الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الحج
تعريفه:
الحج -لغةً-: القصد، قال الله -تعالى-: {ولله على الناس حِجّ البيت} (1). أي: قصد البيت.
وفي الشرع: القصد إِلى أماكن مخصوصة للقيام بأعمال مخصوصة.

فضله والترغيب فيه:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "العمرة إِلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحج المبرور (2) ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنة" (3).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تابِعوا بين الحج والعمرة؛ فإِنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ (4) الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة" (5).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِل: أي العمل أفضل؟
__________
(1) آل عمران: 97.
(2) المبرور: هو الذي لا يخالطه شيء من الإِثم. وقيل: هو المقبول المقابَل بالبرّ، وهو الثواب. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 1773، ومسلم: 1349.
(4) الخَبَث: هو ما تُلقيه النار من وسخ الفضّة والنحاس وغيرهما إذا أُذيبا. "النهاية".
(5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (650)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2468)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2334)، وانظر "المشكاة" (2524) و"الصحيحة" (1200).

(4/233)


فقال: "إِيمان بالله ورسوله. قيل: ثمّ ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثمّ ماذا؟ قال: حج مبرور" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من حج لله، فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ؛ رجع كيومَ ولدته أمه (2) " (3).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: "يا رسول الله! ألا نغزو ونجاهد معكم؟! فقال: لَكُنَّ أحسنُ الجهاد وأجمله: الحج حج مبرور، فقالت عائشة: فلا أدَعُ الحج بعد إِذ سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (4).
عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: "لمّا جعل الله الإِسلام في قلبي؛ أتيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: ابسُطْ يمينك فلأبايعك؛ فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟! قال: قلت: أردت أن أشترط! قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أنّ الإِسلام يهدم ما كان قبله؟ وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟ " (5).
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفْد (6) الله: دعاهم فأجابوه، وسألوه
__________
(1) أخرجه البخاري: 26، ومسلم: 83.
(2) أي: بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتَّبِعَات. "فتح".
(3) أخرجه البخاري: 1521، ومسلم: 1350.
(4) أخرجه البخاري: 1861.
(5) أخرجه مسلم: 121.
(6) قال في "النهاية": "قد تكرّر ذِكر الوفد في الحديث، وهم القوم يجتمعون =

(4/234)


فأعطاهم" (1).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما ترفع إِبل الحاج رِجْلاً، ولا تضع يداً؛ إلاَّ كتبَ الله له بها حسنة، أو محا عنه سيئة، أو رفعه بها درجة" (2).

الحج جهادٌ لا شوكة فيه:
عن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِني جبان، وإني ضعيف، قال: هلمّ إِلى جهاد لا شوكة فيه: الحج" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "جهاد الكبير، والصغير، والضعيف، والمرأة: الحج والعمرة" (4).
وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحجّ جهادُ كل
__________
= ويَرِدُون البلاد، واحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء؛ لزيارةٍ واسترفادٍ وانتجاع وغير ذلك".
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2339)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2462)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1108).
(2) أخرجه البيهقي في "الشعب"، وابن حبان في "صحيحه"، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1106).
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 152)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (1098).
(4) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2463)، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1100).

(4/235)


ضعيف" (1).

أجر الحاج والمعتمر على قدر نَصَبِهِ ونفقته:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "يا رسول الله! يصدُرُ الناس بنُسُكين وأصدُر بنُسُك؟ فقيل لها: انتظري فإِذا طهُرْتِ فاخرجي إِلى التنعيم؛ فأهلِّي ثمّ ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك" (2).
وفي رواية: "إِنما أجرك في عمرتك على قدْر نفقتك" (3).

من خرَج حاجّاً فمات:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خرج حاجّاً فمات؛ كُتب له أجر الحاج إِلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات؛ كُتِب له أجر المعتمر إِلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً فمات؛ كُتب له أجر الغازي إِلى يوم القيامة" (4).

وجوب الحجّ مرّة واحدة:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال؛ خطَبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أيها
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1102).
(2) أخرجه البخاري: 1787، ومسلم: 1211.
(3) أخرجه الحاكم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1116).
(4) رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إِسحاق، وبقية رواته ثقات، وصححه لغيره شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1114).

