الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الموسوعة الفقهية الميسرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة
الجزء الثالث
كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف
بقلم
حسين بن عودة العوايشة
المكتبة الإسلامية
دار ابن حزم

(3/1)


بسم الله الرحمن الرحيم

(3/2)


الموسوعة الفقهية الميسرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة

(3/3)


حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1423 هـ -2002 م
المكتبة الإسلامية
ص ب (113) الجبيهة، هاتف 5342887
عمَّان - الأردن
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974

(3/4)


-[مقدّمة المؤلف]-
إِنّ الحمد لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ. وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً عَبدهُ ورَسولهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3).
أمَّا بعد:
فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار. فهذا هو المجلد الثالث من "الموسوعة الفقهيّة الميسَّرة في ضوء الكتاب والسُّنَّة المطهَّرة" أقدمه للقُراء الكرام، سائلاً الله -سبحانه وتعالى- أن ينفع
__________
(1) آل عمران: 102.
(2) النساء: 1.
(3) الأحزاب: 70، 71.

(3/5)


به ويتقبّله منّي، وهو متضمِّنٌ كتاب الزكاة والصيام والاعتكاف.
وكنتُ قد استفدتُ من عددٍ من الإِجابات من شيخنا العلاّمة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- من خلال مجالساته.
وقد حرصتُ على الدليل الثّابت في ضوء منهج السلف الصالح، مع الإِفادة من أقوال علماء الأمّة، ورثة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد تكون المسألة خلافيّة، ولكلٍّ فيما ذهبَ إِليه دليله وفهْمه، فالأمر لا يدعو إِلى التباغُض والتنافر والاختلاف والتفرُّق والشقاق والنّزاع.
فَخذ ما ترجّح لك وما تراه صواباً، دون ولاءٍ أو براءٍ أو تحزُّب أو تعصُّب، قال الله تعالى: {والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعض إلاَّ تفعلوهُ تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير} (1).
فإِذا كان هذا شأن الكفار؛ بعضهم أولياء بعض، فالفساد والفتنة جاءا مِن أمور:
الأوّل: أنّ الكُفّار قد حقّقوا من التآلف؛ ما لم يبْلغه أهل الإِسلام -مع الأسف-.
الثاني: أنّ اتخاذ الكُفّار بعضهم بعضاً أولياء فيه خطورةٌ على المسلمين - وهم في مرحلة التربية والمجاهدة- إِذا لم يكونوا متفرّقين، فكيف إِذا كانوا متناحِرين متنازعين!
الثالث: أنّنا قد أُمِرنا أصلاً بمخالفتهم، وعدم التشبُّه بهم، فكيف إِذا لم
__________
(1) الأنفال: 73.

(3/6)


نبلغ ما بلغوه في شأن الولاية!
فإِذا كان كذلك؛ أفلا يكون بعضنا أولياء بعض؛ ولو بتقدير الآراء وكفّ اللسان عن إِيقاع الأذى بالعلماء، أو بمن تَلقّى عنهم المسائل، وأن نُعذر مَن قد يكون له أجر واحد في فتواه، ومن أفاد منه كذلك؟!
فكيف ونحن لا نعلم؟ فربّما يكون له أجران!
فالأمر يدعو إِذاً إِلى المزيد من الإِعذار والتآلف والتوادّ.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبّل مني ويجعل هذا العمل في ميزاني يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلاَّ مَن أَتى الله بقلبٍ سليم.
وكَتَب:
حسين بن عودة العوايشة
عمّان 4/ربيع الثاني/ 1421هـ

(3/7)


الزكاة
الزكاة: لغةً: هي النّماء والزيادة، يقال: زَكَى الزرع يزكو، أي: نما وهي الطهارة أيضاً، وسميت الزكاة زكاةً؛ لأنه يزكو بها المال بالبركة ويطهُر بها المرء بالمغفرة (1).
وفي الاصطلاح الشرعي: هي عبارة عن إِيجاب طائفة من المال في مالٍ مخصوص لمالك مخصوص (2).

الزكاة رُكن من أركان الإِسلام
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ معاذاً قال: بعَثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: "إِنّك تأتي قوماً من أهل الكتاب. فادْعُهم إِلى شهادة أن لا إِله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله، فإِنْ هُم أطاعوا لذلك، فأعلِمهم أنّ الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلة، فإِنْ هم أطاعوا لذلك، فأعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة؛ تُؤْخَذ من أغنيائهم فتردُّ في فقرائهم" (3).
وقد قُرنت بالصلاة (4) في مواطنَ كثيرة كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وارْكعوا مع الراكعين} (5).
__________
(1) طِلبة الطّلبة: ص 91.
(2) التعريفات للشريف الجُرجاني (ص 83).
(3) أخرجه البخاري: 1458، ومسلم: 19.
(4) انظر ما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 6).
(5) البقرة: 43.

(3/9)


وكقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرِضوا الله قرضاً حَسَناً} (1).

الحضّ على أدائها والترغيب فيها
1 - قال الله تعالى: {خُذ من أموالهم صدقةً تُطهّرهم وتزكّيهم بها} (2).
2 - وقال الله تعالى: {إِنّ المتقين في جنّات وعيون * آخذين ما آتاهم ربّهم إِنّهم كانوا قبل ذلك مُحسنين* كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون* وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم} (3).
3 - وقال تعالى: {وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه الله فأولئك هم المُضْعِفُون} (4).
المُضْعفُون: أي: يُضاعَف لهم الثواب والجزاء، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الآتي إِن شاء الله.
4 - وعن أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ثلاثٌ أُقسِم عليهنّ وأحدّثكم حديثاً فاحفظوه.
قال: ما نقَص مالُ عبدٍ من صدقة، ولا ظُلم عبدٌ مظلمةً صبر عليها إلاَّ زاده الله عزّاً، ولا فَتَح عبدٌ باب مسألة إلاَّ فَتَح الله عليه باب فقر، أو كلمة
__________
(1) المزمل: 20.
(2) التوبة: 103.
(3) الذاريات: 15 - 19.
(4) الروم: 39.

(3/10)


نحوها ... " (1).
5 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تصدَّق بعَدْل (2) تمرة مِن كسْبٍ طيّب -ولا يقبل الله إلاَّ الطيّب- فإِن الله يتقبلها بيمينه ثم يربّيها لصاحبه كما يُربّي أحدكم فَلوَّه (3) حتّى تكون مثل الجبل" (4).
وفي رواية: "إلاَّ أخَذها الرحمن بيمينه، وإنْ كانت تمرة، فتربو في كفّ الرحمن؛ حتّى تكون أعظم من الجبل" (5).
6 - وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله؟ أرأيتَ إِنْ أدى الرجل زكاة ماله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أدّى زكاة ماله فقد ذهب عنه شرُّه" (6).
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي واللفظ له وقال: حديث حسن صحيح، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (14).
(2) بعَدْل: أي: بقيمتها لأنه بالفتح: المِثل، وبالكسر -[العِدل]: الحِمل هذا قول الجمهور. "الفتح" (3/ 279). وللمزيد من الفوائد الحديثية انظر "الإِرواء" (3/ 393).
(3) فلُوّه: الفَلُوّ: المُهر الصغير وقيل: هو العظيم من أولاد ذوات الحافر.
(4) أخرجه البخاري: 1410، ومسلم: 1014.
(5) أخرجه مسلم: 1014.
(6) أخرجه الطبراني في "الأوسط" -واللفظ له- وغيره، وحسّنه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (740).

(3/11)


7 - وعن عمرو بن مُرّة الجهني -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل من قُضاعة إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِني شهدت أنْ لا إِله إِلا الله وأنك رسول الله، وصليّتُ الصلوات الخَمْس، وصُمتُ رمضان وقمتُه، وآتيتُ الزكاة.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات على هذا كان من الصدِّيقين والشهداء" (1).
8 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سبعةٌ يُظلُّهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلاَّ ظلّه: إِمامٌ عدْل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّقٌ في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعَته امرأة ذات مَنْصِب وجمال فقال: إِنِّي أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه، ورجل ذكَر الله خالياً ففاضت عيناه" (2).
وانظر للمزيد من الأحاديث "صحيح الترغيب والترهيب" (كتاب الصدقات) "الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها".

الترهيب من منْعها
1 - قال الله تعالى: {ولا يحسبنَّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سيُطوّقون ما بَخِلُوا به يوم القيامة} (3).
__________
(1) أخرجه البزار بإِسناد حسن وابن خزيمة في "صحيحه" وابن حبان، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (745).
(2) أخرجه البخاري: 423، ومسلم: 031 1.
(3) آل عمران: 180.

(3/12)


2 - وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1).
3 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من صاحب ذهب ولا فضة؛ لا يؤدّي منها حقّها إِلا إِذا كان يوم القيامة صُفِّحَت (2) له صفائح من نار فأُحْمي عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جَنْبُه وجبينه وظهره. كلما بَرَدَت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيَرى سبيله إِمّا إِلى الجنة وإمّا إِلى النار.
قيل: يا رسول الله! فالإِبِل؟ قال: ولا صاحب إِبِل لا يؤدي منها حقّها ومِنْ حقها حَلَبها (3) يوم وِردها، إِلا إِذا كان يوم القيامة، بُطِحَ لها بِقَاعِ قرْقرٍ (4) أوفر ما كانت؛ لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها (5) وتعَضُّهُ بأفواهها،
__________
(1) التوبة: 34 - 35.
(2) صُفحت: الصفيحة: كلّ عريض من حجارة أو لوح ونحوهما، ووجه كل شيء عريض. الوسيط".
(3) حَلَبها: بفتح اللام على الراجح كما ذكر النووي رحمه الله. والمراد: يحلبها على الماء ليصب للناس من لبنها كما في "النهاية".
(4) قرقر: القاع المستوي الواسع من الأرض تعلوه ماء السماء فيمسكه. "النووي" (7/ 64).
(5) بأخفافها: قال النووي: الخفّ للبعير، والظلف للبقر والغنم والظُّباء، والقدم للآدمي.

(3/13)


كلما مرَّ عليه أُولاها ردّ عليه أُخراها؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيَرى سبيله إِمّا إِلى الجنة وإمّا إِلى النار.
قيل: يا رسول الله! فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقرٍ ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلاَّ إِذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بقاع قرْقرٍ، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقْصَاء (1) ولا جَلْحَاء (2) ولا عَضْبَاء (3)، تنطِحُهُ بقرونها وتطؤه بأظْلاَفِها (4)، كلّما مر عليه أولاها رُدّ عليه أُخْراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ؛ حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إِمّا إِلى الجنة وإمّا إِلى النار" (5).
4 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته؛ مُثّل له يوم القيامة شجاعاً (6) أَقْرع (7) لهَ زِبيبتَان (8) يُطوّقُه
__________
(1) عَقْصَاء: أي: ملتوية القرنين. "النهاية".
(2) جَلْحَاء: التي لا قَرْن لها. "النهاية".
(3) عَضْبَاء: التي انكسر قَرنْها. "شرح النووي" (7/ 65).
(4) بأظلافها: الظلف للبقر والغنم والظباء، وهو المنشقّ من القوائم، والخفّ للبعير، والقدم للآدمي، والحافر للفرس والبغل والحمار. "شرح النووي".
(5) أخرجه مسلم: 987، وللمزيد من الفوائد الحديثية انظر كلام شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (ص 388 - 389).
(6) الشُّجاع: الحيّة الذَّكَر، وقيل: الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس.
(7) الأقرع: الذي تقرَّع رأسه، أي: تمعَّطَ لكثرة سمّه كذا في "الفتح" (3/ 270). وفيه: "وفي "تهذيب الأزهري": سُمّي الأقرع لأنه يُقْري السّمّ ويَجْمَعه في رأسه حتى تتمعّط فَرْوة رأسه".
(8) قال الحافظ: تثنية زبيبة، وهما الزبَدَتَان على اللسان في الشّدقين، يُقال: =

(3/14)


يوم القيامة ثم يأخذ بِلِهزِمتيه (1) -يعني: شدقيه- ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزُك، ثم تلا: {ولا يحسبَنّ الذين يبخلون ... } (2) الآية " (3).
5 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر المهاجرين! خمسٌ إِذا ابتُليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهُنّ!
لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ حتى يُعلنوا بها، إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع؛ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاَّ أُخِذوا بالسنين وشدّة المؤنَة وجَوْرِ السلطان عليهم.
ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم، إِلا مُنِعُوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا.
ولم ينقضوا عهدَ الله وعهد رسوله؛ إلاَّ سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأَخذوا بعض ما في أيديهم.
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا ممّا أنزل الله؛ إِلا جَعَل الله
__________
= تكلّم حتى زبد شدقاه، أي: خرج الزّبد منهما، وقيل: هما النكتتان السوداوان فوق عَيْنَيْه، وقيل: نقطتان يكتنفان فاه، وأورد أقوالاً غيرها.
(1) بلِهزِمَيته: فُسّر في الحديث بالشدقين، وفي "الصحاح": هما العظمان الناتئان في اللحيين تحت الأذنين، وفي "الجامع" هما لحم الخدّين الذي يتحرّك إِذا أَكل الإِنسان. "الفتح".
(2) آل عمران: 180.
(3) أخرجه البخاري: 1403.

(3/15)


بأسهم بينهم" (1).

حُكم مانعها
من امتنع عن أداء الزكاة غير منكر وجوبها، فإِنّ للحاكم أنْ يأخذ الزكاة منه قهراً، وشطر ماله عقوبة.
فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه (2) قال: "لا يفرق إِبل عن حسابها (3)، من أعطاها مؤتجراً (4) فله أجرها، ومن أبى فإِنّا آخِذوها وشطر ماله، عَزْمةً (5) من عَزَمات ربّنا، لا يحلّ لآل محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شيئاً" (6).

قتال من يمنعها
ولو امتنع قوم عن أدائها مع اعتقادهم وجوبها وكانت لهم قوّة ومنَعة؛
__________
(1) أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم في "الحلية" وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (106)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (759). وانظر للمزيد من النصوص "صحيح الترغيب والترهيب" (الترهيب من منع الزكاة).
(2) هو معاوية بن حيدة صحابي -رضي الله عنه-.
(3) معناه: أنّ المالك لا يفرّق مُلكه عن ملك غيره؛ حيث كانا خليطين، أو المعنى: تحاسب الكلّ في الأربعين، ولا يُترَك هزال ولا سمين ولا صغير ولا كبير، نعم العامل لا يأخذ إِلا الوسط. "عون" (4/ 317).
(4) قاصداً للأجر بإِعطائها.
(5) العَزْمة في اللغة: الجدّ والحق في الأمر يعني: أُخذ ذلك بجدّ لأنّه واجب مفروض. قاله بعض العلماء.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (393) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2292) وغيرهما وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (791).

(3/16)


فإِنّهم يقاتَلون عليها حتى يعطوها (1) قال الله تعالى: {فإِن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلَهم} (2).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إِله إلاَّ الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة.
فإِذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّ الإِسلام، وحسابهم على الله" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لمّا توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- وكفَر من كفَر من العرب، فقال عمر -رضي الله عنه-: كيف تقاتل الناس؛ وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إِله إِلا الله، فمن قالها فقد عصَم منّي ماله ونفسه إلاَّ بحقِّه، وحسابه على الله؟!
فقال: والله لأقاتلنَّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإِنَّ الزكاة حق المال، والله لو منعنوني عَناقاً (4) كانوا يؤدّونها إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم على منْعها.
قال عمر -رضي الله عنه-: فوالله ما هو إلاَّ أنْ قد شَرح الله صدر أبي بكر -رضي الله عنه- فعرفتُ أنّه الحقُّ" (5).
__________
(1) انظر "فقه السنة" (1/ 333).
(2) التوبة: 5.
(3) أخرجه البخاري: 25، ومسلم: 22.
(4) عَناقاً: هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يَتِمّ له سنة. "النهاية".
(5) أخرجه البخاري: 1399، ومسلم: 20.

(3/17)


وفي بعض روايات البخاري ومسلم: عِقالاً (1).
جاء في "الروضة النديّة" (1/ 460): "قال مالك: الأمر عندنا أنّ كلّ من منَع فريضة من فرائض الله تعالى، فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقاً عليهم جهاده حتّى يأخذوها منه، وبلغه أنّ أبا بكر الصِّدّيق -رضي الله عنه- قال: "لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه" كذا في "المسوّى"".
وسألت شيخنا -رحمه الله- هل يجب على الحاكم قتال مانعي الزكاة؟
فأجاب: إِذا غلب على ظنّه الانتصار عليهم فَعل.

على من تَجِب؟
تجب على كلّ مسلم (2) حرّ مالك النصاب.
ولا تجب على غير المؤمنين لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "على المؤمنين في صدقة الثمار -أو مال العقار- عُشر ما سقتِ العينُ وما سقتِ السماء، وعلى ما يُسقى بالغَرْب (3) نصفُ العُشْر" (4).
__________
(1) واختلف العلماء في تفسير العقال فمنهم من قال: زكاة عام ومنهم من قال: الحبل الذي يُعقل به البعير، وانظر "شرح النووي" (1/ 208) للمزيد من التفصيل.
(2) جاء في "الروضة" (1/ 462): وأمّا اشتراط الإِسلام؛ فالراجح أنّ الكفّار مخاطَبون بجميع الشرعيات، لكنّه منَع صحّتها منهم مانع الكفر، فليس الإِسلام شرطاً في الوجوب بل الكفر مانع عن الصحة ... ".
(3) الغَرْب: الدلو العظيمة التي تُتَّخذ من جلد ثور. "النهاية".
(4) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (142).

(3/18)


قال البيهقي: "وفيه كالدّلالة على أنها لا تُؤخَذ من أهل الذِّمّة".
"قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: وكيف تُؤخَذ منهم وهم على شِركهم وضلالهم؟! فالزكاة لا تزكيهم وإنما تُزكّي المؤمن المزكَّى من دَرَن الشرك؛ كما قال الله تعالى: {خُذ من أموالهم صدقةً تُطهِّرهم وتزكيهمْ بها وصلِّ عليهم إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لهم} (1).
فهذه الآية تدلّ دلالة ظاهرة، على أنّ الزكاة إِنّما تُؤخَذ من المؤمنين، لكن الحديث أصرح منها دلالة على ذلك.
وإنّ من يدرس السيرة النبوية، وتاريخ الخلفاء الراشدين، وغيرهم من خلفاء المسلمين وملوكهم؛ يعلم يقيناً أنّهم لم يكونوا يأخذون الزكاة من غير المسلمين المواطنين، وإنّما كانوا يأخذون منهم الجزية؛ كما ينصّ عليها الكتاب والسنّة". انتهى.
جاء في "المحلّى" (5/ 307): "ولا يجوز أخذ الزكاة من كافر.
قال أبو محمّد: هي واجبة عليه، وهو معذَّب على منْعها، إِلا أنها لا تجزئ عنه إِلا أنْ يُسلِم.
وكذلك الصلاة ولا فرْق، فإِذا أسلم فقد تفضّل -عزّ وجلّ- بإِسقاط ما سلف عنه من كلّ ذلك!
قال الله تعالى: {إِلاّ أصحاب اليمين * في جنّات يتساءلون * عن المجرمين * ما سَلَكَكُم في سقر * قالوا لم نك من المصلّين * ولم نك
__________
(1) التوبة: 103.

(3/19)


نُطعِم المسكين * وكنّا نخوض مع الخائضين * وكنّا نُكذِّب بيوم الدِّين * حتّى أتانا اليقين} (1).
وقال الله -عزّ وجلّ-: {وويلٌ للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون} (2).

ماذا يُشتَرط في النصاب؟
1 - أن يكون فاضلاً عن الحاجات الضرورية؛ التي لا يَستغني المرء عنها؛ كالمطعم والملبس، والمسكن والمركب، وآلات الحرفة.
2 - أن يحول عليه الحول الهجريّ، وابتداؤه من يوم مُلْك النصاب.
لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول" (3).
وهذا الشرط لا يمضي في زكاة الزروع والثمار، لأنّها تجب يوم الحصاد، قال الله تعالى: {وءاتوا حقّه يوم حصاده} (4).

كيف يُزكّي إِذا تعدّدت الأنصبة؟
الأصل عدم إِخراج زكاة النصاب إِلا إِذا حال عليه الحول، فإِذا كانت
__________
(1) المدثر: 39 - 47.
(2) فصلت: 6 - 7.
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1449) وغيره، وانظر "الإِرواء" (787).
(4) الأنعام: 141.

(3/20)


الأنصبة قليلة؛ وتمكّن من ذلك فعَل، وإلا أَخْرَج من مجموع المال؛ تيسيراً على نفسه.
سُئل شيخنا -رحمه الله- عن رجل عنده أموال أثناء السنة الأولى؛ ثمّ جاءته أرباح، فلمّا دخلت السنة الثانية؛ وجد عدّة أنصبة، وليس نصاباً واحداً، فكيف يُخرِج زكاته؟
فأجاب -رحمه الله-: "اختلف العلماء في كيفية إِخراج الزكاة؛ فمنهم من قال: يُخرِج عن مجموع ما عنده من الأنصبة التي وجب عليها الزكاة، وعلى الأنصبة الأخرى التي لم يحُلْ عليها الحول كذلك.
ومنهم من قال: كلما توفّر عنده نصابٌ سجَّله، وانتظر أن يحُول عليه الحَوْل.
والنظر إِلى قاعدة التيسير يجعلني أُرجِّح القول الأول، إِذ متابعة الأنصبة مُرهِق لعقل (الكمبيوتر)؛ فضلاً عن عقل الإِنسان فيُخرج عن الأرباح، شريطة أن يكون هناك أصل؛ وهو النصاب الذي حال عليه الحول". انتهى.
قلت: "ولا شكّ أنّ في هذا زيادةً على الزكاة الواجبة، فيُؤجَر عليها ويريح نفسه من بَلْبَلَة تعدّد الأنصبة. والله -تعالى- أعلم".

هل في مال الصغير والمجنون زكاة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم من رأى وجوب ذلك.
وقالوا: إِنّ النصوص في إِيجاب الزكاة تفيد العموم، ومن ذلك الصغير والمجنون، والزكاة حقُّ الفقراء؛ أكان مِن صغير أو كبير أو مجنون أو عاقل.

(3/21)


قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 302) -بحذف-: "وأمّا مال الصغير والمجنون؛ فإِنّ مالكاً والشافعي قالا بقولنا؟ وهو قول عمر ابن الخطاب، وابنه عبد الله، وأمّ المؤمنين عائشة، وجابر وابن مسعود، وعطاء وغيره.
وقال أبو حنيفة: لا زكاة في أموالهما من الناضّ (1) والماشية خاصة، والزكاة واجبة في ثمارهما وزروعهما.
ولا نعلم أحداً تقدّمه إِلى هذا التقسيم!
وقال الحسن البصري، وابن شبرمة: لا زكاة في ذهبه وفضّته خاصّة -وأمّا الثمار والزروع والمواشي ففيها زكاة.
وأمّا إِبراهيم النخعي، وشريح، فقالا: لا زكاة في ماله جملة!
قال أبو محمّد: إِنْ موّه مُمَوِّه منهم بأنّه لا صلاة عليهما؟ قيل له: قد تسقط الزكاة عمن لا مال له ولا تسقُط عنه الصلاة!
وإِنّما تجب الصلاة والزكاة على العاقل والبالغ؛ ذي المال الذي فيه الزكاة، فإِنْ سقط المال: سقَطت الزكاة، ولم تسقُط الصلاة؛ وإِنْ سقَط العقل، أو البلوغ: سقَطَت الصلاة ولم تسقُط الزكاة؛ لأنه لا يسقط فرض أوجبه الله تعالى، أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِلا حيث أسقطه الله تعالى أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
__________
(1) قال في "مختار الصحاح": أهل الحجاز يسمّون الدراهم والدنانير (النَّضَّ) و (النَّاضَّ) إِذا تحوّل عيناً بعد أن كان متاعاً، ويقال: خُذ ما (نضَّ) لك من دينٍ أي: ما تيسّر. وهو (يستنضّ) حقّه من فلان أي: يستنجزه ويأخذ منه الشيء بعد الشيء.

(3/22)


ولا يسقُط فرض من أجل سقوط فرض آخر بالرأي الفاسد، بلا نصّ قرآن ولا سُنّة.
وأيضاً: فإِنْ أسقطوا الزكاة عن مال الصغير والمجنون لسقوط الصلاة عنهما، ولأنهما لا يحتاجان إِلى طهارة؛ فليُسقطاها بهذه العلّة نفسها من زرعهما وثمارهما ولا فرق؛ وليُسقطا أيضاً عنهما زكاة الفطر بهذه الحُجّة!
فإِنْ قالوا: النصّ جاء بزكاة الفطر على الصغير؟
قلنا: والنص جاء بها على العبد، فأسقطتموها عن رقيق التجارة بآرائكم، وهذا ممّا تركوا فيه القياس، إِذ لم يقيسوا زكاة الماشية والناضّ، على زكاة الزرع، والفِطر، أو فليوجبوها على المكاتب؛ لوجوب الصلاة عليه، ولا فرق.
وقد قال بعضهم: زكاة الزرع والثمرة حقٌّ واجب في الأرض، يجب بأوّل خروجهما.
قال أبو محمّد: ولا فرق بين وجوب حقّ الله تعالى في الزكاة في الذهب والفضة والمواشي؛ من حين اكتسابها إِلى تمام الحول، وبين وجوبه في الزرع والثمار؛ من حين ظهورها إِلى حلول وقت الزكاة فيها، والزكاة ساقطة بخروج كلّ ذلك عن يد مالكه قبل الحول، وقبل حلول وقت الزكاة في الزرع والثمار.
وإِنّما الحقّ على صاحب الأرض لا على الأرض، ولا شريعة على أرض أصلاً، إِنما هي على صاحب الأرض!
قال الله تعالى: {إِنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبَيْن أن يحمِلنها وأشفَقْن منها وحمَلَها الإِنسان إِنّه كان ظلوماً

(3/23)


جهولاً} (1).
فظهر كذب هذا القائل وفساد قوله.
وأيضاً فلو كانت الزكاة على الأرض لا على صاحب الأرض؛ لوجب أخْذها في مال الكافر مِن زرعه وثماره، فظهر فساد قولهم وبالله التوفيق.
ولا خلاف في وجوب الزكاة على النساء كهي على الرجال؛ وهم مُقرّون بأنها قد تكون أَرْضُون كثيرة؛ لا حقّ فيها من زكاة، ولا من خَراج، كأرض مسلم؛ جعَلها قصباً وهي تغلّ المال الكثير، أو ترَكَها لم يجعل فيها شيئاً، وكأرض ذمّي صالَح على جزية رأسه فقط.
وقد قال سفيان الثوري والحسن البصري وأشهب والشافعي: إِنّ الخراجي الكافر إِذا ابتاع أرض عشر من مسلم؛ فلا خراج فيها ولا عشر.
وقد صحّ أنّ اليهود والنصارى والمجوس بالحجاز واليمن والبحرين؛ كانت لهم أرضون في حياة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا خلاف بين أحد من الأُمة؛ فى أنّه لم يجعل -عليه السلام- فيها عُشراً ولا خراجاً.
فإِن ذكروا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاث". فذكر "الصبي حتى يبلُغ والمجنون حتى يُفيق" (2).
قلنا: فأسقطوا عنهما بهذه الحُجّة زكاة الزرع والثمار، وأرُوش (3) الجنايات
__________
(1) الأحزاب: 72.
(2) أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (297).
(3) جمع أرْش وهي دِيَة الجراحات. وانظر "مختار الصحاح".

(3/24)


التي هي ساقطة بها لا شكّ، وليس في سقوط القلم سقوط حقوق الأموال، وإنّما فيه سقوط المَلاَمة، وسقوط فرائض الأبدان فقط. وبالله -تعالى- التوفيق.
فإِنْ قالوا: لا نيّة لمجنون، ولا لمن لم يبلغ؛ والفرائض لا تجزئ إِلا بنيّة!
قلنا: نعم، وإنّما أمر بأخذها الإِمام والمسلمون، بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (1)، فإِذا أخَذَها من أُمِر بأخذها بنية أنها الصدقة أجزأت عن الغائب، والمُغْمَى عليه، والمجنون، والصغير، ومن لا نيّة له.
والعجب أنّ المحفوظ عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إِيجاب الزكاة في مال اليتيم".
ثمَّ ذكر -رحمه الله- بعض الآثار في ذلك.
وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في التعليق على "المحلّى" (5/ 304): "وكان الأصحّ أنّ الزكاة تجب في المال، كما تجب الدِّيَة، وكما يجب العِوَض، وكما يجب الثمن مثَلاً، وأنّ وليّ الصبيّ أو المجنون مُكلَّف بإِخراجها من مال مَحْجُورِه، وأنّ وليّ الأمر يجب عليه استيفاؤها من المال".
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 17): "وتجب الزكاة في مال اليتامى؛ عند مالك والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور، وهو مرويّ عن عمر وعائشة وعليّ وابن عمر وجابر -رضي الله عنهم- ... ".
وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 460) -ردّاً على من يقول بإِيجابها تحت شرط: "إِذا كان المالك مُكلَّفاً"-: "اعلم أنّ هذه المقالة قد يَنْبُو
__________
(1) التوبة: 103.

(3/25)


عنها ذِهن من يسمعها، فإِذا راجع الإِنصاف، ووقف حيث أوقفه الحقّ، عَلِم أنّ هذا هو الحقّ، وبيانه أنّ الزكاة هي أحد أركان الإِسلام، ودعائمه وقوائمه، ولا خلاف أنّه لا يجب شيء من الأربعة الأركان؛ التي الزكاة خامستها على غير مكلّف، فإِيجاب الزكاة عليه، إِنْ كان بدليل فما هو؟ فما جاء عن الشارع في هذا شيء ممّا تقوم به الحُجّة.
كما يُروَى عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالاتّجار في أموال الأيتام؛ لئلاّ تأكلها الزكاة، فلم يصحّ ذلك في شيء مرفوعاً إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1)، فليس ممّا تقوم به الحُجّة.
وأمّا ما رُوي عن بعض الصحابة فلا حُجّة فيه أيضاً، وقد عُورِض بمِثله.
وإِنْ قال قائل: إِنّ الخطاب في الزكاة عامّ كقوله: {خُذْ مِن أموالهم} (2) ونحوه، فذلك ممنوع.
وليس الخطاب في ذلك إِلا لمن يصلُح له الخطاب، وهم المكلّفون، وأيضاً بقيّة الأركان، بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمُكلّف، الخطابات بها عامّة للناس، والصبيّ مِن جُمْلة الناس.
فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغاً لإِيجابها على غير المكلّفين؛ لكان العموم في غيرها كذلك، وأنّه باطل بالإِجماع، وما استلزم الباطل باطل، مع أنّ تمام الآية -أعني قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} - يدلّ على عدم وجوبها على الصبيّ، وهو قوله: {تُطهّرهم وتزكّيهم بها} فإِنّه لا
__________
(1) انظر "الإِرواء" (788).
(2) التوبة: 103.

(3/26)


معنى لتطهير الصبيّ، والمجنون، ولا لتزكيته، فما جعلوه مُخصّصاً لغير المكلفين في سائر الأركان الأربعة؛ لزمهم أن يجعلوه مُخصّصاً في الركن الخامس وهو الزكاة.
وبالجملة: فأموال العباد محرَّمة بنصوص الكتاب والسنَّة، لا يُحلّلها إلاَّ التّراضي، وطِيبة النّفْس.
أمّا ورود الشرع كالزكاة، والدِّيَة، والأرْش، والشُّفعة (1)، ونحو ذلك، فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله، سيّما مَن كان قلمُ التكليف عنه مرفوعاً؛ فعليه البرهان، والواجب على المُنْصِف أن يقف موقف المنع حتى يزحزحه عنه الدليل.
ولم يوجب الله تعالى على وليّ اليتيم، والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما، ولا أمَره بذلك، ولا سوّغه له، بل ورَدت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدّع لها القلوب، وترجُف لها الأفئدة (2) ".
وفيها (ص 462): " .. فمن أوجَب على الصبيّ زكاة في ماله تمسُّكاً بالعمومات، فليوجب عليه بقيّة الأركان تمسُّكاً بالعمومات.
__________
(1) هي استحقاق الشريك انتزاع حصّة شريكه المنتقلة عنه، مِن يد مَن انتقلت إِليه. "المغني" (5/ 459).
(2) منها قوله تعالى: {إِنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} [النساء: 10].
ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجتبوا السبع الموبقات ... "، فذكَر منها أكْل مال اليتيم. [أخرجه البخاري: 6857، ومسلم: 89].

(3/27)


وبالجملة: فالأصل في أموال العباد الحرمة {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (1)، "لا يحلّ مالُ امرئٍ مُسلم إلاَّ بطيبةٍ من نفسه" (2)، ولا سيما أموال اليتامى، فإِنّ القوارع القرآنية، والزواجر الحديثية فيها؛ أظهر من أن تُذكَر وأكثر من أن تُحصَر، فلا يأمن وليّ اليتيم إِذا أخذ الزكاة من ماله من التَّبعة، لأنه أخَذ شيئاً لم يُوجِبه الله على المالك، ولا على الوليّ ولا على المال.
أما الأوّل: فلأنّ المفروض أنه صبيٌّ لم يحصُل له ما هو مناط التكاليف الشرعية؛ وهو البلوغ.
وأمّا الثاني: فلأنه غير مالك للمال، والزكاة لا تجب على غير مالك.
وأمّا الثالث: فلأنّ التكاليف الشرعية مختصة بهذا النوع الإِنساني؛ لا تجب على دابّة ولا جماد، والله أعلم".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن زكاة أموال اليتامى فقال: "لا زكاة على مال من لم يبلغ سنّ الاحتلام على الراجح".
وفي "تبيين المسالك" (2/ 67) للشيخ عبد العزيز الإِحسائي -بعد أن نقل أدلّة الموجب وغير الموجب- "وقال أبو حنيفة: لا تجب في مال صبي ولا مجنون واحتجّ بحديث: "رُفع القلم عن ثلاث".
وله عدة ألفاظ منها:
__________
(1) البقرة: 188.
(2) انظر "الصحيحة" (1459) وله عِدّة ألفاظ منها: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاَّ عن طيب نفس".

