجه.
(2/370)
وقال الحافظ ابن حجر: في النسائي: أن خروج
الإِمام بعد الساعة السادسة وهو أول الزوال (1).
الأحاديث في الوقت الآخر (قبل الزوال):
وأمّا الوقت الآخر ففيه أحاديث:
1 - عن سلمة بن الأكوع قال: "كنّا نُجمِّع (2) مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا زالت الشمس، ثمَّ نرجع نتتبع الفيء"
(3).
2 - عن أنس "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي
الجمعة حين تميل الشمس" (4).
__________
(1) قال شيخنا في التعليق: في "تلخيص الحبير" (4/ 580) وهو يشير بذلك إِلى
حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما
قرّب بدنة ... " الحديث، وفيه: "ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب
بيضة، فإِذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"، وهو في "الصحيحين"
أيضاً .... وقد ناقش السندي ما ذكره الحافظ أن خروج الإِمام بعد الساعة
السادسة فقال: "ولا يخفى أن زوال الشمس في آخر الساعة السادسة وأول الساعة
السابعة، ومقتضى الحديث أن الإِمام يخرج عند أول الساعة السادسة، ويلزم منه
أن يكون خروج الإِمام قبل الزوال فليتأمل"، وقد أجاب عن هذا الحافظ بما
تراه مشروحاً في كتابه "فتح الباري" (2/ 294) فليراجعه من يشاء ..
(2) أي: نصلّي الجمعة.
(3) أخرجه البخاري: 4168، ومسلم: 860
(4) أخرجه البخاري: 904. جاء في "عون المعبود" (3/ 300) -بحذف يسير-: إِذا
مالت الشمس أي: زالت الشمس، قال الطيبي: أي يزيد على الزوال مزيداً يُحسّ
ميلانها. وفي "المرقاة": أي: مالت إِلى الغروب وتزول عن استوائها بعد تحقق
الزوال.
(2/371)
3 - عن جابر -رضي الله عنه-: "كان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ زالت الشمس صلّى الجمعة"
(1).
وهذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على ما ذكَرنا، وذلك أنّه من المعلوم أنّه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قبل الصلاة خطبتين؛ يقرأ
فيهما القرآن ويذكّر الناس؛ حتى كان أحياناً يقرأ فيها {ق والقرآن المجيد}.
ففي "صحيح مسلم" (3/ 13) عن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: "ما
أخذْتُ {ق والقران المجيد} إلاَّ عن لسان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأها كلّ يوم جمعة على المنبر إِذا خطب الناس"
[وتقدّم]. وصحّ عنه أنَّه قرأ فيها سورة براءة. رواه ابن خزيمة في "صحيحه"
والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وغيره.
فإِذا تذكَّرنا هذا علِمْنا أنّ الأذان كان قبل الزوال حتماً، وكذا الخطبة
طالما أن الصلاة كانت حين الزوال، وهذا بيِّنٌ لا يخفى والحمد لله.
وأصرح من هذه الأحاديث في الدلالة على المطلوب حديث جابر الآخر وهو:
4 - وعنه قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي
الجمعة ثمَّ نذهب إِلى جِمالنا فنريحها حين تزول الشمس، يعني: النواضح"
(2).
فهذا صريح في أنَّ الصلاة كانت قبل الزوال، فكيف بالخطبة والأذان؟
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
(2) أخرجه مسلم: 858، وغيره. والنواضح: الإبل التي يُستقى عليها، واحدها
ناضِح. "النهاية".
(2/372)
الآثار في الوقت
الآخر (قبل الزوال):
ويشهد لذلك آثار من عمل الصحابة نذكر بعضها للاستشهاد بها.
1 - عن عبد الله بن سيدان السلمي قال: "شهدتُ الجمعة مع أبي بكر الصديق،
فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثمَّ شهِدنا مع عمر فكانت خطبته وصلاته
إِلى أن أقول: انتصف النهار، ثمَّ شهدنا مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إِلى
أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكَره" (1).
2 - وعن عبد الله بن سلمة قال: "صلّى بنا عبد الله الجمعة ضحى، وقال: خشيت
عليكم الحرّ" (2).
3 - وعن سعيد بن سويد قال: "صلّى بنا معاوية الجمعة ضحى" (3).
4 - وعن بلال العبسي: "أن عمّاراً صلّى بالناس الجمعة، والناس فريقان:
بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزُل" (4).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 206/2)، والدارقطني (169)، قال شيخنا -حفظه
الله-: وإسناده محتمل للتحسين، بل هو حسن على طريقة بعض العلماء كابن رجب
وغيره.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة، ورجاله ثقات غير عبد الله بن سلمة، ورجّح شيخنا
حِفْظه لِما شاهد وقال: فالأرجح أن هذا الأثر صحيح، ولعله من أجل ما ذكَرنا
احتجّ به الإمام أحمد ...
(3) أخرجه ابن أبي شيبة عن عمرو بن مرة عنه، قال شيخنا -حفظه الله -: وسعيد
هذا لم يذكروا له راوياً غير عمرو هذا، ومع ذلك ذكره ابن حبان في "الثقات"
(1/ 62).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح.
(2/373)
5 - وعن أبي رزين قال: "كنا نصلّي مع عليّ
الجمعة، فأحيانا نجد فيئاً، وأحياناً لا نجده" (1).