(4/236)


الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجّوا. فقال رجل: أكُلَّ عام يا رسول الله؟! فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثمّ قال: ذروني ما تركتكم؛ فإِنما هلك من كان قبلكم بكثرة سُؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإِذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ الأقرع بن حابس سأل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! الحج في كل سنة أو مرّةً واحدةً؟ قال: بل مرّة واحدة، فمن زاد [فتطوَّع] فهو تطوُّع" (2).

وجوبه على الَفْورِ:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أراد الحج فليتعجّل؛ فإِنّه قد يمرض المريض، وتَضِلُّ الضالّة، وتعرضُ الحاجة" (3).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 115): "والحج واجب على الفور عند أكثر العلماء".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عمن يقول: لا يجب الحجّ على الفور؛ لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخّر الحج إِلى سنة عشرة، وكان معه أزواجه وكثير من أصحابه، فلو كان واجباً على الفور؛ لَما أخره- عليه الصلاة والسلام-؟
__________
(1) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337 - واللفظ له-.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1514)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (2457)، وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (980).
(3) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2331)، وانظر "الإِرواء" (990).

(4/237)


فأجاب -رحمه الله-: "هذا تعليل ظنّي، ومن الظنّ المنهيّ عنه؛ لأنّ أيّ إِنسان لم يحجّ فور وجوب الحجّ عليه؛ يُحتمل أن يكون له عذر غير عُذر آخر مثله، من حيث إِنّه لم يحج فوراً، وهذا أمرٌ لا يناقش فيه الإِنسان، وبخاصة فيما يتعلّق برجل دولة كالرسول- عليه الصلاة والسلام- حينما يقال: إِنه لم يحج على الفور لأنّه كان مستطيعاً أن يحج على الفور؛ من أين لهذا المدعي أنه كان مستطيعاً هذا؟! فلا سبيل إِليه إِلا بنص من الرسول -عليه الصلاة والسلام- يخبر فيه أنه ما حج فوراً؛ لأنّ الحج فوراً ليفرض عين، هذا لا سبيل إِليه إِطلاقاً.
وهذا نحن نقوله فيما لو لم يكن لدينا نصٌّ يوجب علينا الحج فوراً، ولا شكّ أن الاستدلال على فورية الحج الواجب له عدة أدلة؛ فبعضها من الأدلة العامة، كمِثل قوله -تعالى-: {وسارعوا إِلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين}؛ لأنّ المعنى: سارعوا إِلى الأخذ بالأسباب التي تستحقون بها مغفرته، فالأمر بالمسارعة يؤكد الفورية التي نحن نبحث فيها الآن.
ونص صريح هو قوله -عليه السلام-: "من أراد الحجّ فليتعجّل"، فمع وجود هذين الدليلين وردّ الاحتمال الظنّي؛ لا يصحّ أن يقولوا: إِن الحجّ ليس على الفور؛ لا سيما أنّ الحج عبادة في السَّنَة مرة واحدة.
فحين تكون هناك مسافة زمنية بعيدة بين الإِنسان وبين وقت العبادة؛ فهنا يقع احتمال عارض المرض، وفِقدان المال ونحو ذلك، فحين تعرض مِثل هذه الأعذار لبعد المسافة الزمنية؛ فإِنها أقوى من أن يعرض عُذرٌ في الصلاة المحدّدة

(4/238)


الوقت.
لذلك هذه ملاحظة توجب على الإِنسان -حينما يشعر أثناء السَّنَة بالاستطاعة- أنه يجب عليه الحج، وأن يُعِدّ نفسه لذلك، ولا يتمهّل بحُجَّة أنّه لا يجب عليه على الفور، وما يدريه أنه سيعيش إِلى السّنة القادمة؟ ".

حكمه:
الحج رُكن من أركان الإِسلام وفرض من فرائضه.
قال الله -تعالى-: {ولله على الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِليه سبيلاً ومن كفر فإِنّ الله غنيٌّ عن العالمين} (1).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإِسلام على خمس: شهادة أن لا إِله إِلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ، وصوم رمضان" (2).

على من يجب؟
يجب الحج على كل مسلم بالغ عاقل حُرٍّ مستطيع.
عن علي -رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (3).
__________
(1) آل عمران: 97.
(2) أخرجه البخاري: 8، ومسلم: 16.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703)، وابن ماجه "صحيح سنن =

(4/239)


وأمّا الاستطاعة؛ فلقول الله -تعالى-: {ولله على النّاس حِجّ البيت من استطاع إِليه سبيلاً ومن كفر فإِنّ الله غنيّ عن العالمين} (1).