(3/28)


"رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ (وفي رواية: وعن المجنون (وفي لفظ: المعتوه) حتى يعقل أو يُفيق) وعن الصبى حتى يكبَر. (وفي رواية: حتى يحتلم) " (1).

المالك المَدِين:
من كان في يده مالٌ تجب الزكاة فيه، وهو مدين؛ أخرج منه ما يفي بدينه وزكّى الباقي؛ إِن بلَغ نصاباً، وإن لم يبلغ النصاب فلا زكاة فيه، لأنّه في هذه الحالة فقير (2).
ومن الأدلّة على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: " ... فأخبِرهم أنَّ الله قد فرَض عليهم صدقة؛ تُؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم" (3).
وسألْتُ شيخنا -رحمه الله-: مَن ملك النصاب، وعليه ديونٌ تستغرق النصاب؛ فهل يجب عليه الزكاة أم لا؟
فأجاب -رحمه الله-: "ما دام المال في حَوْزَته، وحال عليه الحول فلا بُدّ من إِخراج الزكاة، ولو كان عليه من الدَّين ما يستغرق النصاب كلّه، فإِذا كان ينوي عدم إِخراج الزكاة؛ فعليه أن يفيَ الناس حقوقهم وديونهم".
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (297)، وتقدّم.
(2) "فقه السنة" (1/ 336) بتصرف.
(3) أخرجه البخاري: 1496، ومسلم: 19، وتقدّم.

(3/29)


من مات وعليه الزكاة
من مات وعليه زكاة سنة أو سنتين أو أكثر؛ فإِنّها تجب في ماله، وتقدَّم على الدائنين والوصية والورثة؛ لقول الله تعالى في شأن المواريث: {مِن بعْد وصيةٍ يُوصِي بها أو دين} (1)، والزكاة دَينٌ قائم لله تعالى (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم؛ فدَين الله أحقُّ أن يُقضى" (3).
قال الإِمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "ومن مات وعليه زكاة أُخِذَت من تَرِكته ولو لم يوص بها ... لأنها حقٌّ واجب تصحّ به الوصيّة، فلم يسقُط بالموت، كدَين الآدمي" (4). وذكَر الحديث.
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 113): "فلو مات الذي وجَبَتْ عليه الزكاة سنة أو سنتين؛ فإِنها من رأس ماله، أقرَّ بها أو قامت عليه بيّنة، ورثه ولده أو كَلاَلهَ (5)، لا حقّ للغرماء ولا للوصية ولا للورثة حتى تُسْتَوْفى كلها؛ سواء في ذلك العين والماشية والزرع.
__________
(1) النساء: 11.
(2) عن "فقه السنة" (1/ 336) بتصرف يسير.
(3) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم: 1148.
(4) الواضح في فقه الإمام أحمد (ص 158) للدكتور علي أبي الخير.
(5) الكَلاَلة: وهو أن يموت الرجل؛ ولا يدع والداً ولا ولداً يرثانه، وأصله: من تكلَّله النسب: إِذا أحاط به. وقيل: الكلالة: الوارثون الذين ليس فيهم ولدٌ ولا والد، فهو واقعٌ =

(3/30)


وهو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما".
وقال -رحمه الله- (ص 114): "والعجب كلّه من إيجابهم الصلاة بعد خروج وقتها على العامِد لتركها، وإِسقاطهم الزكاة ووقتها قائم عن المتعمّد لتركها".
وقال -رحمه الله- (ص 116): "ويُسألون عن الزكاة، أفي الذّمّة هي أم في عين المال؟ ولا سبيل إِلى قسم ثالث!
فإِنْ قالوا: في عين المال، فقد صحّ أنّ أهل الصدقات شركاء في ذلك المال، فمن أين وجب أن يبطل حقّهم؛ وتبقى ديون اليهود والنصارى؟
وإنْ قالوا: في الذِّمّة، فمن أين أسقطوها بموته؟! ".

أداؤُها وقت الوجوب (1)
يجب إِخراج الزكاة فوراً عند وجوبها، ويحرُم تأخير أدائها عن وقت الوجوب.
فعن عُقبة بن الحارث -رضي الله عنه- قال: "صلّيتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فلّما سلّم؛ قام سريعاً حتى دخَل على بعض نسائه، ثمَّ خرج ورأى ما
__________
= على الميت وعلى الوارث بهذا الشرط.
[وقال القُتيبي]: الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يُخَلِّفهما فقد مات عن ذَهاب طرفيه، فسمّى ذَهاب الطرفين كلالة.
وقيل: كلُّ ما احْتَفّ بالشيء من جوانبه فهو إِكليل، وبه سُمّيت؛ لأن الوُرَّاثَ يُحيِطون به من جوانبه.
(1) "فقه السنة" (1/ 337) بتصرف.

(3/31)


في وجوه القوم مِن تعجُّبهم لسرعته، فقال: ذكرتُ وأنا في الصلاة تِبراً (1) عندنا؛ فكرهتُ أن يمسي أو يبيت عندنا، فأمرتُ بقسمته" (2).

التعجيل بأدائها قبل الحول
يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول؛ لما ثبت عن علىّ -رضي الله عنه- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجَّل من العبّاس صدقته سنتين" (3).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 85): "وأمّا تعجيل الزكاة قبل وجوبها بعد سبب الوجوب؛ فيجوز عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ... ".

مَن أحَبَّ تعجيل الزكاة من يومها (4)
عن عقبة بن الحارث -رضي الله عنه- قال: صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر فأسرَع، ثمّ دَخل البيت فلم يلبث أنْ خرج، فقلت أو قيل له، فقال: "كنت خَلَّفْتُ في البيت تِبراً من الصدقة فكرهت أن أبيِّته، فقسَمْته" (5).
__________
(1) قال في "النهاية": "التِّبر: هو الذهب والفضة قبل أن يُضربا دنانير ودراهم، فإِذا ضُربا كانا عيناً، وقد يطلق التِّبر على غيرهما من المعدنيّات؛ كالنحاس والحديد والرصاص وأكثر اختصاصه الذهب ... ".
(2) أخرجه البخاري: 1221.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1452)، وحسنه شيخنا في "الإرواء" (857).
(4) هذا العنوان من "صحيح البخاري".
(5) أخرجه البخاري: 1430، وتقدّم.

(3/32)


عدم ذهاب السُّعَاة لجمع الأموال الباطنة ويتولّى الرجل تَفْرِقة أمواله الباطنة بنفسه
لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم وفيه: " ... ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه".
واعلم -رحمك الله- أنّه قد ورَد عدد من النصوص؛ فى ذَهاب السعاة لتحصيل زكاة الأموال الظاهرة من الحيوان: الإِبل والبقر والغنم، ومن الحبوب: البرُّ والشعير، ومن الثمار: النخل والعنب.
أمّا الأموال الباطنة؛ كالذهب والفضة والركاز، فالناس مؤتمنون عليها ولم يثبت إِرسال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المصدّقين لتحصيلها.
قال شيخنا في "تمام المِنّة" (ص 383) في مناقشة السيد سابق -رحمهما الله تعالى (1) -:
"لم أجِدْ في السُّنّة أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث من يجمع الصدقات من الأموال الباطنة -وهي عروض التجارة والذهب والفضة والركاز كما ذكر المؤلف نفسه- ولا وجدْتُ أحداً من المحدّثين ذكَر ذلك.
بل صرَّح ابن القيّم بنفي ذلك، بل إِنّه نفى أن يكون البعث المذكور؛ في
__________
(1) وذلك في قوله: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث نُوّابه ليجمعوا الصدقات ويوزعها على المستحقّين، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك، لا فرق بين الأموال الظاهرة والباطنة، فلمّا جاء عثمان سار على هذا النهج زمناً، إِلا أنه لمّا رأى كثرة الأموال الباطنة، ووجَد أنّ في تتبعها حرجاً على الأمّة، وفي تفتيشها ضرراً بأربابها؛ فوَّض أداء زكاتها إِلى أصحاب الأموال".

(3/33)


الكتاب في الأموال الظاهرة على عمومه، حيث قال في "الزاد":
"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث سعاته إِلى البوادي، ولم يكن يبعثهم إِلى القرى، ولم يكن من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبعث سعاته إلاَّ إِلى أهل الأموال الظاهرة؛ من المواشي والزروع والثمار".
ولو صحّ ما ذكَره المؤلف؛ لكان دليلاً من السّنّة على وجوب الزكاة على عروض التجارة. فتأمّل.
وقال أبو عبيد (رقم 1644): "سُنّة الصامت (1) خاصّة أن يكون الناس فيه مؤتمنين عليه".
لم أجده كذلك عن الخلفاء الثلاثة، بل روى أبو عبيد (رقم 1805)، والبيهقي (4/ 114) عن أبي سعيد المقبري، قال:
"أتيتُ عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه زكاة مالي -قال: وأتيته بمائتي درهم- فقال: أعَتَقْت يا كيسان؟ فقلت: نعم، فقال: فاذهب بها أنت فاقسمها". إِسناده جيد.
فهذا عمر -رضي الله عنه- قد أولى تفريق الزكاة إِلى صاحبها خلافاً لما نقَله المؤلف عنه، وقد ترجم البيهقي لهذا الأثر بـ "باب الرجل يتولّى تفريق زكاة ماله الباطنة بنفسه".
ما نقله عن عثمان أنّه سار على ذلك النّهج ... إِلخ. لم أجد له أصلاً في شيء من كتب الآثار، ولا ذَكَره أحد من أئمّة الحديث -فيما علمت-.
__________
(1) الذهب والفضَّة؛ خلاف الناطق وهو الحيوان. "النهاية".

(3/34)


والظاهر أنّ المؤلف نقَله -وكذا ما قبله- من بعض كتب الفقه أو غيرها؛ التي لا تتحرّى الثابت مما يُروى". والله أعلم.

الأموال التي تجب فيها الزكاة
تجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة، والزروع، والثمار والمواشي والركاز (1).

زكاة النقدين الذَّهب والفضّة
ما جاء في الترهيب من كنز الذّهب أو الفضّة وعدم إِخراج زكاتها:
قال الله تعالى: {والذّين يكنزون الذّهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنَّم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كَنَزْتُم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنِزون} (2).

نصاب الذهب ومقدار الواجب فيه؟
نصاب الذهب عشرون ديناراً (3). وفيه ربع العشر.
__________
(1) الركاز لغة: المعدن والمال المدفون، وشرعاً: دفين الجاهلية وسيأتي تفصيله بإِذن الله -تعالى-.
(2) التوبة: 34 - 35.
(3) الدينار = 4.25 غراماً كما تقدّم. عشرون ديناراً = 4.25×20 = 85 غراماً، وانظر "فقه الزكاة" (1/ 260) للدكتور يوسف القرضاوي.

(3/35)


عن عليّ -رضي الله عنه- قال: " ... فإِذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول؛ فعليها خمسة دراهم، وليس على شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإِذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول؛ ففيها نصف دينار" (1).
وعن ابن عمر وعائشة: "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأخذ من كل عشرين ديناراَّ فصاعداً، نصف دينار، ومن الأربعين ديناراً، ديناراً" (2).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: "ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا في أقلّ من مائتي درهم صدقة" (3).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 12): "وأمّا نصاب الذهب؛ فقد قال مالك في "الموطأ": السُّنّة التي لا اختلاف فيها عندنا: أنَّ الزكاة تجب في عشرين ديناراً؛ كما تجب في مائتي درهم.
فقد حكى مالك إِجماع أهل المدينة، وما حُكي خلافٌ؛ إِلا عن الحسن أنه قال: لا شيء في الذهب حتى يبلغ أربعين مثقالاً. نقَله ابن المنذر".
فائدة: سُئل شيخنا -رحمه الله- هل يخرج زكاة ذهبه نقداً أم منه نفسه؟
فأجاب -رحمه الله-: "الأصل إِخراج الذهب منه، وإخراج النقود لما لا
__________
(1) "صحيح سنن أبي داود" (1391).
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1448)، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (813).
(3) رواه أبو عبيد وهو صحيح بشواهده، وانظر "الإرواء" (815).

(3/36)


ينفكّ عنه. وتُراعى المصلحة في الأمر (1)، كأمر نقْل الزكاة (2) ".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: ماذا تفعل إِذا كان عندها ذهب ولا مال معها لإِخراج الزكاة؟ فقال: تبيع منه".

نصاب الفضة ومقدار الواجب
نصاب الفضة مائتا درهم وفيها ربع العُشر (3).
عن عليّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد عفوتُ عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقَة (4) من كلّ أربعين درهماً درهماً، وليس في تسعين ومائة شيء، فإِذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم" (5).
وعن أنس "أنّ أبا بكر -رضي الله عنهما- كَتَب له هذا الكتاب لمّا وجّهه إِلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين؛ والتي أمَر الله بها رسوله ... " وفيه: "وفي الرّقَة
__________
(1) يعني: إِخراجه من الذهب أم من النقود.
(2) يعني: كما تراعى المصلحة في نقل الزكاة وعدمها.
(3) وربع العشر = 1×40 = 2.5%.
(4) قال الخطابي: هي الدراهم المضروبة أصْلها الوَرِق حُذفت الواو وعُوِّض عنها الهاء كعِدَة وزِنَة. "عون" (4/ 316).
وجاء في "الفتح" (3/ 321): "الرّقَة: -بكسر الراء وتخفيف القاف- الفضّة الخالصة، سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة".
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1392)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (506).

(3/37)


رُبْع العُشر" (1).

زكاة العملات الورقيّة والمعدنية
"والعملات الورقيّة والمعدنية المتعامل بها اليوم؛ حُكمها حُكم النقدين: الذهب والفضة، فينظر إِلى ما يقابلها من النقدين، فإِن بلغت قيمتها عشرين مثقالاً، أو مائتي درهم، وحال عليها الحول، زُكّيت" (2).

زكاة الدَّيْن
الدَّيْن دَيْنَان:
1 - دَيْن يرجى رجوعه، والراجح أنّه يلزمه إِخراج الزكاة في الحال؛ لأنّه قادر على أَخْذِه والتصرُّف فيه.
2 - دين لا يُرجى رجوعه، لعُسرٍ ألمَّ بصاحبه، أو جحودٍ أو مماطلة، فهذا لا تجب فيه الزكاة.
وإذا قبضَه يزكّي عن كلّ ما مضى؛ لأنه حقٌّ متعلّق بالعباد.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ليس في الدَّيْن زكاة" (3)
__________
(1) أخرجه البخاري: 1454.
(2) عن "تبيين المسالك" (2/ 74).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (784).

(3/38)


وعنها قالت: "ليس فيه زكاة حتى يقبضه" (1).
وعن علي -رضي الله عنه- في الدين الظَّنون (2) "إِنْ كان صادقاً فليزكّه إِذا قَبضه، لِما مضى" (3).

زكاة الحُليّ
اختلف العلماء في هذه المسألة وهناك آثار تفيد إِخراج الزكاة عنها، وأخرى تفيد عدم الإِخراج؛ ذكَرها ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (4).
زكاة الحُلي واجبة لعموم الآيات والأحاديث الآمرة بالزكاة، ولا دليل على الاستثناء.
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 100): " ... صحّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيجاب الزكاة في الذهب عموماً؛ ولم يخصّ الحُلي من سقوط الزكاة فيه؛ لا بنصّ ولا بإِجماع، فوجبت الزكاة بالنّصّ في كلّ ذهب وفضّة.
وخصّ الإِجماع المتيقّن بعض الأعداد منهما وبعض الأزمان، فلم تجب الزكاة فيهما؛ إلاَّ في عدد أوجبه نصٌّ أو إِجماع، وفي زمان أوجبه نصٌّ أو إِجماع، ولم يُجز تخصيص شيء منها؛ إِذ قد عمَّهما النصّ؛ فوجَب أنْ لا يُفرَّق بين أحوال الذهب بغير نصّ ولا إِجماع.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (784).
(2) هو الذي لا يدري صاحبه أيصِل إِليه أم لا. "النهاية".
(3) رواه أبو عبيد وعنه البيهقي، وصحّحه شيخنا في "الإِرواء" (785).
(4) انظر (6/ 93) منه وما بعدها، وانظر أيضاً "الإِرواء" تحت (817).

(3/39)


وصحّ يقيناً -بلا خلاف- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوجب الزكاة في الذهب والفضة كلّ عام، والحُليّ فضّة أو ذهب، فلا يجوز أنْ يقال: "إلاَّ الحُلي" بغير نصّ في ذلك ولا إِجماع- وبالله تعالى التوفيق".
عن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كنت ألبس أَوْضَاحاً (1) من ذهب، فقلتُ: يا رسول الله! أكنزٌ هو؟ فقال: ما بلغَ أن تؤدّى زكاته فليس بكنز" (2).
وعن عبد الله بن شداد بن الهاد؛ أنه قال: دخَلْنا على عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: دخَل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى في يدي فَتَخَات (3) من وَرِق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهنّ أتزيّن لك يا رسول الله، قال: أتؤدّين زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبُك من النار" (4).
__________
(1) الأوْضَاح: نوع من الحُليّ يُعمل من الفضة؛ سُمّيت بها لبياضها، والوَضح: البياض من كلّ شيء. "النهاية". ملتقطاً.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1383). وقال: حسن -المرفوع منه فقط- فيُفهم عدم ثبوت المناسبة من حيث السّنَد وقد بيّن ذلك شيخنا -رحمه الله تعالى- في "الصحيحة" (559)، وفيه: وقد روى مالك عن عبد الله بن دينار أنه قال: سمعْتُ عبد الله بن عمر يُسأل عن الكنز ما هو؟ فقال: "هو المال الذي لا تُؤدَّى منه الزكاة" وإسناده صحيح غاية".
(3) فَتَخَات: جمع فَتْخة وهي خواتيم كبار؛ تُلبس في الأيدي، وقيل: هي خواتيم لا فصوص لها. "النهاية" بحذف، والفُص ما يركَّب في الخاتم من الحجارة الكريمة وغيرها. "الوسيط".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1384) وغيره، وانظر "الإِرواء" (3/ 296).

(3/40)


وتقدّم الحديث "في الرّقة العُشر" والحُليّ وَرِق يجب فيه حقّ الزكاة كما قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 100).
وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: " ... ليس فيما دون خمس أواق صدقة" (1).
وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها؛ إلاَّ إِذا كان يومُ القيامة؛ صُفّحت له صفائح من نار فأحمي بها جَنْبُه وجبينُه وظهره، كلما بردت؛ أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ... " ومعنى الكنز متحقِّق في حُلي الذهب والفضّة كما لا يخفى.
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 100) -بعد أن ذكر هذا الحديث-: "فوجبَت الزكاة في كلّ ذهب بهذا النص، وإنما تسقط الزكاة من الذهب؛ عمّن لا بيان في هذا النصّ بإِيجابها فيه؛ وهو العدد والوقت، لإِجماع الأمّة كلّها -بلا خلاف منها أصلاً- على أنّه -عليه الصلاة والسلام- لم يوجب الزكاة في كُلّ عددٍ من الذهب، ولا في كُلّ وقتٍ من الزمان، فلمّا صحّ ذلك، ولم يأت نصٌّ في العدد والوقت؛ وجَب أنْ لا يُضاف إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلا ما صحّ عنه؛ بنقل آحاد أو بنقل إِجماع، ولم يأت إِجماعٌ قطّ بأنه - عليه الصلاة والسلام- لم يُرْد إِلا بعض أحوال الذهب وصفاته، فلم يجُز تخصيص شيء من ذلك بغير نصٍّ ولا إِجماع".
وقال الخطابي -رحمه الله تعالى-: "الظاهر من الكتاب يشهد لقول من
__________
(1) أخرجه البخاري: 1447، ومسلم: 979.

(3/41)


أوجبَها، والأثر يؤيّده، ومن أسقطها ذهَب إِلى النظر، ومعه طرَف من الأثر، والاحتياط أداؤها" (1).
"وعن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- قالت: أتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطوق فيه سبعون مثقالاً من ذهب، فقلت: يا رسول الله! خُذ منه الفريضة التي جعل الله فيه.
قالت: فأخذ رسول الله مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال، فوجَّهه. قالت: فقلت: يا رسول الله! خذ منه الذي جعل الله فيه.
قالت: فقسَم رسول الله على هذه الأصناف الستة، وعلى غيرهم، فقال: فذكَره.
[قالت:] قلت: يا رسول الله! رضيت لنفسي ما رضي الله -عزّ وجلّ- به ورسوله" (2).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (6/ 1185): "وفي الحديث دلالة صريحة؛ على أنّه كان معروفاً في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوب الزكاة على حُليّ النساء، وذلك بعد أنْ أمَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها في غير ما حديث صحيح؛ كنت ذكرتُ بعضها في "آداب الزفاف" [ص 264].
ولذلك جاءت فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- بطوقها إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأخذ زكاتها منه؛ فليُضَمّ هذا الحديث إِلى تلك، لعلّ في ذلك ما يُقنِع الذين لا يزالون يُفتون بعدم وجوب الزكاة على الحُليّ، فيَحرِمون بذلك
__________
(1) "عون المعبود" (4/ 301).
(2) انظر "الصحيحة" (2978).

(3/42)


الفقراء من بعض حقّهم في أموال زكاة الأغنياء! ".

هل على الحُليّ المحرَّمة زكاة؟
جاء في "تبيين المسالك" (2/ 73): "أمّا الحُليّ الحرام وهو الذي يَتخِذُه الرجل للُّبْس، كخواتم الذهب وأسورته، فتجب فيه الزكاة إِذا بلَغ نصاباً، وحال عليه الحول.
كما تجب الزكاة في الأواني الفضية والذهبية، والمجامر والملاعق ونحو ذلك.
وتقدّم أنّ اقتناءها مُحرَّم على النساء والرجال. وبه قال أحمد والشافعي في أصحّ قوليه، ثمّ أشار إِلى "الروض المربع" (1/ 114)، و"المجموع" (6/ 37).
وسألت شيخنا -رحمه الله تعالى-: "هل تجب الزكاة في أواني الذهب؟
فأجاب: تجب ولو كانت محرّمة، وهي أولى بالزكاة".

زكاة صداق المرأة
ليس هناك نصٌّ -فيما علمت- في صَدَاق المرأة، وبهذا فلا زكاة عليه إِلا إِذا قبضته وحال عليه الحول، هذا إِذا بلغ النصاب؛ فإِذا لم يبلغ النصاب فلا زكاة عليه.
وكذا المهر المؤجّل إِذا لم تمتلِكه؛ فإِنّه لا يجب عليه الزّكاة، وشأنه شأن الدَّين الذي يُرجى سداده، أو لا يُرجى. والله تعالى أعلم.

(3/43)


وسألْتُ شيخنا -رحمه الله- عن ذلك.
فأجاب -رحمه الله-: "إِذا امتلكَتْه؛ وجَب بشروط الحول والنصاب، وإذا لم تمتلكه وكان في ذمّة الزوج؛ فلا زكاة عليه.
وإِذا كانت ترى أنّ هذا المهر كالدَّين الحيّ؛ أي: يمكنها الحصول عليه متى أرادت، أو حسب اتفاقها مع زوجها، فيجب عليها إِخراج الزكاة في هذه الحالة.
أمّا إِذا كانت تعدّ هذا المهر كالدَّين الميِّت الذي لا يرجو صاحبه قبْضه، فإِنّه لا تجب عليها الزكاة في هذه الحالة".
فائدة هامّة: ما لم يرد فيه نصّ في زكاته كالدّور المؤجرة والخَضْراوات (1) والمرتّبات ونحو ذلك؛ فإِن الزكاة لا تجب فيها إلاَّ إِذا جلَبَت مالاً بلغ النصاب، وحال عليها الحول.
قال الإِمام الشوكاني -رحمه الله- في "السّيل الجرار" (2/ 27) -في الردّ على من يقول بالزكاة على المستغلاّت كالدور التي يكريها مالكها وكذلك الدّوابّ ونحو ذلك-:
"هذه مسألة لم تطن على أذن الزمن، ولا سمع بها أهل القرن الأول -الذين هم خير القرون- ولا القرن الذي يليه، ثم الذي يليه، وإِنما هي من الحوادث اليَمنِيّة، والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإِسلامية -على اختلاف أقوالهم وتباعد أقطارهم- ولا توجد عليها أثارة من علم؛ لا من كتاب ولا من سُنّة ولا قياس، [وأموال] المسلمين معصومة بعصمة
__________
(1) وسيأتي التفصيل إِن شاء الله -تعالى-.

(3/44)


الإِسلام؛ لا يحلّ أخْذها إلاَّ بحقّها، وإلا كان ذلك من أكْل أموال الناس بالباطل".
وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 479): "هذه المسألة من غرائب العلماء التي ينبغي أن تكون مغفورة؛ باعتبار ما لهم من المناقب؛ فإِنّ إِيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق -كالدّور، والعَقار، والدّوابّ، ونحوها- بمجرّد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها - ممّا لم يُسمَع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -فضلاً أن يُسمَع فيه بدليل من كتاب أو سُنّة- وقد كانوا يستأجرون، ويؤجِّرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابّهم، ولم يخطر ببال أحدهم؛ أنه يُخْرج في رأس الحول ربع عشر قيمة داره، أو عقاره، أو دوابّه! وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاقّ، حتى كان آخر القرن الثالث، من أهل المئة الثالتة، فقال بذلك من قال بدون دليل؛ إِلا مجرّد القياس على أموال التجارة، وقد عرَفْتَ الكلام في الأصل؛ فكيف يقوم الظلّ والعود أعوج؟!
مع أنّ هذا القياس في نفسه مختلٌّ بوجوه ... ".

هل في عروض التجارة زكاة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، واستشهد من رأى ذلك بعددٍ من النصوص والآثار، ولكنّها غير ثابتة، منها حديث سمرة بن جندب قال: "أَمَرنا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تُخرَج الصدقة ممّا نعدّه للبيع".

(3/45)


وحديث بلال بن الحارث المزني "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخَذَ من معادن القَبليّة (1) الصدقة".
وقول عمر لحماس: "أدِّ زكاة مالك، فقال: مالي إلاَّ جِعاب (2) وأُدُم (3)، فقال: قوِّمها وأدِّ زكاتها".
وقد خرَّجها شيخنا -رحمه الله تعالى- في "الإِرواء" (3/ 310).
وهناك آثار صحيحة فصَّل فيها ابن حزم -رحمه الله تعالى- (4) وبيّن أنّه ليس فيها إِيجابٌ لزكاة العروض.
وإِذا كان كذلك: "فالحقّ أنّ القول بوجوب الزكاة على عروض التجارة؛ ممّا لا دليل عليه في الكتاب والسُّنّة الصحيحة، مع منافاته لقاعدة البراءة الأصليّة التي يؤيّدها هنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبة حَجّة الوداع: فإِنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم ... عليكم حرام؛ كحُرمة يومكم هذا؛ في شهركم هذا؛ في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت (5)؟! " (6).
وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحلُّ
__________
(1) جاء في "النهاية": "القَبَلية: منسوبة إِلى قَبَل -بفتح القاف والباء- وهي ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام.
وقيل: هي ناحية الفُرْع، وهو موضع بين نَخْلة والمدينة ... ".
(2) مفردها جَعبة وهي الكِنانة [الوعاء] التي تُجعل فيها السهام. "النهاية".
(3) الأُدُم: الجلود.
(4) انظر "المُحلّى" (5/ 347 - 352).
(5) انظر "صحيح البخاري" (1739)، و"صحيح مسلم" (1679).
(6) قاله شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 363).

(3/46)


مال امرئٍ مسلم؛ إلاَّ عن طيب نفس" (1).
قلت: وقد ورَدَت كلمتا (تجارة) و (زكاة) في الكتاب والسُّنّة، ولم تُجمع هاتان الكلمتان (زكاة التجارة)، في الكتاب أو السُّنّة مع شيوع التجارة وكثرتها، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوحى إِليه والقرآن يتنزَّل!
* وقد صحّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدلّ على أنَّه لا زكاة في عروض التجارة، وهو أنّه قد صحّ (2) عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس فيما دون خمس ذود (3) صدقةً من الإِبل، وليس فيما دون خمس أواق (4) صدقة" (5).
وأنّه أسقط الزكاة عمّا دون الأربعين من الغنم، وعمّا دون خمسة أوسق من التمر والحبّ، فمن أوجَب زكاةً في عروض التجارة؛ فإِنه يوجبها في كلّ ما نفى عنه- عليه الصلاة والسلام- الزكاة ممّا ذكرنا.
وصحّ عنه -عليه السلام-: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1459)، وتقدّم.
(2) كذا الأصل.
(3) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 323): "الأكثر على أنَّ الذود من الثلاثة إِلى العشرة ... وقال أبو عبيد: من الثنتين إِلى العشرة، قال؛ وهو يختصّ بالإناث وقال القرطبي: أصله ذاد يذود: إِذا دفَع شيئاً فهو مصدر، وكأن من كان عنده؛ دفع عن نفسه مَعَرّة الفقر وشدّة الفاقة والحاجة".
(4) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 310): "مقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتفاق والمراد بالدرهم: الخالص من الفضة".
(5) أخرجه البخاري: 1447، ومسلم: 979.

(3/47)


صدقة، إلاَّ صدقة الفطر" (1).
وأنّه -عليه السلام- ذكَر حقّ الله تعالى في الإِبل والبقر والغنم والكنز ... فسُئِل عن الحُمُر فقال: "ما أنزل عليّ فيها شيء إِلا هذه الآية الفاذّة (2) الجامعة: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره} (3) " (4).
فمن أوجَب الزكاة في عروض التجارة؛ فإِنه يوجبها في الخيل والحُمُر والعبيد، وقد قطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بأنه لا زكاة في شيء منها؛ إِلا صدقة الفطر في الرقيق.
فلو كانت في عروض التجارة، أو في شيء ممّا ذَكَر -عليه السلام- زكاة إِذا كان لتجارة -لبيّن ذلك بلا شكّ، فإِذْ لم يُبيِّنه -عليه السلام- فلا زكاة فيها أصلاً "* (5).
وقد يحتجّ بعض العلماء بحديث قيس بن أبي غَرَزَة -رضي الله عنه- قال: "مرّ بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا معشر التّجار، إِنّ البيع يحضره اللغو والحلف؛ فَشُوبُوه بالصدقة" (6).
__________
(1) أخرجه مسلم: 982.
(2) أي: المنفردة في معناها.
(3) الزلزلة: 7.
(4) أخرجه البخاري: 2860، ومسلم: 987.
(5) ما بين نجمتين من كلام ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 353)، خلا الأحاديث؛ فإِنها خُرّجت من مصادرها المذكورة.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2845) والترمذي والنسائي وابن ماجه وصحّح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "المشكاة" (2798).

(3/48)


قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 349): "فهذه صدقةٌ مفروضة غير محدودة؛ لكن ما طابت به أنفسهم، وتكون كفّارة لما يشوب البيع مما لا يصحّ؛ من لغو وحَلِف".
وربما احتجّ بعض العلماء بقول ابن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "ليس في العروض زكاة؛ إِلا ما كان للتجارة" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنَّة" (ص 364) بعد أن ذَكر ما ذكرْته في بداية المبحث من عدم ورود دليل على زكاة العروض من الكتاب والسّنّة، ومنافاة ذلك البراءة الأصلية مُدعماً بالحديث المتقدّم: "فإِنّ دماءَكم وأموالكم ... " قال -رحمه الله-:
"ومِثل هذه القاعدة ليس من السهل نقضها، أو على الأقلّ تخصيصها ببعض الآثار ولو صحّت" وذكَر هذا الأثر".
ثم قال -رحمه الله-: "ومع كونه موقوفاً غير مرفوع إلى النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإِنّه ليس فيه بيان نصاب زكاتها ولا ما يجب إِخراجه منها، فيُمكِن حمْله على زكاة مطلقة، غير مقيّدة بزمن أو كمّية، وإنما بما تطيب به نفس صاحبها، فيدخل حينئذ في عموم النصوص الآمرة بالإِنفاق، كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفِقوا ممّا رزقناكم ... }، وقوله -جلّ وعلا-: {وآتوا حقّه يوم حَصاده}، وكقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلاَّ ملكان يَنزِلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أَعْطِ مُنفِقاً خَلَفَاً، ويقول الآخر: اللهمّ أعط
__________
(1) أخرجه الإِمام الشافعي في "الأمّ" بسند صحيح، وانظر "تمام المِنّة" (ص 364).

