الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الدماء في الحجّ
لم يرد في دماء الحجّ إلاَّ خمس حالات:
1 - دم التمتع والقِران.
قال -تعالى-: {فَمَنْ تمتع بالعمرة إِلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم
يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعةٍ إِذا رجعتم} (3).
2 - دم الفدية.
__________
(1) أخرجه البيهقي وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" (1043).
(2) انظر "منار السبيل" (1/ 257)، و"الإِرواء" (4/ 964، 1042).
(3) البقرة: 196.
(4/295)
وهو الدم الذي يجب على الحاج إِذا حلق شعره
لمرض أو شيء يؤذيه.
قال -تعالى-: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو
صدقة أو نُسُكٍ} (1).
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل صحّ معنى أو مبنى ما يُذكر عن عطاء أنه قال:
إذا نتف المحرم ثلاث شعرات فصاعداً؛ فعليه دم؟
فأجاب -رحمه الله-: روايةً لا أدري، ودرايةً ندَعُه له.
قلت: فلو صحّ سنداً فهل تقولون: ندعه له؟
فقال -رحمه الله-: نعم.
3 - دم الجزاء.
قال- تعالي-: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتُلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ ومن
قتَله منكم متعمداً فجزاءٌ مِتلُ ما قتَل من النَّعَم (2) يحكم به ذَوَا
عدلٍ منكم هدياً بالغَ الكعبة (3) أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك
صياماً ليذوق وبال (4) أمره عفا الله عمّا سلف ومن عاد فينتقمُ الله منه
والله عزيزٌ ذو انتقام} (5).
__________
(1) البقرة: 196.
(2) هو المال السائم.
(3) أي: واصلاً إِلى الكعبة، والمراد وصوله إِلى الحرم؛ بأن يذبح هناك،
ويفرّق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. "تفسير
ابن كثير".
(4) أي: أوجبنا عليه الكفّارة ليذوق عقوبة فِعله الذى ارتكب فيه المخالفة.
"تفسير ابن كثير".
(5) المائدة: 95.
(4/296)
وهذا في صيد البّر.
وأمّا صيد البحر؛ فجائز كما تقدّم، فليس فيه جزاء.
4 - دم الوطء.
وهو دمٌ يجب على الحاج إِذا جامع أهله أثناء حجّه.
5 - دم الإِحصار.
وهو الدم الذي يجب لانحباسه عن إِتمام المناسك، وعدم تمكُّنه من أدائها؛
لمرض أو عدوّ أو نحو ذلك، إِذا لم يكن قد اشترط عند إِحرامه بقوله: "اللهم!
مَحِلِّي حيث حبستني".
قال الله -تعالى-: {فإِن أُحصرتم فما استيسر من الهدي} (1)؛ وسيأتي بعد
قليل -إِن شاء الله تعالى-.
قال شيخنا -رحمه الله- لنا في بعض مجالسه: "ليس لموجبي الدماء أيّ مستند من
الكتاب والسّنّة، اللهم إِلا أثر عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يرويه
الإِمام أبو بكر البيهقي في كتابه "السنن الكبرى" بالسند الصحيح عنه أنّه
قال: "مَن نسي أو أخطأ في نُسك؛ فعليه دم" (2).
وقد روي هذا الأثر موقوفاً، وهو صحيح وروي مرفوعاً؛ ولا يصح؛ مع أنّ ابن
عباس تفرّد في هذا الرأي، ولا نعلم من وافقه من أصحاب آخرين.
فنحن نجد فيه توسعاً يخالف بعض الأحاديث الصحيحة، كمثل حديث
__________
(1) البقرة: 196.
(2) وسيأتي الكلام عليه -إِن شاء الله تعالى- بعد سطور.
(4/297)
ذلك الأعرابي الذي سمعه النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبّي بالعمرة، وهو متضمّخ بالطيب وعليه
جبّة؛ فأمره - عليه الصلاة والسلام- بأن يخلع الجبّة أو القميص وأن يغسل
عنه الطيب، وقال له: "اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك" (1)؛ ولم يأمره بدم،
مع أنّ الذي فعَله يدخل في كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- ولا نجد ما يوجب
الدّم إِلا ما هو معلوم بالأدلّة الصحيحة من الكتاب والسنّة ... " انتهى.
أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: من نسي من نسكه شيئاً أو تركه؛ فليهرِق
دماً" (2).
ولا بُد لنا من التأمّل في مسألة عظيمة كهذه - نسيان أو ترك مناسك مِن نسك
الحج، لا يَرد فيها حديث مرفوع، والحاجة تقتضي ذلك؛ لكثرة وقوعها وملابستها
من الناس، مع ما قد علمنا من أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بأخذ المناسك عنه؛ ومع ما لا يخفى من حِرص الصحابة -رضي الله
عنهم- على التأسي والاقتداء به
__________
(1) يشير شيخنا -رحمه الله- إِلى الحديث الذي رواه صفوان بن يعلى: أنّ يعلى
قال لعمر -رضي الله عنه-: "أرني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حين يوحى إِليه، قال: فبينما النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة -ومعه نفر من أصحابه-؛ جاءه رجل فقال: يا
رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمّخ بطيب؟ فسكت النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر -رضي
الله عنه- إِلى يعلى، فجاء يعلى -وعلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ثوب قد أُظلّ به-؛ فأدخل رأسه، فإِذا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمرُّ الوجه وهو يَغطُّ، ثمّ سُرِّيَ عنه،
فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطّيب الذي بك ثلاث
مرات، وانزع عنك الجُبّة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّتك". أخرجه
البخاري: 1536، ومسلم: 1180.
(2) وهو ضعيف مرفوعاً، وثابت موقوفاً كما في "الإِرواء" (1100).
(4/298)
-عليه الصلاة والسلام- وكثرتهم واجتماعهم - ما لا يكون في أيّ عبادة أُخرى،
لا في جمعة، ولا جماعة، ولا صلاة عيد، ولا جهاد في سبيل الله -تعالى-.
والصحابة -رضي الله عنهم- قد نقلوا أحكام الوضوء والصلاة بدقّة بلغت
الغاية.
فماذا يعني عدم ورود حديث مرفوع، أو نقولات مستفيضة من الصحابة - رضي الله
عنهم- في هذا الأمر، مع ما سبق بيانه من النصوص البيّنة المتعلّقة
بالدماء؟!
والذبح مُكْلِفٌ كما لا يخفى؛ أو الصيام -على التفصيل المعلوم-؛ وهو يحتاج
إِلى صبرٍ ومجاهدة.
فهذا يجعلنا نقدّم الآيات والنصوص -التي بيّنت متى يهراق الدم- على أثر ابن
عباس -رضي الله عنهما-؛ لعدم علمنا مَن وافقه من الصحابة -رضي الله عنهم-؛
كما أشار شيخنا -رحمه الله- في تحديد المواطن التي تجب فيها الدماء؛ مع
احترامنا لمن يأخذ بهذا الأثر. والله -تعالى- أعلم. |