بِمَ تتحقق الاستطاعة (2)؟
تتحقق الاستطاعة بما يأتي:
1 - أن يكون المكلّف صحيح البدن، فإِن عجَز عن الحج لشيخوخته، أو مرض لا يرجى شفاؤه؛ لزمه إِحجاج غيره عنه إِن كان له مال، كما سيأتي إِن شاء الله -تعالى-.
2 - أن تكون الطريق آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله؛ فلو خاف على نفسه من قُطّاع الطريق، أو وباء، أو خاف على ماله من أن يُسْلَبَ منه؛ فهو ممن لم يستطع إِليه سبيلاً.
3، 4 - أن يكون مالكاً للزاد والراحلة.
والمعتبر في الزاد: أن يملك ما يكفيه مما يصحّ به بدنه، ويكفي من يعوله كفاية فاضلة عن حوائجه الأصلية؛ من ملبس ومسكن ومركب، حتى يؤدي الفريضة ويعود.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإِذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل
__________
= ابن ماجه" (1660) وغيرهما، وانظر "الإرواء" (297)، وتقدّم.
(1) آل عمران: 97.
(2) عن "فقه السّنة" (1/ 630) بتصرّف وزيادة حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(4/240)


-تعالى-: {وتزوَّدوا فإِنّ خير الزاد التقوى (1)} " (2).
والمعتبر في الراحلة؛ أن تمكِّنه من الذهاب والإِياب، سواءٌ أكان ذلك عن طريق البر، أو البحر، أو الجو.
وهذا بالنسبة لِمَنْ لا يمكنه المشي لبعده عن مكة، فأمّا القريب الذي يمكنه المشي؛ فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه؛ لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إِليها.
5 - أن لا يوجد ما يمنع من الذهاب إِلى الحج؛ كالحبس أو الخوف من سلطان جائر يمنع الناس.

حجّ الصبيّ والعبد:
لا يجب على الصبيّ والعبد حجٌّ، وإذا حجّا صحّ منهما، لكن عليهما أن يحجّا حجَّة أخرى؛ إِذا بلغ الصبي، وأعتق العبدُ.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "أيّما صبيّ حجّ ثمّ بلَغ؛ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حجَّ ثمّ عُتق؛ فعليه حجّة أخرى" (3).
وعن السائب بن يزيد قال: "حُجَّ بي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابن سبع سنين" (4).
__________
(1) البقرة: 197.
(2) أخرجه البخاري: 1523، وانظر "الفتح" (3/ 384) -إن شئت- للمزيد من الفوائد الحديثية.
(3) أخرجه الشافعي، والطحاوي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (986).
(4) أخرجه البخاري: 1858.

(4/241)


وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه لقي ركْباً (1) بالرَّوْحَاءِ (2) فقال: "من القوم؟ قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت إِليه امرأة صبيّاً، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر" (3).

وجوب اصطحابِ المرأةِ ذا مَحْرَمٍ:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّه سمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يخلُوَنّ رجل بامرأة، ولا تسافرنّ امرأة إلاَّ ومعها محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله! اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا، وخرَجَت امرأتي حاجّة؟ قال: اذهب فاحجُج مع امرأتك" (4).
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يحِلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً؛ إِلا ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها" (5).
جاء في "فيض القدير" (6/ 398) (6): "إلاَّ مع ذي محرم: بنسب أو رضاع أو مصاهرة، وفي رواية: "إِلا ومعها ذو محرم"؛ أي: من يحرُم عليه
__________
(1) الرّكب: أصحاب الإِبل خاصّة، وأصله أن يستعمل في عشرة فما دونها. "نووي".
(2) الروحاء: مكان على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة. "نووي".
(3) أخرجه مسلم: 1336.
(4) أخرجه البخاري: 3006، ومسلم: 1341.
(5) أخرجه مسلم: 1340.
(6) ملتقطاً.

