الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة كتاب الصيام
(3/189)
الصيام
الصيام: في اللغة: هو الكفّ والإِمساك؛ كما في قوله تعالى: {إِنّي نذَرْت
للرحمن صوماً} (1)، أي: صمتاً.
وفي الشرع: الإِمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنيّة خالصة لله -عزّ
وجلّ- في جميع النهار؛ لقوله تعالى: {ثمَّ أتِمّوا الصيام إِلى الليل} (2).
[البقرة: 187].
فضله:
1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعْت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قال الله -عزّ وجلّ- كلّ عمل ابن آدم له إلاَّ
الصيام، هو لي (3) وأنا أجزي به. فوالذي نفس محمّد بيده لَخُلْفَةُ (4) فم
الصائم أطيب عند الله من ريح المِسك" (5).
__________
(1) مريم: 26.
(2) حلية الفقهاء: (ص 99) بتصرف.
(3) فيه أقوال أرجحها: ... لأنّ الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة
والحج والغزو والصدقة، وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم
ونفسه فيه حظّ. وانظر "شرح النووي" (8/ 31)، و"الفتح" (4/ 107).
(4) لخُلفة: وفي رواية: لخُلوف هو بضم الخاء فيهما وهو تغير رائحة الفم.
"شرح النووي" (8/ 31).
(5) أخرجه مسلم: 1151.
(3/191)
وفي رواية: " .. إِنّ للصائم فرحتين إِذا
أفطر فَرِح، وإذا لقي الله فَرِح" (1).
وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره،
يُكَفِّرها الصيام والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (2).
2 - وعنه أيضاً أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"الصيام جُنَّة (3)، فلا يرفُث (4) ولا يجهل (5)، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه
فليقل: إني صائم -مرتين-.
والذي نفسي بيده لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه
وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعَشْر أمثالها"
(6).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1151.
(2) أخرجه البخاري: 1895، ومسلم: 144، (كتاب الفتن وأشراط الساعة) "باب في
الفتنة التي تموج كموْج البحر" (4/ 2218) وهذا لفظه.
(3) جُنَّة: أي: يقي صاحبه ما يُؤذيه من الشهوات، والجُنَّة الوقاية.
"النهايهّ". وقال في "الفتح" (4/ 104): والجُنّة -بضم الجيم- الوقاية
والسَّتر، وقد تبيَّن بهذه الروايات متعلق هذا السَّتر وأنّه من النار،
وبهذا جزم ابن عبد البرّ.
(4) يرفث: -بالضم والكسر- الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجماع
وعلى مقدماته، وعلى ذِكره مع النساء أو مطلقاً، ويُحتمل أن يكون لما هو
أعمّ منها.
(5) قال الحافظ -رحمه الله-: "ولا يجهل: أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل
الجهل؛ كالصّياح والسّفه ونحو ذلك. قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير يوم
الصوم يباح فيه ما ذُكِر، وإنّما المراد أنّ المنع من ذلك يتأكد بالصوم".
(6) أخرجه البخاري: 1894، ومسلم: 1151.
(3/192)
3 - عن سهل بن سعد عن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ في الجنّة باباً يُقال له
الرَّيَّان (1)، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخُل منه أحد غيرهم،
يقال: أين الصائمون؛ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإِذا دخلوا أُغْلِق،
فلم يدخل منه أحد" (2).
4 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من صام يوماً في سبيل الله بَعّدَ الله وجهه
عن النار سبعين خريفاً" (3).
5 - وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من صام يوماً في سبيل الله؛ جعَل الله بينه وبين النار
خندقاً؛ كما بين السماء والأرض" (4).
6 - وعنه -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "عليك بالهجرة فإِنه لا مِثل لها، عليك بالصوم فإِنه لا
مِثل له، عليك بالسجود فإِنك لا تسجد لله
__________
(1) قال الحافظ -رحمه الله-: "الرّيان: وزن فَعْلان من الرَيّ: اسم عَلم
على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو ممّا وقَعت المناسبة
فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتَقّ من الرَيّ، وهو مناسبٌ لحال الصائمين ...
قال القرطبي: اكتفى بذِكر الرَيّ عن الشّبع لأنه يدل عليه من حيث أنه
يستلزمه، قلت [أي: الحافظ]: أو لكونه أشقّ على الصائم من الجوع". اهـ. وقال
الكرماني -رحمه الله-: "هذا الاسم في مقابل العطشان، فروعي المناسبة بين
العمل وجزائه".
(2) أخرجه البخاري: 1896، ومسلم: 1152.
(3) أخرجه البخاري: 2840، ومسلم: 1153.
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1325)، وغيره، وخرّجه شيخنا - رحمه
الله- في "الصحيحة" (563).
(3/193)
سجدة إِلا رفَعك الله بها درجة، وحطّ عنك
بها خطيئة" (1).
7 - عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة.
يقول الصيام: أي ربّ: منعتُه الطعام والشّهوة، فشفِّعني فيه، ويقول القرآن:
منعْته النوم بالليل، فشفِّعني فيه، قال: فيُشفَّعان (2) " (3).
منزلة الصّائم الصابر
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنّه قال: "الطاعمُ
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2100) وخرّجه شيخنا -رحمه الله
تعالى- في "الصحيحة" (1937).
(2) قال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 483): "أي:
يُشفّعهما الله فيه ويدخله الجنة، فال المناوي -رحمه الله-: "وهذا القول
يحتمل أنه حقيقة؛ بأن يجد ثوابهما ويخلق الله فيه النطق {والله على كل شيء
قدير}، ويُحتمل أنه على ضربٍ من المجاز والتمثيل".
قلت -أي: شيخنا رحمه الله-: والأول هو الصواب الذي ينبغي الجزم به هنا، وفي
أمثاله من الأحاديث التي فيها تجسيد الأعمال ونحوها؛ كمثل تجسيد الكنز
شجاعاً أقرع، ونحوه كثير، وتأويل مِثل هذه النصوص ليس من طريقة السلف -رضي
الله عنهم- بل هو طريقة المعتزلة ومن سَلَك سبيلهم من الخلف، ودلك مما
يُنافي أوّل شروط الإِيمان {الذين يؤمنون بالغيب} فحذار أن تَحْذُو حذوهم،
فتضلّ وتشقى، والعياذ بالله تعالى".
(3) أخرجه أحمد والطبراني في "الكبير" وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب
والترهيب" (969)، وانظر "تمام المِنّة" (ص 394).
(3/194)
الشّاكرُ؛ بمنزلةِ الصائم الصابر" (1).
أقسامه:
الصوم قسمان: فرض ونفل:
أولاً: صوم الفرض، وهو ثلاثة أقسام:
1 - صوم رمضان.
2 - صوم الكفّارات.
3 - صوم النَّذر.
ثانياً: صوم التطوُّع.
صوم رمضان
حُكمه:
يجب صيام رمضان إِذ هو رُكن من أركان الدين.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصّيَام كما كُتب على
الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} (2).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإِسلام
__________
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1427) وغيرهما، وانظر
"الصحيحة" (655).
(2) البقرة: 183.
(3/195)
على خمس: شهادة أن لا إِله إِلا الله وأنّ
محمّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإِيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان"
(1).
وعن طلحة بن عبيد الله "أنَّ أعرابياً جاء إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثائر الرأس فقال: يا رسول الله! أخبِرني ماذا فرَض
الله عليَّ من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس إِلا أنْ تطوّع شيئاً.
فقال: أخبرني ما فرَض الله عليّ من الصيام؟ فقال: شهر رمضان إِلا أن تطوّع
شيئاً.
فقال: أخبرني بما فرَض الله عليَّ من الزّكاة؟ فقال: فأخبَره رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرائع الإِسلام.
قال: والذي أكرمك؛ لا أتطوَّع شيئاً، ولا أَنْقُصُ ممّا فرَض الله عليَّ
شيئاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إِن
صدق -أو دخل الجنة إِن صدق-" (2).
فضل شهر رمضان
1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان إِيماناً واحتساباً (3)، غُفر له ما
تقدّم من ذنبه" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 8، ومسلم: 16.
(2) أخرجه البخاري: 1891، ومسلم: 11.
(3) أي: طلَباً لوجه الله وثوابه، فالاحتساب من الحَسَب، وإنّما قيل لمن
ينوي بعمله وجه الله احتَسبه؛ لأن له حينئذ؛ أن يعتد عمله، والحِسبة من
الاحتساب. "النهاية".