العدد الذي تنعقد به الجمعة:
قال الإِمام الشوكاني (2) -رحمه الله- في الرد على من يقول في عددها
"وثلاثة مع مقيمها": هذا الاشتراط لهذا العدد لا دليل عليه قط، وهكذا
اشتراط ما فوقه من الأعداد. وأمّا الاستدلال بأنّ الجمعة أقيمت في وقت كذا
وعدد من حضَرها كذا؛ فهذا استدلال باطل لا يتمسّك به من يعرف كيفية
الاستدلال، ولو كان هذا صحيحا لكان اجتماع المسلمين معه صلّى الله عليه
وآله وسلّم في سائر الصلوات دليلا على اشتراط العدد.
والحاصل أنّ صلاة الجماعة قد صحّت بواحد مع الإِمام، وصلاة الجمعة هي صلاة
من الصلوات، فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة فعليه الدليل،
ولا دليل ...
[و] الشروط إِنّما تثبت بأدلّة خاصّة، تدلّ على انعدام المشروط عند انعدام
شرطه، فإِثبات مِثل هذه الشروط بما ليس بدليل أصلاً؛ فضلا عن أن يكون
دليلاً على الشرطية؛ مجازفةٌ بالغة وجرأة على التّقوّل على الله وعلى رسوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى شريعته.
والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد، حتى بلغت إِلى خمسة عشر
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح على شرط مسلم، قال شيخنا: وهذا يدل
لمشروعية الأمرين، الصلاة قبل الزوال، والصلاة بعده، كما هو ظاهر. ولهذه
الأحاديث والآثار كان الإِمام أحمد -رحمه الله- يذهب إِلى جواز صلاة الجمعة
قبل الزوال، وهو الحقّ كما قال الشوكاني وغيره.
(2) "السيل الجرار" (1/ 297).
(2/374)
قولا، وليس على شيء منها دليل يستدل به
قطّ؛ إلاَّ قول من قال: إِنّها تنعقد جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر
الجماعات.
قال شيخنا -شفاه الله-: وهذا هو الصواب إِن شاء الله تعالى وانظر التعليق
على الحديث (1204) من "الضعيفة".
مكان الجمعة:
يصحّ أداء الجمعة حيثما كان المرء سواءٌ أكان من أهل المدُن أو القرى أو
المياه.
فعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "أوّل جمعة جمّعت بعد جمعةٍ جمّعت في
مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجد عبد القيس؛
بجُواثى يعني من البحرين" (1).
وروى ابن أبي شيبة في "باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها" من طريق أبي
رافع؛ عن أبي هريرة أنهم كتبوا إِلى عمر يسألونه عن الجمعة فكتب: "جمّعوا
حيثما كنتم" (2).
وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك قال: "كان أصحاب محمد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمّعون"
(3).
قال شيخنا في "السلسلة الضعيفة" تحت الحديث (917): وترجم له
__________
(1) أخرجه البخاري: 4371
(2) قال شيخنا -حفظه الله- في "الضعيفة" تحت الحديث (917)، وإسناده صحيح
على شرط الشيخين.
(3) انظر "الضعيفة" تحت الحديث (917) و"تمام المنّة" (ص 332).
(2/375)
البخاري (أي: لحديث ابن عباس أول جمعة
جمّعت ... " وأبو داود بـ "باب الجمعة في القرى".
قال الحافظ: "ووجه الدلالة منه أنّ الظاهر أن عبد القيس لم يجمّعوا إلاَّ
بأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِما عرف من عادة
الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنّه لو
كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدلّ جابر وأبو سعيد على جواز
العزل بأنّهم فعلوه والقرآن ينزل، فلم يُنهَوا عنه".
قلت [أي: شيخنا]-حفظه الله-: وفي هذه الآثار السلفية عن عمر ومالك وأحمد من
الاهتمام العظيم اللائق بهذه الشعيرة الإِسلامية الخالدة: صلاة الجمعة، حيث
أُمِروا بأدائها والمحافظة عليها حتى في القرى وما دونها من أماكن التجمع،
وهذا ....... هو الذي يتفق مع عمومات النصوص الشرعية وإطلاقاتها، وبالغ
التحذير من تركها -وهي معروفة- وحسبي الآن أن أذكِّر بآية من القرآن: {يا
أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمُعة فاسعَوا إِلى ذِكر الله
وذروا البيع}، وصلاة الظهر بعدها ينافي تمامها: {فإِذا قُضيت الصلاة
فانتشِروا في الأرض وابتغوا من فضْل الله}.
وقال الشوكاني -رحمه الله- في "السيل الجرار" (1/ 298) -ردّاً على من يقول
مشترطاً "ومسجد في مستوطن"-: "وهذا الشرط ... لم يدل عليه دليل يصلح للتمسك
به لمجرد الاستحباب فضلاً عن الشرطية، ولقد كثر التلاعب بهذه العبادة وبلغ
إِلى حد تَقْضِى منه العجب.
والحق أنَّ هذه الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه وشعار من شعارات
(2/376)
الإِسلام وصلاة من الصلوات فمن زعم أنّه
يعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها من الصلوات لم يسمع منه ذلك إلاَّ بدليل
وقد تخصصت بالخطبة وليست الخطبة إلاَّ مجرد موعظة يتواعظ بها عباد الله
فإِذا لم يكن في المكان إلاَّ رجلان قام أحدهما يخطب واستمع له الآخر ثمَّ
قاما فصليا صلاة الجمعة".
