الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الموسوعة الفقهية الميسرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة
الجزء الرابع
كتاب الجنائز والحج
بقلم
حسين بن عودة العوايشة
المكتبة الإسلامية
دار ابن حزم
(4/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
(4/2)
الموسوعة الفقهية الميسرة
في
فقه الكتاب والسنة المطهرة
(4/3)
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1423 هـ - 2002 م
المكتبة الإسلامية
ص ب: (113) الجبيهة - هاتف 5342887
عمَّان - الأردن
دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - ص ب: 6366/ 14 - تليفون: 701974
(4/4)
-[المقدّمة]-
إِنّ الحمْدَ لله، نحمَدُه ونستعينهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور
أَنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن
يُضْلل فلا هاديَ لهُ.
وأَشهَد أنْ لا إله إِلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمداً
عَبدهُ ورَسولهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3).
أمَّا بعد:
فإِنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدْي محمّد، وشرّ الأمور
مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار.
فهذا هو الجزء الرابع من الموسوعة الفقهية؛ وقد تضمّن (كتاب الجنائز)
__________
(1) آل عمران: 102.
(2) النساء: 1.
(3) الأحزاب: 70، 71.
(/)
و (الحجّ) وقد استفدت كثيراً فيهما من كتاب
"أحكام الجنائز" و"مناسك الحج والعمرة" و"حجّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" لشيخنا -رحمه الله- وقد أحسن شيخنا -رحمه الله- *
(1) حتى لم يكد يدَع للإِحسان موضعاً، وسَبَق حتى جاء من خَلَفه له
تَبَعاً*.
وكذا استفدت من "فقه السنة" أيضاً؛ في كثير من العناوين والأدلّة والترتيب؛
كما هو الشأن مع الأجزاء السابقة.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبّل مني عملي ويجعله له خالصاً. إِنه على
كل شيء قدير.
حسين بن عودة العوايشة
عمّان - 8 ذو الحجة 1422 هـ
__________
(1) ما بين نجمتين من كلام الإِمام ابن القيّم في حقِّ الحافظ المنذري
-رحمهما الله تعالى- في اختصاره وتهذيبه "سنن أبي داود".
(/)
[[الجنائز]]
فَضْلُ المَرَضِ:
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "دخَلْت على رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يُوعَك وَعْكاً شديداً، فمَسسْته بيدي
فقلت: يا رسول الله! إِنك توعك (1) وَعْكاً شديداً؟! فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجل، إِني أوعك كما يوعك رجلان منكم
فقلت: ذلك أنّ لك أجرين؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: أجل. ثمّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ما من مسلم يُصيبه أذى -مرض فما سواه- إِلا حَطّ الله له سيّئاته، كما
تحطّ الشجرة ورقها" (2).
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما يصيب المسلمَ من نَصَب (3) ولا
وَصَب (4) ولا همّ ولا حَزَن ولا أذى ولا غمّ - حتى الشوكةِ يُشَاكُها-
إِلا كفّر الله بها من خطاياه" (5).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وأهله وماله،
حتى يلقى الله -عزّ وجلّ- وما عليه خطيئة" (6).
__________
(1) الوعك: الحمّى. وقيل: ألمها. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 5660، ومسلم: 2571.
(3) النّصَب: هو التعب، وانظر للمزيد من الشرح -إِن شئت- كتابي "شرح صحيح
الأدب المفرد" برقم (378/ 492).
(4) الوصَب؛ أي: المرض. وقيل: هو المرض اللازم. "فتح" (10/ 106).
(5) أخرجه البخاري: 5641، 5642، ومسلم: 2573.
(6) أخرجه أحمد، والترمذي وغيرهما. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وانظر
"الصحيحة" (2280).
(4/5)
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يُرِدِ الله به خيراً يُصِبْ (1)
منه" (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "إِذا اشتكى المؤمن؛ أخلصَه الله (3) كما يخلص الكِيرُ (4) خَبَث
الحديد (5) " (6).
شكوى المريض:
يجوز للمريض أن يشكو للطبيب والصديق ما يجده من الألم والمرض؛ ما
__________
(1) قال النووي -رحمه الله- في "رياض الصالحين" (ص 64): "ضبطوا "يُصَِب":
بفتح الصاد وكسْرها.
وقال في "الفتح" (10/ 108): " .. "يُصِب منه"؛ كذا للأكثر بكسر الصاد،
والفاعل: الله، قال أبو عبيد الهَرَوي: "معناه يبتليه بالمصائب لِيُثِيبَه
عليها ... "، وانظره للمزيد من الفوائد -إِن شئت-.
(2) أخرجه البخاري: 5645.
(3) أي: من الذنوب.
(4) جهاز من جلد أو نحوه؛ يستخدمه الحدّاد وغيره؛ للنّفْخ في النار
وإشعالها. "الوسيط".
(5) خَبَث الحديد: ما تلقيه النار من وسخ الفضّة والنحاس وغيرهما؛ إِذا
أُذيبا. "النهاية". وانظر للمزيد من شرحه -إِن شئت- كتابي "شرح صحيح الأدب
المفرد" (2/ 115).
(6) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (382)، وانظر
"الصحيحة" (1257).
(4/6)
لم يكن ذلك على سبيل التسخّط وإظهار
الجَزَع (1)؛ وقد تقدّم حديث: "إِنّي أُوعَك كما يوعَك رجلان منكم".
وعن القاسم بن محمد قال: "قالت عائشة: وارأساه!! فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذاك لو كان وأنا حيٌّ واستغفرَ لك وأدعوَ
لك، فقالت عائشة: واثُكْلِيَاه (2)!! والله إِني لأظنُّك تحبّ موتي، ولو
كان ذلك لظَللْتَ آخر يومك مُعرِّساً ببعض أزواجك!!
فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل أنا وارأساه! لقد
هممت -أو أردت- أن أرسل إِلى أبي بكر وابنه وأعهد؛ أن يقول القائلون، أو
يتمنى المتمنّون! ثمّ قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون -أو يدفع الله ويأبى
المؤمنون-" (3).
وعن عروة بن الزبير قال: "دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء -قبل قتل
عبد الله بعشر ليال- وأسماء وَجِعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت:
وَجِعة." (4).
المريض يُكتب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً:
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا
__________
(1) انظر "فقه السّنّة" (1/ 488).
(2) أصْل الثُّكْل: فَقْدُ الولد أو من يعزّ على الفاقد، وليست حقيقته هنا
مرادة، بل هو كلام كان يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها.
"فتح".
(3) أخرجه البخاري: 5666.
(4) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (509)، وانظر "صحيح الأدب المفرد"
(394).
(4/7)
مرض العبد أو سافر؛ كُتب له مثلُ ما كان
يعمل مقيماً صحيحاً" (1).
عيادة المريض:
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أطعموا الجائع وعودوا المريض وفُكُّوا العاني (2) "
(3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "حقّ المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام،
وعيادة المريض، واتّباع الجنائز، وإِجابة الدعوة، وتشميت العاطس" (4).
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله؛ ناداه منادٍ: أن
طِبْتَ وطاب ممشاك، وتبوَّأتَ من الجنة منزلاً" (5).
وعن ثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من عاد مريضاً؛ لم يزل
في خُرْفةِ الجنة (6) قيل: يا رسول الله! وما خُرْفةُ الجنة؟ قال: جناها"
(7).
__________
(1) أخرجه البخاري: 2996.
(2) العاني: الأسير، وكلّ من ذلَّ واستكان وخضع؛ فقد عنا يعنو، وهو عانٍ،
والمرأة عانية، وجمعُها: عوانٍ. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 5649.
(4) أخرجه البخاري: 1240، ومسلم: 2162.
(5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1633)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1184)، وانظر "المشكاة" (1575، 5015).
(6) أي: في اجتناء ثمرها. "النهاية". والخُرفة: اسم ما يخترف من الثمار حين
يُدرك.
(7) أخرجه مسلم: 2568.
(4/8)
وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من مسلم يعود مسلماً
غدوةً؛ إِلا صلّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يمسي، وإن عاده عَشِيَّةً؛ إِلا
صلّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف (1) في الجنة" (2).
عيادة المُغْمَى عليه (3):
عن جابر بن عبد الله قال: "مرضتُ مرضاً، فأتاني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعودني- وأبو بكر وهما ماشيان، فوجداني أُغميَ عليّ،
فتوضأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ صبَّ وَضوءه
عليّ، فأفقتُ؛ فإِذا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقلت:
يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟ [كيف] أقضي في مالي؟ فلم يُجبني بشيء حتى
نزلت آية الميراث" (4).
جاء في "الفتح" (10/ 114): "قال ابن المنَيِّر: فائدة الترجمة: أن لا
يُعتقد أَنَّ عيادة المغمى عليه ساقطة لكونه لا يعلم بعائده.
[قال الحافظ]: ومجرد عِلم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه؛
لأَنَّ وراء ذلك جبْرَ خاطِرِ أهله، وما يُرجَى من بركة دعاء العائد، ووضْع
يده على المريض، والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ، إِلى غير
__________
(1) أي: مخروف من ثمرها، فعيل بمعنى مفعول. "النهاية".
(2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2655)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (775)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1183) وغيرهم، وانظر
"الصحيحة" (1367).
(3) هذا العنوان من كتاب "الأدب المفرد" وكذا ثلاثة الأبواب التي بعده.
(4) أخرجه البخاري: 5676، ومسلم: 1616.
(4/9)
ذلك" (1).
قول العائد للمريض: كيف تَجِدُكَ؟
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة؛ وُعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلتْ عليهما،
فقلت: يا أبتِ! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ " (2).
ما يجيب المريض:
عن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: "دخل الحجاج على ابن عمر -وأنا عنده -فقال:
كيف هو؟ فقال: صالح، فقال: من أصابك؟ قال: أصابني من أمَر بحمل السلاح في
يوم لا يحلُّ فيه حمْله! يعني: الحجاج" (3).
أين يقعد العائد؟
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذا عاد المريض جلس عند رأسه، ثمّ قال (سبع مرار): أسأل الله
العظيم - ربَّ العرش العظيم: أنْ يشفيَك، فإِنْ كان في أجله تأخير عُوفي من
وجعه (4) " (5).
__________
(1) انظر كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد" (2/ 135).
(2) أخرجه البخاري: 3926. وبعضه في مسلم: 1376.
(3) أخرجه البخاري: 967.
(4) أي: إِذا لم يحضر أجله وكتب الله له حياة؛ عافاه من مرضه.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2663)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1698).
(4/10)
عيادة النِّساءِ الرّجالَ (1):
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لما قدِم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة؛ وُعك أبو بكر وبلال -رضي الله عنهما- قالت:
فدخلْت عليهما قلت: يا أبت! كيف تجدك؛ ويا بلال! كيف تجدك؟ " (2).
عيادة المشرك:
عن أنس -رضي الله عنه- "أن غلاماً ليهود كان يخدُم النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمرض، فأتاه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، فقال: أسلِم "فأسلم" (3).
التداوي:
عن أسامة بن شَرِيك قال: "أتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ وأصحابُه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلّمت ثمّ قعدت، فجاء
الأعراب من هاهنا وهاهنا، فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال: تداووا؛
فإِن الله -عزّ وجلّ- لم يضع داءً إِلا وضَع له دواءً؛ غيرَ داء واحد:
الهَرَمُ" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "ما أنزل الله داءً؛ إِلا
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح البخاري"، ونقله السيد السابق -رحمه الله- في
"فقه السنة" (1/ 490).
(2) أخرجه البخاري: 5654، وبعضه في مسلم: 1376، وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري: 5657 و1356.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3264)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1660)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2772)، وانظر "غاية
المرام" (تحت رقم 292)، و"المشكاة" (4532).
(4/11)
أنزل له شفاءً" (1).
وعن جابر -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: "لكل داءٍ دواء، فإِذا أُصيب دواء الداء برَأ بإِذن الله -عزّ
وجلّ-" (2).
تحريم التداوي بمحرّم:
عن وائل الحضرمي: أن طارق بن سُويد الجُعْفِيَّ سأل النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر؟ فنهاه -أو كره- أن يصنعها، فقال:
إِنما أصنعها للدواء؟! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنه
ليس بدواء، ولكنه داء" (3).
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في السُّكْر: "إِنّ الله لم يجعل
شفاءَكم فيما حرّم عليكم" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدواء الخبيث" (5).
وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 266): وسُئل عن التداوي بالخمر؟
__________
(1) أخرجه البخاري: 5678.
(2) أخرجه مسلم: 2204.
(3) أخرجه مسلم: 1984.
(4) أخرجه البخاري معُلقاً مجزوماً به موقوفاً، وتقدّم في كتابنا هذا (باب
الطهارة)، وانظر ما قاله الحافظ في "الفتح" (10/ 79).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3278)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1667)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2785).
(4/12)
فأجاب:
"التداوي بالخمر حرام، بنص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وعلى ذلك جماهير أهل العلم".
ثمّ ذكر -رحمه الله- الأدلّة على ذلك، ثمّ قال:
"وليس هذا مِثلَ أكْل المُضْطَرِّ للميتة؛ فإِن ذلك يحصل به المقصود قطعاً،
وليس له عنه عوض، والأكل منها واجب، فمن اضطر إِلى الميتة ولم يأكل حتى
مات؛ دخل النار، وهنا لا يعلم حصول الشفاء، ولا يتعين هذا الدواء، بل الله
- تعالى- يعافي العبد بأسباب متعددة".
وجاء فيه (24/ 270): وسُئل -رحمه الله- عن رجل وُصف له شحم الخنزير بمرضٍ
به، هل يجوز له ذلك أم لا؟ فأجاب:
"وأما التداوي بأكل شحم الخنزير؛ فلا يجوز".
وجاء فيه (24/ 275): "وأما ما أبيح للحاجة لا لمجرد الضرورة -كلباس
الحرير-؛ فقد ثبت في "الصحيح": "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رخص للزبير وعبد الرحمن ابن عوف في لبس الحرير؛ لحكة كانت
بهما".
وهذا جائز على أصح قَوْلَي العلماء؛ لأن لبس الحرير إِنما حُرِّمَ عند
الاستغناء عنه، ولهذا أبيح للنساء لحاجتهن إِلى التزيّن به، وأبيح لهن
التستر به مطلقاً، فالحاجة إِلى التداوي به كذلك، بل أوْلى، وهذه حُرِّمت
لما فيها من السرف والخيلاء والفخر، وذلك مُنْتَفٍ إِذا احتيج إِليه، وكذلك
لبسها للبرد، أو إذا لم يكن عنده ما يستتر به غيرها".
(4/13)
الطبيب المشرك (1):
قال الشيخ تقي الدين (2): "إِذا كان اليهودي أو النصراني خبيراً بالطب ثقة
عند الإِنسان؛ جاز له أن يستطبّ كما يجوز له أنْ يودِعه المال وأن يعامله،
كما قال -تعالى-: {ومن أهل الكتاب من إِن تأمنه بقنطار يُؤَدِّهِ إِليك
ومنهم من إِن تأمنه بدينار لا يُؤَدِّهِ إِليك} [آل عمران: 75] ".
وفي "الصحيح": "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما
هاجر؛ استأجر رجلاً مشركاً هادياً خِرِّيتاً" (3). والخريت: الماهر
بالهداية، وَأْتَمَنَهُ على نفسه وماله.
وكانت خُزَاعَةُ عَيْبَةً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- مسلمُهم وكافرُهم (4).
وإذا أمكنه أنْ يستطبّ مسلماً؛ فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله، فلا
ينبغي أن يَعْدِلَ عنه. وأمّا إِذا احتاج إِلى ائتمان الكتابيّ أو
استطبابه؛ فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهيّ عنها، وإِذا
خاطبه بالتي هي أحسن كان حسَناً؛ فإِنّ الله -تعالى- يقول: {ولا تجادلوا
أهل الكتاب إِلا
__________
(1) انظر "فقه السّنّة" (1/ 492).
(2) انظر "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 94).
(3) أخرجه البخاري: 3905.
(4) أخرجه البخاري: 2731، 2732 بلفظ: "وكانوا عيبةَ نُصْح رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (5/ 337): "العَيبة: ما توضع فيه الثياب
لحِفظها؛ أي: أنهم موضع النصح له والأمانة على سرّه، كأنّه شبّه الصدر
-الذي هو مستودع السر- بالعيبة التي هي مستودع الثياب".
(4/14)
بالتي هي أحسن إِلا الذين ظلموا منهم} (1)
". انتهى كلامه.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون جواز تطبيب الكافرِ المسلمَ؛ إِذا لم
يُتهم، وكان غير مظنون به الريبة؟ فأجاب: نعم.
هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل؟
(2)
عن رُبَيِّعَ بنتِ مُعوِّذ قالت: "كنّا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نسقي القوم، ونخدُمهم، ونَرُدُّ القتلى والجرحى إِلى
المدينة" (3).
العلاج بالرُّقى:
عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كان يُعوِّذ بعض أهله؛ يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهمّ ربَّ الناس! أذهب
الباس، واشفه -وأنت الشافي، لا شفاءَ إِلا شفاؤك- شفاءً لا يغادر سَقَماً"
(4).
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي: أنّه شكا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجَعاً، يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضع يدك على الذي تَألَمُ من جسدك،
وقل: باسم الله؛ ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شرّ ما أجد
وأحاذر" (5).
__________
(1) العنكبوت: 46.
(2) هذا العنوان من "صحيح البخاري".
(3) أخرجه البخاري: 5679.
(4) أخرجه البخاري: 5743، ومسلم: 2191.
(5) أخرجه مسلم: 2202.
(4/15)
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاده في مرضه، فقال
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم اشف سعداً، اللهم
اشف سعداً ثلاث مِرارٍ" (1).
وعن محمد بن سالم: حدَّثنا ثابت البُناني قال: قال لي: يا محمد! إِذا
اشتكيت؛ فضع يدك حيث تشتكي، ثمّ قل: "بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من
شرِّ ما أجد من وجعي هذا، ثمّ ارفع يدك، ثمّ أعد ذلك وتراً؛ فإِن أنس بن
مالك حدثني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّثه
بذلك" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من عاد مريضاً لم يحضر أجله، فقال عنده -سبع مِرار- أسأل
الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيَك؛ إِلا عافاه الله من ذلك المرض"
(3).
وعنه -رضي الله عنهما- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يعوِّذ الحسن والحسين ويقول: إِن أباكما كان يعوِّذ بها
إِسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامّة (4)،
__________
(1) أخرجه مسلم: 1628.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2838)، وانظر "الصحيحة" (1258).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2663)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1698)، وتقدّم.
(4) جاء في "النهاية": "إِنما وصف كلامه بالتمام؛ لأنه لا يجوز أن يكون في
شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس. وقيل: معنى التمام ها
هنا: أنها تنفع المتعوّذ بها وتحفظه من الآفات وتكفيه".
(4/16)
من كل شيطان وهامّة (1)، ومن كل عين لامّة
(2) " (3).
تحريم التمائم:
عن عقبة بن عامر الجُهَني -رضي الله عنه-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل إِليه رَهْطٌ (4)، فبايع تسعةً، وأمسَك عن واحد،
فقالوا: يا رسول الله! بايعت تسعة وتركت هذا؟! قال: إِن عليه تميمة، فأدخل
يده، فقطعها، فبايعه وقال: "من علّق تميمةً؛ فقد أشرك" (5).
"والتميمة: هي خرَزات كانت العرب تُعلّقها على أولادهم؛ يتقون بها العين في
زعمهم، فأبطلها الإِسلام". قاله ابن الأثير في "النهاية".
وقال بعض العلماء: "ثمّ توسّعوا فيها فسمَّوا بها كل عوذة".
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (331): "ومِنْ ذلك تعليق
بعضهم نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان! وتعليق بعض السائقين
نعلاً في مقدمة السيارة أو مؤخرتها، أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي
تكون أمام السائق من الداخل؛ كل ذلك من أجل العين زعموا!
__________
(1) واحدة الهوامّ ذوات السموم. وقيل: كلّ ما له سمّ يقتل؛ فأمّا ما لا
يقتل سمّه فيقال له؛ السوام. وقيل: المراد كل نسمة تهم بسوء. "فتح".
(2) قال الخطابي: المراد به: كلّ داء وآفة يُلِمّ بالإِنسان من جنون وخبل.
وقال أبو عُبيد: أصْله من: ألمَمت إِلماماً. "الفتح" أيضاً.
(3) أخرجه البخاري: 3371.
(4) الرهط: ما دون العَشَرة من الرجال؛ لا يكون فيهم امرأة. "مختار
الصحاح".
(5) أخرجه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح، وانظر "الصحيحة" (492).
(4/17)
وهل يدخل في (التمائم) الحُجُبُ التي
يعلقها بعض الناس على أولادهم أو على أنفسهم إِذا كانت من القرآن أو
الأدعية الثابتة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
للسلف في ذلك قولان؛ أرجحهما عندي المنع؛ كما بيّنتُه فيما علّقته على
"الكَلِم الطيب" لشيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- (رقم التعليق:
34) ".
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنّ الرُّقَى (1) والتمائم والتّوَلة (2)
شرك" (3). وانظر تعليق شيخنا -رحمه الله- على الحديث (492) من "الصحيحة".
عن عيسى -وهو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى- قال: دخلْت على عبد الله ابن
عُكيم أبي معبد الجهني أعوده، وبه حُمرة، فقلت: ألا تُعلّق شيئاً؛! قال:
الموت أقرب من ذلك، قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"من تَعَلَّق شيئاً وُكِّلَ إِليه" (4).
__________
(1) الرُّقى: جمع رُقْيَة: العُوذة التي يُرقَى بها صاحب الآفة، كالحمى
والصّرَع وغير ذلك من الآفات". وانظر "النهاية"
وقال شيخنا -رحمه الله-: "هي -هنا- كلّ ما فيه الاستعاذة بالجنّ، أو لا
يفهم معناها، مِثل كتابة بعض المشايخ من العجم على كتابهم لفظة (يا كبيكج)؛
لحفظ الكتب من الأرَضة زعموا! ".
(2) التّوَلَة -بكسر التاء وفتح الواو-: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر
وغيره؛ جعله من الشرك؛ لاعتقادهم أنّ ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدّره الله
-تعالى-".
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3288)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2845) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (331)، و"غاية المرام" (298).
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1691) وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه
الله- في "غاية المرام" (297).
(4/18)
التوقِّي من العدوى:
عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطاعون رِجْز -أو عذاب أرسل على بني إِسرائيل- أو
على من كان قبلكم - فإِذا سمعتم به بأرض؛ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع
بأرض وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه" (1).
وعن الشَّريد بن سُوَيْد، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم (2)، فأرسل إِليه
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا قد بايعناك فارجع"
(3).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا تُوردوا المُمْرضَ (4) على المُصِحّ" (5).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" -تحت الحديث (971) -: "واعلم أنه لا
تعارض بين هذين الحديثين وبين أحاديث: "لا عدوى ... " (6) المتقدّمة
__________
(1) أخرجه البخاري: 5728 ومسلم: 2218، واللفظ له.
(2) أي: مصاب بالجذام، وهو علّة تتأكل منها الأعضاء وتتساقط، وانظر
"الوسيط".
(3) أخرجه مسلم: 2231.
(4) قال النووي -رحمه الله- (14/ 217): "قال العلماء: المُمْرِضُ: صاحب
الإِبل المِرَاض، والمُصِحُّ: صاحب الإِبل الصحاح، فمعنى الحديث: لا يورد
صاحب الإِبل المراض إِبله على إِبل صاحب الإِبل الصحاح؛ لأنّه ربما أصابها
المرض بفعل الله -تعالى- وقدَره الذي أجرى به العادة، لا بطبعها؛ فيحصل
لصاحبها ضرر بمرضها، وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك؛ باعتقاد العدوى بطبعها؛
فيكفر؛ والله أعلم".
(5) أخرجه البخاري: 5774، ومسلم: 2221.
(6) إِشارة إِلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا
طِيَرة" أخرجه البخاري: 5272، ومسلم: 2223.
(4/19)
برقم (781 - 789)؛ لأنّ المقصود بهما
إِثبات العدوى، وأنها تنتقل بإِذن الله - تعالى- من المريض إِلى السليم،
والمراد بتلك الأحاديث نفي العدوى التي كان أهل الجاهلية يعتقدونها، وهي
انتقالها بنفسها دون النظر إِلى مشيئة الله في ذلك؛ كما يرشد إِليه قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: "فمن أعدى الأول؟ " (1)
فقد لفَت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظر الأعرابي بهذا
القول الكريم إِلى المسبِّب الأول؛ ألا وهو الله -عزّ وجلّ- ولم ينكر عليه
قوله: "ما بال الإِبل تكون في الرّمل كأنها الظباء، فيخالطها الأجرب
فيجربها"؟! بل إِنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقره على هذا
الذي كان يشاهده، وإنما أنكر عليه وقوفه عند هذا الظاهر فقط بقوله له: "فمن
أعدى الأوّل؟! ".
وجملة القول: أنّ الحديثين يثبتان العدوى، وهي ثابتة تجربةً ومشاهدةً،
__________
(1) والحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إِنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى ولا صَفَر ولا هامة"، فقال
أعرابي: يا رسول الله! فما بال إِبلي تكون في الرَّمل؛ كأنها الظِّباء،
فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول؟! " أخرجه
البخاري: 5717، ومسلم: 2220.
والطِّيَرة: التشاؤُم بالشيء؛ وانظر تفصيل الشرح -إِن شئت- في كتابي "شرح
صحيح الأدب المفرد" (3/ 39)، وجاء في "النهاية" في شرح كلمة صَفَر:
"كانت العرب تزعم أن في البطن حيّة يقال لها: الصَّفر، تصيب الإِنسان إِذا
جاع وتؤذيه، وأنها تُعدي، فأبطل الإِسلام ذلك. وقيل: أراد به النسيء الذي
كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخير المحرَّم إِلى صَفَر، ويجعلون صَفر
هو الشهر الحرام، فأبطله".
والهامة: الرأس، واسم طائر، وهو المراد في الحديث، وذلك أنّهم كانوا
يتشاءمون بها، وهي من طير الليل. "النهاية" أيضاً.
(4/20)
والأحاديث الأخرى لا تنفيها؛ وإِنما تنفي
عدوى مقرونة بالغفلة عن الله -تعالى- الخالق لها.
وما أشبه اليوم بالبارحة! فإِن الأطباء الأوربيين في أشد الغفلة عنه
-تعالى- لشركهم وضلالهم، وإيمانهم بالعدوى على الطريقة الجاهلية! فلهؤلاء
يقال: "فمن أعدى الأول؟! ".
فأمّا المؤمن الغافل عن الأخذ بالأسباب؛ فهو يُذكَّر بها، ويقال له -كما في
حديث الترجمة-: "لا يورد الممرض على الصح"؛ أخذاً بالأسباب التي خلَقها
الله -تعالى- وكما في بعض الأحاديث المتقدّمة (1): "وَفِرَّ من المجذوم
فرارَك من الأسد" ... ".
وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 284): "وسُئل عن رجل مبتلى، سكَن في دارٍ بين
قوم أصحَّاء، فقال بعضهم: لا يمكننا مجاورتك، ولا ينبغي أن تجاور الأصحاء،
فهل يجوز إِخراجه؟
فأجاب: نعم؛ لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء، فإِن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يورد ممرض على مُصح"؛ فنهى صاحب
الإِبل الراض أن يوردها على صاحب الإِبل الصحاح، مع قوله: "لا عدوى ولا
طِيَرة"، وكذلك روي أنه لما قدم مجذوم ليبايعه، أرسل إِليه بالبيعة، ولم
يأذن له في دخول المدينة".
ذكر الموت والاستعداد له بالعمل:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاءه رجل
__________
(1) إِشارة إِلى الحديث المتقدّم في "الصحيحة" (780) وفيه: "واتقوا المجذوم
كما يُتّقى الأسد".
(4/21)
من الأنصار، فسلّم على النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قال: يا رسول الله! أيّ المؤمنين أفضل؟
قال: "أحسنهم خُلُقاً، قال: فأيّ المؤمنين أَكْيَسُ (1)؟ قال: أكثرهم للموت
ذِكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أكثِروا ذِكر هاذِمَ (3) اللذات" (4).
وقال البخاري -رحمه الله- في "صحيحه": (من استعدَّ الكفن في زمن النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يُنكر عليه) (5)، ثمّ ساق
بإِسناده حديث (1277) عن سهل -رضي الله عنه- "أنّ امرأة جاءت النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببُردة منسوجة فيها حاشيتُها (6)،
__________
(1) أكيس: أي: أعقل؛ "النهاية".
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3435) وغيره، وانظر "الصحيحة"
(1384).
(3) أي: قاطع.
(4) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3434)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1720)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1877)، وصححه شيخنا -رحمه
الله- في "الإِرواء" (682).
(5) انظر منه (كتاب الجنائز) (باب 28).
(6) قال الداودي: "يعني: أنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية. وقال غيره:
حاشية الثوب هُدْبُهُ؛ فكأنه قال: إِنها جديدة لم يقطع هدبها، ولم تلبس
بعد. وقال القزاز: حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب" "فتح".
وجاء في "النهاية": "وحاشية كل شيء جانبه وطرفه".
(4/22)
أتدرون ما البُردة (1)؟ قالوا: الشَّمْلة
(2)، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي، فجئت لأكْسَوَكَها، فأخذها النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محتاجاً إِليها، فخرج إِلينا وإنها
إِزاره، فحسّنها فلان، فقال: اكسُنيها ما أحسنها!
قال القوم: ما أحسنت، لبسها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مُحتاجاً إِليها ثمّ سألته وعلمت أنه لا يرُدُّ! قال: إِني -والله- ما
سألته لألبسها، إِنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه".
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخلت على أبي بكر -رضي الله عنه- فقال:
في كم كفَّنْتم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: في
ثلاثة أثواب بيضٍ سَحولية (3)؛ ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أيّ
يوم توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: يومَ
الاثنين. قال: فأيّ يوم هذا؟ قالت: يوم الاثنين. قال: أرجو فيما بيني وبين
الليل، فنظر إِلى ثوب عليه كان يُمرَّض فيه، به رَدْعٌ (4) من زعفران؛
فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين فكفّنوني فيهما. قلت: إِنّ هذا
خَلَق! قال: إِن الحيّ أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمُهْلة (5)، فلم
يُتوفَّ حتى
__________
(1) و (2) البُردة: كساء أسود مربّع، يلبسه الأعراب. والشملة: كساء يُشتمل
به. قاله الكرماني. وجاء في "الفتح" (3/ 143): "وفي تفسير البردة بالشملة
تجوُّز؛ لأن البردة كساء والشملة ما يشتمل به؛ فهي أعمّ، لكن لما كان أكثر
اشتمالهم بها؛ أطلقوا عليها اسمها".
(3) منسوبة إِلى سَحُول -بفتح المهملة وضمّها- قرية باليمن. قاله الكرماني.
(4) الرَّدعْ: هو لَطْخ وأثر لم يعمّه كلّه: ملتقطاً من "شرح الكرماني"
و"الفتح".
(5) المُهْلة؛ أي: القيح والصديد الذي يذوب فيسيل من الجسد. "النهاية".
(4/23)
أمسى من ليلة الثلاثاء، ودُفِنَ قبل أن
يصبح" (1).
جاء في "المنتقى شرح موطَّإِ مالك" (2/ 461): "سؤاله -رضي الله عنه- عائشة
لما كانت أعلم الناس بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنّه
مات في يومها وفي بيتها، ووليت أمره، واهْتبلَتْ به، فكان يرجع في ذلك
إِليها، وسألها أبو بكر -رضي الله عنه- في مرضه استعداداً للموت، ولتنظر في
كفنه وأمره، ويجري ذلك كلّه على اختياره من الاقتداء برسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
فضل طول العمر مع حُسن العمل:
عن أبي بَكْرة -رضي الله عنه-: أنّ رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟
قال: "من طال عمره وحسن عمله، قال: فأي الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء
عمله" (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أنبئكم بخياركم؟! قالوا: بلى. قال: "خياركم:
أطولكم أعماراً وأحسنكم أخلاقاً" (3).
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: "بينما نحن مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذ بَصُرَ بجماعة فقال: علامَ اجتمع
عليه هؤلاء؟! قيل: على قبر يحفرونه. قال: ففزع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَدَرَ بين يدي أصحابه مسرعاً، حتى
__________
(1) أخرجه البخاري: 1387.
(2) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1899)، والدارمي.
(3) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة" (1298).
(4/24)
انتهى إِلى القبر فجثا عليه. قال:
فاستقبلتُه من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه، ثمّ
أقبل علينا، قال: "أي إِخواني! لِمثل اليوم فأعدّوا" (1).
طلب الموت بالمدينة:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال لي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من استطاع أن يموت بالمدينة فَلْيَمُتْ بها؛ فإِني
أشفع لمن يموت بها" (2).
وعن سُبيعة الأسلمية -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإِنّه
لا يموت بها أحد إلاَّ كنتُ له شفيعاً -أو شهيداً- يوم القيامة" (3).
وعن حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- قالت: سمعت عمر يقول: "اللهم ارزقني
شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -" (4).
موت الفَجأة (5):
عن عُبَيْد بن خالد السُّلَمِيِّ -رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وابن ماجه، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في
"الصحيحة" (1751).
(2) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (3076) وغيرهما.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" وغيره، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"
(1196).
(4) أخرجه البخاري: 1890.
(5) الفَجأة: البغتة من غير تقدّم سبب، كما في "النهاية".
(4/25)
قال: "موت الفجاة أخْذةُ أَسَفٍ (1) " (2).
وإنما سمّاه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا؛ لأنه لا
يترك المرء ليستعدّ ليوم المعاد بالتوبة وإعداد زاد الآخرة، ولم يمرض ليكون
كفّارة لذنوبه (3).
وبهذا ينبغي على المؤمن أن يكون مستعدّاً دائماً للموت، وأن يحرص على أداء
ما عليه من الحقوق.
أعمار أمّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أعمار أمّتى ما بين الستين إِلى السبعين، وأقلّهم من يجوز
ذلك" (4).
جاء في "المرقاة" (9/ 130): "وهذا محمول على الغالب؛ بدليل شهادة الحال،
فإِنّ منهم من لم يبلغ ستين، ومنهم من يجوز سبعين. ذَكره الطيبي -رحمه
الله-".
أجر شدّة الموت وسكراته:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مات النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وإنّه لَبْينَ حاقِنَتِي (5)
__________
(1) بفتح السين وروي بكسرها. "عون" (8/ 260).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2667)، وانظر "المشكاة" (1611).
(3) "المرقاة" (4/ 77) -بتصرّف يسير-.
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2815، 1900)، وابن ماجه "صحيح سنن
ابن ماجه" (3414)، وانظر "الصحيحة" (757).
(5) الفقرة من التَّرْقُوة -عظمة مشرفة بين ثغرة النحر والعاتق- وحبل
العنق. "شرح الكرماني".
(4/26)
وذاقِنَتي (1)، فلا أكره شدة الموت لأحدٍ
أبداً بعد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
ما يجب على المريض (3)
1 - على المريض أنْ يرضى بقضاء الله، ويصبر على قَدَره، ويُحسن الظنَّ
بربه، ذلك خير له.
فعن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "عجباً لأمر المؤمن، إِنّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ
إلاَّ للمؤمن: إِنْ أصابته سرَّاءُ شكَر؛ فكان خيراً له، وإنْ أصابته
ضرَّاءُ صبَر؛ فكان خيراً له" (4).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يموتَنَّ أحدكم إِلا وهو
يُحسن بالله الظنّ" (5).
2 - وينبغي عليه أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يخافُ عقاب الله على ذنوبه،
ويرجو رحمة ربّه.
فعن أنس -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله!
وأخاف ذنوبي، فقال رسول
__________
(1) الذاقنة: الذَّقَن، وقيل طرف الحُلقوم. وقيل: ما يناله الذَّقَن من
الصَّدر. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 4446. وعند الترمذي وغيره: "لا أغبط أحداً بهون موت؛
بعد الذي رأيت من شدّة موت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-". وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "مختصر الشمائل المحمدية" (رقم 325).
(3) عن "أحكام الجنائز" لشيخنا الألباني -رحمه الله- بتصرّف.
(4) أخرجه مسلم: 2999.
(5) أخرجه مسلم: 2877.
(4/27)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: لا يجتمعان في قلب عبد في مِثل هذا الموطن؛ إِلا أعطاه الله ما يرجو،
وآمَنَهُ مما يخاف" (1).
قال النووي -رحمه الله- (17/ 210): "قال العلماء: معنى حُسن الظنّ بالله
-تعالى-: أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفاً
راجياً، ويكونان سواءً.
وقيل: يكون الخوف أرجح، فإِذا دنت أمارات الموت؛ غلَّب الرجاءَ أو
مَحَضَهُ؛ لأن مقصود الخوف الانفكاك عن المعاصي والقبائح، والحرصُ على
الإِكثار من الطاعات والأعمال؛ وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب
إِحسان الظن المتضمن للافتقار إِلى الله -تعالى- والإِذعان له".
3 - ومهما اشتد به المرض؛ فلا يجوز له أن يتمّنى الموت؛ لحديث أمّ الفضل
-رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
دخل عليهم، وعباسٌ عمّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يشتكي، فتمنّى عباسٌ الموتَ، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -:
يا عمّ! لا تتمنَّ الموت؛ فإِنّك إِن كنت مُحسناً؛ فأنْ تُؤخّرَ -تزدادُ
إِحساناً إِلى إِحسانك- خيرٌ لك، وإنْ كنت مسيئاً، فأن تُؤخرَ
-فَتَسْتَعْتِبَ (2) من إِساءتك- خيرٌ لك، فلا تتمنَّ الموت" (3).
__________
(1) أخرجه الترمذي وسنده حسن، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3436)
وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (1051)، و"المشكاة" (1612).
(2) أي: ترجع عن الإِساءة، وتطلب الرضا. "النهاية".
(3) أخرجه أحمد، وأبو يعلى، والحاكم، وقال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام
الجنائز" (ص 12): " .. صحيح على شرط البخاري".
(4/28)
فإِن كان لا بدّ فاعلاً فلْيكل الأمر لله؛
لحديث أنس -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "لا يتمنَّيَنَّ أحدكم الموت لضُّرِّّ نزَل به، فإِنْ كان لا بُدّ
متمنياً للموت؛ فليقل: اللهمّ أحْيني ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتوفّني
إِذا كانت الوفاةُ خيراً لي" (1).
4 - ويجب عليه التوبة من ذنوبه والندم عليها؛ لعموم النصوص الآمرة بذلك،
وهو أشد ما يكون احتياجاً لها في حاله هذه.
5 - وإذا كان عليه حقوق؛ فليُؤدِّها إِلى أصحابها، إِنْ تيسَّر له ذلك؛
وإلا أوصى بذلك، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت
عنده مَظلِمَةٌ (2) لأخيه فَلْيتحلَّلْهُ منها؛ فإِنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا
درهم، من قبل أن يُؤخذ لأخيه من حسناته، فإِن لم يكن له حسنات؛ أُخِذ من
سيئات أخيه فطرِحت عليه" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "أتدرون ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفلسُ فينا من لا درهم
له ولا متاع.
فقال: إِنّ المفلس من أُمّتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة،
ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا،
فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإِنْ فَنِيَتْ حسناته قبل أن
يقضى ما عليه؛ أُخِذَ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمّ طُرح في النّار" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 6351، ومسلم: 2680.
(2) بفتح الميم وسكون الظاء المعجمة وكسر اللام؛ كما في "الفتح".
(3) أخرجه البخاري: 2449، 6534.
(4) أخرجه مسلم: 2581.
(4/29)
وعن جابر بن عبد الله: أنّه بلغه حديث عن
رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فابتعت (1)
بعيراً، فشددت إِليه رَحْلي شهراً، حتى قدمت الشام؛ فإِذا عبد الله بن
أُنَيْس، فبعثت إِليه أنّ جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد
الله؟ فقلت: نعم، فخرج فاعتنقني.
قلت: حديث بلغني لم أسمعه؛ خشيت أن أموت أو تموت، قال: سمعت النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يحشر الله العباد -أو النّاس-
عراةً غُرْلاً (2) بُهماً (3) قلنا: ما بُهْماً؟ قال: ليس معهم شيء (4)،
فيناديهم -بصوت يسمعه من بُعد (أحسبه قال) كما يسمعه من قُرْب-: أنا الملك،
لا ينبغي لأحد من أهل الجنّة يدخل الجنّة وأحد من أهل النّار يطلبه
بِمَظْلِمَةٍ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النّار وأحد من أهل
الجنَّة يطلبه بمظلِمة".
قلت: وكيف؟ وإنمّا نأتي الله عراةً بُهماً؟! قال: "بالحسنات والسيئات" (5)
" (6).
__________
(1) أي: اشتريت.
(2) غير مختونين.
(3) بُهماً: جمع بهيم، وهو في الأصل: الذي لا يُخالط لونهُ لونٌ سواه،
يعني: ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا؛ كالعمى
والعوَر والعرج، وغير ذلك، وإنما هي أجسادٌ مُصحَّة لخلود الأبد في الجنة
أو النار. "النهاية".
(4) لا تعارض بين قوله: ليس معهم شيء وما تقدّم في "النهاية" في تفسير
(بهماً)، فإِنّه يُحمل على عدم اصطحابهم أدنى شيء؛ حتى مُخالطة الألوانِ،
والله أعلم.
(5) أي: القصاص. وانظر للمزيد -إِن شئت- كتابي "شرح صحيح الأدب المفرد"
(746).
(6) أخرجه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" "صحيح الأدب المفرد" (746) =
(4/30)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "من مات وعليه ديْنٌ؛ فليس ثَمّ دينار ولا درهم، ولكنّها الحسنات
والسيئات" (1).
وفي لفظ: "الدَّين دَيْنان: فمن مات وهو ينوي قضاءه؛ فأنا وليُّه، ومن مات
وهو لا ينوي قضاءه؛ فذاك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينارٌ ولا درهم"
(2).
وقال جابر بن عبد الله: "لَمّا حضر أُحد؛ دعاني أبي من الليل، فقال: ما
أُراني إِلا مقتولاً في أول من يُقتل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإني لا أترك بعدي أعزَّ علي منك؛ غيرَ نفس رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن عَلَيَّ ديناً فاقضِ،
واستوصِ بأخواتك خيراً، فأصبحنا، فكان أوَّلَ قتيل ... " الحديث (3).
6 - ولا بُدّ من الاستعجال بمثل هذه الوصية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما حقُّ امرئٍ مسلم له شيء يوصي فيه؛ يبيت ثلاث
ليال إلاَّ ووصّيته عنده مكتوبة.
قال عبد الله بن عمر: ما مرّت عليّ ليلةٌ - منذ سمِعْتُ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
__________
= وإسناده حسن، وعلّقه البخاري في (كتاب العلم): "باب الخروج في طلب
العلم"، وانظر "السنة" (514) لابن أبي عاصم، و"الصحيحة" (1/ 301)، و
(3251).
(1) أخرجه الحاكم -والسّياق له- وابن ماجه، وأحمد من طريقين عن ابن عمر،
والأول صحيح، كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، والثاني حسن، كما قال المنذري.
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير"، وهو صحيح بما قبله، وانظر "أحكام الجنائز"
(ص 13).
(3) أخرجه البخاري: 1351.
(4/31)
ذلك- إِلا وعندي وصيّتي" (1).
جاء في "الروضة الندية" (1/ 405): "ويتخلّص عن كلّ ما عليه، ووجوب ذلك
معلوم، وإذا أمكن بإِرجاع كل شيء لمن هو له؛ من دين أو وديعة أو غصب أو غير
ذلك فهو الواجب، وإن لم يكن في الحال؛ فالوصية المفصَّلة هي أقل ما يجب،
وورد الأمر بالوصية وأنّه لا يحل لأحد أن يبيت إِلا ووصيته عند رأسه؛ كما
في الأحاديث الصحيحة" (2).
7 - ويجب أن يوصيَ لأقربائه الذين لا يرثون منه؛ لقوله -تبارك وتعالى-:
{كُتِب عليكم إِذا حَضَرَ أحدَكم الموتُ إِنْ ترك خيراً الوصيةُ للوالدَين
والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين} (3).
8 - وله أن يوصي بالثُّلث من ماله، ولا يجوز الزيادة عليه، بل الأفضل أن
يَنْقُصَ منه؛ لحديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ
بي، فقلت: إِني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إِلا ابنة،
أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا. فقلت بالشطر (4)؟ فقال: لا. ثم قال:
الثُّلثُ؛ والثلث كبير -أو كثير-! إِنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن
تذرهم عالةً (5) يتكفّفون النّاس (6)، وإنك لن تُنفق
__________
(1) أخرجه البخاري: 2738، ومسلم: 1627 - وهذا لفظه-.
(2) يشير إلى مثِل حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدّم.
(3) البقرة: 180.
(4) أي: النّصف.
(5) العالة: الفقراء.
(6) أي: يسألون الناس في أكفهم. "شرح النووي".
(4/32)
نفقةً -تبتغي بها وجه الله- إِلا أُجرت
بها، حتى ما تجعل في فِيِّ (1) امرأتك، فقلت: يا رسول الله! أُخَلَّفُ (2)
بعد أصحابي؟ قال: إِنك لن تخلّف فتعملَ عملاً صالحاً؛ إِلا ازددت به درجة
ورفعة، ثمّ لعلك أن تُخلّف حتى ينتفع بك أقوام ويُضَرَّ بك آخرون.
اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردَّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن
خَوْلة! يرثي له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنْ مات
بمكة" (3).
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "وَدِدْتُ أنّ الناس غضُّوا من الثُّلث
إِلى الربع في الوصيّة؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: الثلثُ كثير" (4).
9 - ويُشْهِد على ذلك رجلين عَدْلين مسلمين، فإِنْ لم يوجدا؛ فرجلين من غير
المسلمين، على أن يستوثق منهما عند الشك بشهادتهما؛ حسبما جاء بيانه في قول
الله -تبارك وتعالى-: {يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم إِذا حضر أحدَكم
الموتُ حين الوصيةِ اثنان ذوا عدلٍ منكم أو آخران من غيركم إِنْ أنتم ضربتم
في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيُقسمان بالله إِن
ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكْتُمُ شهادةَ اللهِ إِنّا
إِذاً لمن الآثمين * فإِنْ عُثر على أنّهما استحقا إثماً (5)
__________
(1) أي: في فمها.
(2) أي: أُخلّف بمكّة.
(3) أخرجه البخاري: 1295، ومسلم: 1628.
(4) أخرجه البخاري: 2743، ومسلم: 1629.
(5) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 15): "أي: فإِن اتّفق
الاطّلاع =
(4/33)
فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق
عليهم الأَوْلَيَان فيُقسمان بالله لَشَهَادتُنا أحقُّ مِنْ شَهَادتهما وما
اعتدينا إِنّا إِذاً لمن الظَّالمين * ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على
وجهها أو يخافوا أن تُرَدَّ أيمْانٌ بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله
لا يهدي القوم الفاسقين (1)} " (2).
10 - وأما الوصية للوالدين والأقرَبين الذين يرثون من الموصي؛ فلا تجوز؛
لأنها منسوخة بآية الميراث، وبيّن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أتمَّ البيان في خطبته في حجة الوداع؟ فقال: "إِنّ الله قد
أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" (3).
11 - ويحرُمُ الإِضرار في الوصية، كأنْ يوصيَ بحرمان بعض الورثة من حقّهم
من الإِرث، أو يُفضّل بعضهم على بعض فيه؛ لقوله -تبارك وتعالى-: {للرّجال
نصيب مّما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيبٌ مما ترك
__________
= على أنّ الشاهدين المقسِمَين استحقا إِثماً بالكذب والكتمان في الشهادة،
أو بالخيانة وكتمان شيء من التركة في حالة ائتمانهما عليها؛ فالواجب -أو
فالذي يُعمل لإحقاق الحقّ - هو أن تردّ اليمين إِلى الورثة؛ بأن يقوم رجلان
آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له، الذين استُحقّ ذلك الأِثمُ
بالإِجرام عليهم والخيانة لهم. كذا في "تفسير المنار"، وراجع تمام البحث
فيه (7/ 222) ".
(1) المائدة: 106 - 108.
(2) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 15): "فالناسخ إِنما هو
القرآن، والسُّنّة إِنما هي مبينة لذلك كما ذكرنا، وكما هو واضح من خطبته -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ خلافاً لما يظنُّه كثيرون أن الحديث
هو الناسخ".
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2494) والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1721)، والبيهقي، وأشار لتقويته، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 15).
(4/34)
الوالدان والأقربون ممّا قلّ منه أو كثُر
نصيباً مفروضاً} (1).
وفي الأخيرة منها: {من بعد وصيّةٍ يُوصَى بها أو دَيْنٍ غير مُضَارٍّ
وصيّةً من الله والله عليم حليم} (2).
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضرر ولا ضرار، من ضارَّ
ضارَّه الله، ومن شاقَّ شاقَّه الله" (3).
12 - والوصيّة الجائرة باطلة مردودة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" (4).
ولحديث عمران بن حُصَيْن: "أنّ رجلاً أعتق عند موته ستة رَجْلَةٍ (5) [لم
يكن له مال غيرهم] فجاء ورثته من الأعراب، فأخبروا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما صنع.
قال: أَوَ فَعَلَ ذلك؟! قال: لو علمْنا إِن شاء الله ما صلّينا عليه قال:
فأقرع بينهم؛ فأعتق منهم اثنين (6)، وردَّ أربعةً في الرِّق" (7).
__________
(1) النساء: 7.
(2) النساء: 12.
(3) أخرجه الدارقطني، والحاكم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري؛ وحسّنه شيخنا -
رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 16)، وانظر "الإِرواء" (896).
(4) أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718.
(5) جمع رجل.
(6) يلاحظ أنّ الإِعتاق يساوي الثلث.
(7) أخرجه أحمد، ومسلم: 1668 بنحوه، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 17).
(4/35)
13 - ولمَّا كان الغالبُ على كثير من الناس
في هذا الزمان الابتداعَ في دينهم - ولا سيّما فيما يتعلّق بالجنائز- كان
من الواجب أن يوصي المسلم بأن يجهَّز ويُدفن على السنة؛ عملاً بقوله
-تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وَقودها النّاس
والحجارة عليها ملائكة غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرَهم ويفعلون ما
يُؤمرون} (1).
ولذلك كان أصحاب رسول الله يوصون بذلك، والآثار عنهم بما ذكرنا كثيرة، فلا
بأس من الاقتصار على بعضها:
أ- عن عامر بن سعد بن أبي وقاص: أنّ أباه قال في مرضه الذي هلك فيه:
"ألْحِدُوا (2) لي لحداً، وانْصِبوا عليَّ اللّبن نصباً، كما صُنِعَ برسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
ب- عن أبي بُرْدَةَ قال: "أوصى أبو موسى -رضي الله عنه- حين حضره الموت
قال: إِذا انطلقتم بجنازتي؛ فأسرعوا بي المشي، ولا تُتْبِعوني بمِجمَر (4)،
ولا تجعلُنَّ على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلُنًّ على قبري
بناءً، وأُشهدكم أني بريء من كل حالقةٍ، أو سالقة (5)، أو خارقة (6)!،
قالوا: سمعت
__________
(1) التحريم: 6.
(2) اللحد: هو الشق تحت الجانب القبلي من القبر. "شرح النووي".
(3) أخرجه مسلم: 966.
(4) هو الذي يوضع فيه النّار للبَخُور. "النهاية".
(5) هي التي ترفع صوتها عند المصيبة.
(6) أي: شاقّة وممزقة.
(4/36)
فيه شيئاً؟ قال: نعم؛ من رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (1).
جـ - عن حذيفة قال: "إِذا أنا متُّ؛ فلا تُؤْذِنوا (2) بي أحداً؛ فإِنّي
أخاف أن يكون نَعْياً (3)، وإنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ينهى عن النعي" (4).
تلقين المحتضر (5):
فإِذا حضَره الموت؛ فعلى من يكون عنده أمور:
1 - أن يلقّنوه الشهادة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"لقنِّوا موتاكم: لا إِله إِلا الله" (6).
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان آخرُ كلامِهِ لا إِله إِلا الله؛ دخل
الجنّة" (7).
عن عثمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من مات وهو يعلم
__________
(1) أخرجه أحمد، والبيهقي -بهذا التمام- وابن ماجه بسند حسن.
(2) أي: تُعلموا.
(3) النعي؛ قال في "النهاية": "نَعَى الميّت ينعاه نعياً ونَعِيّاً: إِذا
أذاع موته وأخبر به وإذا ندبَه.
(4) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن".
(5) جاء في "الروضة الندية" (1/ 399): "وتلقين المحتضر؛ وهو في آخر يوم من
أيام الدنيا، وأول يوم من أيّام الآخرة".
(6) أخرجه مسلم: 916.
(7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2673)، وانظر "الإِرواء" (687)،
و"المشكاة" (1621).
(4/37)
أنه لا إِله إِلا الله؛ دخل الجنّة" (1).
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "من مات لا يشرك بالله شيئاً؛
دخل الجنة" (2).
وتلقين المحتضر هو المشروع، أمّا تلقين الرجل بعد موته؛ فلا يشرع.
وجاء في "سنن الترمذي" في (كتاب الجنائز): (باب تلقين المريض عند الموت
والدّعاء له).
قال أبو عيسى -رحمه الله-: "وقد كان يُستحبّ أن يُلقّن المريض عند الموت
قول: لا إله إِلا الله ... ".
وليس التلقينُ ذِكرَ الشهادة بحضرة الميت وتسميعَها إِياه، بل هو أمره بأنْ
يقولها؛ خلافاً لما يظنُّ البعض، والدليل حديث أنس -رضي الله عنه-: "أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاد رجلاً من الأنصار،
فقال: يا خال! قل: لا إِله إِلا الله، فقال: أخالٌ أم عمٌّ؟ فقال: بل خال،
فقال: فخير لي أن أقول: لا إِله إِلا الله؟ فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم" (3).
جاء في "سِيَر أعلام النبلاء" (13/ 76): "قال أبو جعفر محمّد بن علي
ورّاق أبي زُرعة: حضَرنا أبا زرعة بـ (ماشهران)، وهو في السَّوْق (4)،
وعنده أبو
__________
(1) أخرجه مسلم: 26.
(2) أخرجه مسلم: 93.
(3) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح على شرط مسلم.
(4) أي: النّزع، جاء في "الوسيط": "ساق المريض سَوْقاً وسياقاً ... شرع في
نزْعروح".
(4/38)
حاتم، وابن وارة، والمنذر بن شاذان وغيرهم،
فذكروا حديث التلقين: "لقّنوا موتاكم: لا إله إِلا الله"، واستحْيَوْا من
أبي زُرعة أن يلقّنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث.
فقال ابن وارة: حدَّثنا أبو عاصم: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح ..
وجعل يقول: ابن أَبِي .. ولم يجاوزه. وقال أبو حاتم حدثنا بُندار: حدثنا
أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر [عن صالح] .. ولم يجاوز، والباقون سكتوا،
فقال أبو زُرعة وهو في السَّوْق: حدثنا بُندار: حدثنا أبو عاصم: حدثنا عبد
الحميد عن صالح بن أبي عَريب عن كثير بن مُرة عن معاذ بن جبل قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان آخرُ كلامِهِ: لا
إِله إِلا الله؛ دخل الجنّة"، وتوفي رحمه الله.
رواها أبو عبد الله الحاكم وغيره عن أبي بكر محمد بن عبد الله الورّاق
الرّازي عن أبي جعفر بهذا".
وقال حُسين الجُعفي: دخلت على الأعمش أنا وزائدة في اليوم الذي مات فيه،
والبيت مُمتلئ من الرجال، إِذ دخل شيخ، فقال: سبحان الله! ترون الرجل وما
هو فيه وليس منكم أحد يُلقنّه؟!
فقال الأعمش هكذا، فأشار بالسبّابة وحرّك شفتيه" (1).
2 - أن يدعوا له، ولا يقولوا في حضوره إلاَّ خيراً.
__________
(1) رواه عبد الله بن أحمد في كتاب أبيه "العلل ومعرفة الرجال" (2/ 76/462)
بسند صحيح.
(4/39)
عن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا حضرتم المريض -أو
الميت- فقولوا خيراً؛ فإِنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون" (1).
3 - وأمّا قراءة سورة {يس} عنده، وتوجيهه نحو القبلة؛ فلم يصحّ فيه حديث،
بل كره سعيد بن المسيِّب توجيهه إِليها، وقال: أليس الميت امرأً مسلماً؟!
وعن زُرعة بن عبد الرحمن: أنه شهد سعيد بن المسيِّب في مرضه؛ وعنده أبو
سلمة بن عبد الرحمن؛ فغُشي على سعيد، فأمر أبو سلمة أن يحوَّل فراشه إِلى
الكعبة، فأفاق، فقال: حوّلتم فراشي؟! فقالوا: نعم.
فنظر إِلى أبي سلمة فقال: أُراه بعلمك؟! فقال: أنا أمرتهم! فأمر سعيد أن
يعاد فراشه" (2) انتهى.
قلت: أمّا قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البيت
الحرام: "قِبلتكم أحياءً وأمواتاً" (3). فإِنه لا يفيد توجيه المحتضر، جاء
في "الروضة الندية" (1/ 400):
"لأنّ "المراد بقوله: "أحياءً" عند الصلاة، وبقوله: "أمواتاً" في اللحد،
والمحتضر حي غير مصلّ، فلا يتناوله الحديث؛ وإِلا لزم وجوب التوجه إِلى
القبلة على كل حي، وعدم اختصاصه بحال الصلاة! وهو خلاف الإِجماع ... ".
__________
(1) أخرجه مسلم: 919.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" بسند صحيح عن زُرعة.
(3) أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (690).
(4/40)
وأمّا حديث ابن أبي قتادة -رضي الله عنه-
الآتي؛ فلا يثبت؛ ولفْظه: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حين قدم المدينة؛ يسأل عن البراء بن معرور؟ فقالوا: تُوفّي،
وأوصى بثلثه لك يا رسول الله! وأوصى أن يوجه إِلى القبلة لما احتضر، فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصاب الفطرة، وقد رددت
ثلثه على ولده، ثمّ ذهب فصلّى عليه، فقال: "اللهم اغفر له، وارحمه، وأدخله
جنتك، وقد فعلت" (1).
ولا بأس في أن يَحْضُر المسلمُ وفاةَ الكافر ليعرض الإِسلام عليه؛ رجاءَ أن
يسلم؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كان غلام يهودي يخدم النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمرض، فأتاه النّبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم.
فنظر إِلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلم فخرج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار" (2).
ما على الحاضرين بعد موته
فإِذا قضى وأسلم الروح؛ فعليهم عدّة أشياء:
1 - أن يغمضوا عينيه، ويَدْعوا له أيضاً.
عن أمّ سلمة قالت: دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
على أبي سلمة وقد شَقَّ بصرُهُ (3)،
__________
(1) وفيه علّتان: الأولى: فيه نعيم بن حمّاد، ضعيف.
والثانية: الإِرسال، فإِنّ عبد الله بن أبي قتادة ليس صحابيّاً، وانظر
التفصيل في "الإِرواء" (689).
(2) أخرجه البخاري: 1356، وتقدّم مختصراً.
(3) أي: شخَص، وهو الذي حضره الموت، وصار ينظر إِلى الشيء لا يرتدّ إِليه
طرفه. "النووي".
(4/41)
فأغمضه ثمّ قال: "إِنّ الروح إِذا قبض تبعه
البصر، فضجّ ناس من أهله فقال: لا تَدْعوا على أنفسكم إلاَّ بخير؛ فإِنّ
الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، ثمّ قال: اللهمّ اغفر لأبي سلمة، وارفع
درجته في المهديين، واخْلُفْهُ في عقبه في الغابرين (1) واغفر لنا وله يا
رب العالمين! وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه" (2).
2 - أن يُغطّوه بثوب يستر جميع بدنه لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين تُوفّي سُجِّيَ (3)؛
بِبُرْد حِبَرَةٍ (4) " (5).
جاء في "الفتح" (3/ 114) في شرح (باب الدخول على الميت بعد الموت إِذا
أُدرج في أكفانه): "قال ابن رُشَيْد: موقع هذه الترجمة من الفقه: أن الموت
لمّا كان سبب تغيير محاسن الحي التي عهد عليها -ولذلك أُمر بتغميضه
وتغطيته-؛ كان ذلك مظنةً للمنع من كشْفه، حتى قال النَّخَعِيُّ: ينبغي أن
لا يطلع عليه إِلا الغاسل له ومن يليه. فترجم البخاري على جواز ذلك، ثمّ
أورد فيه ثلاثة أحاديث ... ".
وهذا في غير من مات مُحرماً، فأمّا المُحرم؛ فإِنّه لا يُغطى رأسه ولا
وجهه؛
__________
(1) أي: الباقين كقوله -تعالى-: {إِلا امرأته كانت من الغابرين} [الأعراف:
83]. "النووي".
(2) أخرجه مسلم: 920.
(3) سُجيّ؛ أي: غُطيّ وزناً ومعنى. "الفتح".
(4) الحِبرة: بكسر المهملة وفتح الموحدة؛ جاء في "النهاية": "الحبير من
البرود: ما كان مَوشيّاً مَخطّطاً، وهو بُرْد يمانٍ".
(5) أخرجه البخاري: 5814، ومسلم: 942.
(4/42)
لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:
"بينما رجل واقف بعرفة؛ إِذ وقع عن راحلته؛ فوقَصَتْه (1) -أو قال:
فأوقَصَتهُ-، قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه
بماء وسدْر، وكفّنوه في ثوبين، ولا تُحنّطوه (2) (وفي رواية: ولا
تُطيّبوه)، ولا تخمّروا (3) رأسه [ولا وجهه]؛ فإِنّه يُبعث يوم القيامة
مُلَبِّياً" (4).
3 - أن يُعجّلوا بتجهيزه وإخراجه إِذا بان موته.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "أسرعوا بالجنازة؛ فإِن تَكُ صالحة؛ فخير تقدمونها إِليه،
وإن يَكُ سوى ذلك؛ فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" (5).
4 - أن يدفنوه في البلد الذي مات فيه، ولا ينقلوه إِلى غيره؛ لأنّه يُنافي
الإِسراع المأمور به في حديث أبي هريرة المتقدّم. ونحوه حديث جابر بن عبد
الله -رضي الله عنهما- قال: "لما كان يوم أحد؛ جاءت عمتي بأبي لتدفنه في
مقابرنا، فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
رُدُّوا القتلى إِلى مضاجعها" (6).
__________
(1) الوقص: كسْر العُنق.
(2) ولا تُحنّطوه: هو بالحاء المهملة؛ أي: تُمِسُّوه حَنوطاً والحَنوط
-بفتح الحاء- ويقال له: الحِناط -بكسر الحاء- وهو أخلاط من طيب تجمع للميت
خاصة، لا تستعمل في غيره. "النووي".
(3) أي: تغطّوا.
(4) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وانظر لأجل الزيادات "أحكام
الجنائز" (ص 22).
(5) أخرجه البخاري: 1315، ومسلم: 944.
(6) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1401)، وأبو داود "صحيح سنن =
(4/43)
ولذلك قالت عائشة -لما مات أخٌ لها بوادي
الحبشة فحُمِل من مكانه-: "ما أجدُ في نفسي -أو يُحْزنني في نفسي- إِلا
أنّي وَدِدْتُ أنه كان دُفن في مكانه" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 25): "قال النووي في "الأذكار": "وإذا أوصى بأن
يُنقل إِلى بلدٍ آخر؛ لا تُنَفَّذ وصيّته؛ فإِنّ النقل حرام على المذهب
الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون، وصرّح به المحقّقون" ... " انتهى.
قال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 464): "يستحب أن يدفن الميت في
البلد الذي توفي فيه، على هذا كان الأمر على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعليه عوامُّ أهل العلم، وكذلك تفعل العامّة
في عامة البلدان، ويكره حمل الميت من بلد إِلى بلد يخاف عليه التغيّر فيما
بينهما".
5 - أن يبادر بعضهم لقضاء دينه من ماله، ولو أتى عليه كُلِّه، فإِن لم يكُن
له مال؛ فعلى الدولة أن تؤدي عنه إِن كان جَهِدَ في قضائه، فإِن لم تفعل،
وتطوّع بذلك بعضهم؛ جاز، وفي ذلك أحاديث:
الأوّل: عن سعد بن الأطول؛ "أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً،
فأردت أن أنفقها على عياله. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إِن أخاك مُحْتَبِس بدينه، فاقْضِ عنه، فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه
إِلا دينارين، ادَّعَتْهُما امرأة وليس لها
__________
= أبي داود" (2710)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1230)، والنسائي "صحيح
سنن النسائي" (1893).
(1) أخرجه البيهقي بسند صحيح.
(4/44)
بيّنَة! قال: فأعْطِها فإِنها مُحِقّة"
(1).
الثاني: عن سَمُرَة بن جُنْدُبٍ: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلّى على جنازة (وفي رواية: صلّى الصُّبح) فلمّا انصرف قال:
أهاهنا من آل فلان أحدٌ؟ [فسكت القوم، وكان إِذا ابتدأهم بشيء سكتوا]، فقال
ذلك مراراً [ثلاثاً؛ لا يجيبه أحد]، [فقال رجل: هُو ذا]، قال: فقام رجل
يجرُّ إِزاره من مُؤَخَّر الناس، [فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما منعك في المرّتين الأولين أن تكون أجبتني؟] أما
إِنّي لم أُنوّه باسمك إِلا لخير، إِنّ فلاناً -لرجل منهم- مأسور بدينه [عن
الجنة، فإِنْ شئتم فافْدوه، وإن شئتم فأسلموه إِلى عذاب الله]!
فلو رأيت أهله ومن يتحرّون أمره! قاموا فقضوا عنه، [حتى ما أحدٌ يطلبه
بشيء] " (2).
الثالث: عن جابر بن عبد الله قال: "مات رجل، فغسّلناه وكفّناه وحنَّطناه،
ووضعناه لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيثُ توضع
الجنائز، عند مقام جبريل، ثمّ آذنّا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالصلاة عليه، فجاء معنا [فتخطى] خُطىً، ثمّ قال: لعل على
صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم، ديناران، فتخلف، [قال: صلّوا على صاحبكم]، فقال
له رجل منا -يُقال له: أبو قتادة-: يا رسول الله! هما علّي.
فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: هما عليك وفي
مالك، والميّت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلّى عليه فجعل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا لقي أبا قتادة يقول (وفي
__________
(1) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1973) وغيرهما.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2858)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4368)، وغيرهما؛ وانظر "أحكام الجنائز" (ص 26).
(4/45)
رواية: ثمّ لقيه من الغد فقال:) ما صنعتِ
الديناران؟ [قال: يا رسول الله! إنّما مات أمس] حتى كان آخر ذلك (وفي
الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟) قال: قد قضيتهما
يا رسول الله! قال: الآن حين بردت عليه جلده (1) " (2).
فائدة: قال شيخنا -رحمه الله-: أفادت هذه الأحاديث أنّ الميت ينتفع بقضاء
الدّين عنه، ولو كان من غير ولده، وأنّ القضاء يرفع العذاب عنه، فهي من
جملة المُخصِّصات لعموم قوله تبارك وتعالى: {وأنْ ليس للإِنسان إِلا ما
سعى} (3)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا مات
الإِنسان انقطع عمله إلاَّ من ثلاث" (4).
الرابع: عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خطب؛ احمرَّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه؛ حتى
كأنّه منذر جيش، يقول: صبّحكم ومسّاكم ويقول: "بُعثتُ أنا والساعةُ
وكهاتين" ويقرن بين إِصبعيه السبابة (5) والوسطى، ويقول: أمّا بعد: فإِنّ
خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، ثمّ يقول أنا أولى
بكلِّ
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله-: "أي: بسبب رفع العذاب عنه بعد وفاء دينه".
(2) أخرجه الحاكم -والسياق له- والبيهقي، والطيالسي، وأحمد بإِسناد حسن؛
كما قال الهيثمي.
(3) النجم: 39.
(4) أخرجه مسلم: 1631.
(5) قال النووي: "سمّيت بذلك؛ لأنهم كانوا يشيرون بها عند السبّ".
(4/46)
مؤمن من نفسه؛ من ترك مالاً فلأهله، ومن
ترك دَيْناً أو ضَياعاً (1)؛ فإِليَّ وعليَّ" (2).
ما يجوز للحاضرين وغيرهم
ويجوز لهم كشف وجه الميّت، وتقبيله، والبكاء عليه ثلاثة أيام؛ وفي ذلك
أحاديث:
الأوّل: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "لما قُتل أبي؛ جعلت
أكشف الثوب عن وجهه أبكي، وينهونني، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لا ينهاني، فجعَلت عمّتي فاطمة تبكي، فقال النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظلّه
بأجنحتها حتى رفعتموه" (3).
الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قالت: "أقبل أبو بكر -رضي الله عنه- على فرسه من مسكنه
بالسُّنُح؛ حتى نزل فدخل المسجد فلم يُكلّم الناس حتى دخل على عائشة -رضي
الله عنها-، فتيممّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو
مُسجًّى ببرد حِبَرة- فكشف عن وجهه، ثمّ أكبّ عليه فقبّله [بين عينيه]، ثمّ
بكى فقال: بأبي أنت وأمّي يا نبي الله! لا يجمع الله عليك موتتين: أمّا
الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتَّها.
__________
(1) قال النووي: قال أهل اللغة: الضَّياع -بفتح الضاد-: العيال، قال ابن
قتيبة: أصْله مصدر ضاع يضيع ضَياعاً المراد: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي
ضَياع".
(2) أخرجه مسلم: 867.
(3) أخرجه البخاري: 1244، 1293، ومسلم: 2471.
(4/47)
قال أبو سلمة: فأخبرني ابن عباس -رضي الله
عنهما-: أنّ أبا بكر -رضي الله عنه- خرج؛ وعمر -رضي الله عنه- يكلِّم
الناس، فقال: اجلس، فأبى، فقال: اجلس، فأبى، فتشهد أبو بكر -رضي الله عنه-،
فمال إِليه الناس وتركوا عمر، فقال: أمّا بعد؛ فمن كان منكم يعبد محمّداً -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإِنّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإِنّ الله حيٌّ لا يموت،
قال الله -تعالى-: {وما محمدٌ إِلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإِن مات
أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلبْ على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئًا
وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144]!
فوالله لكأنَّ النّاس لم يكونوا يعلمون أنّ الله أنزل الآية حتى تلاها أبو
بكر - رضي الله عنه- فتلّقاها منه الناس، فما يُسمَع بشرٌ إِلا يتلوها"
(1).
الثالث: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قبّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان بن مظعون وهو ميّت، فكأني أنظر إِلى دموعه تسيل
على خديه" (2).
الرابع: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "دخلنا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سيف -القَين (3) - وكان ظِئراً (4)
لإِبراهيم -عليه السلام- فأخذ رسول
__________
(1) أخرجه البخاري: 1241، 1242، والزيادة للنسائي، كما في "أحكام الجنائز"
(ص 31).
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1456)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (788)، وانظر "المشكاة" (1623) و"الإِرواء" (693).
(3) القين: هو الحدّاد، ويُطلق على كلّ صانع، يُقال: قان الشيء: إِذا
أصلحه. "الفتح".
(4) ظئراً -بكسر المعجمة وسكون التحتانية المهموزة بعدها راء-؛ أي: موضعاً
=
(4/48)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إِبراهيم، فقبّله وشمّه، ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك؛ وإيراهيم يجود بنفسه
(1)، فجعلت عينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تذرفان،
فقال له عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا
ابن عوف! إنها رحمةٌ، ثمّ أتبعها بأخرى فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إِن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إِلا ما يُرْضِي
ربّنا، وإِنّا بفِرَاقك يا إِبراهيم! لمحزونون" (2).
الخامس: عن عبد الله بن جعفر قال: "أمهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آل جعفر ثلاثة أن يأتيهم، ثمّ أتاهم فقال: لا تبكوا
على أخي بعد اليوم" (3).
وإِن أحبّ أهله أن يَروه لم يُمنعوا (4):
فقد تقدّم أن جابراً كشف الثوب عن وجه أبيه -رضي الله عنهما- وتقدّم، أيضاً
حديث عائشة: "قبّل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان
بن مظعون وهو ميّت ... ".
ما يجب على أقارب الميت
ويجب على أقارب الميت حين يبلغهم خبر وفاته أمران:
__________
= وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر مِن: ظأرت الناقة: إِذا
عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها؛
لأنّه يشاركها في تربيته غالباً. "الفتح".
(1) أي: وهو في النَّزْع.
(2) أخرجه البخاري: 1303، ومسلم: 2315.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3532)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4823).
(4) هذا العنوان من "المغني" (2/ 338).
(4/49)
الأول: الصبر والرّضا بالقدر.
قال -تعالى-: {ولنبْلُوَنَّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال
والأنفس والثَّمرات وبشِّر الصَّابرين * الذين إِذا أصابتهم مُصيبةٌ قالوا
إنّا لله وإِنّا إِليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربِّهم ورحمة وأولئك
هم المهتدون} (1).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "مرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت:
إِليك عنّي؛ فإِنّك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إِنه النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تجد عنده بَوَّابينَ، فقالت: لم أعرفك، فقال:
إِنما الصبر عند الصدمة الأولى" (2).
والصبر على وفاة الأولاد له أجر عظيم، وقد جاء في ذلك أحاديثُ كثيرة؛ منها:
1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد؛ فيلجُ النار؛ إِلا
تحِلَّةَ القسم (3) " (4).
2 - وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ما من مُسلِمَين يموتُ
__________
(1) البقرة: 155 - 157.
(2) أخرجه البخاري: 1283، ومسلم: 626.
(3) قال الإِمام البغوي في "شرح السّنة" (5/ 451): "يريد: إِلا قدْر ما
يَبَرُّ الله قسمه فيه، وهو قوله -عزّ وجلّ-: {وإِنْ منكم إِلا واردها}
فإِذا مرّ بها وجاوزها؛ فقد أبرّ قسمه".
(4) أخرجه البخاري: 1251، ومسلم: 2632.
(4/50)
لهما ثلاثة من الولد -لم يبلغوا الحِنْث
(1) - إلاَّ أدخلهم الله وأبويهم الجنة بفضل رحمته.
قال: ويكونون على بابٍ من أبواب الجنة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون:
حتى يجيء أبوانا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم بفضل رحمة الله"
(2).
3 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أن النساء قلن للنّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجعل لنا يوماً، فوعظهن وقال: أيما امرأة
مات لها ثلاثة من الولد؛ كانوا لها حجاباً من النار، قالت امرأة: واثنان؟
قال: واثنان" (3).
الأمر الثاني -ممّا يجب على الأقارب-: الاسترجاع، وهو أن يقول: (إِنّا لله
وإِنّا إِليه راجعون)؛ كما جاء في الآية المتقدّمة، ويزيدُ عليه قوله:
"اللهم أْجُرْني في مُصيبتي، وأخلف لي خيراً منها"؛ لحديث أمّ سلمة -رضي
الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: "ما من مسلم تُصيبه مُصيبة فيقول ما أمره الله: إِنّا لله وإنّا
إِليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي، وأخلِف لي خيراً منها؛ إلاَّ
أخلَف الله له خيراً منها.
قالت: فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟! أوّل
__________
(1) الحِنْث؛ أي: مبْلغ الرّجال، ويجري عليهم القلم، فيُكتب عليهم الحِنْث،
وهو الإِثم، وقال الجوهري: بلغ الغُلام الحِنث؛ أي: المعصية والطاعة.
"النهاية".
(2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1770)، والبيهقي وغيرهما عنه، وسنده
صحيح على شرط الشيخين، كما في "أحكام الجنائز" (34).
(3) أخرجه البخاري: 1249، ومسلم: 2633.
(4/51)
بيتٍ هاجر إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! ثمّ إِنّي قُلتها، فأخلف الله لي رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قالت: أرسل إِليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاطب بن
أبي بَلْتَعَةَ يخطُبني له، فقلت: إِنّ لي بنتاً وأنا غيور! فقال: "أمّا
ابنتها؛ فندعو الله أنْ يُغْنيَها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة" (1).
ولا ينافي الصبرَ أن تمتنع المرأة من الزينة كُلِّها؛ حِداداً على وفاة
ولدها أو غيره؛ إِذا لم تزد على ثلاثة أيام؛ إِلا على زوجها، فتُحِدُّ
أربعة أشهر وعشراً؛ لحديث زينب بنت أبي سلمة قالت: "دخلتُ على أمَّ حبيبة
زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي أبوها أبو
سُفيان بن حرب، فدَعت أمُّ حبيبة بطيبٍ فيه صُفرة - خلوق (2) أو غيره-،
فدهنت منه جارية، ثمّ مسّت بعارضيها (3)، ثمّ قالت: والله ما لي بالطيب من
حاجة؛ غير أنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: لا يحلّ لامرأة تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميّتٍ فوق
ثلاث ليالٍ؛ إِلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا.
قالت زينب: فدخلت على زينب ابنة جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه،
ثمّ قالت: أما والله ما لي بالطيب من حاجة؛ غير أني سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: لا يحلّ لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث ليال؛ إِلا على زوج؛ أربعة
أشهر وعشراً" (4).
__________
(1) أخرجه مسلم: 918.
(2) خَلوق: طِيب مخلوط.
(3) العارِضان: جانبا الوجه فوق الذّقن ... "شرح الكرماني".
(4) أخرجه البخاري: 5334، 5335.
(4/52)
ولكنّها إِذا لم تحدّ على غير زوجها
-إِرضاءً للزوج وقضاءً لوَطَرِهِ منها- فهو أفضل لها، ويرجى لهما من وراء
ذلك خيرٌ كثير؛ كما وقع لأم سُليم وزوجها أبي طلحة الأنصاري -رضي الله
عنهما-.
فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "مات ابن لأبي طلحة من أم سُليم، فقالت
لأهلها: لا تُحدِّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحدّثه، قال: فجاء
فقرَّبت إِليه عشاءً، فأكل وشرب، فقال: ثمّ تصنّعت له أحسن ما كان تصنَّع
قبل ذلك، فوقع بها، فلمّا رأت أنّه قد شبع وأصاب منها؛ قالت: يا أبا طلحة!
أرأيت لو أنّ قوماً أعاروا عاريَتهم أهل بيت، فطلبوا عاريَتَهُم؛ أَلَهُمْ
أنْ يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب وقال: تركتِني حتّى
تلطّخت ثمّ أخبرتني بابني!
فانطلق حتّى أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره
بما كان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بارك الله
لكما في غابر ليلتكما (1) " (2).
ما يحرُم على أقارب الميت
1 - النياحة؛ وهي رفْع الصوت بالبكاء،
وفيه أحاديثُ كثيرة:
عن أبي مالك الأشعري أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "أربعٌ في أُمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنَّ: الفخر في الأحساب
(3)، والطعن في الأنساب، والاستسقاء
__________
(1) أي: ماضيها.
(2) أخرجه البخاري: 5470، ومسلم: 2144.
(3) الحسب في الأصل: الشرف بالآباء وما يعدُّه الناس من مفاخرهم. وتأتي
بمعنى =
(4/53)
بالنّجوم، والنياحة، وقال: النائحة -إذا لم
تتب قبل موتها- تقام يوم القيامة وعليها سربال (1) من قطران، ودِرْع مِن
جرَب (2) " (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اثنتان في النّاس هما بهم كُفر: الطعْن في النّسب،
والنّياحة على الميت" (4).
وعنه -رضي الله عنه- قال: "لما مات إِبراهيم ابن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ صاحَ أسامة ابن زيد، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس هذا منّي، وليس لصائحٍ حقّ،
القلب يحزن والعين تدمع، ولا يُغضَب الربّ" (5).
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إِنّ الميت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه" (6).
__________
= الفَعال الحسن. وقيل: الحسب مأخوذ من الحساب، وذلك أنّهم إِذا تفاخروا؛
عدّ كلّ واحد منهم مناقبه ومآثر آبائه وحسبهم؛ فالحسب العدّ والمعدود.
"النهاية" ملتقطاً.
(1) سربال: هو القميص.
(2) ودرع من جرب؛ أي: يصير جلدها أجرب؛ حتى يكون جلدها كقميص على أعضائها،
والدرع قميص النساء.
والقطران: دهن يُدْهَن به الجمل الأجرب؛ فيحترق لحدّته وحرارته، فيشتمل على
لذع القطران وحرقته وإسراع النار في الجلد". "فيض".
(3) أخرجه مسلم: 934.
(4) أخرجه مسلم: 67.
(5) أخرجه ابن حبان، والحاكم بسند حسن؛ كما في "أحكام الجنائز" (ص 40).
(6) أخرجه البخاري: 1286، ومسلم: 927.
(4/54)
وفي لفظ: "الميّت يعذب في قبره بما نِيح
عليه" (1).
فهذا ينفي مطلق البكاء، وأنّ المراد هو النُّوَاحُ، كما بيّن ذلك شيخنا
-رحمه الله-.
وعن المغيرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "من نِيحَ عليه؛ فإِنّه يُعذّب بما نيحَ عليه يوم
القيامة" (2).
وهذا لا يعارض مثل قوله -تعالى-: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (3). إِذ الحديث
محمول -كما ذهب إِلى ذلك الجمهور- على من أوصى بالنّوح عليه، أو لم يوصِ
بتركه مع علِمه بأنّ النّاس يفعلونه عادة.
ولهذا قال عبد الله بن المبارك: -رحمه الله تعالى-: "إِذا كان ينهاهم في
حياته، ففعلوا شيئاً من ذلك بعد وفاته؛ لم يكن عليه شيء" (4).
2، 3 - ضرب الخدود وشق الجيوب.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس منّا
__________
(1) أخرجه البخاري: 1292، ومسلم: 927.
(2) أخرجه مسلم: 933.
(3) الأنعام: 164.
(4) "عمدة القاري" (4/ 79)، وذكره شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص
41).
(4/55)
من لطم الخدود وشق الجيوب (1)، ودعا بدعوى
الجاهلية (2) " (3).
4 - حلق الشعر.
عن أبي بُردة بن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "وَجِع أبو موسى وَجَعاً؛
فَغُشِيَ عليه، ورأسه في حَجْرِ امرأة من أهله فصاحت امرأة من أهله، فلم
يستطع أن يَرُدّ عليها شيئاً، فلمّا أفاق قال: أنا بريء ممن بريء منه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريء من الصالقة (4) والحالقة (5) والشاقّة
(6) " (7).
5 - نَشْر الشّعر.
عن امرأة من المبايعات قالت: "كان فيما أخذ علينا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعروف -الذي أخذ علينا أن لا نعصيَه
فيه-: أن لا نخمش (8) وجهاً، ولا ندعو
__________
(1) الجيوب: جمع جيب، وهو ما يُفتح من الثوب، ليدخل فيه الرأس، والمراد
بشقّه إِكمال فتْحه إِلى آخره، وهو من علامات التسخّط. "فتح".
(2) دعوى الجاهلية: هو قولهم: يا لفلان! يا للأنصار! يا للمهاجرين! كانوا
يدْعو بعضهم بعضاً عند الأمر الحادث الشديد. "النهاية" ملتقطاً.
(3) أخرجه البخاري: 1294، 1297، 1298، ومسلم: 103.
(4) التي ترفع صوتها بالبكاء. "فتح". وفي "النهاية": الصّلْق: الصوت الشديد
..
(5) التي تحلق رأسها عند المصيبة.
(6) التي تشقّ ثوبها.
(7) أخرجه البخاري: 1296، ومسلم: 104.
(8) أي: لا نخدش.
(4/56)
ويلاً (1)، ولا نشق جيباً، ولا ننشر شعراً
(2) " (3).
6 - الإِعلان عن موته على رؤوس المنائر ونحوها، لأنّه من النعي (4)، وقد
ثبت عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: "إِذا متُّ فلا تُؤْذِنوا (5) بي أحداً؛
فإِنّي أخاف أن يكون نعياً، وإِنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن النعي" (6).
النعي الجائز
النعي -لغةً-: هو الإِخبار بموت الميت؛ وقد دلّ حديث حذيفة -رضي الله عنه-
السابق على أنّ النهي يشمل كلّ إِخبار، ولكن قد جاءت أحاديثُ صحيحة تدّل
على جواز نوعٍ من الإِخبار.
فيجوز إعلان الوفاة إِذا لم يقترن به ما يشبه نعي الجاهلية، وقد يجب ذلك
إِذا لم يكُن عنده من يقوم بحقه من الغسل والتكفين والصلاة عليه ونحو
__________
(1) هو أن يقول عند المصيبة: يا ويلاه.
(2) أي: ولا نفرّق شعراً، يُقال: نشر الراعي غنمه؛ أي: بثّها بعد أن آواها.
"عون" (8/ 281).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2685)، ومن طريقه البيهقي بسند
صحيح.
(4) سيأتي بيانه -إِن شاء الله تعالى-.
(5) أي: تُعلِموا.
(6) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (786) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"
(1203).
(4/57)
ذلك، وفيه أحاديث:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج إِلى المصلّى؛ فصفَّ
بهم وكبّر أربعاً" (1).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثمّ أخذها جعفر فأصيب، ثمّ أخذها عبد
الله بن رواحة فأصيب -وإنّ عَيْنَي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَتَذْرِفانِ- ثمّ أخذها خالد بن الوليد من غير إِمرة ففُتح
له" (2).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 45 - 46): "أخرجه البخاري وترجم له والذي قبله
بقوله: "باب الرجل ينعى إِلى أهل الميت بنفسه". وقال الحافظ: "وفائدة هذه
الترجمة: الإِشارة إِلى أنّ النعي ليس ممنوعاً كلُّه، وإنّما نهى عمّا كان
أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون مَنْ يُعلن بخبر موت الميت على أبواب
الدُّور والأسواق ... " ... " انتهى.
جاء في "السيل الجرار" (1/ 338): "وأمّا الإِيذان بموت الميت؛ فقد ثبت في
كتب اللغة أن النعي هو الإِخبار بموت الميت وإِذاعته، وقد ثبت عنه -صلى
الله عليه وآله وسلّم- في "الصحيحين" وغيرهما: "أنه قال لما رأى قبراً دفن
ليلاً فقال: "متى دفن هذا؟ فقالوا: البارحة. قال: أفلا آذنتموني" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951.
(2) أخرجه البخاري: 1246.
(3) سيأتي تخريجه -إِنْ شاء الله تعالى-.
(4/58)
وثبت في "الصحيح" أنه قال ذلك لما أخبروه
بموت السوداء -أو الأسود- الذي كان يقُمّ المسجد (1).
فدل على أن مجرد الإِخبار بموت الميت -من دون إِذاعة ولا تفجُّع- جائز؛
لأنّه قد ورد ما يدلّ على أنّ في كثرة المصلين عليه منفعة له، وأنهم
شفعاؤه، وأيضاً لا بد من حضور من يتولى تجهيزه وحمله ودفنه، فإِخبارهم بذلك
مما تدعو إِليه الحاجة وتقتضيه الضرورة.
وأمّا ما ذكَره من توابع النّعي؛ فهي ما ورد النهي عنه مِن ضرْب الخدود،
وشقِّ الجيوب، والدعاء بدعوة الجاهلية؛ كما في "الصحيحين" وغيرهما".
ويستحب للمخبر أن يطلب من النّاس أن يستغفروا للميت؛ لحديث أبي قتادة -رضي
الله عنه- قال: "بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيش
الأُمراء فقال: عليكم زيد بن حارثة؛ فإِنْ أصيب زيدٌ فجعفر بن أبي طالب؛
فإِن أصيب جعفرٌ فعبد الله بن رواحة الأنصاري.
فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! ما كنت أرهب أن تستعمل عليّ
زيداً، قال: امضهْ فإِنّك؛ لا تدْري أيُّ ذلك خير.
فانطلقوا، فلبثوا ما شاء الله، ثمّ إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المنبر، وأمر أن ينادى (الصلاة جامعة)، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ناب خير، أو بات خير -أو ثاب
خير؛ شك عبد الرحمن (يعني: ابن مهدي) -! ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟
إِنهم انطلقوا فلقوا العدو، فأصيب زيد شهيداً، فاستغفِروا له - فاستغفر له
الناس- ثمّ أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فشد على القوم حتى
__________
(1) سيأتي تخريجه -إنْ شاء الله تعالى-.
(4/59)
قتل شهيداً، أَشْهَدُ له بالشهادة،
فاستغفَروا له، ثمّ أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فأثبت قدميه حتى قُتل
شهيداً، فاستغفروا له، ثمّ أخذ اللواء خالد بن الوليد؛ ولم يكن من الأمراء،
هو أمّر نفسه، ثمّ رفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أصبعيه فقال: اللهم هو سيف من سيوفك، فانصره؛ فمن يومئذٍ سمّي خالد سيف
الله، ثمّ قال: انفروا فأمدُّوا إِخوانكم، ولا يتخلفنّ أحدٌ؛ فنفر الناس في
حرّ شديد مُشاة وركباناً" (1).
ما جاء في الإِحداد (2) على الميت:
الإِحداد: هو الحُزن على الميت، وترْك الزينة والطيب.
يجوز للمرأة أن تحدّ على قريبها ثلاثة أيام، ويحرم عليها الإِحداد فوق ذلك.
أمّا الزوج؛ فيحلّ لها أن تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً.
فعن أم عطية أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا
تُحدّ امرأة على ميت فوق ثلاث؛ إِلا على زوج؛ أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس
ثوباً مصبوغاً؛ إِلا ثوب عَصْب (3)، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً؛ إِلا إِذا
طهرت نُبذة (4) من قُسْط (5) أو
__________
(1) أخرجه أحمد وإسناده حسن.
(2) قال النووي: "الإِحداد والحداد: مشتق من الحد؛ وهو المنع؛ لأنها تمتنع
الزينة والطيب".
(3) العَصْب -بعين مفتوحة ثمّ صاد ساكنة مهملتين-: هو برود اليمن، يُعْصَبُ
غزْلها ثمّ يُصبَغ معصوباً، ثمّ تنسج. ومعنى الحديث: النهي عن جميع الثياب
المصبوغة للزينة؛ إِلا ثوب العصب. "شرح النووي".
(4) النُّبذة: القطعة والشيء اليسير. "شرح النووي" أيضاً.
(5) القُسط: ضرْبٌ من الطّيب، وقيل هو العود، والقُسط: عقار معروف في =
(4/60)
أظفار (1) " (2).