(4) أخرجه البخاري: 1901، ومسلم: 760.
(3/196)
2 - وعن عمرو بن مرَّة الجهَنيّ -رضي الله
عنه- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فقال: يا رسول الله أرأيت إِن شهدْتُ أن لا إِله إِلا الله، وأنّك رسول
الله، وصلّيتُ الصلوات الخمس، وأدّيتُ الزكاة، وصمت رمضان، فممّن أنا؟ قال:
من الصدِّيقين والشُّهداء" (1).
3 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم رمضان شهرٌ مبارَك، فرض الله -عزّ وجلّ-
عليكم صيامه، تُفْتَح فيه أبواب السَّماء، وتُغلَقُ فيها أبواب الجحيم
وتُغَلُّ (2) فيه مردَةُ (3) الشياطين (4)، لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر،
من حُرم خيرها فقد حُرِم" (5).
4 - وعن عرفجة قال: عُدنا عتبة بن فرقد: فتذاكَرنا شهر رمضان، فقال: ما
تذْكرون؟ قلنا: شهر رمضان.
قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "تُفتَح
فيه أبواب الجنَّة، وتُغلَق فيه أبواب النار، وتُغَلُّ فيه الشياطين،
وينادي منادٍ كلَّ ليلة: يا باغي الخير (6)
__________
(1) أخرجه البزار وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" واللفظ لابن حبان،
وصحّحه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (989).
(2) تُغَلّ: من الإِغلال، وهو وضْع الغُلّ أو الطوق في يده أو عُنقه.
(3) مرَدة: جمع المارد وهو العاتي الشديد، وانظر "النهاية".
(4) قال في "المرقاة" (4/ 451): "يُفهم من هذا الحديث أن المقيَّدين هم
المَردة فقط".
(5) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1992)، وانظر "صحيح الترغيب
والترهيب" (985)، و"المشكاة" (1962) و"تمام المنّة" (395).
(6) أي: يا طالب.
(3/197)
هَلُمَّ، ويا باغيَ الشّرّ أقْصِر (1) "
(2).
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 188): "باب ذِكر البيان أنّ
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّما أراد بقوله:
"وصُفِّدت الشياطين" مرَدة الجِنّ منهم؛ لا جميع الشياطين، إِذ اسم
الشياطين قد يقع على بعضهم، وذَكَر دعاء الملَك في رمضان إِلى الخيرات،
والتقصير عن السيِّئات، مع الدليل على أنّ أبواب الجنان إِذا فُتحت لم يغلق
منها باب، ولا يُفتَح باب من أبواب النيران إِذا أُغلقت في شهر رمضان.
ثمّ روى إِسناده إِلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذا كان أوَّل ليلة من رمضان،
صُفِّدت الشياطين مرَدة الجِنّ، وغُلِّقت أبواب النار، فلم يُفتَح منها
باب، وفتِّحت أبواب الجنان فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ يا باغيَ
الخير أقبل، ويا باغيَ الشَّرِّ أقْصِر، ولله عُتَقاء من النار" (3).
5 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الصلوات الخمس والجُمُعة إِلى الجُمُعة ورمضان إِلى
رمضان، مكفِّرات ما بينهن، إِذا اجتُنبت الكبائر" (4).
__________
(1) أي: أمسِك.
(2) أخرجه أحمد والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1993)، وغيرهما.
(3) قال شيخنا -رحمه الله- (1883): إِسناده حسن، للخلاف في أبي بكر بن
عيَّاش من قِبَل حِفْظِه.
(4) أخرجه مسلم: 233، ولشيخنا -رحمه الله- كلام طيِّب في هذا الحديث فانظره
-إِن شئت- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 212) تحت رقم (348)، وانظر
للمزيد من الأحاديث "صحيح الترغيب والترهيب" (صيام رمضان احتساباً ... ).
(3/198)
الترهيب مِن الفِطْر في رمضان
عن أبي أُمامَة الباهليِّ -رضي الله عنه- قال: سمِعتُ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "بينا أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا
بضَبْعَيَّ (1) فأتيا بي جَبَلاً وعراً، فقالا: اصعد. فقلت: إِني لا
أُطِيقه. فقال: إِنّا سنسهِّلُه لك.
فصعدت، حتى إِذا كنتُ في سواء الجبل إِذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه
الأصوات؟ قالوا: هذا عُواء أهل النار.
ثمّ انطلق بي، فإِذا أنا بقوم معلَّقين بعراقيبهم (2)، مشقَّقة أشداقهم
(3)، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: مَنْ هؤلاء؟ قال: الذين يُفطرون قبل
تحلَّة صومِهم (4)." (5) الحديث.
بمَ يثبُت الشهر؟
يثبت شهر رمضان برؤية الهلال من واحد عَدْل، أو بإِكمال عدّة شعبان ثلاثين
يوماً.
__________
(1) ضبْعيّ: مثنى ضبْع -بسكون الباء- وسط العضد وقيل: هو ما تحت الإِبْط،
وانظر " النهاية".
(2) العراقيب: مفردها العُرقوب: وهو الوَتَر خلفَ الكعبين بين مَفْصِل
القدم والساق. وانظر "النهاية".
(3) الأشداق: جوانب الفم.
(4) أي: يفُطرون قبل وقت الإِفطار، والتاء في التحلَّة زائدة.
(5) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" وغيرهما وصححه شيخنا -رحمه
الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (991).
(3/199)
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "تراءى
(1) الناس الهلال فأخبرْتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنِّي رأيته، فصام وأمَر الناس بصيامه" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "صوموا لرؤيته (3)، وأَفطِروا لرؤيته (4) فإِن غُبّي (5)
عليكم فأكملوا عِدَّة شعبان ثلاثين" (6).
وقد ورد في بعض النصوص الأمر بصيام رمضان برؤية شاهدين؛ لحديث عبد الرحمن
بن زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "ألا إِني جالَسْت أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وساءَلتُهم، وإنهم حدّثوني أنّ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا
لرؤيته، وانسكوا (7) لها، فإِنْ غمّ عليكم فأكمِلوا
__________
(1) تراءى: أي: تكلّفوا النظر إِليه هل يرونه أم لا، وانظر "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2052)، وغيره، وصححه شيخنا - رحمه
الله- في "الإرواء" (908).
(3) أي: لرؤية البعض ولو واحد.
(4) أي: لرؤية البعض وأقلّهم اثنان.
(5) غُبِّي: من الغباوة وهو عدم الفِطنة، يقال: غبِي عليّ بالكسر: إِذا لم
يعرفه، ومن التغبية، قاله الكرماني، وفي "النهاية": غَبي [بالتخفيف: أي:
خفي ورواه بعضهم غُبّي - بضمّ الغين وتشديد الباء المكسورة- لما لم يسمّ
فاعله من الغباء: يشبه الغبَرة في السماء".
اهـ. وفي بعض الروايات في "الصحيحين": "غُمّي"، وعند مسلم: (1081):
"وأُغمي".
(6) أخرجه البخاري: 1909، ومسلم: 1081.
(7) قال السّندي -رحمه الله- في حاشيته على "النسائي" (4/ 133): "المراد:
الحج، أي: الأضحية".
(3/200)
ثلاثين، فإِن شهد شاهدان فصوموا وأفطِروا"
(1).
وعن حسين بن الحارث الجدلي -من جديلة قيس-: أنّ أمير مكّة خطب، ثمّ قال:
عَهِدَ إِلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن
نَنْسُكَ للرؤية، فإِنْ لم نره، وشهد شاهدَا عَدْل نسَكْنا بشهادتهما.
فسألت (2) الحسين بن الحارث: مَن أمير مكّة؟ قال: لا أدري، ثمّ لقِيَني
بعدُ فقال: هو الحارث بن حاطب، أخو محمّد بن حاطب.
ثمّ قال الأمير: إِنّ فيكم من هو أعلم بالله ورسوله منِّي، وشهد هذا من
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأومأ بيده إِلى الرجل.
قال الحسين: فقلت لشيخ إِلى جنبي: من هذا الذي أومأ إِليه الأمير؟ قال: هذا
عبد الله بن عمر، وصدَق، كان أعلم بالله منه، فقال (3): بذلك أَمَرَنا رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (4).