الجمعة لا تخالف الصلوات إِلاَّ في مشروعيّة الخطبة قبلها (1):
وهي كسائر الصلوات لا تُخالفُها؛ لكونه لم يأت ما يدلّ على أنها تخالفها في
غير ذلك، وفي هذا الكلام إِشارة إِلى ردّ ما قيل: إِنّه يُشترط في وجوبها
الإِمام الأعظم، والمصر الجامع، والعدد المخصوص، فإِنّ هذه الشروط لم يدلّ
عليها دليل يفيد استحبابها؛ فضلاً عن وجوبها، فضلاً عن كونها شروطاً، بل
إِذا صلّى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعةً، فقد فعلا ما يجب
عليهما، ولولا حديث طارق بن شهاب المذكور (2) من تقييد الوجوب على كلّ مسلم
بكونه في جماعة، ومن عدم إِقامتها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في زمنه في غير جماعة، لكان فعْلها فرادى مجزئاً كغيرها من الصلوات.
ومن تأمَّل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله تعالى عليهم
في الأسبوع، وجعَلها شعاراً من شعائر الإِسلام، وهي صلاة الجمعة من الأقوال
الساقطة والمذاهب الزائغة والاجتهادات الداحضة، قضى من ذلك العجب، فقائل
يقول: الخطبة كركعتين وإِنّ من فاتته لم تصحّ جمعته، وكأنّه لم يبلغه ما
ورد عن رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلم- من طرق متعددة يقوّي
__________
(1) هذا العنوان وما يتضمنه من "الروضة الندية" (1/ 342 - 345) بحذف.
(2) وتقدّم.
(2/377)
بعضها بعضاً، ويشدّ بعضها من عضد بعض أنّ:
"من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة فليضف إِليها أخرى وقد تمّت صلاته" (1).
ولا بلَغه غير هذا الحديث من الأدلّة، وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلاَّ
بثلاثة مع الإِمام. وقائل يقول: بأربعة. وقائل يقول: بسبعة. وقائل يقول:
بتسعة. وقائل يقول: باثني عشر. وقائل يقول: بعشرين. وقائل يقول: بثلاثين،
وقائل يقول: لا تنعقد إلاَّ بأربعين. وقائل يقول: بخمسين. وقائل يقول: لا
تنعقد إلاَّ بسبعين. وقائل يقول: فيما بين ذلك. وقائل يقول: بجمع كثيرٍ من
غير تقييد. وقائل يقول: إِن الجمعة لا تصح إلاَّ في مصر جامع، وحده بعضهم
بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف، وآخر قال أن يكون فيه جامع
وحمّام. وآخر قال: أنْ يكون فيه كذا وكذا، وآخر قال: إِنّها لا تجب إِلا مع
الإِمام الأعظم. فإِنْ لم يوجد أو كان مختلّ العدالة بوجه من الوجوه لم تجب
الجمعة ولم تشرع.
ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها أثارة من عِلم، ولا يوجد في كتاب الله
تعالى ولا في سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرف
واحد يدلّ على ما ادّعوه، من كون هذه الأمور المذكورة شروطاً لصحة الجمعة،
أو فرضاً من فرائضها، أو ركناً من أركانها؛ فيالله العجب، ما يفعل الرأي
بأهله، ومن يخرج من رؤوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدّث الناس به في
مجامعهم، وما يُخبرونه في أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة، وهي عن
الشريعة المطهّرة بمعزل، والحكم بين العباد هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله
-صلّى الله عليه وآله وسلم- كما قال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردُّوه
إلى الله
__________
(1) تقدّم، وانظر "صحيح سنن النسائي" (543).
(2/378)
والرسول} (1) [فالمرجع] مع الاختلاف إِلى
حُكم الله ورسوله، وحُكم الله هو كتابه، وحُكم رسوله، بعد أن قبضه الله
تعالى هو سنّته ليس غير ذلك، ولم يجعل الله تعالى لأحد من العباد، وإنْ بلغ
في العِلم أعلى مبلغ، وجمع منه ما لا يجمع غيره، أن يقول في هذه الشريعة
بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، والمجتهد وإنْ جاءت الرخصة له بالعمل
برأيه عند عدم الدليل، فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان،
وإني -كما علم الله- لا أزال أُكثِر التعجب من وقوع مِثل هذا للمصنّفين،
وتصديره في كتب الهداية، وأمر العوامّ والمقصّرين باعتقاده والعمل به، وهو
على شفا جرفٍ هار، ولم يختصّ هذا بمذهب من المذاهب ولا بقطر من الأقطار،
ولا بعصر من العصور، بل تبع فيه الآخر الأول؛ كأنّه أخَذه من أمّ الكتاب،
وهو حديث خرافة، وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإِشارة
إِليها بلا برهان ولا قرآن ولا شرع ولا عقل، والبحث في هذا يطول جدّاً".
الخطبة
تجب خطبة الجمعة لمواظبة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عليها وعدم ترْكه لها أبداً.
قال محمّد صديق البخاري في كتابه "الموعظة الحسنة" (2):
قد ثبت ثبوتاً يفيد القطع أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة التي شرعها الله سبحانه وتعالى. وقد أمَر
الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إِلى ذِكر الله عزّ وجلّ؛ والخُطبة من
ذِكر الله.
__________
(1) النساء: 59
(2) انظر "الأجوبة النافعة" (ص52).
(2/379)
قال شيخنا -حفظه الله- في "الأجوبة
النافعة" (ص53) وثبوت الأمر بالسعي إِليها؛ يتضمّن الأمر بها من باب أولى،
لأنّ السعي وسيلة إِليها؛ فإِذا وجبت الوسيلة، وجب المتوسَّل إِليه
بالأحرى.