وعن زينب ابنة أبي سلمة قالت: "لمّا جاء نعي أبي سفيان من الشام؛ دعت أمّ
حبيبة -رضي الله عنها- بصُفرة (3) في اليوم الثالث، فمسحت عارضيها (4)
وذراعيها، وقالت: إِني كنتُ عن هذا لغنية؛ لولا أنّي سمعت النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث؛ إِلا على زوج؛ فإِنّها تُحدُّ عليه أربعة
أشهر وعشراً" (5).
غَسْلُ المَيِّتِ
حكمه:
فإِذا مات المسلم؛ وجب على طائفة من الناس أن يبادروا إلى غَسله، وهو
__________
= الأدوية طيّب الريح؛ تبخّر به النّفساء والأطفال، وهو أشبه بالحديث؛
لإِضافته إِلى الأظفار. "النهاية".
(1) الأظفار: جنس من الطيب، والقطعة منه شبيهة بالظُّفر. "النهاية" بحذف.
قال النووي -رحمه الله-: "القُسط والأظفار: نوعان معروفان من البخور وليسا
من مقصود الطيب، رخّص فيه للمغتسلة من الحيض؛ لإِزالة الرائحة الكريهة،
تتبع به أثر الدم لا للتطيُّب والله -تعالى- أعلم.
(2) أخرجه البخاري: 5342، ومسلم: 938.
(3) الصُّفرة -في الأصل-: لونٌ أصفر. والمراد هاهنا: نوع من الطّيب فيه
صُفرة. قاله العيني في "عمدة القاري".
(4) العارض: جانب الوجه وصفحة الخدّ. "الوسيط"، وتقدّم.
(5) أخرجه البخاري: 1280، وتقدّم نحوه.
(4/61)
فرض كفاية؛ إِذا قام به البعض؛ سقط عن جميع
المكلَّفين.
وأمّا وجوب الغَسْل؛ فلأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في
غير ما حديث:
1 - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المُحْرِم الذي وقصته
ناقته: "اغسلوه بماء وسِدْر ... " (1).
2 - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته زينب -رضي الله
عنها-: "اغْسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك ... " (2).
كيفية غَسْلِ الميت:
ويُراعي في غَسْلِهِ الأمورَ الآتيةَ:
أولاً: غسله ثلاثاً فأكثر؛ على ما يرى القائمون على غسله.
قال الإِمام مالك -رحمه الله-: "إِنّ الغَسل أوّلاً هو الفرض، فوجَب أن
يكون بالماء وحده، وما بعد ذلك؛ فإِنما هو على وجه التنظيف والتطييب؛ فلا
يضرّه ما خالطه مما يزيد في تنظيفه" (3).
ثانياً: أن تكون الغَسَلاتُ وتراً.
قال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 325): "ذِكْر الخبر الدالِّ
على أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنما أمر بعدد غسل
الميت على ما يراه غاسله بعد أن يكون عدد غسله وتراً، وعلى أنّ معنى قوله:
"إِنْ رأيتن ذلك وتراً لا شفعاً ... ".
ثمّ ذكر حديث أمّ عطيّة -رضي الله عنها-.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وتقدّم.
(2) سيأتي تخريجه -إِن شاء الله تعالى-.
(3) "المنتقى شرح موطأ مالك" (2/ 453).
(4/62)
ثالثاً: أن يُقرن مع بعضها سِدْرٌ، أو ما
يقوم مقامه في التنظيف، كالصابون ونحوه.
رابعاً: أن يخلط مع آخر غَسْلة منها شيء من الطيب، والكافورُ أوْلى.
خامساً: نقض الضفائر وغسلها جيداً.
سادساً: تسريح شعره.
سابعاً: جعله ثلاث ضفائر للمرأة وإلقاؤها خلفها.
ثامناً: البدء بميامنه ومواضع الوضوء منه.
قال الزين بن المنيِّر: قوله: "ابدأن بميامنها"؛ أي: في الغسلات التي لا
وضوء فيها. "ومواضع الوضوء منها"؛ أي: في الغسلة المتصله بالوضوء". "فتح"
(3/ 121).
تاسعاً: أن يتولى غَسلَ الذّكر الرجالُ، والأنثى النساءُ؛ إلاَّ ما
استُثْني؛ كما يأتي بيانه -إِن شاء الله تعالى-.
والدليل على هذه الأمور: حديث أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "دخل علينا
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نُغَسِّلُ ابنته
[زينب]، فقال: اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً [أو سبعاً]، أو أكثر من ذلك -إِن
رأيتنّ ذلك- بماء وسدْرٍ [قالت: قلت: وتراً؟ قال: نعم]، واجعلن في الآخرة
كافوراً (1)، أو شيئاً من كافور، فإِذا فرغتن فآذِنَّنِي، فلمّا فرغنا
آذنّاه، فألقى إِلينا حِقْوه (2)؛ فقال: أشعرنها إِياه (3)؛ [تعني:
__________
(1) الكافور: من أخلاط الطيب. وفي "الصحاح": من الطيب.
(2) الحِقو: المراد به هنا الإِزار. "فتح".
(3) أشِعْرنها إِياه؛ أي: اجعلنه شعارها. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد؛
لأنّه يلي شعره. "النهاية".
(4/63)
إِزاره]، [قالت: ومشطناها ثلاثة قُرون]،
(وفي رواية: نقضنه ثمّ غسلنه) [فضفّرنا شعرها ثلاثة أثلاثٍ: قرنيها
وناصيتها] وألقيناها خلفها]، [قالت: وقال لنا: ابدأن بميامنها ومواضع
الوضوء منها] (1).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 180 - مسألة: 568): "وصفة
الغَسْل: أن يُغسَّل جميع جسد الميت ورأسه بماء قد رُمي فيه شيء من سدر ولا
بدّ، إِن وجد، فإِن لم يوجد؛ فبالماء وحده ثلاث مرات ولا بد، يُبتدأ
بالميامن، ويُوضّأ، فإِنْ أحبُّوا الزيادة فعلى الوتر أبداً: إِما ثلاث
مرات، وإِما خمس مرات، وإمّا سبع مرات، ويجعل في آخر غسلاته -إِن غسل أكثر
من مرة- شيئاً من كافور ولا بدّ فرضًا؛ فإِنْ لم يوجد فلا حرج؛ لأمر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كلّه".
ثمّ ذكر -رحمه الله- حديث أم عطية -رضي الله عنها- السابق.
ذِكْر مضمضة الميت واستنشاقه (2):
واختلفوا في مضمضة الميت واستنشاقه:
فكان سعيد بن جبير والنَّخَعِيُّ، والثوري لا يرون ذلك.
وكان الشافعي وإِسحاق يأمران به.
قال ابن النذر -رحمه الله-: "هذا أحبُّ إِلي؛ لأنّ في جملة ما وصَفه عامة
أهل العلم أن يوضأ الميت، ومن سنة الحيِّ إِذا توضأ أن يتمضمض ويستنشق؛
__________
(1) أخرجه البخاري: 1254، ومسلم: 939 وغيرهما، وانظر تخريج الزيادات في
"أحكام الجنائز" (ص 65 - 66).
(2) "الأوسط" (5/ 330).
(4/64)
فسبيل ما يُفعَل بالميت كسبيل ما يفعله
الحي؛ إِلا أن تمنع منه سُنّة".
ماذا إِذا مات رجل بين نساء، أو ماتت امرأة بين رجال؟
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 259 - مسألة: 618): "فلو مات رجل
بين نساء لا رجل معهن، أو ماتت امرأة بين رجال لا نساء معهم؛ غسَل النساءُ
الرجلَ وغسل الرجالُ المرأةَ على ثوب كثيف، يُصبّ الماء على جميع الجسد دون
مباشرة اليد؛ لأن الغسل فرض كما قدَّمنا؛ وهو ممكن كما ذكَرنا بلا مباشرة؛
فلا يحل تركه، ولا كراهة في صبّ الماء أصلاً. وبالله -تعالى- التوفيق.
ولا يجوز أن يُعوّض التيمم من الغسل؛ إِلا عند عدم الماء فقط. وبالله
-تعالى- التوفيق.
وممن قال بقولنا هذا: طائفة من العلماء: رُوِّينا من طريق عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري وقتادة قالا جميعاً: تُغسل وعليها الثياب، يعنيان: في
المرأة تموت بين رجال لا امرأة معهم ...
وقال الحجاج عن الحكم بن عُتَيْبَة قالا جميعاً -في المرأة تموت مع رجال
ليس معهم امرأة-: إِنها يصب عليها الماء من وراء الثياب".
غسل الميت بخرقة:
عاشراً: ويراعى أن يُغسَل الميت بخرقة أو نحوها تحت ساتر لجسمه بعد تجريده
من ثيابه كُلّها؛ فإِنّه كذلك كان العمل على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كما يُفيدُه حديث عائشة -رضي الله عنها-: "لما
أرادوا غسل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: والله ما
ندري؛ أنجرِّد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثيابه
كما نُجرّد موتانا، أم نغسله وعليه
(4/65)
ثيابه؟
فلمّا اختلفوا؛ ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلاَّ وذقنَه في
صدره، ثمّ كلّمهم مُكلِّم من ناحية البيت -لا يدرون من هو-: أن اغسلوا
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثيابه.
فقاموا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فغسلوه
وعليه قميصه؛ يصُبُّون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم،
وكانت عائشة تقول: لو استقْبَلْتُ من أمري ما استدبرت؛ ما غسله إلاَّ
نساؤه" (1).
ذِكْر عصْر بطن الميت (2):
قال ابن المنذر -رحمه الله-: "واختلفوا في عصر بطن الميت: فكان ابن سيرين
والنخعي والحسن البصري ومالك يقولون: يُعصَر بطن الميت. قال بعضهم: عصراً
خفيفاً.
وكان سفيان الثوري يقول: يُمسح مسحاً رقيقاً بعد الغسلة الأولى. قال
الشافعي: "يُمِرُّ يده على بطنه إِمراراً بليغاً؛ ليُخْرِجَ شيئاً إِنْ كان
فيه". وقال أحمد وإِسحاق: يمسح بطنه مسحاً رقيقاً؛ خرج منه شيئاً أو لم
يخرج.
وقد رُوِّينا عن الضحاك بن مزاحم: أنه أوصى أنه لا يعصر بطنه.
وكان أحمد بن حنبل يستحب أن يعصر بطنه في الثانية قال: فإِنّه تلين
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2693)، وابن الجارود في
"المنتقى"، والحاكم وغيرهم.
(2) "الأوسط" (5/ 329).
(4/66)
في الغسلة الأولى.
قال ابن المنذر: ليس في عصر البطن سُنّة تتبع، وقد رواه من ذكَرنا ذلك عنهم
من أهل العلم؛ فإِنْ أمرَّ الغاسل يديه إِمراراً خفيفاً على بطنه ليخرج
شيئاً إِن كان هناك فحَسَن، وإن تَرك فلم يفعل ذلك، فلا بأس" انتهى. قلت:
وهذا راجع للمغسِّل، فيفعل ما تقتضيه الحاجة. والله -تعالى- أعلم.
هل يغطّى وجه الميّت؟
جاء في "الأوسط" (5/ 327): "واختلفوا في تغطية وجه الميت عند غسله:
فكان محمد بن سليمان وسليمان بن يسار وأيوب السَّخْتِيَاني يرون أن يلقى
على وجه الميت خرقة.
وكان مالك والثوري والشافعي وجماعة يرَون أن يُطرح على فرج الميت خرقة، ولم
يذكروا الوجه.
وقال أحمد بن حنبل: إِنما يغطى منه ما كان يغطى في حياته، قال أحمد: يغطى
ما بين سُرّته وركبتيه".
قلت: وقول الإِمام أحمد -رحمه الله- هو الراجح؛ لأن عورة الحيّ والميت
سواءٌ، ولا دليل على التخصيص.
وجاء في "السيل الجرار" (1/ 345): "الأدلة الواردة في منع نظر العورة
ولمسها شاملة لعورة الحي والميت، فغَسْلُها يكون بالدلك مع حائل بين اليد
وبينها".
(4/67)
حادي عشر: ويستثنى -مما ذكر في (رابعاً) -:
المُحْرِم؛ فإِنّه لا يجوزُ تطييبه؛ لقوله في الحديث الذي سبقت الإِشارة
إِليه قريباً:
"لا تُحنِّطوه (وفي رواية: ولا تُطيّبوه). فإِنّه يُبعث يوم القيامة
مُلبياً" (1).
ثاني عشر: ويستثنى -أيضاً ممّا ورد في (تاسعاً) - الزوجان؛ فإِنّه يجوز
لكلٍّ منهما أنْ يتولّى غَسْل الآخر؛ إِذ لا دليل يمنعُ منه، والأصل
الجواز، ولا سيما وهو مؤيَّد بحديثين:
1 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لو كنت استقبلتُ من أمري ما استدبرت؛
ما غسل النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرُ نسائه" (2).
قال البيهقي: "فتلهّفَت على ذلك، ولا يُتَلَهَّفُ إِلا على ما يجوز".
قال شيخنا -رحمه الله-: "والجواز هو قول الإِمام أحمد، كما رواه أبو داود
في "مسائله" (ص 146) ".
2 - وعنها -رضي الله عنها- قالت: "رجع إِليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صُداعاً في رأسي، وأقول:
وارأساه! فقال: بل أنا وارأساه! ما ضرَّك لو متِّ قبلي فغسلتُك وكفَّنتك،
ثمّ صليتُ عليك ودفنتك؟! " (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وتقدّم.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1196) وغيره، وتقدّم.
(3) أخرجه أحمد، والدارمي، وابن ماجه صحيح سنن ابن ماجه" (1197)، وغيرهم.
(4/68)
وعن أسماء بنت عُمَيْسٍ قالت: "غسلت أنا
وعلي فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (1).
ذِكر ترْك الأخذ من شعر الميت ومن أظفاره (2):
قال ابن المنذر -رحمه الله-: "واختلفوا في أخْذ شعر الميت وأظفاره: فقالت
طائفة: يؤخذ من شعره وأظفاره؛ كذلك قال الحسن البصري وبكر بن عبد الله
المُزَنِيُّ. ورُوِّينا أن سعد بن مالك أخذ عانة ميت، وذكَر آثاراً في
ذلك".
ثمّ قال -رحمه الله-: "وكرهت طائفة ذلك: كره محمد بن سيرين أخْذ عانة
الميت. وسُئل حمّاد بن أبي سليمان عن تقليم أظفار الميت؟ فقال: إِنْ كان
أقلف أتختنه؟ وكره مالك تقليم أظافر الميت وحلْق عانته".
قال ابن المنذر -رحمه الله-: "الوقوف عن أخذ ذلك أحب إِليّ؛ لأنّ المأمور
بأخذ ذلك من نفسه الحي، فإِذا مات انقطع الأمر، ويصير جميع بدنه إِلى
البلاء؛ إِلا عَجْبَ (3) الذَّنَبِ الذي استثناه الرسول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
وبعدم الأخذ يقول شيخنا -رحمه الله- في إِجابةٍ أَجابنيها.
التيمُّم للميّت عند فَقْدِ الماء:
ويُيَمَّمُ الميت إِذا فُقد الماء؛ لقوله -تعالى-: {فإِنْ لم تجدوا ماءً
__________
(1) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء"
(701).
(2) "الأوسط" (5/ 328).
(3) العَجب: العظم الذي في أسفل الصُّلب عند العَجُز. "النهاية".
(4/69)
فتيمّموا} (1).
ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وجُعلت لي الأرض
مسجداً وطهوراً" (2).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 182 - تحت المسألة: 569): فإِن
عُدِمَ الماء؛ يُمِّم الميت ولا بُدّ؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً" ... ".
يتولّى الغسلَ من كان أعرف بسُنّة الغسل:
قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 68): [ولا بدَّ] أن يتولَّى
غَسْلَهُ من كان أعرف بسُنّة الغسل، لا سيّما إِذا كان من أهله وأقاربه؛
لأنّ الذين تولّوا غَسله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا كما
ذكرنا، فقد قال عليّ -رضي الله عنه-: "غَسلْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعلتُ أنظرُ ما يكون من الميّت؛ فلم أر شيئاً، وكان
طيِّباً حيّاً وميّتاً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
قال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 324): "ذِكْر الدليل على أنّ
عُصبة الميت وقرابته أحقّ بولايته وغَسْله؛ إِذا كان فيهم من يُحسن الغسل
من الأباعد".
ثمّ ذكر -رحمه الله- حديث سالم بن عُبَيْدِ في وفاة النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وفيه:
__________
(1) النساء: 43.
(2) أخرجه البخاري: 438، ومسلم: 523.
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1198)، والحاكم، والبيهقي وغيرهم.
(4/70)
"قالوا: يا صاحب رسول الله (1)! أيُدفَن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، قالوا: أين؟
قال: في المكان الذي قُبِض فيه روحُه، فإِنّ الله لم يقبض روحه إِلا في
مكان طيب. فعلموا أن قد صدَق، ثمّ أمَرهم أن يُغسّله بنو أبيه" (2).
قال شيخنا -رحمه الله-: " [أي: عصبته]، فغسله سيدنا علي -رضي الله عنه-،
فكان الفضل بن عباس وأسامة وشقران مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناولون عليّاً الماء".
ولمن تولّى غَسْله أجرٌ عظيم بشرطين اثنين:
الأول: أن يستُر عليه، ولا يحدّث بما قد يرى من المكروه؛ لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من غَسَّلَ مُسلماً فكتم عليه؛ غفر له الله
أربعين مرةً، ومن حفر له فأجنّه؛ أجري عليه كأجر مسكن أسكنه إِياه إلى يوم
القيامة، ومن كفّنه؛ كساه الله يوم القيامة من سندسِ وإستبرقِ الجنة" (3).
الثاني: أن يبتغي بذلك وجه الله، لا يريدُ به جزاءً ولا شُكوراً ولا شيئاً
من أمور الدنيا، لما تقرّر قي الشرع أنّ الله -تبارك وتعالى- لا يقْبل من
العمل إلاَّ ما كان خالصاً لوجهه الكريم.
والأدلّة على ذلك من الكتاب والسُّنة كثيرة جدّاً.
__________
(1) الخطاب لأبي بكر الصّديق -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه الترمذي في "الشمائل"، وهو حديث صحيح؛ خرّجه شيخنا -رحمه الله-
في "مختصر الشمائل" (333).
(3) أخرجه الحاكم، والبيهقي وغيرهما، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 69).
(4/71)
ويستحبّ لمن غسّله أن يغتسل، فعن عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "من غسَّل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضَّأ" (1).
قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "وظاهر الأمر يفيد الوجوب، وإنّما لم نقُل به
لحديثين موقوفيْن -لهما حْكم الرفع-:
الأوّل: عن ابن عباس: "ليس عليكم في غَسْلِ ميّتكم غُسْلٌ إِذا
غسَّلْتمُوه؛ فإِن ميّتكم ليس بنجسٍ، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" (2).
الثاني: قول ابن عمر -رضي الله عنه-: "كنّا نغسل الميت، فمنّا من يغتسل،
ومنّا من لا يغتسل" (3).
ولا يُشْرَعُ غَسل الشهيد قتيل المعركة، ولو اتّفق أنّه كان جُنباً، وفي
ذلك أحاديث:
عن جابر قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"ادْفنوهم في دمائهم؛ يعني: يوم أُحد، ولمْ يُغسِّلْهم" (4).
وفي لفظ: "لا تغسِلوهم؛ فإِنّ كُلّ جرحٍ -أو كلّ دم- يفوح مِسكاً يوم
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2707)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (791)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1195).
(2) أخرجه الحاكم، والبيهقي، وحسّن شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "أحكام
الجنائز" (ص 72).
(3) أخرجه الدارقطني، والخطيب في "تاريخه" بإِسناد صحيح، كما قال الحافظ.
(4) أخرجه البخاري: 1346.
(4/72)
القيامة؛ ولم يُصلِّ عليهم" (1).
الثالث: عن أبي بَرْزَةَ: أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كان في مغزىً له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟،
قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثمّ قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا:
نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثمّ قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا، قال:
لكنّي أفقد جُليبيباً، فاطلبوه.
فطُلِبَ في القتلى، فوجدوه إِلى جنب سبعةٍ قد قتلهم ثمّ قتلوه، فأتى
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوقف عليه، فقال: قتل سبعة،
ثمّ قتلوه! هذا منّي وأنا منه، هذا منّي وأنا منه! قال: فوضعه على ساعديه،
ليس له إِلا ساعدا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال:
فحفر له ووضع في قبره، ولم يذكر غَسْلاً" (2).
عن أنس: "أنّ شهداء أُحد لم يغسّلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يُصَلَّ عليهم؛
غير حمزة" (3).
الشهداء الذين يغسلون ويصلّى عليهم:
أمّا القتلى الذين لم يُقْتَلوا في المعركة بأيدي الكفار؛ فقد أطلق الشارع
على بعضهم لفظ الشهداء، وهؤلاء يغسلون، ويصلّى عليهم؛ فقد غسل
__________
(1) أخرجه أحمد، وسنده صحيح على شرط الشيخين، كما في "الإِرواء" (3/ 164).
(2) أخرجه مسلم: 2472.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2688) وغيره، وانظر "أحكام
الجنائز" (ص 74).
(4/73)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من مات منهم في حياته، وغسل المسلمون بعده عمر وعثمان وعليّاً،
وهم جميعاً شهداء، ونحن نذكر هؤلاء الشهداء فيما يلي (1):
عن جابر بن عَتِيكٍ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "الشهداء سبعةٌ -سوى القتل في سبيل الله-: المطعون شهيد،
والغَرِقُ شهيد، وصاحب ذات الجَنْبِ شهيد (2)، والمبطون شهيد، وصاحب
الحَرِيقُ شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمع (3) شهيدة"
(4).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"ما تَعُدُّون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! من قُتل في سبيل الله فهو
شهيد. قال: إِنّ شُهداء أمتي إِذاً لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟!
قال: من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد،
__________
(1) انظر "فقه السّنّة" (1/ 513).
(2) ذات الجنب: هي الدُّمّل الكبيرة التي تظهر في باطن الجَنب وتنفجر إِلى
داخل. "النهاية".
(3) جاء في "النهاية": "أي: تموت وفي بطنها ولد. وقيل: التي تموت بكراً.
والجُمع - بالضم- بمعنى المجموع، كذُخْر بمعنى المذخور.
وكسر الكسائي الجيم، والمعنى: أنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها
من حمل أو بكارة".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2668) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2261) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1742)، وانظر "أحكام الجنائز"
لشيخنا -رحمه الله- (ص 55).
(4/74)
ومن مات في الطّاعون فهو شهيد، ومن مات في
البطن فهو شهيد، والغريق شهيد" (1).
وعن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو
شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد" (2).
من جُرح في المعركة وعاش حياةً مستقرّة (3):
إِذا جُرح الرجل في المعركة وعاش حياة مستقرّة، ثمّ مات؛ يُغسل ويُصلّى
عليه.
فإنْ عاش عيشة غير مستقرّة فتكلّم أو شرب ثمّ مات؛ فإِنّه لا يُغسل ولا
يصلّى عليه. والله -تعالى- أعلم.
هل يُغسل الكافر؟
جاء في كتاب "الأوسط" (5/ 341): "واختلفوا في غَسْل الكافر ودَفْنه: فكان
مالك يقول: "لا يغسِّلُ المسلمُ والدَه إِذا مات كافراً، ولا يتبعه، ولا
يدخل في قبره؛ إِلا أن يخشى أن يضيع، فيواريه".
وكان الشافعي يقول: "لا بأس أن يغسل المسلم ذا قرابته من المشركين،
__________
(1) أخرجه مسلم: 1915.
(2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3993)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1148)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3817).
(3) عن "فقه السنة" (1/ 531).
(4/75)
ويتبعه ويدفنه"، وبه قال أبو ثور، وأصحاب
الرأي.
قال أبو بكر [هو ابن المنذر]: ليس في غَسْلِ من خالف الإِسلام سنة يجب
اتباعها ... " انتهى.
قلت: لا دليل على مشروعية غَسْلِ الكافر؛ لأن الغَسْلَ عبادة لا تثبت إِلا
بدليل، وقد ورد الدليل على مواراته ودفنه؛ كما في حديث علي -رضي الله عنه-
قال: "لما توفّي أبو طالب؛ أتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقلت: إِنّ عمّك الشيخ الضالّ قد مات، فمن يواريه؟ قال: اذهب
فواره ... " (1).
الصبي الصغير تغسله المرأة:
قال ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 338): "أجمع كل من نحفظ -من أهل العلم- على
أن المرأة تغسل الصبي الصغير، وممن حفظنا ذلك عنه: الحسن البصري ومحمد بن
سيرين وحفصة بنت سيرين ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي".
ما عدد ما يُغسَل الجنب والحائض إِذا ماتا؟
جاء في "الأوسط" (5/ 340): "واختلفوا في الجنب والحائض يموتان؛ كم يغسلان؟
فكان الحسن يقول: يغسل الجنب غسل الجنابة، والحائض غسل الحيض؛
__________
(1) بعض من حديث أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2753)،
والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1895) وغيرهم، وسيأتي بتمامه -إِن شاء الله-
في (باب الدفن).
(4/76)
ثمّ يغسلان غَسْلَ الميت.
وقال سعيد بن المسيِّب والحسن: ما مات ميت إِلا أجنب.
ورُوِّينا عن عطاء أنه قال: "يُصْنَعُ بهما ما يُصْنَعُ بغيرهما".
قال أبو بكر [هو ابن المنذر]: وهذا قول عوام أهل العلم، وبه نقول، وذلك أنا
لا نعلم -فيما سَنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن غسل
الموتى- تفريقاً بين من مات منهم جُنباً، أو غير جنب، أو حائضاً [وهذه
حُجّة قوية]، وقد يجنب الرجل في غير وقت الصلاة، وإِنما يجب عليه الاغتسال
إِذا دخل وقت الصلاة، فيؤدي فرض الصلاة، وإذا سقط بوفاته عنه فرض الصلاة؛
أشبه أن يسقط عنه فرض الطهارة، التي تؤدى بها الصلاة. والله أعلم" انتهى.
إِذا خرج شيء من الميت بعد الغَسْلِ؛ فهل يعاد الغَسل؟
اختلف العلماء في الميت يخرج منه الشيء بعد الغسل:
فقال بعضهم: يعاد عليه الغَسْل، واختلفوا في عدد المرات.
*وقالت طائفة: لا يعاد الغسل؛ كذلك قال مالك والثوري والنعمان.
وقال الثوري والنعمان: يغسل ما خرج منه.
قال ابن المنذر: وكذلك نقول، ولا يكون حكم الميت أكثر من حكم الحي، فلو خرج
من حي شيء بعد ما اغتسل؛ لم ينقض ذلك غسله، وإيجاب الغسل في هذه الحالة
إِيجاب فرض، والفرض لا يجب بغير حجة* (1).
قلت: كلام ابن المنذر في غاية القوّة. والله أعلم.
__________
(1) ما بين نجمتين من كتاب "الأوسط" (5/ 334).
(4/77)
فوائد في غسل الميت:
1 - ينبغي ألاَّ يحضُرَ الغُسل إِلا من لا بدّ من حضوره.
جاء في "المغني" (2/ 317): "ولا يحضرهُ إلاَّ من يُعين في أمره ما دام
يُغسَل".
2 - وأن يَحْرِص القائم على تغسيله على عدم إِظهار العورة ما استطاع إِلى
ذلك سبيلاً.
3 - أن يتضمّن الغَسل تعميم الماء على بدن الميت كلّه.
تكفين الميت
حُكمه:
تكفين الميت -ولو بثوب واحدٍ- واجب؛ لحديث خبّاب -رضي الله عنه- الآتي إِن
شاء الله -سبحانه- بعد سطور.
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 76): "وبعد الفراغ من غَسْلِ الميت؛ يجب تكفينه؛
لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في حديث
المُحْرِم الذي وقصته الناقة".
قلت: وهو حديث: "اغسلوه بماءٍ وسدرٍ، وكفّنوه في ثوبين ... " (1).
الكفن أو ثمنه مِن مال الميّت:
والكَفَن أو ثمنه من مال الميت، ولو لم يُخلِّف غيره؛ لحديث خبّاب بن
الأَرتِّ -رضي الله عنه- قال: "هاجرنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا
__________
(1) أخرجه البخاري: 1265، ومسلم: 1206، وتقدّم.
(4/78)
على الله: فمنّا من مات لم يأكل من أجره
شيئاً (1)؛ منهم مُصعب بن عمير، ومنّا من أينعت (2) له ثمرته؛ فهو
يَهْدِبُها (3)؟ قُتل يوم أُحد، فلم نجد ما نكفّنه إِلا بُردةً إِذا غطّينا
بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نُغطّي رأسه، وأن نجعل على رجليه من
الإِذخر (4) " (5).
وقال ابن المنذر -رحمه الله- في "الأوسط" (5/ 354) -بعد هذا الحديث-: "يدل
هذا الحديث على معاني:
أحدها: التكفين في ثوب واحد عند عدم غيره.
ويدل على أن الكفن من رأس المال، قال في الحديث: لم يترك إِلا نمرةً.
ويدل على أن الكفن يُبْدَأُ به على الدَّين، والميراث.
ويدل على أن الثوب الذي يكفن فيه لو أضاق؛ فتغطية رأسه أولى أن يبدأ به من
غيره".
والحَنُوط وأُجرة القبر والغسل كذلك من مال الميت.
وقال عمرو بن دينار: الحنوط من جميع المال (6)، وقال إِبراهيم: يبدأ
__________
(1) كناية عن الغنائم، كما في "الفتح".
(2) أي: نضجت.
(3) أي: يجتنيها.
(4) الإِذخِر: حشيشة طيبة الرائحة.
(5) أخرجه البخاري: 1276، ومسلم: 940.
(6) رواه البخاري معلقاً، ووصله عبد الرزاق من طريق أُخرى عنه، وسنده صحيح،
=
(4/79)
بالكفن، ثم بالدّين، ثمّ بالوصية (1)، وقال
سفيان: أجر القبر والغسل هو من الكفن (2).
ينبغي أن يكون الكفن طائلاً سابغاً ساتراً جميع بدنه:
وينبغي أن يكون الكفن حسناً طائلاً سابغاً، يسترُ جميع بدنه؛ لحديث جابر
ابن عبد الله -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خطب يوماً؛ فذكر رجلاً من أصحابه قبض؛ فكفِّن في كفن غير طائلٍ
وقُبر ليلاً؛ فزجر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُقبر
الرّجل بالليل حتى يُصلّى عليه؛ إِلا أن يُضطرّ إِنسان إِلى ذلك، وقال
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذا كفّن أحدكم أخاه
فليُحسِّن كفَنه" (3).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قال العلماء: والمراد بإِحسان الكَفن: نظافته
وكثافته وستره وتوسُّطه، وليس المراد به السَّرَفَ فيه والمغالاة ونفاسته"
انتهى.
وجاء في "السيل الجرّار" (1/ 347): "قد حصَل الاتفاق على أنّ الواجب في
الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن، وأنّ ذلك مُقدّم على ما يخرج من
التَّرِكَةِ من دَيْنٍ وغيره، فإِنْ ألجأت الضرورة إِلى أن يُكفنّ في ثوب
لا يستر
__________
= وانظر "مختصر صحيح البخاري" (1/ 300).
(1) رواه البخاري معلّقاً. وقال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (1/
300): " ... هو إِبراهيم بن يزيد النخعي، وقد وصَله عنه الدارمي، وكذا عبد
الرزاق وسنده صحيح أيضاً".
(2) رواه البخاري معلّقاً، ووصده عبد الرزاق، كما في "الفتح" (3/ 141)؛
وفيه: "أي: أجر حفْر القبر وأجْر الغاسل: مِن حُكم الكفن في أنه من رأس
المال".
(3) أخرجه مسلم: 943.
(4/80)
جميع بدنه؛ فللضرورة حُكمها؛ كما وقع في
"الصحيحين" وغيرهما: "أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إِلا نَمِرَة
(1) ... ".
ماذا إذا ضاق الكفَن؟
فإِنْ ضاق الكَفن عن ذلك، ولم يتيسّر السابغ؛ سُتر به رأسه وما طال من
جسده، وما بقي منه مكشوفاً جُعل عليه شيء من الإِذخر أو غيره من الحشيش،
وفيه حديثان:
الأول: حديث خّباب بن الأرتّ -رضي الله عنه- المتقدّم وفيه: " .. فأمَرنا
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نغطّي رأسه، وأن نجعل
على رجليه من الإِذخر".
الثاني: عن حارثة بن مُضَرِّب قال: "دخلت على خبّاب وقد اكتوى [في بطنه]
سبعاً، فقال: لولا أنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت"؛ لتمنّيته! ولقد رأيتني مع
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا أملك درهماً، وإنّ في
جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم.
ثمّ أتى بكفنه، فلمّا رآه بكى وقال: ولكنّ حمزة لم يوجد له كفن إِلا بُردةً
ملحاءَ، إِذا جُعلت على رأسه قَلَصتْ (2) عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه
قَلَصتْ عن رأسه، وجُعل على قدميه الإِذخر" (3).
__________
(1) النَمِرَة: كل شملة مُخطّطة من مآزر الأعراب؛ فهي نَمِرة، وجمعها
نِمار، كأنها أُخذت من لون النَّمر؛ لما فيها من السواد والبياض؛ وهي من
الصفات الغالبة. "النهاية".
(2) أي: نقصَت. "الوسيط".
(3) أخرجه أحمد -بهذا التمام، وإسناده صحيح- والترمذي -دون قوله: ثمّ أتى
بكفنه ... - وقال: "حديث حسن صحيح" ... وانظر "أحكام الجنائز" (ص 78).
(4/81)
جواز تكفين الجماعة
في الكفن الواحد عند الضرورة:
وإذا قلَّت الأكفان، وكثرت الموتى؛ جاز تكفين الجماعة منهم في الكفن
الواحد، ويقدَّم أكثرهم قرآناً إِلى القبلة؛ لحديث أنس: "لمّا كان يومُ
أُحُد؛ مرّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحمزة بن عبد
المطلب، وقد جُدِعَ ومُثِّل به، فقال: لولا أن تجد صفيّة [في نفسها!] تركته
[حتى تأكُله العافية]، حتى يحشره الله من بطون الطير والسّباع!
فكفّنه في نَمِرَة، [وكانت] إِذا خُمَّرَ رأسه بدت رجلاه، وإذا خُمِّرت
رجلاه بدا رأسه، فخُمّر رأسه، ولم يُصَلِّ على أحد من الشهداء غيرهُ. وقال:
أنا شاهد عليكم اليوم، [قال: وكثرت القتلى، وقلّت الثياب، وقال:] وكان
يَجْمَعُ الثلاثة والاثنين في قبر واحد، ويسأل: أيُّهُم أكثر قرآناً،
فيقدِّمه في اللحد، وكفّن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحد" (1).
وفي رواية قال: "أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على
حمزة يوم أُحد، فوقف عليه، فرآه قد مُثِّل به، فقال: لولا أن تجد صفية في
نفسها؛ لتركته حتى تأكله العافية (2)، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها،
قال: ثمّ دعا بنَمِرة فكفّنه فيها، فكانت إِذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه،
وإذا مُدت على رجليه بدا رأسه.
قال: فكثر القتلى، وقَلَّتْ الثياب.
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (811).
(2) العافية: كلُّ طالب رزق من إِنسان أو بهيمة أو طائر، وجمْعها العوافي.
والمراد هنا: السّباع والطيور التي تأكل الجِيف.
(4/82)
قال: فكُفِّنَ الرجل والرجلان والثلاثة في
الثوب الواحد، ثمّ يدفنون في قبر واحد.
قال: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عنهم
أيُّهم أكثر قرآناً، فيقدمه إِلى القبل.
قال: فدفنهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يصل
عليهم" (1).
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "معنى الحديث أنّه كان يقسم الثوب
الواحد بين الجماعة، فيكفّن كل واحد ببعضه للضرورة، وإِن لم يستر إلاَّ بعض
بدنه، يدلُّ عليه تمام الحديث: أنّه كان يسأل عن أكثرهم قرآناً فيُقدّمه في
اللحد، فلو أنّهم في ثوب واحد جُملة؛ لسأل عن أفضلهم قبل ذلك؛ كي لا يؤدّي
إِلى نقض التكفين وإعادته".
ذكره في "عون المعبود" (3/ 165). قال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا التفسير هو
الصواب. وأما قول من فسّره على ظاهره؛ فخطأ مخالف لسياق القصة كما بيّنه
ابن تيمية! وأبعد منه عن الصواب من قال: معنى: (ثوب واحد) قبرٌ واحد! لأنّ
هذا منصوص عليه في الحديث؛ فلا معنى لإِعادته".
يدفن الشهيد في ثيابه التي قُتل فيها:
ولا يجوز نزْع ثياب الشهيد التي قُتل فيها، بل يُدْفن وهي عليه؛ لقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتلى أُحد: "زمِّلوهم في ثيابهم"
(2).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2689)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (811) وغيرهما.
(2) أخرجه أحمد، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 80).
(4/83)
وفي رواية: "زمّلوهم بدمائهم" (1).
ويُستحبُّ تكفينه بثوب واحد أو أكثر فوق ثيابه، كما فعل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمصعب بن عمير وحمزة بن عبد المطلب كما
تقدّم.
وكذلك ما ثبت عن شدّاد بن الهاد: أن رجلاً من الأعراب جاء إِلى النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فآمن به واتّبعه، ثمّ قال: أُهاجِر
معك، فأوصَى به النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعض
أصحابه، فلمّا كانت غزوة [خَيْبَر] غنم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - شيئاً؛ فقسم وقَسَم له، فأعطى أصحابه ما قَسم له، وكان يرعى
ظهرهم، فلمّا جاء دفعوه إِليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قِسم قَسَمه لك
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأخذه فجاء به إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:
ما هذا؟ قال: قَسَمتُه لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أنْ
أُرمى إِلى هاهُنا، وأشار إِلى حلقه بسهم فأموت، فأدخُل الجنة! فقال: إِنْ
تصدُق الله يصدُقْك.
فلبثوا قليلاً، ثمّ نهضوا في قتال العدو، فأتي به النّبيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَهُوَ هُو؟! قالوا: نعم! قال:
صَدَقَ الله فصدقه ثمّ كفَّنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، في جبَّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قدّمه
فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهمّ هذا عبْدك، خرج مُهاجراً في
سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك" (2).
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1892).
(2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1845)
وغيرهما.
(4/84)
يُكفّن المُحرِم في ثوبيه الذين مات فيهما:
والمُحْرِم يُكفَّن في ثوبيه اللّذين مات فيهما، كما في قوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم في المحرِم الذي وقصته
الناقة: " .. وكفّنوه في ثوبيه [اللذين أحرم فيهما] ... ".
ويستحبّ في الكفن أمور:
الأوّل: البياض.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "البَسوا من ثيابكم البياض؛ فإِنّها من خير ثيابكم، وكفّنوا
فيها موتاكم" (1).
الثاني: كونُه ثلاثةَ أثواب.
عن عائشة -رضي الله عنها-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانِيَةٍ بيض سَحولية (2) من كُرْسُفٍ؛
ليس فيهنّ قميص ولا عِمامة" (3).
وفي زيادة: "أُدرج فيها إِدراجاً" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3284)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (792)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1201)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1788).
(2) سحوليّة: يروى بفتح السين وضمّها، فالفتح منسوب إِلى السَّحُول، وهو
القصّار [المُبيّض للثّياب]؛ لأنه يسْحلُها؛ أي: يغسلها، أو إِلى سَحُول؛
وهي قرية باليمن.
وأمّا الضم؛ فهو جمع سَحْل، وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلاَّ من
قُطن".
(3) أخرجه البخاري: 1264، ومسلم: 941.
(4) أخرجه أحمد، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 83).
(4/85)
الثالث: أن يكون أحدها ثوبَ حِبَرَةٍ (1)
إِذا تيسّر.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا تُوفّي أحدكم فوجد شيئاً؛ فليكفِّن في ثوب حِبَرة"
(2).
قال شيخنا -رحمه الله تعالى- "اعلم أنه لا تعارض بين هذا الحديث وبين
الحديث الأول في البياض: "وكفنوا فيها موتاكم"؛ لإِمكان التوفيق بينهما
بوجه من وجوه الجمع الكثيرة المعلومة عند العلماء، ويخطر في بالي الآن منها
وجهان:
1 - أن تكون الحِبَرة بيضاء مخططة ويكون الغالب عليها البياض؛ فحينئذٍ
يشملها الحديث الأول؛ باعتبار أن العبرة في كل شيء بالغالب عليه، وهذا إِذا
كان الكفن ثوباً واحداً، وأما إِذا كان أكثر؛ فالجمع أيسر؛ وهو الوجه
الآتي.
2 - أن يجعل كفناً واحداً حِبَرةً، وما بقي أبيضَ، وبذلك يُعْمَلُ
بالحديثين معاً.
ْالرابع: تبخيرهُ ثلاثاً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إِذا جمّرتم (3) الميت؛ فأجمروه ثلاثاً" (4).
وهذا الحكم لا يشمل المُحِرم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في المُحْرم الذي وقصته الناقة:
__________
(1) الحِبرة -بوزن عِنَبَة- والحبير من البُرود: ما كان مَوْشِيّاً، وهو
بُرد يمانٍ. وانظر "النهاية"، وتقدّم.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2703) وغيره.
(3) أي: بخّرتموه بالطيب. "النهاية".
(4) أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، وابن حبان في "صحيحه"، وغيرهم، وصححه شيخنا
-رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (84).
(4/86)
" .. ولا تطيّبوه ... ". [تقدّم تخريجه.]
ولا تجوز المُغالاة في الكفن، ولا الزيادة فيه على الثلاثة؛ لأنّه خلاف ما
كُفّن فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه إِضاعة
للمال، وهو منهيّ عنه؛ لا سيّما والحيُّ أولى به.
فعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنّ الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإِضاعة
المال، وكثرة السؤال" (1).
قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "ويُعجبني بهذه المناسبة ما قاله العلاّمة
أبو الطيّب في "الروضة الندية" (1/ 165): "وليس تكثير الأكفان والمغالاة في
أثمانها بمحمود؛ فإِنّه لولا ورود الشرع به؛ لكان من إِضاعة المال؛ لأنّه
لا ينتفع به الميت، ولا يعود نفْعه على الحي، ورحم الله أبا بكر الصّديق
حيث قال: "إِن الحيّ أحقُ بالجديد .. لمّا قيل له عند تعيينه لثوب من
أثوابه في كفنه: إِنّ هذا خَلَق" (2). انتهى.
جاء في "السيل الجرّار" (1/ 348): "أقول: الذي أوصى بأن يُكفّن في زيادة
على سبعة (3) أكفان؛ فقد أوصى بما نهى عنه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- من
إِضاعة المال، وهذا إِضاعة للمال بلا شك ولا شبهة؛ فهو وصية بمحْظور لا
يجوز تنفيذها، وإنما قلنا: إِنه إِضاعة للمال؛ لأنّه لا ينتفع به الميت،
وإن كفن
__________
(1) أخرجه البخاري: 1477، ومسلم: 1715.
(2) أخرجه البخاري: 1387.
(3) ليس فيه جواز التكفين بسبعة أثواب، ولكنّه في معرض الردّ وقد قال -رحمه
الله- في الصفحة نفسها: " ... ولو سلمنا ذلك؛ لكان أفضل الأكفان ثلاثة
دروج؛ فلا يصحّ قول المصنف: والمشروع إِلى سبعة وتراً".
(4/87)
بألف كفن؛ لأن ذلك يصير ترابًا عن قريب.
ومعلوم أنه إِذا كان صحيح العقل لا يقصد التزين بذلك بين أهل البرزخ - فقد
صاروا جميعاً في شغل شاغل عن ذلك-؛ فالصواب أنه يأثم الوصي والوارث بامتثال
هذه الوصية لا بِرَدِّها.
والله -سبحانه- إِنما جعل للميت ثلث ماله ليجعله زيادة في حسناته ويتقرب به
إِلى الله -سبحانه- لا ليضعه في موضع الإِضاعة، ويخالف به ما شرعه الله
لعباده من عدم إِضاعة المال".
والمرأة في ذلك كالرجل، إِذ لا دليل على التفريق.
حَمْلُ الجنازةِ واتّباعُها
حُكم حمل الجنازة واتّباعها:
ويجب حمل الجنازة واتّباعها، وذلك من حقّ الميت المسلم على المسلمين، وفي
ذلك أحاديث منها:
الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
"حقّ المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز،
وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس" (1).
الثاني: قوله أيضاً: "عودوا المريض، واتّبعوا الجنائز؛ تذكّرْكم الآخرة"
(2).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1240، ومسلم: 2162.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والبخاري في "الأدب المفرد" "صحيح
الأدب المفرد" (403/ 518)، وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم.
(4/88)
واتّباعُها على مرتبتين:
الأولى: اتّباعها من عند أهلها، حشى الصلاة عليها.
والأخرى: اتباعها من عند أهلها، حتى يُفرغ من دفنها.
وكُلاًّ منهما فعَل (1) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
هل تتبع جنازة المشرك؟
جاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 265): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن قوم مسلمين
مجاوري النصارى؛ فهل يجوز للمسلم إِذا مرض النصراني أن يعوده؟ وإِذا مات أن
يتبع جنازته؟ وهل على مَن فعَل ذلك من المسلمين وِزْرٌ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا يتبع جنازتَه، وأمّا عيادته فلا بأس بها
(2)؛ فإِنه قد يكون في ذلك مصلحةٌ لتأليفه على الإِسلام، فإِذا مات كافراً؛
فقد وَجَبت له النار؛ ولهذا لا يُصلّى عليه. والله أعلم".