(4/242)


نكاحها من الأقارب؛ كأخ وعمّ وخال، ومن يجري مجراهم؛ كزوج، كما جاء مصرحاً به في روايةٍ ... والمحرم: من حَرُم نكاحه على التأبيد بسبب مُباح لحرمتها. قال ابن العربي: النساء لحم على وضَم (1)، كلُّ أحد يشتهيهن، وهنّ لا مدفع عندهنّ، بل الاسترسال فيهن أقرب من الاعتصام، فحصَّن الله عليهن بالحجاب وقطْع الكلام، وحرّم السلام، وباعد الأشباح إِلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يُمنع منها وهو أولو المحارم، ولما لم يكن بُدٌّ من تصرفّهن؛ أُذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان [مخافة استمالتهن وخديعتهنّ]، وهو السفر، مقر الخلوة ومعْدن الوحدة".

استئذانُ المرأةِ زوجَها (2):
يُسنّ للمرأة أن تستأذن زوجها في الخروج إِلى الحجّ المفروض، فإِن أَذِن لها خرجت، وإن لم يأذن لها خرجت بغير إِذنه؛ لأنّه ليس للرجل مَنْعُ امرأة من حجّ الفريضة؛ لأنها عبادة واجبة عليها، ولا طاعة لخلوق في معصية الخالق -سبحانه - وعليها أن تعجل به لتُبْرِئ ذمّتها.
وأمّا حجّ التطوُّع فله منْعُها منه.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- كما في "الاختيارات" (ص 115): "وليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم، وعليها أن تحج وإن لم يأذن في ذلك؛ حتى إِن كثيراً من العلماء أو أكثرهم؛ يوجبون لها النفقة عليه مدةَ الحج".
__________
(1) الوضَم: كل ما يوضَع عليه اللحم من خشب أو حصير أو نحو ذلك. "الوسيط".
(2) عن "فقه السنة" (1/ 636) بتصرّف.

(4/243)


من مات أو عجَز وعليه حجّ:
من مات ولم يحج حجة الإِسلام، أو نذر أن يحجّ، أو عجَز لمرض أو شيخوخة؛ وجب على أبنائه الحجّ عنه، أو توكيل من يحجّ عنه.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن امرأة من جُهينة جاءت إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: "إنّ أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحجّ عنها؟ قال: نعم؛ حُجّي عنها؛ أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قَاضِيَتَهُ؟! اقضوا الله؛ فالله أحقّ بالوفاء" (1).
وعنه -رضي الله عنه- قال: "جاءت امرأة من خَثْعَمٍ فقالت: يا رسول الله! إِنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدرَكت أبي شيخاَ كبيراً لا يثبت على الراحلة؛ أفأحجّ عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجّة الوداع" (2).
وجاء في "مجموع الفتاوى" (26/ 12): "وسُئل عن شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه، لا يستطيع أن يأكل أو يشرب، ولا يتحرك، هل يجوز أن يستأجر من يحج عنه الفرض؟
فأجاب: أمّا الحج؛ فإِذا لم يستطع الركوب على الدابة؛ فإِنه يستنيب من يحجّ عنه". انتهى.
واختلف العلماء هل يُحَجّ عنه سواءٌ أوصى أم لم يوصِ؟
فمنهم من رأى أنه يُحجّ عنه أوصى أو لم يوصِ.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1852.
(2) أخرجه البخاري: 1513.

(4/244)


ومنهم من اشترط الوصيّة أو عدم القدرة.
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- عقب حديث الخثعمية: "وقد صحّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب غير حديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم، وبه يقول الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ يرون أن يحج عن الميت.
وقال مالك: إِذا أوصى أن يُحَجّ عنه حُجَّ عنه.
وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحيّ، إِذا كان كبيراً، وبحال لا يقدر أن يحج، وهو قول ابن المبارك والشافعي" (1).
جاء في "المنتقى شرح موطأ مالك" (3/ 470): "والعبادات على ثلاثة أضرب:
عبادة مختصة بالمال كالزكاة، فلا خلاف في صحة النيابة فيها.
وعبادة مختصة بالجسد كالصوم والصلاة، فلا خلاف في أنه لا تصح النيابة فيها. ولا خلاف في ذلك نعلمه؛ إلاَّ ما يروى عن داود أنه قال: من مات وعليه صوم يصوم عنه وليه.
وعبادة لها تعلق بالبدن والمال كالجهاد والحج، فقد أطلق القاضي أبو محمد أنه تصح النيابة فيها.
وقد كره ذلك مالك -رحمه الله- قال: ولا يحج أحد عن أحد ولا يصلّي أحد عن أحد، ورأى أنّ الصدقة على الميت أفضل من استئجار من يحجّ عنه؛ إِلا أنه إِن أوصى بذلك نُفّذت وصيته.
__________
(1) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 275).