(3/49)


مُمْسِكاً تَلَفَاً".
رواه الشيخان (1) وغيرهما، وهو مُخرَج في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم (920).
وقد صحّ شيء مما ذكرْتُه عن بعض السلف، فقال ابن جريج: قال لي عطاء: "لا صدقة في اللؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عَرْض (2)، ولا شيء لا يدار (أي: لا يتاجَر به)، وإن كان شيئاً من ذلك يدار؛ ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع".
أخرجه عبد الرزاق (4/ 84/7061)، وابن أبي شيبة (3/ 144)، وسنده صحيح جداً.
والشاهد منه قوله: "ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع".
فإِنه لم يَذكُر تقويماً، ولا نصاباً، ولا حولاً، ففيه إِبطال لادِّعاء البغوي في "شرح السنة" (6/ 53) الإِجماع على وجوب الزكاة في قيمة عروض التجارة؛ إِذا كانت نصاباً عند تمام الحول! كما زعم أنه لم يخالِف في ذلك إِلا داود الظاهري!
وإنّ ممّا يبطل هذا الزعم أنّ أبا عبيد -رحمه الله- قد حكى في كتابه "الأموال" (427/ 1193) عن بعض الفقهاء؛ أنّه لا زكاة في أموال التجارة.
ومن المستبعَد جداً؛ أنْ يكون عنى بهذا البعض داود نفسه؛ لأنّ عمره
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (1442)، و"صحيح مسلم" (1010).
(2) المتاع.

(3/50)


كان عند وفاة الإِمام أبي عبيد أربعاً وعشرين سنة أو أقلّ؛ ومن كان في هذا السنّ؛ يبعد عادة أن يكون له شُهْرة علمية؛ بحيث يحكي مثل الإِمام أبي عبيد خلافه، وقد تُوفّي سنة (224)، وولد داود سنة (200) أو (202)، فتأمّل.
ولعلّ أبا عبيد أراد بذاك البعض؛ عطاء بن أبي رباح، فقد قال إِبراهيم الصائغ: "سُئل عطاء: تاجر له مال كثير في أصناف شتّى، حضَر زكاته، أعليه أنْ يقوِّم متاعه على نحو ما يعلم أنه ثمنه، فيُخرِج زكاته؟
قال: لا، ولكن ما كان من ذهبٍ أو فضةٍ أخرج منه زكاته، وما كان من بيع أخرج منه إِذا باعه".
أخرجه ابن زنجويه في كتابه "الأموال" (3/ 946/ 1703) بسند حسن كما قال المعلّق عليه الدكتور شاكر ذيب فياض، وهو شاهد قوي لرواية ابن جريج المتقدمة.
وجملة القول؛ أنّ المسألة لا يصح ادّعاء الإِجماع فيها، لهذه الآثار وغيرها ممّا ذكَره ابن حزم في "المحلّى"، الأمر الذي يُذكّرنا بقول الإِمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "من ادّعى الإِجماع، فهو كاذب، وما يدريه لعلّهم اختلفوا".
وصدَق -جزاه الله خيراً- فكم من مسألة ادُّعي فيها الإِجماع، ثمّ تبيّن أنّها من مسائل الخلاف، وقد ذكَرنا أمثلة منها في بعض مؤلفاتنا، مِثل "أحكام الجنائز" و"آداب الزفاف"، وغيرهما".
وقال -رحمه الله- (ص 367): "قد يَدّعي بعضهم أنّ القول بعدم

(3/51)


وجوب زكاة عروض التجارة فيه إِضاعة لحق الفقراء والمساكين في أموال الأغنياء والمُثرين، والجواب من وجهين:
الأول: أنّ الأمر كله بيد الله تعالى، فليس لأحد أنْ يشرع شيئاً من عنده بغير إِذنٍ من الله -عزّ وجلّ- {وربُّك يخلُق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخِيرَة سبحانه وتعالى عمَّا يشركون} (1).
ألا ترى أنّهم أجمَعوا على أنّه لا زكاة على الخَضْراوات؛ على اختلافٍ كثيرٍ بينهم؛ مذكورٍ عند المصنّف (2) وغيره، واتفقوا على أنه لا زكاة على القصب والحشيش والحطب؛ مهما بلغَت قيمتها، فما كان جوابهم عن هذا كان الجواب عن تلك الدعوى!
على أنّ المؤلف قد جزَم أنّه لم تكن تُؤخَذ الزكاة من الخَضْراوات ولا من غيرها من الفواكه إلاَّ العنب والرّطب.
فأقول: فهذا هو الحقّ، وبه تبطُل الدعوى من أصلها.
والآخر: أنّ تلك الدعوى قائمة على قصر النظر في حكمة فرض الزكاة؛ أنها لفائدة الفقراء فقط، والأمر على خلافه كما في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ... } (3) الآية.
فإِذا كان الأمر كذلك، ووسَّعْنا النظر في الحكمة قليلاً، وجدنا أنّ الدعوى المذكورة باطلة؛ لأنّ طرْح الأغنياء أموالهم ومتاجرتهم بها أنفع
__________
(1) القصص: 68.
(2) أي: الشيخ السيد سابق -رحمه الله تعالى-.
(3) التوبة: 60.

(3/52)


للمجتمع -وفيه الفقراء- مِنْ كَنْزِها، ولو أخرجوا زكاته.
ولعلّ هذا يُدركه المتخصصون في علم الاقتصاد أكثر من غيرهم، والله ولي التوفيق".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 16): "وأمّا مالك فمذهبه أنّ التجّار على قسمين: متربّص، ومدير.
فالمتربّص (1): وهو الذي يشتري السلع، وينتظر بها الأسواق، فربَّما أقامت السلع عنده سنين، فهذا عنده لا زكاة عليه، إِلا أنْ يبيع السلعة فيزكّيها لعام واحد.
وحُجّته أنّ الزكاة شُرعت في الأموال النامية، فإِذا زَكّى السلعة كلّ عام - وقد تكون كاسدة- نقصت عن شرائها فيتضرر، فإِذا زُكّيت عند البيع؛ فإِنْ كانت ربحت فالربح كان كامناً فيها، فيُخرج زكاته، ولا يُزكّي حتى يبيع بنصاب؛ ثم يُزكّي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل.
وأمّا المدير: وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول، فلا يستقر بيده سلعة، فهذا يُزكّي في السَّنة الجميع، يجعل لنفسه شهراً معلوماً، يحسب ما بيده من السِّلَع والعين، والدّين الذي على المليء الثقة، ويزكي الجميع، هذا إِذا كان ينضُّ (2) في يده في أثناء السَّنة، ولو درهم، فإِن لم يكن يبيع بعين
__________
(1) وقال (ص 45) في تعريف المتربص: "وهو الذى يشترى التجارة وقت رُخصها ويدّخرها إِلى وقت ارتفاع السعر".
(2) نضّ الشيء: حصَل وتيسّر. "الوسيط".

(3/53)


أصلاً، فلا زكاة عليه عنده" (1).
وقال الشوكاني -رحمه الله- في "السّيل الجرار" (2/ 27) -بعد تحقيق وتخريج النصوص المتعلقة بالموضوع-: "والحاصل أنّه ليس في المقام ما تقوم به الحُجّة، وإِنْ كان مذهب الجمهور كما حكاه البيهقي في "سننه" فإِنه قال: إِنه قول عامّة أهل العلم والدّين". انتهى. وهناك أمر هامّ؛ وهو أنّ من أوجَب الزكاة على عروض التجارة بنسبة 2.5% فماذا إِذا ربح التاجر وحال الحول على مبلغٍ ما عنده؛ أفلا يكون قد أوجب الزكاة عليه مرّتين؟ فمن أين هذا الإيجاب؟ وما الدليل عليه؟
والخلاصة: "إِنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلاَّ عن طيب نفس"، وأنّه لم يرد نصٌ في الكتاب أو السُّنَة الصحيحة يوجب زكاة العروض مع كثرة متاجرات الصحابة -رضي الله عنهم- وأنّه قد ورَدت بعض الآثار التي تفيد ورود ذلك.
بيْد أنّها لم تبلغ مبلغاً ينقض ما اتفق من القواعد، أو يجعلنا نطمئنّ بإِيجاب هذه الزكاة، مع مناقشة أهل العلم لأفراد هذه الآثار.
وكذلك قد ورَد في نصوص عديدة بيان زكوات أشياء عديدة، كزكاة النقدين، وما يؤخَذ من الزروع والثمار؛ كالحنطه والشعير والتمر والزبيب، وزكاة المواشي: الإِبل والبقر والغنم، وفيها بيان النصاب ومقدار الواجب في كلّ ذلك، وورد في نصوص عديدة ما لا يُؤخَذ فيه زكاة؛ كالخَضْراوات،
__________
(1) ويميل شيخ الإِسلام -رحمه الله- إِلى وجوب الزكاة في عروض التجارة، وانظر -إِن شئت- "مجموع الفتاوى" (25/ 15).

(3/54)


والخيل، والرقيق إلاَّ زكاة الفطر، ودون خمسة أوسق من التمر ... " ودون الأربعين من سائمة الغنم.
وسكت الشرع عن أشياء غير نسيان (1)، وقد قال الله تعالى: {وما كان ربُّك نَسِيّا} (2).
ودلّ هذا على عدم إِيجاب الزكاة -يعني المقنّنة التي يشترط فيها الحول والنصاب- وإنما تُدفع صدقة من الصدقات والله -تعالى- أعلم".
وسألْت شيخنا -رحمه الله- مَنْ مِنْ السّلف قال بهذا القول؟ فكان من إِجابته:
" ... إنّ بعض التُّجار قد جاءوا من الشام إلى عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- ومعهم خيل للبيع للتجارة، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! خُذ منّا زكاتها.
فقال -رضي الله عنه-: إِنّه لم يفعل ذلك صاحباي من قبلي.
فألحّوا مُصرِّين وألحّ هو كذلك، وكان في المجلس علي بن أبي طالب
__________
(1) وفي الحديث: "ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلال، وما حَرَّم فهو حرام، وما سكَت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإِن الله لم يكن لينسى شيئاً، وتلا: {وما كان ربك نسيًّا} ". أخرجه الحاكم في "المستدرك" وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (2).
وثبث عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: "الحلال ما أحلّ الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو عفو". "غاية المرام" (3).
(2) مريم: 64.

(3/55)


-رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين! خُذها منهم على أنّها صدقة من الصدقات، فأخَذَها فطابت قلوبهم.
والحديث في "مسند الإِمام أحمد"، ففيه بيان وتوضيح أنّ الخيل التي كانت تُربَّى وتشرى من أجل المتاجرة بها؛ لا زكاة عليها؛ كالذي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاته على الحيوانات الأخرى؛ كالغنم والبقر والإِبل، وبيّن شيخنا -رحمه الله- أن ابن حزم ذكَر ذلك". انتهى.
قلت: والذي ذكَره ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 339) وقد ذكر أنه لا زكاة في الخيل-: "وقد صحّ أنّ عمر إِنّما أخَذها على أنها صدقة تطوُّع منهم؛ لا واجبة.
... عن شبيل بن عوف -وكان قد أدرك الجاهلية- قال: أمَر عمر بن الخطاب الناس بالصدقة؛ فقال الناس: يا أمير المؤمنين، خيل لنا، ورقيق، افرِضْ علينا عشرة عشرة! فقال عمر: أمّا أنا فلا أفرض ذلك عليكم.
ثمّ قال: ... عن حارثة -هو ابن مضرب- قال: "حَججتُ مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأتاه أشراف أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين، إِنّا أصبنا رقيقاً ودوابّ؛ فخُذ مِن أموالنا صدقةً تُطهّرنا، وتكون لنا زكاة! فقال: هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي" (1).
__________
(1) وقال شيخنا -رحمه الله- في بعض إِجابات السائلين: "فيه رجل يكنّى بأبي إِسحاق السبيعي، وهو ثقة حُجّة من رجال الشيخين، ولكنه متَّهم بأمرين؛ الأول: التدليس، والثاني: الاختلاط، وبعضهم يغضّ النظر عن مِثل هذه العِلّة فيَحكُم على الإِسناد بالصحة، ولكن لا بأس من إِيراد هذا الأثر مع بيان حقيقته ... ".

(3/56)


ثم قال: ... هذه أسانيد في غاية الصحّة والإِسناد، فيه أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأخذ من الخيل صدقة، ولا أبو بكر بعده؛ وأنّ عمر لم يفرض ذلك، وأنّ علياً بعده لم يأخذها".

زكاة الزروع والثمار
وجوبها
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مِن طيّبات ما كسبتُم وممّا أَخرجْنا لكم من الأرض} (1).
وقال تعالى: {وهو الذي أنشَأ جنّاتٍ (2) معروشات وغيرَ معروشات (3) والنخل والزرع مختلفاً أُكُله (4) والزيتون والرُّمان متشابهاً (5) وغير
__________
(1) البقرة: 267.
(2) الجنات: هي البساتين.
(3) معروشات وغير معروشات: أي: مسموكات مرفوعات، وغير مرفوعات، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: معروشات: ما انبسط على وجه الأرض فانتشر ممّا يعرش؛ مِثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها.
وغير معروشات: ما قام على ساق ونسَق [ما كان على نظام واحد] مِثل النخل والزرع وسائر الأشجار، وقال الضحاك: كلاهما من الكرم خاصَّة؛ منها ما عُرش ومنها ما لم يُعرش"، "تفسير البغوي".
(4) مختلفاً أُكُله: أي: ثمره وطعمه منها الحلو والحامض ...
(5) متشابهاً: أي: في النظر.

(3/57)


متشابه (1) كلوا من ثمره إذا أثمَر وآتوا حقّه يوم حَصادِه} (2).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- {وآتوا حقّه يوم حصادِه}: "الزكاة المفروضة يوم يُكال ويُعلم كيلُه" (3).

الأصناف التي تُؤخَذ منها
تُؤخَذ زكاة الزروع والثمار من الحنطة والشعير والتمر والزبيب فقط.
عن أبي موسى ومعاذ -رضي الله عنهما- حين بعَثهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى اليمن يُعلّمان النّاس أمر دينهم: "لا تأخذوا الصدقة إِلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر" (4).
جاء في "تمام المِنّة" (ص 372): "قال أبو عبيد وابن زنجويه في "كتابيهما": "والذي نختاره في ذلك الاتباع لسُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتمسّك بها، أنّه لا صدقة في شيء من الحبوب إِلا في البُرّ والشعير، ولا صدقة في شيء من الثمار إِلا في النخل والكرم.
لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسمِّ إلاَّ إِيّاها، مع قول من قال به من الصحابة والتابعين، ثم اختيار ابن أبي ليلى وسفيان إِياه، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خصّ
__________
(1) وغير متشابه: أي: في الطعم مثل الرمّانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف. "تفسير البغوي".
(2) الأنعام: 141.
(3) تفسير ابن كثير.
(4) أخرجه الدارقطني والحاكم وغيرهما، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (801) و"الصحيحة" (879).

(3/58)


هذه الأصناف الأربعة للصدقة، وأعرض عمّا سِواها، قد كان يعلم أنّ للناس أموالاً وأقواتاً، ممّا تخرج سواها، فكان ترْكه ذلك وإعراضه عنه؛ عفواً منه كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-] وهذه الحُجّة الأخيرة؛ تنسحب أيضاً على عروض التجارة (1)، فإِنها كانت معروفة في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذُكِرت في القرآن والأحاديث مراراً كثيرة، وبمناسبات شتّى، فسكوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، وعدم تحدُّثه عنها بما يجب عليها من الزكاة التي ذهب إِليها بعضهم؛ فهو عفو منه أيضاً لحكمة بالغة، سبق لفت النظر إِلى شيء منها ممّا ظهر لنا، والله -سبحانه وتعالى- أعلم".
وسألتُ شيخنا -رحمه الله- عن أخْذِ الأصناف التي تشبه المذكورات "الحنطة والشعير والتمر والزبيب" وما اشتق منها، كالخوخ ونحوه.
فقال: ما قيل في عروض التجارة؛ أي: الزكاة غير المقنّنة.

هل في العنب زكاة؟
عن موسى بن طلحة قال: "أمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن جبل حين بعثه إِلى اليمن؛ أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير والنخل والعنب".
* وهذا سند صحيح مرسل، وهو صريح في الرفع، ولا يضر إِرساله لأمرين:
الأول: أنّه صحَّ موصولاً عن معاذ كما تقدّم (2) من رواية ابن مهدي عن سفيان عن عمرو بن عثمان.
__________
(1) وتقدّم الكلام عنها.
(2) تحت رقم (801) من "الإرواء".

(3/59)


الثاني: أن عبد الله بن الوليد العدني -وهو ثقة- رواه عن سفيان به وزاد فيه: "قال: بَعث الحجّاج بموسى بن المغيرة على الخضر والسواد، فأراد أن يأخذ من الخضر الرطاب والبقول، فقال موسى بن طلحة عندنا كتاب معاذ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه أمرَه أن يأخذ من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال: فكتَب إِلى الحجّاج في ذلك، فقال: صدَق ... "* (1).
وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: هل تجب الزكاة في العنب؟
فأجاب: تجب الزكاة فيه إِذا أراد بيعه قبل أن يصبح زبيباً؛ كما تجب فيه الزكاة وهو زبيب.

لا تُؤخذ الزكاة من الخَضْراوات.
عن معاذ أنه كتب إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله عن الخَضْراوات -وهي البقول- فقال: "ليس فيها شيء" (2).
قال أبو عيسى: "والعمل على هذا عند أهل العلم؛ أنه ليس في الخَضْراوات صدقة".
وروى موسى بن طلحة أنّ معاذاً لم يأخذ من الخَضْراوات صدقة" (3).

هل في السُّلت زكاة؟
نعم فيه زكاة؛ وهو ضرب من الشعير أبيض لا قشر له (4) لأنه صنف من
__________
(1) ما بين نجمتين من "الإِرواء" (3/ 278).
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (519) وغيره.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (801).
(4) انظر "النهاية".

(3/60)


الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث (1).

هل في الزيتون زكاة؟
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الزيتون، هل يرى عدم إِخراج الزكاة عنه؟
فأجاب -رحمه الله-: لا تجب فيه الزكاة المقنّنة، أمّا الزكاة العامّة فتجب لقوله تعالى: {وآتوا حقّه يوم حصاده} (2).

النّصاب
يُشترط لإِيجاب الزكاة في الثمار والزروع المنصوص عليها؛ أن تبلغ خمسة أوسُق (3).
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة من الإِبل، وليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة" (4).

المقدار الواجب:
ْيختلف المقدار الواجب إِخراجه باختلاف وسيلة السقي؛ فإِنْ كان يُسقَى بماء السماء والعيون والأنهار؛ فزكاته العُشر.
__________
(1) انظر -إِن شئت- للمزيد من الفائدة "تمام المِنّة" (ص 370).
(2) الأنعام: 141.
(3) الوَسْق: ستون صاعاً والأصل في الوَسْق: الحِمل، وكلّ شيء وسَقْته فقد حَمَلْته، ْوالوَسق أيضاً: ضمّ الشيء إِلى الشيء. "النهاية".
(4) أخرجه البخاري: 1447، ومسلم: 979.

(3/61)


وإن كان يُسقَى بالدلاء والنواضح الارتوازية ونحوها؛ فزكاته نصف العُشر (1).
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فيما سقَت السماء والعيون أو كان عَثَريّاً (2) العُشر، وما سُقي بالنَّضح (3) نصف العُشر" (4).
وعن جابر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فيما سقَت الأنهار والغيم (5) العُشور (6) وفيما سُقي بالسانية (7) نصف العُشر" (8).
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: بعَثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى اليمن، وأمَرني أن آخذ ممّا سقت السماء وممّا سُقي بعلاً العُشر، وما سُقي
__________
(1) انظر ما قاله شيخنا في "الصحيحة" تحت الحديث (142).
(2) قال الخطابي: "هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي" زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها؛ يصبّ إِليه من ماء المطر في سواق تشقّ له قال: واشتقاقه من العاثور، وهي الساقية التي يجرى فيها الماء لأن الماشي يعثر فيها.
قال: ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة أو يشرب بعروقه؛ كأن يغرس في أرض؛ يكون الماء قريباً من وجهها، فيَصل إِليه عروق الشجر فيستغني عن السقي". قاله الحافظ في "الفتح" (3/ 349).
(3) الإِبل التي يُستقى عليها.
(4) أخرجه البخاري: 1483.
(5) أي: المطر.
(6) العُشور: جمْع عُشر.
(7) السانية: البعير الذي يستقى به الماء من البئر، ويقال له النّاضح. "عون" (4/ 340).
(8) أخرجه مسلم: 981.

(3/62)


بالدوالي (1) نصف العُشر" (2).

الأكل من الزرع قبل إِخراج الزكاة
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 385): "مسألة: ولا يجوز أن يُعَدّ على صاحب الزرع في الزكاة ما أَكل هو وأهله فريكاً أو سويقاً -قلّ أو كثُر- ولا السنبل الذي يسقط فيأكله الطير أو الماشية، أو يأخذه الضعفاء، ولا ما تصدَّق به حين الحصاد؛ لكن ما صُفّي فزكاته عليه.
برهان ذلك: ... أن الزكاة لا تجب إِلا حين إِمكان الكيل، فما خرَج عن يده قبل ذلك؛ فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه.
وقال الشافعي والليث كذلك.
وقال مالك وأبو حنيفة: يُعَدّ عليه كل ذلك.
قال أبو محمّد: هذا تكليف ما لا يطاق، وقد يسقط من السنبل ما لو بقي لأتمّ خمسة أوسق، وهذا لا يُمكن ضبطه، ولا المنع منه أصلاً.
والله تعالى يقول: {لا يكلِّف الله نفساً إِلا وُسعَها} (3) ".
__________
(1) الدوالي: جمع دالية وهي الساقية أو الناعورة وهي دولاب ذو دلاء أو نحوها يدور بدفع الماء أو جرّ الماشية؛ فيخرج الماء من البئر أو النهر إِلى الحقل، وانظر "الوسيط".
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1472) وانظر "الإرواء" تحت الحديث (799).
(3) البقرة: 286.

(3/63)


خَرْص (1) النخيل والأعناب
إِذا بدا صلاح النخيل والأعناب وظهر بعينها الحلاوة، فإِنّ تقدير النصاب فيها بالخرص لا الكيل.
فعن أبي حُميد الساعدي -رضي الله عنه- قال: غَزونا مع النّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غزوة تبوك، فلمّا جاء وادي القُرى؛ إِذا امرأة في حديقةٍ لها، فقال النبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه: اخرُصوا، وخَرَص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشرةَ أَوْسُق، فقال لها: أحْصِي (2) ما يخرج منها ... فلما أتى وادي القُرى قال للمرأة: كم جاء حديقتُك؟
قالت: عشرةَ أوسُق خَرْصَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين افتتح خيبر اشترط عليهم أنّ له الأرض، وكلّ صفراء وبيضاء، يعني -الذهب والفضة-
__________
(1) الخَرص: حَزْر ما على النخيل من الرطب تمراً، قال الحافظ بعد التعريف السابق: "حكى الترمذي عن بعض أهل العلم؛ أنّ تفسيره أنّ الثمار إِذا أدركت من الرطب والعنب؛ ممّا تجب فيه الزكاة؛ بعَث السلطان خارصاً ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيباً، وكذا وكذا تمراً فيُحصيه، وينظر مبلغ العُشر فيُثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار، فإِذا جاء وقت الجذاذ؛ أخَذ منهم العشر انتهى، وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها والبيع من زهوها وإيثار الأهل والجيران والفقراء؛ لأن في منعهم منها تَضْييقاً لا يخفى".
(2) أي: احفظي عدد كيلها، وأصل الإِحصاء: العدد بالحصى؛ لأنهم كانوا لا يُحسنون الكتابة؛ فكانوا يضبطون العدد بالحصى.
(3) أخرجه البخاري: 1481، ومسلم: 1392.

(3/64)


وقال له أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض، فأعطِناها على أن نعملها، ويكون لنا نصف الثمرة، ولكم نصفها، فزعم أنّه أعطاهم على ذلك.
فلمّا كان حين يصرم النخيل؛ بعَث إِليهم ابن رواحة، فحزر النخيل -وهو الذي يدعونه أهل المدينة، الخرص- فقال: في ذا: كذا وكذا.
فقالوا: هذا الحقّ، وبه تقوم السماء والأرض فقالوا: قد رضينا أن نأخذ بالذي قُلت" (1).
قال الخطابي: " ... والخرص عُمِل به في حياة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى مات، ثم أبو بكر وعمر فمَن بعدهم، ولم يُنقل عن أحدٍ منهم ولا من التابعين ترْكه؛ إلاَّ عن الشعبي" (2).
وسألت شيخنا -رحمه الله- أيضاً: "ما رأيكم فيمن يرى أنّ الزيتون يُزكّى بالخرص؛ فتؤخذ زكاته زيتاً"؟
فأجاب -رحمه الله-: "لا، ليس عليه زكاة، ونحن حينما نقول: ليس عليه زكاة؛ نعني الزكاة التي تجب على الأصناف المنصوص عليها في الأحاديث، بمعنى لا نصاب، وتزكّى في كلّ عام، فهذا حينما نُثبته نعنيه، وكذلك حينما ننفيه نعنيه.
وأقصد بهذا لفْت النظر إِلى أنّ هناك زكاةً مطلقة؛ ليس لها هذه القيود، إِعمالاً لقوله تعالى: {وآتوا حقّه يوم حصاده} ".
__________
(1) أخرجه ابن ماجه وإسناده جيد كما في "الإِرواء" (3/ 282).
(2) انظر "الفتح" (3/ 344).

(3/65)


متى تجب الزكاة في الزروع والثمار؟
تجب الزكاة في الزروع إِذا اشتدّ الحبّ وصار فريكاً؛ وتجب في الثمار إِذا بدا صلاحها، ويعرف ذلك باحمرار البلح وجريان الحلاوة في العنب (1).
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحُها، وكان إِذا سئل عن صلاحها قال: حتى تذهب عاهته (2) " (3).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها" (4).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهيَ. قال: حتى تحمارّ (5) " (6).
قال ابن المنيّر -رحمه الله- في كتابه "المتواري على تراجم أبواب البخاري" (ص 127) بعد ذكر حديث ابن عمر وأنس -رضي الله عنهم-: "ووجه الاستدلال؛ إِجازته للبيع بعد بدوّ الصلاح؛ وهو وقت الزكاة ... ".
__________
(1) عن "فقه السنة" (1/ 361).
(2) أي: الآفة التي تصيبها فتفسدها. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 1486.
(4) أخرجه البخاري: 1487.
(5) قال الكرماني (8/ 34): "تفسيره بلفظ "تحمارّ" على سبيل التمثيل إِذ حُكم الاصفرار والاسوداد أيضاً كذلك قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل: إِذا ظهرت ثمرته وأزهى إِذا احمرّ أو اصفرّ".
(6) أخرجه البخاري: 1488.

(3/66)


وسألت شيخنا -رحمه الله- متى يعتبر النصاب في الزرع والثمار؟ أبعد جفاف الثمار أم قبل ذلك؟
فأجاب -رحمه الله-: يعتبر النصاب بعد الحصاد وإدخالها في الأكياس.

إِخراج الطيّب في الزكاة:
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبَات ما كسبتُم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تُنفِقون ولستم بآخذيه إِلاَّ أن تُغمضوا فيه واعلموا أنَّ الله غني حميد} (1).
قال ابن كثير: {ولا تيمّموا الخبيث} أي: تقصدوا الخبيث {منه تنفقون ولستم بآخذيه}: أي: لو أُعطيتموه ما أخذتموه إلاَّ أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم.
وقيل: معناه: أي: لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إِلى الحرام؛ فتجعلوا نفقتكم منه".
قلت: ويمكن الجمع بين القولين.
وعن البراء بن عازب في قوله سبحانه: {وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفِقون}. قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار تخرِج، إِذا كان جَداد (2) النخل، من حيطانها، أقناء البُسر (3)، فيعلقونه على
__________
(1) البقرة: 267.
(2) الجداد: أوان قطع ثمر النخل. "الوسيط".
(3) البُسر: تمر النخل قبل أن يُرطب.

(3/67)


حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيأكل منه فقراء المهاجرين، فيعمِد أحدهم فيُدخِل قِنواً (1) فيه الحشَف (2)، يظن أنه جائز في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك {ولا تيمّموا الخبيث منه تُنفِقون} يقول: لا تعمدوا للحشف منه تُنفِقون {ولستم بآخذيه إِلا أن تُغمِضوا فيه} يقول: لو أُهدي لكم ما قبلتموه إِلا على استحياءٍ من صاحبه، غيظاً أنه بعث إِليكم ما لم يكن لكم فيه حاجة، واعلموا أنّ الله غني عن صدقاتكم" (3).
وعن سهل بن حُنيف -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجُعرور (4)، ولون الحُبَيق (5)؛ أن يؤخذا في الصدقة". قال الزُّهري: "لونين من تمر المدينة" (6).
__________
(1) القِنو: العِذق [الغصن] بما فيه من الرطب. "النهاية".
(2) الحشَف: اليابس الفاسد من التمر. "النهاية".
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1475)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2389).
(4) الجُعرور: ضَرْب من الدّقل [رديء التمر] يحمل رُطباً صغاراً لا خير فيه. "النهاية".
(5) الحُبَيق: هو نوع من أنواع التمر الرديء، منسوب إِلى ابن حُبيق، وهو اسم رجل. "النهاية".
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1418)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2312) وغيرهما.

(3/68)


وترجم له ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 39) بقوله: "باب الزجر عن إِخراج الحبوب والتمور الرديئة في الصدقة؛ قال الله عز وجل: {ولا تيمّموا الخبيث منه تُنفِقون ولستم بآخذيه إِلا أن تُغمِضوا فيه}.
وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: "دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد وبيده عصاً، وقد علّق رجُلٌ منّا حَشَفاً، فطعَن بالعصا في ذلك القِنو وقال: لو شاء ربّ هذه الصدقة؛ تصدَّق بأطيبَ منها". وقال: "إِنَّ رَبّ هذه الصدقة يأكل الحَشَفَ يوم القيامة" (1).

زكاة العسل
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخذ في زمانه من قرب العسَل؛ من كل عشر قِرب قِرْبة؛ من أوسطها" (2).
وعن أبي سيارة المتّقي -رضي الله عنه- قال: قلتُ يا رسول الله! إِنَّ لي نحلاً، قال: أدِّ العُشر، قلت: يا رسول الله! احمِها (3) لي فحماها له" (4).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في العسل
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1419).
(2) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1477) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (810).
(3) احمها: أي: احفظها حتى لا يطمع فيه أحد. حاشية "السندي على سنن ابن ماجه" (1/ 559).
(4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1476).

(3/69)


في كلّ عشرة أزُقّ زِقّ" (1).
وجاء في "تمام المِنّة" (ص 374) لشيخنا في الردّ على السيد سابق -رحمهما الله- في ذِكْره قول البخاري "ليس في زكاة العسل شيء يصحّ": "أقول [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: ليس هذا على إِطلاقه، فقد روي فيه أحاديث؛ أحسنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأصحّ طُرقه إِليه طريق عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب ... بلفظ: "جاء هلال أحد بني مُتعان إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له وادياً يقال له: (سَلَبَة)، فحمى له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك الوادي.
فلمّا وَلِيَ عمر بن الخطاب، كتب سفيان بن وَهْب إِلى عمر يسأله عن ذلك، فكتب عمر: إِنْ أدّى إِليك ما كان يؤدّي إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عشور (2) نحله، فاحْمِ له (سَلَبته)، وإِلا فإِنما هو ذباب غيث (3) يأكله من يشاء".
قلت: وهذا إِسناد جيد، وهو مخرج في "الإِرواء" (810)، وقواه الحافظ في "الفتح"، فإِنّه قال عقبه (3/ 348): "وإسناده صحيح إِلى عمرو،
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (514).
(2) جمع عشر والمراد من كل عشر قِرَب قربة.
(3) أي: وإنْ لم يؤدّوا عشور النحل، فالعسل مأخوذ من ذباب النحل [فلا يلزم عليك حِفْظه، لأن الذباب غير مملوك، فيحلّ لِمن يأخذه]، وأضاف الذباب إِلى الغيث؛ لأنَّ النحل يقصد مواضع القطر؛ لما فيها من العشب والخصب. "عون" (4/ 342) وما بين معقوفين قاله السندي -رحمه الله-.

(3/70)


وترجمة عمرو قوية على المختار، لكن حيث لا تعارض ... إلاَّ أنّه محمول على أنه في مقابلة الحمى كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب".
وسبقه إِلى هذا الحمل ابن زنجويه في "الأموال" (1095 - 1096)، ثمّ الخطابي في "معالم السنن" (1/ 208)، وهو الظاهر، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.
ولدقة المسألة حديثياً وفقهياً، اضطرب فيه رأي الشوكاني، فذهب في "نيل الأوطار" (4/ 125) إِلى عدم وجوب الزكاة على العسل، وأعلّ أحاديثه كلها، وأما في "الدرر البهية " فصرَّح بالوجوب، وتبعه شارحه صديق خان في "الروضة الندية" (1/ 200)، وأيَّد ذلك الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 46 - 48)، وقال: "وأحاديث الباب يُقوّي بعضها بعضاً".
فلم ينتبه إِلى الفَرق، واختلاف دلالة بعضها عن بعض، فهذه الطريق الصحيحة دلالتها مقيّدة بالحَمي -كما رأيت- والأخرى مطلقة، ولكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج بها، كما قال هو نفسه في "النيل"، ثم تبنى العمل بها في المصدرين المشار إِليهما، ونسي قاعدة "حمل المطلق على المقيد" التي يُكرّرها في كثير من المسائل التي تتعارض فيها الأدلة، فيجمع بينها بها.
إِذا تبين هذا؛ فنستطيع أن نستنبط مما سبق؛ أنّ المناحل التي تتخذ اليوم في بعض المزارع والبساتين لا زكاة عليها، اللهمّ إلاَّ الزكاة المطلقة؛ بما تجود به نفسه، على النحو الذي سبَق ذِكره في عروض التجارة. والله أعلم". انتهى.
قال السندي: " .. وعُلِم أنَّ الزكاة فيه غير واجبة على وجه يجبر صاحبه

(3/71)


على الدفع؛ لكن لا يلزم الإِمام حمايته إلاَّ بأداء الزكاة" (1).