فضل اتباع الجنازة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من شهد الجنازة
__________
(1) انظر "أحكام الجنائز" (ص 87).
(2) وقد تقدّم في ذلك الدليل، لكن ينبغي أن توظّف هذه الزيارة في الدعوة
إِلى الله - تعالى- كما يشير إِلى ذلك الحديث، وهذا ما ذهب إِليه شيخ
الإِسلام -رحمه الله- في الكلام السابق.
أمّا إِذا كان الزائر ضعيف العلم والإِيمان؛ فلا يحلّ له الذّهاب مخافة
الافتتان.
(4/89)
حتى يُصلّى عليها؛ فله قيراط (1)، ومن
شهِدهَا حتى تدفن؛ فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين
العظيمين" (2).
وفي لفظٍ: "أعظم من أُحد" (3).
وفي بعض الشواهد عن أبي هريرة زيادات مفيدة، لعلّه من المُستحسن ذِكْرها:
"وكان ابن عمر يُصلّي عليها، ثمّ ينصرف، فلمّا بلغه حديث أبي هريرة قال:
[أكثر علينا أبو هريرة (وفي رواية: فتعاظمه)]، [فأرسل خبّاباً إِلى عائشة
يسألها عن قول أبي هريرة، ثمّ يرجع إِليه فيُخبره ما قالت؟ وأخذ ابن عمر
قبضةً من حصى المسجد يُقلِّبها في يده، حتى رجع إِليه الرسول، فقال: قالت
عائشة: صدق أبو هريرة.
فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثمّ قال:] لقد فرّطْنا في
قراريط كثيرة! [فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: إِنه لم يكن يَشْغَلني عن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفقة السوق، ولا غرس الوَدِيِّ
(4)، إِنما كنت ألزم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكلمةٍ
يُعلّمنيها، وللُقمة يُطعِمُنيها]، [فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة!
كنت ألزمنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعلمنا
بحديثه] " (5).
__________
(1) القيراط: جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عُشرِه في أكثر البلاد. "لسان
العرب".
(2) أخرجه البخاري: 1325، ومسلم: 945 - واللفظ له-.
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1887).
(4) صغار النّخل.
(5) قال شيخنا -رحمه الله-: "هذه الزيادات كلّها لمسلم (945)، إِلا
الأخيرة؛ =
(4/90)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟!
قال أبو بكر: أنا قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال:
فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا قال: فمن عاد منكم اليوم
مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما اجتمعن في امرئ
إِلا دخَل الجنة" (1).
وهذا الفضْل في اتّباع الجنائز؛ إِنّما هو للرجال دون النساء؛ لنهي النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهنّ عن اتباعها، وهو نهي تنزيه.
عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "نُهينا عن اتباع الجنائز؛ ولم يُعْزَم
علينا" (2).
وفي روإية: "نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
وقد جاء التصريح بأنّ النساء لا أجر لهنَّ في اتباعها: كما في الحديث الذي
أخرجه ابن حبان في "الثقات" (6/ 493) بإِسناده عن عائشة مرفوعاً؛ وهو مخرج
في "الصحيحة" (3012).
__________
= فهي لأحمد؛ وكذا سعيد بن منصور بإِسنادٍ صحيحٍ، كما قال الحافظ في
"الفتح"، والتي قبلها للطيالسي وسندها صحيح على شرط مسلم، والزيادة الثانية
للشيخين، والرواية الثانية فيها للترمذي، وأحمد ... ".
(1) أخرجه مسلم: 1028.
(2) أخرجه البخاري: 1278، ومسلم: 938.
(3) انظر "أحكام الجنائز" (ص 90).
(4/91)
لا يجوزأن تُتَّبَعَ الجنائز بما يخالف
الشريعة:
ولا يجوز أن تُتّبع الجنائز بما يخالف الشريعة، وقد جاء النصُّ فيها على
أمرين: رفع الصوت بالبكاء، واتبّاعها بالبَخُور.
عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
تتّبع جنازة معها رانّة (1) " (2). وعن أبي بُردة قال: "أوصى أبو موسى -رضي
الله عنه- حين حضَره الموت قال: إِذا انطلقتم بجنازتي؛ فأسرعوا بي المشي،
ولا تَتَّبعوني بمِجمَر (3) ... " (4).
وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال وهو في سياق الموت: "فإِذا أنا
مِتُّ؛ فلا تصحبني نائحةٌ ولا نار" (5).
ويلحق بذلك رفع الصوت بالذّكر أمام الجنازة؛ لأنّه بدعة، ولقول قيس بن
عُبَاد: "كان أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرهون
رفع الصوت عند الجنائز" (6).
ولأنّ فيه تشبّهاً بالنصارى؛ فإِنّهم يرفعون أصواتهم بشيء من أناجيلهم
__________
(1) رانّة: الرنّة -بتشديد النون-: الصوت، يُقال: رنّت المرأة؛ إِذا صاحت.
"شرح سنن ابن ماجه" للسندي (1/ 480).
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1287)، وأحمد من طريقين عن مجاهد
عنه، وهو حسن بمجموع الطريقين.
(3) المِجْمَر: هو الذي يوضَع فيه النّار للبَخور، كما تقدّم.
(4) أخرجه أحمد، وابن ماجه بسند حسن وغيرهما، وتقدّم.
(5) أخرجه مسلم: 121.
(6) أخرجه البيهقي، وابن المبارك في "الزهد"، وأبو نعيم بسند رجاله ثقات.
(4/92)
وأذكارهم مع التمطيط والتلحين والتحزين.
وأقبح من ذلك: تشييعها بالعزف على آلالات الموسيقية أمامها عزفاً حزيناً،
كما يفعل في بعص البلاد الإِسلامية تقليداً للكفّار! والله المُستعان.
قال النووي -رحمه الله تعالى- في "الأذكار" (ص 203): "واعلم أنّ الصواب
والمختار وما كان عليه السلف -رضي الله عنهم-: السّكوت في حال السّير مع
الجنازة، فلا يُرْفَعُ صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة،
وهي أنّه أسكن لخاطره، وأجمع لفكره فيما يتعلّق بالجنازة، وهو المطلوب في
هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترّ بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو عليّ
الفُضَيْل بن عِيَاضٍ -رضي الله عنه- ما معناه: الزم طُرق الهدى؛ ولا يضرك
قلّة السالكين، وإيّاك وطرُق الضلالة؛ ولا تغتر بكثرة الهالكين". وقد
روّينا في "سنن البيهقي" ما يقتضي ما قلته (يشير إِلى قول قيس بن عباد).
وأمّا ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها؛ من القراءة
بالتمطيط وإخراج الكلام عن مواضعه، فحرام بإِجماع العلماء، وقد أوضحت
قُبحه، وغلظ تحريمه، وفسق من تمكّن من إِنكاره فلم يُنكره في كتاب "آداب
القراءة". والله المستعان".
قال شيخنا -رحمه الله-: "يشير إِلى كتابه "التبيان في آداب حَمَلة القرآن"
انتهى.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 293): "وسُئل عن رفع الصوت في الجنازة؟
فأجاب: الحمد لله؛ لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة، لا بقراءة ولا ذِكر
(4/93)
ولا غير ذلك؛ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وهو
المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا أعلم فيه مخالفاً؛ بل قد روي
عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّه نهى أن يتبع بصوت
أو نار: رواه أبو داود (1).
وسمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً يقول في جنازة: استغفروا
لأخيكم. فقال ابن عمر: لا غفر الله بعد!
وقال قيس بن عُبَاد -وهو من أكابر التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب -رضي
الله عنه-: كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال.
وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أنّ هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة
المفضلة.
وأما قول السائل: إِن هذا قد صار إِجماعاً من الناس! فليس كذلك؛ بل ما زال
في المسلمين من يكره ذلك، وما زالت جنائز كثيرة تخرج بغير هذا في عدة أمصار
من أمصار المسلمين.
وأما كون أهل بلد -أو بلدين أو عشر- تعوَّدوا ذلك؛ فليس هذا بإِجماع؛ بل
أهل مدينة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي نزل فيها
القرآن والسنة -وهي دار الهجرة، والنصرة، والإِيمان، والعلم- لم يكونوا
يفعلون ذلك؛ بل لو اتفقوا في مثل زمن مالك وشيوخه على شيء، ولم ينقلوه عن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو خلفائه؛ لم يكن
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 91): "أخرجه أبو داود
[انظر "ضعيف أبي داود" (696)]، وأحمد من حديث أبي هريرة، وفي سنده من لم
يسمّ، لكنّه يتقوى بشواهده المرفوعة وبعض الآثار الموقوفة ... ".
(4/94)
إِجماعهم حُجّة عند جمهور المسلمين، وبعد
زمن مالك وأصحابه ليس إِجماعهم حجة باتفاق المسلمين؛ فكيف بغيرهم من أهل
الأمصار.
وأمّا قول القائل: إِنّ هذا يشبه بجنائز اليهود والنصارى! فليس كذلك؛ بل
أهل الكتاب عادتهم رفع الأصوات مع الجنائز، وقد شُرط عليهم في شروط أهل
الذّمة أن لا يفعلوا ذلك.
ثمّ إنما نهينا عن التشبه بهم فيما ليس هو من طريق سلفنا الأول، وأما إِذا
اتبعنا طريق سلفنا الأول كنا مصيبين، وإن شاركنا في بعض ذلك من شاركنا، كما
أنهم يشاركوننا في الدفن في الأرض، وفي غير ذلك".
الإِسراع في السير بها:
ويجب الإِسراع في السير بها، سيراً دون الرَّمَلِ، وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "أسرِعوا بالجنازة؛ فإِن تكُ صالحة؛ فخير تقدّمونها
إِليه، وإن يَكُ سوى ذلك؛ فشرّ تضعونه عن رقابكم" (1).
الثاني: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا وُضِعَتِ الجنازة واحتملها الرجال على
أعناقهم؛ فإِن كانت صالحة قالت: قدّموني، وإن كانت غير صالحة؟ قالت: يا
ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إِلا الإِنسان، ولو سمعه صَعِق"
(2).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1315، ومسلم: 944، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 1314.
(4/95)
الثالث: عن عبد الرحمن بن جَوْشَنٍ قال:
"كنت في جنازة عبد الرحمن بن سَمُرَةَ، فجعل زياد ورجال من مواليه يمشون
على أعقابهم أمام السرير، ثمّ يقولون: رويداً رويداً بارك الله فيكم!!
فلحِقهم أبو بكرة في بعض سِكَكِ المدينة، فحمل عليهم بالبَغْلَةِ، وشدّ
عليهم بالسّوط، وقال: خلُّوا! والذي أكرم وجه أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لقد رأيتنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنكاد أن نَرْمُلَ بها رَمَلاً" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: ظاهر الأمر الوجوب [أي: الإِسراع بالجنازة]، وبه
قال ابن حزم (5/ 154 - 155)، ولم نجد دليلاً يصرفه إِلى الاستحباب، فوقفنا
عنده، وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "وأمّا دبيب الناس اليوم خطوة خطوة؛
فبدعة مكروهة، مخالفة للسنّة، ومتضمّنة للتشبّه بأهل الكتاب اليهود" ... "
انتهى.
وجاء في "الروضة الندية" (1/ 430): "والحق: هو القصد في المشي، فالأحاديث
المصرحة بمشروعية الإِسراع؛ ليس المراد بها الإِفراطَ في المشي الخارج عن
حد الاعتدال، والأحاديث التي فيها الإِرشاد إِلى القصد؛ ليس المراد بها
الإِفراطَ في البُطْءِ، فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإِفراط
والتفريط؛ يصدق عليها أنه إِسراع بالنسبة إِلى الإِفراط في البطء، وأنها
قصد بالنسبة إِلى الإِفراط في الإِسراع، فيكون المشروع دون الخبب، وفوق
المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم".
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2725)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1805) وغيرهما.
(4/96)
أين يكون الماشي
والراكب من الجنازة؟
ويجوز المشي أمامها وخلفها وعن يمينها ويسارها، على أن يكون قريباً منها،
إِلا الراكب فيسير خلفها.
فعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: "الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها
وعن يمينها وعن يسارها؛ قريباً منها؛ والسِّقْط يُصلّى عليه ويُدعى لوالديه
بالمغفرة والرحمة" (1).
وكل من المشي أمامها وخلفها ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِعْلاً، كما قال أنس ابن مالك -رضي الله عنه-: "إِنّ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون
أمام الجنازة وخلفها" (2).
ما هو الأفضل؟
لكن الأفضل المشي خلفها؛ لأنّه مقتضى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "واتبعوا الجنائز" (3).
ويؤيِّده قول علي -رضي الله عنه-: "المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل
صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذّاً" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2723)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1205)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (823)، والنسائي "صحيح سنن
الترمذي" (1834).
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1207)، والطحاوي.
(3) تقدّم بتمامه بلفظ: "عودوا المريض، واتبعوا الجنائز، تذكّرْكم الآخرة".
(4) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي وغيرهم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص
96).
(4/97)
الجنازة" .. " (1).
لكر، الأفضل المشي؛ لأنّه المعهود عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، ولم يَرِدْ أنّه ركب معها؛ بل قال ثوبان -رضي الله عنه-: "إِنّ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بدابة وهو مع الجنازة؛
فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتي بدابة فركب، فقيل له؟ فقال: إِنّ الملائكة
كانت تمشي؛ فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبْتُ" (2).
وأمّا الركوب بعد الانصراف عنها؛ فجائز بدون كراهة؛ لحديث ثوبان المذكور
آنفاً، ومِثله حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "صلّى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ابن الدَّحداح، تم أُتي بفرس
عُرْي (3)؛ فعقله (4) رجل فركبه، فجعل يتوقّص (5) به؛ ونحن نتّبعه ونسعى
خلفه، فال: فقال رجل من القوم: إِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: كم من عِذْق (6) مُعلّق (أو مُدلّى) في الجنة لابن
الدحداح! أو قال شعبة: لأبي الدحداح! " (7).
__________
(1) تقدّم.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2720).
(3) عُري؛ أي: لا سرج عليه ولا غيره. "النهاية".
(4) أي: أمسَكه له وحبَسه.
(5) يتوقّص به؛ أي: يَثب ويُقارب الخُطَى. "النهاية".
(6) قال النووي -رحمه الله - (7/ 33): العِذق هنا بكَسر العين المهملة: وهو
الغصن من النخلة. وأما العَذق بفتحها: فهو النخلة بكماَلها، وليس مراداً
هنا".
(7) أخرجه مسلم: 965.
(4/98)
تحريم حمل الجنازة
على عربة مخصصة لها ونحو ذلك:
وأمّا حمل الجنازة على عربة أو سيارة مخصصة للجنائز، وتشييع المُشيعين لها
وهم في السيارات؛ فهذه الصورة لا تُشْرع البتة، وذلك لأمور:
الأول: أنها من عادات الكُفار، وقد تقرّر في الشريعة أنّه لا يجوز تقليدهم
فيها.
الثاني: أنها بدعة في عبادة، مع مُعارضتها للسّنة العملية في حمل الجنازة،
وكلّ ما كان كذلك من المُحدثات؛ فهو ضلالة اتفاقاً.
الثالث: أنها تُفوّت الغاية من حملها وتشييعها، وهي تذكّر الآخرة، كما في
الحديث المتقدّم: " .. واتبعوا الجنائز تُذكّركم الآخرة".
قال شيخنا -رحمه الله-: إِنّ تشييعها على تلك الصّورة ممّا يفوّت على الناس
هذه الغاية الشريفة تفويتاً كاملاً أو دون ذلك؛ فإِنّه ممّا لا يخفى على
البصير أنّ حمل الميت على الأعناق (1)، ورؤية المشيعين لها وهي على
__________
(1) وقد أوصى شيخنا -رحمه الله- أن تُحمَل جنازته على الأعناق، وكان ذلك،
مع ما كان مِن مسافة؛ لكن لم يشعر بها المشيّعون وحفظ الله سماحة الشيخ
الوالد العثيمين؛ فقد قال: طبّق السّنة في حياته وبعد مماته. وقد كان هذا
خلال حياته، ثمّ وقعت مصيبة الموت، فرحمه الله -تعالى- وألحقنا به وأشياخنا
ووالدينا وأحبابنا في الجنّة؛ مع النّبين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقاً.
فأقول بهذه المناسبة المفجعة:
واحرَّ قلباهُ من فَقْدِ العثيميِن ... لا شيء بعدك في دُنْيايَ يُرضيني
ذَهبَ الأئمّةُ يا حُزني ويا أَلمي ... ماتَ ابنُ بازٍ وأيضاً ناصرُ
الدِّينِ =
(4/99)
رؤوسهم؛ أبلغ في تحقيق التذكّر والاتعاظ من
تشييعها على الصّورة المذكورة، ولا أكون مُبالغاً إِذا قلت: إِنّ الذي حمل
الأوروبيين عليها إِنّما هو خوفهم من الموت وكل ما يذكّر به؛ بسبب تغلُّب
المادة عليهم وكفرهم بالآخرة! ".
الرابع: أنها سبب قويّ لتقليل المُشيّعين لها والرّاغبين في الحصول على
الأجر.
الخامس: أنّ هذه الصّورة لا تتفق من قريب ولا من بعيد -مع ما عُرف عن
الشريعة المُطهّرة السمحة من البُعد عن الشكليّات والرسميّات، لا سيّما في
مثل هذا الأمر الخطير: الموت!
نسْخ القيام للجنازة:
والقيام لها منسوخ، وهو على نوعين:
أ- قيام الجالس إِذا مرّت به.
ب- وقيام المُشيّع لها عند انتهائها إِلى القبر حتى تُوضْع على الأرض.
والدليل على ذلك. حديث عليّ -رضي الله عنه- وله ألفاظ:
الأول: عن عليّ -رضي الله عنه- قال: "رأينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فقمنا؛ وقعد فقعدنا؛ يعني: في الجنازة" (1).
__________
= هل ظلَّ مِن رغَدٍ في العيش أَنشُدُه ... بل طاب بَعْدَكُمُ غَسْلي
وتكفيني
تبكي القَصِيمُ ولا تبكي بِمُفْرَدِها ... فالدَّمْعُ في مِصْرَ في
الأفغانِ في الصينِ
(1) أخرجه مسلم: 962.
(4/100)
الثاني: "كان يقوم في الجنائز، ثمّ جلس
بَعْدُ" (1).
الثالت: من طريق واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: "شهدت جنازة في بني
سَلِمَة، فقمت، فقال لي نافع بن جبير: اجلس؛ فإِنّي سأخبرك في هذا بثَبْتٍ،
حدّثني مسعود بن الحكم الزُّرَقيُّ أنه سمع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
برَحْبَة الكوفة وهو يقول: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمرنا بالقيام في الجنازة، ثمّ جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس"
(2).
الرابع: عن إِسماعيل بن مسعود بن الحكم الزُّرَقي عن أبيه قال: "شهدتُ
جنازة بالعراق، فرأيت رجالاً قياماً ينتظرون أن توضع، ورأيت عليّ بن أبي
طالب -رضي الله عنه- يشير إِليهم: أن اجلسوا؛ فإِن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمَرَنا بالجلوس بعد القيام" (3).
استحباب الوضوء لمن حمَلها:
ويُستحبُّ لمن حملها أن يتوضأ؛ للحديث المتقدّم: "من غسل ميتاً فليغتسل،
ومن حمله فليتوضأ".
__________
(1) رواه مالك وعنه الشافعي في "الأم"، وأبو داود.
(2) أخرجه الشافعي، وأحمد، والطحاوي، وابن حبان في "صحيحه".
(3) أخرجه الطحاوي بسند حسن.
(4/101)
الصلاة على الجنازة
شروطها (1):
*صلاة الجنازة يتناولها لفظ الصلاة، فيشترط فيها الشروط التي تفرض في سائر
الصلوات المكتوبة: من الطهارة الحقيقية، والطهارة من الحدث الأكبر والأصغر،
واستقبال القبلة، وستر العورة.*
لكنّه إِذا خشي فوات الصلاة؛ فله أن يتيمّم وبه يقول شيخ الإِسلام - رحمه
الله- كما في "مجموع الفتاوى"، وكذلك شيخنا -رحمه الله- في إِجابةٍ
أجابنيها.
حُكمها:
والصلاة على الميت المسلم فرض كفاية؛ لأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بها في أحاديث منها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنّ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يُؤتى بالرّجل الميّت،
عليه الدّين، فيسأل: هل ترك لدَيْنه من قضاء؟ فإِنْ حُدّث أنّه ترك وفاءً
صلّى عليه؛ وإلا قال: صلّوا على صاحَبكم، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال:
أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفّي وعليه دَيْن؛ فعليَّ قضاؤه، ومن
ترك مالاً فهو لورثته" (2).
عدم وجوب الصلاة على شخصين:
ويستثنى من ذلك شخصان؛ فلا تجب الصلاة عليهما:
__________
(1) ما بين نجمتين من "فقه السّنّة" (1/ 521).
(2) أخرجه البخاري: 2298، ومسلم: 1619 - واللفظ له-.
(4/102)
الأول: الطفل الذي لم يبلغ؛ لأنّ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُصلِّ على ابنه إِبراهيم؛ قالت
عائشة -رضي الله عنها-: "مات إِبراهيم ابن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصلِّ عليه رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (1).
الثاني: الشهيد؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يُصلِّ على شهداء أُحد وغيرهم؛ وفي ذلك ثلاثة أحاديث سبَق ذِكْرها: منها
حديث أنس -رضي الله عنه-: "أنّ شهداء أحد لم يُغسّلوا، ودُفنوا بدمائهم،
ولم يُصلّ عليهم [غير حمزة] ".
ولكنّ ذلك لا ينفي مشروعية الصلاة عليهما بدون وجوب، كما يأتي من الأحاديث
فيهما في المسألة التالية:
وتُشرع الصلاة على من يأتي ذكرهم.
الأول: الطفل، ولو كان سِقْطاً (وهو الذي يَسْقُط من بطن أُمّه قبل تمامه)،
وفي ذلك حديثان:
1 - " .. والطفل (وفي رواية: السِّقْط) يُصلّى عليه، ويُدعى لوالديه
بالمغفرة والرحمة" (2).
2 - وعن عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: دُعي رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى جنازة صبيّ من الأنصار، فقلت: يا رسول
الله! طوبى لهذا؛ عُصفور من عصافير الجنّة؛ لم يعمل السُّوء ولم يدركه!
قال: أوَ غيرَ ذلك يا عائشة! إِنّ الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2729) وغيره.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2723)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1834) وغيرهما، وتقدّم.
(4/103)
أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها
وهم في أصلاب آبائهم" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "وأجاب السّندي في "حاشيته على النسائي" بجوابٍ
خلاصتُه: أنّه إِنما أنكر عليها الجزم بالجنة لطفل معين: قال: ولا يصحّ
الجزم في مخصوص؛ لأنّ إِيمان الأبوين -تحقيقاً- غيب، وهو المناط عند الله
-تعالى-.
والظاهر أن السِّقْط إِنّما يُصلّى عليه إِذا كان قد نُفخت فيه الروح، وذلك
إِذا استكمل أربعة أشهر ثمّ مات، فأمّا إِذا سقط قبل ذلك فلا؛ لأنّه ليس
بميت كما لا يخفى".
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو الصادق المصدوق-: إِنّ خلْق أحدكم يُجمَع
في بطن أُمّه أربعين يوماً وأربعين ليلة، ثمّ يكون علقة مثله، ثم يكون
مُضغة مثله، ثمّ يُبْعَثُ إِليه الملك، فَيُؤْذَنُ بأربع كلمات، فيكتب رزقه
وأجله وعمله وشقيٌّ أم سعيد، ثمّ ينفخ فيه الروح: فإِنّ أحدكم ليعمل بعمل
أهل الجنة، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل
بعمل أهل النار فيدخل النار.
وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار؛ حتى ما يكون بينها وبينه إِلا ذراع،
فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها" (2).
وجاء في "المحلّى" (5/ 233 - مسألة: 598): "ونستحب الصلاة على
__________
(1) أخرجه مسلم: 2662.
(2) أخرجه البخاري: 7454، ومسلم: 2643.
(4/104)
المولود يولد حياً ثمّ يموت -استهل أو لم
يستهل-؛ وليس الصلاة عليه فرضاً ما لم يبلغ.
أمّا الصلاة عليه؛ فإِنها فعل خير لم يأت عنه نهي!
وأمّا ترك الصلاة عليه؛ فلما روينا من طريق أبي داود: ثمّ ذكر إِسناده إِلى
عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "مات إِبراهيم ابن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثمانية عشر شهراً، فلم يصلّ
عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
وقال: هذا خبر صحيح؛ ولكن إِنما فيه ترك الصلاة، وليس فيه نهي عنها.
الثاني: الشهيد، وفيه أحاديث كثيرة:
منها: عن شَدَّاد بن الهادِ: "أنّ رجلاً من الأعراب جاء إِلى النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فآمن به واتّبعه، ثمّ قال: أُهاجر
معك .. فلبثوا قليلاً، ثمّ نهضوا في قتال العدوّ، فأُتِيَ به النّبيُّ
يُحْمَل قد أصابه سهم .. ثمّ كفّنه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فى جُبَّته، ثمّ قدّمه فصلّى عليه ... " (1).
عن عبد الله بن الزبير: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَمَر -يوم أحد- بحمزة؛ فسُجِّي ببردةٍ، ثمّ صلّى عليه (2)،
فكبر تسع تكبيرات، ثمّ أُتي بالقتلى يُصَفُّون، ويصلّي عليهم، وعليه معهم"
(3).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قد يقول قائل: لقد ثبت في هذه الأحاديث
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1845) وغيره بسند صحيح، وتقدّم.
(2) وللجمع بين هذا الحديث والحديث المتقدّم (ص 103) ولم يصلّ عليهم غير
حمزة؛ انظر "أحكام الجنائز" (ص 107).
(3) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وإسناده حسن، وانظر "أحكام
الجنائز" (ص 106).
(4/105)
مشروعية الصلاة على الشهداء، والأصل أنّها
واجبةٌ، فلماذا لا يُقال بالوجوب؟!
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: لما سبق ذكره في المسألة (58) [يعني: من
كتابه؛ وهي هنا قبل بضع صفحات] ونزيد على ذلك هنا فنقول: لقد استشهد كثير
من الصحابة في غزوة بدر وغيرها، ولم يُنقل أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى عليهم ولو فعَل لنقلوه عنه، فدلّ ذلك أنّ الصلاة
عليهم غير واجبة. ولذلك قال ابن القيم في "تهذيب السنن" (4/ 295): "والصواب
في المسألة ... أنه مخير بين الصلاة عليهم، وتركها؛ لمجيء الآثار بكل واحد
من الأمرين، وهذا إِحدى الروايات عن الإِمام أحمد، وهي الأَلْيَقُ بأصوله
ومذهبه".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: ولا شكّ أنّ الصلاة عليهم أفضل من الترك إذا
تيسّرت؛ لأنها دعاء وعبادة.
الثالث: من قُتل في حدّ من حدود الله؛ لحديث عمران بن حصين: "أنّ امرأة من
جُهَيْنَةَ أتت نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي حُبلى
من الزّنى، فقالت: يا نبي الله! أصبت حدّاً فأقمه عليّ.
فدعا نبيّ الله وليَّها، فقال: "أحسِن إِليها، فإِذا وضعت فأْتِني بها
ففعل، فأمر بها نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فشُكّت
عليها ثيابها (1)، ثمّ أَمر بها فرجمت، ثمّ صلّى عليها، فقال له عمر: تُصلي
عليها؟ يا نبي الله وقد زَنَتْ؟! فقال: لقد تابت توبة، لو قُسمت بين سبعين
من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبةً أفضل
__________
(1) أي: شُدّت، وقد وَردت هكذا في بعض النّسخ كما قال النووي -رحمه الله
تعالى-.
(4/106)
من أن جادت بنفسها لله -تعالى-؟! " (1).
الرابع: الفاجر المنبعث في المعاصي والمحارم، مثل تارك الصلاة والزّكاة مع
اعترافه بوجوبهما،، والزاني ومُدْمن الخمر، ونحوهم من الفُساق؛ فإِنه يصلّي
عليهم؛ إِلا أنه ينبغي لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاة عليهم؛ عقوبة
وتأديباً لأمثالهم، كما فعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وفي ذلك أحاديث:
1 - عن أبي قتادة قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إِذا دُعي لجنازة سأل عنها، فإِنْ أُثني عليها خير قام فصلّى عليها، وإن
أُثني عليها غير ذلك قال لأهلها: شأنَكُم بها ولم يُصلِّ عليها" (2).
2 - عن جابر بن سمَرة -رضي الله عنه- قال: "أُتي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قَتَل نفسه بمشاقص (3)؛ فلم يُصَلِّ عليه" (4).
قال أبو عيسى -رحمه الله- تعليقاً على حديث جابر بن سمرة: "وقد اختلف أهل
العلم في هذا: فقال بعضهم: يُصلّى على كلِّ من صلّى للقبلة، وعلى قاتل
النفس، وهو قول سُفيان الثوري وإسحاق، وقال أحمد: لا يُصلّي الإِمام على
قاتل النفس، ويصلّي عليه غير الإِمام".
__________
(1) أخرجه مسلم: 1696.
(2) أخرجه أحمد، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي،
وشيخنا -رحمه الله- كما في "أحكام الجنائز" (ص 109).
(3) المشاقص: سهام عراض، واحدها مِشقص -بكسر الميم وفتح القاف-.
(4) أخرجه مسلم: 978.
(4/107)
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في
"الاختيارات" (ص 52): "ومن امتنع من الصلاة على أحدهم (يعني: القاتل
والغالَّ والمدين الذي ليس له وفاء) زجراً لأمثاله عن مثل فعله؛ كان حسناً،
ولو امتنع في الظاهر، ودعا له في الباطن، ليجمع بين المصلحتين؛ كان أولى من
تفويت إِحداهما".
قال النووي -رحمه الله- بعد الحديث السابق: "أُتي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يُصَلِّ عليه": وفي هذا
الحديث دليل لمن يقول: لا يصلّى على قاتل نفسه لعصيانه، وهذا مذهب عمر بن
عبد العزيز والأوزاعي.
وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء:
يُصلّى عليه، وأجابوا عن هذا الحديث بأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لم يصل عليه بنفسه؛ زجراً للناس عن مثل فعله، وصلت
عليه الصحابة، وهذا كما ترك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الصلاة في أول الأمر على من عليه دين؛ زجراً لهم عن التساهل في الاستدانة،
وعن إِهمال وفائه؛ وأمر أصحابه بالصلاة عليه، فقال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا على صاحبكم".
قال القاضي: مذهب العلماء كافةً: الصلاةُ على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل
نفسه وولد الزنى.
وعن مالك وغيره: أن الإِمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد، وأن أهل الفضل
لا يُصلّون على الفساق زجراً لهم ... " انتهى.
وجاء في "الأوسط" (5/ 408) -بعد إِيراد عدد من النّصوص والآثار-: "سنّ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة على المسلمين ولم يستثن
منهم أحداً، وقد دخَل في جُملهم الأخيار والأشرار، ومن قُتل في حد، ولا
نعلم خبراً أوجب استثناء
(4/108)
أحدٍ ممن ذكَرناه، فيُصلّ على من قَتل
نفسه، وعلى من أُصيب في أي حد أصيب فيه، وعلى شارب الخمر، وولد الزنى، لا
يستثنى منهم إِلا من استثناه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- من الشهداء الذين أكرمَهم الله بالشهادة، وقد ثبَت أن نبيّ الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على من أصيب في حدّ".
وجاء في "المحلّى" (5/ 249 - مسألة: 611) -بحذف-: "ويصلّى على كلّ مسلم،
برّ أو فاجر، مقتول في حدّ، أو في حرابة، أو في بغي، ويصلّي عليهم الإِمام،
وغيره ...... لعموم أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بقوله: "صلّوا على صاحبكم (1)، والمسلم صاحب لنا، قال -تعالى-: {إِنما
المؤمنون إِخوة} (2)، وقال -تعالى-: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء
بعض} (3).
فمن منَع من الصلاة على مسلم؛ فقد قال قولاً عظيماً، وإن الفاسق لأحوج إِلى
دعاء إِخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم.
وصح عن عطاء: أنه يصلى على ولد الزنى، وعلى أمه، وعلى المتلاعِنَين، وعلى
الذي يقاد منه، وعلى المرجوم، والذي يفرّ من الزحف فيُقتل.
قال عطاء: لا أدَع الصلاة على من فال: لا إِله إِلا الله؛ قال -تعالى-: {من
بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} (4).
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) الحجرات: 10.
(3) التوبة: 71.
(4) التوبة: 113.
(4/109)
قال عطاء: فمن يعلم أن هؤلاء من أصحاب
الجحيم؟!
قال ابن جريج: فسألت عمرو بن دينار؟ فقال مثل قول عطاء!
وصح عن إِبراهيم النخعي أنه قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل
القبلة، والذي قتل نفسه يصلّى عليه.
وصح عن قتادة: صلّ على من قال: لا إِله إِلا الله، فإِن كان رجلَ سوء
جدّاً؛ فقل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات! ما أعلم
أحداً من أهل العلم اجتنب الصلاة على من قال: لا إِله إِلا الله!
وصح عن ابن سيرين: ما أدركت أحداً يتأثم من الصلاة على أحد من أهل القبلة.
وصح عن الشعبي أنه قال في رجل قتل نفسه: ما مات فيكم -مذ كذا- وكذا أحوجُ
إِلى استغفاركم منه".
الخامس: المدِين الذي لم يترك من المال ما يقضي به دينه؛ فإِنّه يُصلّى
عليه، وإنما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة
عليه في أوّل الأمر.
عن سَلَمَة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "كنّا جُلوساً عند النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذ أُتي بجنازة فقالوا: صلّ عليها،
فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا. قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، فصلّى عليه،
ثمّ أُتي بجنازة أخرى فقالوا: يا رسول الله! صلّ عليها.
قال: هل عليه دَين؟ قيل: نعم.
قال: فهل ترك شيئاً؟
(4/110)
قالوا: ثلاثة دنانير، فصلّى عليها.
ثمّ أُتي بالثالثة فقالوا: صلّ عليها، قال: هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا. قال:
فهل عليه دَين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلّوا على صاحبكم.
قال أبو قتادة: صلِّ عليهِ يا رسول الله! وعليَّ دينه، فصلّى عليه" (1).
وعن أبي قتادة -رضي الله عنه-: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أُتيَ برجل من الأنصار ليصلّي عليه، فقال النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا على صاحبكم، فإِنّ عليه دَيْناً.
قال أبو قتادة: هو عليّ، قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: بالوفاء؟ قال: بالوفاء، فصلّى عليه" (2).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يُؤتى بالرّجل المُتوفّى؛ عليه الدين، فيسأل هل ترك لدينه
فضلاً (3) فإِنّ حُدِّث أنّه ترك لدينه وفاءً صلّى؛ وإِلا قال للمسلمين
صلّوا على صاحبكم، فلمّا فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، فمن تُوُفّي من المؤمنين فترك ديناً؛ فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً
فلورثته" (4).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قال أبو بشر يونس بن حبيب -راوي "مسند
__________
(1) أخرجه البخاري: 2289.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (854)، والنسائي "صحيح سنن النسائي"
(1851)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (45).
(3) في بعض النسخ: "قضاءً".
(4) أخرجه البخاري: 2298، ومسلم: 1619، وتقدّم.
(4/111)
الطيالسي"- عقب الحديث: "سمعت أبا داود
-يعني: الطيالسي- يقول: بذا نسخ تلك الأحاديث التي جاءت على الّذي عليه
الدين" انتهى.
هلّ يُصلّى على الميت الذي كان لا يصلّي:
جاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 285): "وسُئل -رحمه الله- عن الصلاة على الميت
الذي كان لا يصلّي؛ هل لأحد فيها أجر أم لا؟ وهل عليه إِثم إِذا تركها، مع
علمه أنه كان لا يصلّي؟ وكذلك الذي يشرب الخمر وما كان يصلّي؛ هل يجوز لمن
كان يعلم حاله أن يصلّي عليه أم لا؟
فأجاب: أما من كان مظهراً للإِسلام، فإِنّه تجري عليه أحكام الإِسلام
الظاهرة: من المناكحة، والموارثة، وتغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر
المسلمين، ونحو ذلك؛ لكن من عُلِمَ منه النفاق والزندقة؛ فإِنّه لا يجوز
لمن عَلِمَ ذلك منه الصلاة عليه، وإن كان مظهراً للإِسلام، فإِن الله نهى
نبيه عن الصلاة على المنافقين، فقال: {ولا تُصلِّ على أحد منهم مات أبداً
ولا تَقُم على قبره إِنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} (1)،
وقال: {سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} (2).
وأما من كان مظهراً للفسق -مع ما فيه من الإِيمان- كأهل الكبائر؛ فهؤلاء لا
بد أن يصلّي عليهم بعض المسلمين، ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً
لأمثاله عن مثل ما فعله، كما امتنع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الصلاة على قاتل نفسه،
__________
(1) التوبة: 84.
(2) المنافقون: 6.
(4/112)
وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له،
وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع؛ كان عمله بهذه
السنة حسناً، ومن صلّى على أحدهم يرجو له رحمة الله، ولم يكن في امتناعه
مصلحة راجحة؛ كان ذلك حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن -ليجمع
بين المصلحتين-؛ كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت أحداهما.
وكل من لم يُعْلَمْ منه النفاق وهو مسلم؛ يجوز الاستغفار له، والصلاة عليه،
بل يشرع ذلك، ويؤمر به، كما قال -تعالى-: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين
والمؤمنات} (1). وكل من أظهر الكبائر؛ فإِنّه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره،
حتى ممن في هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب
الإِمكان". والله أعلم.
وفيه (ص 287): وسئل عن رجل يصلّي وقتاً، ويترك الصلاة كثيراً، أو لا يصلّي؛
هل يصلّى عليه؟
فأجاب: "مثل هذا ما زال المسلمون يصلون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون
النفاق يصلّي المسلمون عليهم، ويغسَّلون، وتجري عليهم أحكام الإِسلام، كما
كان المنافقون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن كان من علم نفاق شخص لم يجز له أن يصلّي عليه، كما نُهِيَ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على من علم نفاقه.
وأمّا من شك في حاله؛ فتجوز الصلاة عليه إِذا كان ظاهر الإِسلام، كما صلّى
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من لم يُنْهَ عنه، وكان
فيهم من لم يعلم نفاقه، كما قال -
__________
(1) محمد: 19.
(4/113)
تعالى-: {وممن حولكم من الأعراب منافقون
ومن أهل الدينة مَرَدُوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} (1).
ومثل هولاء لا يجوز النهي عنه؛ ولكن صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين على المنافق لا تنفعه، كما قال النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لمَا ألبس ابن أُبيٍّ قميصه (2) -:
"وما يُغني عنه قميصي من الله؟! "؛ وقال -تعالى-: {سواء عليهم أستغفرت لهم
أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} (3).
وتارك الصلاة أحياناً، وأمثاله من المتظاهرين بالفسق؛ فأهل العلم والدين
إِذا كان في هجر هذا، وترك الصلاة عليه منفعة للمسلمين -بحيث يكون ذلك
باعثاً لهم على المحافظة على الصلاة عليه-[هجروه ولم يصلوا عليه]، كما ترك
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة على قاتل نفسه،
والغال، والمدين الذي لا وفاء له، وهذا شرٌّ منهم".
السادس: مَن دُفن قبل أن يُصلّى عليه، أو صَلّى عليه بعضهم دون بعض،
فيصلّون عليه في قبره، على أن يكون الإِمام في الصورة الثانية ممّن لم يكن
صلّى.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ امرأةً (4) سوداء كانت تقُمّ المسجد
(أو
__________
(1) التوبة: 101.
(2) انظر "صحيح البخاري": 4670، و"صحيح مسلم": 2400 دون "وما يُغني عنه
قميصي من الله".
(3) المنافقون: 6.
(4) انظر "أحكام الجنائز" (ص 113) في ترجيح شيخنا -رحمه الله- أنها امرأة.
(4/114)
شابّاً)، ففقدها رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل عنها (أو عنه)؟ فقالوا: مات، قال: أفلا
كنتم آذنتموني؟! قال: فكأنّهم صغّروا أمرها (أو أمره)، فقال: دُلُّوني على
قبره. فدلوه، فصلّى عليها ثمّ قال: إِنّ هذه القبور مملوءةٌ ظُلمةً على
أهلها، وإنّ الله عزّ وجلّ ينوّرها لهم بصلاتي عليهم" (1).
وعن يزيد بن ثابت -وكان أكبر من زيد- قال: خرجنا مع النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ورد البقيع؛ فإِذا هو بقبر جديد، فسأل
عنه؟ فقالوا: فلانة. قال: فعرفها. وقال: "ألا آذنتموني بها؟! قالوا: كنت
قائلاً صائماً، فكرهنا أن نؤذيك! قال: فلا تفعلوا، لا أعرفنّ ما مات منكم
ميت -ما كنت بين أظهركم- إِلا آذنتموني به؛ فإِنّ صلاتي عليه له رحمة ثمّ
أتى القبر فصففنا خلفه، فكبّر عليه أربعاً" (2).
قال الإِمام أحمد -رحمه الله- ومن يشك في الصلاة على القبر؟! يروى عن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ستة وجوه؛ كلّها حسان
(3).
وجاء في "المحلّى" (5/ 210 مسألة: 581): "ورُوِّينا عن معمر عن أيوب
السَّخْتيَاني عن ابن أبي مليكة: مات عبد الرحمن بن أبي بكر على ستة أميال
من مكَة؛ فحملناه، فجئنا به مكة. فدفناه، فقدمت علينا عائشة أمّ المؤمنين
فقالت: أين قبر أخي؟ فدللناها عديه، فوضعت في هودجها عند قبره فصلت
__________
(1) أخرجه البخاري: 458، ومسلم: 956 - واللفظ له-.
(2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1911)، وابن ماجه واللفظ له "صحيح
سنن ابن ماجه" (1239).
(3) انظر -للمزيد من الفوائد- "الإِرواء" (3/ 183).
(4/115)
عليه!
.. وعن ابن عمر: أنّه قدم وقد مات أخوه عاصم، فقال: أين قبر أخي؟ فدُل
عليه؛ فصلّى عليه ودعا له.
وعن علي بن أبي طالب: أنّه أمر قَرَظَةَ بن كعب الأنصاري أن يصلّي على قبر
سهل بن حُنَيْفِ بقوم جاءوا بعد ما دفن وصُلِّي عليه.
وعن علي بن أبي طالب أيضاً: أنّه صلّى على جنازة بعد ما صُلِّي عليها.
وأن أنس بن مالك صلّى على جنازة بعدما صُلّي عليها.
وعن ابن مسعود نحو ذلك.
وعن سعيد بن المسيَّب إِباحة ذلك.
وعن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: أنّه صلّى على جنازة بعدما صلِّي عليها.
وعن قتادة: أنّه كان إِذا فاتته الصلاة على الجنازة صلّى عليها.
فهذه طوائف من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف.
وأمّا أمر تحديد الصلاة بشهر أو ثلاثة أيام؛ فخطأ لا يشكل؛ لأنّه تحديد بلا
دليل؛ ولا فرق بين من حد بهذا، أو من حد بغير ذلك".
السابع: من مات في بلد ليس فيها من يصلّي عليه صلاةَ الحاضر، فهذا يُصلّي
عليه طائفة من المسلمين صلاة الغائب؛ لصلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النّجاشيّ.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم
(4/116)
الذي مات فيه، خرج الى المصلّى؛ فصفّ بهم
وكبّر أربعاً" (1).
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 249 - مسألة: 610): "ويصلى على
الميت الغائب بإِمام وجماعة؟ قد صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على النجاشي -رضي الله عنه- ومات بأرض الحبشة؛ وصلّى معه
أصحابه عليه صفوفاً، وهذا إِجماع منهم لا يجوز تعدّيه".
قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 118): "واعلم أنّ هذا الذي
ذكرناه من الصلاة على الغائب: هو الذي لا يتحمّل الحديث غيره، ولهذا سبقَنا
إِلى اختياره ثُلّةٌ من مُحقّقي المذاهب، وإليك خلاصةً من كلام ابن القيم
-رحمه الله- في هذا الصدد؟ قال في "زاد المعاد" (1/ 205 و206): "ولم يكن من
هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسُنته الصلاة على كلّ ميت
غائب؛ فقد مات خلْق كثير من المسلمين وهم غُيَّبٌ، فلم يصلّ عليهم، وصحّ
عنه أنّه صلّى على النجاشي صلاته على الميت، فاخْتُلِفَ في ذلك على ثلاثة
طرق:
1 - أنّ هذا تشريع وسنّة للأمّة الصلاة على كلّ غائب. وهذا قول الشافعي
وأحمد.
2 - وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاص به، وليس ذلك لغيره.