(4/245)


وقال القاضي أبو الحسن: لا تصح النيابة، وإنما للميت المحجوج عنه نفقته إِن أوصى أن يستأجر من ماله على ذلك، وإن تطوع عنه بذلك أحد؛ فله أجر الدعاء وفضله؛ وهذا وجه انتفاع الميت بالحج".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن مطلق عمل الخير للوالدين؛ أو الصدقة ... إِلى آخره؟
فأجاب بالجواز.
قلت: أيعتمر ويتصدّق ويعمل كلّ أعمال الخير؟
قال: نعم.
قلت: والحج؟
فقال -رحمه الله-: "إِذا أراد الابن أن يحجّ عن أحد والديه؛ فإِن كان يقصد حجّ الفريضة؛ فلا بُدّ من التفصيل، ولماذا لم يحجّ؟ فإِنْ كان معذوراً حجّ عنه، أمّا التطوع فلا تفصيل".
وسألت شيخنا -رحمه الله- مرّة أخرى عن الحجّ عمّن توفّي؟
فأجاب: "نريد أن نفهم من الذي طلب الحجّ عنه؟ هل هذا قبل الوفاة أم بعدها؟
ثمّ قال -رحمه الله-: لو أنّ المتوفّى كلّفه وأوصى بذلك؛ فله أن يحجّ، أمّا أن يكلّفه غير المكلّف فلا.
ويُنظر أيضاً إِلى السبب الذي من أجله لم يحجّ المتوفّى، فإِن شغلَته الدنيا ولم يكن له عُذر؛ فلا يُحجّ عنه؛ إِذ لا يُحجّ عنه إلاَّ في حالة العذر وعدم

(4/246)


الاستطاعة (1).
وسألته -رحمه الله- ذات يوم: هل التوكيل في الحجّ عن العاجز؟
فقال: نعم وذكر الشروط السابقة.

هل يوكّل في الحجّ غير الأبناء؟
بعد تقدّم الشروط السابقة أقول: لا شك أن حجّ الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم هو الأولى، لكن يجوز توكيل غير الأبناء؛ إِذ التوكيل باب معروف من أبواب الفقه الإِسلامي.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: إِن كان له أبناء؛ هل يسوغ له أن يوكّل غيرهم؟
فقال: نعم؛ يجوز، لكن إِذا كان مريضاً، أو تنفيذاً لوصية.
قلت: والعمرة؟
فأجاب -رحمه الله-: نفس الشيء.
وقال شيخنا -رحمه الله- في بعض إِجاباته: "يبحث عن الأصلح والأفضل، فإِذا لم يكن في الأبناء؛ فلا مانع من التعدي إِلى غيرهم".

اشتراط الحج عن الغير:
وينبغي فيمن يحجّ عن غيره أن يكون حاجّاً عن نفسه.
__________
(1) وسألته -رحمه الله- عن أخذ النقود إِذا عُرضت على من يحجّ؟ فقال -رحمه الله- بالجواز، وسيأتي إِن شاء الله -عزّ وجلّ- كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- في ذلك.

(4/247)


عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: "لبيك عن شبرمة، قال: من شُبْرُمة؟ قال: أخ لي -أو قريب لي-. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حُجّ عن نفسك، ثمّ حُجّ عن شبرمة" (1).

هل يحج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل؟
إذا تحققت الشروط السابقة؛ جاز للمرأة أن تحجّ عن الرجل، والعكس كذلك.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاءت امرأة من خثعم، فقالت: يا رسول الله! إِن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة؛ أفأَحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع" (2).
وقال البخاري -رحمه الله-: "باب الحج والنذور عن الميت، والرجل يحجّ عن المرأة" (3).
وقال -رحمه الله-: "باب حج المرأة عن الرجل" (4).
ويرى شيخ الإِسلام -رحمه الله- جواز حج المرأة عن الرجل؛ وذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدّم عن المرأة الخثعمية.
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1596)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2347)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (994).
(2) أخرجه البخاري: 1513، وتقدّم غير بعيد.
(3) انظر "كتاب جزاء الصيد" (باب - 22).
(4) انظر "كتاب جزاء الصيد" (باب - 24).