قال محمّد صدّيق البخاري في "الموعظة الحسنة": وظاهر محافظته على ما ذكر في
الخطبة وجوب ذلك، لأنَّ فعله بيان لما أجمل في آية الجمعة، وقد قال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" (1). وقد
ذهب إِلى هذا الشافعي. وقال بعضهم: مواظبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دليل الوجوب. قال في "البدر التمام": "وهو الأظهر".
والقول بالوجوب هو الذي ذهب إِليه جمهور أهل العلم مستدلّين بما تقدّم،
والله تعالى أعلم.
تسليم الإِمام إِذا رقى المنبر:
عن جابر -رضي الله عنه-: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذا صعَد المنبر سلَّم" (2).
قال شيخنا -حفظه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (2076): وممّا يشهد للحديث
ويقوّيه أيضاً؛ جريان عمل الخلفاء عليه، فأخرج ابن أبي شيبة عن أبي نضرة
قال: "كان عثمان قد كبر، فإِذا صعَد المنبر سلّم، فأطال قدْر ما يقرأ
إِنسان أمّ الكتاب". وإسناده صحيح.
ثمَّ روى عن عمرو بن مهاجر: "أنَّ عمر بن عبد العزيز كان إِذا استوى على
__________
(1) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (910) وغيره، وانظر "الصحيحة" (2076).
(2/380)
المنبر سلّم على الناس وردّوا عليه". وسنده
صحيح أيضاً.
استقبال المأمومين للخطيب:
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "الصحيحة": استقبال الخطيب من السنن
المتروكة وذكَر تحته حديث رقم (2080): "كان إذا صعد المنبر؛ أَقْبَلْنا
بوجوهنا إِليه". ثمَّ ذكر بعض الآثار في ذلك منها:
أثر نافع من حديث ابن المبارك: "أنَّ ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة
قبل خروج الإِمام، فإِذا خرَج لم يقعد الإِمام حتى يستقبله"، وقال شيخنا:
وهذا إِسناد جيد ...
وقال شيخنا كذلك -بحذف-: وهناك آثار أخرى كثيرة، أخرجها ابن أبي شيبة في
"المصنف"، وكذا عبد الرزاق في "مصنفه" (3/ 217 - 218) من ذلك عند ابن أبي
شيبة عن المستمر بن الريان قال: رأيت أنساً عند الباب الأول يوم الجمعة قد
استقبل المنبر، قلت [أي: شيخنا]: وإِسناده صحيح على شرط مسلم.
وإنّ ممّا لا شك فيه أنّ جريان العمل بهذا الحديث من الصحابة ومن بعدهم؛
لَدليل قويّ على أنّ له أصلاً أصيلاً عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ولا سيما أنَّه يشهد له قول أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-
قال: "جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر
وجلسنا حوله ... ". أخرجه البخاري: (921 و1465 و2842 و6427) ومسلم: (3/ 101
- 102) [وغيرهما] ".
هذا وقد أورد البخاري الحديث في "باب يستقبل الإِمام القوم، واستقبال الناس
الإِمام إِذا خطب، واستقبل ابن عمر وأنس -رضي الله عنهم- الإِمام".
(2/381)
ثمَّ أسند تحته حديث أبي سعيد.
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 402): "وقد استنبط المصنف من الحديث مقصود
الترجمة، ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إِليه
غالباً".
قال: "من حكمة استقبالهم للإِمام التهيّؤ لسماع كلامه، وسلوك الأدب معه في
استماع كلامه، فإِذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه؛
كان أدعى لتفهُّم موعظته، وموافقته فيما شُرع له القيام لأجله".
التأذين إِذا جلس الخطيب على المنبر والمؤذّن الواحد يوم الجمعة.
عن السائب بن يزيد قال: "كان النداء يوم الجمعة أوّله إِذا جلس الإِمام على
المنبر؛ على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر
وعمر -رضي الله عنهما- فلمّا كان عثمان -رضي الله عنه- وكثُر الناس، زاد
النداءَ الثالثَ على الزوراء (1) " (2).
وعنه قال: "كان بلال يؤذّن إِذا جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على المنبر يوم الجمعة، فإِذا نزَل أقام" (3).
وعنه أيضاً: "أنَّ الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان -رضي
الله عنه- حين كثر أهل المدينة -ولم يكن للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مؤذِّن غير
__________
(1) الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة.
(2) أخرجه البخاري: 912
(3) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1321).
(2/382)
واحدٍ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس
الإِمام على المنبر" (1)
خطبة الحاجة:
من السنّة أن يستفتح الخطيب يوم الجمعة خطبته بخطبة الحاجة، وهذا نصّها:
إِنَّ الحمْدَ لله، نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ
أَنْفسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن
يُضْلل فلا هاديَ له، وأَشهَدُ أنْ لا إِله إلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له،
وأَشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عَبدهُ ورَسولهُ.
{يا أيّهَا الَذينَ آمَنُواْ اتَّقُوا الله حقَّ تُقَاته ولاَ تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِموُن} (2).
{يا أَيّهَا النَّاسُ اتَّقُوَا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِنْ نَّفْسٍ
وَاحدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
ونساءً واتَّقُوا الله الَذِي تساءَلُونَ به والأَرْحَام إِنَّ اللهَ كانَ
عَلَيْكُم رَقِيباً} (3).
{يا أيّهَا الَذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً
يُصْلحْ لَكُم أَعْمَالكُمْ ويَغْفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِع الله
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (4).