3 - وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "الصواب: أنّ الغائب إِن مات ببلدٍ لم
يُصَلَّ عليه فيه، صُلّي عليه صلاةَ الغائب، كما صلّى النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النجاشي؛ لأنه مات بين الكُفار ولم يصلَّ
عليه. وإنْ صُلّي عليه -حيث مات- لم يصلَّ
__________
(1) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951، وتقدّم.
(4/117)
عليه صلاة الغائب؛ لأنّ الفرض سقط بصلاة
المسلمين عليه، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على
الغائب وتَرَكَهُ، وفِعْلُهُ وتَرْكُه سُنّة، وهذا له موضع، والله أعلم.
والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد، وأصحُّها هذا التفصيل" .. ".
قلت: ولو كانت الصلاة مشروعة على كل غائب؛ لنُقل إِلينا صلاة الصحابة -رضي
الله عنهم- الذين لم يتمكّنوا من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولُنقِل إِلينا كذلك صلاة الأئمة الأعلام من بعدهم
على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه -رضي الله
عنهم-.
هل يُصلّى على العضو إِذا لم يُوجَدْ غيره؟
اختلف العلماء فيما إِذا وُجد عُضو من الميت، هل يصلّ عليه أم لا؟
فقالت طائفة: يصلّ عليه، وهو قول الإِمامين: الشافعى وأحمد -رحمهما الله
تعالى-.
وقالت طائفة: لا يصلّى عليه.
والراجح: هو الصلاة عليه؛ لأن ذَهاب بعض الميت لا يعني ذَهاب حرمة ما بقي.
جاء في "الأوسط" (5/ 411): "قال أبو بكر [هو: ابن المنذر]: لعلّ من حجّة من
رأى لا يصلّى على العضو؛ أن يقول: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -[صلى] الصلاة على الميت، والصلاة على الميت سُنّة، ولا سُنّة
تثبت في الصلاة على بعض البدن، فيُصلّي حيث صلّى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقف عن الصلاة فيما لا سنّة فيه.
(4/118)
ومن حُجّة من يرى الصلاة على العضو يوجد:
أن حرمة المسلم واحدة في كل جسده، فإِذا ذهب بعضه لم تذهب حرمة ما بقي،
ويجب أن يفعل فيما بقي من بدنه -من الغسل والصلاة والدفن- سُنّة الموتى.
والله أعلم ... ".
وجاء في "المحلّى" (5/ 205 - تحت المسألة: 580): "ويصلّى على ما وُجِدَ من
الميت المسلم: ولو أنّه ظُفُرٌ أو شعرٌ فما فوق ذلك، ويُغَسَّلُ
ويُكَفَّنُ؛ إِلا أن يكون من شهيد، فلا يغسل، لكن يُلَفُّ ويدفن.
ويصلّى على الميت المسلم، وإن كان غائباً لا يوجد منه شيء؛ فإِنْ وُجِدَ من
الميت عضو آخر بعد ذلك أيضاً غُسل أيضاً، وكُفّن، ودُفن، ولا بأس بالصلاة
عليه ثانية؛ وهكذا أبداً.
برهان ذلك: أننا قد ذكرنا -قبلُ- وجوب غَسْل الميت وتكفينه ودفْنه والصلاة
عليه، فصح بذلك غَسْل جميع أعضائه -قليلها وكثيرها- وستر جميعها بالكفن
والدفن؛ فذلك -بلا شك- واجب في كلّ جزء؛ منه فإِذ هو كذلك؛ فواجب عمله فيما
أمكن عمله فيه بالوجود متى وجد؛ ولا يجوز أن يسقط ذلك في الأعضاء المفرقة
بلا برهان.
وينوي بالصلاة على ما وجد منه الصلاة على جميعه: جسده وروحه".
تحريم الصلاة والاستغفار والترحم على الكّفار والمنافقين:
وتحرم الصلاة والاستغفار والترحُّم على الكّفار والمنافقين (1)، لقول الله
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون
الإسلام، وإنما يتبين كُفرهم بما يترشّح من كلماتهم من الغمز في بعض أحكام
الشريعة =
(4/119)
-تبارك وتعالى-: {ولا تُصلِّ على أحد منهم
مات أبداً ولا تَقُمْ على قبره إِنّهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم
فاسقون} (1).
وسبب نزول هذه الآية الكريمة: ما رواه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال:
"لمّا مات عبد الله بن أُبي ابن سلُولَ؛ دُعي له رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي عليه، فلمّا قام رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَثَبْتُ إِليه فقلت: يا رسول الله! أتصلّي
على ابن أُبيٍّ وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا -أعدّدُ عليه قوله-؟! فتبسّم
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أخّر عني يا عمر!
فلمّا أكثرت عليه قال: إِنّي خيّرت فاخترت، لو أعلم أنّي إِن زدت على
السبعين يُغفر له لزدت عليها، قال: فصلّى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ انصرف، فلم يمكث إِلا يسيراً حتى نزلت الآيتان
من براءة: {ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم
__________
= واستهجانها، وزعمهم أنّها مخالفة للعقل والذوق، وقد أشار إلى هذه الحقيقة
ربّنا تبارك في قوله: {أم حَسِبَ الذين في قلوبهم مرض أنْ لن يُخرج الله
أضغانهم. ولو نشاء لأَريْنَاكهُم فلَعَرْفتهم بسِيمَاهُم ولَتَعْرِفَنَّهم
في لَحْن القول والله يعلم أعمالكم} [محمد: 29 - 30]. وأمثال هؤلاء
المنافقين كثير في عصرنا الحاضر، والله المستعان" انتهى.
قلت: وهذا فيه تكفيرٌ بالقول أو الفعل، فمن قال: الشرع مخالفٌ للعقل فقد
كفر، ومن قال: الشرع مخالف للذوق فقد كَفَر.
وبهذا فلا يُصلى على أمثال هؤلاء، نسأل الله -تعالى- حُسن الختام.
وفي هذا نقْض صريح لمذهب المرجئة البدعي الخبيث.
(1) التوبة: 84.
(4/120)
مات أبداً} إِلى: {وهم فاسقون}.
قال: فعجبت -بُعْدَ- من جُرْأتي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يومئذ، والله ورسوله أعلم" (1).
وعن المسيَّب بن حزْن قال: لمّا حَضَرت أبا طالب الوفاةُ؛ جاءه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجدَ عنده أبا جهل، وعبد الله بن
أبي أميةَ بنَ المغيرة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "يا عمّ! قل: لا إِله إِلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله،
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملّة عبد
المطلب؟!
فلم يزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه،
ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب -آخرَ ما كّلمهم-: هو على ملّة عبد
المطلب، وأَبى أنْ يقول: لا إِله إِلا الله، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما والله لأستغفرنّ لك؛ ما لم أُنْهَ عنك.
فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {ما كان للنّبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين
ولو كانوا أولي قُرْبى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم}، وأنزل
الله -تعالى- في أبي طالب، فقال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: {إِنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم
بالمهتدين} " (2).
هل يُصلّى على قتلى المسلمين إِذا اختلطوا بالمشركين؟!
جاء في "الأوسط" (5/ 424): "اختلف أهل العلم في قتلى المسلمين والمشركين،
إِذا اختلطوا ولم يتميّزوا:
__________
(1) أخرجه البخاري: 1366، 4671.
(2) أخرجه البخاري: 6681، 4675، ومسلم: 24 - واللفظ له-.
(4/121)
فكان الشافعي يقول: يُصلّي عليهم ويَنْوي
بالصلاة المسلمين.
وقال ابن الحسن: إِن كان الموتى كُفّاراً وفيهم رجل من المسلمين؛ لم يصلِّ
عليهم، وإن كانوا مسلمين فيهم الكافر أو الاثنين؛ استحسنَّا الصلاة عليهم.
وبقول الشافعي نقول.
وقد اعتل الشافعي لقوله؛ فقال: لئن جازت الصلاة على مائة مسلم فيهم مشرك؛
لَتَجُوزَنَّ على مائة مشرك فيهم مسلم.
وصدَق الشافعي؛ لأنّ الإِمام والمأموم في الحالين إِنما ينوون المسلم
والمسلمين" انتهى.
قلت: وممّا يقوّي قول الإِمام الشافعي -رحمه الله-: أن للنيّة اعتباراً؛
إِذ هي شرط من شروط الصلاة؛ فإِن عدم نيّة الصلاة على المشرك تجعلنا نقول:
إِنّه لم يُصلِّ عليه وإنْ جعَله أمامه؛ ولا سبيل إِلا هذا، والله -تعالى-
أعلم.
وجوب الجماعة في صلاة الجنازة:
وتجب الجماعة في صلاة الجنازة، كما تجب في الصلوات المكتوبة؛ بدليلين:
الأول: مداومة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها.
الآخر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلّوا كما رأيتموني
أُصلّي" (1).
ولا يُعَكِّر على ما ذكرنا صلاةُ الصحابة -رضي الله عنهم- على النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فُرادى لم يؤمّهم أحدٌ؛ لأنها قضية
خاصّة، لا يُدْرَى وجهها، فلا يجوز من
__________
(1) أخرجه البخاري: 631، وتقدّم في "كتاب الصلاة".
(4/122)
أجلها أن نترك ما واظب عليه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طيلة حياته المباركة، لا سيّما والقضية
المذكورة لم تَرِد بإِسناد صحيح تقوم به الحُجّة، وإن كانت رويت من طُرقٍ
يقوّي بعضها بعضاً؛ فإِنْ أمكن الجمع بينها وبين ما ذكرنا من هديه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التجميع في الجنازة فبها؛ وإِلا فهديه هو
المُقَدَّم؛ لأنه أثبت وأهدى.
فإِنْ صلَّوا عليها فُرادى سقط الفرض، وأثموا بترك الجماعة. والله أعلم.
وقال النّووي في "المجموع" (5/ 314): "تجوز صلاة الجنازة فرادى بلا خلاف،
والسنة أن تصلّى جماعةً؛ للأحاديث المشهورة في "الصحيح" في ذلك؛ مع إِجماع
المسلمين".
أقل ما ورَد في انعقاد الجماعة:
وأقلّ ما ورَد في انعقاد الجماعة فيها ثلاثة؛ فعن عبد الله بن أبي طلحة:
"أنّ أبا طلحة دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى
عُمير بن أبي طلحة حين توفّي، فأتاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فصلّى عليه في منزلهم، فتقدّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو طلحة وراءه، وأمّ سليم وراء أبي طلحة، ولم
يكن معهم غيرهم" (1).
انتفاع الميت بكثرة المصلين إِذا كانوا موحِّدين حقّاً:
وكُلَّما كثر الجمع كان أفضل للميت وأنفع، فعن عائشة -رضي الله عنها- عن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من ميت يُصلّي
عليه أُمّة من المسلمين -يبلغون مائةً- كُلهم يشْفعون له؛ إِلا شُفِّعوا
فيه" (2).
__________
(1) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- على شرط مسلم.
(2) أخرجه مسلم: 947.
(4/123)
وقد يُغفر للميت ولو كان العدد أقلّ من
مائة؛ إِذا كانوا مسلمين، لم يخالط توحيدَهم شيءٌ من الشرك.
فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
"ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله
شيئاً؛ إِلا شفَّعهم الله فيه" (1).
صلاة النساء على الجنازة:
للمرأة أن تصلّي على الجنازة كالرجل؛ لعموم النصوص الواردة في ذلك.
عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير: "أنّ عائشة أمرت أن يُمَرَّ بجنازة سعد بن
أبي وقاص في المسجد، فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما
نسِي الناس! ما صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على
سهيل ابن البيضاء إِلا في المسجد" (2).
تسوية الصفوف في صلاة الجنازة:
ويجب تسوية الصفوف حين يُصلّى على الجنائز؛ كما تسوّى في صلاة الفريضة، بل
وفي كل صلاة جماعة؛ لعموم الأدلة الواردة في ذلك؛ ولا دليل على التفريق.
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 128): "وإذا لم يوجد مع الإِمام غير رجل واحد،
فإِنه لا يقف حِذاءه كما هو السنّة في سائر الصلوات، بل يقف خلف
__________
(1) أخرجه مسلم: 948.
(2) أخرجه مسلم: 973.
(4/124)
الإِمام، للحديث المتقدّم: " .. فتقدّم
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو طلحة وراءه،
وأمّ سُلَيْمٍ وراء أبي طلحة، ولم يكن معهم غيرهم".
من هو الأحقّ بالإمامة؟
والوالي أو نائبه أحقُّ بالإِمامة فيها من الوليّ.
عن أبي حازم قال: "إِني لشاهد يوم مات الحسن بن علي؛ فرأيت الحسين ابن عليّ
يقول لسعيد بن العاص -ويطعن في عنقه ويقول-: تقدّم؛ فلولا أنّها سنّة ما
قدّمتك (وسعيد أمير على المدينة يومئذ، وكان بينهم شيءٌ) " (1) انتهى.
وقال الحسن: أدركت الناس، وأَحقُّهم على جنائزهم مَن رَضوهم لفرائضهم (2).
وجاء في "المحلّى" (5/ 213 - تحت المسألة: 584): "ومن طريق وكيع عن الربيع
عن الحسن: كانوا يُقَدِّمُون الأئمة على جنائزهم، فإِن تدارؤا (3)؛ فالوليّ
ثم الزوج (4).
__________
(1) أخرجه الحاكم، والبزار، والطبراني في "المعجم الكبير"، وانظر "أحكام
الجنائز" (ص 129).
(2) رواه البخاري معلّقاً (كتاب الجنائز -باب- 56).
(3) أي: تدافعوا في الخصومة.
(4) لكن ابن حزم -رحمه الله- يرى أنّ أحقّ الناس بالصلاة على الميت
والميتة: الأولياء؛ وهم: الأب وآباؤه، والابن وأبناؤه، ثمّ الإِخوة
الأشقاء، ثمّ الذين للأب، ثمّ بنوهم، ثمّ الأعمام للأب والأم، ثمّ للأب ثمّ
بنوهم، ثمّ كل ذي رحم محرمة؛ إِلا أن =
(4/125)
فإِنْ لم يحضر الوالي أو نائبه؛ فالأحقُّ
بالإِمامة أقرؤُهم لكتاب الله، ثمّ على الترتيب الذي ورد ذكره في حديث أبي
مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يؤم القوم أقرؤُهم لكتاب الله، فإِن كانوا في
القراءة سواءً، فأعلمهم بالسُّنّة، فإِن كانوا في السّنة سواءً؛ فأقدمهم
هجرة، فإِن كانوا في الهجرة سواء؛ فأقدمهم سِلْماً (1)، ولا يُؤَمَّنَ
الرّجلُ في سلطانه، ولا يُقْعَدْ في بيته على تكْرِمَتِهِ (2) إِلا بإِذنه"
(3).
ويؤمهم الأقرأ ولو كان غُلاماً لم يبلغ الحلم؛ لحديث عمرو بن سَلِمَةَ:
"أنهم (4) وفدوا إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فلمّا أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال: أكثركم جمعاً
للقرآن -أو أخذاً للقرآن-، قال: فلم يكن أحد من القوم جمع ما جمعته.
قال: فقدَّموني وأنا غلام، وعليّ شَمْلة لي، فما شهدت مَجْمعاً من جَرْمٍ
إلاَّ كنت إِمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إِلى يومي هذا" (5).
__________
= يوصي الميت أن يصلّي عليه إِنسان؛ فهو أولى؛ ثم الزوج، ثمّ الأمير أو
القاضي.
(1) سِلماً؛ أي: إسلاماً.
(2) تكرِمته؛ قال العلماء: التكرمة: الفراش ونحوه ممّا يُبسط لصاحب المنزل
ويُخصّ به. "النووي".
(3) أخرجه مسلم: 673.
(4) أي: قومه.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (548).
(4/126)
هذا؛ وقد وجَدْت ابن المنذر يقول بقول
شيخنا -رحمهما الله تعالى-.
جاء في "الأوسط" (5/ 398) تحت باب (ذِكر الوالي والولي يحضران الصلاة على
الجنازة): "اختلف أهل العلم في صلاة الأمير أو الإِمام على الجنازة
ووليُّها حاضر:
فقال أكثر أهل العلم: الإِمام أحقّ بالصلاة عليها من الولي؛ رُوِّينا عن
علي ابن أبي طالب أنّه قال: الإِمام أحقّ مَن صلّى على الجنازة، وليس بثابت
عنه.
وهذا قول علقمة والأسود وسُوَيْدِ بن غَفَلَةَ والحسن البصري وبه قال جماعة
من المتقدمين، وقال مالك: الولي أحق، وكذلك قال أحمد وإسحاق.
وقال أصحاب الرأى: إمام الحي أحق بالصلاة عليه".
وفيه قول ثانٍ قاله الشافعي، قال: "الولي أحق بالصلاة من الوالي".
وقد رُوِّينا عن الضحاك أنه قال لأخيه عند موته: لا يصلين عليّ غيرك، ولا
تَدَعَنَّ الأمير يصلّي عليّ، واذكر منّي ما علمت.
قال ابن المنذر -رحمه الله-: النظر يحتمل ما قاله الشافعي؛ غير أن مذهبه
ومذهب عوام أهل العلم القول بالأخبار إِذا جاءت، وترْك حمْل الشيء على الظن
عند وجود الأخبار.
ثمّ ساق بإِسناده إِلى سالم عن أبي حازم قال: شهدت حسيناً حين مات الحسن،
وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص وهو يقول: تقدّم؛ فلولا السُّنّة ما قدّمتك،
وسعيد أمير المدينة.
قال ابن المنذر: "وقد كان بحضرته في ذلك الوقت خلْق من المهاجرين
(4/127)
والأنصار، فلمّا لم يُنكر أحد منهم ما قال؛
دلّ على أن ذلك كان عندهم حقّاً والله أعلم.
وليس في هذا الباب أعلى من هذا لأنّ جنازة الحسن بن علي حضَرها عوامّ الناس
من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم على ما
يرى. والله أعلم.
قال ابن المنذر: ودل حديث عمرو بن سلمة على ذلك [وفيه:] .. ثم سألوا
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يصلّي بنا، أو من يصلّي
لنا؟ قال: يصلّي بكم -أو يصلّي لكم -أكثركم أخذاً -أو أكثرهم جمعاً-
للقرآن" انتهى.
قال ابن المنذر: "وهذا الحديث موافق لحديث أبي مسعود الأنصاري: "يؤم القوم
أقرؤهم"، فلو لم يكن حديث الحسن بن علي موجوداً في هذا الباب، ثمّ قال
قائل: يدخل في قوله: "يؤم القوم أقرأُهم" الصلوات المكتوبات، وعلى الجنائز؛
ما كان بعيداً -والله أعلم- لأن اسم الصلاة يقع على الصلاة على الميت، قال
الله جل ذكره: {ولا تُصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقُم على قبره ... }
(1) الآية.
وثبتت الأخبار عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
"صلّوا على صاحبكم" (2)، وصلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على النجاشي (3)، والأخبار تكثر في هذا الباب، والله أعلم".
ماذا إِذا اجتمعت جنائز مُتعدِّدة من الرجال والنساء؟
وإذا اجتمعت جنائز مُتعدِّدة من الرّجال والنساء؛ صُلّي عليها صلاة واحدة،
__________
(1) التوبة: 84.
(2) تقدّم تخريجه.
(3) تقدّم.
(4/128)
وجُعلت الذكور -ولو كانوا صِغاراً- ممّا
يلي الإِمام، وجنائز الإِناث مما يلي القبلة، وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن نافع عن ابن عمر: "أنه صلّى على تسع جنائز جميعاً، فجعل الرجال
يلون الإِمام، والنساء يلين القبلة، فصفّهنَّ صفاً واحداً، ووضعت جنازة أم
كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب، وابن لها -يقال له: زيد- وُضعا جميعاً،
والإِمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد
وأبو قتادة.
فوضع الغلام ممّا يلي الإِمام، فقال رجل: فأنَكرتُ ذلك، فنظرت إِلى ابن
عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السُّنّة"
(1).
الثاني: عنّ عمّار مولى الحارث بن نوفل: "أنّه شهد جنازة أم كلثوم وابنها،
فجُعِلَ الغلامُ ممّا يلي الإِمام [ووضِعَتِ المرأةُ وراءه، فصلّى عليها]،
فأنكرت ذلك، وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخُدري وأبو قتادة وأبو هريرة،
[فسألتهم عن ذلك]؟ فقالوا: هذه السنّة" (2).
جواز الصلاة على كل جنازة على حِدَة:
ويجوز أن يُصَلِّيَ على كلّ واحدة من الجنائز صلاة؛ لأنّه الأصل، ولأنّ
النّبيّ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1869)، وابن الجارود
في "المنتقى" وغيرهم.
(2) أخرجه أبو داود -والسياق له- "صحيح سنن أبي داود" (2734) وغيره، وانظر
"أحكام الجنائز" (ص 133).
(4/129)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَعَل ذلك في شهداء أُحد.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حمزة .. أمر به فهيِّىء إِلى القبلة، ثمّ كبّر
عليه تسعاً، ثمّ جمع إِليه الشهداء، كُلّما أُتي بشهيد وضع إِلى حمزة،
فصلّى عليه، وعلى الشهداء معه، حتى صلّى عليه، وعلى الشهداء اثنتين وسبعين
صلاة" (1).
قال النووي في "المجموع" (5/ 225): "واتّفقوا على أنّ الأفضل أنْ يفرد كلَّ
واحد بصلاة إِلا صاحب "التتمة" فجزم بأنّ الأفضل أن يُصلّيَ عليهم دفعة
واحدة، لأنّ فيه تعجيل الدفن وهو مأمور به، والمذهب الأول، لأنّه أكثر
عملاً، وأرجى للقبول، وليس هو تأخيراً كثيراً". والله أعلم.
جواز الصلاة على الجنازة في المسجد:
وتجوز الصلاة على الجنازة في المسجد؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت:
"لما توفّي سعد بن أبي وقاص؛ أرسل أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يمروا بجنازته في المسجد، فيصلّين عليه، ففعلوا، فَوَقِفَ
به على حُجرهُنّ يُصلّين عليه، أُخرج به من باب الجنائز الذي كان إِلى
المقاعد (2)؛ فبلغهنّ أنّ الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يُدخل
بها المسجد!
فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرعَ النّاسَ إِلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به!
__________
(1) أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير"، وقال شيخنا في "أحكام الجنائز" (ص
134): "وهذا سند جيد، رجاله كلهم ثقات، وقد صرّح فيه محمد بن إِسحاق
بالتحديث، فزالت شبهة تدليسه".
(2) موضع قرب المسجد الشريف.
(4/130)
عابوا علينا أن يمرّ بجنازة في المسجد؛ وما
صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل بن بيضاء
إِلاّ في جوف المسجد" (1).
تفضيل الصلاة على الجنازة خارج المسجد:
لكنّ الأفضل الصلاة عليها خارج المسجد في مكانٍ مُعَدّ للصلاة على الجنائز؛
كما كان الأمر على عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو
الغالب على هديه فيها، وفي ذلك أحاديث.
منها: عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أنّ اليهود جاؤوا إِلى النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما
قريباً من موضع الجنائز عند المسجد" (2).
ومنها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه؛ خرج إِلى
المصلّى، فصَفّ بهم وكبّر أربعاً" (3).
تحريم الصلاة على الجنازة بين القبور:
ولا يجوز الصلاة عليها بين القبور؛ لحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أنّ
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلّى على الجنائز
بين القبور" (4).
__________
(1) أخرجه مسلم: 973، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 1329.
(3) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951، وتقدّم.
(4) أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه"، والطبراني في "المعجم الأوسط". وقال
الهيثمي في "المجمع" (3/ 36): "وإسناده حسن". =
(4/131)
وسألت شيخنا عن الصلاة بين القبور؟ فقال:
لا يجوز؛ ما الذي أدْخَله في جُحر الضَّبِّ؟!
يقف الإِمام وراء رأس الرجل، وَوَسَطِ المرأة:
ويقف الإِمام وراء رأس الرجل ووسَطِ المرأة.
عن أبي غالب الخيّاط قال: "صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام
حِيَالَ رأسه (1)، ثمّ جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة
صلِّ عليها.
فقام حِيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على الجنازة مقامك منها، ومن
الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلمّا فرغ قال: احفظوا" (2).
وعن سَمُرة بن جُنْدُب قال: "صلّيت خلف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وصلّى على أمّ كعب؛ ماتت وهي نُفَساء، فقام رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة عليها وسطها (3) " (4).
__________
= قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 138): "وله طريق أخرى عن
أنس عند الضياء، يتقوّى الحديث بها".
(1) أي: قُبالته.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2735)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (826) -واللفظ له- وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1214).
(3) بتسكين السين وفتحها.
(4) أخرجه البخاري: 1332، ومسلم: 964 - واللفظ له-.
(4/132)
كم يكبّر على الجنائز؟
قال شيخنا -رحمه الله-: "ويُكبّر عليها أربعاً أو خمساً، إِلى تسع تكبيرات،
كُلّ ذلك ثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأيّها فعل
أجزأه، والأَوْلى التنويع، فيفعل هذا تارة، وهذا تارة، كما هو الشأن في
أمثاله؛ مثل أدعية الاستفتاح، وصيغ التشهد والصلوات الإِبراهيمية ونحوها".
اهـ
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (22/ 70) -في معرض توجيهه
المسلمين الأخذَ بجميع سنن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في العبادات-:
"ومنها التكبير على الجنائز؛ يجوز -على المشهور- التربيع والتخميس
والتسبيع؛ وإِن اختار التربيع. وأمّا بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك،
ويكرهون بعضه".
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 141): "وإِن كان لا بُدّ من التزام نوع واحدٍ
منها؛ فهو الأربع؛ لأنّ الأحاديث فيها [أقوى و] أكثر [والمقتدي يكبّر ما
كبّر الإِمام] " (1). وإِليك بيان ذلك:
أمّا الأربع، ففيها أحاديث:
1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه؛ خرج إِلى
المصلّى، فصفّ بهم وكبّر أربعاً" (2).
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من "تلخيص أحكام الجنائز" (ص 54).
(2) أخرجه البخاري: 1245، ومسلم: 951، وتقدّم.
(4/133)
2 - عن أبي أمامة (1) أنّه قال: "السنّة في
الصلاة على الجنازة: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مُخَافَتَةً،
ثمّ يكبر ثلاثاً؛ والتسليم عند الآخرة" (2).
3 - عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر أربعاً" (3).
وأما الخمس؛ فلحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان زيد يكبّر على
جنائزنا أربعاً، وإِنّه كبّر على جنازة خمساً، فسألته؟ فقال: كان رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبّرها" (4)
قال الترمذي: "وقد ذهب بعض أهل العلم إِلى هذا من أصحاب النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم-: رأوا التكبير على الجنازة خمساً.
وقال أحمد وإسحاق: إِذا كبّر الإِمام على الجنازة خمساً؛ فإِنّه يُتَّبَع
الإِمام".
وأما الست والسبع، ففيها بعض الآثار الموقوفة، ولكنّها في حُكم الأحاديث
المرفوعة؛ لأنّ بعض كبار الصحابة أتى بها على مشهد من الصحابة دون أن يعترض
عليه أحد منهم.
الأول: عن عبد الله بن مُغفَّل: "أنّ علي بن أبي طالب صلّى على سهل بن
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 141): "ليس هو أبا أمامة
الباهلي الصحابي المشهور، بل هذا آخر معروف بكنيته أيضاً؛ واسمه أسعد
-وقيل: سعد بن سعد- بن حنيف الأنصاري، معدود في الصحابة، له رؤية، ولم يسمع
من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالحديث من مراسيل
الصحابة، وهي حجة".
(2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1880).
(3) أخرجه البيهقي بسند صحيح، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 142).
(4) أخرجه مسلم: 957، وغيره.
(4/134)
حنيف، فكبّر عليه ستّاً، ثمّ التفت إِلينا،
فقال: إِنه بدريٌّ".
قال الشعبي: "وقدِمَ علقمة من الشام فقال لابن مسعود: إِنّ إِخوانك بالشام
يُكبّرون على جنائزهم خمساً، فلو وقّتّم (1) لنا وقتاً نُتابعكم عليه!
فأطرق عبد الله ساعة ثمّ قال: انظروا جنائزكم، فكبّروا عليها ما كبّر
أئمّتكم، لا وقت ولا عدد" (2).
الثاني: عن عَبْدِ خَيْرٍ قال: "كان عليّ -رضي الله عنه- يُكبّر على أهل
بدر سِتّاً، وعلى أصحابِ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خمساً، وعلى سائر الناس أربعا" (3).
الثالث: عن موسى بن عبد الله بن يزيد: "أنّ عليّاً صلّى على أبي قتادة،
فكبّر عليه سبعاً، وكان بدْريّاً" (4).
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "أي: حدّدتم لنا عدداً مخصوصاً، كما
يُستفاد من "النهاية". وعليه فقوله في آخر الأثر: "ولا عدد"، تفسير وبيان
لقوله: "لا وقت".
(2) أخرجه ابن حزم في "المحلّى" بهذا التمام، وقال: "وهذا إِسناد غاية في
الصحة.
قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد أخرج منه قصةَ علي -رضي الله عنه-: أبو داود
في "مسائله" عن الإِمام أحمد، والطحاوى، والحاكم، والبيهقي. وسندهم صحيح
على شرط الشيخين، وهي عند البخاري في "المغازي" (7/ 253) دون قوله: ستّاً
... ".
(3) أخرجه الطحاوي، والدارقطني ومن طريقه البيهقي. وسنده صحيح رجاله ثقات
كلهم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 144).
(4) أخرجه الطحاوي، والبيهقي بسند صحيح على شرط مسلم، وانظر "أحكام
الجنائز" (ص 144) للمزيد من الفوائد الحديثية.
(4/135)
قال شيخنا -رحمه الله-: "فهذه آثار صحيحة
عن الصحابة، تدلّ على أن العمل بالخمس والستّ تكبيرات استمر إِلى ما بعد
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ خلافاً لمن ادّعى الإِجماع
على الأربع فقط! وقد حقق القولَ في بطلان هذه الدعوى ابن حزم في "المحلى"
(5/ 124 - 125) ".
وأما التسع؛ فلحديث عبد الله بن الزبير: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى على حمزة، فكّبّر عليه تسع تكبيرات ... " (1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 145): "وهذا العدد هو أكثر ما وقفنا عليه في
التكبير على الجنازة، فيوقف عنده ولا يُزاد عليه، وله أن ينقص منه إِلى
الأربع وهو أقل ما ورد.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "زاد المعاد" -بعد أن ذكر بعض ما
أوردنا من الآثار والأخبار-: "وهذه آثار صحيحة، فلا مُوجِبَ للمنع منها،
والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يمنع ممّا زاد على
الأربع، بل فعله هو وأصحابه من بعده ... ".
هل يرفع يديه بعد التكبيرة الأولى؟
ويُشرع له أن يرفع يديه في التكبيرة الأولى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-:
أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبّر على جنازة، فرفع
يديه في أوّل تكبيرة، ووضع اليمنى على اليسرى" (2).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وإسناده حسن، وانظر "أحكام
الجنائز" (ص 106)، وتقدّم.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (859) وغيره.
(4/136)
وفي "المجموع" للنووي (5/ 232): "قال ابن
المنذر في كتابيه "الإِشراف" و"الإِجماع": أجمعوا على أنّه يرفع في أول
تكبيرة، واختلفوا في سائرها".
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 148): "ولم نجد في السّنّة ما يدلُّ على مشروعية
الرفع في غير التكبيرة الأولى؛ فلا نرى مشروعية ذلك، وهو مذهب الحنفية
وغيرهم، واختاره الشوكاني وغيره من المحقّقين.
وإليه ذهب ابن حزم فقال (5/ 128): "وأمّا رفع الأيدي؛ فإِنّه لم يأتِ عن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه رفع في شيء من تكبيرة
الجنازة إِلا في أول تكبيرة فقط، فلا يجوز فعل ذلك؛ لأنّه عمل في الصلاة لم
يأْتِ به نص، وإنما جاء عنه -عليه السلام- أنّه كبّر ورفع يديه في كُلِّ
خفض ورفع، وليس فيها رفع وخفض.
والعجب من قول أبي حنيفة برفع الأيدي في كُلّ تكبيرة في صلاة الجنازة، ولم
يأت قطُّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنعه من رفع
الأيدي في كلّ خفض ورفع في سائر الصلوات، وقد صح عن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" ... " انتهى.
وجاء في "المحلّى" كذلك (5/ 260 - مسألة: 619) -بحذف-: "ولا ترفع اليدان في
الصلاة على الجنازة إِلا في أول تكبيرة فقط؛ لأنّه لم يأت برفع الأيدي فيما
عدا ذلك نص.
وصحّ عن ابن عمر رفع الأيدي لكل تكبيرة، ولقد كان يلزم من قال بالقياس أن
يرفعها في كل تكبيرة قياساً على التكبيرة الأولى".
قال شيخنا -رحمه الله-: "نعم؛ روى البيهقي (4/ 44) بسند صحيح عن ابن عمر:
أنّه كان يرفع يديه على كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة. فمن كان
(4/137)
يظنُّ أنه لا يفعل ذلك إِلا بتوقيف من
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فله أن يرفع، وقد ذكر
السَّرَخْسِي عن ابن عمر خلاف هذا، وذلك ممّا لا نعرف له أصلاً في كتب
الحديث" انتهى.
قلت: وهو أحد أقوال الإِمام مالك -رحمه الله-؛ كما روى ابن القاسم عنه (1).
وبه يقول الشوكاني كما أشار شيخنا -رحمهما الله- فقد قال في "نيل الأوطار"
(4/ 105): " .. والحاصل أنّه لم يثبت في غير التكبيرة الأولى شيء يصلح
للاحتجاج به عن النّبيّ- صلّى الله عليه واممه وسلم- وأفعال الصحابة
وأقوالهم لا حجة فيها (2)؛ فينبغي أن يقتصر على الرفع عند تكبيرة الإِحرام؛
لأنه لم يشرع في غيرها إِلا عند الانتقال من ركن إِلى ركن كما في سائر
الصلوات، ولا انتقال في صلاة الجنازة".
أين وكيف يضع يَدَيْهِ؟
ثمّ يضع يده اليمنى على ظهر كفّه اليُسرى والرُّسغ والساعد، ثمّ يشد بهما
على صدره.
عدم مشروعية دعاء الاستفتاح:
وليس في صلاة الجنازة دعاء استفتاح لعدم ورود ذلك عن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
__________
(1) انظر "المنتقى شرح موطأ مالك" (2/ 472).
(2) يعني: في هذا الموضع، وإلا فهناك تفصيل حول أفعال وأقوال الصحابة -رضي
الله عنهم- متى تكون حُجّة ومتى لا تكون.
(4/138)
قراءة الفاتحة وسورة
عقب التكبيرة الأولى:
ثمّ يقرأ عقب التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب وسورة؛ لحديث طلحة بن عبد الله
بن عوف قال: "صليّت خلف ابن عباس -رضي الله عنهما- على جنازة، فقرأ بفاتحة
الكتاب [وسورة، وجهر حتى أسمَعَنا، فلمّا فرغ أخذْتُ بيده، فسألته؟ فـ]
قال: [إِنما جهرت] ليعلموا أنّها سنة [وحقّ] " (1).
وجاء في "الروضة الندية" (1/ 419): "والحاصل: أن الموطن موطن دعاء لا موطن
قراءة قرآن، فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة، ويكون ذلك بعد
التكبيرة الأولى، ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء".
الإِسرار في القراءة:
ويقرأُ سرّاً؛ لحديث أبي أُمامة بن سهل قال: "السنة في الصلاة على الجنازة:
أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأمّ القرآن مخافتةً، ثمّ يكبّر ثلاثاً،
والتسليم عند الآخرة" (2).
الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد التكبيرة
الثانية:
ثمّ يكبّر التكبيرة الثانية، ويُصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1335 وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن الجارود في
"المنتقى"، والدارقطني، والحاكم، وانظر لتخريج الزيادات "أحكام الجنائز" (ص
151).
(2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1880) وغيره، وتقدّم.
(4/139)
فعن أبي أُمامة أنه أخبره رجل من أصحاب
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّ السنّة في الصلاة على
الجنازة أن يُكبّر الإِمام، ثمّ يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى
سرّاً في نفسه، ثمّ يُصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ويُخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات (الثلاث)، لا يقرأ في شيء
منهنّ، ثمّ يُسلّم سرّاً في نفسه [حين ينصرف [عن يمينه]، والسنّة أن يفعل
من وراءه مثلما فعَل إِمامه] " (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "وأما صيغة الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنازة؛ فلم أقف عليها في شيء من الأحاديث
الصحيحة، فالظاهر أنّ الجنازة ليس لها صيغة خاصة، بل يُؤتى فيها بصيغة من
الصيغ الثابتة في التشهد في المكتوبة".
يأتي ببقية التكبيرات ويخلص الدعاء للميت؛
ثمّ يأتي ببقية التكبيرات، ويخلص الدعاء فيها للميت، لحديث أبى أُمامة
المتقدّم، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا صليتم على
الميت؛ فأخلصوا له الدعاء" (2).
الدعاء بالثابت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
الأدعية:
ويدعو فيها بما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأدعية،
وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن عوف بن مالك قال: صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه،
وعافِهِ واعفُ عنه، وأكرِم نُزُلَهُ
__________
(1) أخرجه الشافعي في "الأم"، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه
الذهبي، وشيخنا في "أحكام الجنائز" (ص 155).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2740)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1216) وغيرهما.
(4/140)
ووسِّعْ مُدْخَلَهُ، واغسله بالماء والثلجِ
والبَرَدِ، ونقِّه من الخطايا كما نقَّيْتَ الثوب الأبيض من الدنس
وأَبدِلْه داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من
زوجه، وأَدخِله الجنة، وأَعذه من عذاب القبر (أو من عذاب النّار).
قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت" (1).
الثاني: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا صلّى على جنازة يقول: "اللهم اغفر لحيّنا
وميّتنا، وشاهِدِنا وغَائبِنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من
أحييتَه منّا فأحْيهِ على الإِسلام، ومن توفّيته منّا فتوفَّه على
الإِيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضِلَّنا بعده" (2).
الثالث: عن واثلة بن الأسقع قال: "صلّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: "اللهمّ إِنّ فلان
بن فلان، في ذمّتك، فَقِهِ فِتنة القبر - قال عبد الرحمن: في ذمتك وحَبْلِ
جوارك فَقِهِ من فتنة القبر- وعذاب النّار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم
فاغفر له وارحمه، إِنّك أنت الغفور الرحيم" (3).
الرابع: عن يزيد بن رُكانة بن المطَّلب قال: كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام للجنازة ليُصلّي عليها قال: "اللهم
عبدُك وابنُ أَمَتِكِ، احتاج إِلى رحمتك،
__________
(1) أخرجه مسلم: 963.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2741)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (817)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1217).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2742)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1218)، وغيرهما.
(4/141)
وأنت غني عن عذابه، إِن كان مُحسناً فزد في
حسناته، وإن كان مُسيئاً فتجاوز عنه [ثمّ يدعو ما شاء الله أن يدعو] " (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "إِيثار ما تقدّم من أدعيته - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما استحسنه بعض الناس: ممّا لا ينبغي أن يتردّد
فيه مسلم؛ فإِنّ خير الهدى هدى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-! ولذلك قال الشوكاني (4/ 55): "واعلم أنّه قد وقع في كتب الفقه ذِكر
أدعيةٍ غير المأثورة عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ والتمسك
بالثابت عنه أولى".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: "بل أعتقد أنّه واجب على من كان على
علم بما ورد عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالعدولُ عنه
حينئذٍ يُخشى أن يحقّ فيه قول الله -تبارك وتعالى-: {أتستبدلون الذي هو
أدنى بالذي هو خير}؟! ".
بماذا يُدعى للطّفل؟
قال الحسن: "يقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعله لنا فرطاً
(2) وسلفاً (3) وأجراً" (4).
__________
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" -بالزيادة- والحاكم وقال: "إِسناده
صحيح".
(2) فَرَطاً: أي: أجراً يتقدّمنا. "النهاية".
(3) قال في "النهاية": "قيل هو من سَلَف المال، كأنّه قد أسلَفَه، وجعله
ثمناً للأجر والثواب الذى يُجازى على الصبر عليه، وقيل: سَلَفُ الإِنسان
مَن تقدَّمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سُمّي الصدر الأول من
التابعين السلف الصالح".
(4) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجنائز) (باب - 65) ووصله عبد الوهاب بن
عطاء في "كتاب الجنائز" بإِسناد صحيح عنه، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 314)
لشيخنا -رحمه الله-.
(4/142)
وقال شيخنا -رحمه الله- (ص160): "قال
الشوكاني في "نيل الأوطار" (4/ 55): "إِذا كان المُصلَّى عليه طفلاً؛
استُحبّ أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفاً وفَرَطاً وأجراً". روى ذلك
البيهقيُّ من حديث أبي هريرة، وروى مثله سفيان في "جامعه" عن الحسن.
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: حديث أبي هريرة عند البيهقي إِسناده حسن، ولا
بأس في العمل به في مثل هذا الموضع -وإِن كان موقوفاً- إِذا لم يُتّخذ
سُنّة، بحيث يؤدي ذلك إِلى الظنّ أنه عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. والذي أختاره: أن يدعو في الصلاة على الطفل بالنوع (الثاني)
[اللهم اغفر لحيّنا وميّتنا]؛ لقوله فيه: "وصغيرنا .. اللهمّ لا تحرمنا
أجره، ولا تُضِلَّنا بعده" ... ".
والدُّعاء بين التكبيرة الأخيرة والتسليم مشروع؛ لحديث أبي يعفور عن عبد
الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "شهدته وكبر على جنازة أربعاً، ثمّ
قام ساعةً -يعني- يدعو، ثمّ قال: أَتَرَوْنِي كنت أكبِّر خمساً؟ قالوا: لا.
قال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُكبّر
أربعاً" (1).
كم تسليمةً يسلّم الإِمام؟
ثمّ يسلّم تسليمتين مثل تسليمه في الصلاة المكتوبة؛ إِحداهما عن يمينه
والأخرى عن يساره.
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ثلاث خلالٍ كان رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعلُهُنّ -تركهُنّ الناس-: إِحداهنّ
التسليم على الجنازة مثل التسليم في
__________
(1) أخرجه البيهقي بسندٍ صحيح.
(4/143)
الصلاة" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد ثبت في "صحيح مسلم" (2) وغيره عن ابن مسعود:
أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلّم تسليمتين في
الصلاة.
فهذا يُبيّن أنّ المراد بقوله في الحديث الأول: مثل التسليم في الصلاة؛ أي:
التسليمتين المعهودتين".
جواز الاقتصار على التسليمة الأولى:
ويجوز الاقتصار على التسليمة الأولى فقط.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلّى على جنازة، فكبّر عليها أربعاً، وسلّم تسليمة واحدة" (3).
الإِسرار في التسليم وإِسماع من يليه:
والسّنة أن يُسلّم في الجنازة سرّاً: الإِمام ومن وراءه في ذلك سواءٌ.
فعن أبي أُمامة: "أنّه أخبرَه رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. وفيه: .. ثمّ يسلّم سرّاً في نفسه حين ينصرف" (4)،
والسّنة أن يفعل من وراءه مثلما فعل
__________
(1) أخرجه البيهقي بإِسناد حسن، وقال النووي: "إِسناده جيد".
(2) برقم: 582.
(3) أخرجه الدارقطني، والحاكم، وقال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز"
(ص 163): "وإسناده حسن، كما بينته في "التعليقات الجياد".
(4) أخرجه الشافعي في "الأم" وغيره، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- (ص 155)،
وتقدّم.
(4/144)
إِمامه" (1).
وله شاهد موقوف عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّه: "كان يسلّم في الجنازة
تسليمة خفيّة" (2).
وعن عبد الله بن عمر: أنّه "كان إِذا صلّى على الجنائز؛ يسلم حتى يُسمع من
يليه" (3).
وعن عقبة بن عامر الجُهَنِيِّ قال: "ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينْهانا أنْ نصلّيَ فيهنّ، أو أنْ نقبر فيهنّ
موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل
الشمس، وحين تَضَّيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب" (4).
وزاد البيهقي: "قال: قلت لعقبة: أَيُدْفَنُ بالليل؟ قال: نعم؟ قد دُفن أبو
بكر بالليل" (5).
قال شيخنا -رحمه الله تعالى- (ص165): "الحديث -بعمومه- يشمل الصلاة على
الجنازة، وهو الذي فهمه الصحابة، فروى مالك في "الموطأ"
__________
(1) أخرجه الشافعيّ في "الأمّ"، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام
الجنائز" (ص 155)، وتقدّم.
(2) أخرجه البيهقي وإسناده حسن.
(3) أخرجه البيهقي، وإسناده صحيح.
(4) أخرجه مسلم: 831، وغيره، وتقدم في "كتاب الصلاة" من "الموسوعة".
(5) وإسناده صحيح.
(4/145)
(1/ 228) ومن طريقه البيهقي عن محمد بن أبي
حرملة: أن زينب بنت أبي سلمة توفّيت؛ وطارقٌ أمير المدينة، فأُتي بجنازتها
بعد صلاة الصبح، فوضعت بالبقيع قال: وكان طارق يغلِّس بالصبح.
قال ابن أبي حرملة: فسمعت عبد الله ابن عمر يقول لأهلها: إِمّا أن تُصلّوا
على جنازتكم الآن، وإِما أن تتركوها حتى ترتفع الشمس.
وسنده صحيح على شرط الشيخين.