وجاء في "تحفة الأحوذي" (3/ 373): "وقال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- بعد
حديث كريب (5): "والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، قالوا: تُقبَل
شهادة رجل واحد في الصِّيَام، وبه يقول ابن المبارك
__________
(1) أخرجه أحمد والنسائي والسياق له، وغيرهما، وقال شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (909): "وهذا سند صحيح رجاله ثقات كلهم".
(2) السائل: هو أبو مالك الأشجعي الراوي عن حسين بن الحارث الجدلي.
(3) القائل: عبد الله بن عمر.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2050) وغيره.
(5) سيأتي بعد قليل إِن شاء الله -تعالى- وهو يفيد قبول شهادة رجل واحد في
الصيام.
(3/201)
والشافعي وأحمد.
وقال إِسحاق: لا يصام إِلا بشهادة رجلين، ولم يختلف أهل العلم في الإِفطار؛
أنّه لا يُقبل فيه إِلا شهادة رجلين.
وأجاب من قال بقَبول شهادة رجل في الصيام عن هذين الحديثين: بأن التصريح
بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديث ابن عبّاس
وحديث ابن عمر المذكورين؛ يدلاّن على قَبوله بالمنطوق ودلالة المنطوق
أرجح".
فائدة:
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 132): "فإِناّ نعلم
بالإِضطرار من دين الإِسلام؛ أنَّ العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو
العِدَّة أو الإِيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب؛
أنَّه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه.
ولا يُعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث: إِلا أنّ بعض المتأخّرين من
المتفقّهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنّه إِذا غُمّ الهلال جاز
للحاسب أن يعمل في حقّ نفسه بالحساب، فإِن كان الحساب دلّ على الرؤية صام
وإلا فلا.
وهذا القول وإنْ كان مقيَّداً بالإِغمام ومختصّاً بالحاسب فهو شاذّ، مسبوق
بالإِجماع على خلافه، فأمَّا اتباع ذلك في الصَّحو، أو تعليق عموم الحكم
العام به؛ فما قاله مسلم".
(3/202)
إِذا رأى الهلالَ أهلُ بلد هل يلزم سائر
البلاد الموافقة؟
اختلف العلماء على مذاهب؛ فيما إِذا رأى الهلالَ أهلُ بلد، هل هذا خاصٌّ
بأهل البلد الذين رأوه؟ أم هو عامّ لجميع البلاد؟ وقد ذكَرها النووي -رحمه
الله- في "المجموع" (6/ 273) والحافظ في "الفتح" (4/ 123) وغيرهما.
وجاء في "نيل الأوطار" (4/ 267): "وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب؛ ذكَرها
صاحب "الفتح":
أحدها: أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا يلزمهم رؤية غيرهم.
حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن محمّد وسالم وإِسحاق، وحكاه الترمذي
عن أهل العلم ولم يحْكِ سِواه، وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية.
وثانيها: أنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم؛ إِلا أن يثبت ذلك عند الإِمام
الأعظم، فيلزم الناس كلهم، لأنَّ البلاد في حقِّه كالبلد الواحد، إِذ حُكمه
نافذ في الجميع، قاله ابن الماجشون.
وثالثها: أنَّها إِنْ تقاربت البلاد؛ كان الحُكم واحد، وإِنْ تباعدت
فوجهان؛ لا يجب عند الأكثر.
قاله بعض الشافعية واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن
الشافعي.
وفي ضبط البعيد أوجه:
أحدها: اختلاف المطالع؛ قطع به العراقيون والصيدلاني، وصحّحه
(3/203)
النووي في "الرّوضة" و"شرح المهذَّب".
وثانيها: مسافة القصر، قطع به البغوي وصحّحه الرافعي والنووي.
ثالثها: باختلاف الأقاليم حكاه في "الفتح".
رابعها: أنه يلزم أهل كلّ بلد؛ لا يتصور خفاؤه عنهم، بلا عارض دون غيرهم،
حكاه السرخسي.
خامسها: مِثل قول ابن الماجشون المتقدّم.
سادسها: أَنّه لا يلزم إِذا اختلفت الجهتان ارتفاعاً وانحداراً؛ كأن يكون
أحدهما سهلا والآخر جبلاً، أو كان كل بلد في إِقليم، حكاه المهدي في البحر؛
عن الإِمام يحيى والهادوية.
وحُجّة أهل هذه الأقوال؛ حديث كريب (1). ووجه الاحتجاج به أنَّ ابن عبّاس
لم يعمل برؤية أهل الشام.
وقال في آخر الحديث: "هكذا أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -"، فدل ذلك على أنَّه قد حفظ من رسول الله- صلى الله عليه وآله
وسلم- أنه لا يلزم أهل بلدٍ العمل برُؤية أهل بلد آخر".
وقد تقدّم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته
وأفطرِوا لرؤيته".
فهذا خطاب لجميع الأمّة، فكما أنَّ رؤية الواحد كالرؤية لأهل البلد؛ كانت
الرؤية في البلد؛ كالرؤية في كلّ البلاد.
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 107):
__________
(1) انظر ما فصّله الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 123).
(3/204)
" ... فالضابط أنَّ مدار هذا الأمر على
البلوغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته" فمن
بلغه أنه رؤي؛ ثبت في حقّه؛ من غير تحديدٍ بمسافة أصلاً ... ".
وقال -رحمه الله- (ص 111): " ... ومن حدّد ذلك بمسافة قصر أو إِقليم؛ فقوله
مخالفٌ للعقل والشرع".
وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 537): "وإذا رآه أهل بلدٍ؛ لزم سائر البلاد
الموافقة، وجْهُهُ الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته والإِفطار لرؤيته، وهي
خطاب لجميع الأمّة، فمن رآه منهم في أيّ مكان كان ذلك رؤيةً لجميعهم".
وقد استدلّ من رأى أنَّ لأهل كل بلد رؤيتهم، وأنّه لا يلزمهم رؤية غيرهم؛
بحديث كُريب "أنَّ أمّ الفضل بنت الحارث بعَثته إِلى معاوية بالشام.
قال: فقدِمتُ الشام، فقضيتُ حاجتها واسْتُهِلَّ (1) عليَّ رمضان وأنا
بالشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثمّ قدِمتُ المدينة في آخر الشهر،
فسألني عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما- ثمّ ذكَر الهلال فقال: رأيتم
الهلال؟
فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا
وصام معاوية.
فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه.
__________
(1) أي: ظهر عليّ هلال رمضان.
(3/205)
فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟
فقال: لا؛ هكذا أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وشك يحيى بن يحيى في: نكتفي أو تكتفي" (1).
جاء في "الشرح الكبير" لشمسِ الدين بن قدامة (3/ 8): " ... فأما حديث كريب؛
فإِنما دل على أنّهم لا يفطرون بقول كريب وحده -ونحن نقول به- وإنما محلّ
الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هو في الحديث".
وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 537): "وأمَّا استدلال من استدل بحديث كريب
... أنّه استهلَّ عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم
المدينة فأخبر بذلك ابن عبّاس فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال
نصوم حتى نُكْمِل ثلاثين أو نراه.
ثمّ قال: هكذا أمَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ...
فغير صحيح (2)، لأنه لم يُصرّح ابن عبّاس بأنّ النّبيّ- صلى الله تعالى
عليه وسلم- أمَرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن
عبّاس أنه أمرهم بإِكمال الثلاثين أو يروه، ظنّاً منه أنّ المراد بالرؤية
رؤية أهل المحلّ.
وهذا خطأ في الاستدلال؛ أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفرّقوا في ذلك على
ثمانية مذاهب.
وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سمّاها "إِطلاع أرباب الكمال على
ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال".
__________
(1) أخرجه مسلم: 1087.
(2) أي: في الاستدلال به لا في الحُكم على صحّة الحديث.
(3/206)
قال في "المسوى": "لا خلاف في أنّ رؤية بعض
أهل البلد موجبة على الباقين، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر.
والأقوى عند الشافعي؛ يلزم حُكم البلد القريب دون البعيد، وعند أبي حنيفة
يلزم مطلقاً".