زكاة الحيوان
لقد وردَت نصوص في إِيجاب الزكاة في الإِبل والبقر والغنم (2).
ويشترط لإِيجاب الزكاة فيها:
1 - أن تبلغ النصاب.
2 - أن يحول عليها الحول، وهذان الشرطان بُيِّنا في الأحاديث السابقة.
3 - أن تكون سائمة، أي: تُرسل للرعي في الكلأ ولا تُعلَف.
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... وفي صدقة الغنم في سائمتها؛ إِذا كانت أربعين إِلى عشرين ومائة؛ شاة ... " (3).

زكاة الإِبل والمقدار الواجب
ولا تجب الزكاة في الإِبل؛ حتى تبلغ خمساً؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كتَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاب الصدقة، فلم يُخرجه إلى عمّاله حتى قُبض، فقَرن بسيفه، فَعمِل به أبو بكر حتى قُبض، ثمَّ عمل به عمر حتى قُبض، فكان فيه: "في خمس عن الإِبل شاة ... " (4).
__________
(1) "عون" (4/ 342).
(2) وتقدّم بعضها في (الترهيب من منعها).
(3) جزء من حديث أخرجه البخاري: 1454.
(4) أخرجه أحمد وأصحاب السنن والدارمي وابن أبي شيبة، وانظر "الإِرواء" =

(3/72)


ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس فيما دون خمسٍ من الإِبل صدقة" (1). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ومن لم يكن معه إِلا أربع من الإِبل فليس فيها صدقة؛ إلاَّ أن يشاء ربُّها، فإِذا بلغت خمساً من الإِبل؛ ففيها شاة" (2).
وتجب الزكاة في الإِبل؛ على نحو ما جاء في الحديث الآتي:
"عن أنس أنّ أبا بكر -رضي الله عنهما- كتب له هذا الكتاب لمَّا وجَّهه إِلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتى أمَر الله بها رسوله، فمن سُئِلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئّل فوقها فلا يُعطِ.
في أربع وعشرين من الإِبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة.
فإِذا بلغَت خمساً وعشرين إِلى خمس وثلاثين؛ ففيها بنت مخاض (3) أنثى.
فإِذا بلغَت ستّاً وثلاثين إِلى خمس وأربعين؛ ففيها بنت لَبون (4) أنثى، فإِذا
__________
= (3/ 266)، و"صحيح سنن أبي داود" (1386).
(1) أخرجه ابن ماجه وغيره، وانظر "الصحيحة" (2192).
(2) أخرجه البخاري: 1454، وهو جزء من الحديث الآتي.
(3) بنت مخاض: هي التي أتى عليها الحول، ودخَلَت في الثاني، وحمَلت أمها، والماخض الحامل، أي: دخل وقت حمْلها وإن لم تحمِل. "فتح".
(4) بنت لَبون: هي التي دخلت في ثالث سنة؛ فصارت أمّها لبوناً بوضع الحمل. وانظر "الفتح".

(3/73)


بلغَت ستاً وأربعين إِلى ستين ففيها حقَّة (1) طَروقة (2) الجمل.
فإِذا بلغت واحدةً وستين إِلى خمس وسبعين ففيها جَذَعة (3).
فإِذا بلغت -يعني ستاً وسبعين- إِلى تسعين ففيها بنتا لبونٍ فإِذا بلغت إِحدى وتسعين إِلى عشرين ومائة؛ ففيها حِقَّتان طروقتا الجمل.
فإِذا زادت على عشرين ومائة؛ ففي كلّ أربعين بنت لبون، وفي كلّ خمسين حِقّة.
ومن لم يكن معه إِلا أربع من الإِبل؛ فليس فيها صدقة؛ إِلا أن يشاء ربّها (4)، فإِذا بلغت خمساً من الإِبل ففيها شاة".
وبهذا فإِنّ:
بنت المخاض: ما دخَلت في السنة الثانية وحمَلت أمّها.
بنت اللبون: ما دخَلت في السنة الثالثة فصارت أُمها لَبوناً.
والحقّة: ما دخَلت في السنة الرابعة واستحقّت الركوب والتحميل.
__________
(1) حقِّة: هو من الإِبل ما دخَل في السنة الرابعة إِلى آخرها، وسُمّي بذلك؛ لأنه استحقّ الركوب والتحميل. "النهاية".
(2) طروقة: أي مطروقة، والمراد؛ أنها بلغَت أن يطرقها الفحل، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلَت في الرابعة. "فتح".
(3) جَذَعة: هي التي أتت عليها أربع ودخلت في الخامسة، وسُمّيت بها؛ لأنهّا جُذعت أي: سقط مقدّم أسنانها، وقيل: لأنها خَرَج جميعها.
(4) أي: إلاَّ أن يتطوع صاحبها.

(3/74)


والجَذَعة: ما دخَلت في السنة الخامسة وجذعت [أي: سقطت] مقدّم أسنانها أو كلّها.
والخلاصة في المقدار الواجب أنّه:
1 - لا شيء في الإِبل حتى تبلغ خمساً.
2 - من (5 - 24) من الإِبل تجب في كلّ خمس شاة.
3 - من (25 - 35) من الإِبل تجب فيها بنت مخاض أنثى.
4 - من (36 - 45) من الإِبل تجب فيها بنت لبون.
5 - من (46 - 60) من الإِبل تجب فيها حقّة طروقة الجمل.
6 - من (61 - 75) من الإِبل تجب فيها جذعة.
7 - من (76 - 90) من الإِبل تجب فيها بنتا لبون.
8 - من (91 - 120) من الإِبل، تجب فيها حقّتان طروقتا الجمل.
9 - من 120 فأكثر يجب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقَّة.

زكاة البقر والمقدار الواجب
تجب زكاة البقر في الثلاثين منها تبيع أو تبيعة، والتبيع ذو الحول ذكَراً كان أم أنثى (1)، فإِذا بلغت أربعْين ففيها مسُنّة؛ وهي ذات الحولين.
عن معاذ -رضي الله عنه- "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا وجّهه إِلى اليمن؛ أمَره أن
__________
(1) طِلبة الطّلَبة.

(3/75)


يأخذ من البقر؛ من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كلّ أربعين مُسنَّة" (1).
قال ابن عبد البَرّ في "الاستذكار": "لا خلاف بين العلماء أنَّ السُّنّة في زكاة البقر؛ على ما في حديث معاذ -رضي الله عنه- وأنّه النصاب المُجمَع عليه" (2).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 37): "والتبيع: الذي له سنة، ودخَل في الثانية، والبقرة المُسنّة: ما لها سنتان".
"قال أبو بكر [ابن خزيمة]: قال أبو عبيد: تبيع ليس بسِنّ إِنّما هو صفة، وإنما سُمّي تبيعاً؛ إِذا قَوِي على اتباع أمّه في الرعي، وقال: إِنه لا يقوى على اتّباع أمّه في الرعي؛ إلاَّ أن يكون حولياً أي: قد تمّ له حول" (3).

هل في الجاموس زكاة؟
نعم في الجاموس زكاة لأنه من صنف البقر.
جاء في "اللسان": الجاموس: نوع من البقر.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 37): "والجواميس بمنزلة البقر؛ حكى ابن المنذر فيه الإِجماع".
وسئل شيخنا -رحمه الله-: هل في الجاموس زكاة؟
فأجاب: نعم في الجاموس زكاة؛ لأنه نوع من أنواع البقر.
__________
(1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (795)، وانظر "صحيح سنن أبي داود" (1394).
(2) انظر "الروضة النديّة" (1/ 467).
(3) انظر "صحيح ابن خزيمة" (4/ 20).

(3/76)


فائدة: إِذا كان يشتري لجماله المرعى أيّام الرعي، هل فيها زكاة؟
أجاب عن هذا شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (25/ 48) قائلاً: "إِذا كانت راعيةً أكثر العام؛ مِثل أن يشتري لها ثلاثة أشهر أو أربعة، فإِنه يُزكّيها، هذا أظهر قولي العلماء".
عن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "في كلّ إِبلٍ سائمة؛ في كلّ أربعين ابنة لبون (1)." (2).

زكاة الغنم والمقدار الواجب
لا تجب الزكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين، والمقدار الواجب فيها على نحو ما جاء في الحديث الآتي: "وفي صدقة الغنم في سائمتها؛ إِذا كانت أربعين إِلى عشرين ومائة شاة، فإِذا زادت على عشرين ومائة إِلى مائتين؛ شاتان، فإِذا زادت على مائتين إِلى ثلاثمائة، ففيها ثلاث، فإِذا زادت على ثلاثمائة؛ في كلّ مائة شاة.
فإِذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة؛ فليس فيها صدقة؛ إِلا أن يشاء ربّها" (3).
__________
(1) هي التي أتى عليها حولان وصارت أُمّها لَبوناً بوضع الحمل. "عون" (4/ 303). وسنُفَصِّل القول في ذلك عمّا قريب -إِن شاء الله تعالى-.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (791).
(3) أخرجه البخاري: 1454، وهذا هو تتمّة حديث أبي بكر حين كتَب كتاباً لأنس؛ لمّا وجّهه إِلى البحرين، وتقدّم شطره غير بعيد.

(3/77)


والخلاصة:
1 - لا شيء في الغنم حتى تبلغ أربعين.
2 - من (40 - 120) شاة، تجب فيها شاة واحدة.
3 - من (121 - 200) شاة، تجب فيها شاتان.
4 - من (201 - 300) شاة، تجب فيها ثلاث.
5 - ما زاد عن الثلاثمائة في كل مائة شاة.
قال الحافظ في "الفتح" (3/ 330): "مقتضاه أنه لا تجب الشاة الرابعة حتى توفّى أربعمائة وهو قول الجمهور".
فائدة: قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 36): "واختلفوا فيما إِذا كان بعض الجنس أرفع من بعض، فقيل: يأخذ من أيها شاء، وقيل: من الوسط".

حُكْم الأوقاص:
الأوقاص: جمع وَقَص -بالتحريك-: ما بين الفريضتين؛ كالزيادة على الخمس في الإِبل إِلى التسع، وعلى العَشر إِلى أربع عشرة (1)، وقيل غير ذلك.
ولا شيء في الأوقاص، وقد صحّ الدليل لذلك؛ كما في كتاب أبي بكر إِلى أنس المتقدِّم: "فإِذا كانت سائمة الرجل ناقصةً من أربعين شاة واحدة؛ فليس فيها صدقة إلاَّ أن يشاء ربُّها". وهذا في الغنم.
__________
(1) انظر "النهاية".

(3/78)


ما لا يُؤخذ في الزكاة
ينبغي عدم الإِجحاف بأموال الأغنياء ومراعاة حقوقهم، فلا يؤخذ من أنْفَسها إلاَّ برضاهم، ويجب كذلك مراعاة الفقير فلا يؤخذ الحيوان المعيب، وإنّما من وسط المال.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل -حين بعَثه إِلى اليمن- ... فأخبِرْهم أنّ الله قد فرَض عليهم صدقة؛ تُؤخذ من أغنيائهم؛ فتردّ على فقرائهم، فإِنْ هم أطاعوا لك بذلك؛ فإِيّاك وكرائم (1) أموالهم" (2).
ومن الأدلة على ذلك:
1 - ما رواه أنس أنّ أبا بكر -رضي الله عنه- كتَبَ له التي أمر الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ولا يخرَج في الصدقة هرِمة (3)، ولا ذاتُ عوار (4) ولا تيس (5)، إلاَّ ما شاء
__________
(1) الكرائم: قال الحافظ في "الفتح" (3/ 360): "جمع كريمة أي: نفيسة، ففيه ترْك أخْذ خيار المال، والنكتة فيه؛ أنّ الزكاة لمواساة الفقراء، فلا يناسب ذلك الإِجحاف بمال الأغنياء إِلا إِن رضوا بذلك". وجاء قبله (3/ 322): يُقال: ناقة كريمة أي: غزيرة اللبن، والمراد الأموال من أيّ صِنفٍ كان، وقيل: له نفيس؛ لأن نفس صاحبه تتعلّق به .. ".
(2) أخرجه البخاري: 1496، ومسلم: 19، وتقدم نحوه.
(3) هَرِمة: الكبيرة التي سقطَت أسنانها.
(4) قال الحافظ: "بفتح العين المهملة وبضمّها أي: المعيبة، وقيل: بالفتح العيب وبالضمّ العَوَر".
(5) التيس: هو فحل الغنم، والنهي لكونه يُحتاج إليه، ففي أخْذه بغير اختيار صاحبه إِضرارٌ به. والله أعلم، "فتح" (3/ 321) بتصرُّف.

(3/79)


المصدِّق" (1).
2 - وكذلك ما رواه عبد الله بن معاوية الغاضري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث من فعلهنّ فقد طَعِم طعْم الإِيمان: مَن عبدَ الله وحده، وأنّه لا إِله إِلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسُه، رافدةً عليه كلّ عام، ولم يُعطِ الهَرِمة، ولا الدّرِنة (2)، ولا المريضة، ولا الشَّرَط (3) اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإِنّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه" (4).

إِباحة دعاء الإِمام على مُخْرِج مُسِنّ ماشيته في الصدقة؛ بأن لا يبارَك له في ماشيته، ودعائه لمُخرج أفضل ماشيته في الصدقة؛ بأن يبارَك له في ماله (5).
عن وائل بن حجر: "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث ساعياً، فأتى رجلاً، فأتاه فَصِيلاً مخلولاً فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بعَثْنا مُصدِّق الله ورسوله، وأنَّ فلاناً أعطاه فصيلاً مخلولاً (6)، اللهمّ لا تبارِك فيه، ولا في إِبلِه.
فبلغ ذلك الرجل فجاء بناقة حسناء، فقال: أتوب إِلى الله -عزّ وجلّ-
__________
(1) أخرجه البخاري: 1455.
(2) الدَّرنة: أي: الجرباء وأصله من الوسخ. "النهاية".
(3) الشَّرَط: أي: رُذال المال، وقيل: صغاره وشراره. "النهاية".
(4) أخرجه أبو داود وغيره، وصحّحه شيخنا في "الصحيحة" (1046) و"صحيح الترغيب والترهيب" (746).
(5) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 22).
(6) أي: مهزولاً، وهو الذي جُعل على أنفه خلال؛ لئلا يرضع أمّه فتُهزل. "النهاية".

(3/80)


وإِلى نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهمّ بارك فيه وفي إِبِله" (1).

زكاة غير الأنعام
قد تقدّمت النصوص فيما تجب فيه الزكاة من الحيوان، ولم يأت نصٌّ يوجب زكاةً في الخيل أو البغال أو الحمير، بل جاء ما يبيّن العفو عن ذلك.
فعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد عفوت عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقة؛ من كل أربعين درهماً درهماً، وليس في تسعين ومائة شيء، فإِذا بلغَت مائتين ففيها خمسة دراهم" (2).
وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: وفيه: " ... فالحُمُر؟ قال: ما أُنزل عليّ في الحُمُر شيء، إلاَّ هذه الآية الفاذّة (3) الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يَرَه ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يَرَه} " (4).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 339): "وذهَب جمهور الناس إِلى أن لا زكاة في الخيل أصلاً". ثمّ ساق بعض الآثار بأسانيده، ومن ذلك:
1 - "عن شبيل بن عوف قال: أَمَر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2306) وابن خزيمة في "صحيحه" (2274).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1392)، والترمذي، وانظر "المشكاة" (1799)، وتقدّم.
(3) أي: المنفردة في معناها كما تقدّم.
(4) الزلزلة: 7 - 8.

(3/81)


الناس بالصدقة، فقال الناس: يا أمير المؤمنين! خيلٌ لنا ورقيق، افرِض علينا عشرة عشرة! فقال عمر: أمّا أنا فلا أفرض ذلك عليكم" (1).
2 - وعن حارثة بن معزب قال: "حجَجْت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأتاه أشراف أهل الشام فقالوا؛ يا أمير المؤمنين، إِنّا أصبنا رقيقاً ودوابَّ؛ فخُذ من أموالنا صدقةً؛ تطهرنا وتكون لنا زكاة! فقال: هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي".
ثمّ قال -رحمه الله تعالى-: هذه أسانيد في غاية الصحة والإِسناد فيه أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأخذ من الخيل صدقة؛ ولا أبو بكر بعده؛ وأنّ عمر لم يفرض ذلك، وأنّ علياً بعده لم يأخذها" (2).

في الجمع والتفريق:
عن أنس -رضي الله عنه- أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- كتَب له التي فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يجمع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مُجتَمعٍ خشية الصدقة" (3).
قال الحافظ في "الفتح" (3/ 314): "قال مالك في "الموطَّأ": معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة؛ لكلّ واحد منهم أربعون شاة؛ وجَبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلّهم فيها إِلا شاة واحدة، أو
__________
(1) تقدّم.
(2) تقدّم، والحديث في "المسند" وفي آخره: "ولكن انتظروا حتى أسأل المسلمين"، وانظر تعليق الشيخ العلاّمة أحمد شاكر -رحمه الله- عليه.
(3) أخرجه البخاري: 1450.

(3/82)


يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان؛ فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيُفرِّقونها حتى لا يكون على كلّ واحد إِلا شاة واحدة.
وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة وللساعي من جهة، فأمّر كلّ واحد منهم؛ أن لا يُحدِث شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرَبُّ المال يخشى أن تكثُر الصدقة؛ فيجمَع أو يُفرِّق لتقلّ، والساعي يخشى أن تقلّ الصدقة؛ فيجمع أو يفرّق لتكثُر.
فمعنى قوله خشية الصدقة: أي: خشية أن تكثُر الصدقة، أو خشية أنْ تقلّ الصدقة ... " (1).
وفي رواية: "وما كان من خليطين (2)؛ فإِنهما يتراجعان (3) بينهما في
__________
(1) وجاء في "النهاية": "أمّا الجمع بين المتفرِّق فهو الخلاط ... ثم ذكَر الأمثلة السابقة".
(2) جاء في "النهاية": الخليط: المخالط، ويريد به الشريك الذي يخلط ماله بمال شريكه، والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة، وللآخر ثلاثون بقرة، وما لها مختلط فيأخذ الساعي عن الأربعين مُسنَّة، وعن الثلاثين تبيعاً؛ فيرجع باذِلُ المسنَّة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذِلُ التبيع بأربعة أسباعه على شريكه؛ لأنّ كل واحد من السِّنَّين واجب على الشيوع، كأنّ المال مُلْك واحد.
وفي قوله: "بالسَّويَّة" دليل على أنّ الساعي إِذا ظلَم أحدَهما؛ فأخَذ منه زيادةً على فرضه؛ فإِنه لا يرجع بها على شريكه، وإنما يغرم له قيمة ما يخصّه من الواجب دون الزيادة.
(3) وقال الخطابي: معناه أن يكون بينهما أربعون شاة مثلاً؛ لكل واحدٍ منهما عشرون؛ قد عرف كل منهما عين ماله، فيأخذ المصدِّق من أحدهما شاة، فيُرجع المأخوذ من ماله على خليطه؛ بقيمة نصف شاة، وهذه تسمّى خلطة الجوار". "فتح" (3/ 315).

(3/83)


السوية" (1).
وعن سويد بن غفلة -رضي الله عنه- قال: سِرْتُ -أو قال: أخبَرني من سار- مع مُصدِّق (2) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإِذا في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أن لا تأخذ من راضع لبن (3)، ولا تجمعَ بين مُفتَرِق ولا تُفَرِّق بين مجتَمع" (4).

من أين تُؤخَذ الصدقات؟
عن ابن عمرو -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا جَلَب (5) ولا
__________
(1) أخرجه البخاري: 1451.
(2) أي: آخِذ الصدقة.
(3) جاء في "النهاية": "أراد بالرّاضع ذات الدَّرِّ واللبّن، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره ذات راضع.
فأمّا مِن غير حذْف؛ فالراضع الصغير الذي هو بعْدُ يرضع، ونهيه عن أخذها لأنها خيار المال، ومن زائدة، كما نقول: لا تأكل من الحرام: أي: لا تأكل الحرام، وقيل: هو أن يكون عند الرَّجل الشاة الواحدة أو اللقحة؛ قد اتخذها للدَّرِّ؛ فلا يؤخذ منها شيء".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1397) وغيره.
(5) لا جَلَب: -بفتحتين- أي: لا يُقرّب العامل أموال الناس إِليه؛ لما فيه من المشقّة عليهم، بأن ينزِل الساعي مَحِلاًّ بعيداً عن الماشية ثم يُحصرها، وإنما ينبغي له أن ينزل على مياههم، أو أمكنة مواشيهم؛ لسهولة الأخذ حينئذ، ويطلق الجَلَب أيضاً؛ على حثّ فرس السباق على قُوّة الجري، بمزيد الصياح عليه لما يترتّب عليه من إِضرار الفرس.

(3/84)


جَنَب (1)، ولا تؤخذ صدقاتهم إلاَّ في دورهم (2) ".
وعن محمّد بن إِسحاق في قوله: "لا جَلَب ولا جَنَب": قال: أن تُصّدَّق الماشية في مواضعها، ولا تجلب إِلى المصدِّق، والجَنَب عن (غيره) هذه الفريضة أيضاً؛ لا تجنب أصحابها.
يقول: ولا يكون الرجل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة؛ فتجنب إِليه، ولكن تؤخذ في موضعه" (3).
وعن ابن عمرو -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تؤخَذ صدقات المسلمين على مياههم" (4). يعني مواشيهم.
وفي رواية: " ... ولا تؤخَذ صدقاتهم إلاَّ في ديارهم" (5).

إِرضاء العاملين على الصدقات
عن جرير بن عبد الله قال: "جاء ناسٌ من الأعراب إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
__________
(1) ولا جَنَب: -بفتحتين- أي؛ لا يُبعِد صاحب المال المال؛ بحيث تكون مشقّة على العامل.
(2) أي: منازلهم وأماكنهم ومياههم وقبائلهم على سبيل الحصر، لأنه كنَّى بها عنه، فإِنّ أخْذَ الصدقة في دورهم لازم؛ لعدم بُعْد الساعي عنها، فيجلب إِليه، ولعدم بُعد المزكّي؛ فإِنه إِذا بَعَدَ عنها لم يؤخَذ فيها اهـ.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1407)، قال شيخنا -رحمه الله- صحيح مقطوع.
(4) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (1779).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده"، وابن خزيمة في "صحيحه" (2280).

(3/85)


فقالوا: إِنَّ ناساً من المصدقّين يأتوننا فيظلموننا.
قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرضوا مُصدِّقيكم. قال جرير: ما صدر عنِّي مُصدِّق، منذُ سمعتُ هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ وهو عنِّي راضٍ" (1).

سمة غنم الصدقة إِذا قُبِضت (2)
عن أنس قال: "دخلْتُ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأخ لي يُحنِّكه (3) وهو في مِربدٍ (4) له فرأيته يَسم (5) شاة، حسبته (6) قال: في آذانها" (7).
وفي رواية لمسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أيضاً قال: "رأيت في يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المِيْسَم (8)، وهو يسِمُ أبلِ الصدقة".
__________
(1) أخرجه مسلم: 989.
(2) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 28).
(3) أي: مضَغ تمرات ودلَك به حنكه. وانظر "النهاية".
(4) مِرْبَد: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء: مكان الإِبل، وكأنّ الغنم أُدخلت فيه مع الإِبل. "فتح".
(5) يَسم: من الوسم وهو: أن يُعلّم الشيء بشيء، يؤثر فيه تأثيراً بالغاً، وأصْله أن يجعل في البهيمة علامةً يميزها عن غيرها. "فتح".
(6) القائل: شعبة والضمير لهشام بن زيد وهو راوي الحديث عن أنس. "الفتح" (9/ 672).
(7) أخرجه البخاري: 5542، ومسلم: 2119.
(8) الميسم: الحديدة التي يُكوى بها.

(3/86)


استعمال إِبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل (1)
عن أنس -رضي الله عنه-: "أنَّ أناساً من عُرَينة اجتووُا المدينة، فرخَّص لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتوا إِبل الصدقة؛ فيشربوا من ألبانها وأبوالها" (2).

زكاة الرّكاز
الرّكاز لغة: مأخوذ من الرَّكز وهو الدَّفن، وهو المعدن والمال المدفون كلاهما.
وشرعاً: هو دفين الجاهلية (3).
جاء في "الروضة الندية" (1/ 524): "قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمِعْت أهل العلم يقولون: إِنّ الرّكاز إِنما هو دَفْنٌ يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يُطلَب بمال، ولم يُتكلَّف فيه نفقة، ولا كبير عمل، ولا مؤنة.
فأمّا ما طُلِب بمال وتُكلِّف فيه كبير عمل فأُصيب مرّة وأخُطِئ مرّة؛ فليس بركاز".
قال البخاري: قال مالك وابن إِدريس (4) الركاز دِفْن الجاهلية؛ في قليله
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح البخاري".
(2) أخرجه البخاري: 1501، ومسلم: 1671، وتقدّم.
(3) عن "تمام المِنة" (ص 376) بزيادة. وانظر "النهاية" للمزيد من الفائدة.
(4) أمَّا قول مالك؛ فقد وصَله أبو عبيد في "الأموال" بسند صحيح وأمَّا قول ابن إِدريس -هو الإمام الشافعي على الأرجح- فوصله البيهقي بسند صحيح عنه؛ دون الزيادة المذكورة، وانظر "الفتح" (3/ 364) و"مختصر البخاري" (1/ 357) لشيخنا -رحمه الله تعالى-.

(3/87)


وكثيره الخُمس وليس المعدن بركاز، وقد قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعدن جُبار (1)، وفي الركاز الخمس" (2).
وقد ردّ شيخنا -رحمه الله- في "تمام المنّة" (ص 377) على من يقول: إِنَّ الركاز الذي يجب فيه الخُمس: هو كلَّ ما كان مالاً؛ كالذهب والفضّة ... إِلخ.
فقال: "وهذا خطأٌ مخالِف للغة، فإِنّ الركاز فيها: المال المدفون في الأرض ... والمال لغةً: ما ملكتْه من شيء.
فيُستنتَج من هاتين المقدمتين أنّ الرّكاز كل ما دُفن من المال؛ فلا يختصّ بالنقدين؛ وهو مذهب الجمهور، واختاره ابن حزم، ومال إِليه ابن دقيق العيد، وكان مالك يتردّد في ذلك، ثمّ استقر رأيه آخر الأمر على هذا القول المختار، كما في "المدوّنة" ... ".
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 8): "وجعل [الشرع] المال المأخوذ على حساب التعب، فما وُجِد من الأموال الجاهلية هو أقلّه تعباً ففيه الخُمس، ثمّ ما فيه التعب من طرف واحد، فيه نصف الخمس -وهو العشر- فيما سقَته السماء، وما فيه التعب من طرفين فيه ربع الخمس -وهو نصف العشر- فيما سقي بالنضح، وما فيه التعب في طول السنة كالعين؛ ففيه ثُمن ذلك -وهو ربع
__________
(1) أي: هدْر، وليس المراد أنه لا زكاة فيه، وإنّما المعنى أنَّ من استأجر رجُلاً للعمل في معدن مثَلاً فهلَك؛ فهو هدْر، ولا شيء على من استأجَره. "فتح" (3/ 365).
(2) وصله البخاري: 1499.

(3/88)


العشر-".

هل يشترط الحَوْل والنصاب في الركاز؟
لا اعتبار للنصاب والحول في الركاز؛ بل تجب فيه الزكاة على الفور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وفي الركاز الخُمس" (1).
قال الحافظ في "الفتح" (3/ 365): "واتفقوا [أي: الجمهور] على أنّه لا يشترط فيه الحول، بل يجب إِخراج الخمس في الحال".
قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 377): "والظاهر من إِطلاق الحديث: "وفي الركاز الخمس"، عدم اشتراط النصاب، وهو مذهب الجمهور، واختاره ابن المنذر والصنعاني والشوكاني وغيرهم".

مصرفه:
قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 378): " ... مصرفه يرجع إِلى رأي إِمام المسلمين؛ يضعه فيما تقتضيه مصلحة الدولة، وهو الذي اختاره أبو عبيد في "الأموال".
وكأنّ هذا هو مذهب الحنابلة، حيث قالوا في مصرف الركاز. يُصرف مصرف الفيء المطلق للمصالح كلّها".

هل في المعادن زكاة؟
لم يَرِدْ نصٌّ في إِيجاب الزكاة في المعادن، إِلا ما سبق القول في الصدقة
__________
(1) أخرجه البخاري: 1499، ومسلم: 1710، وتقدّم.

(3/89)


المطلقة غير المقنّنة.
هذا وقد ذكر عبد الرحمن بن قدامة المقدسي -رحمه الله تعالى- جمعاً من العلماء يَرْون الزكاة على المعادن قال: "قال الشافعي ومالك: لا تتعلّق الزكاة إلاَّ بالذهب والفضة ... ولأنّه مال مُقوَّم مستفاد من الأرض؛ أشبه الطين الأحمر" (1).
وروى مالك (1/ 248/8) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية -وهي من ناحية الفرع- فتلك المعادن لا يُؤخَذ منها إِلى اليوم إلاَّ الزكاة".
ورواه عن مالك أبو داود (3061) وأبو عبيد (338/ 863) والبيهقي (4/ 152) وقال: "قال الشافعي (2): ليس هذا مما يُثبِته أهل الحديث روايةً، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلا إِقطاعه، فأمّا الزكاة في المعادن دون الخمس؛ فليست مرويّة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه".
قال البيهقي: "هو كما قال الشافعي في رواية مالك، وقد روي عن عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة موصولاً".
وضعّفه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" تحت رقم (830).
وجاء في كتاب "الأمّ" (4/ 153) للإِمام الشافعي -رحمه الله-: "وإذا عمل في المعادن؛ فلا زكاة في شيء مما يخرج منها؛ إِلا ذهب أو وَرِق، فأمّا الكحل والرَّصاص والنّحاس والحديد والكبريت وغيره؛ فلا زكاة فيه.
__________
(1) انظر "الشرح الكبير" (2/ 580).
(2) انظر كتاب "الأمّ" (4/ 154).

(3/90)


وإذا خرج منها ذهب أو وَرِق ويميز؛ فكان غير متميز؛ حتى يُعالج بالنار أو الطّحْن أو التحصيل؛ فلا زكاة فيه حتى يصير ذهباً أو وَرِقاً، ما اختلط به من غيره.
فإِن سأل رب المعدن المصدِّق؛ أن يأخذ زكاته مُكايلَةً أو موازنة أو مُجَازَفَة؛ لم يكن له ذلك، وإِنْ فعل فذلك مردود، وعلى صاحب المعدن إِصلاحه حتى يصير ذهباً أو ورقاً، ثمّ تؤخذ منه الزكاة.
ولا يجوز بيع تُراب المعادن بحال؛ لأنه فضَّة أو ذهب مُختلط بغيره غير متميز منه.
وقد ذهب بعض أصحابنا، إِلى أن المعادن ليس بركاز، وأنَّ فيها الزكاة".
ثمّ ذكر الحديث السابق وضعّفه.
وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (5/ 333): "وأمّا المعادن: فإِنّ الأمّة مجمِعةٌ بلا خلاف من أحد منها؛ على أنّ الصُّفر والحديد والرصاص والقزدير؛ لا زكاة في أعيانها، وإنْ كثُرت!
ثم اختلفوا إِذا مُزج شيء منها في الدنانير والدراهم والحُليّ.
فقالت طائفة: تُزكّى تلك الدنانير والدراهم بوزنها.
قال أبو محمّد: وهذا خطأ فاحش، لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسقط الزكاة نصّاً فيما دون خمس أواقي من الوَرِق، وفيما دون مقدارها من الذهب، ولم يوجب -بلا خلاف- زكاةً في شيء من أعيان المعادن المذكورة.
فمن أوجب الزكاة في الدنانير، والدراهم الممزوجة بالنحاس أو الحديد

(3/91)


أو الرصاص أو القزدير؛ فقد خالف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرّتين-:
إِحداهما: في إِيجابه الزكاة؛ في أقلّ من خمس أواقي من الرِّقة.
والثانية: في إِيجابه الزكاة في أعيان المعادن المذكورة؟
وأيضاً: فإِنّهم تناقضوا إِذ أوجبوا الزكاة في الصفر والرصاص والقزدير والحديد؛ إِذا مزج شيء منها بفضة أو ذهب، وأسقطوا الزكاة عنها إِذا كانت صرفاً؛ وهذا تحكُّم لا يحلّ!
وأيضاً؛ فنسألهم عن شيء من هذه المعادن، مُزج بفضّة أو ذهب؛ فكان الممزوج منها أكثر من الذهب ومن الفضة؟
ثم لا نزال نزيدهم، إِلى أن نسألهم عن مائتي درهم، في كل درهم فلس فضة فقط، وسائرها نحاس.
فإِن جعلوا فيها الزكاة أفحشوا جداً، وإن أسقطوها؛ سألناهم عن الحد الذي يوجبون فيه الزكاة والذي يُسقِطونها فيه".
وجاء في "الروضة الندية" (1/ 475): "ولا زكاة في غيرها من الجواهر؛ كالدر والياقوت والزمرد والماس واللؤلؤ والمرجان ونحوها؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والبراءة الأصلية مستصحبة.
أقول -الكلام لصاحب الروضة-: ليس من الورع ولا من الفقه، أن يوجب الإِنسان على العباد؛ ما لم يوجِبه الله عليهم؛ بل ذلك من الغلو المحض، والاستدلالُ بمِثل {خُذ من أموالهم صدقة} (1) يستلزم وجوب
__________
(1) التوبة: 103.