أمَّا بعد:
__________
(1) أخرجه البخاري: 913
(2) آل عمران: 102
(3) النساء: 1
(4) الأحزاب: 70، 71
(2/383)
فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدْي
هدْي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشرّ الأمور مُحدثاتها،
وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار" (1).
قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 335): "وكان أحياناً لا يذكر هذه الآيات
الثلاث".
صفة الخطبة وما يُعلّم فيها (2):
اعلم أنَّ الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة هو روح الخطبة الذي
لأجله شُرِعت.
وأما اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أو قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود، من
شرعية الخطبة، واتفاق مِثل ذلك في خُطبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، لا يدلّ على أنّه مقصود متحتم، وشرط لازم، ولا يشكّ منصف أنّ
معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة
__________
(1) أخرجه مسلم: 867، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1331)، وانظر "تمام
المنّة" (ص 335)، و"خطبة الحاجة" لشيخنا (ص 10)، وقال شيخنا تعليقاً عليها
في "الصحيحة" في مقدّمته النافعة: وهذه الخطبة تُسمّى عند العلماء بخطبة
الحاجة، وهي تشرع بين يدي كل خطبة، سواء كانت خطبة جمعة أو عيد أو نكاح أو
درس أو محاضرة، ولي رسالة خاصة جمعتُ فيها الأحاديث الواردة فيها وطرقها".
(2) هذا الموضوع وما يتضمّنه من كتاب "الموعظة الحسنة". ذكَره شيخنا -حفظه
الله- مع تعليقاته الطيبة في كتاب "الأجوبة النافعة" (ص 53) وما بعدها
-بتصرف يسير-.
(2/384)
عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-. وقد كان عرف العرب المستمر أنّ أحدهم إِذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول
مقالاً، شرع بالثناء على الله والصلاة على رسوله، وما أحسن هذا وأولاه!
ولكن ليس هو المقصود، بل المقصود ما بعده.
والوعظ في خطبة الجمعة هو الذي إِليه يُساق الحديث، فإِذا فَعَله الخطيب
فقد فَعل الفِعل المشروع، إِلا أنّه إِذا قدّم الثناء على الله، [والصلاة]
على رسوله، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتمّ وأحسن، وأمّا قصر
الوجوب بل الشرطية على الحمد والصلاة، وجعْل الوعظ من الأمور المندوبة فقط،
فمِن قلْب الكلام، وإِخراجِه عن الأسلوب الذي تقبّله الأعلام.
والحاصل: أن روح الخطبة هو الموعظة الحسنة، من قرآن أو غيره، وكان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتي في خطبته بالحمد لله
تعالى (1)، وبالشهادتين، وبسورة كاملة، فعن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان
قالت: "ما أخذْتُ {ق والقرآن المجيد} إلاَّ عن لسان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ يقرؤها كلّ يوم جمعة على المنبر إِذا خطب
الناس" (2). والمقصود الموعظة بالقرآن، وإيراد ما يمكن من زواجره؛ وذلك لا
يختصّ بسورةٍ كاملة.
فعن يعلى بن أميّة -رضي الله عنه- قال: "سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ على
__________
(1) قال شيخنا -حفظه الله- في التعليق: "المعروف أن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يذكر اسمه الشريف في الشهادة في الخطبة،
وأما أنَه كان يأتي بالصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فمما لا أعرفه في حديث".
(2) أخرجه مسلم: 872، 873. وتقدّم.
(2/385)
المنبر {ونادوا يا مالك} " (1).
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى
كأنّه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم، ويقول: أمّا بعد، فإِنَّ خير الحديث
كتاب الله، وخير الهدي (2) هدي محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة" (3). وفي رواية له: "كانت خطبة
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة يحمد الله ويثني
عليه، ثمَّ يقول على إِثر ذلك وقد علا صوته".
وفيه دليل على أنّه يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته، ويجزل كلامه، ويأتي
بجوامع الكلم من الترغيب والترهيب. ويأتي بقول: (أمّا بعد).
وظاهره أنَّه كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلازمها في جميع
خُطَبه. وذلك بعد الحمد والثناء والتشهد ... ".
وثبت أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل خطبة ليس فيها
تشهُّد (4) فهي كاليد
__________
(1) أخرجه البخاري: 3230، ومسلم: 871
(2) بضمّ الهاء وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضاً ... قاله
النووي (6/ 154).
(3) أخرجه مسلم: 867
(4) هي خطبة الحاجة، انظر للمزيد من الفائدة تفصيل شيخنا -عافاه الله
وشفاه- في "الصحيحة" (169).
(2/386)
الجذماء (1) " (2). وكان - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلّم أصحابه في خطبته قواعد الإِسلام وشرائعه،
ويأمرهم وينهاهم في خطبته إِذا عرض أمر أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن
يصلّي ركعتين؛ ويذكر معالم الشرائع في الخطبة؛ والجنّة والنار والمعاد،
فيأمر بتقوى الله، ويحذّر من غضبه، ويرغّب في موجبات رضاه، وقد ورد قراءة
آية، ففي حديث مسلم (862): "كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويذكّر الناس".
للجمعة خطبتان:
عن نافع عن عبد الله قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يخطب خطبتين يقعد بينهما" (3).
وعن جابر بن سمرة قال: كانت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خطبتان؛ يجلس بينهما، يقرأ
__________
(1) أي: كاليد المقطوعة، من الجَذْم: القطع. "النهاية". يعني: أنّ كلّ خطبة
لم يُؤتَ فيها بالحمد والثناء على الله؛ فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة
بها. قاله المناوي.