ثمّ روى مالك عن ابن عمر قال: يُصلّى على الجنارة بعد العصر وبعد الصبح
إِذا صُلّيتا لوقتهما.
وسنده صحيح أيضاً.
وروى البيهقيُّ بسند جيد عن ابن جُريج: أخبرني زياد: أنّ عليّاً أخبره: أن
جنازة وُضعت في مقبرة أهل البصرة حين اصفرّت الشمس، فلم يُصلَّ عليها حتى
غربت الشمس، فأمر أبو برزة المناديَ ينادي بالصلاة، ثمّ أقامها، فتقدّم أبو
برزة، فصلّى بهم المغرب؛ وفي الناس أنس بن مالك وأبو برزة من الأنصار من
أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ثمّ صلّوا على
الجنازة".
المسبوق في صلاة الجنازة:
مسبوق صلاة الجنازة كمسبوق الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " .. فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا" (1).
قال الحسن: "إِذا انتهى إِلى الجنازة وهم يُصلّون؛ يدخل معهم
__________
(1) أخرجه البخاري: 908، ومسلم: 602.
(4/146)
بتكبيرة" (1).
وقال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 263 - مسألة: 623): "ومن فاته
بعض التكبيرات على الجنازة؛ كَبَّر ساعة يأتي، ولا ينتظر تكبيرة الإِمام،
فإِذا سلم الإِمام أتم هو ما بقي من التكبير، يدعو بين تكبيرة وتكبيرة كما
كان يفعل مع الإِمام؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فيمن أتى إِلى الصلاة أن يصلّي ما أدرك، ويتم ما فاته؛ وهذه صلاة".
التيمُّم للصلاة على الجنازة:
قال الحسن -رحمه الله-: "إِذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة؛ يَطْلُبُ
الماء ولا يتيمّم" (2).
وجاء في "مجموع الفتاوى" (23/ 171): " .. وابن عباس جوّز التيمم للجنازة
عند عدم الماء. وهذا قول كثير من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في
إِحدى الروايتين، فدل على أن الطهارة تشترط لها عنده".
وسألت شيخنا -رحمه الله- هل يتيمّم من خشي أن تفوته صلاة الجنازة مع
الجماعة؟
فأجاب: نعم؛ يتيمّم.
__________
(1) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجنائز) (باب - 56)، ووصله ابن أبي شيبة
بسند صحيح، والحسن: هو البصري، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 312).
(2) رواه البخاري معلقاً (كتاب الجنائز) (باب 56).
(4/147)
الدفن وتوابعه
ويجب دفن الميت -أي: مواراة جيفته- في حفرة؛ بحيث لا تنبشه السباع، ولا
تخرجه السيول المعتادة، ولا خلاف في ذلك، وهو ثابت في الشريعة ثبوتاً
ضروريّاً" (1).
وقال شيخنا -رحمه الله- في وجوب دفنه: " .. ولو كان كافراً"، وفي ذلك
حديثان:
الأول: عن جماعة من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-منهم أبو طلحة الأنصاري، والسياق له-: "أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش (2)،
فقُذفوا في طَوِيٍّ (3) -من أطواء بدر- خبيث مُخِبث" (4).
الثاني: عن علي -رضي الله عنه- قال: قلت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إِنّ عمّك الشيخ الضال قد مات، قال: "اذهب فوارِ أباك، ثمّ لا
تحْدِثَنَّ شيئاً حتى تأتيني. فذهبت فواريته وجئته، فأمرني فاغتسلت، ودعا
لي" (5).
__________
(1) انظر "الروضة الندية" (1/ 439).
(2) صناديد قريش: هم أشرافهم وعظماؤهم ورؤساؤهم. وكل عظيم غالب: صِنديد.
"النهاية"، وتقدّم.
(3) هي البئر المطوية بالحجارة. "النووي".
(4) أخرجه البخاري: 3976، ومسلم: 2875.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2753)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1895) وغيرهما، وتقدّم.
(4/148)
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/
174 - مسألة: 564): "ودفْن الكافر الحربي وغيره فرض".
إِذا ماتت المرأة وفي بطنها ولد حيّ:
إِذا ماتت امرأة حامل والولد حيّ يتحرّك؛ فإِنّه يجب إِخراجه (1)، قال الله
- تعالى-: {ومَن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً} (2).
ومن تركه عمداً حتى يموت؛ فهو قاتل نفس.
لا يُدْفَنُ المسلم مع الكافر، ولا الكافر مع المسلم:
ولا يدفن مسلم مع كافر، ولا كافر مع مسلم، بل يُدفن المسلم في مقابر
المسلمين، والكافر في مقابر المشركين، كذلك كان الأمر على عهد النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستمر إِلى عصرنا هذا. فعن بَشِيرِ
ابن الخَصَاصِيَةَ؟ قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمرَّ على مقابر المسلمين، فقال: أدرك هؤلاء خيراً
كثيراً، ثمّ مرّ على مقابر المشركين، فقال: سبق هؤلاء خيراً كثيراً، قال:
فالتفت فرأى رجلاً يمشي بين المقابر في نعليه، فقال: يا صاحب السِّبتيّتين!
ألْقهما" (3).
__________
(1) انظر ما قاله ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (5/ 245 - تحت المسألة:
607).
(2) المائدة: 32.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2767)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1935)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1274).
(4/149)
الدفن في المقبرة:
والسّنّة الدفن في المقبرة؛ لأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع، كما تواترت الأخبار بذلك،
وتقدّم بعضها في مناسبات شتى؛ أقربها حديث ابن الخصاصية، كما في المسألة
السابقة، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه دُفِنَ في غير المقبرة؛ إِلا ما
تواتر أيضاً أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُفِنَ في
حجرته، وذلك من خصوصياته -عليه الصلاة والسلام-".
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما قُبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً ما نسيته قال: "ما قبض الله
نبيّاً إلاَّ في الموضع الذي يحبّ أن يدفن فيه"، فدفنوه في موضع فراشه"
(1).
وجاء في "المغني" (2/ 388): "والدفن في مقابر المسلمين أعجب إِلى أبي عبد
الله من الدفن في البيوت؛ لأنّه أقل ضرراً على الأحياء من ورثته، وأشبه
بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة والتابعون
ومن بعدهم يقبرون في الصحارى.
فإِن قيل: فالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر في بيته
وقبر صاحباه معه؟ قلنا: قالت عائشة: إِنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجداً:
رواه البخاري. ولأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يدفن أصحابه بالبقيع، وفعله أولى من فعل غيره، وإنما رأوا تخصيصه بذلك،
ولأنّه روي: "يدفن الأنبياء حيث يموتون"، وصيانةً لهم عن كثرة الطُّرَّاق،
وتمييزاً له عن غيره".
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (812)، وابن ماجه وغيرهما.
(4/150)
يُدفن شهداء المعركة في مواطن استشهادهم:
ويستثنى ممّا سبق الشهداء في المعركة؛ فإِنهم يُدفنون في مواطن استشهادهم،
ولا يُنقلون إِلى المقابر.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من المدينة إِلى المشركين ليُقاتلهم، وقال أبي -عبد الله-: يا
جابر بن عبد الله! لا عليك أن تكون في نَِظاري أهل المدينة حتى تعْلَم إِلى
ما يصير أمرنا؛ فإِنّي والله -لولا أنّي أترك بناتٍ لي بعدي؛ لأحببتُ أن
تُقتل بين يديّ، قال: فبينما أنا في النِّظارين إِذ جاءت عمتي بأبي وخالي
عَادِلَتَهُما (1) على ناضح، فدخلتْ بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا؛ إِذ
لحِقَ رجل ينادي: ألا إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يأمركم أنْ تَرْجِعُوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قُتلت، فرجعنا
بهما، فدفنّاهما حيث قُتلا" (2).
الأوقات التي لا يجوز فيها الدفن:
ولا يجوز الدفن في الأوقات الثلاثة الآتية أو الليل؛ إِلا لضرورة:
أ- أمّا الدفن في الأوقات الثلاثة المشار إِليها؛ فلحديث عقبة بن عامر
بلفظ: "ثلاثُ ساعاتٍ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ينهانا أن نصلّي فيهن، أو أن نقبر فيهنّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى
ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى
__________
(1) "أي: شادَّتهما على جنْبَي البعير كالعِدْلين". "النهاية".
(2) أخرجه أحمد بسند صحيح، وبعضه عند أبي داود وغيره مختصراً، وتقدّم.
(4/151)
تميل الشمس، وحين تَضَّيَّفُ الشمس للغروب
حتى تغرب" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "والحديث ظاهر الدلالة على ما ذكرنا، وقد ذهب إِلى
ذلك ابن حزم في "المحلّى" (5/ 114 - 115) وغيره من العلماء".
ب- وأمّا النهي عن الدفن في الليل؛ فلحديث جابر بن عبد الله: "أنّ النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوماً، فذكر رجلاً من أصحابه
قبض، فكُفّنَ في كفنٍ غير طائل (2) وقُبر ليلاً، فزجر النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يُقبر الرّجل بالليل حتى يُصَلِّى عليه
(3)؛، إِلا أن يُضطرّ إِنسان إِلى ذلك، وقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذا كفّن أحدكم أخاه؛ فليُحسّن كفَنُه" (4).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 177): "والحديث ظاهر الدلالة على ما ذكرنا، وهو
مذهب أحمد -رحمه الله- في رواية عنه، ذَكَرها في "الإِنصاف" (2/ 547)، قال:
"لا يفعله إِلا لضرورة، وفي أخرى عنه: يُكْرَه".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: والأوّل أقرب؛ لظاهر قوله: (زجر)؛ فإِنّه
أبلغ في النهي من لفظ: (نهى) الذي يمكن حمْله على الكراهة، على أنّ الأصل
فيه التحريم، ولا صارف له إِلى الكراهة.
وقال -رحمه الله- في الصفحة نفسها: .. فإِنْ جاز ليلاً لضرورةٍ جاز نهاراً
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) غير طائل؛ أي: حقير غير كامل الستر. "شرح النووي".
(3) أي: يصلّى عليه نهاراً؛ لكثرة الجماعة، كما قال شيخنا -رحمه الله- في
"أحكام الجنائز" (ص 178).
(4) أخرجه مسلم: 943، وتقدّم.
(4/152)
من أجلها ولا فرق، فما فائدة التقييد بـ
(الليل) حينئذ؟ لا شكّ أنّ الفائدة لا تظهر بصورة قويّةٍ إِلا إِذا رجّحنا
ما استظهرناه أولاً من عدم جواز الدفن ليلاً.
وبيان ذلك: أنّ الدفن في الليل مَظِنَّةٌ قلّة المُصلّين على الميت، فنهى
عن الدفن ليلاً حتى يُصلّى عليه نهاراً؛ لأنّ الناس في النهار أنشط في
الصلاة عليه، وبذلك تحصل الكثرة من المصلّين عليه، هذه الكثرة التي هي من
مقاصد الشريعة، وأرجى لقبول شفاعتهم في الميت" انتهى.
قلت: أمّا إِذا خِيف تغيُّر الميت؛ فإِنّه يُدفن في الأوقات التي تقدّم
النهي عنها؛ كما ذكَر أهل العلم.
وسألتُ شيخنا -رحمه الله-: إِذا خيف تغيّر الميت؛ فهل ترون دفنْه في
الأوقات المنهيّ عنها للضرورة؛ رعاية لحرمته وعدم إِيذاء حامله؟
فأجاب: "نعم؛ إِذا غَلَب الظنّ على ذلك".
جواز الدفن ليلاً عند الاضطرار
فإِن اضطُرُّوا لدفنه ليلاً؛ جاز ولو مع استعمال المصباح والنّزول به في
القبر، لتسهيل عملية الدفن.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أدخل رجلاً قبره ليلاً، وأسْرَج في قبره" (1).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1234)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (178).
(4/153)
وجوب تعميق القبر
وتوسيعه:
ويجب إِعماق القبر وتوسيعه وتحسينه؛ وفيه حديثان:
الأوّل: عن هشام بن عامر قال: جاءت الأنصار إِلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أُحد؛ فقالوا: أصابنا قَرْحٌ وجَهْد،
فكيف تأمرنا؟ قال: "احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر.
قيل: فأيُّهم يُقدّم؟ قال: أكثرهم قرآناً" (1).
الثاني: عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة، فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو على القبر يوصي الحافر: "أوسع من قِبَل رجليه، أوسِعْ من
قِبَل رأسه" (2).
تفضيل اللحد على الشقّ:
ويجوز في القبر اللحد (3) والشقّ (4)؛ لجَرَيان العمل عليهما في عهد
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنّ الأوّل أفضل.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لما توفي النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كان بالمدينة
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2754)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1899)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1400)، وابن ماجه "صحيح سنن
ابن ماجه" (1266).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2850) وغيره.
(3) اللحد: الشقُّ الذي يُعمل في جانب القبر لموضع الميّت؛ لأنّه قد أُميل
عن وسط القبر إِلى جانبه، وأصل الإِلحاد: الميل والعدول عن الشيء".
"النهاية" ملتقطاً.
(4) هو الحفر إِلى أسفل كالنّهر.
(4/154)
رجل يَلْحد وآخر يَضْرح (1)، فقالوا:
نستخير ونبعث إِليهما، فأيُّهما سُبِق تركناه، فأرسل إِليهما، فسبق صاحب
اللحد؛ فلحدوا للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص: أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك
فيه: "الحَدوا لي لحْداً، وانصِبُوا عليّ اللّبِنَ نَصْباً، كما صُنع برسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "اللّحْدُ لنا، والشِّقُّ لغيرنا" (4).
جاء في "الروضة الندية" (1/ 439): "ولا بأس بالضَّرح؛ واللحد أولى؛ لأنّ
اللحد أقرب من إِكرام الميت. وإهالةُ التراب على وجهه من غير ضرورة سوءُ
أدب".
وجاء في "الأوسط" (5/ 451): "وكان الشافعيّ يقول: "إِذا كانوا بأرضٍ شديدة؛
لُحِد لهم، وإن كانوا ببلادٍ رقيقة؛ شُقّ لهم شقّاً".
قال ابن المنذر -رحمه الله-: "الذي قال الشافعي حسن".
__________
(1) أي: يعمل الضريح وهو القبر، فعيل بمعنى (مفعول)، من (الضرح): الشقّ في
الأرض. "النهاية".
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1264) وغيره.
(3) أخرجه مسلم: 966.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2747)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1898)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (835)، وابن ماجه "صحيح سنن
ابن ماجه" (1261).
(4/155)
في الحفّار يجد العظم؛ هل يتنكّب ذلك
المكان (1)؟
إِذا وجد الحفّار العظم؛ فيجب عليه أن يتنكبّ مكانه؛ لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ كَسْرَ عظم المؤمن مَيْتاً؛ مِثل
كسْره حيّاً" (2).
جواز دفن أكثر من واحد في القبر عند الضرورة:
ولا بأس مِن أن يُدفَن فيه اثنان أو أكثر عند الضرورة، ويقدّم أفضلهم، وهدي
السلف الذي جرى عليه العمل أن يدفن كل واحد في قبر، فإِنْ دفن أكثر من واحد
كره ذلك؛ إِلا إِذا تعسر إِفراد كل ميت بقبر -لكثرة الموتى وقلّة الدافنين
أو ضعفهم- فإِنه في هذه الحالة يجوز دفن أكثر من واحد في قبر واحد.
فعن هشام بن عامر قال: جاءت الأنصار إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أُحُدٍ فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فكيف تأمرنا؟
قال: احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر قيل: فأيُّهم
يُقدّم؟ قال: أكثرهم قرآناً" (3).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع
__________
(1) هذا العنوان من "سنن أبي داود".
(2) أخرجه البخاري في "التاريخ" وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2746)،
وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1310) وغيرهم.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2754) والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (1899)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1400)، وابن ماجه "صحيح سنن
ابن ماجه" (1266)، وتقدّم غير بعيد.
(4/156)
بين الرجلين من قتلى أُحد في ثوب واحدٍ ثمّ
يقول: أيُّهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإِذا أشير له إِلى أحد قدّمه في اللحد،
وقال: أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يُصلِّ
عليهم، ولم يُغسَّلوا" (1).
وعن أبي قتادة: أنه حضر ذلك، قال: "أتى عمرو بن الجَمُوح إِلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيت إِنْ قُتلت
في سبيل الله حتى أقتل؛ أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟! وكانت رجله عرجاء،
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم.
فقتلوا يوم أُحد؛ هو وابن أخيه ومولى لهم، فمرّ عليه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كأنّي أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحةً
في الجنّة؛ فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهما
وبمولاهما، فجعلوا في قبر واحد" (2).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قال الشافعي في "الأم" (1/ 245): "ويدفن - في موضع
الضرورة من الضيق والعجلة- الميتان والثلاثة في القبر، ويكون الذي للقبلة
منهم أفضلَهم وأسنّهم، ولا أحب أن تدفن المرأة مع الرجل على حال، وإن كانت
ضرورة ولا سبيل إِلى غيرها؛ كان الرجل أمامها وهي خلفه، ويُجعل بين الرجل
والمرأة في القبر حاجز من تراب" ... ".
فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن دفْن الرجل مع المرأة؟ فقال: "إِذا
فنيت".
__________
(1) أخرجه البخاري: 4079.
(2) أخرجه أحمد بسند حسن، كما قال الحافظ.
(4/157)
وسألته: هل يستثنى الزوجان؟ فقال -رحمه
الله-: "نعم".
بِدْعِيَّةُ الدفن الجماعي:
وما تقدّم من قول -حول جواز دفن الاثنين والثلاثة في قبر للحال المعروف- من
باب رفْع الحرَج، وما يفعله كثير من الناس اليوم من الدفن الجماعي لعائلات
معيّنة أو أُسَر محدّدة- وفيما يسمى في بعض البلاد (الفُسْتُقِيّة) (1)
-فإِنه مخالِفٌ للسّنّة ومنهج سلف الأمّة.
جاء في "الإِرواء" (تحت حديث 749) بتصرّف يسير: حديث: "أنّ النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفِن كل ميت في قبر".
لا أعرفه، وإنْ كان معناه صحيحاً معلوماً بالتتبع والاستقراء، والمؤلف أخَذ
ذلك من قول الرافعي: "الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر، كذلك فعَل - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقال الحافظ في "تخريجه" (167): "لم أره هكذا، لكنه معروف بالاستقراء".
وممّا يدل لصحة معناه: حديث هشام بن عامر [المتقدّم]: "لمّا كان يوم أُحد؛
شكَوا إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرح .. قال:
" .. وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر".
الحديث [المتقدّم أيضاً]: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما كثر القتلى يوم أحد؛ كان
__________
(1) لم أجد هذه الكلمة في معاجم اللغة، وأقرب شيء وجَدُته كلمة
(الفَسقِيّة) في "المعجم الوسيط": "حوض من الرخام ونحوه؛ مستدير غالباً،
تمجّ الماء فيه نافورة، ويكون في القصور والحدائق والميادين ورمْز لها بـ
(د)؛ أي: لفظ دخيل ليس عربياً".
(4/158)
يجمع بين الرجلين في القبر الواحد ... ".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك- أي: الدفن بما يسمّى "الفستقيّة"-؟ فقال:
"عادة فرعونية".
الرجال هم الذين يتولّون إِنزال الميت:
ويتولى إِنزالَ الميت -ولو كان أنثى- الرجالُ دون النساء؛ لأنّه المعهود في
عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجرى عليه عمل
المسلمين حتّى اليوم.
عن عبد الرحمن بن أَبْزَى قال: "صلّيت مع عمر بن الخطاب على زينب بنت جحش
بالمدينة، فكبّر أربعاً، ثمّ أرسل إِلى أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يأمرن أن يُدخلها القبر؟
قال: وكان يُعجبه أن يكون هو الذي يلي ذلك، فأرسلْن إِليه: انظر من كان
يراها في حال حياتها؛ فليكن هو الذي يُدخلها القبر، فقال عمر: صدقتُنّ"
(1).
يجوز للزوج أن يتولى بنفسه دفْن زوجته:
ويجوز للزوج أن يتولى بنفسه دفن زوجته.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل عَلَيّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليوم
الذي بُدئ فيه، فقلت: وارأساه! فقال: ودِدْتُ أنّ ذلك كان وأنا حيٌّ،
فهيأتُك ودفنتك! قالت: فقلت -غَيْرَى-: كأنّي بك في ذلك اليوم عروساً ببعض
نسائك!
__________
(1) أخرجه الطحاوي، وابن سعد، والبيهقي بسند صحيح.
(4/159)
قال: وأنا وارأساه! ادْعي لي أباك وأخاك.
حتى أكتب لأبي بكر كتاباً؛ فإِنّي أخاف أن يقول قائل، ويتمنى متمنّ: أنا
أولى! ويأبى الله -عز وجلّ- والمؤمنون إلاَّ أبا بكر" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 188): "وقد ذهب إِلى جواز دفن الرجل لزوجته
الشافعيةُ، بل قالوا: إِنه أحقُّ بذلك من أوليائها الذين ذكرنا، وعكَس ذلك
ابن حزم، فجعله بعدهم في الأحقّية، ولعله الأقرب؛ لما سبق من عموم الآية".
لا يجوز لمن وطئ أهله تلك الليلة أن يتولّى الدفن:
لكنّ ذلك مشروط بما إِذا كان لم يطأ تلك الليلة؛ وإلاَّ لم يشرع له دفنها،
وكان غيره هو الأولى بدفنها -ولو أجنبيّاً- بالشّرط المذكور.
فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "شهدنا بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
جالس على القبر- فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل فيكم من أحد لم يُقارف (2)
الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا. قال: فأنزل في قبرها، فنزل في قَبْرها
فَقَبَرَها" (3).
وفي رواية عنه: "أن رُقية -رضي الله عنها- لما ماتت؛ قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يدخل القبرَ رجلٌ قارف [الليلة]
أهله؛ فلم يدخل عثمان بن عفان -رضي
__________
(1) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح على شرط الشيخين. وهو في "صحيح البخاري"
(5666) بنحوه، ومسلم: 2387 مختصراً.
(2) أي: يجامع.
(3) أخرجه البخاري: 1342.
(4/160)
الله عنه- القبر" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قال النووي في "المجموع" (5/ 289): "هذا الحديث من
الأحاديث التي يُحْتَجُّ بها في كون الرجال هم الذين يتولّون الدفن وإن كان
الميت امرأة.
قال: ومعلوم أن أبا طلحة -رضي الله عنه- أجنبي عن بنات النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنّه كان من صالحي الحاضرين، ولم يكن هناك
رجل مَحْرَمٌ إِلا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلعلّه
كان له عذر في نُزول قبرها، وكذا زوجها، ومعلوم أنها كانت أختها فاطمة
وغيرها من محارمها وغيرهنّ هناك؛ فدّل على أنه لا مدخل للنساء في إِدخال
القبر والدفن" انتهى.
وجاء في "المحلّى" (5/ 214 - تحت المسألة: 585): "وأحقُّ الناس بإِنزال
المرأة في قبرها: من لم يطأ تلك الليلة، وإِن كان أجنبيّاً؛ حضر زوجها أو
أولياؤها أو لم يحضروا، وأحقهم بإِنزال الرجل أولياؤه.
أمّا الرجل؛ فلقول الله -تعالى-: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض}؛ وهذا
عموم؛ لا يجوز تخصيصه إلاَّ بنص.
وأمّا المرأة؛ فإِنّ عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا قال: ثنا
إِبراهيم بن أحمد: ثنا الفربري: ثنا البخاري ... " ثمّ ذكر حديث أنس -رضي
الله عنه-.
أولياء الميت أحقّ بإِنزاله:
أولياء الميت أحقّ بإِنزاله؛ لعموم قوله -تعالى-: {وأولوا الأرحام (2)
بعضهم
__________
(1) أخرجه أحمد، والطحاوي، والحاكم وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم".
(2) قال "شيخنا -رحمه الله- في التعليق (ص 186): "وهم الأب وآباؤه، والابن
=
(4/161)
أولى ببعض في كتاب الله} (1)، ولحديث علي
-رضي الله عنه- قال: غسَّلت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئاً وكان طيّباً حياً وميتاً،
وولي دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: عليّ والعباس، والفضل، وصالح، مولى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولحدَ لرسول الله لحداً،
ونصب عليه اللَّبِن نصباً" (2).
إِدخال الميت من مؤخّر القبر:
والسّنّة إِدخال الميت من مؤخر القبر؛ لحديث أبي إِسحاق قال: "أوصى الحارث
أن يُصلّي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثمّ أدخله القبر من قبل رجلي
القبر، وقال: هذا من السّنّة" (3).
وعن ابن سيرين قال: "كنتُ مع أنس في جنازة، فأمَرَ بالميت، فسُلَّ من قِبَل
رجل القبر" (4).
يوضع الميت على جنبه الأيمن ووجهه قُبالةَ القِبْلَة:
قال شيخنا -رحمه الله-: "ويُجْعل الميت في قبره على جنبه اليمين، ووجهه
قُبالةَ القبلة، ورأسه ورجلاه إِلى يمين القبلة ويسارها؛ على هذا جرى عمل
أهل
__________
= وأبناؤه، ثم الإِخوة الأشقاء، ثمّ الذين للأب، ثمّ بنوهم، ثمّ الأعمام
للأب والأم ثمّ للأب ثمّ بنوهم، ثمّ كل ذي رحم محرمة". كذا في "المحلّى"
(5/ 143) ونحوه في "المجموع" (5/ 290).
(1) الأنفال: 75.
(2) أخرجه الحاكم، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"
(2750).
(4) أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، وسنده صحيح.
(4/162)
الإِسلام من عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى يومنا هذا، وهكذا كلُّ مقبرة على ظهر
الأرض، كذا في "المحلّى" (5/ 173) وغيره" انتهى.
وجاء في "الروضة الندية" (1/ 441): "ويوضَع على جنبه الأيمن مستقبِلاً؛ وهو
ممّا لا أعلم فيه خلافاً".
ويقول الذي يضعه في لَحْده: (بسم الله، وعلى سنّة رسول الله -أو ملّة رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ--).
فعن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إِذا وضع الميت في القبر قال: بسم الله، وعلى سُنة رسول
الله" (1).
وعن البياضي -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنّه قال: "الميت إِذا وضع في قبره؛ فليقل الذين يضعونه حين
يُوضع في اللّحد: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
هل تحلُّ عقد الكفن (3)؟
هناك العديد من الآثار ساقها ابن أبي شيبة عن بعض التابعين لا تخلو من ضعف،
لكن مجموعها يلقي الاطمئنان في النفس أن حل عقد كفن الميت في القبر كان
معروفاً عند السلف، فلعله لذلك قال به الحنابلة تبعاً للإِمام أحمد، فقد
قال أبو داود في "مسائله" (158): "قلت لأحمد (أو سئل)
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2752)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (836)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1260).
(2) أخرجه الحاكم، وإسناده حسن.
(3) هذا الباب من اقتراح أخي (عمر الصادق) -حفظه الله-.
(4/163)
عن العقد تحل في القبر؟ قال: نعم".
وقال ابنه عبد الله في "مسائله" (144 - 538): "مات أخ لي صغير، فلما وضعته
في القبر، وأبي قائم على شفير القبر، قال لي: يا عبد الله! حل العقد،
فحللتها" (1).
فائدة: سألت شيخنا -رحمه الله- عن وضْع الطين في القبر بين اللبنات لمنع
تسرُّب التراب على الميت؟ فقال: "يبدو أنّه صحيح؛ لأنّ اللحد فُضّل على
الشِّق".
استحباب حَثْوِ ثلاث حَثَوات من التراب بعد سدّ اللحد:
ويُستحبّ لمن عند القبر أن يحثو من التراب ثلاث حثوات بيديه جميعاً بعد
الفراغ من سدّ اللحد.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلّى على جنازة، ثمّ أتى قبر الميت، فحثا (2) عليه من قِبَل
رأسه ثلاثاً" (3).
ويُسنّ بعد الفراغ من دفنه أمور:
الأوّل: أن يُرفَع القبر عن الأرض قليلاً نحو شبرٍ، ولا يسوّى بالأرض، وذلك
ليتميّز فيُصان ولا يُهان.
فعن جابر -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أُلْحِد له لحد، ونُصِب عليه اللَّبْن
__________
(1) ذكره شيخنا -رحمه الله- في "الضعيفة" (1763).
(2) أي: غرف بيده.
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1271).
(4/164)
نصباً، ورُفع قبره من الأرض نحواً من شبر"
(1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قال الشافعي في "الأم" (1/ 245 - 246) ما مختصره:
"وأحبّ أن لا يُزاد في القبر تراب من غيره؛ لأنّه إِذا زيد ارتفع جداً،
وإِنما أُحِبّ أن يُشْخَصَ على وجه الأرض شبراً أو نحوه".
ونقل النووي في "المجموع" (5/ 296) اتفاق أصحاب الشافعي على استحباب الرفع
بالقدر المذكور".
الثاني: أن يجعل مُسنّماً (2).
فعن سفيان التمّار: "أنّه رأى قبر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مُسنّماً" (3).
الثالث: أنْ يُعَلّمه بحجرٍ أو نحوه؛ ليدفن إليه من يموت من أهله؛ لحديث
المُطّلب -وهو ابن عبد الله بن المطلب بن حَنْطَبِ -رضي الله عنه- قال:
"لمّا مات عثمان بن مظعون؛ أُخرج بجنازته فدُفن؛ أمر النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام
إِليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسَر عن ذراعيه.
قال كثير: قال المُطلب: قال الذي يُخبرني [ذلك] عن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كأنّي أنظر إِلى بياض ذراعي رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حسر عنهما، ثمّ حملها
__________
(1) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" والبيهقي وإسناده حسن.
(2) التسنيم: هو رفْع القبر عن وجه الأرض كالسّنام، وعدم تسطيحه، يُقال:
سنّم القبر: ملأه حتى صار فوقه مثلُ السِّنام؛ [وهي كُتل من الشحم محدّبة
على ظهر البعير والناقة]. وانظر "الوسيط".
(3) أخرجه البخاري: 1390.
(4/165)
فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلّم بها قبر أخي
(1)، وأدفن إِليه من مات من أهلي" (2).
ولا يشرع تلقينُ الميت التلقينَ المعروفَ اليوم (3)؛ لأنّ الحديث الوارد
فيه لا يصح.
الاستغفار للميت والدعاء له بالتثبيت:
وينبغي للحاضرين حين يفرغون من دفْن الميت، أن يقفوا على القبر ويدعوا له
بالتثبيت، وأن يستغفروا له، وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يأمر الحاضرين بذلك؛ لحديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال:
"كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا فرغ من دفن الميت
وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإِنّه الآن يُسأل"
(4).
الموعظة عند القبر
عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة
__________
(1) أرجح الأقوال -والله أعلم-: أنه أخوه من الرّضاعة، ذكره في "عون
المعبود" (9/ 17) نقلاً عن "المرقاة" (4/ 192).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2745)، وترجم له أبو داود بـ "باب
في جمع الموتى في قبر، والقبر يُعلّم".
(3) وسيأتي التفصيل بإِذن الله -تعالى-.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2758)، والحاكم، والبيهقي وغيرهم.
(4/166)
رجل من الأنصار، فانتهينا إِلى القبر؛
ولمّا يُلحد (1)، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-[مستقبل القبلة]، وجلسنا حوله، وكأنّ على روؤسنا الطّير، وفي يده عودٌ
ينكت (2) في الأرض، [فجعل ينظر إِلى السماء، وينظر إِلى الأرض، وجعل يرفع
بصره ويخفضه، ثلاثاً]، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو
ثلاثاً، [ثمّ قال: اللهم إِنّي أعوذ بك من عذاب القبر] [ثلاثاً]، ثمّ قال:
إِنّ العبد المؤمن إِذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة؛ نزل
إِليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأنّ وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من
أكفان الجنة، وحَنُوطٌ (3) من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر، ثمّ
يجيء ملك الموت -عليه السلام- حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيّتها النفس
الطيبة (وفي رواية: المطمئنة)! اخرجي إِلى مغفرة من الله ورضوان.
قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السِّقَاءِ، فيأخذها (وفي رواية:
حتى إِذا خرجت روحه؛ صلّى عليه كلُّ ملكٍ بين السماء والأرض، وكلّ ملك في
السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهلِ باب إلاَّ وهم يدْعون الله أن
يعرج بروحه من قبلهم)، فإِذا أخذها؛ لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى
يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، [فذلك قوله - تعالى-:
{توفّته رُسُلنا وهم لا يفرِّطون}، ويخرج منها كأطيب نَفْحَةِ مِسْكٍ
وُجِدت على وجه الأرض.
__________
(1) أي: لم يوضْع في لحده بعْدُ.
(2) أي: يضرب بطرفه الأرض، وذلك فِعل المفكّر المهموم "عون" (13/ 63).
(3) بفتح المهملة: ما يُخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصّة.
"النهاية".
(4/167)
قال: فيصعدون بها؛ فلا يمرّون -يعني- بها
على ملإٍ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذا الروح الطيّب؟! فيقولون: فلان بن
فلان -بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمُّونه بها في الدنيا- حتى ينتهوا بها
إِلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيّعه من كلّ سماء
مُقرّبوها إِلى السماء التي تليها، حتى يَنتهيَ به إِلى السماء السابعة،
فيقول الله -عزّ وجلّ-: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين، {وما أدراك ما
عِلِّيُّون كتاب مرقوم * يشهده المُقرّبون}، فيكتب كتابه في عِلِّيِّين،
ثمّ يقال]: أعيدوه إِلى الأرض؛ فإِنّي [وعدتهم أنّي] منها خلقتهم وفيها
أُعيدهم ومنها أُخرجهم تارةً أخرى.
قال: فـ[يُردّ إِلى الأرض، و] تُعاد روحه في جسده، [قال: فإِنّه يسمع خفق
نعال أصحابه إِذا ولّوا عنه] [مدبرين].
فيأتيه ملكان [شديدا الانتهار]، فـ[ينتهرانه و] يُجلسانه، فيقولان له: من
ربّك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؛ فيقول: ديني الإِسلام.
فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فيقولان له: ما عَمَلُك؟ فيقول: قرأت كتاب
الله، فآمنت به وصدّقت، فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيُّك؟ وهي
آخر فتنة تعرض على المؤمن.
فذلك حين يقول الله -عزّ وجلّ-: {يُثَبِّتُ الله الذين آمنوا بالقول الثابت
في الحياة الدنيا}، فيقول: ربي الله، وديني الإِسلام، ونبيّ محمد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فينادي منادٍ في السماء: أنْ صدق عبدي،
فأفرِشوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إِلى الجنّة، قال:
فيأتيه من رَوْحِها وطِيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره.
(4/168)
قال: ويأتيه [وفي رواية: يُمَثَّلُ له] رجل
حسن الوجه، حسن الثياب، طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسُرُّك، [أبشر
برضوانٍ من الله، وجنّاتٍ فيها نعيم مقيم]، هذا يومك الذي كُنت تُوعد،
فيقول له: [وأنت -فبشّرك الله بخير]- من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير!
فيقول: أنا عملك الصالح؛ [فوالله ما عَلِمْتُك إِلا كنت سريعاً في طاعة
الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً].
ثمّ يُفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله،
أبدلك الله به هذا، فإِذا رأى ما في الجنة قال: ربِّ! عجّل قيام الساعة؛
كيما أرجع إِلى أهلي ومالي! [فيقال له: اسكن].
قال: وإِنّ العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إِذا كان في انقطاع من
الدنيا،
وإقبال من الآخرة؛ نزل إِليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد]، سُود الوجوه،
معهم المُسُوح (1) [من النار]، فيجلسون منه مدّ البصر (2)، ثمّ يجيء ملك
الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! أخرجي إِلى سَخَطٍ
من الله وغضب، قال: فتفرَّق في جسده، فينتزعها كما يُنتزع السُّفُّود (3)
[الكثير الشُّعب] من الصّوف المبلول، [فتَقطَّعُ معها العروق والعصب]،
[فيلعنه كلُّ ملك بين السماء والأرض، وكلُّ ملك في السماء، وتغلَق أبواب
السماء، ليس من أهل باب إِلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من
__________
(1) جمع مِسح: ثوب من الشعر غليظ.
(2) أي: منتهى بصره.
(3) السُّفود: هو عود من حديد يُنظّم فيه اللحم ليُشوى. "الوسيط".
(4/169)
قِبلهم]، فيأخذها، فإِذا أخذها لم يدَعوها
في يده طرفة، عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح، ويخرج منها كأنتن ريحٍ جيفةٍ
وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إِلا
قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان ابن فلان -بأقبح أسمائه التي
كان يُسمّى بها في الدنيا، حتى يُنتَهى به إِلى السماء الدنيا، فيُستفتح
له، فلا يُفتح له، ثمّ قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: {لا تُفَتَّحُ لهم أبواب السماء ولا يدْخلون الجنة حتى يَلِجَ الجَمَلُ
في سمِّ الخِياط (1)} (2) فيقول الله -عزّ وجلّ-: اكتبوا كتابه في سِجين
(3)؛ في الأرض السُّفلى، [ثمّ يقال: أعيدوا عبدي إِلى الأرض، فإِنّي وعدتهم
أنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أُخرجهم تارةً أخرى)، فتُطرح روحه [من
السماء] طرحاً [حتى تقع في جسده] ثمّ قرأ: {ومن يشرك بالله فكأنّما خرَّ من
السماء فَتَخْطَفُهُ الطير أو تهوي به الريح في مكان سَحِيق}، فتعاد روحه
في جسده، [قال: فإِنّه ليسمع خفق نعال أصحابه إِذا
__________
(1) قال الحسن البصري وغيره: "حتى يدخل البعير في خرق الإِبرة. وكذا روى
علي بن أبى طلحة والعوفي عن ابن عباس. وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس -رضي
الله عنهما-: إِنّه كان يقرأُها {يلج الجمل في سمّ الخياط} بضم الجيم
وتشديد الميم -الجُمّل- يعني: الحبل الغليظ في خرق الإِبرة". عن "تفسير ابن
كثير" بحذف.
وهذا تعليق بالمستحيل؛ أي: أنهم لا يدخلون الجنة أبداً، وانظر -إِن شئت- ما
قاله البغوي في "تفسيره".
(2) الأعراف: 40.
(3) قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "والصحيح أنّ سجّيناً مأخوذ من
السِّجن، وهو الضيق"، وقال في موطن آخر: "وهو يجمع الضيق والسفول".
(4/170)
ولّوا عنه].
ويأتيه ملكان [شديدا الانتهار، فينتهرانه و] يُجلسانه، فيقولان له: من
ربُّك؟ [فيقول: هاهْ هاهْ (1)! لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاهْ
هاهْ! لا أدري]! فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي
لاسمه، فيُقال: محمد! فيقول: هاه هاه! لا أدري! [سمعت الناس يقولون ذاك!
قال: فيقال: لا دَرَيْتَ]، ولا تلوت]، فينادي مُنادٍ من السماء: أنْ كذب،
فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إِلى النار، فيأتيه من حرّها
وسَمُومها (2)، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه (وفي
رواية: ويُمثل له) رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر
بالذي يسوؤك، هذا يومُك الذي كنت توعد، فيقول: [وأنت فبشّرك الله بالشرِّ]
من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشّر! فيقول. أنا عملك الخبيث؛ [فوالله ما علمت
إِلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إِلى معصية الله]، [فجزاك الله
شرّاً! ثمّ يُقيّض له أعمى أصمُّ أبكم في يده مِرْزبَة (3) لو ضُرِبَ بها
جبل كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثمّ يعيده الله كما كان،
فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كلّ شيء إِلا الثقلين، ثمّ يفتح له
__________
(1) جاء في "عون المعبود" (13/ 65): "هاهْ هاهْ -بسكون الهاء فيهما بعد
الألف-: كلمة يقولها المتحيّر الذي لا يقدر -من حَيرته للخوف أو لعدم
الفصاحة- أن يستعمل لسانه في فيه".
(2) الريح الحارّة.
(3) المِرزَبة -بالتخفيف-: المطرقة الكبيرة التي تكون للحّداد. "النهاية".
(4/171)
باب من النار، ويُمهَّد من فُرُش النار]،
فيقول: ربِّ! لا تُقم الساعة" (1).
استحباب جمع الموتى الأقارب في أماكن متجاورة (2):
ويستحب جمع الموتى الأقارب في أماكن متجاورة؛ لأنّه أيسر لزيارتهم وأكثر
للترحُّم عليهم، كما ذكَر بعض أهل العلم؛ لحديث المطلب -رضي الله عنه- قال:
"لما مات عثمان بن مظعون؛ أُخرج بجنازته فدفن؛ أمر النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً أنْ يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام
إِليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسر عن ذراعيه
-قال المطلب: قال الذي يُخبرني [ذلك] عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --؛ كأني أنظر إِلى بياض ذراعي رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حسر عنهما، ثمّ حملها فوضعها عند رأسه،
وقال: أتعلّم بها قبر أخي، وأدفن إِليه من مات من أهلي" (3).
ضَمَّة القبر:
عن ابن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "هذا (4) الذي تحرَّك له العرش، وفُتحت له أبواب السماء،
وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمّ ضمة، ثمّ فُرِّج عنه" (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3979)، والحاكم، والطيالسي، وأحمد
وغيرهم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 198).
(2) انظر "فقه السّنة" (1/ 550) تحت عنوان (تعليم القبر بعلامة).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2745)، وتقدّم.
(4) هو سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأنصار -رضي الله عنهم-.
(5) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1942).
(4/172)
سؤال القبر وعذابه ونعيمه (1):
وقد تقدّم في سؤال القبر عذابه ونعيمه: حديثُ البراء بن عازب -رضي الله
عنه- الطويل. وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا أُقعد المؤمن في قبره؛ أُتي ثمّ
شهِدَ أن لا إِله إِلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت}، وفي رواية: نزلت في عذاب القبر" (2).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه حدّثهم أنّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه
أصحابه -وإنه ليسمع قرع نعالهم-؛ أتاه ملكان فيُقعِدانه فيقولان: ما كنت
تقول في هذ الرجل -لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --؟ فأمّا
المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من
النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعًا. قال قتادة:
وذُكِر لنا أنّه يُفسح له في قبره.
ثمّ رجع إِلى حديث أنس قال: وأمّا المنافق والكافر فيُقال له: ما كنت تقول
في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري! كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دَرَيْتَ
ولا تَلَيْتَ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غيرَ
الثقلين" (3).
__________
(1) انظر للمزيد -إِن شئت- كتابي "القبر عذابه ونعيمه".
(2) أخرجه البخاري: 1369، ومسلم: 2871.
(3) أخرجه البخاري: 1374، ومسلم: 2870.
(4/173)
وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: بينما
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حائط لبني النجار على
بغْلة له ونحن معه؛ إِذ حادَتْ به فكادت تلقيه، وإذا أَقْبُرٌ ستة أو خمسة
أو أربعة، فقال: "من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى
مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإِشراك، فقال: إِن هذه الأمة تبتلى في قبورها،
فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه؛
ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: تعوّذوا بالله من عذاب النّار، قالوا: نعوذ
بالله من عذاب النّار، فقال: تعوّذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ
بالله من عذاب القبر! قال: تعوّذوا بالله من الفتن: ما ظهر منها وما بطن،
قالوا: نعوذ بالله من الفتن: ما ظهر منها وما بطن! قال: تعوّذوا بالله من
فتنة الدّجال. قالوا: نعوذ بالله من فنتة الدّجال! " (1).
وعن سمرة بن جندب قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِذا صلّى صلاة؛ أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال:
فإِن رأى أحد قصّها، فيقول ما شاء الله، فسألَنا يوماً فقال: هل رأى أحد
منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكنّي رأيت الليلة رجلين؛ أتياني فأخذا بيدي،
فأخرجاني إِلى الأرض المقدّسة؛ فإِذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كَلُّوب من
حديد -قال بعض أصحابنا عن موسى أنه- يدخل ذلك الكلوب في شِدْقِهِ حتى يبلغ
قفاه، ثمّ يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويَلْتَئِمُ شدقه هذا، فيعود فيصنع
مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق.
فانطلقنا حتى أتينا على رجل مُضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه
__________
(1) أخرجه مسلم: 2867.
(4/174)
بفِهْرٍ (1) أو صخرة، فَيَشْدَخُ به رأسه،
فإِذا ضربه تَدَهْدَه (2) الحجر، فانطلق إِليه ليأخذه؛ فلا يرجع إِلى هذا
حتى يلتئم رأسه؛ وعاد رأسه كما هو، فعاد إِليه فضربه، قلت: من هذا؟ قالا:
انطلق.
فانطلقنا إِلى ثُقْبٍ مثل التّنّور؛ أعلاه ضيّق وأسفله واسع، يتوقّد تحته
ناراً؛ فإِذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإِذا خمدت رجعوا فيها،
وفيها رجال ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على
نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة -قال يزيد
ووهب بن جرير عن جرير بن حازم: وعلى شطّ النهر رجل-؛ فأقبل الرجل الذي في
النهر، فإِذا أراد أن يخرج؛ رمى الرجل بحجر في فيهِ؛ فردَّه حيث كان، فجعل
كلّما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا:
انطلق، فانطلقنا حتى انتهينا إِلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها
شيخ وصِبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعِدا بي في
الشجرة، وأدخلاني داراً لم أرَ قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء
وصبيان، ثمّ أخرجاني منها، فصعدا بي الشجرة؛ فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل،
فيها شيوخ وشباب، قلت: طوّفتماني الليلة فأخبِراني عمّا رأيت؟ قالا: نعم.