وجاء في "نيل الأوطار" (4/ 267): "واعلم أن الحجَّة إِنِّما هي في المرفوع
من رواية ابن عبّاس؛ لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إِليه بقوله
هكذا أمَرنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -هو قوله: "فلا نزال نصوم
حتى نكمل ثلاثين، والأمر الكائن من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هو
ما أخرَجه الشيخان وغيرهما بلفظ: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا
حتى تروه فإِن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
وهذا لا يختص بأهل ناحية؛ على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكلّ من يصلح له من
المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر
من الاستدلال به على عدم اللزوم، لأنّه إِذا رآه أهل بلد؛ فقد رآه
المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزِمهم.
ولو سلم توجُّه الإِشارة في كلام ابن عبّاس إِلى عدم لزوم رؤية أهل بلد
لأهل بلد آخر؛ لكان عدم اللزوم مقيّداً بدليل العقل، وهو أن يكون بين
القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع.
وعدم عمل ابن عبّاس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف؛
عملٌ بالاجتهاد وليس بحُجّة ... ".
وقال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 398): " ... إِنّ
(3/207)
حديث ابن عبّاس ورَد فيمن صام على رؤية
بلده، ثمّ بلَغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم،
ففي هذه الحالة؛ يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين، أو يروا
هلالهم، وبذلك يزول الإِشكال.
ويبقى حديث أبي هريرة وغيره على عمومه؛ يشمل كل من بلَغه رؤية الهلال من أي
بلد أو إِقليم؛ من غير تحديد مسافة أصلاً؛ كما قال ابن تيمية في "مجموع
الفتاوى" (25/ 107)، وهذا أمر متيسِّر اليوم كما هو معلوم، ولكنّه يتطلّب
شيئاً من اهتمام الدول الإِسلامية حتى تجعله حقيقة واقعية إِن شاء الله
-تبارك وتعالى-.
وإلى أن تجتمع الدول الإِسلامية على ذلك؛ فإِنّي أرى على شَعْب كل دولة أن
يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه، فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها
-تقدّمت في صيامها أو تأخّرت- لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشَّعب
الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية، منذ بضع سنين. والله المستعان".
انتهى.
وعن الحسن في رجل كان بمصر من الأمصار، فصام يوم الاثنين، وشهد رجلان أنهما
رأيا الهلال ليلة الأحد.
فقال: لا يقضي ذلك اليوم الرجل، ولا أهلُ مِصره، إِلا أن يعلموا أنَّ أهل
مصر من أمصار المسلمين؟ قد صاموا يوم الأحد فيقضونه" (1).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2045)، وقال شيخنا -رحمه الله-:
صحيح مقطوع.
(3/208)
إِذا أُغْمِيَ هلال شوال وأصبح النَّاس
صياماً
عن أبي عُمير بن أنس بن مالك قال: "حدَّثني عمومتي من الأنصار من أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: أُغْمِي علينا
هلال شوّال، فأصبحنا صياماً، فجاء رَكْب من آخر النَّهار، فشَهِدوا عند
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّهم رأوا الهلال بالأمس.
فأمَرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يفطروا، وأن
يخرجوا إِلى عيدهم من الغد" (1).
هل يصوم أو يُفطر مَنْ رأى الهلال وحده؟
اختلف العلماء في هذا، فمنهم من رأى إِيجاب الصوم والفطر لمن انفرد برؤية
الهلال؛ استناداً إِلى الحديث المتقدّم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
ومنهم من رأى أنه لا يصوم ولا يُفطر إلاَّ مع الناس؛ استناداً لقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم يومَ تصومون، والفطر يوم
تفطرون، والأضحى يوم تضحون" (2).
وعن مسروق قال: "دخلت على عائشة يوم عرفة، فقالت: اسقوا مسروقاً سويقاً،
وأكثروا حلواه.
قال: فقلت: إِنِّي لم يمنعني أن أصوم اليوم إلاَّ أنّي خفْتُ أن يكون يوم
النحر، فقالت عائشة: النحر يوم ينحر الناس، والفطر يوم يفطر الناس" (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1340) وغيرهم،
وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (634).
(2) أخرجه الترمذي وغيره، وانظر "الصحيحة" (224).
(3) وحسنه شيخنا -رحمه الله- لغيره في "الصحيحة" تحت الحديث (224).
(3/209)
قال شيخنا -رحمه الله- عقب حديث: "الصوم
يوم تصومون ... " في "الصحيحة" (1/ 443): " ... قال الترمذي عقب الحديث:
"وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إِنّما معنى هذا؛ الصوم والفطر مع
الجماعة وعِظَم الناس".
وقال الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 72): "فيه دليل على أن يُعتَبر في ثبوت
العيد الموافقة للناس، وأنّ المتفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه
موافقة غيره، ويلزمه حُكمهم في الصلاة والإِفطار والأضحية.
وذكَر معنى هذا ابن القيم -رحمه الله- في "تهذيب السنن" (3/ 214)، وقال:
"وقيل: فيه الردُّ على من يقول: إِنَّ مَنْ عرف طلوع القمر بتقدير حساب
المنازل، جاز له أن يصوم ويفطر؛ دون مَنْ لم يعلم.
وقيل: إِنَّ الشاهد الواحد إِذا رأى الهلال، ولم يحكم القاضي بشهادته أنّه
لا يكون هذا له صوماً، كما لم يكن للناس.
وقال أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجه" -بعد أن ذكَر حديث أبي
هريرة عند الترمذي-: "والظاهر أنه معناه أنَّ هذه الأمور ليس للآحاد فيها
دخل، وليس لهم التفرُّد فيها؛ بل الأمر فيها إِلى الإمام والجماعة، ويجب
على الآحاد اتباعهم للإِمام والجماعة.
وعلى هذا؛ فإِذا رأى أحد الهلال، وردَّ الإِمام شهادته؛ ينبغي أن لا يثبت
في حقّه شيء من هذه الأمور، ويجب عليه أن يتَّبع الجماعة في ذلك".
قلت: -أي شيخنا رحمه الله-: وهذا المعنى هو المتبادر من
(3/210)
الحديث، ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق؛
حين امتنع من صيام يوم عرفة، خشية أن يكون يوم النحر، فبيّنت له أنه لا
عبرة برأيه، وأنّ عليه اتباع الجماعة؟ فقالت: "النحر يوم ينحر الناس،
والفطر يوم يفطر الناس".
قلت: -أي شيخنا رحمه الله-: وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة؛ التي من
غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم، وإبعادهم عن كل ما يفرّق جمْعهم من
الآراء الفردية، فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد -ولو كان صواباً من وِجهة
نظره- في عبادة جماعية؛ كالصوم والتَّعييد وصلاة الجماعة.
ألا ترى أنّ الصحابة -رضي الله عنهم- كان يصلّي بعضهم وراء بعض، وفيهم من
يرى أنّ مسّ المرأة والعضو وخروج الدم من نواقض الوضوء، ومنهم من لا يرى
ذلك، ومنهم من يُتمّ في السفر، ومنهم من يقصر؟!
فلم يكن اختلافهم هذا وغيره؛ ليمنعهم من الاجتماع في الصلاة وراء الإِمام
الواحد، والاعتداد بها، وذلك لعلمهم بأن التفرُّق في الدين شرٌّ من
الاختلاف في بعض الآراء.
ولقد بلغ الأمر ببعضهم في عدم الاعتداد بالرأي المخالف لرأي الإِمام الأعظم
في المجتمع الأكبر كـ (منى)، إِلى حدّ ترْك العمل برأيه إِطلاقاً في ذلك
المجتمع؛ فراراً ممّا قد ينتج من الشر بسبب العمل برأيه.
فروى أبو داود (1/ 307) أنَّ عثمان -رضي الله عنه- صلّى بمنى أربعاً، فقال
عبد الله بن مسعود مُنكِراً عليه: صلّيتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع
عثمان صدراً من إِمارته ثمّ
(3/211)
أتمَّها، ثمَّ تفرَّقت بكم الطرق، فلوددتُ
أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبَّلتين.
ثمّ إِنّ ابن مسعود صلّى أربعاً! فقيل له: عبت على عثمان ثمّ صلّيت
أربعاً؟! قال: الخلاف شرٌّ. وسنده صحيح.
وروى أحمد (5/ 155) نحو هذا عن أبي ذرّ -رضى الله عنهم أجمعين-.