(3/92)


الزكاة في كل جنس من أجناس ما يصدُق عليه اسم المال، ومنه الحديد والنحاس والرصاص، والثياب والفراش والحجر والمدر (1)، وكل ما يقال له مال -على فرض أنه ليس من أموال التجارة-.
ولم يقُل بذلك أحد من المسلمين، وليس ذلك لورود أدلة؛ تخصّص الأموال المذكورة من عموم {خُذ من أموالهم} حتى يقول قائل: إِنّها تجب زكاة ما لم يخصه دليل؛ لبقائه تحت العموم.
بل الذي شرع الله فيه الزكاة من أموال عباده، هو أموال مخصوصة، وأجناس معلومة، ولم يوجب عليهم الزكاة في غيرها.
فالواجب حمل الإِضافة في الآية الكريمة على العهد، لِما تقرَّر في عِلم الأصول، والنحو والبيان، أنّ الإِضافة تنقسم إِلى الأقسام التي تنقسم إِليها اللام، ومن جملة أقسام اللام العهد، بل قال المحقق الرضي: إِنه الأصل في اللام.
إِذا تقرر هذا فالجواهر واللآلئ والدر والياقوت والزمرد والعقيق واليسر، وسائر ما له نفاسة وارتفاع قيمة؛ لا وجه لإيجاب الزكاة فيه، والتعليل للوجوب بمجرد النفاسة؛ ليس عليه أثارة من عِلم.
ولو كان ذلك صحيحاً، لكان في المصنوعات من الحديد، كالسيوف والبنادق ونحوها، ما هو أنفس وأعلى ثمناً، ويلحق بذلك الصين، والبلور واليشم (2)، وما يتعسر الإِحاطة به؛ من الأشياء التي فيها نفاسة، وللناس إِليها
__________
(1) هو الطين اللزِج المتماسك.
(2) مجموعة من المعادن الصّلْدَة التي تتدرّج ألوانها من الأبيض تقريباً إِلى الأخضر الأدْكن. "الوسيط".

(3/93)


رغبة.
فما أحسن الإِنصاف والوقوف على الحد الذي رسمه الشارع، وإراحة الناس من هذه التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان.
على أنّ الآية التي أوقعت كثيراً من الناس في إِيجاب الزكاة فيما لم يوجبه الله وهي: {خذ من أموالهم} قد ذكَر أئمة التفسير أنها في صدقة النفل؛ وليست في صدقة الفرض التي نحن بصددها".
وسئل شيخنا -رحمه الله- عن زكاة المعادن فقال: لا تجب الزكاة في المعادن؛ لأنه لا زكاة إِلا بنصّ.

ما يُستخرج من البحر
قال البخاري -رحمه الله-: قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ليس العنبر بركاز، هو شيء دَسَرهُ (1) البحر (2).
وسألْتُ شيخنا -رحمه الله- عن هذا الأثر فقال: روايةً لا يحضرني، ودرايةً؛ هو كذلك.
قال البخاري: وقال الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخُمس (3)، فإِنما جعَل
__________
(1) أي: دفَعه ورمى به إِلى الساحل. "فتح".
(2) وصَله الشافعي وابن أبي شيبة وغيرهما بسند صحيح عنه، وانظر "الفتح" (3/ 362) و"مختصر البخاري" (1/ 356).
(3) وصَلَه أبو عبيد في "الأموال"، وانظر "الفتح" (3/ 362).

(3/94)


النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرّكاز الخمس، ليس في الذي يُصاب في الماء (1).
قال ابن القصار: "ومفهوم الحديث؛ أنّ غير الرّكاز لا خمس فيه -ولاسيما اللؤلؤ والعنبر- لأنهما يتولّدان من حيوان البحر؛ فأشبها السمك" (2).
وذهب الجمهور إِلى أنه لا يجب فيه شيء؛ إلاَّ ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز (3).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (6/ 160): "وليس في شيء ممّا أُصيب من العنبر والجواهر والياقوت والزّمرّد -بَحْرية وبَرّيّة- شيء أصلاً، وهو كلّه لمن وجَده؟ ".
وقال (ص 161): "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام"، فصحّ أنه لا يحلّ إِغرام مسلم شيئاً بغير نصّ صحيح، وكان -بلا خلاف- كلّ ما لا ربّ له فهو لمن وجَده - وبالله تعالى التوفيق!؟ ".
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 19): "وأمّا ما يخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان؛ فلا زكاة فيه عند الجمهور.
وقيل: فيه زكاة، وهو قول الزهري والحسن البصري ورواية لأحمد".
وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: هل ترون وجوب الزكاة على ما يخرج من البحر؛ فقال -رحمه الله-: "لا زكاة عليه".
__________
(1) وصله الإِمام البخاري -رحمه الله- برقم (1499).
(2) الفتح (3/ 363).
(3) الفتح (3/ 363).

(3/95)


المال المغصوب والضائع
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 18): "قال مالك: ليس فيه زكاة حتى يقبضه، فيزكّيه لعام واحد، وكذلك الدَّيْن عنده لا يزكّيه حتى يقبضه زكاة واحدة، وقول مالك: يُروى عن الحسن وعطاء وعمر ابن عبد العزيز.
وقيل: يزكى كلّ عام إِذا قبضه زكاة عمّا مضى، وللشافعي قولان" (1).

جواز دفْع القيمة بدل العين
قال ابن حزم -رحمه الله-: "والزكاة واجبة في ذمّة صاحب المال لا في عين المال؛ وقد اضطربت أقوال المخالفين في هذا.
وبرهان صحّة قولنا، هو أن لا خلاف بين أحد من الأمّة، من زمننا إِلى زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في أنّ من وجبت عليه زكاة بُرّ أو شعير أو تمر أو فضة أو ذهب أو إِبل أو بقر أو غنم؛ فأعطى زكاته الواجبة عليه؛ من غير ذلك الزرع؛ ومن غير ذلك التمر، ومن غير ذلك الذهب، ومن غير تلك الفضة، ومن غير تلك الإِبل، ومن غير تلك البقر، ومن غير تلك الغنم- فإِنه لا يمنع من ذلك، ولا يكره ذلك له، بل سواء أعطى من تلك العين، أو ممّا عنده من غيرها، أو ممّا يشتري، أو ممّا يوهب، أو ممّا يستقرض.
فصحّ يقيناً أن الزكاة في الذمّة لا في العين؛ إِذ لو كانت في العين؛ لم يحلّ
__________
(1) قلت: والراجح أنه يُزكّي كل عام إِذا قبَضه؛ لأنه من حقوق العباد، وهذا يتفق مع النصوص العامّة في إِيجاب الزكاة للنصاب؛ إِذا مضى عليه الحول، والله -تعالى- أعلم.

(3/96)


له ألبتة أن يُعطيَ من غيرها، ولوجَب منْعه من ذلك، كما يُمنع من له شريك في شيء من كل ذلك؛ أن يُعطيَ شريكه من غير العين التي هم فيها شركاء إِلا بتراضيهما، وعلى حكم البيع.
وأيضاً -فلو كانت الزكاة في عين المال؛ لكانت لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما-: إِمّا أن تكون في كل جزء من أجزاء ذلك المال، أو تكون في شيء منه بغير عينه.
فلو كانت في كل جزء منه؛ لحرُم عليه أن يبيع منه رأساً أو حبّة فما فوقها؛ لأنّ لأهل الصدقات في ذلك الجزء شريكاً، ولحرُم عليه أن يأكل منها شيئاً لِما ذكَرنا، وهذا باطل بلا خلاف ... وإنْ كانت الزكاة في شيء منه بغير عينه؛ فهذا باطل، وكان يلزم أيضاً: مثل ذلك سواء سواء؛ لأنّه كان لا يدري لعله يبيع أو يأكل الذي هو حق أهل الصدقة، فصحّ ما قُلنا يقيناً -وبالله تعالى التوفيق-" (1).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 46): "ومعلوم أنّ مصلحة وجوب العين؛ قد يعارضها أحياناً في القيمة من المصلحة الراجحة، وفي العين من المشقة المنفية شرعاً".
وقد رجّح شيخ الإِسلام جواز ذلك في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة كما في "مجموع الفتاوى" (25/ 79).
وقال (ص82): "والأظهر في هذا: أنّ إِخراج القيمة لغير حاجة، ولا
__________
(1) انظر "المُحلّى" (5/ 390) وذكَره الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 378).

(3/97)


مصلحة راجحة؛ ممنوع منه، ولهذا قدّر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجبران بشاتين، أو عشرين درهماً، ولم يعدل إِلى القيمة، ولأنه متى جوّز إِخراج القيمة مطلقاً، فقد يعدل المالك إِلى أنواع رديئة.
وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتَبر في قدْر المال وجنسه.
وأمّا إِخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل؛ فلا بأس به، مِثل أن يبيع ثمر بستانه، أو زرْعه بدراهم؛ فهنا إِخراج عشر الدراهم يجزيه، ولا يكلَّف أن يشتري ثمراً، أو حِنْطة، إِذ كان قد سوى الفقراء بنفسه، وقد نصّ أحمد على جواز ذلك.
ومِثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإِبل، وليس عنده من يبيعه شاة؛ فإِخراج القيمة هنا كاف، ولا يُكلَّف السفر إِلى مدينة أخرى ليشتري شاة، ومِثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إِعطاء القيمة؛ لكونها أنفع؛ فيعطيهم إِياها، أو يرى الساعي أنّ أخْذها أنفع للفقراء" (1).

إِذا وجبت الزكاة في المال وهلك قبل الأداء
اختلف العلماء فيما إِذا وجبت الزكاة في المال وهلك قبل الأداء، والراجح فيه سقوط الزكاة عمّن تلف لديه النصاب قبل التمكّن؛ إِذا لم يُفرِّط في الأداء، وإِلا كانت في ذمّته.
قال الإِمام الشافعي -رحمه الله- في "الأم" (4/ 188): "ولو كان له
__________
(1) وانظر ما جاء عن شيخ الإِسلام في "الاختيارات" (ص 103) ومنه أفاد شيخنا -رحمهما الله تعالى- في "تمام المِنّة" (ص 379).

(3/98)


مال يُمكنه أن يؤدي زكاته فلم يفعل؛ فوجبت عليه الزكاة سنين ثم هلك؛ أدى زكاته لِما فرّط فيه.
وإِنْ كانت له مائة شاة، فأقامت في يده ثلاث سنين، وأمكَنه في مُضيّ السَّنة الثالثة أداء زكاتها، فلم يؤدِّها، أدّى زكاتها لثلاث سنين، وإن لم يمكنه في السنة الثالثة أداء زكاتها حتى هلكت؛ فلا زكاة عليه في السنة الثالثة، وعليه الزكاة في السنتين اللتين فرّط في أداء الزكاة فيهما".
وبه يقول عدد من العلماء.
قال في "المغني" (2/ 465) -بعد أنْ نقل بعض الأقوال في المسألة-: "والصحيح -إِن شاء الله- أنّ الزكاة تسقط بتلف المال؛ إِذا لم يفرط في الأداء، لأنها تجب على سبيل المواساة، فلا تجب على وجه يجب أداؤها مع عدم المال وفقر من تجب عليه، ولأنه حقٌّ يتعلق بالعين، فيسقط بتلفها من غير تفريط كالوديعة.
والتفريط أن يمكنه إِخراجها فلا يخرجها، فإِن لم يتمكّن من إِخراجها فليس بمفرِّط، سواء لعدم المستحق، أو لبعد المال، أو لكون الفرض لا يوجد في المال ولا يجد ما يشتري، أو كان في طلب الشراء ونحو ذلك ... ".
وجاء في "الاختيارات الفقهيّة" (ص 98): ولو تلِف النصاب بغير تفريط من المالك؛ لم يضمن الزكاة على كلٍّ من الروايتين، واختاره طائفة من أصحاب أحمد.
وهو اختيار شيخنا -رحمه الله- كما في "تمام المِنّة" (ص379).

(3/99)


إِذا عزل الزكاة ليخرجها فضاعت
جاء في "المحلّى" (5/ 391) -بحذف وتصرّف يسير-: "كلّ مالٍ وجبت فيه زكاة من الأموال ... فسواء تلف ذلك أو بعضه -أكثره أو أقله- ... بتفريط تلف أو بغير تفريط؛ فالزكاة كلّها واجبة في ذمّة صاحبه؛ كما كانت لو لم تتلف، ولا فرق؛ [لأنّ] الزكاة في الذمّة؛ لا في عين المال.
... وكذلك لو أخرج الزكاة وعَزلها ليدفَعها إِلى المصدّق أو إِلى أهل الصدقات؛ فضاعت الزكاة كلّها أو بعضها؛ فعليه إِعادتها كلّها ولا بدّ ... ولأنه في ذمّته؛ حتى يوصلها إِلى من أمَره الله تعالى بإِيصالها إِليه" ثم ذكَر أقوال العلماء وبعض الآثار عن عدد من السلف؛ أنها لا تجزي عنه إِن ضاعت؛ وعليه إِخراجها ثانية.
قال: وروّينا عن عطاء أنّها تجزئ عنه.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك فقال: "لا بدّ من إِيصالها".

تأخير الزكاة لا يُسقِطها (1)
* من مضى عليه سنون؛ ولم يؤدّ ما عليه من زكاة؛ لزِمه إخراج الزكاة عن جميعها؛ سواء علم وجوب الزكاة، أم لم يعلم، وسواء كان في دار الإِسلام أم في دار الحرب.
وقال ابن المنذر: لو غلب أهل البغي على بلد، ولم يؤد أهل ذلك البلد
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السنّة" (1/ 381).

(3/100)


الزكاة أعواماً، ثم ظفر بهم الإِمام؛ أخَذ منهم زكاة الماضي؛ في قول مالك والشافعي وأبي ثور*
وقال الإِمام الشافعي -رحمه الله-: "لو كان له مال يُمكنه أن يؤدي زكاته، فلم يفعل، فوجبت عليه الزكاة سنين، ثمّ هلك؛ أدّى زكاته لما فرّط فيه" (1).

الزكاة في المال المشترك (2)
إِذا كان المال مُشترَكاً بين شريكين أو أكثر؛ لا تجب الزكاة على واحد منهم؛ حتى يكون لكلّ واحد منهم نصاب كامل؛ في قول أكثر أهل العلم.
هذا في غير الخلطة في الحيوان (3).

الفرار من الزكاة قبل وجوبها
مَن ملك نصاباً من أي صنفٍ من أصناف المال؛ فباعه قبل الحول أو تخلّص جزء منه ابتغاء إِسقاط الزكاة؛ كان آثماً، وتبقى معلّقةً في ذمّته حتى يُخرِجها، إِذ هذا ضرْبٌ من ضروب التحايل، وهو من صنيع اليهود.
وهذا كمن طلّق امرأته في مرض موته؛ ليحرمها الإِرث، والله -تعالى- أعلم.
وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 99): "ولا يحلّ الاحتيال لإِسقاط
__________
(1) "الأمّ" (4/ 188)، وتقدم غير بعيد.
(2) انظر "فقه السنة" (1/ 382).
(3) كما تقدّم.

(3/101)


الزكاة، ولا غيرها من حقوق الله تعالى".
وقال الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 335) في التعليق: "لو باع النصاب في أثناء الحول، أو أبدله بغير جنسه؛ انقطع حول الزكاة، واستأنف حولاً آخر".
قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 359) -في الرد على ذلك-: "ينبغي أن يُقيَّد هذا بما إِذا وقع ذلك اتفاقاً، لا لقصد الخلاص من الزكاة؛ كما يُروى عن بعض الحنفية؛ أنه كان إِذا قارب انتهاء حول النصاب، وهب المال لزوجته، حتى إِذا انتهى الحول استردَّه منها! لأنّ العود بالهدية جائز عندهم على تفصيل فيه!
فمن احتال هذه الحيلة -التي يُسمّيها بعضهم حيلة شرعية- فإِنّي أرى أن يُؤخَذ منه الزكاة، وشطْر ماله، على حديث بهز بن حكيم؛ فإِنَّ المحتال ... أولى بهذا الجزاء من الممتنع دون حيلة، فتأمّل".

مصارف الزكاة (1)
قال الله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمُؤَلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً (2) من الله والله عليم حكيم} (3).
__________
(1) استفدت غالب هذا الباب من "تفسير ابن كثير".
(2) أي: حُكماً مقدراً بتقدير الله فرْضه وقسْمه.
(3) التوبة: 60.

(3/102)


وهذه الآية الكريمة تُبيّن أنّ الأصناف ثمانية، وهي:
1، 2 - الفقراء والمساكين، وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم ويقابلهم الأغنياء المكفيُّون ما يحتاجون إِليه (1).

أمّا ما جاء في الفقراء:
فحديث ابن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة (2) سوي (3) " (4).
وسألت شيخنا -رحمه الله-: وإذا احتاج ذو المرّة السويّ؟ فأجاب: "المقصود أن يسأل، أمّا غير السائل فيجوز".
وعن عبد الله بن عديّ بن الخيار قال: "أخبرني رجلان أنهما أتيا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه، فرآنا جلدَيْن، فقال: إِن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" (5).
وعن زهير العامري قال: "قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله
__________
(1) "فقه السنة" (1/ 383).
(2) المِرة: القوّة والشدة.
(3) السويّ: الصحيح الأعضاء.
(4) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (877).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1438) والنسائي وغيرهما، وانظر "المشكاة" (1832).

(3/103)


عنهما-: أخبرني عن الصدقة أي مال هي؟ قال: هي شر مال، إِنما هي مال للعميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به.
فقلت: إِن للعاملين عليها حقاً وللمجاهدين، فقال: للعاملين عليها بقدر عمالتهم، وللمجاهدين في سبيل الله قدر حاجتهم -أو قال حالهم- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الصدقة لا تحلّ ... " (1). الحديث.

وأمّا ما جاء في المساكين:
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردُّه اللُّقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيه، ولا يُفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس" (2).
وليس ثمّة فرقٌ من حيث الحاجة واستحقاق الزكاة بين الفقراء والمساكين؛ إِذ النّصوص تدّل على هذا.
ففي "النهاية": (المسكين): الذي لا شىء له، وقيل: هو الذي له بعض الشيء.
وفي "النهاية"كذلك في تفسير كلمة (الفقير): الفقير الذي لا شيء له،
__________
(1) أخرجه البيهقي، قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (3/ 382): وهذا سند يتقوى بالذي قبله [أي: حديث ابن عمرو]، فإِن عطاء هذا أورده ابن أبي حاتم (3/ 1/332) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ورواه ابن أبي شيبة من طريق ثالث موقوفاً. وسنده صحيح.
(2) أخرجه البخاري: 1479، ومسلم: 1039.

(3/104)


والمسكين الذي له بعض ما يكفيه، وإِليه ذهب الشافعي، وقيل فيهما بالعكس وإليه ذهب أبو حنيفة.
وفي تفسير "ابن كثير": في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين}: قدّم الفقراء هاهُنا على البقيّة؛ لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدّة فاقتهم وحاجتهم.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "واختار ابن جرير وغير واحد؛ أنَّ الفقير هو المتعفّف الذي لا يسأل الناس شيئاً، والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويَتْبَع الناس شيئاً".
وإلى هذا تميل نفسي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكنّ المسكين الذي لا يجد غنىً يُغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس".
وهذا فيه التعريف السائد للمسكين في المجتمع، وجاء الشرع ليُلغي المعنى، لا ليُلغي التعريف، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الشديد بالصُّرَعة (1)، إِنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (2).
وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إِنّ المفلس من أمتي؛ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذَف هذا، وأَكل مال هذا، وسَفَك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإِنْ فنيت حسناته، قبْل أن يُقْضى
__________
(1) الذي يصرع النّاس كثيراً بقوّته. "فتح".
(2) أخرجه البخاري: 6114، ومسلم: 2609.

(3/105)


ما عليه، أخذ من خطاياهم فَطُرِحت عليه، ثم طرح في النار" (1).
وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما تَعُدّون الرَّقوب فيكم؟ قلنا: الذي لا يولد له، قال: ليس ذاك بالرقوب، ولكنّه الرجل الذي لم يُقدِّم من ولده شيئاً" (2).
قال ابن الأثير في "النهاية": "الرقوب في اللغة: الرجل والمرأة إِذا لم يَعِش لهما ولد، لأنّه يرقب موته ويرصُده؛ خوفاً عليه، فنَقله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى الذي لم يقدّم من الولد شيئاً أي: يموت قبله؛ تعريفاً أنّ الأجر والثواب لمن قدَّم شيئاً من الولد، وأنّ الاعتداد به أكثر والنفع به أعظم ... ومن لم يُرزق ذلك؛ فهو كالذي لا ولد له، ولم يقُلْه إِبطالاً لتفسيره اللغوي" (3).
ويمكننا أن نقول هذا في حديث: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان"، فهذا هو المعنى اللغوي وهو الواقع الاجتماعي، ولم يقُل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقولته ليبطل تفسيره اللغوي.
ولهذا يمكننا أن نقول عن المسكين: إِنه الذي يُفطن له بالصدقة ويسأل الناس، وطالما سأل الناس وفُطن له بالصدقة فإِنه واجدٌ ما يُغنيه، فجاء الحديث ليُبيّن الأَوْلى منه بالصدقة وهو مَنْ لا يسأل الناس، ولا يُفطن له بالصدقة، ولا يجد ما يُغنيه.
وقد قال الله تعالى: {للفقراء الذين أُحصِروا (4) في سبيل الله لا
__________
(1) أخرجه مسلم: 2581.
(2) أخرجه مسلم: 2608.
(3) وقد فصّلت القول فيه في "شرح صحيح الأدب المفرد" (1/ 182).
(4) أي: حصَرهم الجهاد أي: منَعهم الاشتغال به من الضّرْب في الأرض -أي: =

(3/106)


يستطيعون ضَرْبَاً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفُّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إِلحافاً (1)} (2).
فالفقراء إِذن قد تكون عندهم موانع تمنعهم من التكسّب، أو أنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً لبعض الأسباب، ويحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، بعكس الذي يطوف على الناس؛ تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان.
وهم لا يسألون الناس إِلحافاً بعكس من يسأل كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يقوم فيسأل الناس ... ".
وفي حديث: "ليس المسكين ... " قال الحافظ (3/ 343): "وفيه دلالة لمن يقول: إِنّ الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وأنّ المسكين الذي له شيء لكنّه لا يكفيه، والفقير الذي لا شيء له ... ويؤيده قوله تعالى: {أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} (3) فسمّاهم مساكين مع أنّ لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث والفقه.
فإِنْ قلتَ: قد جاءت الآيات الكثيرة في الحض على إِطعام المسكين، فلماذا لم يكن ذلك في الفقير وهو أولى؟
قلتُ: الفقير والمسكين كلاهما من أهل الحاجة، الذين يشرع التصدّق
__________
= التجارة- لاشتغالهم به عن التكسّب. "فتح" (3/ 341).
(1) أي: لا يُلحّون في المسألة ويكلّفون الناس ما لا يحتاجون إِليه. "ابن كثير".
(2) البقرة: 273.
(3) الكهف: 79.

(3/107)


عليهم، ولكن جاء التوبيخ والتقريع لمن لم يقدّم العون الواجب؛ لمن تكون حاجته ظاهرة وهو المسكين، كقوله تعالى: {ولا يحضُّ على طعام المسكين} (1). وكقوله تعالى: {ولا تحاضّون على طعام المسكين} (2).
والخُلاصة؛ أنّ الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وهذا نابع من تعفّفه وعدم سؤاله الناس، ولا يفطن الناس له في صدقاتهم؛ فيحتاج إِلى مثابرة في التعرّف على هذا النوع؛ لرفع الجهل المنبوذ الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف} (3).
وهذا لا ينفي جواز الصدقة على المسكين كما في قوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين} ولكن معرض الكلام في بيان أصناف المحتاجين وبيان الأولى في ذلك، لذلك قال ابن كثير: وإنما قدّم الفقراء هاهُنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدّة حاجتهم.
ولهذا فهناك خصوص وعموم بين المسكين والفقير، فالفقير أعمّ والمسكين أخصّ، فكلّ مسكين فقير، وليس كلّ فقير مسكيناً، وهو كقولنا: كلّ مؤمن مسلم، وليس كلّ مسلم مؤمناً، قال الله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلَمنا ولمّا يدخل الإِيمان في
__________
(1) الحاقة: 34.
(2) الفجر: 18.
(3) البقرة: 273.

(3/108)


قلوبكم} (1). والله -تعالى- أعلم.

المالك الذي لا يجد ما يفي بكفايته (2)
من ملَك نصاباً، من أيّ نوع من أنواع المال -وهو لا يقوم بكفايته، لكثرة عياله، أو لغلاء السعر- فهو غنيّ؛ من حيث أنّه يملك نصاباً؛ فتجب الزكاة في ماله، وفقير من حيث أنّ ما يملكه لا يقوم بكفايته، فيُعطى من الزكاة كالفقير.
قال النووي: ومن كان له عقار، ينقص دخله عن كفايته؛ فهو فقير يُعطى من الزكاة تمام كفاية، ولا يُكلف بيعه.
وفي "المغني": قال الميمون: ذاكَرت أبا عبد الله -أحمد بن حنبل- فقلت: قد يكون للرجل الإِبل والغنم؛ تجب فيها الزكاة وهو فقير، وتكون له أربعون شاة، وتكون له الضّيعة لا تكفيه، فيعطى الصدقة؟ قال: نعم، وذلك لأنه لا يملك ما يُغنيه، ولا يقدر على كسْب ما يكفيه، فجاز له الأخذ من الزكاة. كما لو كان ما يملك، لا تجب فيه الزكاة.
3 - العاملون عليها: وهم: الجباة والسعاة؛ يستحقّون منها قِسطاً على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين تحرم عليهم الصدقة.
فعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث؛ أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليستعملهما على الصدقة، فقال: "إِنَّ الصدقة لا تنبغي
__________
(1) الحجرات: 14.
(2) عن "فقه السنة" (1/ 386).

(3/109)


لآل محمّد. إِنّما هي أوساخ الناس" (1).
وفي رواية: "إِنّ هذه الصدقات إِنَّما هي أوساخ الناس؛ وإنها لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد" (2).
ويجوز أن يكونوا من الأغنياء؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ إِلا لخمسة: للعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكين تُصدِّق عليه؛ فأَهْدَى منها لِغَنيّ" (3).
ولحديث عبد الله بن السعدي: "أنه قدِم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أُحدَّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً، فإِذا أُعطيتَ العُمالة (4) كرهتها؟ فقلت: بلى، فقال عمر: ما تريد إِلى ذلك؟ قلت: إِنَّ لي أفراساً وأعبداً (5) وأنا بخير، وأريد أن تكون عُمالتي صدقة على المسلمين.
__________
(1) أخرجه مسلم: 1072، قال النووى (7/ 179): "معنى أوساخ الناس؛ أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى: {خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} فهي كغسالة الأوساخ".
(2) أخرجه مسلم: 1072.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1440)، وغيره وصححه شيخنا في "الإِرواء" (870).
(4) العُمالة: بضم الميم أجرة العمل، وأما العَمالة بفتح العين: فهي نفس العمل.
(5) أعبُداً: جمع عبد وهو الرقيق، وفي رواية: أعتُداً: جمع عتيد، وهو المال المدَّخر.

(3/110)


قال عمر: لا تفعل، فإِنّي كنت أردتُ الذي أردتَ، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إِليه منّي، حتى أعطاني مرّة مالاً فقلت: أعطه أفقر إِليه مني، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذهُ فتموّله وتصدَّق به، فما جاءك من هذا المال -وأنت غير مشرف (1) ولا سائل- فخذه، وإِلا فلا تُتبِعه نفسك" (2).
وينبغي أن تكون الأجرة بقدر الكفاية (3).
فعن المستورد بن شداد، قال: سمعتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإِن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإِن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً".
قال: قال أبو بكر: أُخبِرت أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من اتخذ غير ذلك فهو غالٌّ أو سارق (4) " (5).
__________
(1) أي: غير متطلّع إِليه.
(2) أخرجه البخاري: 7163، ومسلم: 1045.
(3) انظر "فقه السنة" (1/ 387).
(4) قال المظهر: أي: يحلّ له أن يأخذ مما في تصرفه في مال بيت المال؛ قدر مهر زوجة ونفقتها وكسوتها، وكذلك ما لا بد منه من غير إِسراف وتنعّم، فإِنْ اْخَذ أكثر ما يحتاج إِليه ضرورة؛ فهو حرام عليه.
فال الطيبي: وإنما وضع الاكتساب موضع العُمالة والأجرة؛ حسماً لطمعِه. "المرقاة" (7/ 320).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2552)، وقال شيخنا -رحمه الله- في "المشكاة" (3751): وإسناده صحيح.

(3/111)


وبوَّب ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 70): (باب إِذْن الإِمام للعامل بالتزويج، واتخاذ الخادم والمسكن من الصدقة)، ثمّ ذكر حديث المستورد بن شدّاد -رضي الله عنه-.
قال في "المغني" (2/ 518): "ويُعطى منها أجر الحاسب والكاتب والحاشد والخازن والراعي ونحوهم، فكلّهم معدودون من العاملين عليها؛ ويُدفع إِليهم من حصة العاملين عليها".

4 - المؤلفة قلوبهم:
والمؤلفة قلوبهم أقسام:
منهم من يُعطى لِيُسْلم؛ كما أعطى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفوان بن أميّة من غنائم حُنين؛ وقد كان مُشركاً.
فعن ابن شهاب قال: "غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة الفتح -فتح مكة- ثمّ خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحُنين، فنصَر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ صفوان بن أميّة مائة من النعم، ثمّ مائة، ثمّ مائة.
قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أنَّ صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إِليَّ، فما برِح يعطيني؛ حتى إِنه لأحبّ الناس إليَّ" (1).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "ما سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإِسلام
__________
(1) أخرجه مسلم: 2313.

(3/112)


شيئاً إِلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجَع إلى قومه، فقال: يا قوم! أسلِموا، فإِنّ محمّداً يعطي عطاءً؛ لا يخشى الفاقة".
وفي رواية: "أنّ رجلاً سأل النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غنماً بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم! أسلموا، فوالله! إِنّ محمّداً ليعطي عطاءً؛ ما يخاف الفقر فقال أنس: إِنْ كان الرجل ليُسْلِم ما يريد إِلا الدنيا، فما يُسْلِم حتى يكون الإِسلام أحب إِليه من الدنيا وما عليها" (1).
ومنهم من يُعطى ليحسن إسلامُه، ويثبّت قلبه كما أعطى يوم حنين أيضاً جماعة من صناديد (2) الطلقاء وأشرافهم مائة من الإِبل وقال: "إِني لأُعطي الرجل وغيره أحبّ إِليّ منه، خشية أن يكبّه الله في النار" (3).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "بعث علي -رضي الله عنه- وهو باليمن، بذهبة (4) في تربتها (5)، إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقسَمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعُيينة بن بدر (6) الفزاري، وعلقمة بن عُلاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير (7) الطائي، ثم
__________
(1) أخرجه مسلم: 2312.
(2) أي. سادة.
(3) أخرجه البخاري: 27، ومسلم: 150.
(4) هكذا لفظ مسلم ولفظ البخاري: "بذُهَيبة".
(5) أي: غير مسبوكة.
(6) وهو عُيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري.
(7) وزيد الخير: كذا هو في جميع النسخ (الخير) بالراء وفي الرواية التي بعدها =

(3/113)


أحد بني نبهان.
قال: فغضبت قريش فقالوا: أيُعطي [أتُعطي] صناديد نجد ويدعنا؟ [وتدعنا] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّي إِنّما فعلْتُ ذلك لأتألَّفهم" (1).
ومنهم من يُعطى لما يُرجى من إِسلام نظرائه.
ومنهم من يُعطى ليجبي الصدقات ممّن يليه، أو ليدفع عن المسلمين الضرر.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 40): "قال: -أي: أبو جعفر الطبري -رحمه الله-: ... والصواب أن الله جعل الصدقة في معنيين:
أحدهما: سد خلّة المسلمين. والثاني: معونة الإِسلام، وتقويته. فما كان معونة للإِسلام، يُعطى منه الغني والفقير، كالمجاهد ونحوه، ومن هذا الباب يُعطى المؤلفة، وما كان في سد خلّة المسلمين".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: يقول بعض العلماء: إِعطاء المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة قد سقط بانتشار الإِسلام وغلبته، وقال آخرون: الظاهر جواز التأليف عند الحاجة إِليه، فهل ترون الأخير؟
فأجاب -رحمه الله-: "بلا شكّ".
__________
= زيد الخيل باللام. وكلاهما صحيح، يقال بالوجهين، كان يقال له في الجاهلية زيد الخيل، فسمّاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإِسلام زيد الخير. "شرح النووي" (7/ 161).
(1) أخرجه البخاري: 4351، ومسلم: 1064 وهذا لفظه.