أمّا الذي رأيته يُشق شِدقه؛ فكذاب يحدِّث بالكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ
الآفاق، فيصنع به إِلى يوم القيامة. والذي رأيته يُشدخ رأسه؛ فرجل علّمه
__________
(1) الفِهْر: هو الحجر مِلءُ الكفِّ. وقيل: هو الحجر مطلقاً. "النهاية".
(2) أي: تدحرج.
(4/175)
الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه
بالنهار، يُفعل به إِلى يوم القيامة، والذي رأيته في الثَّقب؛ فهم الزناة،
والذي رأيته في النهر؛ آكِلُو الربا. والشيخ في أصل الشجرة؛ إِبراهيم -عليه
السلام-، والصبيان حوله؛ فأولاد الناس. والذي يوقد النار؛ مالك خازن النار.
والدار الأولى التي دخلت؛ دار عامّة المؤمنين. وأمّا هذه؛ الدار فدار
الشهداء، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي فإِذا فوقي مثل
السّحاب، قالا: ذاك منزلك، قلت: دَعَاني أدخلْ منزلي! قالا: إِنه بقي لك
عُمُر لم تستكمله، فلو استكملت أتيت منزلك" (1).
هل يجوز نبش القبر؟
لا يجوز نبش القبر إِلا لغرض صحيح.
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 203) -بتصرّف يسير-: "ويجوز إِخراج الميت من
القبر لغرض صحيح، كما لو دفن قبل غسله وتكفينه ونحو ذلك.
فعن جابر بن عبد الله قال: "أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عبد الله بن أُبي بعدما دفن، فأخرجه؛ فَنفث فيه من ريقه،
وألبسه قميصه" (2).
والظاهر: أنّ هذا كان قبل نزول قوله -تعالى-: {ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم
مات أبداً ولا تقُم على قبره} ". انتهى كلام شيخنا -رحمه الله-.
وقال البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" (3): "باب هل يخرج الميت من
__________
(1) أخرجه البخاري: 1386.
(2) أخرجه البخاري: 1270، ومسلم: 2773.
(3) انظر (كتاب الجنائز) "باب - 77".
(4/176)
القبر واللحد لعلّة؟ ثمّ ذكر (برقم: 1351)
حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "لما حضر أُحد دعاني أبي من
الليل فقال: ما أُراني إِلا مقتولاً في أول من يُقتل من أصحاب النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإني لا أترك بعدي أعزّ عليّ منك؛
غير نفس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنّ عليّ
ديناً، فاقض واستوص بأخواتك خيراً.
فأصبحنا، فكان أوّل قتيل، ودفن معه آخر في قبر، ثمّ لم تَطِبْ نفسي أن
أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر؛ فإِذا هو كَيَوْمَ وضَعْتُه
هُنيَّة (1)؛ غيرَ أُذُنه".
وجاء في "الأوسط" (5/ 343): "واختلفوا في النبش عمن دفن ولم يغسل: فقال
أكثر أهل العلم: يخرج فيغسل. هكذا قال مالك والثوري والشافعي، إِلا أن
مالكاً قال: ما لم يتغير.
وقال أصحاب الرأي: إِذا وضع في اللحد ولم يغسل، ولم يُهَلْ عليه التراب؛
أخرج فغسل وصلّي عليه، وإن كانوا نصبوا اللبن، وأهالوا عليه التراب؛ لم
يَنْبَغ لهم أن ينبشوا الميت من قبره".
قال أبو بكر [وهو ابن المنذر -رحمه الله-]: يُخرج ويغسل ما لم يتغير، كما
قال مالك" انتهى.
ولقول مالك وأبي بكر -رحمهما الله- تطمئن نفسي.
قال ابن حزم -رحمه الله- (5/ 169 - تحت المسألة: 559): "ومن لم يُغَسل ولا
كُفِّن حتى دُفِن؛ وجب إِخراجه حتى يغسّل ويكفّن؛ ولا بُدّ".
__________
(1) أي: شيئاً يسيراً.
(4/177)
وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 304): "وسئل
-رحمه الله- عن قوم لهم تربة، وهي في مكان منقطع، وقتل فيها قتيل، وقد بنوا
لهم تربة أخرى؛ هل يجوز نقل موتاهم إِلى التربة المُسْتَجَدَّةِ أم لا؟
فأجاب: لا يُنبش الميت لأجل ما ذُكِر. والله أعلم" انتهى.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن قول بعض العلماء: "ولو حُفر القبر فوُجَد فيه
عظام الميت باقية؛ لا يُتمّ الحافر حفره"؟
فقال: "به أقول".
وسألته -رحمه الله-: هل يجوز نبش القبر لإِخراج مالٍ تُرك في القبر؟
فقال: "نعم".
وسألته -رحمه الله-: إذا صار جسم الميت تراباً؛ فهل ينتفع من المكان بزرعٍ
أو نحوه؟
فأجاب: هذا يُتصوّر في أرضٍ قَفْرٍ؛ دُفن فيها ميت، ثمّ أصَبَح هذا الميت
تراباً ورميماً، فبهذا التصوّر الضيّق؛ نعم، كما يروى عن أبي العلاء
المعرّي أنه قال:
صَاحِ هذي قبورُنا تملأ الرَّحب (1) ... فأين القبور من عهد عادِ
خفَف الوطء (2) ما أظنّ ... أديم الأرض إلاَّ من هذه الأجساد
__________
(1) و (2) الرّحب: الواسع، يقال: مكان رَحب ودار رَحبة؛ والرَّحبة: الأرض
الواسعة.
الوطء: الدوس بالقدم. "الوسيط" ملتقطاً.
(4/178)
فإِذا كان السؤال في ميِّت محدّد في هذا
الوضْع الضّيق؛ فالجواب الجواز، ولكن إِذا كان القبر في مقبرة؛ فحينئذ
يختلف الحُكم تماماً، وبهذا التحديد يجوز؛ وإلاَّ فلا.
قلت: فإِذا كانت المقبرة كلها تراباً؛ هل يمكن الانتفاع بذلك؟
فقال -رحمه الله-: المسألة تأخذ طوراً آخر، فالمقابر بشكل عام موقوفة لموتى
المسلمين، بمعنى أن أرض المقبرة لا يملكها أحد، فلا يستطيع أحد أن يشتريها؛
لأنّه لا مالك لها، فمن الأخطاء الشائعة أن تباع القبور! ومن هو المالك؟
والانتفاع بأرض المقبرة بعد أن صار أهلها رميماً؛ لا يرِدُ جوازه من هذه
الحيثية، وعلى العكس من ذلك.
لو قيل: هذه مقبرة عائلة؛ فهذه الأرض ملْك لهم؛ فإِذا أصبحَ الموتى تراباً؛
فباستطاعتهم استثمارها في بناية دار أو حديقة؛ لأنها ملْك لهم.
فهنا شرطان: أن يتحول الموتى رميماً، وأن تكون الأرض مملوكة.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال:
"أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن أُبي بعد
ما أُدخل قبره، فأمر به فأُخرج ووضع على رُكبتيه، ونفث عليه من ريقه،
وألبسه قميصه، فالله أعلم" (1)؛ هل يفيدنا في جواز إِخراج الميّت؟
فقال -رحمه الله-: وهو لا يزال سليماً؟
قلت: حديث عهد بدفن؟
__________
(1) أخرجه البخاري: 5795، وتقدّم غير بعيد.
(4/179)
فقال: نعم، يجوز.
قلت: أهذا متعلّق بفناء الجسم أو عدمه؟
قال: نعم.
قال أحد الإِخوة: هل يجوز النبش لمِثل هذا السبب؟
قال -رحمه الله-: يجوز إِذا غلب على ظنّه بقاء الجسم.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل يَسُوغ وضْع العظام جانباً لدْفن ميت آخر؟
فقال: يمكن ذلك إِذا ضاقت المقبرة.
هل يُستحبّ للرجل حفْر قبره قبل موته؟
ولا يُستحبّ للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت، فإِنّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، والعبد لا يدري
أين يموت، وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت، فهذا يكون من العمل
الصالح.
كذا في "الاختيارات العلمية " لشيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
عدم مشروعية تلقين المقبور:
ولا يشرع تلقين المقبور بأي صيغة من الصّيغ، أو عبارة من العبارات؛ لعدم
وروده عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابة -رضي
الله عنهم-.
أما حديث: "لقنّوا موتاكم: لا إِله إِلا الله؛ من كان آخر كلامه لا إِله
إِلا الله عند الموت دخل الجنة ... " (1). فقد تقدّم أنّ معناه تلقين
المحتضر، ومن تأمّل
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(4/180)
لفظ الحديث؛ من كان آخر كلامه لا إِله إِلا
الله عند الموت؛ أيقَن أنّ المراد بذلك المحتضر ليقولها.
وأمّا حديث أبي أمامة الباهلي وقوله في النّزع: "إِذا أنا مِتُّ فاصنعوا بي
كما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِذا مات
أحد من إِخوانكم، فسوَّيتم التراب عليه؛ فليقم أحدكم على رأس قبره ثمّ
ليقل: يا فلان بن فلان! فإِنه يسمع ولا يجيب.
ثمّ يقول: يا فلان بن فلانة! فإِنّه يستوي قاعداً ثمّ يقول: يا فلان بن
فلانة! فإِنه يقول: أَرْشِدْنا رحمك الله! ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما
خرجت عليه من الدنيا شهادة: أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً عبده ورسوله،
وأنك رضيت بالله ربّاً، وبالإِيسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً، وبالقرآن
إِمامًا؛ فإِن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق
بنا؛ ما نقعد عند من لُقِّنَ حجته؟! فيكون الله حجيجه دونهما. قال رجل: يا
رسول الله! فإِن لم يعرف أمه؟ قال: فينسبه إِلى حواء: يا فلان بن حواء! ".
فإِنه ضعيف؛ وانظره في "الإِرواء" (753).
وجاء فيه (3/ 205): "وقال الأثرم: قلت لأحمد: هذا الذي يصنعونه إِذا دفن
الميت؛ يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة!؟ قال: ما رأيت أحداً يفعله إِلا
أهل الشام حين مات أبو المغيرة، يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن
أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وكان إِسماعيل بن عياش يرويه، يشير إِلى حديث
أبي أمامة".
قال شيخنا -رحمه الله-: وليت شعري؛ كيف يمكن أن يكون مثل هذا
(4/181)
الحديث صالحاً ثابتاً، ولا أحد من السلف
الأول يعمل به؟!
وقد قال النووي في "المجموع" (5/ 304)، والعراقي في "تخريج الإِحياء" (4/
420): إِسناده ضعيف. وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/ 206): "حديث لا
يصح".
التعزية
تعريفها: هي حمْل ذوي الميت على الصبر وفضْله، والابتلاء وأجره، والمصيبة
وثوابها (1).
مشروعية تعزية أهل الميت:
وتشرع تعزية أهل الميت.
فعن قُرَّةَ بن إيَاسٍ -رضي الله عنه- قال: "كان نبي الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إِذا جلس؛ يجلس إِليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له
ابن صغير، يأتيه من خلف ظهره، فيُقعده بين يديه، فهلك، فامتنع الرجل أن
يحضر الحلقة (2) لذكر ابنه.
فحزن عليه، ففقده النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما
لي لا أرى فُلاناً؟! قالوا: يا رسول الله! بُنيُّهُ الذي رأيته هلك، فلقيه
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عن بُنَيِّه؟ فأخبره
أنه هلك، فعزاه عليه ثمّ قال: يا فلان! أيُّما كان أحبَّ إليك: أنْ تمتّع
به عُمُرك، أو لا تأتي غداً إِلى باب من أبواب الجنة؛ إِلا وجدته قد سبقك
إِليه يفتحه لك.
__________
(1) ملتقطاً عن "فيض القدير".
(2) الحَلْقة: مجلس العِلم.
(4/182)
قال: يا نبي الله! بل يسبقني إِلى باب
الجنة فيفتحها لي، لهو أحبّ إِليّ! قال: فذاك لك" (1).
وعن عمرو بن حزم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مؤمن يُعزّي أخاه بمصيبة؛ إِلا كساه الله
-عزّ وجلّ- من حُلل الجنّة" (2).
ماذا يقول عند التعزية؟
ويُعزّيهم بما يظنُّ أنه يُسلّيهم، ويكفّ من حزنهم، ويحملهم على الرّضا
والصبر، ممّا يثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِنْ كان
يعلمه ويستحضره- وإلا فبما تيسرّ له من الكلام الحسن الذي يُحقق الغرض ولا
يخالف الشرع، وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: "أرسلت ابنة النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِليه: إِنّ ابناً لي قُبض، فأْتِنا،
فأرسل يُقرئ السلام ويقول: إِنّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ
مسمًّى (3)، فلتصبر ولتحتسب (4) " (5).
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1974) وغيره.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1301)، وغيره، وحسّنه شيخنا -
رحمه الله- في "الإِرواء" (764) -التحقيق الثاني-، وانظر "الصحيحة" (1/
378) برقم (195).
(3) أي: معلوم مُقدّر.
(4) أي: لِتَنْوِ بصبرها طلب الثواب من ربّها؛ ليُحسب ذلك من عملها الصالح.
"فتح".
(5) أخرجه البخاري: 1284، ومسلم: 923.
(4/183)
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 207): "وهذه
الصِّيغة من التعزية؛ وإنْ وردت فيمن شارف الموت؛ فالتعزية بها فيمن قد مات
أولى بدلالة النّصّ، ولهذا قال النوويّ في "الأذكار" وغيره: "وهذا الحديث
أحسن ما يعزّى به".
الثاني: عن بُرَيْدَة بن الحُصَيْبِ قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتعهّد الأنصار
ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره،
وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -[ومعه أصحابه، فلمّا بلغ باب المرأة قيل للمرأة: إِنّ نبيّ الله
يريد أنْ يدخل يُعزِّيها.
فدخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أما إِنّه
بلغني أنّك جزعتِ على ابنك؛ فأمرها بتقوى الله وبالصّبر، فقالت: يا رسول
الله! [ما لي لا أجزع]؛ وإنّي امرأة رَقُوبٌ لا ألد، ولم يكن لي غيره؟!
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرقوب: الذي يبقى
ولدها، ثمّ قال: ما من امرئٍ أو امرأةٍ مُسلمةٍ يموت لها ثلاثة أولاد
[يحتسبهم]؛ إلاَّ أدخله الله بهم الجنّة. فقال عمر [وهو عن يمين النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: بأبي أنت وأُمّي واثنين؟! قال:
واثنين" (1).
الثالث: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما دخل على أمّ
سلمة -رضي الله عنها- عقب موت أبي سلمة: "اللهمّ اغفر لأبي سلمة، وارفع
درجته في المهديّين، واخلُفْه في عَقِبه في الغابرين (2)، واغفِر لنا وله
يا ربّ العالمين! وافسح له في قبره، ونوِّر له
__________
(1) أخرجه البزار والزيادات منه، والحاكم وقال: "صحيح الإِسناد"، ووافقه
الذهبي، وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية ما قاله شيخنا -رحمه الله- في
"أحكام الجنائز" (ص 208).
(2) أي: الباقين.
(4/184)
فيه" (1)
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن تعزية الذّمي إِذا أَمِنَ المعزّي الفتنة؟
فقال: "نعم يجوز، ويضاف إِلى ذلك: أحسن التعزية".
يريد شيخنا: يجوز للمرء أن يعزّي الذمّي إِذا أمِن الفتنة وأحسَن التعزية.
لكن قرأت في "أحكام الجنائز" (ص 169) كلاماً له -رحمه الله- يقول فيه -بعد
حديث: "اذهب فواره"-: ومن الملاحظ في هذا الحديث أنّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُعزِّ علياً بوفاة أبيه المشرك، فلعله
يصلح دليلاً لعدم شرعية تعزية المسلم بوفاة قريبه الكافر، فهو -من باب
أولى- دليلٌ على عدم جواز تعزية الكفار بأمواتهم أصلاً".
ثمّ ذكّرني أخي عمر الصادق -حفظه الله تعالى- بفائدة ذكَرها شيخنا - رحمه
الله- في "صحيح الأدب المفرد" (847/ 1112) وهو تقييده جواز تعزية الكافر
بأن لا يكون حربياً عدواً للمسلمين، فقد قال -رحمه الله- بعد إِيراد أثر
عُقبة بن عامر الجُهني -رضي الله عنه-: "أنّه مرَّ برجل هيئته هيئة مسلم،
فسلَّم فردَّ عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته، فقال له الغلام: إِنّه
نصراني! فقام عقبة فتبعه حتى أدركه فقال: إِنَّ رحمة الله وبركاته على
المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك وولدك" (2).
__________
(1) أخرجه مسلم: 920، وتقدّم بتمامه.
(2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1112)، وحسن شيخنا -رحمه الله-
إِسناده في "الإِرواء" (1274).
(4/185)
قال -رحمه الله-: في هذا الأثر إِشارةٌ من
هذا الصحابي الجليل إِلى جواز الدعاء بطول العمر ولو للكافر، فللمسلم أولى،
ولكن لا بُدّ أن يلاحظ الداعي أن لا يكون عدوًّا للمسلمين، ويترشّح منه
جواز تعزية مِثله لما في هذا الأثر".
والخلاصة جواز تعزية الكافر غير الحربيّ أو المعادي للمسلمين أحسن المعزّي
عزاءَه وأمِن الفتنة، والله -تعالى- أعلم.
وسألته -رحمه الله-: هل ترون الذهاب إِلى بيوت التعزية للنهي عن المنكر؛ مع
ما قد عَلِمنا من حُكمه؟!
فقال: يحضر وينصح ويُذكّر، أمّا للتعزية فقط فلا.
لا تُحدّ التعزية بثلاثة أيام:
ولا تُحدّ التعزية بثلاثة أيام لا يتجاوزها؛ فإِن حديث: "لا عزاء فوق ثلاث"
لا يُعرف له أصْل؛ كما قال شيخنا -رحمه الله-.
بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها؛ فقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه عزى بعد الثلاثة في حديث عبد الله بن جعفر -رضي
الله تعالى عنهما- قال: "بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - جيشاً استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: فإِنْ قُتل زيد أو
استشهد؛ فأميركم جعفر، فإِنْ قتل أو استشهد، فأميركم عبد الله بن رواحة؛
فلقوا العدوّ، فأخذ الراية زيد، فقاتل حتى قُتل، ثمّ أخذ الراية جعفر فقاتل
حتى قُتل، ثمّ أخذها عبد الله، فقاتل حتى قُتل، ثمّ أخذ الراية خالد بن
الوليد ففتح الله عليه.
وأتى خبرهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إِلى
الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إِنّ إِخوانكم لقوا العدوّ، وإِنّ زيداً
أخذ الراية، فقاتل حتى قُتل واستشهد، ثمّ ..
(4/186)
ثم .. ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله:
خالد بن الوليد؛ ففتح الله عليه، فأُمِهْل؛ ثمّ أَمْهَل آل جعفر ثلاثاً أن
يأتيهم، ثمّ أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي ابْنَيْ أخ.
قال: فجيء بنا كأنّا أفْرُخٌ، فقال: ادعوا لي الحلاق، فجيءَ بالحلاق، فحلق
رؤوسنا ثمّ قال: أمّا محمد؛ فشبيه عمِّنا أبي طالب، وأما عبد الله؛ فشبيه
خلْقي وخُلُقي، ثمّ أخذ بيدي فأشالها فقال: اللهمّ اخلف جعفراً في أهله،
وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرات.
قال: فجاءت أُمنّا فذكرت له يُتْمَنا، وجعلت تُفْرِح (1) له، فقال:
آلعَيْلَةَ تخافين عليهم؛ وأنا وليُّهم في الدنيا والآخرة؟! " (2).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص210): "وقد ذهب إِلى ما ذكرنا -من أنّ التعزية لا
تُحدّ بحدّ-: جماعة من أصحاب الإِمام أحمد، كما في "الإِنصاف" (2/ 564)،
وهو وجهٌ في المذهب الشافعي، قالوا: لأنّ الغرض الدعاء، والحمل على الصبر،
والنهي عن الجزع، وذلك يحصل مع طول الزمان.
حكاه إِمام الحرمين، وبه قطع أبو العباس ابن القاص من أئمتهم، وإن أنكره
عليه بعضهم؛ فإِنما ذلك من طريق المعروف من المذهب لا الدليل، وانظر
"المجموع" (5/ 306) ".
__________
(1) تُفرِحُه: مِن أفرَحه: إِذا غمّه وأزال عنه الفرَح، وأفرَحه الدّين
إِذا أثقله. "النهاية".
(2) أخرجه أحمد بإِسناد صحيح على شرط مسلم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 209).
(4/187)
ينبغي اجتناب أمرين، وإنْ تتابع الناس
عليهما:
1 - الاجتماع للتعزية في مكانٍ خاصّ؛ كالدار أو المقبرة أو المسجد.
2 - اتخاذ أهل الميت الطعام؛ لضيافة الواردين للعزاء.
فعن جرير بن عبد الله البَجَلي -رضي الله عنه- قال: "كنّا نعُدُّ (وفي
رواية: نرى) الاجتماع إِلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة"
(1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 210): "قال النووي في "المجموع" (5/ 306): وأمّا
الجلوس للتعزية؛ فنصّ الشافعي -والمصنّف [أي: الشِّيرازيّ] وسائر الأصحاب
على كراهته، قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيت، فيقصدهم
من أراد التعزية.
قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، فمن صادفهم عزّاهم، ولا فرق بين
الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها".
ونصُّ الإِمام الشافعي الذي أشار إِليه النووي: هو في كتاب "الأم" (1/
248): "وأكره المآتم، وهي الجماعة، وإِنْ لم يكن لهم بكاءٌ؛ فإِنّ ذلك
يُجدِّد الحزن، ويكلّف المُؤْنَة (2)، مع ما مضى فيه من الأثر.
كأنّه يُشير إِلى حديث جرير هذا [كنّا نعد الاجتماع إِلى أهل الميت وصنيعة
الطعام بعد دفنه من النّياحة]، قال النووي: "واستدلّ له المصَنِّف وغيره
بدليل آخر؛ وهو أنّه مُحدَث".
__________
(1) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1308).
(2) المُؤْنَة: القوت.
(4/188)
وكذا نص ابن الهُمَام في "شرح الهداية" (1/
473) على كراهية اتِّخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت؛ وقال: "وهي بدعة
قبيحة".
وهو مذهب الحنابلة كما في "الإِنصاف" (2/ 565).
وإنما السّنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاماً يُشبعهم.
فعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه- قال: "لما جاء نَعِيُّ جعفر حين قُتل؛
قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصنعوا لآل جعفر
طعاماً؛ فقد أتاهم أمر يَشْغَلُهم -أو أتاهم ما يَشْغَلُهم-" (1).
وقد كانت عائشة تأمر بالتلبينةِ للمريض، وللمحزون على الهالك، وتقول: إِني
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنّ
التلبينة (2) مَجمَّة (3) لفؤاد المريض؛ تذهب ببعض الحزن" (4).
قال الإِمام الشافعي في "الأم" (1/ 247): "وأحبّ لجيران الميت أو ذوي
القرابة: أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاماً يُشبعهم؛ فإِنّ
ذلك سُنّة، وذكر كريم، وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا".
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2686)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (796)، وحسنه، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1306).
(2) طعام يُتخّذ من دقيق أو نخالة، وربما جُعل فيها عسل، سمّيت بذلك؛
لشبهها باللبن في البياض والرّقة. "فتح".
(3) مَجمّة -بفتح الميم-؛ أي: مكان الاستراحة. ورويت بضم الميم -مُجِمّة-؛
أي: مريحة. وانظر "الفتح".
(4) أخرجه البخاري: 5417، ومسلم: 2216.
(4/189)
ما ينتفع به الميِّت
وينتفع الميت من عَمَل غيره بأمور:
أولاً: دعاء المسلم واستغفاره له، إِذا توفّرت فيه شروط القبول؛ لقول الله
- تبارك وتعالى-: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإِخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إِنّك
رؤوف رحيم} (1).
وأما الأحاديث؛ فهي كثيرة جدّاً؛ منها حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعوة المرء
المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة؛ عند رأسه مَلَك مُوكّل؛ كلّما دعا لأخيه
بخير؛ قال الملك المُوكّل به: آمين؛ ولك بمثل" (2).
بل إِنّ صلاة الجنازة جلّها شاهد لذلك؛ لأنّ غالبها دعاء للميت، واستغفار
له.
ثانياً: قضاء وليّ الميت صومَ النّذر عنه؛ دون صوم رمضان (3)، وفيه أحاديث:
1 - عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليُّه" (4).
__________
(1) الحشر: 10.
(2) أخرجه مسلم: 2732، وغيره.
(3) انظر "تلخيص أحكام الجنائز" (ص 75).
(4) أخرجه البخاري: 1952، ومسلم: 1147.
(4/190)
2 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:
"جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا
رسول الله! إِنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر؛ أفأقضيه عنها، قال: نعم؛ فدين
الله أحقُّ أن يقضى.
وعنه أيضاً: قالت امرأة: إِنّ أختي ماتت" (1).
3 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضاً: أنّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه-
استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إِنّ أُمّي
ماتت وعليها نَذْر؟ فقال: اقضِه عنها" (2).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 215): "وهذه الأحاديث صريحة الدلالة في مشروعية
صيام الوليّ عن الميت صومَ النذر؛ إِلا أنّ الحديث الأول يدلُّ - بإِطلاقه-
على شيء زائد على ذلك، وهو أنه يصوم عنه صوم الفرض أيضاً، وقد قال به
الشافعية، وهو مذهب ابن حزم (7/ 2، 8) وغيرهم. وذهب إِلى الأول الحنابلة،
بل هو نصُّ الإِمام أحمد، فقال أبو داود في "المسائل" (96): "سمعت أحمد بن
حنبل قال: لا يُصام عن الميت إِلا في النذر".
وحمل أتباعه الحديث الأول على صوم النذر، بدليل ما روت عمرة: أنّ أمها ماتت
وعليها من رمضان؛ فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: لا؛ بل تصدّقي عنها
-مكان كل يوم- نصف صاع على كل مسكين" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم: 1148.
(2) أخرجه البخاري: 2761، ومسلم: 1638.
(3) أخرجه الطحاوي، وابن حزم -واللفظ له- بإِسناد قال ابن التركماني:
"صحيح".
(4/191)
وبدليل ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس
-رضي الله عنهما- قال: "إِذا مرض الرجل في رمضان، ثمّ مات ولم يصم؛ أطعم
عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 215): "وهذا التفصيل الذي ذهبَت إِليه أم
المؤمنين، وحَبْر الأمّة ابن عباس -رضي الله عنهما- وتابعهما إِمام السنّة
أحمد ابن حنبل: هو الذي تطمئن إِليه النفس، وينشرح له الصدر، وهو أعدل
الأقوال في هذه المسألة وأوسطها، وفيه إِعمال لجميع الأحاديث؛ دون ردٍّ
لأيّ واحد منها، مع الفهم الصحيح لها؛ خاصة الحديث الأول منها، فلم تفهم
منه أم المؤمنين ذلك الإِطلاق الشامل لصوم رمضان، وهي رَاوِيتُهُ، ومن
المقرر أنّ راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيّما إِذا كان ما فَهِمَ هو
الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا.
وقد بيّن ذلك المُحقق ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقال في "إِعلام
الموقعين" (3/ 554) -بعد أن ذكر الحديث وصححه-: "فطائفة حملت هذا على عمومه
وإطلاقه، وقالت: يُصام عنه النذر والفرض! وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يُصام
عنه نذر ولا فرض! وفصّلت طائفة؛ فقالت: يُصام عنه النذر دون الفرض الأصلي.
وهذا قول ابن عباس وأصحابه، وهو الصحيح؛ لأنّ فرض الصيام جارٍ مجرى الصلاة،
فكما لا يُصلي أحد عن أحد، ولا يُسْلِمُ أحد عن أحد، فكذلك
__________
(1) أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر بنحوه عند ابن
حزم، وصحح إِسناده.
(4/192)
الصيام. وأمّا النذر؛ فهو التزام في الذمة
بمنزلة الدَّين، فيُقبل قضاء الوليّ له كما يقضي دَيْنه، وهذا محض الفقه.
وطرد هذا أنه لا يُحَجُّ عنه، ولا يُزَكَّى عنه؛ إِلا إِذا كان معذوراً
بالتأخير؛ كما يطعم الوليّ عمّن أفطر في رمضان لعذر.
فأما المُفرّط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره لفرائض الله التي فرّط
فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحاناً دون الوليّ، فلا تنفع توبة
أحد عن أحد، ولا إِسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه؛ ولا غيرها من فرائض
الله -تعالى- التي فرّط فيها حتى مات".
قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد زاد ابن القيم -رحمه الله- هذا البحث توضيحاً
وتحقيقاً في "تهذيب السنن" (3/ 279 - 282)، فليراجع؛ فإِنّه مهم.
ثالثاً: قضاء الدّين عنه من أيّ شخص؛ وليّاً كان أو غيره، وفيه أحاديث
كثيرة وقد سبق ذِكر الكثير منها.
رابعاً: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة؛ فإِنّ لوالديه مثلَ
أجره، دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن الولد من سعْيهما وكسْبهما، والله -عزّ
وجلّ- يقوله: {وأنْ ليس للإِنسان إِلا ما سعى} (1).
وعن عمّة عمارة بن عمير: أنّها سألت عائشة -رضي الله عنها-: في حجري يتيم؛
أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "إِنّ من أطيب ما أكل
__________
(1) النجم: 39.
(4/193)
الرجل من كسْبه، وولدهُ من كسْبه" (1).
ويؤيد ما دلّت عليه الآية والحديث أحاديثُ خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل
ولده الصالح؛ كالصدقة والصيام والعتق ونحوه، وهي هذه:
الأول: عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ رجلاً قال للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أميّ افتُلِتَت نفسها (2)، وأراها لو تكلّمت
تصدّقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، تصدّق عنها" (3).
الثاني: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه-
أخا بني ساعدة -تُوفِّيت أُمه وهو غائب، فأتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله!
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3013)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (4144)، والترمذي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1738).
(2) جاء في "النهاية": "أي: ماتت فجأة وأُخذت نفسها فلتة، يُقال: افتلته:
إِذا استلبه، وافتُلِتَ فلان بكذا: إِذا فُوجئ به قبل أن يستعدّ له.
ويروى بنصب النفس ورفعها: فمعنى النصب: افتَلَتَها الله نفسها، مُعدّى إِلى
مفعولين، كما تقول: اختَلَسَه الشيء واستلبه إِيّاه، ثمّ بنى الفعل لما لم
يُسمّ فاعله، فتحوّل المفعول الأوّل مضمراً وبقي الثاني منصوباً، وتكون
التاء الأخيرة ضمير الأمّ؛ أي: افتلتت هي نفسها.
وأمّا الرّفع؛ فيكون مُتعدياً إِلى مفعول واحد، أقامه مقام الفاعل، وتكون
التاء للنفس؛ أي: أُخذت نفسها فلتة".
قال القاضي: أكثر روايتنا فيه بالنصب. قاله النووي -رحمه الله-.
(3) أخرجه البخاري: 2760، 1388، ومسلم: 1004.
(4/194)
إِنّ أمي توفِّيت وأنا غائب عنها، فهل
ينفعها شيء إِن تصدَّقت به عنها؟ قال: نعم. قال: إِني أُشهِدك أنّ حائطى
المِخْرَافَ (1) صدقة عليها" (2).
الثالث: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ رجلاً قال للنّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أبي مات وترك مالاً ولم يُوصِ، فهل
يُكفّر عنه أن أتصدّق عنه؟ قال: نعم" (3).
الرابع: عن عبد الله بن عمرو: "أنّ العاص بن وائل السَّهْمِي أوصى أن يُعتق
عنه مائة رقبة، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه
الخمسين الباقية.
قال: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتى
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! إِنّ
أبي أوصى بعتق مئة رقبة، وإنّ هشاماً أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون،
أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنه
لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدّقتم عنه، أو حججتم عنه؛ بلغه ذلك (وفي
رواية: فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدّقت عنه؛ نفعه ذلك) " (4).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 219): "قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (4/ 79):
"وأحاديث الباب تدّل على أنّ الصدقة من الولد تلحق الوالدين
__________
(1) أي: المثمر. قاله الكرماني (12/ 77). سمي بذلك لما يُخْرَفُ منه؛ أي:
يجنى من الثمرة. قاله القسطلاني، كما في "عون المعبود" (8/ 63).
(2) أخرجه البخاري: 2762.
(3) أخرجه مسلم: 1630.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2507)، والبيهقي -والسياق له-
وأحمد، -والرواية الأخرى له-، وإسنادهم حسن.
(4/195)
بعد موتهما بدون وصيّة منهما، ويصل إِليهما
ثوابها، فيخصّص بهذه الأحاديثِ عمومُ قوله -تعالى-: {وأنْ ليس للإِنسان
إِلا ما سعى}، ولكن ليس في أحاديث الباب إِلا لحوق الصدقة من الولد، وقد
ثبت أنّ ولد الإِنسان من سعيه، فلا حاجة إِلى دعوى التّخصيص، وأمّا من غير
الولد؛ فالظاهر من العموميّات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إِلى الميت، فيوقف
عليها، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها".
قلت أي: شيخنا -رحمه الله-: "وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية: أنّ
الآية على عمومها، وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إِلى الوالد؛ لأنّه
من سعيه؛ بخلاف غير الولد".
وقال -رحمه الله- (ص 222): "وإذا كان من المسلَّم به عند أهل العلم: أنّ
لكلّ عقيدة أو رأي يتبناه أحد في هذه الحياة أثراً في سلوكه -إِن خيراً
فخير؛ وإن شرّاً فشّر-؛ فإِن من المُسَلّم به أيضاً: أنّ الأثر يدلُّ على
المُؤثّر، وأنّ أحدهما مرتبط بالآخر -خيراً أو شراً كما ذكرنا-، وعلى هذا؛
فلسنا نشكُّ أنّ لهذا القول أثراً سيئاً في من يحمله أو يتبناه، من ذلك
مثلاً: أنّ صاحبه يتّكل في تحصيل الثواب والدرجات العاليات على غيره؛ لعلمه
أنّ الناس يُهدون الحسنات مئات المرّات في اليوم الواحد إِلى جميع
المسلمين: الأحياء منهم والأموات، وهو واحد منهم، فلماذا لا يستغني حينئذ
بعمل غيره عن سعيه وكسْبه؟!
ألست ترى -مثلاً- أنّ بعض المشايخ الذين يعيشون على كسْب تلامذتهم لا
يَسْعَوْن بأنفسهم ليَحْصُلوا على قوت يومهم بعرق جبينهم وكَدِّ يمينهم؟!
(4/196)
وما السبب في ذلك؛ إِلا أنهم استغنوا عن
ذلك بكسب غيرهم، فاعتمدوا عليه وتركوا العمل!! هذا أمر مشاهد في
المادِّيّات، معقول في المعنويات، كما هو الشأن في هذه المسألة.
وليت أنّ ذلك وقف عندها ولم يتعدّها إِلى ما هو أخطر منها، فهناك قول بجواز
الحجّ عن الغير؛ ولو كان غير معذور؛ كأكثر الأغنياء التاركين للواجبات!
فهذا القول يحملهم على التساهل في الحجّ والتقاعس عنه؛ لأنّه يتعلّل به
ويقول في باطنه: يحجّون عنّي بعد موتي!
بل إِنّ ثمّة ما هو أضرُّ من ذلك، وهو قول بوجوب إِسقاط الصلاة عن الميت
التارك لها! فإِنّه من العوامل الكبيرة على ترك بعض المسلمين للصلاة؛ لأنّه
يتعلل أيضاً بأنّ النّاس يُسقطونها عنه بعد وفاته! إِلى غير ذلك من الأقوال
التي لا يخفى سوء أثرها على المجتمع! فمن الواجب على العالم الذي يُريد
الإِصلاح: أن ينبذ هذه الأقوال؛ لمُخالفتها نصوص الشريعة ومقاصدها الحسنة.
وقابِل أثر هذه الأقوال بأثر قول الواقفين عند النّصوص -لا يخرجون عنها
بتأويل أو قياس-: تجد - الفرق كالشمس؛ فإِنّ من لم يأخذ بمثل الأقوال
المشار إِليها؛ لا يُعقل أن يتّكل على غيره في العمل والثواب؛ لأنه يرى أنه
لا يُنجّيه إِلا عمله، ولا ثواب له إِلا ما سعى إِليه هو بنفسه، بل المفروض
فيه أن يسعى - ما أمكنه- إِلى أنْ يُخلِّف من بعده أثراً حسناً يأتيه أجره،
وهو وحيد في قبره، بدل تلك الحسنات الموهومة، وهذا من الأسباب الكثيرة في
تقدّم السلف وتأخُّرنا، ونَصْر الله إِيّاهم وخِذْلانه إِيّانا، نسأل الله
-تعالى- أن يهدينا كما هداهم، وينصرنا كما نصرهم (1)!
__________
(1) أيُّ سبيلٍ لهدم الإِرجاء كهذا؟! فَرحم الله شيخنا رحمة واسعة على
نشْرِهِ =
(4/197)
خامساً: ما خلّفه من بعده من آثارٍ صالحة
وصدقات جارية، لقوله تبارك وتعالى-: {ونكتب ما قدّموا وآثارَهم}، وفيه
أحاديث:
1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِذا مات الإِنسان؛ انقطع عنه عمله إِلا من ثلاثة: إِلا
من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1).
2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد
موته: علماً علّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومُصْحفاً ورّثه، أو مسجداً
بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله
في صحته وحياته؛ يلحقه من بعد موته" (2).
3 - عن جرير بن عبد الله قال: "كنّا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفاةً عُراةً مُجتابي
(3) النِّمار (4) أو العباء (5) مُتقلِّدي السيوف،
__________
= عقيدة أهل السّنّة والجماعة.
(1) أخرجه مسلم: 1631.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (198) وغيره.
(3) مجتابي النمار؛ أي: خرقوا وسطها. قاله النووي -رحمه الله-.
(4) النمار -بكسر النون-: جمع نَمِرة؛ وهي ثياب صوف فيها تنمير. قاله
النووي أيضاً.
جاء في "النهاية": "كلّ شَمْلةٍ مخطّطة من مآزر الأعراب؛ فهي نَمِرة،
وجمعها نمار؛ كأنها أُخذت من لون النّمِر؛ لما فيها من السواد والبياض، وهي
من الصفات الغالبة، أراد أنه جاءه قوم لابسي أُزر مُخطّطة من صوف".
(5) العباء: جمع عباءَة.
(4/198)
عامَّتهم من مُضَرَ -بل كلّهم من مضر-
فتمعّر (1) وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما رأى
بهم من الفاقة، فدخل ثمّ خرج؛ فأمر بلالاً؛ فأذّن وأقام فصلّى؛ ثمّ خطب
فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ... } إِلى آخر
الآية: {إِنّ الله كان عليكم رقيباً}، والآية التي في الحشر: {اتقوا الله
ولتنظر نفس ما قدّمت لغدٍ واتقوا الله}؛ تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من
ثوبه، من صاع بُرِّهِ، من صاع تمره (حتى قال)، ولو بشقِّ تمرة.
قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرّة كادت كفّه تَعْجِزُ عنها، بل قد عَجَزت.
قال: ثمّ تتابع الناس، حتى رأيت كومين عن طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتهلَّل (2)؛ كأنّه مُذْهَبَة
(3)، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من سنّ في
الإِسلام سُنّة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها بعده؛ من غير أن ينقص من
أُجورهم شيء.
ومن سنّ في الإِسلام سنّة سيئةً؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده؛
من غير أن ينقُص من أوزارهم شيء" (4).
__________
(1) تمعّر؛ أي: تغيّر.
(2) يتهلّل؛ أي: يستنير فرحاً وسروراً.
(3) مُذَهَبَة: من الشيء المذهب، وهو المُمَوَّه بالذهب، أو مِن قولهم: فرس
مُذهَب: إِذا عَلَت حُمرتَه صَفرةٌ. "النهاية".
(4) أخرجه مسلم: 1017.
(4/199)
زيارة القبور
مشروعيّتها:
وتُشرع زيارة القبور؛ للاتعاظ بها وتذكُّر الآخرة؛ شريطة أن لا يقول عندها
ما يُغْضِبُْ الرَّبَّ -سبحانه وتعالى- كدعاء المقبور والاستغاثة به من دون
الله -تعالى- أو تزكيته والقطع له بالجنّة، ونحو ذلك، وفيه أحاديث:
1 - عن بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" (1).
وفي زيادة: "فمن أراد أن يزور؛ فليزُر ولا تقولوا هُجْراً (2) " (3).
قال شيخنا -رحمه الله-: "ولا يخفى أنّ ما يفعله العامّة وغيرهم عند الزيارة
-من دعاء الميت، والاستغاثة به، وسؤال الله بحقِّه-: لهو من أكبر الهُجْرِ
والقول الباطل، فعلى العلماء أن يبيّنوا لهم حُكم الله في ذلك، ويُفهِّموهم
الزيارة المشروعة والغاية منها.
وقد قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 162) -عقب أحاديثَ في الزيارة
والحكمة منها-: "الكُلُّ دالٌّ على مشروعية زيارة القبور، وبيان الحكمة
فيها، وأنّها للاعتبار، فإِذا خلت من هذه؛ لم تكن مُرادةً شرعاً".
2 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إِنّي نهيتكم عن
__________
(1) أخرجه مسلم: 977.
(2) أي: فُحْشاً، يُقال: أهَجر في مَنطِقه يُهْجِرُ إِهجاراً: إِذا أفحش،
وكذلك إِذا أكثر الكلام فيما لا ينبغي. "النهاية".
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1922).
(4/200)
زيارة القُبور؛ فزوروها، فإِنّ فيها عبرة،
[ولا تقولوا ما يُسْخِطُ الربّ] " (1).
ما يقول إِذا زار القبور أو مرّ بها (2):
عن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُعلّمهم إِذا خرجوا إِلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السّلام
على أهل الدّيار، السّلام عليكم أهل الديّار؛ من المؤمنين والمسلمين، وإنّا
إِن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية" (3).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ يخرج من آخر الليل إِلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم
مؤمنين! وأتاكم ما توعدون؛ غداً مؤجّلون، وإنّا إِن شاء الله بكم لاحقون،
اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (4) " (5).
جواز زيارةِ النساءِ القبورَ:
والنّساء كالرجال في استحباب زيارة القبور؛ لوجوه:
__________
(1) أخرجه أحمد، والحاكم، وعنه البيهقي، ثمّ قال الحاكم: صحيح على شرط
مسلم، ووافقه الذهبي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص 228):
"وهو كما قالا".
(2) هذا العنوان من "سنن أبي داود".
(3) أخرجه مسلم: 975.
(4) ويدعو لأهل القبور الذين زارهم.
(5) أخرجه مسلم: 974.
(4/201)
1 - عُموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " .. فزوروا القبور"؛ فيدخل فيه النساء، وبيانه: أنّ النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهى عن زيارة القبور في أوّل
الأمر؛ فلا شك أنّ النهي كان شاملاً للرجال والنساء معاً، فلمّا قال:
"كُنتُ نهيتكم عن زيارة القبور"؛ كان مفهوماً أنّه كان يعني الجنسين؛
ضرورةَ أنّه يخبرهم عمّا كان في أول الأمر من نهي الجنسين.
فإِذا كان الأمر كذلك؛ كان لزاماً أنّ الخطاب في الجملة الثانية من الحديث
- وهو قوله: "فزوروها"-؛ إِنّما أراد به الجنسين أيضاً.
ويؤيده أنّ الخطاب في بقية الأفعال المذكورة في زيادة مسلم في حديث بُريدة
المتقدّم آنفاً:
"ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن
النّبيذ إِلا في سقاءٍ؛ فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً".
أقول [أي: شيخنا -رحمه الله-]: فالخطاب في جميع هذه الأفعال موجّه إِلى
الجنسين قطعاً، كما هو الشأن في الخطاب الأوّل: "كنت نهيتكم"؛ فإِذا قيل
بأنّ الخطاب في قوله: "فزوروها" خاصٌّ بالرجال؛ اختل نظام الكلام وذهبت
طراوته! الأمر الذي لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم. ويزيده تأييداً الوجوه
الآتية:
2 - مُشاركتهنّ الرجالَ في العلّة التي من أجلها شُرعت زيارة القبور:
"فإِنها تُرِقُّ القلبِ وتدمع العين، وتُذكّر الآخرة" (1).
3 - أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد رخص لهن في
زيارة القبور في حديثين حَفِظْتهما لنا
__________
(1) أخرجه الحاكم بسند حسن، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 228).
(4/202)
أُمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: عن
عبد الله بن أبي مُليكة: "أنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقُلت لها:
يا أمَّ المؤمنين! من أين أقبلتِ؟ قالت: مِنْ قَبْرِ عبد الرحمن بن أبي
بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نهى عن زيارة القبور؟! قالت: نعم، ثمّ أمر بزيارتها" (1).