فليتأمّل في هذا الحديث وفي الأثر المذكور؛ أولئك الذين لا يزالون
يتفرَّقون في صلواتهم، ولا يقتدون ببعض أئمّة المساجد، وخاصّة في صلاة
الوتر في رمضان؛ بحُجّة كونهم على خلاف مذهبهم!
وبعض أولئك الذين يدّعون العلم بالفلك ممّن يصوم وحده ويفطر وحده؛ متقدّماً
أو متأخِّراً على جماعة المسلمين؛ معتدّاً برأيه وعلمه؛ غير مبال بالخروج
عنهم ... " انتهى.
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 204): "فالمنفرد
برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية؛ باتفاق العلماء، إِلا أن يكون له عذر
يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سراًّ؟ على قولين للعلماء أصحّهما لا يفطر
سرّاً، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور في مذهبهما".
وقال شيخنا في الردّ على السيد سابق -رحمهما الله تعالى- في "تمام المِنّة"
(ص 399): "ومِن (مَنْ رأى الهلال وحده) وتحت هذا العنوان الجانبي قال:
"واتفقَت أئمّة الفقه على أنّ مَن أبصَر هلال الصوم وحده أن
(3/212)
يصوم".
فأقول: هذا ليس على إِطلاقه، بل فيه تفصيل ذكَره شيخ الإِسلام ابن تيمية في
فتوى له، فقال (25/ 114): "إِذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده،
فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه، أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر
إِلا مع النّاس؟ على ثلاثة أقوال؛ هي ثلاث روايات عن أحمد".
ثمّ ذكَرها، والذي يهمّنا ذِكره منها ما وافق الحديث، وهو قوله: "والثالث:
يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال، لقول النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صومكم يوم تصومون، وفِطركم يوم تُفطرون،
وأضحاكم يوم تُضْحون". رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
قال: وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إِنما معنى هذا الصوم والفطر مع
الجماعة وعِظَم الناس".
وهذا الحديث مخرج في "الصحيحة" (224)، و"الإِرواء" (905) من طرق عن أبي
هريرة، فمن شاء رجَع إِليها.
ثمّ قال ابن تيمية (117) -رحمه الله تعالى-: "لكن من كان في مكان ليس فيه
غيره، إِذا رآه صام، فإِنه ليس هناك غيره"". انتهى.
قلت: وهذا الذي ينبغي أن يصار إِليه، إِذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون ... ". يُفهِم أنّ هذا
جاء لإِلغاء الصوم أو الفطر الفردي، سواءٌ أصحّت الرُّؤية أم لم تصحّ، وإلا
فلا قيمة للحديث ألبتة عياذاً بالله. والله أعلم.
(3/213)
أركان الصوم
1 - النيّة: قال الله تعالى: {وما أُمروا إِلاّ ليعبدوا الله مخلصين له
الدين حُنَفَاء (1)} (2).
وعن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّما الأعمال بالنيات، وإنِّما لكلِّ امرئٍ ما نوى"
(3).
ولا بُدّ من أن تكون النيّة قبل الفجر من كلّ ليلة؛ لحديث حفصة -رضي الله
عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم
يُجمع (4) الصيام قبل الفجر فلا صيام له" (5).
جاء في "الروضة الندية" (1/ 539): "وأمَّا أنَّه يجب تجديد النية لكلّ يوم؛
فلا يخفى أنَّ النيّة هي مجرّد القصد إِلى الشيء، أو الإِرادة له من دون
اعتبار أمر آخر. ولا ريب أنّ من قام في وقت السحر، وتناوَل طعامه وشرابه في
ذلك الوقت من دون عادة له به في غير أيّام الصوم؛ فقد حصَل له القصد
المعتبر، لأنّ أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك" انتهى.
__________
(1) حُنفاء: أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإِسلام. "تفسير البغوى".
(2) البيِّنة: 5.
(3) أخرجه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
(4) الإِجماع: إِحكام النيّة والعزيمة؛ أجمعْتُ الرأي وأزْمعْته وعزمْت
عليه؛ بمعنى". "النهاية".
(5) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1933) ومن طريقه أبو داود "صحيح سنن أبي
داود" (2143)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (914).
(3/214)
أمّا صيام التطوّع؛ فالأمر فيه أوسع،
فإِنّه يمكن لمن لم يبيّت النية من الليل أنْ ينوي ذلك في النهار.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم: "يا عائشة! هل عندكم شيء؟ " قالت: فقلت يا
رسول الله ما عندنا شيء. قال: "فإِني صائم" (1).
وبوّب له ابن خزيمة -رحمه الله- بقوله: "باب الدليل على أنّ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد بقوله: "لا صيام لمن لم يجمع
الصيام من الليل" الواجب من الصيام دون التطوّع منه".
وذكَر حديث عائشة -رضي الله عنها- وهناك من ذهب من العلماء أنها تجزئ قبل
الزوال وبعده، ومنهم من قال: قبل الزوال.
قال النووي -رحمه الله- في تبويب "صحيح مسلم" (2/ 808) " باب جواز صوم
النافلة بنية من النهار قبل الزوال.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك فقال: "قبل الزوال".
2 - الإمساك عن المفطّرات؛ من طلوع الفجر إِلى غروب الشمس.
قال الله تعالى: {فالآن باشروهنّ (2) وابتغوا ما كتب الله لكم (3) وكلوا
__________
(1) أخرجه مسلم: 1154.
(2) أي: جامعوهنّ.
(3) يعني من الولد.
(3/215)
واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود (1) من الفجر ثمّ أتمّوا الصيام إِلى الليل} " (2).
على من يجب؟
يجب صوم رمضان على المسلم العاقل البالغ الصحيح المقيم ويجب أن تكون المرأة
طاهرة من الحيض والنّفاس (3).
__________
(1) وهو سواد الليل وبياض النهار كما في "صحيح البخاري" (1917)، و"مسلم"
(1091)، من حديث سهل بن سعد قال: "أنزلت {وكُلوا واشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} فكان رجالٌ إِذا أرادوا
الصوم ربَط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى
يتبيّن له رؤيتهما، فأنزَل الله بعد {من الفجر} فعلموا أنّه إِنّما يعني
الليل والنهار".
عن البراء -رضي الله عنه- "لمّا نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء
رمضان كلّه، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله {عَلِم الله أنَّكم كنتم
تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} ". أخرجه البخاري: 4508.
وفي رواية له (1915): "كان أصحاب محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذا كان الرجل صائماً فحضَر الإِفطار فنام قبل أن يفطر؛ لم
يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ قيس بن صِرمة الأنصاري كان صائماً،
فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلِق
فأطلُب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلمّا رأته قالت:
خيبةً لك، فلمّا انتصف النهار غُشي عليه، فذكَر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية: {أُحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إِلى
نسائكم} ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ".
(2) البقرة: 187.
(3) "فقه السنة" (1/ 438) بحذف يسير.
(3/216)
ودليل عدم وجوبه على المجنون وغير البالغ
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن
النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (1).
ودليل عدم وجوبه على غير الصحيح والمقيم قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً
أو على سفر فعِدّة (2) من أيّام أُخر (3)} (4).
صيام الصبي
ومع ما تقدّم من القول بعدم وجوب الصوم على الصبي؛ إلاَّ أنه ينبغي على
وليِّ أمْره؛ أن يوجّهه إِلى الصوم؛ ليعتاده وينشأ عليه منذ صِغَره.
عن الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: "أرسل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - غداة عاشوراء إِلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتمّ بقيّة
يومه، ومن أصبح صائماً فليصم.
قالت: فكنّا نصومه بعدُ، ونصَوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العِهن
(5)، فإِذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك؛ حتى يكون عند
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703) وغيره، وانظر "الإِرواء"
(297)، وتقدّم في "كتاب الزكاة".
(2) أي: فعليه عِدّة، والعدد والعِدّة واحد.
(3) {من أيّام أُخر} أي: غير أيّام مرضه وسفره. "تفسير البغوي".
(4) البقرة: 184.
(5) أي: الصوف.
(3/217)
الإِفطار" (1).
وفي رواية: "ونصنع لهم اللعبة من العِهن، فنذهب به معنا، فإِذا سألونا
الطعام أعطيناهم اللعبة تُلهيهم حتى يتمُّوا صومهم" (2).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 200): "والجمهور على أنه لا يجب على
من دون البلوغ، واستحبّ جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري.