(3/114)


5 - وفي الرقاب (1):
وأمّا الرقاب؛ فرُوي عن الحسن البصري ومقاتل بن حيّان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد أنهم المكاتبون، وروي عن أبي موسى الأشعرى نحوه، وهو قول الشافعي والليث.
وقال ابن عباس (2) والحسن (3): لا بأس أن تُعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد ومالك وإسحاق؛ أي: أنَّ الرقاب أعمّ من أن يُعطى المكاتَب (4) أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالاً، وقد ورد في ثواب الإِعتاق وفكّ الرقبة أحاديث كثيرة، وأنَّ الله يعتق بكل عضو عضواً من مُعتِقها، حتى الفرج بالفرج، وما ذاك إلاَّ لأنَّ الجزاء من جنس العمل: {وما تُجزون إِلاّ ما كنتم تعملون}.
__________
(1) انظر للمزيد من الفائدة "الفتح" (3/ 332).
(2) لعله يشير إِلى قول البخاري -رحمه الله-: ويُذكر عن ابن عباس -رضي الله عنه-: يُعتق من زكاة ماله ويُعطى في الحج -ووصَله أبو عبيد في "الأموال" بسند جيد عنه، وانظر "الفتح" (3/ 331) و"مختصر البخاري" (1/ 348).
(3) لعله يشير أيضاً إِلى قول البخاري -رحمه الله- وقال الحسن: إِن اشترى أباهُ من الزكاة جاز، ويُعطى في المجاهدين والذي لم يحجّ. قال الحافظ في "الفتح" (3/ 332): وهذا صحيح عنه أخرج أوله ابن أبي شيبة.
(4) الكتابة: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إِليه منجَّماً [مقسَّطاً]، فإِذا أدّاه صار حرّاً، وسمّيت كتابة لمصدر (كتب) كأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه، ويكتب مولاه له عليه العِتق، وقد كاتبَه مكاتبَة والعبد مكاتَب. "النهاية".

(3/115)


عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة كلّهم حقٌّ على الله عَوْنه: الغازي في سبيل الله، والمكاتَب الذي يريد الأداء، والنَّاكح الذي يريد التعفف" (1).
وعن البراء قال: "جاء أعرابي فقال: يا نبيّ الله! علّمني عملاً يدخلني الجنة؟ قال: لئن كنت أقصرت الخُطبة لقد أعرضت المسألة (2)، أعتق النسمة (3)، وفُكَّ الرقبة، قال: أو ليستا واحداً؟ قال: لا؛ عتق النسمة أن تعتق النسمة، وفكّ الرقبة أن تعين على الرقبة ... " (4).

6 - الغارمون:
وهم الذين تحمّلوا الديون، وشقّ عليهم أداؤها، وهم أقسام:
منهم من تحمَّل حَمَالةً (5)، وضمن ديناً فلزِمه فأَجْحَف (6) بماله، أو غرِم
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2041)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "غاية المرام" (210).
(2) أي: جئت بالخطبة قصيرة والمسألة عريضة، يعني: قلّلْت الخطبة وأعظمت المسألة.
(3) النسمة: النفس والروح، أعتق النسمة: أعتق ذا روح وكلّ دابّة فيها روح فهي نسمة، وإنّما يريد الناس والمراد الانفراد بعتقها.
(4) وانظر كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (1/ 83).
(5) الحَمالة: المال الذي يتحمّله الإِنسان الذي يستدين، ويدفعه في إصلاح ذات البين؛ كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك. "شرح النووي" (7/ 133).
(6) أجحف بماله: أى أذهبه.

(3/116)


في أداء دينه، أو في معصية ثمّ تاب، فهؤلاء يُدفع إِليهم.
والأصل في هذا الباب؛ حديث قبيصة بن مُخارق الهلالي قال: "تحمَّلت حَمالة، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها.
قال: ثمّ قال: يا قبيصة! إِنّ المسألة لا تحلّ إلاَّ لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حَمالة؛ فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة (1) اجتاحت (2) ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قِواماً (3) من عَيْش (أو قال: سِداداً (4) من عيش) ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه (5)؛ لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلّت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش (أو قال: سِداداً من عيش) فما سواهنّ من المسألة، يا قبيصة! سُحتاً (6)
__________
(1) الجائحة: هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة جائحة.
(2) أي: أهلكت.
(3) القِوام والسداد بمعنى واحد، وهو ما يُغنى من الشيء أو تسدّ به الحاجة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سِداد، ومنه: سِداد الثغر، وسِداد القارورة، وقولهم: سِداد من عوز. "شرح النووي" (7/ 133).
(4) القِوام والسداد بمعنى واحد، وهو ما يُغنى من الشيء أو تسدّ به الحاجة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سِداد، ومنه: سِداد الثغر، وسِداد القارورة، وقولهم: سِداد من عوز. "شرح النووي" (7/ 133).
(5) قال النووي (7/ 133): "هكذا هو في جميع النسخ: يقوم ثلاثة، وهو صحيح. أي: يقومون بهذا الأمر فيقولون: لقد أصابته فاقة، والحجى مقصور، وهو العقل، وإنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قومه، لأنهم من أهل الخبرة بباطنه، والمال ممّا يخفى في العبادة فلا يعلمه إِلا من كان خبيراً بصاحبه".
(6) السحت: الحرام.

(3/117)


يأكلها صاحبها سُحتاً" (1).
ويُعطى الغارم بقدْر حاجته لا أكثر؛ لحديث قبيصة بن مُخارق: " ... حتى يُصيب قِواماً من عيش (أو قال: سِداداً من عيش) فما سواهُنّ من المسألة يا قبيصة؛ سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً".
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 72): "باب الدليل على أنّ الغارم الذي يجوز إِعطاؤه من الصدقة وإن كان غنياً، هو الغارم في الحمالة، والدليل على أنه يُعطى قدر ما يؤدي الحَمالة لا أكثر".
ثم ذكَر حديث قبيصة بن مخارق السابق.

7 - وفي سبيل الله (2)
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وأمّا في سبيل الله، فمنهم الغُزاة الذين لا حقّ لهم في الديوان (3)، وعند الإِمام أحمد والحسن وإسحاق، والحجّ في سبيل الله للحديث".
يشير بذلك إِلى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجّ، فقالت امرأة لزوجها: أحِجَّني مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما عندي ما أحِجُّكِ عليه، قالت: أحِجّني على جملك فلان! قال: ذاك حبيسٌ (4) في سبيل الله -عزّ وجلّ-.
__________
(1) أخرجه مسلم: 1044.
(2) انظر -إِن شئت- ما جاء في "الفتح" (3/ 332).
(3) يعني: ليس لهم رِزق أو راتب من الدولة.
(4) أي: موقوف على الغزاة يركبونه في الجهاد. "النهاية".

(3/118)


فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنّ امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك! قالت: أحِجّني مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: ما عندي ما أُحِجّك عليه، فقالت: أحِجّني على جملك فلان، فقلت: ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: "أما إِنك لو أحْجَجْتها عليه كان في سبيل الله".
قال: وإنها أمَرتني أن أسألك: ما يعدل حَجة معك؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقرِئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبِرها: أنها تعدل حَجَّة معي" -يعني- عمرة في رمضان" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (2681): "وأمّا (سبيل الله) في آية مصارف الزكاة {إنما الصدقات}، فهي في الجهاد وفي الحج والعمرة".
وقال شيخنا في "تمام المِنّة": -بعد قول ابن كثير-: " .. وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية فقال في "الاختيارات": "ومن لم يحجّ حَجّة الإِسلام وهو فقير؛ أُعطي ما يحجّ به، وهو إِحدى الروايتين عن أحمد.
ورواه أبو عبيد في "الأموال" رقم (1976) عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهماً في سبيل الله، فقيل له: أتُجعل في الحج؟ فقال: أما إِنه في سبيل الله. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" (3/ 258).
وروى أبو عبيد رقم (1784 و1965) بسند صحيح عن ابن عباس
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1753) وغيره، وانظر "تمام المِنّة" (ص 381).

(3/119)


-رضي الله عنهما-: "أنه كان لا يرى بأساً؛ أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق الرقبة" (1).
وتقدّم الحديث: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ إلاَّ لخمسة: للعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكين تُصدِّق عليه؛ فأَهدى منها لغني".
وعن أبي لاس الخزاعي -رضي الله عنه- قال: "حمَلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إِبل من إِبل الصدقة ضعاف للحجّ ... " (2).

هل بناء المستشفيات الخيرية العامّة وإِعداد الدعاة إِلى الإِسلام والنفقة على المدارس الشرعية ... ونحو ذلك من "سبيل الله"؟
جاء في "تمام المِنّة" (ص382) بتصرف: " [إِنّ] تفسير الآية بهذا المعنى الواسع الشامل لجميع الأعمال الخيرية مما لم يُنقل عن أحدٍ من السّلف -فيما علِمت- وإن كان جَنَح إِليه صدّيق حسن خان في "الروضة الندية"، فهو مردود عليه.
ولو كان الأمر كما زعم، لما كان هناك فائدة كبرى في حصْر الزكاة في المصارف الثمانية في الآية الكريمة، ولكان أن يدخل في (سبيل الله) كلّ
__________
(1) وإعلال أبي عبيد له بأن أبا معاوية انفرد به؛ ليس بشيء، لأن أبا معاوية ثقة، وهو أحفظ الناس لحديث الأعمش كما في "التقريب"، وهذا من روايته عنه، وقد تابعه عنه عبدة بن سليمان كما في "الفتح"، فزالت شبهة تفرد أبي معاوية به، وانظر "إِرواء الغليل" (3/ 376 - 377).
(2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2377)، وقال شيخنا -رحمه الله-: إِسناده حسن.

(3/120)


أمر خيري مِثل بناء المساجد ونحوها، ولا قائل بذلك من المسلمين.
بل قال أبو عبيد في "الأموال" فقرة (1979): "فأمّا قضاء الدين عن الميت، والعطية في كَفَنه، وبنيان المساجد، واحتفار الأنهار، وما أشبه ذلك من أنواع البرّ، فإِنّ سفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء؛ مُجمِعون على أنّ ذلك لا يجزي من الزكاة، لأنّه ليس من الأصناف الثمانية".

8 - ابن السبيل:
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وكذلك ابن السبيل، وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره؛ فيعطى من الصدقات ما يكفيه إِلى بلده، وإِنْ كان له مال.
وهكذا الحُكم فيمن أراد إِنشاء سفر من بلده وليس معه شيء، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه.
والدليل على ذلك الآية، وما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحلّ الصدقة لغني إلاَّ لخمسة: ... ". وذكَر الحديث المتقدّم.
وعند مالك وأحمد؛ ابن السبيل المستحق للزكاة، يختصّ بالمجتاز دون المنشئ ولا يعطى من الزكاة من إِذا وجد مُقِرضاً يُقرِضه وكان له من المال ببلده، ما يفي بقرْضه، فإِن لم يجد مُقرِضاً، أو لم يكن له مال يقضي منه قرضه، أعطي من الزكاة".
وقول مالك وأحمد هو الراجح -والله أعلم-. لأنه ليس للإِنسان أن

(3/121)


ينشئ السفر إِذا لم يكن قادراً عليه إِلا إِذا كان مضطراً لذلك، وإيفاء القرض أولى من قَبول الزكاة، ولو جازت لابن السبيل الغني لجاء ذلك في الحديث المتقدّم: "لا تحلّ الصدقة لغني إِلا لخمسة ... " ولم يذكر منها ابن السبيل. والله -تعالى- أعلم.

هل يجب استيعاب الدفع إِلى جميع مصارف الزكاة؟
لا يجب ذلك لأنَّ الآية ذكَرت الأصناف لبيان المصرف؛ لا لوجوب استيعابها.
جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 40): "قال الإِمام أبو جعفر الطبري: عامّة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها، ووضْعها في أي الأصناف الثمانية شاء، وإنّما سمّى الله الأصناف الثمانية؛ إِعلاماً منه أنّ الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إِلى غيرها، لا إِيجاباً لقسمتها بين الأصناف الثمانية".
وجاء في "تفسيرابن كثير": "وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية؛ هل يجب استيعاب الدفع لها، أو إِلى ما أمكن منها؟ على قولين:
(أحدهما) أنه يجب ذلك وهو قول الشافعي وجماعة.
(والثاني) أنه لا يجب استيعابها، بل يجوز الدفع إِلى واحد منها، ويعطى جميع الصدقة؛ مع وجود الباقين، وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف؛ منهم عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون ابن مهران.

(3/122)


قال ابن جرير وهو قول عامّة أهل العلم، وعلى هذا؛ فإِنما ذُكِرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعابها".
وجاء في "الروضة الندية" (1/ 503): " ... نعم إِذا جمع الإِمام جميع صدقات أهل قُطر من الأقطار، وحضَر عنده جميع الأصناف الثمانية، كان لكلّ صنف حقٌّ في مطالبته بما فرضَه الله، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية، ولا تعميمهم بالعطاء.
بل له أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يعطي بعضهم دون بعض؛ إِذا رأى في ذلك صلاحاً عائداً على الإِسلام وأهله.
مثلاً: إِذا جُمعت لديه الصدقات وحضَر الجهاد، وحقّت المدافعة عن حوزة الإِسلام من الكفار أو البغاة؛ فإِنّ له إِيثار صِنف المجاهدين بالصرف إِليهم؛ وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إِذا اقتضت المصلحة إِيثار غير المجاهدين".

إِذا اجتمَع في واحد أكثر من سبب لأخذ الزكاة
قال في "المغني" (2/ 518): "وإن اجتمع في واحد أسباب تقتضي الأخذ بها؛ جاز أن يعطى بها، فالعامل الفقير له أن يأخذ عُمالته، فإِن لم تُغنه فله أن يأخذ ما يُتمّ به غناه، فإِنْ كان غازياً فله أخذ ما يكفيه لغزوه، وإِن كان غارماً أخذ ما يقضي به غرمه؛ لأنّ كلّ واحد من هذه الأسباب؛ يُثبت حُكْمه بانفراده فوجود غيره لا يمنع ثبوت حُكمه؛ كما لم يمنع وجوده".

(3/123)


من تحرُم عليهم الزكاة (1)
1 - أهل الكفر والإِلحاد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ في الحديث المتقدّم: " ... فأخبِرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقةً، تُؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم".
والمراد أغنياء المسلمين وفقراؤهم.
قال في "المغني" (2/ 517): "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنّ زكاة الأموال لا تُعطى لكافر ولا لمَمْلوك.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أنّ الذّمّي لا يعطى من زكاة الأموال شيئاً، ولأن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: "أعلِمهم أنّ عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم، وتُرَدّ في فقرائهم".
فخصَّهم بصرفها إِلى فقرائهم كما خصَّهم بوجوبها على أغنيائهم".
ويستثنى من ذلك المؤلفة قلوبهم كما تقدّم.
ويجوز أن يعطوا من صدقة التطوّع، قال الله تعالى: {ويُطعمون الطعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} (2).
جاء في "أضواء البيان" (8/ 675): "في قوله تعالى: {مسكيناً ويتيماً وأسيراً} جمْعُ أصنافٍ ثلاثة: الأول والثاني: من المسلمين غالباً، أمّا
__________
(1) عن "فقه السنة" (1/ 398) بتصرف، وانظر "السيل الجرار" -إِن شئت- (2/ 62 - 66) للمزيد من الفائدة.
(2) الإنسان: 8.

(3/124)


الثالث: وهو الأسير؛ فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلاَّ من الكفّار، وإنْ كانت السورة مكية؛ إِلا أن العِبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم.
وقد نقَل ابن كثير عن ابن عبّاس: أنها في الفُرْس من المشركين وساق قصّة أُسَارَى بدر.
واختار ابن جرير أنّ الأَسْرى هم الخَدم، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنّ الأُسَارى هنا على معناها الحقيقي، لأنّ الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين: اليتيم والمسكين، وهؤلاء الأُسَارى بعد وقوعهم في الأسر، لم يبق لهم حَوْل ولا طَوْل، فلم يَبق إِلا الإِحسان إِليهم.
وهذا من محاسن الإِسلام وسمو تعاليمه، وإنّ العالم كله اليوم؛ لفي حاجة إِلى معرفة هذه التعاليم السّماويّة السّامية حتى مع أعدائه، وقد قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يُخرِجوكم مِن دياركم أن تبرُّوهم وتُقسطوا إِليهم} (1)، وهؤلاء بعد الأسْر ليسوا مقاتلين".
وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "قَدمت عليّ أمّي، وهي مشركة في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: إِنَّ أمّي قَدِمت وهي راغبة، أفأصِل أمّي؟ قال: نعم، صِلِي أمّك" (2).
وفي الحديت: "تصدّقوا على أهل الأديان" (3).
__________
(1) الممتحنة: 8.
(2) أخرجه البخاري: 2670، ومسلم: 1003.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وغيره، وهو ثابت بمجموع طرقه وشواهده، وانظر "الصحيحة" (2766).

(3/125)


قال شيخنا -رحمه الله-: ويشهد للحديث ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: وذكر الحديث.
ثمّ قال -رحمه الله تعالى-: " ... وترجم له [أي: البيهقي] ولحديث الترجمة بقوله: "باب صدقة النافلة على المشرك وعلى من لا يُحمَد فِعله" هذا في صدقة النافلة.
وأمّا الفريضة فلا تجوز لغير المسلم لحديث معاذ المعروف: "تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم ... ".

2 - بنو هاشم وبنو المطّلب.
لحديث المطلب بن ربيعة بن الحارث المتقدّم: " ... إِنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد، إِنما هي أوساخ الناس" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أخذ الحسن بن علي تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَخ كَخ (2) ارم بها؛ أما علمتَ أنّا لا نأكل الصدقة" (3).
واختلف العلماء في بني المطلب، فذهب الشافعي إِلى أنه ليس لهم
__________
(1) أخرجه مسلم: 1072.
(2) يقال: كخ كخ بفتح الكاف وكسرها، وهي كلمة يُزجر بها الصبيان عن المستقذرات، فيقال له كخ، أي: اتركه وارم به.
وفي الحديث أنَّ الصبيان يُوَقّون مما يوقّ الكبار، وتمنع من تعاطيه وهذا واجب على الوليّ. "شرح النووي" (7/ 175).
(3) أخرجه البخاري: 1491، ومسلم: 1069.

(3/126)


الأخذ من الزكاة؛ مثل بني هاشم.
فعن جبير بن مُطعم قال: "مشيت أنا وعثمان بن عفّان إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: يا رسول الله، أعطيْت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد".
قال الليث: حدثني يونس وزاد: "قال جُبَيْر: ولم يَقسِم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل.
وقال ابن إِسحاق: عبد شمس وهاشم والمطلب إِخوة لأمّ وأمّهم عاتكة بنت مرّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم" (1).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (6/ 210): "فصحّ أنّه لا يجوز أن يُفرَّق بين حُكمهم في شيء أصلاً؛ لأنهم شيء واحد بنصّ كلامه -عليه الصلاة والسلام- فصحّ أنهم آل محمّد، وإذ هم آل محمّد فالصدقة عليهم حرام".
وكما حرَّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصدقة على بني هاشم؛ فقد حرّمها كذلك على مواليهم وهم الأرقاء المعتقون.
فعن أبي رافع -رضي الله عنه- "أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا حتى آتي رسول الله فأسأله.
فانطلق إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله فقال: "إِنّ الصدقة لا تحلّ لنا، وإِنّ موالي
__________
(1) أخرجه البخاري: 3140.

(3/127)


القوم من أنفسهم" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة": "وما دلّ عليه الحديت من تحريم الصدقة على موالي أهل بيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ هو المشهور في مذهب الحنفية؛ خلافاً لقول ابن الملك منهم.
وقد ردّ ذلك عليه العلاّمة الشيخ علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (2/ 448 - 449) فليراجعه من شاء".

3 - من تجب عليهم النفقة من قِبل المزكّي؛ كالأبناء والأبوين ونحو ذلك، وسيأتي التفصيل بإِذن الله -تعالى-.
زكاة من لا تجب نفقتهم
أمّا إِذا لم تجب النففة عليهم؛ فإِخراج الزكاة عليهم أَوْلى.
عن زينب امرأة عبد الله قالت: "كنت في المسجد فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: تصَدّقْن ولو من حُليِّكنَّ -وكانت زينب تُنفق على عبد الله وأيتام في حجرها- فقالت لعبد الله: سَلْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أيَجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيْتَامي في حَجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فانطلَقْتُ إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوَجَدْت امرأة من الأنصار على الباب؛ حاجتها مثل حاجتي، فمرّ علينا بلال فقلنا: سَل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيجزي عني أن أُنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ وقلنا: لا تُخْبِر بنا.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (530)، وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (1613).

(3/128)


فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب، قال: أيُّ الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله، قال: نعم، ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" (1).
وفي حديث سلمان بن عامر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصِلَة" (2).
ومن الأمثلة على جواز إِعطاء الزكاة لمن لا تجب نفقتهم: الولد المتزوّج الذي يعيش في بيت مستقل عن أبويه؛ وكلٌّ مستقلٌّ بنفقته على نفسه.
جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 90): "وسئل -رحمه الله- عن دفْعها إِلى والديه، وولده الذين لا تلزمه نفقتهم؛ هل يجوز أم لا؟
فأجاب: الذين يأخذون الزكاة صنفان: صنف يأخذ لحاجته؛ كالفقير والغارم لمصلحة نفسه.
وصنف يأخذها لحاجة المسلمين: كالمجاهد والغارم في إِصلاح ذات البين، فهؤلاء يجوز دفْعها إِليهم، وإِن كانوا من أقاربه.
وأما دْفعها إِلى الوالِدين: إِذا كانوا غارِمَين، أو مكاتبين: ففيها وجهان، والأظهر جواز ذلك.
وأمّا إِن كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم، فالأقوى جواز دفعها إِليهم في هذه الحال".
__________
(1) أخرجه البخاري: 1466، ومسلم: 1000.
(2) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (531) وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (883).

(3/129)


وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 104): "ويجوز صرف الزكاة إِلى الوالديْن وإنْ علَوْا، وإلى الولد وإن سَفل، إِذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم؛ لوجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم؛ وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وكذا إِنْ كانوا غارمين أو مُكاتبين، أو أبناء سبيل؛ وهو أحد القولين أيضاً.
وإذا كانت الأمّ فقيرة؛ ولها أولاد صغار لهم مال ونفقتها تضرُّ بهم؛ أُعطيت من زكاتهم.
والذي يخدمه إِذا لم تكفه أجرته؛ أعطاه من زكاته؛ إِذا لم يستعمله بدل زكاته، ومن كان في عياله من لا تجب عليه نفقتهم، فله أن يعطيهم من الزكاة ما يحتاجون إِليه؛ ممّا لم تَجْرِ عادته بإِنفاقه من ماله".
وقال ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 109): " (باب صدقة المرء على ولده ... ) ثمّ روى بإِسناده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أنّ رجلاً تصدّق على ولده بأرض، فردّها إِليه الميراث، فذكَر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "وجب أجرك ورجع إِليك مُلكك" (1).
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الزكاة على الأقارب.
فقال: لا تجتمع زكاة ونفقة.
وسأله بعضهم: أتصحّ زكاة البنت الغنية على والديها؟
فأجاب -رحمه الله-: لا؛ يجب عليها النفقة.
__________
(1) انظر "صحيح ابن خزيمة" (2465).

(3/130)


وسأله بعضهم: هل يجب على الوالد أن يُنفق على ولده الفقير المتزوّج؟ فقال: "نعم".
وأجاب شيخنا -رحمه الله- أحد السائلين في موطن آخر: "نحن نرى جواز إِعطاء الفرع للأصل، والعكس إِذا كانوا لا يعيشون مع بعض، ولا يُنفق أحدهما على الآخر.
فإِذا كان الوالد مع بقية أولاده يعيشون مستقلّين، وأحد الأبناء يعيش بمفرده وهو غنيّ؛ فله أن يقدّم زكاة ماله وزكاة فطره لأبيه وإخوانه.
أمّا إِذا كان هو المسؤول عنهم في الإِنفاق؛ فهنا يُقال نفقة وزكاة لا يجتمعان، فلا يجوز أن تعطى الزكاة لمن يُنفَق عليه.
أمّا إِذا كان الأب وأولاده يعيشون بمفردهم مستورين -كما يقال- فيجوز لهذا الولد الغني أن يعطي زكاة ماله لأبيه وإخوته الفقراء".

الزكاة على الزوجة
لا يجوز دفع الزكاة إِلى الزوجة؛ لأنّ نفقتها تجب على زوجها. ونقَل ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني" (2/ 513) الإِجماع على ذلك قائلاً: "وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ الرجل لا يُعطي زوجته من الزكاة؛ وذلك لأنَّ نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن أخْذ الزكاة، فلم يَجُز دفعها إِليها".
إلاَّ إِذا كانت غارمة فتُعطى من سهم الغارمين.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل يجوز للرجل أن يدفع لزوجته الزكاة إِذا

(3/131)


كانت مدينة من باب الغارمين؟.
فقال: "إِذا لم يكن للنفس حظٌّ في الموضوع، فهي أَوْلى".
وقال مرّة أخرى: "ليس الغارم كلّ مديون، وإنّما هو الذي استدان لِحلّ مشكلةٍ للآخرين، فهذا يعطى من مالِ الزكاة.
أمّا إِذا استدان شخص لمصلحته الخاصة؛ فإِنه لا يُعطى كونه غارماً، بل يُنظر أفقير هو أم لا".

هل تَدْفَع الزوجة الزكاة لزوجها؟
يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها إِلى زوجها، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر وطائفة من أهل العلم.
فعن أبي سعيد -رضي الله عنه-: "خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أَضْحىً أو فِطر إِلى المصلّى، ثمّ انصرف، فوعظ الناس وأمَرهم بالصدقة، فقال: أيها الناس: تصدقوا.
فمرّ على النساء فقال: يا معشر النساء تصدّقن فإِنِّي رأيتكنَّ أكثر أهل النار، فقُلن: وبمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: تُكْثِرْن اللَّعن وتكفُرن العَشير (1) ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبّ الرجل الحازم من إِحداكنّ يا معشر النساء.
ثمّ انصرف فلما صار إِلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن
__________
(1) أي: الزوج، والعشير: المُعاشر، لأنها تعاشره ويعاشرها، من العِشرة: الصحبة. "النهاية".

(3/132)


عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب فقال: أيُّ الزّيانب؟ فقيل: امرأة ابن مسعود قال: نعم؛ ائذنوا لها فأُذِن لها.
قالت: يا نبيّ الله! إِنك أمرتَ اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِيٌّ لي فأردت أن أتصدَّق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحقّ مَن تصدَّقْتُ به عليهم.
فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صَدق ابن مسعود زوجك وولدك أحقُّ من تصدّقت به عليهم" (1).
ولأنه تجب نفقته، فلا يمنع دفْع الزكاة إِليه، وليس في المنع نصٌّ ولا إِجماع (2).
قال ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 106): " (426) باب استحباب إِتيان المرأة زوجها وولدها؛ بصدقة التطوع على غيرهم من الأباعد، إِذ هم أحقّ بأن يُتصدَّق عليهم من الأباعد".
وذكر حديث: "صدق ابن مسعود ... "، وغيره.

هل يدْفع الزكاة إِلى الأقارب المحتاجين إِذا كان الأجنبي أشدّ حاجة!
جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 89): "وسئل -قدس الله روحه- عن دفع الزكاة إِلى أقاربه المحتاجين؛ الذين لا تلزمه نفقتهم؟ هل هو الأفضل أو دفْعها إِلى الأجنبي؟
__________
(1) أخرجه البخاري 1462، وفي رواية: لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة، وتقدّمت.
(2) عن "المغني" (2/ 513) بحذف.

(3/133)


فأجاب: أمّا دفْع الزكاة إِلى أقاربه: فإِنْ كان القريب الذي يجوز دفْعها إِليه؛ حاجته مِثل حاجة الأجنبي إِليها، فالقريب أوْلى. وإن كان البعيد أحْوَج، لم يُحاب بها القريب.
قال أحمد: عن سفيان ابن عيينة كانوا يقولون: لا يُحابي بها قريباً، ولا يَدفَع بها مذمّة، ولا يقي بها ماله".
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 93): "وسئل عن الصدقة على المحتاجين من الأهل، وغيرهم؟
فأجاب: إِنْ كان مال الإنسان لا يتسع للأقارب والأباعد، فإِن نفقة القريب واجبة عليه، فلا يُعطي البعيد ما يضر بالقريب.
وأمّا الزكاة والكفَّارة؛ فيجوز أن يعطي منها القريب الذي لا ينفق عليه، والقريب أولى إِذا استوت الحاجة".

4 - صرفها في وجوه القُرَب:
لا يجوز صرف الزكاة في غير الأصناف التي ذُكرت في الآية الكريمة: {إنّما الصدقات للفقراء ... } إِذ ليس لنا التوسُّع؛ لأنّ الآية الكريمة حصرت هذه المصارف فكيف نوسّعها.
جاء في "مختار الصحاح": "وإنْ زدْت على (إِنّ) (ما) صارت للتعيين، كقوله تعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء ... } الآية، لأنه يوجب إِثبات الحُكم للمذكور، ونفْيه عمّا عداه".
وبهذا؛ فلا كبير فائدة -كما تقدّم- من حصر الزكاة في المصارف

(3/134)


الثّمانية في الآية الكريمة إِذا توسّعنا.
جاء في "المغني" (21/ 527): "ولا يجوز صرف الزكاة إِلى غير مَن ذَكَر الله -تعالى- مِن بناء المساجد والقناطر والسقايات وإصلاح الطرقات، وسد البثوق (1)، وتكفين الموتى، والتوسعة على الأضياف، وأشباه ذلك من القُرب التي لم يذكرها الله -تعالى-.
وقال أنس والحسن: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية، والأول أصحّ لقوله سبحانه وتعالى: {إِنّما الصدقات للفقراء والمساكين ... } و"إنّما" للحصر والإِثبات تُثبتُ المذكور وتنفي ما عداه".
وتقدّم ما ذكره شيخنا عن أبي عبيد في "الأموال" -رحمهما الله تعالى-: "فأمّا قضاء الدين عن الميت، والعطيّة في كفنه، وبُنيان المساجد، واحتفار الأنهار، وما أشبه ذلك من أنواع البِرّ؛ فإِنّ سفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء؛ مُجمِعون على أن ذلك لا يجزي من الزكاة؛ لأنه ليس من الأصناف الثّمانية".

هل تعطى الزكاة لغير أهل الصّلاح؟
قال في "الاختيارات الفقهية" (ص103): "ولا ينبغي أن يُعطيَ الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله؛ فإِنَّ الله تعالى فرَضها معونةً على طاعته لمن يحتاج إِليها من المؤمنين؛ كالفقراء والغارمين، أو لِمَن يُعَاوِن المؤمنين، فمن لا يُصلّي من أهل الحاجات؛ لا يُعطى شيئاً حتى يتوب، ويلتزم أداء
__________
(1) مفردها بَثق: موضع انبثاق الماء من نهر ونحوه. وانظر "الوسيط".

(3/135)


الصلاة في أوقاتها".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل تعطى الزكاة لغير الصالح إِذا لم يستعن بها على المعصية؟
فقال: " ... عند فقدان الصالح".
وقال -رحمه الله-: ... "أمّا المسلم الفاسق؛ فيجوز إِعطاؤه الزكاة إِذا كان فيه تأليفٌ لقلبه، وإِلاَّ فلا". انتهى.
والذي يبدو لي أنّ التصدّق على كل من حُكم بإِسلامه يُجزئ؛ إِذا لم يستعِن بها على المعصية، مع وجوب تقديم الصالح، والله -تعالى- أعلم.

الصدقة على ذي الرحم الكاشح
عن أمّ كلثوم -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصّدقة على ذي الرحم الكاشح (1) ".

الصدقة على الجار
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه" (2).

هل يشرع الاتجار بأموال اليتامى؟
فيه أحاديث لا تثبُت؛ منها: "اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
__________
(1) الكاشح: هو العدوّ الذي يُضمر عداوته ويطوي عليها كَشْحه -أي باطنه- والكَشْح: الخصر، أو الذي يطوي عنك كَشْحه ولا يألفك. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 6015، ومسلم: 2625.

(3/136)


وقد بيّن ضعفها وعِلَلَها شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (788).
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الاتجار بأموال اليتامى.
فقال -رحمه الله-: إِذا غلب على ظنه الربح جاز.
وفي بعض الإِجابات عنها وعن مِثلها مِن بعض مصارف قال -رحمه الله-: إِذا تكفّلوا بإِعادة المال عند الخسارة جاز ذلك.

إِسقاط الدَّين عن الزكاة
قال النووي في "المجموع": "لو كان على رجل معسر دين، فأراد أن يجعله عن زكاته وقال له: جعلْته عن زكاتي فوجهان:
أصحهما، لا يجزئه، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، لأنّ الزكاة في ذمّته، فلا يبرأ إِلا بإِقباضها.
والثاني: يجزئه؛ وهو مذهب الحسن البصري، وعطاء؛ لأنه لو دفَعه إِليه، ثمّ أخذه منه جاز، فكذا إِذا لم يقبضه.
كما لو كانت له دراهم وديعة، ودفَعها عن الزكاة، فإنه يجزئه؛ سواء قبَضها أم لا" (1).
قلت: ولا يمكن تشبيه دراهم الوديعة بهذا المال، لأنّ الأصل في مال الوديعة أنه مقبوض، لكن هذا قد يقبض وقد لا يقبض.
والذي يبدو أنّه إذا ترجّح قبض هذا الدين جاز، وإلا فلا، والله أعلم.
__________
(1) انظر "فقه السُّنّة" (1/ 407).