عن محمد بن قيس بن مَخْرَمَةَ بن المطلب أنّه قال يوماً: ألا أحدثكم عني
وعن أمّي؟! قال: فظننا أنه يريد أمّه التي ولدته، قال: قالت عائشة: ألا
أُحدّثكمَ عنيّ وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!
قلنا: بلى.
قال: قالت: لمّا كانت ليلتي التي كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيها عندى؛ انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه،
وبسط طرف إِزاره على فراشه، فاضطجع -فذكرت الحديث إِلى أن قالت-: فقال [أي:
جبريل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: إنّ ربّك يأمُرك
أنْ تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم.
قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟! قال: قولي: السلام على أهل الديار
من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المُستقدمين منّا والمُستأخرين، وإنا إِن
شاء الله بكم للاحقون" (2).
4 - إِقرار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرأة التي
رآها عند القبور في حديث أنس -رضي الله عنه-: "مرّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: اتّقي الله
واصبري ... " (3).
__________
(1) أخرجه الحاكم وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "أحكام الجنائز" (ص
230)، وانظر "الإِرواء" (775).
(2) أخرجه مسلم: 974.
(3) أخرجه البخاري: 1283، ومسلم: 626، وتقدّم.
(4/203)
عدم جواز إِكثار النساء من زيارة القبور:
لا يجوز للنساء الإِكثار من زيارة القبور والتردد عليها؛ لأنّ ذلك قد يُفضي
بهنّ إلى مخالفة الشريعة، من مثل الصّياح، والتبرّج، واتخاذ القبور مجالس
للنزهة، وتضييع الوقت في الكلام الفارغ، كما هو مشاهد اليوم في بعض البلاد
الإِسلامية، وهذا هو المراد -إِن شاء الله- بحديث أبي هريرة: "أنّ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن زوّارات القبور" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "فهذا اللفظ: "زوّارات" إِنما يدلُّ على لعن النساء
اللاتي يكثرن الزيارة؛ بخلاف غيرهنّ؛ فلا يشملُهنّ اللعن ...
قال القرطبي: "اللعن المذكور في الحديث إِنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لِما
تقتضيه الصّيغة من المبالغة، ولعلّ السبب ما يُفضي إِليه ذلك من تضييع حقّ
الزوج والتبرج، وما ينشأ من الصّياح ونحو ذلك، وقد يُقال: إِذا أُمِنَ جميع
ذلك فلا مانع من الإِذن لهنّ؛ لأنّ تذكُّر الموت يحتاج إِليه الرجال
والنساء".
جواز زيارة من مات على غير الإِسلام للعبرة:
ويجوز زيارة قبر من مات على غير الإِسلام للعبرة فقط.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "زار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قبر أمه؛ فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنْتُ ربي في أن
استغفر لها؛ فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها؛ فأذِن لي، فزوروا
القبور؛ فإِنها تُذكّر الموت" (2).
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (843)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1281).
(2) أخرجه مسلم: 976، وغيره.
(4/204)
وقال ابن حزم -رحمه الله-: "ونستحب زيارة
القبور، وهو فرض ولو مرةً؛ ولا بأس بأن يزور المسلم قبر حميمه المشرك،
الرجال والنساء سواءٌ.
لما روينا من طريق مسلم ثمّ ساق إِسناده إِلى بريدة -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نهيتكم عن زيارة
القبور؛ فزوروها".
ومن طريق مسلم وساق إِسناده إِلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: زار
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه؛ فبكى وأبكى من
حوله، فقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها؛ فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور
قبرها؛ فأذن لي؛ فزوروا القبور؛ فإِنها تذكر الموت".
قال: وقد صح عن أم المؤمنين وابن عمر وغيرهما زيارة القبور.
وروي عن عمر النهي عن ذلك، ولم يصح". انتهى.
قلت: يزور للعبرة فقط؛ فيتعظ ويعتبر ويبكي؛ خوفاً من أن يموت مُشركاً.
المقصود من زيارة القبور:
المقصود من زيارة القبور شيئان:
1 - انتفاع الزائر بذِكر الموت والموتى، وأنّ مآلهم إِمّا إِلى جنة وإمّا
إِلى نار، وهو الغرض الأول من الزيارة، كما يدلّ عليه ما سبَق من الأحاديث.
2 - نفع الميت والإِحسان إِليه: بالسلام عليه، والدعاء، والاستغفار له،
وهذا خاصٌّ بالمسلم.
فعن عائشة -رضي الله عنها- أيضاً أنها قالت: "كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ يخرج من آخر الليل إِلى البقيع فيقول:
السلام
(4/205)
عليكم دار قومٍ مؤمنين! وأتاكم ما توعدون،
غداً مؤجّلون، وإنا إِن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد"
(1).
وعنها أيضاً في حديثها الطويل قالت: "كيف أقول لهم يا رسول الله؟! قال:
قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين
منا والمستأخرين، وإنّا إِنْ شاء الله بكم للاحقون" (2).
وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يعلّمهم إِذا خرجوا إِلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام
عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإِنّا إِن شاء الله للاحقون،
أسأل الله لنا ولكم العافية" (3).
عدم مشروعية قراءة القرآن عند زيارة القبور:
وأمّا قراءة القرآن عند زيارتها؛ فمما لا أصل له في السُّنّة، بل الأحاديث
المذكورة في المسألة السابقة تُشعر بعدم مشروعيتها؛ إِذ لو كانت مشروعة؛
لفَعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلّمها أصحابه،
لا سيّما وقد سألته عائشة -رضي الله عنها- وهي من أحبِّ الناس إليه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمّا تقول إِذا زارت القبور؟ فعلّمها
السلام والدعاء، ولم يُعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن، فلو أن
القراءة كانت مشروعة لما كتم ذلك عنها، كيف وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا
يجوز كما تقرّر في علم الأصول، فكيف بالكتمان، ولو أنّه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علّمهم شيئاً من ذلك لنُقل إِلينا، فإِذا لم يُنقل
بالسّند الثابت دلّ على أنه لم يقع.
__________
(1) أخرجه مسلم: 974، وتقدّم.
(2) أخرجه مسلم: 974، وتقدّم.
(3) أخرجه مسلم: 975، وتقدّم.
(4/206)
ومّما يُقويّ عدم المشروعية حديث أبي هريرة
-رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إِنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة
البقرة" (1).
فقد أشار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى أنّ القُبور ليست
موضعاً للقراءة شرعاً، فلذلك حضّ على قراءة القرآن في البيوت، ونهى عن
جعلها كالمقابر التي لا يُقرأ فيها، كما أشار في الحديث الآخر إِلى أنّها
ليست موضعاً للصلاة أيضاً.
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً" (2).
جواز رفع اليدين عند الدعاء:
ويجوز رفع اليدين في الدّعاء لها؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرج
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فأرسلتُ
بَرِيرَة في إِثَرِهِ لتنظر أين ذهب؟
قالت: فسلك نحو بقيع الغرقد، فوقف في أدنى البقيع، ثمّ رفع يديه، ثمّ
انصرف، فرجعت إِليّ بريرة، فأخبرتني، فلمّا أصبَحْتُ سألْته، فقلت: يا رسول
الله! أين خرجت الليلة؟ قال: بُعثت إِلى أهل البقيع لأُصلّي عليهم" (3).
__________
(1) أخرجه مسلم: 780.
(2) أخرجه البخاري: 432، ومسلم: 777 بنحوه.
(3) أخرجه أحمد، وهو في "الموطأ"، وعنه النسائي بنحوه، لكن ليس فيه رفع
اليدين، وإسناده حسن.
(4/207)
عدم استقبال القبور
حين الدعاء:
ولكنه لا يستقبل القبور حين الدعاء لها، بل الكعبة؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إِلى القبور؛ كما سيأتي -إِن شاء الله
تعالى- والدعاء مخُّ الصلاة ولبُّها كما هو معروف؛ فله حُكمها، وقد قال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء هو العبادة" وقرأ: {وقال
ربكم ادعوني أستجب لكم} إِلى قوله: {داخرين} " (1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 247): "فإِذا كان الدعاء من أعظم العبادة؛ فكيف
يُتَوَجَّهُ به إِلى غير الجهة التي أمر باستقبالها في الصلاة؟! ولذلك كان
من المُقرّر عند العلماء المُحققين أنه "لا يُستقبل بالدّعاء إِلا ما
يستقبل بالصلاة".
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "اقتضاء الصراط المستقيم
مخالفة أصحاب الجحيم" (ص 175): "وهذا أصل مستمرٌّ: أنه لا يستحبُّ للداعي
أن يستقبل إِلا ما يُستحبُّ أن يُصلّي إِليه، ألا ترى أنّ الرجل لما نُهي
عن الصلاة إِلى جهة المشرق وغيرها؛ فإِنّه يُنهى أن يتحرّى استقبالها وقت
الدعاء؟! ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل
الصالح، سواءً كانت في المشرق أو غيره، وهذا ضلال بيّن، وشرٌّ واضح، كما
أنّ بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، وهو يستدبر
الجهة التي فيها بيت الله، وقبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -! وكلُّ هذه الأشياء من البدع التي تُضارع دين النصارى".
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد"، والبخارى في "الأدب المفرد"، وأبو داود
"صحيح سنن أبي داود" (1312)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3086) وغيرهم.
(4/208)
قال شيخنا -رحمه الله-: "وذكر قبل ذلك
بسطور عن الإِمام أحمد وأصحاب مالك: أنّ المشروع استقبال القبلة بالدّعاء؛
حتى عند قبر النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد السلام
عليه.
... قال شيخ الإِسلام في "القاعدة الجليلة في التوسّل والوسيلة" (ص 125):
"ومذهب الأئمة الأربعة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة
الإِسلام: أنّ الرجل إِذا سلم على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وأراد أن يدعو لنفسه؛ فإِنّه يستقبل القبلة ... ".
عدم دخول مقابر الظالمين إِلا وهو يبكي:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين؛ إِلا أن تكونوا باكين،
فإِن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبُكم ما أصابهم" (1).
وذلك لما أرادوا دخول الحِجر مساكن ثمود.
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 531): "ووجه هذه الخشية؛ أنّ البكاء يبعثه على
التفكر والاعتبار، فكأنه أمَرهم بالتفكر في أحوالٍ توجب البكاء من تقدير
الله -تعالى- على أولئك بالكفر؛ مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة
طويلة، ثمّ إِيقاع نقمته بهم وشدّة عذابه، وهو -سبحانه- مقلب القلوب؛ فلا
يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إِلى مِثل ذلك. والتفكر أيضاً في مقابلة أولئك
نعمة الله بالكفر وإِهمالهم إِعمال عقولهم فيما يوجب الإِيمان به والطاعة
له، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم؛ فقد
شابههم
__________
(1) أخرجه البخاري: 433، ومسلم: 2980.
(4/209)
في الإِهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم
خشوعه؛ فلا يأمن أن يجرّه ذلك إِلى العمل بمِثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم.
وبهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالمين من ليس بظالم؟ لأنّه
بهذا التقرير لا يأمن أن يصير ظالماً؛ فيُعذَّب بظلمه".
لا يمشي منتعلاً بين قبور المسلمين:
ولا يمشي بين قبور المسلمين في نعليه؛ لحديث بشير بن الخصاصية قال: "بينما
أُماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. أتى على قبور
المسلمين ... فبينما هو يمشي؛ إِذ حانت منه نظرة؛ فإِذا هو برجلٍ يمشي بين
القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحبَ السِّبْتيَّتيْن (1) ألقِ سِبتيّتيْك.
فنظر، فلمّا عرف الرجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خلع نعليه، فرمى بهما" (2).
قال الحافظ في "الفتح" (3/ 160): "والحديث يدلُّ على كراهية المشي بين
القبور بالنّعال، وأغرب ابن حزم فقال: يحرم المشي بين القبور بالنّعال
السّبّتية دون غيرها! وهو جمود شديد.
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 253): "وقد ثبت أن الإِمام أحمد كان يعمل بهذا
الحديث، فقال أبو داود في "مسائله" (ص 158): "ورأيت أحمد إِذا تبع الجنازة
فقرُب من المقابر؛ خلع نعليه".
(وكذا في "العلل" (3091) - طبع بيروت).
__________
(1) جاء في "النهاية": "السّبت -بالكسر-: جلود البقر المدبوغة بالقَرَظ
[ورق شجر له شوك]، يتخذ منها النعال، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنّ شعرها قد سُبت
عنها؛ أي: حُلق.
(2) أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم، وقد تقدّم.
(4/210)
فرحمه الله، ما كان أتبعه للسّنة! ".
تحريم وضع الرياحين والورود على القبور:
ولا يُشرع وضع الآس ونحوها من الرياحين والورود على القبور؛ لأنّه لم يكن
من فعل السّلف، ولو كان خيراً لسبقونا إِليه، وقد قال ابن عمر -رضي الله
عنهما-: "كلّ بدعةٍ ضلالة وإنْ رآها النّاس حسنة" (1).
عدم وضع الجريدة على القبر:
ورأى ابن عمر -رضي الله عنهما- فُسْطاطاً (2) على قبر عبد الرحمن، فقال:
انزعه يا غلام! فإِنّما يُظلّه عمله" (3).
نقْل الميت:
لا يجوز نقْل الميت من بلد إلى بلد -ولو أوصى بذلك-؛ لأنّه ينافي الإِسراع
الذي أمر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسرعوا بالجنازة؛
فإِن تكُ صالحة؛ فخير تقدمونها ... " (4).
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن قول بعض العلماء: "يحرم نقل الميت من بلد إِلى
بلد؛ إِلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فإِنّه يجوز النقل
إِلى إِحدى هذه البلاد لشرفها وفضلها"؟
__________
(1) أخرجه ابن بَطَّةَ في "الإِبانة عن أصول الديانة"، واللالكائي في
"السنّة" موقوفاً بإِسناد صحيح.
(2) الفسطاط: هو البيت من الشعر، وقد يطلق على غير الشعر.
(3) أخرجه البخاري معلّقاً مجزوماً به (كتاب الجنائز) (81 - باب الجريد على
القبر ... ).
(4) أخرجه البخاري: 1315، ومسلم: 944، وتقدّم.
(4/211)
فأجاب: "نحن مع النصوص"؛ يشير -رحمه الله-
إِلى عدم الجواز؛ لمنافاة الإِسراع الذي أَمَر به النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والله أعلم.
ما يحرم عند القبور
ويحرم عند القبور ما يأتي:
1 - الذبح والنّحر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا
عَقْرَ في الإِسلام".
قال عبد الرزّاق بن همام: "كانوا يَعْقِرون (1) عند القبر بقرة أو شاة"
(2).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قال النووي في "المجموع" (5/ 320): "وأمّا الذبح
والعقر عند القبر؛ فمذموم؛ لحديث أنس هذا، رواه أبو داود والترمذي وقال:
حسن صحيح".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: "وهذا إِذا كان الذبح هناك لله -تعالى- وأمّا
إِذا كان لصاحب القبر -كما يفعله بعض الجهال- فهو شرك صريح (3)، وأكله حرام
وفسق ... ".
2 - رفْعها زيادة على التراب الخارج منها.
__________
(1) أي: ينحرونها ويقولون: إِنّ صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته،
فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة
بالسيف وهو قائم". "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2759) وغيره.
(3) وهذا نقض الإِرجاء البدعي، وردٌّ على من يقول: إِن العمل بذاته لا يكون
كُفراً، ولكنّه دالٌّ على الكفر!!
(4/212)
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 261): " .. [قال]
ابن حزم في "المحلَّى" (5/ 33): "ولا يحلُّ أن يُبنى القبر، ولا أن يُجصّص،
ولا أن يُزادَ على ترابه شيء، ويُهدمُ كلُّ ذلك".
وقال الإِمام محمد في "الآثار" (ص 45): "أخبرنا أبو حنيفة عن حمّاد عن
إِبراهيم قال: كان يُقال: ارفعوا القبر حتى يُعرف أنه قبر فلا يُوطأ.
قال محمد: وبه نأخذ، ولا نرى أن يزاد على ما خرج منه، ونكره أن يُجصّص، أو
يُطيّن، أو يجعل عنده مسجداً أو علَماً، أو يكتب عليه، ويكره الآجُرُّ أن
يبنى به، أو يدخله القبر، ولا نرى برش الماء عليه بأساً، وهو قول أبي
حنيفة".
قال شيخنا -رحمه الله- بتصرّف: "ويدّل الحديث بمفهومه على جواز رفع القبر
بقدْر ما يساعد عليه التراب الخارج منه، وذلك يكون نحو شبر.
ولعلّ النهي عن التجصيص -المراد الطلي به- من أجل أنه نوع زينة؛ كما قال
بعض المتقدمين، وعليه فما حُكم تطيين القبر؟ ".
للعلماء فيه قولان: الأول: الكراهة. والآخر: أنّه لا بأس به.
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 262): "ولعلّ الصواب التفصيل على نحو ما يأتي:
إِن كان المقصود من التطيّين المحافظة على القبر وبقائه مرفوعاً قدر ما
سَمحَ به الشرع، وأنْ لا تنسفه الرياح ولا تبعثره الأمطار؛ فهو جائز بدون
شكّ لأنّه يحقّق غاية مشروعة، ولعلّ هذا هو وجه من قال من الحنابلة: إِنه
يُستحبُّ، وإن كان المقصود الزينة ونحوها ممّا لا فائدة فيه؛ فلا يجوز؛
لأنّه مُحدَث.
(4/213)
3 - طَلْيُها بالكلس ونحوه.
4 - الكتابة عليها.
قال شيخنا -رحمه الله-: "وأمّا الكتابة، فظاهر الحديث تحريمها، وهو ظاهر
كلام الإِمام محمد، وصرّح الشافعية والحنابلة بالكراهة فقط!
وقال النووي (5/ 298): "قال أصحابنا: وسواءٌ كان المكتوب على القبر في لوح
عند رأسه -كما جرت عادة بعض الناس- أم في غيره؛ فكلّه مكروه؛ لعموم
الحديث".
واستثنى بعض العلماء كتابة اسم الميت لا على وجه الزخرفة، بل للتعرف؛
قياساً على وضع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجر على
قبر عثمان بن مظعون كما تقدّم.
والذي أراه (1) -والله أعلم-: أنّ القول بصحة هذا القياس على إِطلاقه بعيد،
والصواب تقييده بما إِذا كان الحجر لا يُحقّق الغاية التي من أجلها وضع
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجر، ألا وهي التعرّف
عليه، وذلك بسبب كثرة القبور مثلاً، وكثرة الأحجار المُعرّفة؛ فحينئذ يجوز
كتابة الاسم بقدر ما تتحقق به الغاية المذكورة".
5 - البناء عليها.
6 - القعود عليها.
وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن جابر -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
__________
(1) الكلام لشيخنا -رحمه الله تعالى-.
(4/214)
يُجصّص (1) القبر، وأنْ يُقْعَدَ عليه، وأن
يُبْنَى عليه، [أو يُزَاد عليه]، [أو يُكْتَبَ عليه] " (2).
الثاني: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبنى على القبر" (3).
الثالث: عن أبي الهيّاج الأسَدي قال: "قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك
على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! أن
لا تدع تمثالاً إِلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إِلا سوّيته (4) ".
وفي رواية: "ولا صورة إِلا طمستها" (5).
قال الشوكاني -رحمه الله- (4/ 72) في شرح هذا الحديث: "فيه أنّ السّنة أنّ
القبرَ لا يُرفع رفعاً كبيراً؛ من غير فرْق بين من كان فاضلاً ومن كان غير
فاضل، والظاهر أنّ رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرّم، وقد صرّح
بذلك أصحاب أحمد، وجماعة، والشافعيّ، ومالك".
قال: "ومن رفع القبور -الداخل تحت الحديث دُخولاً أوّليّاً-: القُبب
والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضاً هو من اتّخاذ القبور مساجد، وقد لعن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعل ذلك ... وكم قد نشأ عن
تشييد أبنية القبور وتحسينها من
__________
(1) يُجصّص؛ أي: يُطلى بالجصّ، وهو الكلس؛ من موادّ البناء.
(2) أخرجه مسلم: 970، وانظر لأجل تخريج الزيادات "أحكام الجنائز" (ص 260).
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1270).
(4) أخرجه مسلم: 969.
(5) أخرجه مسلم: 969.
(4/215)
مفاسد يبكي لها الإِسلام، منها اعتقاد
الجهلة لها كاعتقاد الكُفّار للأصنام، وعَظُم ذلك، فظنّوا أنها قادرة على
جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأً لنجاح
المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربّهم، وشدُّوا إِليها الرحال
وتمسحوا واستغاثوا.
وبالجملة: إِنّهم لم يَدَعُوا شيئاً ممّا كانت الجاهلية تفعله بالأصنام
إِلا فعلوه! فإِنّا لله وإنا إِليه راجعون!
ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع؛ لا نجد من يغضب لله، ويغار حميّة
للدين الحنيف، لا عالماً ولا مُتعلماً، ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكاً،
وقد توارد إِلينا من الأخبار ما لا يُشّك معه أنّ كثيراً من هؤلاء
القُبوريين أو أكثرهم -إِذا توجّهت عليه يمين من جهة خصْمِه- حلف بالله
فاجراً، فإِذا قيل له بعد ذلك: احلِف بشيخك ومعتقدك الوليّ الفلاني! تلعثم
وتلكأ وأبى واعترف بالحقّ!
وهذا من أبين الأدلة الدالة على أنّ شركهم قد بلغ فوق شرك من قال:
إِنّه -تعالى- ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة (1).
فيا عُلماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أيُّ رُزْءٍ للإِسلام أشدُّ من
الكفر؟! وأيُّ بلاء لهذا الدين أضرُّ عليه من عبادة غير الله؟! وأيّ مصيبة
يُصاب بها
__________
(1) وهذا هو قول أهل السّنة والجماعة: أن المرء يكفُر بالفعل، وأنّ الفعل
بذاته كُفر يدلّ على كُفر الباطن، لا كما تقوله المرجئة: أن الفعل ليس
بكفر، لكنهَ يدلّ على كفر الباطن! وهذا من نقولات شيخنا -رحمه الله-
القديمة التي تدلّ على نقضه عقيدة المرجئة وسائر العقائد الباطلة ونَصْرِه
عقيدةَ السلف الصالح ومنهجهم، فرَحمه الله -تعالى- وجمعنا به مع النبيّين
والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.
(4/216)
المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأيّ منكرٍ
يجب إِنكاره إِنْ لم يكن إِنكار هذا الشرك واجباً؟!
لقد أسمعتَ لو ناديت حيّاً ... ولكن لا حياةَ لمن تُنادي
ولو ناراً نَفَخْتَ بها أضاءَتْ ... ولكن أنت تنفخ في رَمادِ".
الرابع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لأَنْ يجلس أحدكم على جمرة فتُحرِقَ ثيابه،
فتَخْلُصَ إِلى جلده: خير له من أن يجلس (وفي رواية: يطأ) على قبر" (1).
الخامس: عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي
برجلي (2): أحبُّ إِليّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور
قضيت حاجتي أو وسط السّوق (3) " (4).
السادس: عن أبي مَرْثَد الغَنَويّ قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إِليها" (5).
__________
(1) أخرجه مسلم: 971، وغيره.
(2) الخصف: الخرز، والمراد أنّه صعب شديد.
(3) يريد أنهما في القبح سيّان، فمن أتى بأحدهما؛ فهو لا يبالي بأيهما أتى،
قاله السندي في "شرح ابن ماجه" (1/ 474).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1273).
(5) أخرجه مسلم: 972.
(4/217)
7 - الصلاة إِلى القبور؛ للحديث المتقدّم
آنفاً: "لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلّوا إِليها".
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 269): "وفيه دليل على تحريم الصلاة إِلى القبر؛
لظاهر النهي". انتهى.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (24/ 321): "وأمّا التمسُّح بالقبر، أو الصلاة
عنده، أو قصْده لأجل الدعاء عنده، مُعتقِداً أنّ الدعاء هناك من الدعاء في
غيره، أو النذر له ونحو ذلك؛ فليس هذا من دين المسلمين؛ بل هو مما أُحدث من
البدع القبيحة، التي هي من شُعب الشرك، والله أعلم وأحكم".
8 - الصلاة عندها ولو بدون استقبال، وفيه أحاديث:
الأوّل: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الأرض كلها مسجد؛ إِلا المقبرة والحمام"
(1).
الثاني: عن أنس -رضي الله عنه " أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بين القبور" (2).
الثالث: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً" (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (463)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (262)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (606).
(2) أخرجه البزار وغيره، وقال الهيثمي في "المجمع": "ورجاله رجال الصحيح".
(3) أخرجه البخاري: 432، ومسلم: 777.
(4/218)
الرابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بُيوتكم مقابر؛ إِنّ
الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 271): "وقد ترجم البخاري للحديث الثالث بقوله:
"باب كراهية الصلاة في المقابر".
وقال شيخنا -رحمه الله- (ص 274): " [و] كراهة الصلاة في المقبرة تشمل كلّ
مكان منها؛ سواءً كان القبر أمام المُصلّي، أو خلفه، أو عن يمينه، أو عن
يساره؛ لأنّ النهي مُطلق، ومن المقرّر في علم الأصول أن المطلق يجري على
إِطلاقه حتى يأتي ما يُقيّده، ولم يَرِد هنا شيء من ذلك.
وقد صرح بما ذكرنا بعض فقهاء الحنفية وغيرهم كما يأتي، فقال شيخ الإِسلام
ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" (ص 25): "ولا تصحُّ الصلاة في المقبرة
ولا إِليها، والنهي عن ذلك إِنما هو سدّ لذريعة الشّرك، وذكر طائفة من
أصحابنا أنّ القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة؛ لأنّه لا يتناوله اسم
المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً!
وليس في كلام أحمد وعامّة أصحابه هذا الفرق؛ بل عموم كلامهم وتعليلهم
واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة
كلّ ما قُبر فيه، لا أنّه جمع قبر.
وقال أصحابنا: وكلُّ ما دخل في اسم المقبرة ممّا حول القبور لا يُصلّى فيه،
فهذا يعيَّن أنّ المنع يكون مُتناولاً لحرمة القبر المنفرد وفِنائه المضاف
إِليه.
وذكر الآمديّ وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه -أي: المسجد الذي قبلته إِلى
__________
(1) أخرجه مسلم: 780، وتقدّم.
(4/219)
القبر- حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة
حائل آخر، وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد".
9 - بناء المساجد عليها؛ وفيه أحاديث:
الأوّل: عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم- قالا: "لما نُزِل برسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ طفِق (1) يَطرَحُ خَمِيصةً (2) على
وجهه، فإِذا اغتمّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود
والنصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذّرُ ما صنعوا" (3).
الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا
قبور أنبيائهم مسجداً؟ قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره؛ غير أنّي أخشى أنْ
يُتَّخَذَ مسجداً" (4).
الثالث: عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "اللهم لا تجعل قبري وثَناً، لعَن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد" (5).
الرابع: عن عائشة -رضي الله عنها-: أنّ أمّ حبيبة وأمّ سَلَمة ذكرتا كنيسةً
__________
(1) طَفِق -بكسر الفاء وفتحها-؛ أي: جعل، والكسر أفصح وأشهر، وبه جاء
القرآن. "شرح النووي".
(2) الخميصة: كساء له أعلام.
(3) أخرجه البخاري: 3453، 3454، ومسلم: 531.
(4) أخرجه البخاري: 1330، ومسلم: 929، وتقدّم بعضه غير بعيد.
(5) أخرجه أحمد، وابن سعد في "الطبقات"، وأبو يعلى، والحميدي، وأبو نعيم في
"الحلية" بإِسناد صحيح.
(4/220)
رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا
للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "إِنّ أولئك إِذا
كان فيهم الرجل الصالح فمات؛ بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك
الصّور، فأولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 279): "وهي تدلّ دلالة قاطعة على أنّ اتّخاذ
القبور مساجد حرام؛ لما فيها من لعن المتّخذين، ولذلك قال الفقيه الهيتمي
في "الزواجر" (1/ 120 - 121): "الكبيرة الثالثة والتّسعون: اتخاذ القبور
مساجد"؛ ثمّ ساق بعض الأحاديث المتقدّمة -وغيرها مما ليس على شرطنا- ثمّ
قال: "وعدُّ هذه من الكبائر؛ وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنّه أخذ ذلك
ممّا ذكره من هذه الأحاديث، ووجهه واضح؛ لأنّه لعن من فعل ذلك بقبور
أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صُلحائه شرّ الخلق عند الله يوم القيامة،
ففيه تحذير لنا كما في رواية: "يحذّر ما صنعوا"، أي: يُحذّر أمّته -بقوله
لهم ذلك- من أنْ يصنعوا كصنع أولئك، فيُلعَنُوا كما لُعِنُوا ..
قال بعض الحنابلة: قَصْدُ الرّجل الصلاةَ عند القبر متبركاً بها: عين
المُحادَّة لله ورسوله، وإيداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها، ثمّ
إِجماعاً؛ فإِنّ أعظم المحرمات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتّخاذها
مساجد، أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك؛ إِذ لا يظنُّ
بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إِذ هي
أضر من مسجد الضّرار لأنها أسست على معصية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنّه نهى عن ذلك، وأمر بهدم القبور المشرفة، وتجب
إِزالة كلّ قنديل أو
__________
(1) أخرجه البخاري: 427، ومسلم: 528.
(4/221)
سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره". انتهى
كلام شيخنا -رحمه الله-.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (17/ 463): " .. كذلك قال العلماء: يحرم بناء
المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قُبِر
في مسجدٍ وقد طال مكثه؛ سُوَّيَ القبر حتى لا تظهر صورته؛ فإِن الشرك إِنما
يحصل إِذا ظهرت صورته، ولهذا كان مسجد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أولا مقبرة للمشركين، وفيها نخل وخَرِبٌ، فأمر بالقبور فنبشت،
وبالنخل فقطع، وبالخرب فسويت، فخرج عن أن يكون مقبرة، فصار مسجداً".
قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "هذا .. والاتخاذ المذكور في الأحاديث
المتقدّمة يشمل عدّة أمور:
الأول: الصلاة إِلى القبور مُستقبلاً لها.
الثاني: السّجود على القبور.
الثالث: بناء المساجد عليها.
والمعنى الثاني ظاهر من الاتّخاذ، والآخران -مع دخولهما فيه- فقد جاء
النصُّ عليهما في بعض الأحاديث المتقدّمة".
10 - اتخاذها عيداً، تُقصد في أوقات معينة، ومواسم معروفة للتعبد عندها أو
لغيرها؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم
قُبوراً، وحيثما كنتم فصلّوا عليّ؛ فإِنّ صلاتكم تبلغني" (1).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1796)، وأحمد بإسناد حسن، وهو على
شرط مسلم، وانظر "أحكام الجنائز" (ص 280).
(4/222)
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 284): "وممّا
يدخل في ذلك دخولاً أوّلياً: ما هو مشاهد اليوم في الدينة [النبوية]، من
قصد الناس -دُبُرَ كلّ صلاة مكتوبة- قبر- النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للسلام عليه والدُّعاء عنده وبه، ويرفعون أصواتهم
لديه، حتى ليضجّ المسجد بهم، ولا سيّما في موسم الحجّ، حتى لكأنّ ذلك من
سنن الصلاة! بل إِنهم يحافظون عليه أكثر من محافظتهم على السّنن! وكلّ ذلك
يقع على مرأىً ومسمعٍ من ولاة الأمر، ولا أحد منهم يُنكر، فإِنّا لله وإنّا
إِليه راجعون! وأسفاً على غُربة الدين وأهله، وفي مسجد النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي ينبغي أن يكون أبعد المساجد -بعد المسجد
الحرام- عمّا يخالف شريعته عليه الصلاة والسلام".
وقال شيخنا -رحمه الله- (ص 285): "ويجوز لمن بالمدينة إِتيان القبر الشريف
للسلام عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحياناً؛ لأنّ ذلك ليس
من اتخاذه عيداً؛ كما هو ظاهر.
والسلام عليه وعلى صاحبيه -رضي الله عنهما- مشروع بالأدلة العامة، فلا يجوز
نفي المشروعية مطلقاً لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
اتّخاذ قبره عيداً؛ لإِمكان الجمع بملاحظة الشّرط الذي ذكَرْنا.
ولا يَخْدِجُ عليه أننا لا نعلم أنّ أحداً من السلف كان يفعل ذلك؛ لأنّ عدم
العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه كما يقول العلماء، ففي مثل هذا؛ يكفي
لإِثبات مشروعيته الأدلة العامّة؛ ما دام أنّه لا يثبت ما يُعارضها فيما
نحن فيه.
على أنّ شيخ الإِسلام قد ذكر في "القاعدة الجليلة" (ص 80 - طبع المنار) عن
نافع أنه قال: كان ابن عمر يُسلم على القبر، رأيته -مائة مرة أو أكثر-
(4/223)
يجيء إِلى القبر فيقول: السلام على النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، السلام على أبي بكر، السلام على
أبي، ثمّ ينصرف؛ فإِنّ ظاهره أنّه كان يفعل ذلك في حالة الإِقامة لا السفر؛
لأنّ قوله: "مائة مرة"؛ ممّا يُبعد حمل هذا الأثر على حالة السفر".
11 - السفر إِليها؛ وفيه أحاديث:
الأول: عن أبي هريرة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "لا تُشدّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسجد الأقصى" (1).
الثاني: عن أبي بَصْرَةَ الغِفَاري: أنه لقي أبا هريرة وهو جاءٍ من
الطُّور، فقال: من أين أقبلْتَ؟ قال: أقبلت من الطُّور، صلّيت فيه.
قال: أما إِنّي لو أدركتك لم تذهب إِنّي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تُشدُّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد:
المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" (2).
قال شيخنا -رحمه الله-: "ومّما يَحْسُنُ التنبيه عليه ... أنّه لا يدخل في
النهي السّفر للتجارة وطلب العلم؛ فإِنّ السّفر إِنّما هو لطلب تلك الحاجة
حيث كانت، لا لخُصوص المكان، وكذلك السّفر لزيارة الأخ في الله؛ فإِنّه ليس
هو المقصود، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (2/ 186) ".
12 - إِيقاد السُّرُجِ عندها؛ والدليل على ذلك عدّة أمور:
أولاً: كونه بدعة محدثة لا يعرفها السلف الصالح، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل
__________
(1) أخرجه البخاري: 1189.
(2) أخرجه الطيالسي، وأحمد، -والسياق له- وغيرهما، وإسناده صحيح.
(4/224)
بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار" (1).
ثانياً: أنّ فيه إِضاعة للمال، وهو منهيٌّ عنه، كما في حديث المغيرة بن
شعبة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ الله كره
لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" (2).
ثالثاً: أنّ فيه تشبهاً بالمجوس عُبّاد النار، قال ابن حجر الفقيه في
"الزواجر" (1/ 134): "صرّح أصحابُنا بحرمة السّراج على القبر وإِنْ قلّ؛
حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر، وعلّلوه بالإِسراف، وإضاعة المال، والتشبه
بالمجوس، فلا يبعد في هذا أن يكون كبيرة".
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 294): "ولم يورد -بالإِضافة إِلى ما ذكر من
التعليل- دليلنا الأوّل، مع أنه دليل وارد، بل لعلّه أقوى الأدلة؛ لأنّ
الذين يوقدون السّرج على القبور إِنما يقصدون بذلك التقرّب إِلى الله
-تعالى زعموا! - ولا يقصدون الإِنارة على المقيم، بدليل إِيقادهم إِياها
والشمس طالعة في رابعة النهار! فكان من أجل ذلك بدعة ضلالة".
13 - كسر عظامها:
والدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ كسر عظم
المؤمن ميتاً مثل كسره حيّاً" (3).
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1487)، وابن خزيمة في "صحيحه" بسند
صحيح، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 1477، ومسلم: 1715، وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2746)،
وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1310)، وغيرهم وتقدّم.
(4/225)
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 296): "والحديت
دليل على تحريم كسر عظم الميت المؤمن، ولهذا جاء في كتب الحنابلة: "ويحرم
قطع شيء من أطراف الميت، وإِتلاف ذاته، وإحراقه، ولو أوصى به". كذا في
"كشّاف القناع" (2/ 127). ونحو ذلك في سائر المذاهب، بل جزم ابن حجر الفقيه
في "الزّواجر" (1/ 134) بأنّه من الكبائر، قال: "لما علمت من الحديث أنه
ككسر عظم الحيّ".
قال شيخنا -رحمه الله- (ص 297): ويستفاد من الحديث السابق شيئان: الأول:
حُرمة نبش قبر المسلم؛ لما فيه من تعريض عظامه للكسر، ولذلك كان بعض السلف
يتحرّج من أن يُحفر له في مقبرة يكثر الدفن فيها، قال الإِمام الشافعي في
"الأم" (1/ 245): "أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما أُحبُّ أن
أُدفن بالبقيع! لأنْ أُدفن في غيره أحبُّ إِليّ؛ إِنّما هو أحد رجلين:
إِمّا ظالم؛ فلا أُحبُّ أن أكون في جواره، وأمّا صالح؛ فلا أُحبُّ أن ينبش
في عظامه، قال: وإِنْ أُخرجت عظام ميّت أحببت أن تعاد فتدفن".
وقال النووي في "المجموع" (5/ 303) ما مختصره: "ولا يجوز نبش القبر لغير
سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز بالأسباب الشرعية كنحو ما سبق (في المسألة:
109)، ومختصره: "أنه يجوز نبش القبر إِذا بلي الميت وصار تُراباً، وحينئذ
يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها، وسائر وجوه الانتفاع
والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كلّه إِذا لم يَبْقَ للميت أثر من عظم
وغيره، ويختلف ذلك باختلاف البلاد والأرض، ويعتمد فيه قول
(4/226)
أهل الخبرة بها".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: ومنه تعلم تحريم ما ترتكبه بعض الحكومات
الإِسلامية من درس بعض المقابر الإِسلامية ونبشها؛ من أجل التنظيم
العمراني، دون أي مبالاة بحرمتها، أو اهتمام بالنهي عن وطئها وكسر عظامها
ونحو ذلك!
ولا يتوهّمنّ أحد أنّ التنظيم المشار إِليه يُسوغّ مثل هذه المُخالفات!
كلا؛ فإِنّه ليس من الضّروريّات، وإنما من الكماليات التي لا يجوز بمثلها
الاعتداء على الأموات، فعلى الأحياء أن يُنظِّموا أمورهم، دون أن يؤذوا
موتاهم.
ومن العجائب التي تلفت النّظر: أن ترى هذه الحكومات تحترم الأحجار والأبنية
القائمة على بعض الموتى أكثر من احترامها للأموات أنفسهم؛ فإِنّه لو وقف في
طريق التنظيم المزعوم بعض هذه الأبنية -من القباب أو الكنائس ونحوها-؛
تركتها على حالها، وعدّلت من أجلها خارطة التنظيم؛ إِبقاءً عليها؛ لأنّهم
يعتبرونها من الآثار القديمة!
وأمّا قبور الموتى أنفسهم؛ فلا تستحق عندهم ذلك التعديل! بل إِنّ بعض تلك
الحكومات لتسعى -فيما علمنا- إِلى جعل القبور خارج البلدة، والمنع من الدفن
في القبور القديمة؛ وهذه مخالفة أخرى في نظري؛ لأنها تُفوِّت على المسلمين
سُنّة زيارة القبور؛ لأنّه ليس من السّهل على عامّة الناس أن يقطع المسافات
الطويلة حتى يتمكن من الوصول إِليها، ويقوم بزيارتها والدّعاء لها!
والحامل على هذه المُخالفات -فيما أعتقد-: إِنّما هو التقليد الأعمى
لأوروبّا الماديّة الكافرة، التي تريد أن تقضي على كلّ مظهر من مظاهر
الإِيمان
(4/227)
بالآخرة، وكلّ ما يذكّر بها، وليس هو
مراعاةَ القواعد الصِّحّيّة كما يزعمون! ولو كان ذلك صحيحاً؛ لبادروا إِلى
مُحاربة الأسباب التي لا يشكُّ عاقل في ضررها، مثل بيع الخمور وشربها،
والفسق والفجور؛ على اختلاف أشكاله وأسمائه، فعدم اهتمامهم بالقضاء على هذه
المفاسد الظاهرة، وسعيُهم إِلى إِزالة كلّ ما يُذكّر بالآخرة وإِبعادها عن
أعينهم: أكبر دليل على أنّ القصد خلاف ما يزعمون ويعلنون، وما تُكنّه
صدورهم أكبر.
الثاني: أنه لا حرمة لعظام غير المؤمنين؛ لإِضافة العظم إِلى المؤمن في
قوله: "عظم المؤمن"، فأفاد أنّ عظم الكافر ليس كذلك، وقد أشار إِلى هذا
المعنى الحافظ في "الفتح" بقوله: "يُستفاد منه أنّ حرمة المؤمن بعد موته
باقية كما كانت في حياته".
ومن ذلك يُعرف الجواب عن السؤال الذي يتردّد على ألسنة كثيرٍ من الطُّلاّب
في كلّيّات الطب، وهو: هل يجوز كسر العظام لفحصها وإِجراء التحرّيات الطبية
فيها؟
والجواب: لا يجوز ذلك في عظام المؤمن، ويجوز في غيرها. ويؤيده ما يأتي في
المسألة التالية:
يجوز نبش قُبور الكفار؛ لأنّه لا حرمة لها؛ كما دلَّ عليه مفهوم الحديث
السابق، ويشهد له حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قدم النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، فنزل أعلى المدينة في حيّ
-يقال لهم: بنو عمرو بن عوف- فأقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيهم أربع عشرة ليلة، ثمّ أَرسل إِلى بني النجّار، فجاءوا
متقلّدي السيوف، كأنّي أنظر إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على راحلته وأبو بكر رِدْفَهُ وملأُ بني النجار
(4/228)
حوله، حتى ألقى (1) بفِناء (2) أبي أيوب،
وكان يُحبّ أن يصلّي حيث أدركته الصلاة، ويُصلّي في مرابض الغنم (3)، وإنّه
أمر ببناء المسجد، فأرسل إِلى ملإٍ من بني النجار: ثامنوني (4) بحائطكم
هذا. قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إِلا إِلى الله.
فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خَرِب (5)، وفيه نخل،
فأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبور المشركين
فنُبِشَتْ، ثمّ بالخَرب فسُوِّيَتْ، وبالنخل فقُطِع، فصفّوا النخل قِبلة
المسجد، وجعلوا عِضادتيه (6) الحجارة، وجعلوا ينقلون الصّخر وهم يرتجزون،
والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم وهو يقول:
اللهم لا خيرَ إِلا خيرُ الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجِرَة" (7).
عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "كسر عظم الميت
__________
(1) أي: ألقى رحله.
(2) هو الناحية المتسعة أمام الدار.
(3) مرابض الغنم: هي مباركها ومواضع مبيتها ووضْعها أجسادها على الأرض
للاستراحة، وتقدّم معناها في "كتاب الطهارة".
(4) ثامنوني؛ أي: اذكروا لي ثمنه؛ لأذكر لكم الثمن الذي أختاره، قال ذلك
على سبيل المساومة. "فتح".
(5) خَرِب؛ قال القاضي: رُوِّيناه هكذا؛ ورويناه بكسر الخاء وفتح الراء،
وكلاهما صحيح، وهو ما تخرّب من البناء. "شرح النووي".
(6) العِضادة -بكسر العين-: هي جانب الباب.
(7) أخرجه البخاري: 428، ومسلم: 524.
(4/229)
ككسره حيّاً" (1).
قال شيخنا -رحمه الله-: "قال الحافظ في "الفتح": وفي الحديث جواز التصرف في
المقبرة المملوكة بالهبة والبيع، وجواز نبش القبور الدارسة إِذا لم تكن
محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها؛ وإِخراج ما فيها؛ وجواز
بناء المساجد في أماكنها".
تحريم جعْل المصاحف عند القبور للقراءة:
جاء في "مجموع الفتاوى" (ص 301): " .. وأما جعل المصاحف عند القبور لمن
يقصد قراءة القرآن هناك وتلاوته؛ فبدعة منكرة، لم يفعلها أحد من السلف، بل
هي تدخل في معنى "اتخاذ المساجد على القبور" وقد استفاضت السنن عن النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[في النهي] عن ذلك، حتى قال: "لعن
الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحَذِّرُ ما صنعوا،
قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً.
وقال: "إِن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور
مساجد؛ فإِني أنهاكم عن ذلك"، ولا نزاع بين السلف والأئمة في النهي عن
اتخاذ القبور مساجد.
ومعلوم أن المساجد بنيت للصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، فإِذا اتخذ القبر
لبعض ذلك؛ كان داخلاً في النهي، فإِذا كان هذا مع كونهم يقرؤون فيها؛
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2746)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1310) وتقدّم.
(4/230)
فكيف إِذا جعلت المصاحف بحيث لا يقرأ فيها،
ولا ينتَفع بها لا حيٌّ ولا ميتٌ؟! فإِن هذا لا نزاع في النهي عنه.
ولو كان الميت ينتفع بمثل ذلك؛ لفعله السلف؛ فإِنهم كانوا أعلم بما يحبه
الله ويرضاه، وأسرع إِلى فعل ذلك وتَحرِّيهِ".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن قراءة القرآن عند القبر؟
فقال: لا أراها.
فقلت له: من أيّ باب؟
فأجاب: لعدم وجود مصلحةٍ تستوجب هذا التكلّف.
(4/231)
|