وقال به الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إِذا أطاقوه، وحدّه أصحابه
بالسبع والعشر كالصلاة، وحَدّه إِسحاق باثنتي عشرة سنة، وأحمد في رواية
بعشر سنين ... ".
وقال -رحمه الله- (ص 201): "وفي الحديث حُجة على مشروعية تمرين الصبيان على
الصيام كما تقدّم لأنّ من كان في مثل السن الذي ذُكر في هذا الحديث؛ فهو
غير مكلّف، وإنما صنَع لهم ذلك للتمرين".
من يُرخّص لهم في الفطر وتجب عليهم الفدية
* يرخص الفطر للشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى برؤه،
وأصحاب الأعمال الشاقة، الذين لا يجدون متسعاً من الرزق، غير ما يزاولونه
من أعمال.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1960، ومسلم: 1136.
(2) أخرجه مسلم: 1136.
(3/218)
هؤلاء جميعاً يُرخّص لهم في الفطر، إِذا
كان الصيام يُجْهدهم، ويشقّ عليهم مشقّة شديدة في جميع فصول السنة.* (1)
وجاء في "الروضة النديّة" (1/ 552) (2): وفي لفظ آخر عن سلمة بن الأكوع
-رضي الله عنه- أنه قال: "كنّا في رمضان على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من شاء صام ومن شاء أفطر فَافْتَدَى بطعام
مسكين، حتى أُنزلت هذه الآية: {فمن شهِد منكم الشهر فليصُمه} " (3).
والكبير العاجز عن الأداء والقضاء؛ يُكفِّر عن كل يوم بإِطعام مسكين؛ لحديث
سلمة بن الأكوع الثابت في "الصحيحين" وغيرهما قال: "لمّا نزلت هذه الآية:
{وعلى الذين يطيقونه فِديةٌ طعامُ مسكين} (4) كان من أراد أن يفطر ويفتدي،
حتى نزلت الآية التي بعدها فنسَخَتها (5) " (6).
وأخرج هذا الحديث أحمد وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدّم وزاد: "ثمّ
__________
(1) العنوان وما بين نجمتين من "فقة السنة" (1/ 439).
(2) بزيادة اللفظ الثاني لسلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه مسلم: 1145.
(4) البقرة: 184.
(5) فنسختها: يعني أنهم كانوا مُخيّرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية،
ثمّ نُسخ التخيير بتعيين الصوم بقوله تعالى: {فمن شَهد منكم الشهر فليصُمه}
قاله المعلِّق على "صحيح مسلم" -رحمه الله-.
(6) أخرجه البخاري: 4507، ومسلم: 1145.
(3/219)
أنزَل الله: {فمن شهِد منكم الشهر فليصمه}
" (1).
فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخّص فيه للمريض والمسافر، وأثبت
الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام".
وعن عطاء أنه سمع ابن عبّاس يقرأ: " {وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين}
قال ابن عبّاس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة؛ لا
يستطيعان أن يصوما، فيُطعمان مكان كلّ يوم مسكيناً" (2).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 17): "ورواه النسائي (1/ 318 -
319) من طريق ورقاء عن عمرو بن دينار به نحوه، ولفظه: " {يطيقونه}
يكلَّفونه، {فديةٌ طعام مسكين فمن تطوّع خيراً} طعام مسكين آخر، ليست
بمنسوخة {فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} لا يرخّص في هذا؛ إِلا للذي لا
يطيق الصيام، أو مريض لا يشفى.
قلت: وإسناده صحيح ... ".
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 217): "وسُئل عن رجل كلَّما أراد أن يصوم
أُغمِي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقى أيّاماً لا يفيق، حتى يُتّهم أنّه جنون،
ولم يتحقّق ذلك منه.
فأجاب: الحمد لله، إِنْ كان الصوم يوجب له مِثل هذا المرض؛ فإِنه يُفطِر
ويقضي، فإِنْ كان هذا يصيبه في أي وقتٍ صام؛ كان عاجزاً عن الصيام؛ فيُطعم
عن كل يوم مسكيناً، والله أعلم".
__________
(1) "صحيح سنن أبي داود" (479).
(2) أخرجه البخاري: 4505.
(3/220)
والحُبلى والمرضع إِذا لم تطيقا الصوم أو
خافتا على أنفسهما أو أولادهما أفطرتا وعليهما الفدية، ولا قضاء عليهما.
عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "إِذا خافت الحامل على نفسها، والمرضع
على ولدها في رمضان قال: يُفطران، ويُطعمان مكان كل يوم مسكيناً، ولا
يقضيان صوماً" (1).
قال شيخنا في "الإِرواء" (4/ 19): "وفي رواية له (2) بالسند المذكور عن ابن
عبّاس -رضي الله عنهما-: "أنّه رأى أمّ ولد له حاملاً أو مرضعاً فقال: أنتِ
بمنزلة الذي لا يطيق، عليكِ أن تطعمي مكان كلّ يوم مسكيناً، ولا قضاء
عليك".
زاد في رواية (2761) عن سعيد به: "أنَّ هذا إِذا خافت على نفسها".
ورواه الدارقطني (250) من طريق روح عن سعيد به بلفظ: "أنتِ من الذين لا
يطيقون الصيام، عليك الجزاء، وليس عليك القضاء".
وقال الدارقطني: "إِسناده صحيح".
ثمّ روى من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس وابن عمر قال: "الحامل
والمرضع تفطر ولا تقضي". وقال: "وهذا صحيح".
قلت -أي شيخنا رحمه الله-: ورواه ابن جرير من طريق علي بن ثابت
__________
(1) أخرجه الطبري، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 19): وإِسناده
صحيح على شرط مسلم.
(2) أي: للطبري -رحمه الله-.
(3/221)
عن نافع عن ابن عمر مِثل قول ابن عبّاس في
الحامل والمرضع، وسنده صحيح ولم يسُق لفظه.
وقد رواه الدارقطني من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر: "أن امرأته سألته وهي
حُبْلى، فقال: أفطري، وأطعمي عن كل يوم مسكيناً، ولا تقضي"، وإسناده جيد.
ومن طريق عبيد الله عن نافع قال: "كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش،
وكانت حاملاً، فأصابها عطش في رمضان، فأمَرها ابن عمر أن تُفطر وتُطعم عن
كلّ يوم مسكيناً"، وإِسناده صحيح.
ومنها ما عند الدارقطني وصححه من طريق منصور عن مجاهد عن ابن عبّاس قرأ:
{وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين} يقول:
"هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام فيُفطر ويُطعم عن كلّ يوم مسكيناً؛
نصف صاع من حنطة".
وأخرجه (249) من طريق عكرمة عن ابن عبّاس قال: "إِذا عجَز الشيخ الكبير عن
الصيام؛ أطعم عن كلّ يوم مُدّاً مُدّاً". وقال: "إِسناده صحيح".
وعن أنس بن مالك الكعبي (1) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله وضع عن
__________
(1) جاء في "عون المعبود" (7/ 33): "قال في "المرقاة" هو من بني عبد الله
بن كعب على ما جَزم به البخاري في ترجمته، وجرى عليه أبو داود فقال: رجل من
بني عبد الله بن كعب، أخوه قشير فهو كعبي لا قشيري؛ خلافاً لما وقع لابن
عبد البر؛ لأنّ كعباً له ابنان عبد الله جد أنس هذا، وقشير وهو أخو عبد
الله ... وأما أنس بن مالك خادم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فهو أنصاري خزرجي. انتهى".
(3/222)
المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن
المرضع والحبلى" (1).
من يرخص لهم في الفطر، ويجب عليهم القضاء
* يباح الفِطْر للمريض الذي يُرجى برؤه والمسافر، ويجب عليهما القضاء. *
(2)
قال الله تعالى: {ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعِدَّةٌ من أيّامٍ أُخر}
(3).
وفي حديث معاذ بن جبل الطويل -رضي الله عنه-: " ... فإِنّ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر،
ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله تعالى {كُتب عليكم الصيام كما كُتب على
الذين من قبلكم} إِلى قوله: {طعام مسكين}.
فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يُفطر ويُطعم كلّ يوم مسكيناً أجزأه
ذلك، وهذا حول، فأنزل الله تعالى: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن} إِلى
{أيّام أُخر} فثبت الصيام على من شهد الشهر، وعلى المسافر أن يقضي، وثبت
الطعام للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يستطيعان الصوم" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2107)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (2146)، والترمذي وابن ماجه، وانظر "المشكاة" (2025).