(3/137)


وجاء في "المغني" (2/ 516): "قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين بِرَهْن، وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يُفرِّقها على المساكين؛ فيدفع إِليه رهنه ويقول له: الدين الذي لي عليك هو لك، ويحسبه من زكاة ماله.
قال: لا يجزيه ذلك، فقلت له: فيدفع إِليه من زكاته فإِنْ ردّه إِليه قضاءً مِن ماله أَخَذَه؟ فقال: نعم.
وقال في موضع آخر وقيل له: فإِنْ أعطاه ثمّ ردَّه إِليه؟ قال: إِذا كان بحِيلَة فلا يُعْجبني.
قيل له: فإِن استقرض الذي عليه الدين دراهم، فقضاه إِياها ثمّ ردّها عليه، وحسَبها من الزكاة؟ فقال: إِذا أراد بها إِحياء ماله فلا يجوز، فحصَل من كلامه أنّ دفْع الزكاة إِلى الغريم جائز؛ سواء دفَعها ابتداءً أو استوفى حقّه ثمّ دفع ما استوفاه إِليه.
إِلا أنه متى قصد بالدفع إِحياء ماله أو استيفاء دينه لم يجُز؛ لأنّ الزكاة لحقّ الله -تعالى- فلا يجوز صرْفها إِلى نفْعه، ولا يجوز أن يحتسب الدين الذي له من الزكاة قبل قبْضه؛ لأنه مأمور بأدائها وإيتائها، وهذا إِسقاط. والله أعلم".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 89): "وإنْ كان له دين على حيٍّ أو ميت؛ لم يحتسب به من الزكاة ولا يحتال في ذلك".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن رجل له دين عند آخر وهو مُعسر، فهل يجزئه لو قال له: هو زكاة مالي؟

(3/138)


فأجاب -رحمه الله-: يجزئ إِذا أعلمه بذلك وقَبل المدين، ولم يكن ديناً ميّتاً (1).

نقْل الزكاة
لا شكَّ أنّ الأصل والأفضل إِخراج الزكاة في نفص البلد؛ لقول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ -رضي الله عنه- كما تقدّم-: " ... أخبِرهم أن عليهم صدقة؛ تؤخَذ من أغنيائهم وتُردّ في فقرائهم".
وهذا يختصّ بفقراء بلدهم، وهذا آكد في تنظيم أمور الفقراء وسدّ حاجاتهم.
قال الإِمام البخاري -رحمه الله- "باب أخْذ الصدقة من الأغنياء، وتردّ في الفقراء حيث كانوا" (2).

قال ابن المنيّر: "اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال؛ لعموم قوله: "فترَدّ على فقرائهم" لأن الضمير يعود على المسلمين، فأيّ فقير منهم رُدَّت فيه الصدقة في أي جهة كان، فقد وافق عموم الحديث" (3).
وقال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 58): "باب الأمر بقسم الصّدقة في أهل البلدة، التي تؤخذ منهم الصدقة"، ثمّ ذكر الحديث: " ... فأَعلِمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة في أموالهم؛ تؤخذ من أغنيائهم،
__________
(1) أي: لم يكن يائساً من قبضه.
(2) انظر "صحيح البخاري" "كتاب الزكاة" (63 - باب).
(3) انظر "الفتح" (3/ 357).

(3/139)


فتردُّ في فقرائهم".
قال في "المغني" (2/ 531): "فإِن خالف ونقَلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم، وإن استغنى عنها فقراء أهل بلدها، فإِنه يجوز نقْلها عند المانعين".
وجاء في "الاختيارات الفقهية" (ص 99) -بحذف-: "وإذا نقل الزكاة إِلى المستحقين بالمصر الجامع، مثل أن يعطي مَن بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر، فالصحيح جواز ذلك.
فإِنّ سكّان المصر؛ إِنما يعانون من مزارعهم، بخلاف النقل من إِقليم، مع حاجة أهل المنقول عنه.
وإنما قال السلف: جيران المال أحق بزكاته، وكرهوا نقل الزكاة إِلى بلد السلطان وغيره؛ ليكتفي أهل كلّ ناحية بما عندهم من الزكاة، ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية".
وفيه (ص 104): "ويجب صرْف الزكاة إِلى الأصناف الثّمانية، إنْ كانوا موجودين، وإِلا صُرفت إِلى الموجود منهم، ونقْلها إِلى حيث يوجدون".
وعن إِبراهيم بن عطاء -مولى عمران بن حصين- عن أبيه: أن زياداً -أو بعض الأمراء- بَعث عمران بن حصين على الصدقة.
فلمّا رجع قال لعمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنّا نأخذها؛ على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووضعناها حيث كنا نضعها، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (1).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1431)، وابن ماجه "صحيح سنن =

(3/140)


قال الإِمام مالك -رحمه الله-: "لا بأس بنقلها للحاجة، وإذا لم يكن أهل البلد مستحقين؛ فتنقَل -بلا خلاف- وعند الإِمام الشافعي وأحمد لا تُنقَل، ولا شكّ أنّ الأفضل إِخراجها في نفس البلد؛ إِلا إِذا لم يجد مستحقّيها؛ مع جواز نقْلها ولو وجد مستحقّوها".
وجاء في "مجموع الفتاوى" كذلك (25/ 85): "وسئل -رحمه الله- عمن له زكاة، وله أقارب في بلد تقصر إِليه الصلاة، وهم مستحقّون الصدقة؛ فهل يجوز أن يدفعها إِليهم؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. إِذا كانوا محتاجين مستحقين للزكاة، ولم تحصل لهم كفايتهم من جهة غيره، فإنه يعطيهم من الزكاة، ولو كانوا في بلد بعيد، والله أعلم".
وسئل شيخنا -رحمه الله- عن دليل الجواز فقال: "الدليل عدم ورود الدليل المانع من النقل" والله أعلم.

إِذا استدان مالاً هل يُخرج زكاته؟
إِذا استدان رجل مالاً بلغ النصاب وحال عليه الحول؛ فالظاهر وجوب إِخراج الزكاة عنه، أمّا إِذا لم يَحُل عليه الحول؛ فلا زكاة عليه.
وسئل شيخنا -رحمه الله- عن شخص استدان مبلغاً وحال عليه الحول؛ فهل يخرج زكاته؟ وهل يجب كذلك على صاحب المال؛ فيكون قد زُكّي مرتين!
__________
= ابن ماجه" (1467)، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" (ص 90).

(3/141)


فأجاب: "هو كذلك، فإِنّ الواجب على المدين أن يقضي حاجته بهذا المال، فإِذا لم يستعمل المال لسبب أو آخر وبقي مكنوزاً عنده حولاً كاملاً؛ فإِنه يجب عليه وعلى صاحب المال إِخراج الزكاة.
أمّا الدائن، فالأمر واضح وجليّ، وأما المدين؛ فلأنه كنزَ هذا المال حولاً كاملاً، ومِن حِكمة الله سبحانه في ذلك، ألا يتورّط المدين بكنز المال".

هل يجزئ الرجل عن زكاته ما يُغرمه ولاة الأمور في الطرقات وما في معناه؟
أجاب شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 93)
فقال: "ما يأخذه ولاة الأمور بغير اسم الزكاة؛ لا يعْتد له من الزكاة والله -تعالى- أعلم".

من أعطى الزكاة لمن ظنّ أنّه مستحقّ فظهر أنه غير مستحقّ (1)
قال في "المغني" (2/ 528) -بحذف-: "وإذا أعطى من يظنه فقيراً فبان غنياً، فعن أحمد فيه روايتان:
إِحداهما: يجزئه. اختارها أبو بكر، وهذا قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة.
والرواية الثانية: لا يُجزئه؛ لأنه دفع الواجب إِلى غير مستحقّه، فلم يخرج من عُهدته؛ كما لو دفَعها إِلى كافر أو ذي قرابة -كديون الآدميين- وهذا قول الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف وابن المنذر، والشافعي؛ قولان
__________
(1) هذا العنوان من "المغني" (2/ 528).

(3/142)


كالروايتين".
فعن عُبيد الله بن عَديّ بن الخِيار، قال: أخبَرني رجلان أنهما أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في حجة الوِداع، وهو يُقسِّم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جِلْدين (1)، فقال؛ إِنْ شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال رجل لأتصدقنَّ بصدقةٍ، فخرج بصدقة فوضعها في يد سارق.
فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق على سارق، فقال: اللهمّ لك الحمد، لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقة فوضعها في يَدَي زانيةٍ.
فأصبحوا يتحدّثون: تُصدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهمّ لك الحمد على زانية، لأتصدقنّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضَعها في يَدَي غنيٍ.
فأصبحوا يتحدَّثون: تُصدِّق على غني؛ فقال: اللهمّ لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غنيّ.
فأُتي فقيل له: أمّا صدقتك على سارقٍ؛ فلعلَّه أن يستعفَّ عن سرقته، وأمّا الزانية فلعلها أن تستعفّ عن زناها، وأمّا الغني فلعلّه يعتبر، فيُنفق ممّا أعطاه الله" (3).
__________
(1) بسكون اللام أو كسرها أي: قويين.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1438)، والنسائي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "المشكاة" (1832): إِسناده قوي، وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري: 1421، ومسلم: 1022.

(3/143)


وبوّب له البخاري بقوله: "إِذا تصدّق على غني وهو لا يعلم".
قال الحافظ في "الفتح" (3/ 290): "أي: فصدقته مقبولة".
وعن معن بن يزيد -رضي الله عنه- قال: "بايعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وأبي وجدّي، وخطب عليّ (1) فأنكَحني وخاصمتُ إِليه، وكان أبي يزيد، أخرج دنانير يتصدّق بها، فوضَعها عند رجل في المسجد.
فجئت فأخذتُها فأتيتُه بها فقال: والله ما إِياك أردت، فخاصمتُه إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لك ما نويتَ يا يزيد، ولك ما أخذتَ يا معن" (2).
وبوّب له البخاري بقوله: "إِذا تصدّق على ابنه وهو لا يشعر".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: إِذا أخطأ المزكّي فأعطاها لغير أهلها، هل يجزئه ذلك وتسقط منه، وهل حديث: "لك ما نويت يا يزيد ... "، وكذلك "تُصدّق الليلة على سارق ... "، يفيد ذلك؟
فأجاب -رحمه الله-: هكذا الظاهر، وفي مرّة أخرى قال: إِذا كان لا يعلم يسقط عنه.

ما هو الأفضل: إِظهار الصدقة أم إِخفاؤها (3)؟
يجوز للمتصدّق أن يُظهر صدقته؛ سواء أكانت صدقة فرض أو نافلة؛ دون
__________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 292): "أي: طلب لي النكاح فأجيب، يُقال: خطب المرأة إِلى وليّها: إذا أرادها الخاطب لنفسه، وعلى فلان: إِذا أرادها لغيره".
(2) أخرجه البخاري: 1422.
(3) عن "فقه السنة" (1/ 411) بزيادة.

(3/144)


أن يرائي بصدقته، وإخفاؤها أفضل.
قال الله تعالى: {إِنْ تبدوا الصدقات فنعمّا (1) هي وإِن تُخفوها وتُؤتوها الفقراء فهو خير لكم} (2).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فيه دلالة على أنّ إِسرار الصدقة أفضل من إِظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء؛ إِلا أنه يترتب على الإِظهار مصلحة راجحةٌ من اقتداء الناس، فيكون أفضل من هذه الحيثية.
وقال الله تعالى: {الذين يُنفِقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية} (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سبعة يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلَّ إِلا ظلُّه: إِمام عَدْل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله؛ اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذاتَ منصب وجمال، فقال: إِني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكَر الله خالياً ففاضت عيناه" (4).
وعن أنس: "أُنزلت هذه الآية: {لن تنالوا البِرّ حتى تُنفقوا ممّا
__________
(1) نِعْم: فعل مُتَصرّف لإِنشاء المدح وأُلحقت به هنا "ما"، كما هو معروف عند أهل اللغة. قال ابن كثير -رحمه الله-: إِن أظهرتموها فنِعْم شيء هي.
(2) البقرة: 271.
(3) البقرة: 274.
(4) أخرجه البخاري: 1423، ومسلم: 1031، وتقدّم.

(3/145)


تُحبّون} (1)، قال: {من ذا الذي يُقرِض الله قرْضاً حسَناً} (2).
قال أبو طلحة: يا رسول الله حائطي الذي في كذا وكذا، هو لله ولو استطعت أن أُسِرَّه لم أُعلِنه، فقال: "اجعله في فقراء أهلك أدنى أهل بيتك" (3).

الدعاء للمزكي
قال الله تعالى: {خُذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إِنّ صلاتك سكن (4) لهم} (5).
قال ابن كثير في "تفسيره": {وصلِّ عليهم} أي: ادعْ لهم واستغفِر لهم.
وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال: اللهمّ صلِّ على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهمّ صلِّ على آل أبي أوفى" (6).
__________
(1) آل عمران: 92.
(2) البقرة: 245.
(3) أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، وأصله في "الصحيحين"، وانظر "صحيح ابن خزيمة" (2458).
(4) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: رحمةً لهم وقال قتادة: وقارٌ "تفسير ابن كثير"، وتقدّم.
(5) التوبة: 103.
(6) أخرجه البخاري: 1497، ومسلم: 1078.

(3/146)


الصدقة باليمين (1)
لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم: "سبعةٌ يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظلَّ إِلا ظلُّه: ... ".
وفيه: "ورجل تصدّق بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".

التحذير من المنّ بالعطيّة
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي يُنفِق ماله رئاء الناس} (2).
عن أبي ذرّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة لا يُكلّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إِليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسِروا من هم يا رسول الله! قال: المسبل، والمنّان، والمنفق سلعته بالحَلفِ الكاذب" (3).

فضل صدقة الشحيح الصحيح (4)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أيُّ الصدقة أعظم أجراً؟
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح البخاري".
(2) البقرة: 264.
(3) أخرجه مسلم: 106.
(4) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الزكاة) "11 - باب ... ".

(3/147)


قال: أن تصّدّق وأنت صحيح شحيح (1) تخشى الفقر وتأمل الغِنى، ولا تمهل حتى إِذا بلَغَت الحُلقوم (2) قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" (3).

النهي عن تحقير ما قلّ من الصدقات
عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اتقوا النار ولو بشِقّ تمرة" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: يا نساء المسلمات (5) لا تحقرنّ جارةٌ لجارتها ولو فِرسِن (6) شاة" (7).
__________
(1) قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص. "فتح".
(2) إِذا بلغت: أي: الروح، والمراد: قاربت بلوغه، إِذ لو بلغته حقيقة لم يصح شيء مِن تصرفاته. والحلقوم مجرى النفس قاله أبو عبيد". "فتح".
(3) أخرجه البخاري: 1419، ومسلم: 1032.
(4) أخرجه البخاري: 1417، ومسلم: 1016.
(5) انظر شرحه -إِن شئت- في كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (1/ 150) حديث (90/ 122 و91/ 123).
(6) الفِرْسِن: عظم قليل اللحم، وهو خُفّ البعير، كالحافر للدابة، وقد يستعار للشاة، فيقال: فِرْسِن شاة، ونونه زائدة وقيل أصلية، والذي للشاة هو الظّلف، [والظلف: هو الظُّفر المشقوق]. "الوسيط". قال الحافظ: وأشير بذلك إِلى المبالغة في إِهداء الشيء اليسير وقبوله، لا إِلى حقيقة الفِرْسِن، لأنه لم تجْر العادة بإِهدائه، أي: لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلالها، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسَّر؛ وإن كان قليلاً، فهو خير من العدم ...
(7) أخرجه البخاري: 6017، ومسلم: 1030.

(3/148)


قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 111): " (باب الأمر بإِعطاء السائل وإن قلّت العطية وصغُرت قيمتها، وكراهية ردّ السائل من غير إِعطاء إِذا لم يكن للمسؤول ما يجزل العطية).
ثمّ ذكَر حديث أم بُجيد -وكانت ممّن بايع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت له: يا رسول الله! صلى الله عليك، إِنّ المسكين ليقوم على بابي؛ فما أجد له شيئاً أعطيه إِياه؟
فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن لم تجدي له شيئاً تعطينه إِياه إِلا ظِلْفاً (1) مُحْرَقاً (2)، فادفعيه إِليه في يده" (3).

الزجر عن عيب المتصدّق المُقلّ بالقليل من الصدقة (4)
قال الإِمام البخاري -رحمه الله- (باب اتقوا النار ولو بشِقّ تمرة، والقليل من الصدقة) (5).
عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: لمّا نزلت آية الصدقة؛ كنّا
__________
(1) ظِلفاً: بالكسر: بمنزلة القدم من الإنسان، يعني: شيئاً يسيراً.
(2) من الإِحراق، أراد المبالغة في ردّ السائل بأدنى ما تيسّر ... "عون المعبود" (5/ 58).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1466)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2473).
(4) انظر -إِن شئت- "صحيح ابن خزيمة" (1/ 102).
(5) "صحيح البخاري" (كتاب الزكاة) "10 - باب اتقوا النار ... ".

(3/149)


نحامِلُ (1)، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مُرائي.
وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إِنّ الله لغني عن صاع هذا، فنزَلت: {الذين يلْمزون المطوّعين من المؤمنين في الصّدقات والذين لا يَجدون إِلا جُهدهم} (2) الآية" (3).

الزجر عن رمي المتصدِّقين بالكثير من الصدقة بالرياء والسمعة (4)
للحديث السابق.

هل يشتري صدقته؟
لا يجوز للمرء أن يشتري صدقته؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ عمر بن الخطاب تصدّق بفرَسٍ في سبيل الله، فوجده يباع، فأراد أن يشتريه، ثمّ أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأمره فقال: لا تعُد في صدقتك.
فبذلك كان ابن عمر -رضي الله عنهما- لا يترك أن يبتاع شيئاً تصدّق به إلاَّ جعله صدقة" (5).
ويجوز له أن يشتري صدقة غيره؛ لحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ إِلا لخمسة: ... أو رجل اشتراها
__________
(1) أي: نحمل الحمل بالأجرة. قاله الكرماني.
(2) التوبة: 79.
(3) أخرجه البخاري: 1415.
(4) انظر -إِن شئت- "صحيح ابن خزيمة" (1/ 102).
(5) أخرجه البخاري: 1489، ومسلم: 1621.

(3/150)


بماله" (1).
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "ولا بأس أن يشتري صدقة غيره لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما نهى المتصدِّق خاصةً عن الشراء ولم ينه غيره".
وانظر ما قاله شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 384).

إِذا تحوّلت الصدقة (2)
يجوز الأكل من الصدّقة إِذا أُهديت من فقير أو قُدّمت في ضيافة ونحوها.
عن أنس -رضي الله عنه- "أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بلحمٍ تُصدّق به على بريرة فقال: هو عليها صدقة، وهو لنا هديّة" (3).

التصدّق بغير المال
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "على كلّ مسلم صدقة، فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدّق، قالوا: فإِن لم يجد؟ قال: يُعين ذا الحاجة الملهوف (4)، قالوا: فإِن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف، وليُمسِك عن الشرّ، فإِنها له صدقة" (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (870)، وتقدّم.
(2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" -رحمه الله- (كتاب الزكاة) "62 - باب ... ".
(3) أخرجه البخاري: 1495.
(4) الملهوف: أي: المستغيث وهو أعمّ من أن يكون مظلوماً أو عاجزاً.
(5) أخرجه البخاري: 1445، ومسلم: 1008.

(3/151)


وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "على كلِّ نفس في كلِّ يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه.
قلت: يا رسول الله! من أين أتصدق وليس لنا أموال؟
قال: لأنّ من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إلاَّ الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس، والعظمةَ والحجَرَ، وتهدي الأعمى، وتُسمع الأصمّ والأبكم حتى يفقه، وتدُلُّ المستدلّ على حاجة له قد علِمتَ مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إِلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف.
كلّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماعك زوجتك أجر.
قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال: أرأيت لو كان لك ولد؛ فأدرك ورجوت خيره فمات؛ أكنت تحتسبه؟ قلت: نعم.
قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلَقه. قال: فأنت هديتَه؟ قال: بل الله هداه. قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه.
قال: كذلك فضعه في حلاله، وجنّبه حرامه، فإِنْ شاء الله أحياه، وإِنْ شاء أماته، ولك أجر" (1).
والنّصوص في هذه المعاني كثيرة.
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (575).

(3/152)


التصدّق بالماء
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "ليس صدقة أعظم أجراً من ماء" (1).
وعن أنس -رضي الله عنه-: "أنّ سعداً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنَّ أمّي توفِّيت ولم توصِ، أفينفعها أن أتصدّق عنها؟
قال: نعم، وعليك بالماء" (2).
وعن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- قال: "قلت: يا رسول الله! إِنَّ أمّي ماتت، فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: الماء.
فحفَر بئراً وقال: هذه لأمّ سعد" (3).
وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: "سمعتُ ابن المبارك -وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن! قرحة خرجَت من ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجت بأنواع العلاج، وسألت الأطباء، فلم أنتفع به؟ - قال: اذهب فانظر موضعاً يحتاج الناس للماء؛ فاحفر هناك بئراً؛ فإِنني أرجو أن ينبع هناك عين،
__________
(1) أخرجه البيهقي، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (945).
(2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح، وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (946).
(3) أخرجه أبو داود واللفظ له وابن ماجه وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (947).

(3/153)


ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل، فبرئ". رواه البيهقي.
وقال: وفي هذا المعنى حكاية شيخنا الحاكم أبي عبد الله -رحمه الله-:
"فإِنه قرح وجهه، وعالجه بأنواع المعالجة، فلم يذهب، وبقي فيه قريباً من سنة، فسأل الأستاذ الإِمام أبا عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة، فدعا له، وأكثر الناس التأمين.
فلمّا كان من الجمعة الأخرى؛ ألقت امرأة في المجلس رقعة بأنها عادت إِلى بيتها، واجتهدت في الدعاء للحاكم أبي عبد الله تلك الليلة، فرأت في منامها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأنه يقول لها: قولي لأبي عبد الله يوسع الماء على المسلمين.
فجئت بالرقعة إِلى الحاكم، فأمر بسقايةٍ بنيت على باب داره، وحين فرغوا من بنائها، أمر بصب الماء فيها، وطرح الجمد في الماء، وأخذ الناس في الشرب، فما مرّ عليه أسبوع حتى ظهر الشفاء، وزالت تلك القروح وعاد وجهه إِلى أحسن ما كان، وعاش بعد ذلك سنين" (1).

ما جاء في المنيحة (2)
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أربعون خصلة -أعلاهنّ منيحة العنز- ما من عامل يعمل بخَصلة منها؛
__________
(1) انظر "صحيح الترغيب والترهيب" (950).
(2) جاء في "النهاية": "ومِنحة اللبن: أن يعطيه ناقة أو شاة، ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زماناً ثمّ يردّها".

(3/154)


رجاء ثوابها وتصديق موعودها؛ إلاَّ أدخَله الله بها الجنة" (1).

التصدُّق بالفرس
لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدّم: "أنّ عمر بن الخطاب تصدّق بفَرسٍ في سبيل الله ... ".

التصدّق بالزّرع
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير أو إِنسان أو بهيمة، إِلا كان له به صدقة" (2).

اشتراط المتصدّق حبْس أصول الصدقة، والمنْع مِن بيع رقابها وهبتها وتوريثها (3)
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستأمره فيها فقال: يا رسول الله، إِني أصبت أرضاً بخيبر؛ لم أُصِب مالاً قطُّ أنفس عندي منه؛ فما تأمر به؟ قال: إِن شئت حبسْتَ أصلها وتصدقت بها.
قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهَب ولا يورَث، وتصدّق بها في
__________
(1) أخرجه البخاري: 2631.
(2) أخرجه البخاري: 2320، ومسلم: 1552.
(3) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 117) بتصرُّف.

(3/155)


الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضَّيف، ولا جناح على من وَلِيها أن يأكل منها بالمعروف، ويُطعِم غير متموّل.
قال: فحدّثت به ابن سيرين فقال: غير متأثّل (1) مالاً" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أبي مات، وترَك مالاً، ولم يوصِ، فهل يُكفِّرُ عنه أن أتصدّق عنه؟ قال: نعم" (3).

لا يقبل الله صدقة من غُلول (4)
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقبل صلاة بغير طُهور، ولا صدقةٌ من غُلول" (5).

استسلاف الإِمام المال لأهل الصدقات وردُّه ذلك من الصدقة بعد الاستسلاف (6)
عن أبي رافع "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من رجل بَكْراً (7)، فقَدِمَت عليه
__________
(1) أي: غير جامع. يُقال: مالٌ مؤثَّل، ومجْدٌ مؤثَّل، أي: مجموعٌ ذو أصل، وأثْلةُ الشيء: أصْله. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 2737.
(3) أخرجه مسلم: 1630.
(4) الغُلول: هو الخيانة في المغنم، والسَّرقة من الغنيمة قبل القسمة، يُقال: غلَّ في المغنم يغلُ غلولاً فهو غالٌّ، وكلُّ من خان في شيء خُفية فقد غلّ. "النهاية".
(5) أخرجه مسلم: 224، وتقدّم.
(6) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 50) بتصرف.
(7) البَكْر: من الإِبل هو الصغير؛ كالغلام من الآدميين.

(3/156)


إِبل من إِبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرة.
فرجع إِليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلاَّ خِياراً (1) رَباعياً (2)، فقال: أعطه إياه، إِنَّ خِيار الناس أحسنهم قضاء" (3).

الرخصة في إِعطاء الإِمام من الصدقة من يذكر حاجة وفاقة؛ لا يعلم الإِمام منه خلافه من غير مسألة عن حاله؛ أهو فقير محتاج أم لا (4)؟
قال ابن خزيمة -رحمه الله-: "خبر سلمة بن صخر (5) في ذِكْره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم يأتوا (6) وحشاً ليس لهم عشاء، وبعثة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِياه إِلى صاحب صدقة بني زريق ليقبض صدقتهم، وليس في الخبر أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل غيره، وفي الخبر أيضاً دلالة على إِباحة دفع صدقة قبيلة إِلى واحد؛ لا أنه يجب على الإِمام تفرقة صدقة كلّ امرئ" (7).
وصدقة كلّ يومٍ على جميع الأصناف الموجودة من أهل سهمان الصدقة، إِذ
__________
(1) أي: مختاراً. "مجمع بحار الأنوار".
(2) يقال للذكر من الإِبل إِذا طلعت رَباعيته رَباع، والأنثى رَباعِيَة: -بالتخفيف- وذلك إذا دخلا في السنة السابعة. "النهاية".
(3) أخرجه مسلم: 1600.
(4) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 78).
(5) سيأتي الحديث -إِن شاء الله تعالى- في الباب الآتي.
(6) كذا الأًصل، ولعل الصواب باتوا وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- بلفظ: "لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاء ما لنا عشاء".
(7) انظر "صحيح ابن خزيمة" (4/ 79).

(3/157)


النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمَر سلمة بن صخر بقبض صدقات بني زريف من مصدّقهم".

الرخصة في إِعطاء الإِمام المظاهر (1) من الصدقة ما يُكفّر به عن ظهاره إِذا لم يكن واجداً للكفارة (2).
عن سلمة بن صخر قال: "كنت امرأً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلمّا دخَل رمضان؛ تظاهَرْتُ من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فَرَقاً (3) من أن أصيب في ليلتي شيئاً، فأتتابع في ذلك حتى يدركني النهار، وأنا لا أقدر على أن أنزع.
فبينا هي تخدمني إِذ تكشّف لي منها شيء، فوثبْت عليها، فلمّا أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتُهم خبري وقلت لهم: انطلقوا معي إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأُخبره بأمري، فقالوا: لا والله لا نفعل نتخوّف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالةً يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك.
قال: فخرجْتُ فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته خبري، فقال لي: أنت بذاك؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: أنت بذاك؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: أنت بذاك؟ قلت: نعم؛ ها أنا ذا؛ فأَمضِ فيّ حُكم الله -عزّ وجلّ- فإِني صابر له، قال: أعتِق رقبة، قال: فضربتُ صفحة رقبتي بيدي، وقلت: لا والذي بعثَك بالحقّ، ما أصبحت أملك غيرها.
__________
(1) أي: من يظاهر الزوجة، والظهار مشتقٌّ من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمّي وسيأتي تفصيله -إِن شاء الله- في موضعه.
(2) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 73).
(3) الفرق: شدّة الخوف.

(3/158)


قال: فصم شهرين، قال: قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إِلا في الصيام؟ قال: فتصدَّق، قال: فقلت: والذي بعثَك بالحقّ؛ لقد بِتنا ليلتنا هذه وحشاء ما لنا عشاء.
قال: اذهب إِلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إِليك، فأطعِم عنك منها وَسْقاً (1) من تمر ستين مسكيناً، ثمّ استعن بسائره عليك وعلى عيالك.
قال: فرجعْت إِلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة والبركة، قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي، فدفعوها إِلي" (2).

إعطاء الإِمام دِيَة من لا يُعرف قاتِلُه من الصدقة (3)
عن سهل بن أبي حَثْمة "أنَّ نفراً من قومه انطلقوا إِلى خيبر؛ فتفرّقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلاً، وقالوا للذي وُجِد فيهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا عَلِمنا قاتلاً.
فانطلقوا إِلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله انطلقْنا إِلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلاً، فقال: الكُبْرَ الكُبْر (4) فقال لهم: تأتون بالبيِّنة على مَن قتَله، قالوا: ما لنا
__________
(1) تقدّم أنّ الأصل في الوَسْق هو الحِمل، وأنّه ستّون صاعاً.
(2) أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2091).
(3) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 77).
(4) الكُبْر: بضم الكاف مصدر أو جمع الأكبر أو مفرد بمعنى الأكبر يقال هو =

(3/159)


بينة، قالوا: فيحلفون قالوا: لا نرضى بأيْمان اليهود، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُبطِل (1) دمه فوداه (2) مائة من إِبل الصدقة" (3).

صدقة الفطر (4)
صدقة الفطر: هي الزكاة التي تجب بالفطر من رمضان.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فَرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير؛ على العبد (5) والحرِّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين.
__________
= كُبرهم أي: أكبرهم، وفي بعضها الكبَر -بكسر الكاف وفتح الموحدة- أي كبر السن أي: قدم وا أكبركم سناً في الكلام، وقصَّته أن أخا المقتول عبد الرحمن هو أحدثهم، وهو كان يتكلم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يتكلم أكبركم، فتكلم ابنا عمه محيصة وحويصة مصغران بالمهملات وسكون التحتانية فيهما وقيل: بحركتها والتشديد.
فإِن قلت: كان الكلام حقّه لأنه كان هو الوارث؛ لا هما، قلت: أُمِر أن يتكلم الأكبر ليفهم صورة القضية، ثمّ بعد ذلك يتكلم المُدّعى أو معناه؛ ليكن الكبير وكيلا له الكرماني (24/ 25).
(1) أي: يهدر.
(2) أي: أعطى دِيَته.
(3) أخرجه البخاري: 6898
(4) قال الحافظ (3/ 367): "أُضيفت الصدقة للفطر، لكونها تجب بالفطر من رمضان".
(5) انظر العنوان الآتي.

(3/160)


وأَمَر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إِلى الصلاة" (1).

صدقة الفطر عن المملوك واجب على مالكه
عن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة؛ إِلا صدقة الفطر".
قال ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 82): "باب الدليل على أنّ صدقة الفطر عن المملوك واجب على مالكه، لا على المملوك؛ كما توهّم بعض الناس". وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وهذا يفسّر الحديث السابق: "فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحُرِّ ... ".

حكمتها:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طُهْرةً (2) للصائم، من اللغو (3) والرَّفَث (4)، وطُعْمةً للمساكين (5)، مَن أدّاها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة؛ فهي صدقة من
__________
(1) أخرجه البخاري: 1503، ومسلم: 984.
(2) أي: تطهيراً لنفس الصائم.
(3) ما لا ينعقد عليه القلب من القول. "عون" (5/ 3).
(4) الرَّفَث هنا الفُحْش من الكلام. "النهاية".
(5) طُعمةً للمساكين: هو الطعام الذي يؤكل، جاء في "العون": "فيه دليل أنّ الفطرة؛ تُصرف في المساكين دون غيرهم مِن مصارف الزكاة".

(3/161)


الصدقات" (1).

على من تجب؟
تجب على المسلم الحُرّ المالك لمقدار نصف صاعٍ من بُرٍّ أو صاع من التمر ونحوه؛ يزيد عن قوته وقوت عياله يوماً وليلة، وتجب عليه عن نفسه، وعمّن يجب الإِنفاق عليهم؛ كالزوجة والأبناء والخدم والمسلمين.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممّن تمونون (2) " (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في العبد صدقة إِلا صدقةُ (4) الفطر" (5).
جاء في "الروضة الندية" (1/ 519) -بتصرف-: "إِذا ملكَ زيادة على قوت يومه؛ أخرج الفطرة إِن بلغَ الزائد قدْرها، ويؤيّده تحريم السؤال على مَن ملك ما يغديه ويعشّيه ... " اهـ.
وقد ورد في هذا عدد من النصوص منها:
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1420)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1480)، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (843).
(2) مانه موناً: احتمل مؤنته [أي: القوت]، وقام بكفايته، فهو مَمون. "الوسيط".
(3) أخرجه الدارقطني ومِن طريقه البيهقي وحسنّه شيخنا في "الإرواء" (835).
(4) بالضمّ والفتح.
(5) أخرجه مسلم: 982، وهو عند الشيخين بلفظ: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وتقدّم.