(4/248)


ونقل -رحمه الله- جواز هذا عن الأئمة الأربعة وجمهور العلماء (1).

أخذ النفقة في الحجّ عن الميت:
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله: "حقيقة الأمر في ذلك: أن الحاج يستحب له ذلك إِذا كان مقصوده أحد شيئين: الإِحسان إِلى المحجوج عنه، أو نفس الحج لنفسه.
وذلك أن الحج عن الميت إِن كان فرضاً؛ فذِمَّته متعلقة به، فالحج عنه إِحسان إِليه بإِبراء ذمته؛ بمنزلة قضاء دينه؛ كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه؛ أكان يجزي عنه؟ قالت: نعم.
قال: فالله أحقّ بالقضاء"، وكذلك ذكر هذا المعنى في عدة أحاديث، بين أنّ الله -لرحمته وكرمه- أحق بأن يقبل قضاء الدين عمن قضي عنه، فإِذا كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا، فهذا مُحسن إليه، والله يحب المحسنين؛ فيكون مستحبّاً، وهذا غالباً إِنما يكون لسببٍ يبعثه على الإِحسان إِليه، مِثل رَحِم بينهما، أو مودةٍ وصداقة، أو إِحسان له عليه يجزيه به، ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه، وعلامة ذلك أن يطلب مقدار كفاية حجِّه، ولهذا جوّزنا نفقة الحج بلا نزاع، وكذلك لو وصى بحجة مستحبة، وأحب إِيصال ثوابها إِليه.
والموضع الثاني: إِذا كان الرجل مُؤْثراً أن يحج؛ محبةً للحج وشوقاً إِلى المشاعر، وهو عاجز؛ فيستعين بالمال المحجوج به على الحجّ، وهذا قد يُعطى المال ليحجَّ به لا عن أحد، كما يعطى المجاهد المال ليغزو به، فلا شبهة فيه، فيكون
__________
(1) وانظر "مجموع الفتاوى" (26/ 13).

(4/249)


لهذا أجر الحج ببدنه، ولهذا أجر الحج بماله، كما في الجهاد؛ فإِنه من جهز غازياً فقد غزا، وقد يعطى المال ليحج به عن غيره، فيكون مقصود المعطى الحج عن المعطى عنه، ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحج لا بنفس الإِحسان إِلى الغير ...
وهذا أيضاً إِنما يأخذ ما ينفقه في الحج؛ كما لا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو، فهاتان صورتان مستحبتان، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويردَّ الفضل، وأما إِذا كان قصده الاكتساب بذلك، وهو أن يستفضل مالاً؛ فهذا صورة الإِجارة والجعالة، والصواب أنّ هذا لا يستحب -وإِن قيل بجوازه- لأنّ العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه، إِذا لم يقصد به إلاَّ المال، فيكون من نوع المباحات، ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة؛ فليس له في الآخرة من خلاق (1) " (2).

ما الأفضل؛ الحجّ عن نفسه أو والده أم الصدقة؟
"وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله-:
ماذا يقول أهل العلم في رجل ... آتاه ذو العرش مالاً حَجَّ واعتمرا
فهزَّه الشوقُ نحو المصطفى (3) طرباً ... الحجُّ أفضلُ أم إِيثارُه الفُقَرا
__________
(1) أي: حظّ ونصيب.
(2) "مجموع الفتاوى" (26/ 14) -بحذف-.
(3) قلت: شد الرّحال إِلى قبْرٍ -أخي- حَرُما ... عنه الحبيبُ رسولُ الله قد زَجَرا =

(4/250)


أم حجه عن أبيه ذاك أفضل أم ... ماذا الذي يا سادتي ظهرا
أفتوا مُحبّاً لكم نفسي فديتكمو ... وذكركم دأْبُه إِن غاب أو حضرا
فأجاب -رضي الله عنه-:
نقول فيه بأن الحج أفضل من ... فِعل التصدّق والإِعطاء للفُقَرا
والحج عن والديه فيه بِرُّهما ... والأم أسبق في البر الذي ذُكِرا
لكن إِذا الفرضُ خَصَّ الأَبَّ كان إِذًا ... هو المقدَّمَ فيما يمنع الضررا
كما إِذا كان محتاجاً إِلى صِلَةٍ ... وأمُّهُ قد كفاها من بَرَا البشرا
هذا جوابك يا هذا موازنةً ... وليس مفتيك معدودًا من الشعرا (1) ".