(2) العنوان وما بين نجمتين من "فقه السنة" (1/ 441).
(3) البقرة: 185.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (479)، وغيره، وانظر "الإرواء" (4/
20)، وتقدّم.
(3/223)
وعن أنس بن مالك أنه ضعُف عن الصوم عاماً،
فصنع جفنة ثريد، ودعا ثلاثين مسكيناً فأشبَعهم" (1).
* والصحيح الذي يخاف المرض بالصيام يُفطر، مِثل المريض، وكذلك من غلَبه
الجوع أو العطش، فخاف الهلاك، لزِمه الفطر، وإِنْ كان صحيحاً مقيماً، وعليه
القضاء.
قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً} (2)، وقال
تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (3).
وإِذا صام المريض، وتحمَّل المشقَّة، صحّ صومه، إِلا أنه يُكره له ذلك؛
لإِعراضه عن الرخصة التي يحبها الله، وقد يلحقه بذلك ضرر. * (4)
وأمَّا الرُّخصة للمسافر؛ ففيها أحاديث عديدة؛ منها:
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "غزونا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لستَّ عشرة مضَت من رمضان، فمنّا من صام ومنّا من أفطَر، فلم يَعِبِ الصائم
على المفطر، ولا المفطر على الصائم" (5).
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنّه قال للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أأصوم في السفر؟
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 22): وسنده صحيح .. وعلّق
البخاري بنحوه.
(2) النساء: 29.
(3) الحج: 78.
(4) ما بين نجمتين عن "فقه السنة" (1/ 554).
(5) أخرجه مسلم: 1116.
(3/224)
-وكان كثير الصيام- فقال: إنْ شئت فصم،
وإنْ شئت فأفطرِ" (1).
وفي رواية: "أنّه قال: يا رسول الله! أجد بي قوَّة على الصِّيام في السفر،
فهل عليّ جُناح؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي
رخصة من الله، فمن أخَذ بها فحسَن، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جُناح عليه" (2).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (3) (1/ 377): بعد كلام طويل: "والحقّ
أنّ الحديث يفيد التخيير لا التفضيل".
أيّهما أفضل للمريض والمسافر؛ الفطر أم الصوم؟
إِذا لم يجد المسافر أو المريض مشقةً في الصوم، جاز له الصوم، وإن وجدا
المشقّة فعليهما أن يُفطِرا.
فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في السفر، فمنّا الصائم ومنّا المفطر، قال: فنزلنا مَنْزِلاً
في يوم حارّ أكثرُنا ظلاًّ صاحب الكساء (4)، ومنّا من يتّقي الشمس بيده.
قال: فسقط الصُّوَّام (5)، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسَقَوُا الرِّكاب
(6)،
__________
(1) أخرجه البخاري: 1934.
(2) أخرجه مسلم: 1121.
(3) انظره للمزيد من الفوائد الفقهية إِن شئت.
(4) في رواية البخاري -رحمه الله-: " ... أكثرُنا ظلاًّ الذي يستظلّ
بكسائه".
(5) أي: لضعفهم.
(6) الرّكاب: الإِبل التي يُسار عليها، الواحدة راحلة، ولا واحدة لها من
لفظها. "مختار الصحاح".
(3/225)
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ذهب المُفطرون اليوم بالأجر" (1).
وعن قَزَعَة قال: "أتيت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- وهو مكثور عليه
(2)، فلما تفرّق الناس عنه، قلت: إِني لا أسألك عمَّا يسألك هؤلاء عنه،
سألته عن الصوم في السفر، فقال: سافَرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى مكّة ونحن صيام. قال: فنزَلنا منزلاً، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنكم قد دنوتم من عدوِّكم،
والفطر أقوى لكم". فكانت رخصة، فمنّا من صام ومنّا من أفطر.
ثمّ نزلنا منزِلاً آخر، فقال: "إِنكم مُصَبِّحو عدوِّكم، والفطر أقوى لكم،
فأفطروا". وكانت عَزْمَة (3)، فأفطرنا ثمّ قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر" (4).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- " أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام الفتح إِلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ
كُرَاعَ الغميم، فصام الناس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفَعه، حتى نظر الناس
إِليه، ثمّ شرب.
فقيل له بعد ذلك: إِنَّ بعض الناس قد صام. فقال: أولئك العُصاة، أولئك
العصاة" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 2890، ومسلم: 1119، واللفظ له.
(2) قال في "النهاية": "يقال: رجل مكثور عليه، إذا كثُرت عليه الحقوق
والمطالبات، أراد أنّه كان عنده جمع من الناس؛ يسألونه عن أشياء، فكأنهم
كان لهم عليه حقوقٌ، فهم يطلبونها".
(3) العَزْمة: ضدّ الرخصة.
(4) أخرجه مسلم: 1120.
(5) أخرجه مسلم: 1114.
(3/226)
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/
256): وفي خَبَر أبي سعيد أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أتى على نهر من ماء السماء من هذا الجنس أيضاً.
قال في الخبر: "إِنّي لست مثلكم، إِني راكب وأنتم مشاة، إِني أيسركم" (1).
قال ابن خزيمة -رحمه الله-: "فهذا الخبر دلّ على أنَّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام وأمرَهم بالفطر في الابتداء، إِذ كان
الصوم لا يَشُقّ عليه إِذ كان راكباً، له ظهْر لا يحتاج إِلى المشي،
وأمَرهم بالفطر إِذ كانوا مشاة يشتدُّ عليهم الصوم مع الرجَّالة (2).
فسمّاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عصاة إِذ امتنعوا من الفطر
بعد أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِياهم، بعد عِلمه
أن يشتد الصوم عليهم، إِذ لا ظهر لهم، وهم يحتاجون إِلى المشي".
وعن جابر قال: "مرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل
يقلب ظهره لبطنه، فسأل عنه، فقالوا: صائم يا نبي الله!
فدعاه، فأمَره أن يفطر فقال: أَمَا يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تصوم؟! " (3).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (6/ 186): "وله طرق أخرى عن جابر بنحوه
في "الصحيحين" وغيرهما، وهي مخرجة في "الإِرواء" (925). وفي الحديث دلالة
ظاهرة على أنه لا يجوز الصوم في السفر إِذا كان
__________
(1) أخرجه الإِمام أحمد وابن خزيمة في "صحيحه" (2022)، وقال شيخنا: إِسناده
صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن حبّان.
(2) جمع راجل، وهو الماشي على رجليه.
(3) أخرجه أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(3/227)
يضرّ بالصائم، وعليه يُحمَل قوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصِّيام في السفر".
يوضّح ما قاله شيخنا -رحمه الله- مناسبة الحديث؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي
الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
سفرٍ فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّل عليه فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال:
ليس من البرّ الصوم في السفر" (1).
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 255): "أي: ليس البر الصوم في
السفر؛ حتى يُغشى على الصائم ويحتاج إِلى أن يُظلل ويُنضح عليه، إِذ الله
-عزّ وجلّ- رخّص للمسافر في الفطر، وجعل له أن يصوم في أيّام أخر، وأعلم في
حُكم تنزيله؛ أنه أراد بهم اليسر لا العسر في ذلك، فمن لم يَقبل يُسر الله،
جاز أن يقال له: ليس الحسر أخذك بالعسر عليك من البّر.
وقد يجوز أن يكون في هذا الخبر: "ليس البر أن تصوموا في السفر"، أي: ليس كل
البرّ هذا، قد يكون البر أيضاً [أن] تصوموا في السفر [و] قبول رخصة الله
والإِفطار في السفر".
وقوله: "أولئك هم العصاة"، وفيما سوى ذلك فهو مخير إِن شاء الله صام، وإِن
شاء أفطر، وهذا خلاصة ما تدل عليه أحاديث الباب، فلا تعارض بينها والحمد
لله".
وقال -رحمه الله- (ص 260): (باب استحباب الصوم في السفر لمن قوي عليه،
والفِطر لمن ضعُف عنه).
ثمّ ذكَر حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- المتقدّم ... "فلم
__________
(1) أخرجه البخاري: 1946، ومسلم: 1115.