قال شيخنا في "الصحيحة" (1/ 327): "ولعل هذا هو السبب أو على الأقلّ من
أسباب عدم حصول الفائدة من كثير من الدروس والمحاضرات التي تُلقى على
الطلاب؛ أنها لا تفتتح بالتشهد المذكور، مع حرص النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البالغ على تعليمه أصحابه إياه ... فلعلَّ هذا الحديث
يذكِّر الخطباء بتدارك ما فاتهم من إِهمالهم لهذه السنّة، التي طالما
نبَّهنا عليها في مقدمة هذه السلسلة وغيرها".
(2) أخرجه أحمد والبخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"
(4052) وابن حبان وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (169).
(3) أخرجه البخاري: 928
(2/387)
القرآن ويذكّر الناس" (1).
قراءة القرآن في خطبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتذكير
الناس:
للحديث السابق.
قيام الخطيب وعدم قعوده:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة قائماً ثمَّ يجلس" (2).
وعن سماك قال: أنبأني جابر بن سمرة؛ "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم فيخطب قائماً،
فمن نبّأك أنَّه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله! صلّيت معه أكثر من
ألفي صلاة" (3).
عن كعب بن عُجْرَة قال: "دخل المسجد وعبد الرحمن بن أمّ الحكم يخطب قاعداً.
فقال: انظروا إِلى هذا الخبيث يخطب قاعداً. وقال الله تعالى: {وإِذا رأوا
تِجَارَةً أو لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْها وتَرَكُوك قَائماً} " (4).
رفع الصوت بالخطبة واشتداد غضب الخطيب:
عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه حتى كأنّه منذر
جيش، يقول: صبّحكم
__________
(1) أخرجه مسلم: 862، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 920، ومسلم: 861
(3) أخرجه مسلم: 862
(4) أخرجه مسلم: 864
(2/388)
ومسّاكم (1)، .. ويقول: بُعثت أنا والساعة
كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أمّا بعد: فإِنَّ خْير
الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمّد وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة
ضلالة، ثمَّ يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله ومن
ترك ديناً أو ضَياعاً فإِليّ وعليّ" (2).
قطع الإِمام الخطبة للأمر الطارئ يحدث:
عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يخطب فجاء الحسن والحسين -رضي الله عنهما- وعليهما قميصان
أحمران يعثُران فيهما، فنزل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقطع كلامه، فحملهما ثمَّ عاد إِلى المنبر ثمَّ قال: صدق الله {إِنّما
أموالُكم وأولادُكم فتنة} (3) رأيت هذين يعثُران في قميصيهما، فلم أصبر حتى
قطعْتُ كلامي فحملْتُهما" (4).
وعن أبي رفِاعة قال: "انتهيت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو يخطب قال: فقلت يا رسول الله رجل غريب؛ جاء يسأل عن دينه
لا يدرى ما دينه، قال: فأقبَل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وترك خطبته حتى انتهى إِليّ، فأُُتي بكرسي حَسِبتُ قوائمه
حديداً قال: فقعد عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وجعل يعلّمني ممّا علّمه الله، ثمَّ أتى
__________
(1) بعض حديث رواه مسلم (867)، وتقدّم.
(2) أخرجه مسلم: 867
(3) التغابن: 15
(4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (981)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1340)، وانظر "تمام المنّة" (336).
(2/389)
خطبته فأتمّ آخرها" (1).
حُرمة الكلام أثناء الخطبة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصِت والإِمام يخطب فقد
لغوت" (2).
عن عبد الله بن عمرو عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضَرها يلغو وهو حظّه منها، ورجل حضَرها
يدعو فهو رجل دعا الله عزّ وجلّ، إِنْ شاء أعطاه وإِنْ شاء منَعه، ورجل
حضَرها بإِنصات وسكوت، ولم يتخطّ رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً، فهي كفّارة
إِلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأنّ الله عزّ وجلّ يقول:
{من جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالها} (3) " (4).
وعن أبي ذر أنه قال: "دخلتُ المسجد يوم الجمعة والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فجلست قريباً من أُبيِّ بن كعب، فقرأ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سورة (براءة)، فقلت لأُبيٍّ: متى نزلت
هذه السورة؟ قال: فتجهّمني (5)، ولم يكلّمني، ثمَّ مكثتُ ساعةً،
__________
(1) أخرجه مسلم: 876
(2) أخرجه البخاري: 934، ومسلم: 851
(3) الأنعام: 160
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (984)، وابن خزيمة في "صحيحه"،
وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (722).
(5) أي: قطب وجهه وعبس، ونظر إِليَّ نظر المغضب المنكر، قاله المنذري في
"الترغيب والترهيب".
(2/390)
ثمَّ سألته؟ فتجهّمني، ولم يكلّمني. ثمَّ
مكثتُ ساعة، ثمَّ سألته؟ فتجهّمني، ولم يكلّمني. فلمّا صلّى النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت لأُبيّ: سألتك فتجهّمتني، ولم
تكلّمني؟ قال أُبيّ: مالك من صلاتك إلاَّ ما لغوت! فذهبتُ إِلى النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا نبيّ الله كنتُ بجنب أُبيّ
وأنت تقرأ (براءة)، فسألته: متى نزلت هذه السورة؟ فتجهّمني، ولم يكلّمني،
ثمَّ قال: مالك من صلاتك إلاَّ ما لغوت! قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق أُبيُّ" (1).