التكسُّب في الحجّ:
قال الله -تعالى-: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيّام معلُومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعِموا البائس الفقير * ثمّ لْيَقضُوا تَفَثَهُم ولْيُوفوا نُذورهم ولْيطَوَّفوا بالبَيت العِتيق} (2).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "قال ابن عباس: {ليشهدوا منافع لهم} قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة؛ فرضوان الله -تعالى- وأما منافع الدنيا؛ فما يصيبون من منافع البُدْن والذبائح والتجارات. وكذا قال مجاهد، وغير واحد: إِنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله: {ليس عليكم جُناحٌ
__________
= لكن لمسجده بالنّص قد شُرِعا ... هذا بيانيَ قد سَطَّرْتُ مختصرا
(1) "مجموع الفتاوى" (26/ 10).
(2) الحج: 28 - 29.

(4/251)


أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198] ".
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان ذو المجاز وعُكاظ مَتْجَرَ الناس في الجاهلية، فلمّا جاء الإِسلام؛ كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} (1): في مواسم الحج" (2).
وعن مجاهد عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قرأ هذه الآية: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} قال: كانوا لا يتّجرون بمنى، فأُمروا بالتجارة إِذا أفاضوا من عرفات" (3).
وعن أبى أُمامة التيمي قال: "كنت رجلا أَكْرِي (4) في هذا الوجه، وكان ناس يقولون: إِنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إِني رجل أَكْرِي في هذا الوجه، وإِن ناساً يقولون: إِنه ليس لك حج؟ فقال ابن عمر: أليس تُحْرِمُ، وتلبِّي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمار؟ قال: قلت: بلى! قال: فإِن لك حجّاً، جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن مثل ما سألتني عنه، فسكت عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يجبه، حتّى نزَلت هذه الآية: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}، فأرسل إِليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقرأ عليه هذه الآية، وقال: لك حج" (5).
__________
(1) البقرة: 198.
(2) أخرجه البخاري: 1770.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1523).
(4) أي: أؤجّر دابتي. وانظر "النهاية".
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1525).

(4/252)


جاء في "الاختيارات" (ص 115): "والتجارة ليست محرَّمة، لكن ليس للإِنسان أن يفعل ما يَشْغَلُهُ عن الحج".

ما يقول إِذا ركب إِلى سفر الحج وغيره (1)؟
عن ابن عمر: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا استوى على بعيره خارجاً إِلى سفر؛ كبّر ثلاثاً، ثمّ قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنّا له مقرنين (2)، وإنا إِلى ربّنا لَمُنقلبون. اللهمّ! إِنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتّقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهمّ! هوّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنّا بعده، اللهمّ! أنت الصّاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهمّ! إِني أعوذ بك من وعثاء السفر (3)، وكآبة المنظر (4)، وسوء المنقلب (5) في المال والأهل". وإذا رجع قالهنّ وزاد فيهنّ: "آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون" (6).
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الحج) (باب - 75).
(2) أي مطيقين، أي: ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إِياه لنا". "شرح النووي".
(3) وعثاء السفر؛ أي: شدّته ومشقّته، وأصله من الوعث، وهو الرمل، والمشي فيه يشتدّ على صاحبه ويشقّ. "النهاية".
(4) كآبة المنظر: هي تغير النفس من حزن ونحوه. "شرح النووي".
(5) المنقلب؛ أي: الانقلاب من السفر والعود إِلى الوطن، يعني: أنه يعود إِلى بيته فيرى ما يحزنه، والانقلاب: الرجوع مطلقاً. "النهاية".
(6) أخرجه مسلم: 1342.

(4/253)


ماذا يقول إِذا قَفَلَ من سفر الحج وغيره (1)؟
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قَفَلَ (2) من الجيوش أو السّرايا أو الحج أو العمرة، إِذا أوفى (3) على ثنيّة (4) أو فدفد (5)؛ كبر ثلاثاً، ثمّ قال: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده (6) " (7).