(3/228)
يَعِبْ المفطر على الصّائم ولا الصّائم على
المُفطر".
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1/ 377): " ... يمكن الاستدلال
لتفضيل الإِفطار على الصيام بالأحاديث التي تقول: "إِنّ الله يحبّ أن تؤتى
رُخَصه كما يَكره أن تؤتى معصيته (وفي رواية: كما يحبّ أن تؤتى عزائمه) "
(1).
وهذا لا مناص من القول به، لكن يمكن أن يقيَّد ذلك بمن لا يتحرج بالقضاء،
وليس عليه في الأداء، وإلا عادت الرخصة عليه بخلاف المقصود، فتأمّل".
انتهى.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 213): "وسُئل رحمه الله عمّن يكون مسافراً في
رمضان، ولم يُصبه جوع، ولا عطش، ولا تعب، فما الأفضل له، الصيام؟ أم
الافطار؟
فأجاب: أمّا المسافر فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقّة، والفطر
له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء، ومنهم من يقول لا يجزئه".
قلت: والراجح القول الأوّل لِما تقدّم، والله -تعالى- أعلم.
هل يجوز له الفطر إِذا نوى الصيام وهو مقيم ثمّ سافر نهاراً؟
إِذا نوى المرء الصيام أو شرع فيه ثمّ سافر أثناء النهار، جاز له الفطر.
فعن محمّد بن كعب أنه قال: "أتيتُ أنس بن مالك في رمضان، وهو يريد سفراً،
وقد رُحِّلَت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" وغيره، وصححه شيخنا في "الإِرواء" (564).
(3/229)
له: سُنّة؟ فقال: سُنّة، ثمّ ركب" (1).
وعن عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في
رمضان فدفع، ثمّ قرّب غداءه، ثمّ قال: اقترب، فقلت: ألست في البيوت؟ فقال
أبو بصرة: أرغبت عن سُنّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-؟ " (2).
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- عَقِب حديث محمّد بن كعب: "وقد ذهب بعض
أهل العلم، إِلى هذا الحديث، وقال: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج،
وليس له أن يقصر الصلاة، حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول:
إِسحاق بن إِبراهيم".
قال الشوكاني -رحمه الله- (3): "والحديثان يدلاّن على أنّ للمسافر أن يفطر
قبل خروجه؛ من الموضع الذي أراد السفر منه".
قال شيخنا -رحمه الله- في كتابه النافع " تصحيح حديث إِفطار الصائم قبل
سفره بعد الفجر" (ص 28) -بعد الحديث الأوّل-: "وله شاهد من القرآن الكريم
والسُّنّة:
أمّا القرآن: فهو قول الله تبارك وتعالى: {فمن كان مريضاً أو على سفر
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (641)، وانظر "تصحيح حديث إِفطار
الصائم قبل سفره بعد الفجر والردّ على مَن ضعَّفه " لشيخنا -رحمه الله-.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2109)، وانظر "تمام
المِنّة" (ص 400)، و"الإِرواء" (928).
(3) "نيل الأوطار" (4/ 311)، وذكَره السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة"
(1/ 444).
(3/230)
فعدّةٌ من أيّام أُخَر}، فإِن قوله: {على
سفر} يشمل من تأهَّب للسَّفر ولمَّا يخرج، وقد صرّح الإِمام القرطبي في
تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" ... أنّ ذلك مقتضى الآية".
ثمّ ذكَر -رحمه الله- للحديث شواهد من السُّنّة منها:
1 - عن اللجلاج قالوا (كذا الأصل: ولعله: اللجلاج وغيره قالوا): كنّا نسافر
مع عمر -رضي الله عنه- ثلاثة أميال فيتجوّز في الصلاة ويفطر.
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 151/2) بإِسناد حسن أو قريب منه.
2 - عن أنس بن مالك قال: قال لي أبو موسى: ألم أُنبَّأ أنك إِذا خرجْتَ
خرجت صائماً، وإذا دخلتَ دخلتَ صائماً؟ فإِذا خرجتَ فاخرج مُفطراً، وإِذا
دخلتَ فادخل مُفطراً.
رواه الدارقطني (ص 241) والبيهقي (4/ 247) بإِسناد صحيح على شرط الستة.
3 - عن نافع عن ابن عمر أنه خرَج في رمضان فأفطرَ.
رواه ابن أبي شيبة (2/ 151/1) بإِسناد رجاله ثقات.
4 - عن ابن عبّاس قال: إِنْ شاء صام وإنْ شاء أفطر.
رواه ابن أبي شيبة في "باب ما قالوا في الرجل يُدركه رمضان، فيصوم ثمّ
يسافر"، (2/ 151/1) وإسناده صحيح.
5 - عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافراً فمرّ بالفرات وهو صائم،
فأخذ منه حسوة فشربه وأفطر.
(3/231)
رواه ابن أبي شيبة (2/ 151/1) بإِسناد
صحيح.
ثمّ روى هو (2/ 151/2) والبيهقي (4/ 247) بسند آخر عنه مختصراً وهو صحيح
أيضاً.
6 و7 - عن سعيد بن المسيّب والحسن البصري قالا: يفطر إِنْ شاء.
رواه ابن أبي شيبة عقب الأثر الذي قبله وسنده صحيح.
وفي رواية عن الحسن البصري: "يفطر إِنْ شاء في بيته؛ يوم يريد أن يخرج"
ذكَرها القرطبي في "تفسيره" (2/ 279).
ثمّ قال -رحمه الله- (ص 34): "إذا تبيّن أنّ الحديث صحيح بلفظ الإِثبات،
فهو حُجّة واضحة لما ذهب إِليه الإِمام إِسحاق بن راهويه، كما حكاه الترمذي
عنه، وقد نقله الشيخ عنه -وفي كتاب "المسائل" لإِسحاق بن منصور المروزي (ق
29/ 1 - 2) ما نصه:
"قلت (يعني: للإِمام أحمد): إِذا خرج مسافراً متى يفطر؟ قال: إذا برز عن
البيوت، قال إِسحاق (يعني ابن راهويه): بل حين يضع رِجله فله الإِفطار؛ كما
فعَل ذلك أنس بن مالك، وسنَّ النّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- (كذا)، وإذا جاوز البيوت قصَر".
لا يجوز للحائض أو النفساء أن تصوما، ويجب
عليهما القضاء
عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي
الصلاة؟ فقالت: أَحَرُوريَّةٌ أنتِ؟ قلت: لست بحَرُوريَّة، ولكنِّي أسأل.
قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمَر بقضاء الصوم ولا نؤمَر بقضاء الصلاة" (1).
__________
(1) أخرجه البخاري: 321، ومسلم: 335، وهذا لفظه.
(3/232)
كان صيام تسع وعشرين لرمضان على عهد
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من صيام ثلاثين
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لَمَا (1) ضمنا مع النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعاً وعشرين أكثر ممّا صمنا معه ثلاثين"
(2).
وفي لفظ: "ما صُمتُ مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تسعاً وعشرين؛ أكثر ممّا صُمنا ثلاثين" (3).
قال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 208): "باب الدليل على أنَّ صيام تسع وعشرين
لرمضان؛ كان على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر
من صيام ثلاثين؛
__________
(1) لَمَا موصولة أو مصدرية وجاء في "تحفة الأحوذي" (3/ 370): "قال أبو
الطَّيِّب السندي في "شرح الترمذي": كلمة "ما" تحتمل أن تكون مصدرية في
الموضعين أي: صومي تسعاً وعشرين أكثر من صومي ثلاثين.
وتحتمل أن تكون في الموضعين موصولة والعائد محذوف، والتقدير: ما صمته حال
كونه تسعاً وعشرين أكثر مما صمناه حال كونه ثلاثين، فيكون تسعاً وعشرين،
وكذلك ثلاثين؛ حال من ضمير المفعول المحذوف الراجع إِلى رمضان المراد
بالموصول، وعلى التقديرين قوله: "أكثر" مرفوع على الخبرية.
والحاصل أنّ الأشهر الناقصة أكثر من الوافية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2036) والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (556)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1922).
(3) انظر "صحيح سنن الترمذي" (556).
(3/233)
خلاف ما يتوهم بعض الجُهّال والرُّعَاع (1) أن الواجب أن يصام لكلّ رمضان
ثلاثين يوماً كوامل".
ثمّ ذكَر الحديث السابق. |