(3/162)


"من سأل وعنده ما يُغنيه، فإِنّما يستكثر من النّار، فقالوا: يا رسول الله وما يُغنيه؟ قال: قدْر ما يغدّيه ويعشّيه (1).

قدْرها:
وقدْرها صاع من التمر والشعير ونحو ذلك ... ممّا يعدّ قوتاً.
والصاع: أربعة أمداد، والمدّ: حفنة الرجل باليدين، وسُمّي مدّاً؛ لأنَّ اليدين تُمدّان.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنّا نُخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقِط، أو صاعاً من زبيب" (2).
وأمّا من البُر؛ فنصف صاع، وهو قول أبي حنيفة، وقياس أحمد في بقيّة الكفّارات، وبه يقول شيخ الإِسلام (3) وشيخنا -رحم الله الجميع-.
عن عروة بن الزبير: "أنَّ أسماء بنت أبي بكر، كانت تُخرج على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أهلها -الحرّ منهم والمملوك- مُدّين من حنطة، أو صاعاً من تمر بالمدّ، أو بالصاع الذي يقتاتون به" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "صحيح الترغيب الترهيب" (796).
(2) أخرجه البخاري: 1506، ومسلم: 985.
(3) انظر "الاختيارات" (ص 102).
(4) أخرجه الطحاوي واللفظ له، وابن أبي شيبة، وأحمد، وسنده صحيح على شرط الشيخين؛ كما في "تمام المِنّة" (ص 387)؛ وراجِعه -إن شئت- للمزيد من الفوائد الحديثية والفقهية.

(3/163)


قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص387) -عقب أثر عروة ابن الزبير-: "فثبَت من ذلك أن الواجب في صدقة الفطر من القمح نصف صاع، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية كما في "الاختيارات" (ص 60)، وإليه مال ابن القيم ... وهو الحقّ إِن شاء الله تعالى".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل نصف الصاع يجزئ إِذا أخرجه الغنيّ والفقير.
فقال: "نعم".
وسألته أيضاً: الواجب في صدقة الفطر من القمح نصف صاع، فهل هذا خاص بالقمح؟ أم يمكن أن تقاس عليه أصناف أُخرى، قد تكون مِثله أو أعلى في السعر أو الجودة؟
فأجاب -رحمه الله-: هو كذلك.

الزيادة عن المنصوص عليه
تجوز الزيادة عن المنصوص عليه، لا خروجاً عن النص؛ ولكن تنفُّلاً وتطوُّعاً.
جاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 70): "سُئل -رحمه الله- عمّن عليه زكاة الفطر؛ ويعلم أنّها صاع ويزيد عليه، ويقول: هو نافلة، هل يكره؟
فأجاب: الحمد لله، نعم يجوز بلا كراهية عند أكثر العلماء؛ كالشافعي وأحمد وغيرهما، وإنما تنقل كراهيته عن مالك.
وأمّا النقص عن الواجب، فلا يجوز باتفاق العلماء".

(3/164)


هل يجوز إِخراج القيمة؟
لا يجوز إِخراج القيمة في زكاة الفِطر؛ لورود النّص في الطّعام.
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المُحلّى" (6/ 193) مسألة (708): " ... ولا تجزئ قيمة أصلاً".
وقال النووي -رحمه الله-: "ولم يُجز عامّة الفقهاء إِخراج القيمة، وأجازه أبو حنيفة" (1).
قلت: ولعلّ أصْل المبحث؛ فيما إِذا كانت صدقة الفطر؛ تجري مجرى صدقّة الأموال أو صدقة الأبدان؛ كالكفارات؟
والراجح أنها * تجري مجرى كفّارة اليمين، والظِّهار، والقتل، والجماع في رمضان، ومجرى كفّارة الحج، فإِنّ سببها هو البدن ليس هو المال، كما في السنن عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّه فرَض صدقة الفطرطُهرةً للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين، مَن أدّاها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات" (2).
ولهذا أوجَبَها الله طعاماً، كما أوجب الكفّارة طعاماً.
وعلى هذا القول؛ فلا يجزئ إِطعامها إِلا لمن يستحقّ الكفّارة، وهم الآخِذون لحاجة أنفسهم، فلا يعطى منها في المؤلفة، ولا الرقاب، ولا غير
__________
(1) "شرح النّووى" (7/ 60) وذكره الشيخ عبد العظيم -حفظه الله- في "الوجيز" (ص 224).
(2) تقدّم تخريجه.

(3/165)


ذلك، وهذا القول أقوى في الدليل * (1).

وقت إِخراجها
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بزكاة الفطر (2) قبل خروح الناس إِلى الصلاة" (3).
ولا بأس من تعجيلها للموكّل بتوزيعها قبل الفطر بيوم أو يومين.
فعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فرَض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر -أو قال: رمضان- على الذكر والأنثى والحرّ والمملوك؛ صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بُرّ.
فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعطي التمر، فأعْوز (4) أهل المدينة من التمر فأعطى شعيراً، فكان ابن عمر يعطي على الصغير والكبير؛ حتى إِنْ كان يعطي عن بنيَّ.
__________
(1) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (25/ 73).
(2) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 368): "واستُدِلّ به على أن وقت وجوبها غروب الشمس؛ ليلة الفطر لأنه وقت الفطر من رمضان، وقيل وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الليل ليس محلاًّ للصوم، وإنما يتبيّن الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر.
والأول قول الثوري وأحمد وإسحق والشافعي في الجديد، وإحدى الروايتين عن مالك.
والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم، والرواية الثانية عن مالك.
ويقوّيه قوله في حديث الباب: وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إِلى الصلاة".
(3) أخرجه البخاري: 1509، ومسلم: 986.
(4) أي: احتاج.

(3/166)


وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يُعطَون قبل الفطر بيوم أو يومين" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (3/ 335): "وروى الجملة الأخيرة منه الدارقطني (225) والبيهقي (4/ 175) من طريق الضحاك بن عثمّان عن نافع به بلفظ ... : "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر بإِخراج زكاة الفطر؛ أن تُؤدّى قبل خروج الناس إِلى الصلاة، وأنّ عبد الله بن عمر؛ كان يؤديها قبل ذلك بيوم أو يومين".
وروى مالك (1/ 285/55) عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إِلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: وهذا يُبيّن أنّ قوله في رواية البخاري: "للذين يقبلونها" ليس المراد به الفقراء، بل الجباة الذين ينصبهم الإِمام لجمع صدقة الفطر.
ويؤيد ذلك ما وقع في رواية ابن خزيمة؛ من طريق عبد الوارث عن أيوب: "قلت: متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إِذا قعد العامل، قلت: متى يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومين" انتهى.
ولا يجوز تأخيرها عن وقتها، فمن فَعل عُدَّت زكاته صدقة من الصدقات كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم: "فرَض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طُهرةً للصائم ... ومن أدّاها بعد الصلاة؛ فهي صدقة من الصدقات".
__________
(1) أخرجه البخاري: 1511.

(3/167)


مصرفها:
تُعطى صدقة الفطر للمساكين؛ كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم: " ... وطعمة للمساكين".
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 102): "ولا يجوز دفع زكاة الفطر إِلا لمن يستحقّ الكفّارة، وهو من يأخذ لحاجته، لا في الرقاب والمؤلفة قلوبهم، وغير ذلك" (1).
وقال شيخنا ردّاً على الشيخ السيد سابق -رحمهما الله- في قوله: "تُوزّع على الأصناف الثمانية المذكورة في آية {إِنّما الصدقات للفقراء ... } ".
"ليس في السُّنّة العملية ما يشهد لهذا التوزيع، بل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عبّاس: " ... وطُعمة للمساكين"؛ يفيد حصْرُها بالمساكين.
والآية إِنّما هي في صدقات الأموال؛ لا صدقة الفطر؛ بدليل ما قبلها، وهو قوله تعالى: {ومنهم من يَلمِزك في الصدقات فإنْ أُعطوا منها رَضُوا} (2).
وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وله في ذلك فتوى مفيدة (ج2/ص81 - 84) من "مجموع الفتاوى"، وبه قال الشوكاني في "السيل الجرّار" (2/ 86 - 87)، ولذلك قال ابن القيم في "الزاد": "وكان من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تخصيص المساكين بهذه الصدقة ... "" (3).
__________
(1) انظر "مجموع الفتاوى" (25/ 73)، وتقدّم غير بعيد.
(2) التوبة: 58.
(3) "تمام المِنّة" (ص 387).

(3/168)


عدم جواز إِعطائها للذمّي
لا يجوز إِعطاء صدقة الفطر للذمّي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم: "وطُعمةً للمساكين" فإِنّ الظاهر منه أنه أراد مساكين المسلمين؛ لا مساكين الأمم كلّها (1).
وقال شيخنا في الردّ على الشيخ السيد سابق -رحمهما الله- حين استدلّ على جواز ذلك بالآية: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتِلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسِطوا إِليهم إِنّ الله يحبّ المقسطين} (2).
لا يظهر في الآية دليل على الجواز؛ لأن الظاهر منها الإِحسان إليهم على وجه الصِّلة من الصدقات غير الواجبة، فقد روى أبو عبيد (رقم 1991) بسند صحيح عن ابن عبّاس قال: "كان ناس لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتَّقون أن يتصدّقوا عليهم، ويريدونهم على الإِسلام، فنزلت: {ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدي من يشاء وما تُنفِقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إِلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوفَّ إِليكم وأنتم لا تُظلَمون} (3) ". فهذه الآية مثل التي قبلها.
ثمّ روى بسند صحيح إِلى سعيد بن المسيّب: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصدّق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم".
__________
(1) قاله شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص389).
(2) الممتحنة: 8.
(3) البقرة: 272.

(3/169)


وروى عن الحسن -وهو البصري- قال: "ليس لأهل الذمّة في شيء من الواجب حقّ، ولكن إِنْ شاء الرجل تصدَّق عليهم من غير ذلك".
فهذا هو الذي ثبت في الشرع، وجرى عليه العمل من السلف، وأمّا إِعطاؤهم زكاة الفطر؛ فما علمنا أحداً من الصحابة فعَل ذلك، وفَهْم ذلك من الآية فيه بُعْد، بل هو تحميل للآية ما لا تتحمّل.
وما رواه أبو إِسحاق عن أبي ميسرة قال: "كانوا يجمعون إِليه صدقة الفطر؛ فيعطيها أو يعطي منها الرهبان".
رواه أبو عبيد (613/ 1996)، وابن زنجويه (1276). فهو مع كونه مقطوعاً موقوفاً على أبي ميسرة -واسمه عمرو بن شرحبيل- فلا يصحّ عنه؛ لأنّ أبا إِسحاق هو السبيعي مختلط مدلّس، وقد عنعنه".

في المال حقٌّ سوى الزكاة (1)
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أطعِموا الجائع وعودوا المريض وفكُّوا العاني (2) " (3).
__________
(1) أمّا حديث: "إِنَّ في المال حقّاً سوى الزكاة" فضعيف أخرجه الترمذي والدارمي وقال الترمذي: هذا حديث إِسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعّف ... ".
وانظر "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" برقم (103).
(2) قال في "النهاية": "العاني: الأسير، وكلّ من ذلّ واستكان وخضع فقد عنَا يعنو، وهو عانٍ، والمرأة عانية وجمعها: عوان".
(3) أخرجه البخاري: 5649.

(3/170)


وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن في سفرٍ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعَل يصرف بصَره (1) يميناً وشمالاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان معه فضْل ظهر (2) فليَعُد به (3) على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ مِن زاد؛ فليعُد به على من لا زاد له.
قال: فذكَر مِن أصناف المال ما ذَكَر، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحد منّا في فضل" (4).
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما-: "أنَّ أصحاب الصفّة كانوا أُناساً فقراء، وأنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإنْ أربع فخامس أو سادس، وأنَّ أبا بكر جاء بثلاثة فانطلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشرة" (5).
وقد لا تكفي الزكاة المفروضة؛ لإِطعام الجائع، وفكّ الأسير، ومداواة المريض، ونحو ذلك؛ ممّا لا يُستغنى عنه من الحاجات؛ فيجب في الأموال حقٌّ آخر سوى الزكاة؛ لسدّ الحاجة والقيام بما يلزم.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " ... في مالك حقّ سوى
__________
(1) أي: متعرّضاً لشيء يدفع به حاجته. "شرح النووي".
(2) من كان معه فضل ظهر: أي: زيادة عن حاجته؛ ممّا يُركب على ظهره من الدوابّ.
(3) أي: فليُعطِه.
(4) أخرجه مسلم: 1728.
(5) أخرجه البخاري: 602، ومسلم: 2057.

(3/171)


الزكاة" (1).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 224 - 229) -بتصرّف-: "وفرْض على الأغنياء من أهل كلّ بلد؛ أن يقوموا بفقرائهم، ويُجبرهم السلطان على ذلك؛ إِنْ لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمِثل ذلك، وبمسكن يُكنّهم (2) من المطر، والصيف والشمس وعيون المارة.
برهان ذلك: قول الله تعالى: {وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السَّبيل} (3).
وقال الله تعالى: {وبالوالدين إِحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجُنُب والصاحب بالجَنْب وابن السبيل وما ملَكَت أيْمانكم} (4).
فأوجب تعالى حقّ المساكين، وابن السبيل، وما ملكَت اليمين مع حق ذي القربى.
وافترض الإِحسان إِلى الأبوين، وذي القربى، والمساكين والجار، وما
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" تحت الحديث (873).
(2) أي: يحميهم ويردّ عنهم.
(3) الإِسراء: 26.
(4) النساء: 36.

(3/172)


ملكت اليمين، والإِحسان يقتضي كل ما ذكَرنا، ومنْعه إِساءة بلا شكّ.
وقال تعالى: {ما سلككُم في سقر * قالوا لم نَكُ من المصلّين * ولم نك نُطعِم المسكين} (1).
فقَرن الله تعالى إِطعام المسكين بوجوب الصلاة.
وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طُرُق كثيرة في غاية الصحّة؛ أنه قال: "من لا يرحم الناس لا يرحَمْه الله" (2).
ومن كان على فضلةٍ، ورأى المسلم أخاه جائعاً عريان ضائعاً فلم يُغِثه؛ فما رحِمه بلا شكّ".
ثمّ ذكر حديث عبد الرحمن بن أبي بكر المتقدّم في أصحاب الصّفّة: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ... ".
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلِمه ولا يُسلمه" (3).
قال أبو محمّد: من تركه يجوع ويعرى -وهو قادر على إِطعامه وكسوته- فقد أسلَمه!
ثمّ ذكَر حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم: "من كان معه فضل ظهر فليعُد به على من لا ظهر له ... ".
__________
(1) المدثر: 42 - 44.
(2) أخرجه البخاري: 2442، ومسلم: 2319.
(3) أخرجه البخاري: 2442، ومسلم: 2580.

(3/173)


ثمّ قال: وهذا إِجماع الصحابة -رضي الله عنهم- يخبر بذلك أبو سعيد وبكلّ ما في هذا الخبر نقول.
ثمّ ذكَر حديث أبي موسى المتقدّم: "أطعموا الجائع وفكُّوا العاني".
وقال: والنصوص من القرآن، والأحاديث الصحاح في هذا تكثُر جدّاً.
وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لأخذْت فضول أموال الأغنياء؛ فقسَمتها على فقراء المهاجرين.
وهذا إِسناد في غاية الصحة والجلالة.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "في مالكَ حقٌّ سوى الزكاة" (1).
فهذا إِجماع مقطوع به من الصحابة -رضي الله عنهم- لا مُخالِف لهم منهم.
وصحّ عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم، كلهم يقول: في المال حقٌّ سوى الزكاة.

صدقة التطوّع
يُستحبُّ الإِكثار من صدقة التطوّع، وفيها العديد من النصوص؛ من ذلك:
1 - قول الله تعالى: {مَثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثَل
__________
(1) تقدّم غير بعيد.

(3/174)


حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة والله يضاعِف لمن يشاء والله واسع عليم} (1).
2 - وقوله سبحانه: {لن تنالوا البِرّ حتى تُنفقوا مما تحبّون وما تُنفِقوا من شيء فإِنّ الله به عليم} (2).
3 - وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إِلا مَلَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهمَّ أعط مُنفِقاً خَلَفاً (3)، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكاً تَلَفاً (4) ".
4 - وحديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: كلّ امرئ في ظلِّ صدقته؛ حتى يقضى بين الناس.
قال يزيد: فكان أبو مَرثد لا يخطئه يوم إِلا تصدّق فيه بشيء، ولو كعكة أو بصلة" (5).

أوْلى الناس بالصدقة
أوْلى الناس بالصدقة أهل المتصدّق ثمّ قرابته.
__________
(1) البقرة: 261.
(2) آل عمران: 92.
(3) أي: عِوضاً.
(4) أخرجه البخاري" (1442). قال الحافظ في "الفتح" (3/ 305): "التعبير بالعطيّة في هذا للمشاكلة؛ لأنّ التلف ليس بعطية".
(5) أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (862).

(3/175)


عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإنْ فضَل شيء؛ فلأهلك، فإِنْ فضَل عن أهلك شيء؛ فلِذِي قرابتك، فإِنْ فضَل عن ذي قرابتك شيء؛ فهكذا وهكذا" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أمَر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصدقة فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي دينار قال: تصدَّق به على نفسك، قال: عندي آخر قال: تصدَّق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدَّق به على زوجتك، قال: عندي آخر، قال: تصدَّق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبْصَر" (2).
وفي رواية: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقَبة، ودينار تصدّقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمُها أجراً الذي أنفقتَه على أهلك" (3).
وعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: "أنَّ رجلاً سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصدقات أيها أفضل؟ قال: على ذي الرحِم الكاشح (4) " (5).
__________
(1) أخرجه مسلم: 997.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحسنه شيخنا في "الإرواء" (895).
(3) أخرجه مسلم: 995.
(4) الكاشح: "بالشين المعجمة: هو الذي يُضمر عداوته في كشْحه -وهو خصره- يعني: أنّ أفضل الصدقة على ذي الرحِم المُضمِر العداوة في باطنه"، وتقدّم.
(5) أخرجه أحمد والطبراني، وإسناده حسن، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (880) و"الإِرواء" (892)، وتقدّم.

(3/176)


وعن خيثمة قال: "كنّا جلوساً مع عبد الله بن عمرو إِذ جاءه قَهْرَمان (1) له، فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلِق فأعطهم.
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كفى بالمرء إِثماً أنْ يحبس عمّن يملك قوته" (2).

التحذير من التصدّق بالحرام
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيها الناس! إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلاَّ طيباً، وإِنّ الله أمَر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كُلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إِنِّي بما تعملون عليم} (3)، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} (4).
ثمّ ذكر الرجل يطيل السفر أشعث (5) أغبر (6) يمدّ يديه إِلى السماء يا ربّ! يا ربّ! ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وَغُذِيَ بالحرام فأنّى
__________
(1) قَهْرَمان: هو الخازن القائم بحوائج الإِنسان، وهو بمعنى الوكيل. "شرح النووي" (7/ 82).
(2) أخرجه مسلم: 996.
(3) المؤمنون: 51.
(4) البقرة: 172.
(5) أشعث: ثائر الشعر جعد الرأس. "فيض" ملتقطاً.
(6) الأغبر: أي: غيّر الغبار لونه لطول سفره؛ في طاعة، كحجٍّ وجهادٍ وزيارة رَحم وكثرة عبادة. "فيض".

(3/177)


يستجاب لذلك؟ " (1).
وتقدّم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تصدق بعَدل تمرة من كسب طيِّب -ولا يقبل الله إلاَّ الطيب- فإِنّ الله يتقبلّها بيمينه، ثمّ يربِّيها لصاحبه كما يربِّي أحدكم فَلُوَّه (2)، حتى تكون مثلَ الجبل".

هل تتصدّق المرأة من مال زوجها؟
للمرأة أن تتصدّق من بيت زوجها؛ إِن كان يرضى عن ذلك.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مُفسدةٍ؛ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازِن (3) مثلُ ذلكَ، لا ينقُصُ بعضهم أجرَ بعض شيئاً" (4).
بيّن الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (3/ 303): بأنّ هذا عن رضى الزوج بذلك في الغالب.
ثمّ قال: ويدلّ على ذلك ما رواه المصنف [أي: الإِمام البخاري -رحمه الله-] من حديث همام عن أبي هريرة بلفظ: "إِذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير
__________
(1) أخرجه مسلم: 1015
(2) تقدّم أن الفَلُوّ هو المُهر الصغير، وقيل: هو العظيم من أولاد ذات الحافر، وسمّي كذلك لأنه يُفلَى -أي: يُفطَم-.
(3) الخازن: خادم المالك في الخزن وإن لم يكن خادمه حقيقة.
(4) أخرجه البخاري: 1425، ومسلم: 1024.

(3/178)


أمره، فلها نصف أجره" (1).
وقال أيضاً -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 301): "والأوْلى: أن يُحمل على ما إِذا أنفقت مِن الذي يخصّها به إِذا تصدقت بغير استئذانه، فإِنه يصدق كونه من كسبه، فيؤجَر عليه، وكونه بغير أمره يحتمل أن يكون أَذِن لها بطريق الإِجمال، لكن المنفي ما كان بطريق التفصيل.
ولا بدّ من الحمل على أحد هذين المعنيين، وإِلا فحيث كان من ماله بغير إِذنه لا إِجمالاً ولا تفصيلاً، فهي مأزورة بذلك لا مأجورة".
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: "سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عام حَجّة الوِداع: "لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إِلا بإِذن زوجها.
قيل: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا" (2).
قال الصنعاني -رحمه الله- في "سُبل السلام" (4/ 78): -بعد أن ذكر حديث عائشة رضي الله عنها-: "فيه دليل على جواز تصدُّق المرأة من بيت زوجها.
والمراد إِنفاقها من الطعام الذي لها فيه تصرّف بصنعته للزوج ومن يتعلق به؛ بشرط أن يكون ذلك بغير إِضرار وأن لا يخلَّ بنفقتهم.
قال ابن العربي -رحمه الله-: قد اختلف السلف في ذلك؛ فمنهم من أجازه في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له ولا يظهر به النقصان، ومنهم مَن
__________
(1) أخرجه البخاري: 2066.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3044)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1721)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (931).

(3/179)


حمَله على ما إِذا أذن الزوج ولو بطريق الإِجمال- وهو اختيار البخاري.
ويدلّ له ما أخرجه الترمذي عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلاَّ بإِذن زوجها" ... [وذكر الحديث المتقدّم].
إلاَّ أنه قد عارضه ما أخرجه البخاري (1) من حديث أبي هريرة بلفظ: "إِذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره؛ فلها نصف أجره".
ولعلّه يقال في الجمع بينهما؛ إِنّ إِنفاقها مع إِذنه تستحقّ به الأجر كاملاً، ومع عدم الإذن نصف الأجر، وإِنّ النهي عن إِنفاقها من غير إِذنه؛ إِذا عرَفت منه الفقر أو البخل فلا يحلّ لها الإِنفاق إلاَّ بإِذنه؛ بخلاف ما إِذا عرَفت منه خلاف ذلك؛ جاز لها الإنفاق عن غير إِذنه ولها نصف الأجر ... ". وانظر "الفتح" (3/ 303).
وعن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا نبيّ الله ليس لي شيء؛ إلاَّ ما أدخَل عليّ الزبير (2) فهل عليّ جناح أنْ أرضَخَ ممّا يدخل عليَّ فقال: ارضخي (3) ما استطعتِ، ولا تُوْعِي فيُوعيَ الله عليك (4) " (5).
__________
(1) برقم: (2066).
(2) هو ابن العوّام وكان زوجها.
(3) معناه ممّا يرضى به الزبير؛ وتقديره: إِنّ لك في الرضخ مراتب مباحة، بعضها فوق بعض، وكلها يرضاها الزبير، فافعلي أعلاها. أو يكون معناه: ما استطعتِ ممّا هو ملَك لك.
(4) أي: "لا تجمعي وتشحّي بالنفقة، فيشحَّ عليك، وتُجازي بتضييِق رزقك". "النهاية". وانظر شرحه في كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد".
(5) أخرجه البخاري: 2590، ومسلم: 1029، واللفظ له.

(3/180)


قال النووي -رحمه الله- (7/ 119): "هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها؛ بسبب نفقةٍ وغيرها، أو ممّا هو ملك الزبير ولا يَكره الصدقة منه، بل رضي بها على عادة غالب الناس".

هل تتصدّق المرأة من مالها بدون إِذن زوجها؟
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يجوز لامرأةٍ عطيّة في مالها؛ إِلا بإِذن زوجها" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2/ 406): "وهذا الحديث ... يدلّ على أنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصرّف بمالها الخاص بها إِلا بإِذن زوجها، وذلك مِن تمام القِوامة التي جعلها ربنا -تبارك وتعالى- له عليها.
ولكن لا ينبغي للزوج -إِذا كان مسلماً صادقاً- أن يستغل هذا الحُكم؛ فيتجبر على زوجته، ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا ضير عليهما منه.
وما أشبه هذا الحقّ بحقّ وليّ البنت التي لا يجوز لها أن تزوّج نفسها بدون إِذن وليّها، فإِذا أعضَلها رفَعت الأمر إِلى القاضي الشرعي ليُنصفها.
وكذلك الحكم في مال المرأة إِذا جار عليها زوجها فمنَعها من التصرف المشروع في مالها؛ فالقاضي يُنصفها أيضاً؛ فلا إشكال على الحكم نفسه، وإنما الإِشكال في سوء التصرف به، فتأمّل".
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، وانظر "الصحيحة" (825).

(3/181)


الصدقة عن الميّت عن غير وصيّة مِن مال الميّت، وتكفير ذنوب الميّت بها (1)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أبي مات، وترَك مالاً، ولم يوص، فهل يُكفّر عنه إِن تصدّقتُ عنه؟ فقال: نعم" (2).

هل يتصدّق بكلّ ماله؟
قال الله تعالى: {ويُؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (3)} (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أصابني الجَهْد (5)، فأرسَل إِلى نسائه فلم يجد عندهنّ شيئاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا رجل يُضيِّفه الليلة يرحَمُه الله؟
فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إِلى أهله فقال لامرأته: ضَيْفُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تدَّخريه شيئاً. فقالت: والله ما عندي إِلا قوت الصبية.
قال: فإِذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم، وتعالَيْ فأطفئي السراج، ونطوي
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (4/ 123).
(2) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2498)، وقال شيخنا -رحمه الله- إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3) الخصاصة: الفاقة.
(4) الحشر: 9.
(5) أي: المشقة.

(3/182)


بطوننا الليلة ففعَلت.
ثمّ غدا الرجل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لقد عجب الله عز وجل -أو ضحك- من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل: {ويُؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} " (1).
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً أن نتصدّق، فوافَق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر -إِنْ سبقته يوماً- فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيتَ لأهلك؟ قلت: مِثله.
قال: وأتى أبو بكر بكلّ ما عنده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيتَ لأهلك؟
قال: أبقيت لهم الله ورسوله.
قلت: لا أسابِقُك إِلى شيء أبداً" (2).
فمن كان في قوةٍ منيعة من التوكلّ على الله بحيث لا يندم؛ فليفعل وليتصدّق بكلّ ماله.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن حديث أبي بكر -رضي الله عنه- فقال: "هذه مسألة دقيقة؛ تُشبه الحالة الآتية:
وهي أن يأمر الوالد ولده أن يُطلّق زوجه، فهل يفعل تأسّياً بقصّة عمر مع
__________
(1) أخرجه البخاري: 4889، ومسلم: 2054.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1472)، وغيره، وانظر "المشكاة" (6021)، و"مختصر البخاري" (1/ 336).

(3/183)


ولده -رضي الله عنهما-.
فأقول: نعم؛ إِذا كان الوالد كعمر؛ يطلّق، وإلاَّ فلا، ومن كان كأبي بكر في قوّة الإِيمان، وكان كذلك أهله بقوة إِيمان أهل أبي بكر -رضي الله عنهم- جاز التصدّق بكل المال، فهل يمكن تحقُّقه؟ فهذا خاصٌ بالصدّيق -رضي الله عنه- فقط".
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "إِنّك إِنْ تذَرَ ورثتك أغنياء؛ خيرٌ من أن تذَرهم عالةً؛ يتكفّفون الناس، وإِنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إِلا أُجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" (1).
وقال الإِمام البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" (2): "لا صدقة إِلا عن ظهر غنى (3)، ومن تَصدَّق وهو محتاج، أو أهله محتاج، أو عليه دين؛ فالدين أحقُّ أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رَدٌّ عليه، ليس له أن يُتلف أموال الناس، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أخَذ أموال الناس يريد إِتلافها أتلَفه الله (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 2742، ومسلم: 1628.
(2) انظر (24 - كتاب الزكاة- 18 - باب).
(3) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" أخرجه البخاري: 1426 من حديث أبي هريرة، وفي مسلم: (1034) من حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: "أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى ... وابدأ بمن تعول".
(4) وصله البخاري -رحمه الله- برقم (2387) بلفظ: "مَن أخذ أموال الناس يريد أداءَها أدى الله عنه، ومن أخَذ يريد إِتلافها أتلَفه الله".

(3/184)


إِلا أن يكون معروفاً بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كفِعل أبي بكر -رضي الله عنه- حين تصدّق بماله (1).
وكذلِك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إِضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلّة الصدقة. وقال كعب -رضي الله عنه-: "قلت: يا رسول الله، إِنّ من توبتي أن أنخلع من مالي (2) صدقة إِلى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: أمسِك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قلت: فإِنّي أُمسك سهمي الذي بخيبر" (3).
وقال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (4/ 99): (باب صدقةالمُقلّ إِذا أبقى لنفسه قدْر حاجته).
ثمّ ذكَر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبقَ درهم مائة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟
قال: رجل له مال كثير أخذ من عُرضه (4) مائة ألف درهم، تصدَّق بها؛ ورجل ليس له إِلا درهمان فأخَذ أحدهما فتصدّق به" (5).
__________
(1) وهو الذي ذكرْته في هذا الباب.
(2) أي: أخرج من جميع مالي. "فتح".
(3) وقد وصله البخاري -رحمه الله- برقم (4418)، وأخرجه مسلم: 2769.
(4) العُرض: الجانب والناصية من كل شيء.
(5) أخرجه النسائي وابن خزيمة في "صحيحه" (2443) وابن حبان وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في تخريج أحاديث مشكلة الفقر برقم (119).

(3/185)


الصدقة على الحيوان
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "بينا رجل يمشي؛ فاشتدّ عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثمّ خرج فإِذا هو بكلب يلهث؛ يأكل الثرى (1) من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي.
فملأ خفّه ثمّ أمسَكه بفيه ثمّ رَقِيَ (2) فسقى الكلب، فشكر اللهُ له فغفَر له.
قالوا: يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كلّ كبِد رطبةٍ أجر" (3).
وعنه أيضاً قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بينما كلب يُطيف (4) بركيّة (5) كاد يقتله العطش، إِذ رأته بغيٌّ (6) من بغايا بني إِسرائيل، فنزعت مُوقَها (7) فسقته، فغُفِر لها به" (8).
__________
(1) أي: التراب النّديّ.
(2) أي: صعد.
(3) أخرجه البخاري: 2363، ومسلم: 2244.
(4) أي: يديم المرور حوله.
(5) قال الحافظ في "الفتح" (6/ 516): بركية: البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها: جُبّ وقليب، ولا يقال لها بئر حتى تُطوى، وقيل: الركي البئر قبل أن تطوى فإِذا طويت فهي الطوى.
(6) هي: الزانية.
(7) هو الخفّ وقيل: ما يُلبس فوق الخُفّ. "فتح".
(8) أخرجه البخاري: 3467، ومسلم: 2245.

(3/186)


وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من رحم ولو ذبيحة عُصفور؛ رحمه الله يوم القيامة" (1).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير أو إِنسان أو بهيمة؛ إِلا كان له به صدقة" (2).

الصدقة الجارية
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا مات الإِنسان انقطع عنه عمله إِلا من ثلاثة: إِلا من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" (3).

الصدقة في رمضان
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل.
وكان جبريل -عليه السلام- يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه
__________
(1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد". وغيره، وانظر "الصحيحة" (27).
(2) أخرجه البخاري: 2320، ومسلم: 1552، وتقدّم.
(3) أخرجه مسلم: 1621.

(3/187)


القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المُرسَلة (1) " (2).

الصدقة في أيام العشر من ذي الحجّة
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من أيّام العمل الصالح فيها أحبُّ إِلى الله من هذه الأيام -يعني أيّام العشر- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟
قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إِلا رجل خرج بنفسه وماله؛ فلم يرجِع من ذلك بشيء" (3).
__________
(1) أي: المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود؛ أسرع من الريح، وعبّر بالمُرسَلة؛ إِشارة إِلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده؛ كما تعمّ الريح المرسَلة جميع ما تهبّ عليه. "فتح" (1/ 31).
(2) أخرجه البخاري: 3554، ومسلم: 2308.
(3) أخرجه البخاري: 969، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2130) وغيرهما، وتقدّم.

(3/188)