ورجّح النووي -رحمه الله- في "المجموع" (4/ 524) تحريم تشميت العاطس كردّ
السلام والإِمام يخطب. قال شيخنا -حفظه الله- في "تمام المنّة" (ص 339):
"وهذا هو الأقرب لما ذكرْتُه في "الضعيفة" تحت الحديث (5665).
ثمَّ وجدت لابن المنذر في "الأوسط" (4/ 73) قولاً في ذلك: "ثبتَ أنّ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قلت لصاحبك: أنصت
والإِمام يخطب فقد لغوت"، فالإِنصات يجب على ظاهر السنّة، وإباحة رد السلام
وتشميت العاطس غير موجود بحجة، والذي أرى أن يرد السلام إِشارة، ويشمت
العاطس إِذا فرغ الإِمام من خطبته".
جواز كلام المصلّين إِذا لم يخطب الإِمام وإِن جلسَ على المنبر:
عن ثعلبة بن أبي مالك: "إِنّهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر بن الخطاب -رضي
الله عنه- على المنبر، حتى يسكت المؤذن، فإِذا قام عمر
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (717،
718).
(2/391)
على المنبر، لم يتكلم أحد حتى يقضي خطبتيه
كلتيهما" (1).
الأمر بالتحية في خطبة الجمعة:
عن جابر بن عبد الله قال: "دخل سليك الغطفاني المسجد يوم الجمعة ورسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، فقال له رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اركع ركعتين، ولا تعودنَّ لمثل هذا.
يعني: الإِبطاء عن الخطبة، قاله لسليك الغطفاني" (2).
عدم إِطالة الموعظة يوم الجمعة:
عن جابر بن سمرة السوائي قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إِنما هنّ كلمات يسيرات" (3).
عن أبي وائل قال: "خطبنا عمّار فأوجز وأبلغ، فلمّا نزل قلنا يا أبا
اليقظان! لقد أبلغتَ وأوجزتَ فلو كنت تنفّست (4) فقال: إِنّي سمعت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إِنَّ طول صلاة الرجل
وقِصَر خطبته مئنّة (5) مِن فقهه، فأطيلوا الصلاة
__________
(1) قال شيخنا في "السلسلة الضعيفة" تحت الحديث (87): أخرجه مالك في
"موطئه" (1/ 126)، والطحاوي (1/ 217) والسياق له، وابن أبي حاتم في "العلل"
(1/ 201)، وإسناد الأولين صحيح. فثبت بهذا أن كلام الإِمام هو الذي يقطع
الكلام، لا مجرد صعوده على المنبر، وأنّ خروجه عليه لا يمنع من تحية
المسجد".
(2) أخرجه ابن حبان، والدارقطني، وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (466).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (979) وغيره.
(4) أي: أَطَلْت. "النهاية".
(5) أي: علامة يتحقّق فيها من فقهه.
(2/392)
واقصُروا الخطبة، وإنَّ من البيان سحرا"
(1).
وعن جابر بن سمرة قال: كنت أصلّي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فكانت صلاته قصداً (2) وخطبته قصداً" (3).
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُكثر الذكر ويُقلّ اللغو، ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة، ولا
يأنف أن يمشيَ مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة" (4).
هل يصلّي الظهر إِذا لم يصلِّ الجمعة؟
إِذا كان المرء ممّن تجب عليهم صلاة الجمعة، ولم يصلِّها، وليس له عُذرٌ في
ذلك، فلا يجوز له أن يصلّي الظهر بدلاً منها، وإنّما ذلك للمعذور.
ماذا إِذا فاتته ركعة من الجمعة؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك من الجُمُعة ركعة؛ فليَصِلْ إِليها أُخرى" (5).
وعنه -رضي الله عنه- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "من أدرك ركعة من الصلاة
__________
(1) أخرجه مسلم: 869
(2) وهو الوسط بين الطرفين الذي لا يميل إِلى أحد طرفي الإفراط والتفريط.
"النهاية".
(3) أخرجه مسلم: 866
(4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1341) والدارمي وغيرهما، وانظر
"المشكاة" (5833).
(5) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (920) والنسائي وغيرهما، وانظر
"الإرواء" (622).
(2/393)
فقد أدرك الصلاة" (1).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد أدرك الصلاة" (2).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "من أدرك من الجمعة ركعة فليُضف إِليها
أخرى، ومن فاتته الركعتان؛ فليُصلِّ أربعاً" (3).
وقال ابن عمر: "إِذا أدركت من الجمعة ركعة، فأضِف إِليها أُخرى، وإِن
أدركتهم جلوساً فصلِّ أربعاً" (4).
الصلاة في الزحام:
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: " ... إِذا اشتدّ الزحام، فليسجد
الرجل منكم عى ظهر أخيه" (5).
قال ابن المنذر في "الأوسط" (4/ 105): "وبقول عمر بن الخطاب نقول: لأنه
سجود في حال ضرورة على قدْر طاقة الساجد، ولم يكلّف المصلّي إِلا قدر
طاقته".
__________
(1) أخرجه البخاري: 580، 579، 556، ومسلم: 607
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (922) وغيره، وانظر "الإِرواء" (622).
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" وغيره بسند صحيح، وانظر "تمام المنّة"
(ص340).
(4) أخرجه البيهقي (3/ 204)، وقال شيخنا في "الإِرواء" (3/ 83) سنده صحيح
على شرط الشيخين.
(5) صحّحه شيخنا في "تمام المنّة" (ص341).
(2/394)
التطوع قبل الجمعة
وبعدها:
عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من
اغتسل، ثمَّ أتى الجمعة، فصلّى ما قُدِّر له، ثمَّ أنصت حتى يفرغ من خطبته.
ثمَّ يُصلّي معه، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام"
(1).
فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصلّى ما قُدِّر له" يُفهم
جواز التنفّل من غير حصر، حتى يحضر الإِمام. أمّا ما يسمّى بسنّة الجمعة
القبلية فلا أصل له ألبته.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "أمّا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فإِنَّه لم يكن يصلّي قبل الجمعة بعد الأذان شيئاً، ولا نقَل
هذا عنه أحد، فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا
يُؤذَّن على عهده إلاَّ إِذا قعد على المنبر، ويؤذِّن بلال، ثمَّ يخطب
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخطبتين، ثمَّ يقيم بلال
فيصلّي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس، فما كان
يمكن أن يصلّي بعد الأذان، لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلّون معه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا نقَل عنه أحد أنَّه صلى في بيته
قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقَّتَ بقوله: صلاة مقدّرة قبل الجمعة، بل
ألفاظه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها الترغيب في الصلاة إِذا
قدم الرجل المسجد يوم الجمعة؛ من غير توقيت. كقوله: "من بكّر وابتكر ومشى
ولم يركب، وصلّى ما كُتب له" (2).
وهذا هو المأثور عن الصحابة، كانوا إِذا أتوا المسجد يوم الجمعة، يُصلّون
من حين يدخلون ما تيسر، فمنهم من يصلّي عشر ركعات، ومنهم من يصلّي اثنتي
عشر ركعة، ومنهم من يصلّي ثمان ركعات، ومنهم من يصلّي
__________
(1) أخرجه مسلم: 857، وتقدّم.
(2) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (687 و685)، بلفظ: "فيركع ما بدا له".
(2/395)
أقل من ذلك. ولهذا كان جماهير الأئمة
متّفقين على أنّه ليس قبل الجمعة سنّة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد، لأنَّ ذلك
إِنّما يثبت بقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو فِعله.
وهو لم يسنّ في ذلك شيئاً لا بقوله ولا فعله، وهذا مذهب مالك، ومذهب
الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور في مذهب أحمد.
وذهب طائفة من العلماء إِلى أنّ قبلها سنّة، فمنهم من جعلها ركعتين، كما
قاله طائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد ومنهم من جعلها أربعاً، كما نقل عن
أصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد وقد نُقِل عن الإمام أحمد ما استدلّ
به على ذلك، وهؤلاء منهم من يحتجّ بحديث ضعيف ... ثمَّ أجاب على ذلك ... "
(1).
وقال ابن القيّم في "زاد المعاد" (1/ 432): " ... فإِنَّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من بيته، فإِذا رَقِي المنبر، أخذ
بلال في أذان الجمعة، فإِذا أكمله، أخذ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الخطبة من غير فصل، وهذا كان رأي عين، فمتى كانوا يُصلّون
السُّنّة؟! ومن ظن أنهم كانوا إِذا فرغ بلال -رضي الله عنه- من الأذان،
قاموا كلُّهم، فركعوا ركعتين، فهو أجهلُ الناس بالسنّة".
وأمّا بعدها فله أن يصلّي أربعاً أو اثنتين؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله
عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان
منكم مصليّاً بعد الجمعة فليصلِّ
__________
(1) "الفتاوى" (24/ 188) ونقلَه السيد سابق في "فقه السنّة" (1/ 315 -
316).
(2/396)
أربعاً " (1).
ولحديث ابن عمر أنَّه وصفَ تطوُّع صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فكان لا يصلّي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلّي
ركعتين في بيته" (2).
وعن ابن عمر قال: "كان إذا كان بمكة فصلّى الجمعة، تقدّم فصلّى ركعتين،
ثمَّ تقدم فصلّى أربعاً، وإِذا كان بالمدينة صلّى الجمعة، ثمَّ رجع إلى
بيته فصلى ركعتين، ولم يصلّ في المسجد، فقيل له فقال: كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ذلك" (3).
اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد
عن إِياس بن أبي رملة الشامي قال: "شهدْتُ معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل
زيد بن أرقم قال: أشهدتَ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلّى العيد، ثمَّ
رخّص في الجمعة فقال: من شاء أن يصليَ فليصلّ" (4).
وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنِّه
قال: "قد اجتمع في يومكم هذا
__________
(1) أخرجه مسلم: 881
(2) أخرجه مسلم: 882، وهو في البخاري: 937، 1165، 1172، 1185 دون قوله: في
بيته.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1000) والبيهقي، وانظر "تمام
المنّة" (ص 342).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (945)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1082)، وانظر "تمام المنّة" (ص 343 - 344).
(2/397)
عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنّا
مجمِّعون (1) " (2).
وعن عطاء بن أبي رباح قال: "صلّى بنا ابن الزبير في يوم عيد، في يوم جمعة
أوّل النهار، ثمَّ رُحْنا إِلى الجمعة، فلم يخرج إِلينا، فصلينا
وُحْدَاناً. وكان ابن عباس بالطائف، فلمّا قدم ذكَرنا ذلك له، فقال: أصاب
السنّة" (3).
وعن عطاء أيضاً: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر، على عهد ابن الزبير فقال: "عيدان
اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما جميعاً، فصلاّهما ركعتين بُكْرة، لم يزد
عليهما حتى صلّى العصر" (4). وهذا يدل على أنَّه لم يُصلّ الظهر.
__________
(1) أي: مصلّو الجمعة.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (948)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1083) وغيرهما.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (946)، وانظر "الأجوبة النافعة" (ص
50).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (947).
(2/398)
|